!حمص التي لا تشبهني

!حمص التي لا تشبهني

بعد غياب أعوامٍ، تجوّلت في شوارع حمص، التي كنت أحفظ أدق تفاصيلها. كنت أطوفها بسيارتي، قبل اندلاع الثورة، كل يوم مرة أو مرتين، أثناء ذهابي وعودتي من عملي، وكنت أتسوق حاجياتي من لباس ومأكل وبقية متطلبات المنزل قاصدةً كلّ أسواقها، البعيدة منها والقريبة، الحديثة “المودرن” منها والشعبية، وصولاً إلى “البسطات” المنتشرة في منطقة الساعة القديمة، والتي منعها المحافظ السابق، المغضوب عليه من قبل أهلها، إياد غزال، في فترة ما قبل الثورة.

اليوم، لا شيء يشبهها؛ شعرت باغترابي وغربتي عنها. لعله الزمن الذي بدأ يمحو تفاصيل المدينة من ذاكرتي، أو لعلّني أنا من تعمّدت القطع معها ونسيانها، بعد تتابع الخيبات، وتتابع التدمير والتهجير. أو أن رفضي للتقسيم الطائفي حينها هو ما دفعني إلى رفض المدينة، ومغادرتها؛ فقد قُسمت حمصُ بالدبابات والحواجز، ولا يمكنك اجتيازها دون التأكد من أن طائفتك تتناسب مع الحي الذي تقصده.

هذا المشهد، الطائفي، تغير اليوم؛ لا حواجز طائفية، ولا تقسيمات، ولا حساسيات حتى. عاد مشهد الحياة الطبيعية، أو كما اعتدنا تسميته بالتعايش، إلى أحياء المدينة المأهولة منها. أبو محمد صاحب محل في حي كرم الشامي يعزّي نفسه بأنّ الوضع أفضل منه قبل 2011، من ناحية الحساسيات الطائفية، وأن جميع سكان المدينة خبروا خطورة ذلك، ويرغبون بالعيش بسلام. منطقي ردّه، ففترة الثورة، بما تعنيه من أحلام ورغبة في التغيير كانت قصيرة، سنة أو سنة ونصف، قبل أن يتمكن النظام من إرغام المقاتلين على التمركز في الأحياء القديمة، وتحويل الثورة إلى حرب استنزاف، وتهجيرٍ وتدميرٍ شامل لتلك المناطق، وانكفاء سكان الأحياء الغربية عنها.

رغم تراجع الحساسيات الطائفية الملحوظ لي، ما زلت أشعر بالغربة. الحقيقة أن من أشعل الحساسيات الطائفية، هو نفسه من أخمدها؛ لم يعد له من حاجة إليها، فقد تمكن من السيطرة على كامل المدينة، ومؤخراً أكمل سيطرته على الريف الشمالي، وأعلن عودة حمص ومحيطها بالكامل إلى “حضن الوطن”، وأنّها آمنة! هي بالفعل آمنة بالنسبة إليه من العصيان، وبالتالي لم يعد من حاجة إلى أدوات القتل من قذائف عشوائية، أو حتى تفجيرات في أماكن مكتظة كانت تحصد وتجرح المئات. حتى “الشبيحة”، الذين كانوا الأكثر انفلاتاً في المدينة، تم سحبهم إلى الخدمة العسكرية، بعد انتفاء الحاجة إليهم داخلها.

هي مدينة آمنة بالنسبة للنظام. الأحياء التي صمدت في وجهه سنوات شاهدة اليوم على ذلك؛ الخالدية والبياضة وعشيرة ووادي السايح والسوق المسقوف وجزء كبير من باب هود، مدمرة بالكامل، وخالية من أي سكان، منهوبة بالكامل، ومحروقة الجدران. لم يتبين ما يُبيَّت لهذه الأحياء مستقبلاً، عدا حي الحميدية، ذي الغالبية المسيحية، سُمح بالعودة إليه وترميم بعض مبانيه وكنائسه. لكنّ المرور بتلك الأحياء يومياً يبثّ الرعب في قلوب سكّان بقية الأحياء، ويجعلهم يختارون الصمت، خوفاً من مصير مماثل.

استوقفتُ صبيةً في مقتبل العمر لمساعدتي في الاستدلال على أحد الشوارع الفرعية في حيّ الإنشاءات، صَعُبَ على ذاكرتي المنهكة بتفاصيل سنوات الحرب استحضاره. كان ردُّها مليئاً بالحيوية، بنبرة صوتها وتعابير وجهها وإيماءات يديها، أعادت إليَّ بعض الألفة، وذكرتني بطيبة وعفوية “الحماصنة”، واندفاعهم للمساعدة. شعرت ببعض الارتياح، وتابعت جولتي باتجاه حيّ كرم الشامي، حيث انتقل سوق المدينة إليه. هو أيضاً استفزّ ذاكرتي الحمصية؛ تباع فيه بضائع من حلويات ومشتقات الألبان واللحوم والخضار، كلّها بجودة عالية، وبأسعار أقل من باقي الأحياء، وأقل من نظيرتها في أسواق دمشق بمعدل 15 إلى 25 بالمئة، بما يذكرني بأنّ حمص ما زالت أمّاً للفقير.

المشهد مختلف في سوق الناعورة وشارع أبو العوف والسوق المسقوف؛ أقل من نصف المحال فقط قد فُتِحت، ببضاعة خجولة، وحركة شراء محدودة. الحكومة هي من أرغمت أصحاب المحلات على فتحها، بالترهيب تارةً، وبالترغيب تارة أخرى، عبر تقديم بعض الخدمات المجانية كتعزيل الأنقاض من المحال التي أعيد افتتاحها.

قُدِّمَت هبات مالية لمتضرّري حي الحميدية، عبر الكنائس، من قبل منظمات دينية مسيحية، مما ساعد الكثير من السكان على ترميم بيوتهم والعودة، ليصبح الحيَّ المأهول، أي الحميدية، محاطاً بالدمار من جهاته الأربع.

مظاهر التشبيح في الأحياء الشرقية، ذات الغالبية العلوية، باتت أقل بكثير. صورٌ لآلاف ضحايا الحرب من مقاتلي النظام تملأ الجدران، مقابل آلاف الأرامل والثكالى؛ بعضهن يتعرضن للاستغلال من قبل المسؤولين بسبب الحاجة إلى عمل أو معونة لكفاية قوت الأطفال.

يسود هذه المنطقة حالة من الفقر وتراجع المستوى المعيشي، تلحظها من كمية ونوع البضائع التي تُعرَض في المحال. يقول أحد أصحاب محلات الحلويات في حي الأرمن، إن البيع تراجع كثيراً هذه الأيام، بعكس ما كان عليه في الفترات التي انتعش فيها سوق التعفيش. معظم الشبيحة واللصوص هم من الفئات المهمشة والجاهلة في الغالب، وكل الأموال التي كانوا يجنونها من بيع المسروقات أنفقوها على “ملذّاتهم الشخصية” بالمعنى الحرفي لهذا التعبير، الذي ارتبط بأصحاب الجنح والسوابق في السجون؛ فقد سمحت “الجهات المختصة” بافتتاح الملاهي الليلية في الجزء الشرقي من الحي، والتي سببت إزعاجات للسكان بسبب الشجارات اليومية للمخمورين، والأعيرة النارية. قادة الشبيحة حافظوا على مستوى معيشتهم، وعبر استغلال نفوذهم. مثلاً أحدهم افتتح معهداً لتدريس طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية؛ حيث يتهافت الأهالي لتسجيل أولادهم بمبالغ كبيرة، تحت دعاية قدرة القائمين على هذا المعهد على تسريب الأجوبة إلى الطلاب داخل قاعات الامتحان.

في حي العباسية الذي يتواجد فيه نسبة من السكان الشيعة، أيضاً تراجعت مظاهر المبالغة في الاحتفالات بالمناسبات الدينية، بعد أن كسرت روسيا جبروت إيران في المدينة، عبر إلزام النظام باتفاق الوعر، والذي تضمن ترحيل الراغبين، والإبقاء على من يشاء، بعكس رغبة المليشيات الإيرانية، بإفراغه وتعفيشه، كما فعلت باتفاق حمص القديمة في 2014.

نعم، باتت حمص مدينة وادعة، كما يسمّيها إعلام النظام. لكنها وادعة لدرجة الموت؛ إذ لا أحلام ولا آمال بمستقبل أفضل، بل أناسٌ مُثقلون بصمت الانكسارات، وهمّهم تدبر شؤونهم الخاصة. حمص التي أعشقها هي اليوم مدينة الموت والدمار، مدينة الانكسارات، المدينة التي لا تشبهني!

الصيغة السورية للموت

الصيغة السورية للموت

الخفّة

ليس للخفّة مذهب في التعبير الصريح إلا للدلالة على ما لا وزن له إلا قليلا، أي أنها تلتزم منطوق الجسم المادي لتعبر عما لا جسم مادي له أو يكاد، وإذ يرميها النحويون باتجاه النافل واللاقيمة له فإنها تصبح عند شعراء التيه العربي صفة للجسم إذا عشق وهام فخفّ من مُلزمات الحياة =الدنيوية وطار في النسائم، فيقولون : يا خفّة الألم الصغيرة وخفيفة النظرات تُشعل راحتي، وأحيانا يذهبون في هذا مذهب التقليل من الشأن فيقولون: خفيف العقل أي قليله إذا استبدّ الرجل برأيه وطاوع فيه زوجته أو مستشاريه أو ابن صديقه ويقولون: خفّة الروح، كناية عن وجود لا وجود له ولا كثافة في الجسيمات، بل إحساس فاض فطاف.

فكيف إذن نلوي عنق المفردة ونسترشد بها في منطوق الأزمة: الأطراف المتحاربة لا ترى شريكا ذا ثقل وأمانة لتجلس معه على طاولة المباحثات وتقتسم معه قديد التراب وطبيخ الهواء، بل أنهم لا يرون وزنا للجغرافيا بتمامها، بالتلال والأنهار والمحاصيل الباكية، حتى احتاجت هذه الجغرافيا أن تتقسم على الورثة التاريخيين ليعرف المتحاربون أن التراب ينسلّ أيضا من بين الأصابع، فالأدوات خفيفة.

والحلفاء (حلفاء الطرفين) لا يعترفون بالمنزلق الذي انحدرت إليه الصيغة السورية للموت أو على الأقل لا يعترفون به علنا، بل يدعون إلى مزيد من الصمود ومزيد من الدم ما يقود إلى مزيد من القتل ومزيد من الفوات،في أغنية شيطانية لا تنتهي تراتيبها، فالحلفاء خفيفون.

الخفّة في كل ما جرى ويجري، خفّة تشي بانعدام المسؤولية عامة تجاه الدم والدمار، الخفة هي السمة الغالبة لخطابي المهاجمين والمدافعين، بين داخل وخارج ، بين يميني ويساري، بين خفيف وآخر أكثر خفة، خفة في تحليل المآل الذي انطبقت عليه ثورة حتى أصبحت حربا أهلية، وخفة في الدفع المؤجل، ذلك أن هناك كمبيالات آجلة الدفع سندفعها جميعا في قادم الأيام، منتصرين أو مهزومين، للعمامة الفارسية أو للبرنيطة الغربية أو للقلبق الروسي.

وفي هذا تخف الحياة حتى تتلاشى، تحت قذيفة فارغة.

اختلال الصفة

في كلام العرب المقسّم أضرابا أربعة في اسم ومصدر وظرف وصفة، تتخفى الصفة بشرط تحققها، كما يتخفى المطر في جيب السحابة، فلا يقال عن جندي أنه صنديد إذا كان هاربا من معركة تحرير بلاده من غزاته و لا يقال عن صياد أنه خبير إن كان يعود مساء إلى حجر زوجته بسلة سمك مشتراة من سوق المعلّب.

والخلاف ينشأ من إمكانية التحقق من الصفات المطلقة على غارب حروفها في صحافة وتلفاز، فمعارضة وطنية وحكم وطني ونظام جمهوري وأحزاب إسلامية وصولا إلى أمم متحدة وحقوق إنسانية، فالحزب النازي المرفوع على أعمدة الدمار الجغرافي كان ديمقراطيا ومسيحيا أيضا، وحزب البعث كان يلصق شعارا في داخل أمعاء كل مناصر، وحدة وحرية واشتراكية، فأثمرت وحدته حروبا شقيقة وقضت حريته ضربا في المعتقلات المعتمة ونامت اشتراكيته على أحلام الشركاء الحرابيق، وحدها التنظيمات الإسلامية لم تدّع أنها قادمة لنصرة الإنسان أو الجغرافيا، جاءت من الجحيم وترغب بإعادة الجميع إليه، من جاهلية ضيقة وإليها تعود، لكنها أيضا تعيد الحق مصحوبا ببركات مشايخها العظام إلى نصرة للدين وإقامة للعدل وهي من هذا تنصر الكفر وتقيم الظلم في غير مكان.

يقودون اللغة من عنقها إلى حيث تجلد بالأحزمة والسياط وما من سلطة ليعاد التعريف إلى بطن صاحبه أو لاستقدام شرط وجند لغويين يمنعون إطلاق صفة الهبوب على نفخة لا تكاد تزيح ريشة عن كرسي، انظر كيف يستخدم “محلل” سياسي له في أوليات التحليل بضعة أيام قضاها في معتقل ما، انظر كيف يرمي الصفات على عواهن التطييف والتخوين، انظره كيف يقسم الخريطة العسكرية إلى طيبين فينعيهم وسيئين فيقصفهم وهو من كل هذا أمّي حتى في الوطنية وملفاتها.

إنها الصفات المختلة.

الصفيق

جاء في مخطوط معارج الهواء لأبي روز الطواحيني : أتى رجل إلى قاض وشكا أخاً له لا يعطيه نصيبه في إرث ٍ تقادم، فقال له: شاركه فإن فيها بركة، قال: شاركته في قطيع فالإناث له والذكور لي، وفي زرع فالمثمر له والعقيم لي، وفي رطب فالصالح له واليابس لي، قال: شاركه في الصلاة فالنار له والجنة لك.

وفي هذا المثال ما يرمي مثالا عن نوازع السلطة في الحكم، فلا هي تعطي وزنا للشريك / الشعب في السيادة  ولا هي تسمح له بالفرار في أرض الله الواسعة، ومن سخرية المنطوق أن في لفظ الشراكة كلمة شرك الذي هو ثقب في الأرض يزرع رماحا وسهاما حادة تنغرز في لحم السائر خلي القلب، الشراكة عند الحاكم الشرقي تعني أن تتحمل وزر الموت بصمت، أن تحمل بندقية لترتكب جريمة في حق أخ آخر لك، الشراكة في استيلاد الدم لا في استنبات القمح، في اختراع العداوات على جناح الطائفة أو الولاء لا على تجارة الحمضيات، شراكة أصحاب المزارع الطازجة التي ترانا أجراء غافلين يحق لها مصادرتنا إذا ارتأت والتضحية بنا على مذبح التخمير الطائفي .

والأسى يتعاظم حين تبحث في شريكك عن مآل العقد الموقع آنفا ، عن الشروط الجزائية وبنود الحق فلا ترى إلا نصالا حامية تجرد حياتك من حياتها، كأننا رهائن لا أكثر وربما أقل، رهائن يهدد بقتلنا في مجالس الأمم، إذا نقص كراء مزارعه أو تهدد محصوله النبيل، رهائن أسمائنا ورهائن طوائفنا ورهائن جغرافيا لا نستطيع منها فكاكا.

شراكة ضيزى وقسمة دم.

المنتهى

سيكونون في الغد القريب جالسين لتقاسم الدم السوري، بعدما استتبت قسمة الجغرافيا على مجلى الأطماع الإقليمية والدولية، سيجلس الجميع مع الجميع حين تقترب الحفلة من نهايتها ليوزعوا المهام النهائية: من سيأخذ بقايا الكعكة السورية، من سينظف صحون العشاء، من سيلملم الفوضى المتروكة  تحت الكراسي والسجاجيد الثمينة، وحده السوري الجائع والنازح والمهجّر واللاجئ والقتيل، السورية المطعونة والمهجورة والمبتلية بفقد الزوج والابن، وحده من دفع الثمن السابق وسيدفع لاحقا ارتهانا واحتلالا، من سيجلس آخر النهار على مائدة الذلّ ليلوك طبخة بحص لا طعم لها برائحة حرية كانت لفترة ما قريبة قرب الهواء الجاف الذي نتنفسه الآن.

يوميات سورية: رمضان كريم

يوميات سورية: رمضان كريم

دمشق

في الطريق من صحنايا إلى دمشق أذّن المؤذن معلناً وقت الإفطار، المسافة طويلة رغم خلو الطريق من السيارات والحافلات والعابرين، مشهد اعتيادي أن تقفر الطرقات وقت الإفطار! ما الذي يدفع البشر للانكفاء في بيوتهم وخاصة غير الصائمين؟ أهو انصراف السائقين إلى منازلهم للراحة وتناول الإفطار فحسب؟ أم هو اختلال بالوقت واتساق مع عادات صارت عرفاً قائماً ونافذاً؟ في الحافلة  الوحيدة المهترئة والممتلئة بالركاب العائدين لبيوتهم بعد نهار عمل طويل صائمون أنهكهم العطش والجوع، يمسحون وجوههم ببرَكة الصوم، يصمتون وعيونهم ترنو إلى مطابخ بيوتهم ووجبة اليوم. كان بيدي عبوة ماء فمنحتها لأحدهم، يشرب بضعة قطرات ويسأل (مين صايم يا أخوان؟) وتدور العبوة على أربعة رجال، يد أخرى تمنحهم عبوة أخرى، وتدور المياه في الحلوق اليابسة.

نستفيق على صوت المسحراتي، طبلته غير شجية، تشز عن الإيقاع المختزن في الذاكرة شاب حديث العهد وطارئ على العمل، كمسحراتي  بسروال جينز وقميص نصف كم، تغيب الملابس التقليدية والإيقاع والصوت الرخيم، يغيب الوجه المعروف من أهل الحي. يستفيق الصائمون على رنين جوالاتهم ويصبح حضور المسحراتي مجرد بروتوكول شكلاني لا يضفي على السحور أية قيمة مضافة سوى ارتزاقه من البيوت التي تدفع له ما تجود به جيوبها للحفاظ على نكهة ومظهر من مظاهر شهر رمضان التقليدية، ومنهم من يصل الليل من ما بعد الإفطار حتى السحور لينام بعد الإمساك حتى وقت متأخر من نهار الغد تحايلاً على مشقة الصوم في ظروف الحر في جو صيفي خانق. ومن يصل الإفطار بالسحور هو حتماً خالٍ من العمل ويمتلك رفاهية البقاء في فراشه والاستسلام للنوم العميق والمريح. وهنا يبرز التناقض الحاد بين بشر مجبورين على مباشرة أعمالهم بعد السحور بساعات قليلة، فيستيقظون منهكين ومتعبين للذهاب إلى أعمالهم المضنية لتحصيل الرزق.

في الساحات وعند مواقف الحافلات وعلى قواعد معدنية عملاقة  توضعت عبوات كبيرة تعج بالعصائر المشكلة والملونة، إنها العاشرة صباحاً وثمة من يشتري ويبيع، وثمة من يشرب العصير والماء ويأكل الفطائر والبسكويت والعلكة علناً وفي كل الأوقات ومن كل الأعمار.

رخاوة ظاهرة فيما كان يسمى مراعاة الصائمين وحرمة الشهر الفضيل! لم يعد التعرض لأحد المفطرين باللوم أمراً بسيطاً ومقبولاً ومباركاً، ما معنى مفطر هنا؟ هل هو من لا يصوم عن قناعة ويعلن عدم صيامه؟ أم من يصوم جهاراً ويفطر سراً في محاولة لتجنب التشكيك في إيمانه أو احترامه لدينه وبيئته الاجتماعية؟ أو أن المفطر المدان هو غير مسلم أصلاً؟

غيّرت الحرب في توصيف المؤمن والصادق والجاحد والكافر والمهمل للواجبات الدينية والاجتماعية، باتت الأحكام تدور داخل غرف مغلقة عبر همسات أو انتقادات بصوت خفيض. التصنيفات الظاهرية لم تعد تشغل بال أولي الأمر ورجال الدين لأنها خارج مهمتهم الآن، هم يهللون للأقوى فقط، والصيام من عدمه عملة غير مربحة في زمن الشدة النارية وتآكل المدن ونزوح ولجوء السكان والتهجير الواسع.

يتوحد الخطاب الجمعي في شهر رمضان؟ يقول سائق السرفيس للراكب (عامل حالك صايم وماسك مسبحة وما دفعت الأجرة) وتقول سيدة للفرّان (يعني إذا صايم لازم تشلف الخبزات بوجهنا!). ثمة ترميز عام للأداء البشري، وهن عام وتعب، شفاه متيبسة من العطش، عزوف عن الكلام وردود أفعال عصبية حيال أي تصرف غير مقصود أو حيال أي خلاف ولو على طريقة شراء كيلو من الخضار.

على محطات الإذاعة أغان تقليدية محّورة بكلمات دينية على لحن غير متسق مع الإيقاع الديني، خطب دينية سطحية، حكم فلسفية باهتة عن العطاء والمحبة والوهب وسماحة النفس وسخاء اليد والشيم، وحلقات حوارية تكرر أقوالاً لا تزيد من عدد الصائمين ولا تردع المفطرين، بروتوكول موسمي مكرر، وأكثر ما يزعج المتفرجين هو الدعايات والإعلانات السخية جداً بمناقب أنواع السمن والزيوت والأجبان، إعلانات لترويج أسماء خيم رمضانية ودعوات للتآخي والتكاتف.

تقول أم ياسر: (أهم شي صحن السلطة، فجأة صار سعر ربطة البقلة مية ليرة!)،

ارتفاع شره بأسعار الخضار والفاكهة تصل حدود الضعفين، مواد غير معروفة تواريخ إنتاجها تباع على الأرصفة وفي الأسواق بأوزان قليلة وأسعار تناسب الفقراء، لكن الجودة والسلامة في مهب الريح وعبث المراقبين وطمع التجار.

في المحال التجارية أكوام من أكياس معبأة بإهمال ومن جودة وسط أو ما دونه لتوزع على الفقراء والمحتاجين، يبدو الفقر جلياً في الشهر الكريم، وجبات شحيحة قد لا تتعدى خبزاً وشاياً للسحور، وسكبات مدللة لطبخات مطبوخة بسخاء وعناية من بعض البيوت. ينتظر الكثيرون دعوات الإفطار في رمضان لتعويض النقص الحاد في حصصهم الغذائية من اللحوم والفاكهة والحلويات، دعوات من الأهل والأصدقاء وأرباب العمل أو من الجمعيات الخيرية التي درجت على مد موائد  وقت الإفطار في بضعة أماكن أشهرها الجامع الأموي بدمشق، موائد ممتدة وواسعة للفقراء والمشردين والساكنين في الحدائق العامة والعمال الوحيدين والنساء المهجورات وأطفال الشوارع والمتسولين.

العصائر والتمر الهندي والعرقسوس محضرة مسبقاً ومعبأة في أكياس من النايلون، تروي ظمأ العطاش لكنها غير صحية ولا تخلو من أسباب ممرضة في ظل ارتفاع أثمان العصائر الطبيعية واستسهال تحضير الصناعي ورخص أثمانه.

تعاني الأسواق من تخمة باذخة في المعروض من البضائع وخاصة الطعام، استعراض مُنفر لأكوام  من المنتجات الغذائية يستحيل على الكثيرين شراء حاجتهم الأساسية منها. مع الإشارة إلى أن إحصائيات دقيقة أكدت أنه وخلال شهر رمضان  يزيد الاستهلاك الغذائي ثلاثة أضعاف الحصص المعهودة باقي أيام السنة، مع أن الجائع يحافظ على معدته خاوية ومرهقة من شدة النقص في الاحتياجات الأساسية والمتخمين يرمون الفائض في حاويات القمامة دون التفكير بغيرهم، مجرد توضيبها ومنحها للمحتاجين، مجرد الاقتصاد في شراء وجبات لا تفتح أكياسها ،لاشيء يبدو قابلا للتوزيع في ظل غياب الإرادة ولو بعدالة مؤقتة!

تقول الحكاية أن امرأة أصرت على دعوة صديقة قديمة لها على الإفطار في مصادفة غريبة حيث التقيتا صدفة في عيادة طبيب في الحي الذي تسكنه الداعية، ولما اقترب موعد الإفطار وافقت الصديقة على الدعوة لكن لشرب كأس من الماء وفنجان قهوة فقط، لكن بؤس حال البيت ورائحة المجدرة المقلاة بزيت نباتي رخيص دفعت بالسيدة للاعتذار حتى عن شرب القهوة، والمضحك المبكي أنه لا وجود للقهوة أساساً في ذاك البيت الممتلئ جوعاً وعوزاً.

يقضي أبو عماد جل نهاره وليله في الجامع طيلة شهر رمضان، فالبيت المستأجر خانق في الصيف وعائلته الكبيرة بما فيها أحفاده لا تترك له أية فرصة للاسترخاء والنوم كي يحصل على قسط من الراحة من تعب خلفه الصيام على جسده المريض والنحيل. يقول الجامع مكيف وواسع، يفطرغالباً في الوجبة الجماعية التي توزع أحياناً للزاهدين والمتقربين المتضرعين بإيمان والتزام شديدين، أو على المائدة المفروشة قريباً من وسط دمشق، يزيد من قراءة القرآن ويضاعف الركعات ولا يقطع صلوات التراويح. يقول إنه يشعر بأنه يكاد أن يطير من وداعة الإيمان والتحسب والاتكال على رب العالمين، رمضان بالنسبة له مساحة للاستسلام لسكينة مفقودة ولسلام داخلي مستلب وممزق خارج أوقات الشهر الفضيل كما يسميه.

أعوّل على عبوة الماء التي منحها غير صائم لصائم في بلد أراد الجميع أن يصف الحرب الدائرة فيها بأنها مجرد تنافر طائفي أو مذهبي، أعوّل على شبع مؤقت وجلسة طبيعية أمام مائدة طبيعية برفقة بشر يجمعهم الجوع في بلد خمسة وثمانون بالمئة من أهلها على حدود خط الفقر أو دونه بدرجات، أعوّل على احترام رمضان كشهر للسكينة والتعمق بتقبل الآخر وبث روحية التسامح و المشاركة، أعوّل على أن تبقى طقوس رمضان الإنسانية طقوساً ثقافية أصيلة في مجتمع متنوع ومتعدد.

حينها سيجود رمضان بخيراته ويصبح كريماً كما هو مكرس في الوجدان العميق للسوريين البسطاء والأنقياء، الصادقين والمؤمنين، عندها يليق بنا أن يكون رمضان شهر للاحتفال…

كتاب كان اسمه سوريا

كتاب كان اسمه سوريا

لطالما سَرَقَتنا الكتب، وسلب حضورها عقولنا وقلوبنا، تقودنا أقدامنا بخفةٍ ونشوةٍ إليها أينما كانت. نترقب معارضها، نمُشّط الشوارع والأرصفةَ بحثاً عن عرباتٍ وبسطاتٍ فُرِدَت لأجلها، لنفتّش فيها عن عناوين فريدة بنهمِ ظمآنٍ يبحثُ عن نبعِ ماء، أو طامحٍ يبحث عن كنز ثمين، فنصطاد الكنوز النفيسة لنغني مكتباتنا العطشى للاتساع.

الكتبُ زاد حياتنا، ذخيرتنا المعرفية والهدية الأجمل التي نزهو بها، ونُدهش كأطفالٍ صغار بمجرد لمسها. ننفق على شرائها جُلَ ما في جيوبنا المهترئة، حتّى لو لم يبقَ لدينا ما يسد رمق الجوع، وكثيراً ما نقترضُ المال لشراءِ كتبٍ تفرح بها مكتباتنا، التي كلّما اتّسعت اتّسعنا، وكلّما ازدحمت بالعناوينِ والأغلفةِ شَعرنا بالثراء والاكتمال، كيف لا وهي قوتنا، وبيوتنا الحميمة؟، نبنيها كمن يبني برجاً فريداً من المعاني، نغازلها وننادمها، نصونها كأمٍ حنون، ندللها كعاشقةٍ توزِّع علينا الحب والسعادة والجمال.  

ولأنَّ الحربَ لا تعبأ بعاشقةٍ أو أمّ، ببيتٍ أو حضنٍ دافئ، ولأنها لا تعبأ بعشقنا لكتبنا وشغفنا بها، لم ترأف بأيّ معنىً من معاني حياتنا، ولم تكتفِ بمجازرها بحقّنا نحن البشر، بل عاثت دماراً وهتكاً بكتبنا، بتاريخها وحكاياتها، بتفاصيلنا معها وعلاقتنا المتأصلة بها. كُتبنا التي أضاءت قلوبنا وأرواحنا والتي وهبتنا أجنحةً لنحلِّق إلى عوالم شاسعة وملونة، لم نتمكن من إنقاذها أو رد الجميل لها، إذ تحوّلت، ككلِّ شيءٍ جميل، إلى فريسةٍ سهلة لوحش الحرب، ولاقت مصير أصحابها وقُرائها.

كتبٌ سرقها الحصار والموت

لم يلق الحصار بلعناته على البشر فحسب، بل أطبق خناق سجنه على روح المكان وكل نبضٍ يقبع فيه، فكانت الكتب إحدى معتقليه المعذبين والمغيّبين قسراً. حوصرَت مع أصحابها، خافت ونزفت مثلهم، وفي مفارقاتٍ كثيرة كانت أقل حظاً منهم، فبينما تمكن بعضهم من النجاة بقيت هي قيد حصارها تنتظر فرجاً للحاق بأهلها الّذين ما زالوا حتى اليوم يبكونها بلوعة وحسرة من يبكي ابناً قتلته الحرب.

منذ سنوات نزح (حسام) من إحدى مناطق الصراع الساخنة، تاركاً خلفه مكتبةً ضخمة، حفرت في قلبه جرحاً عميقاً يتحدث عنه بمرارة: ” كنت أجمع كتبي كمن يجمع قطع آثارٍ نادرة، وكانت مكتبتي تكبر يوماً بعد يوم، كانت ملاذي الآمن، ورفيقتي التي تعينني على أهوال الحرب، تبثّ الحياةَ فيَّ كلما اشتدّ الموت، وتفتح لي آفاقاً للأمل والأحلام. عند خروجي حملتُ معي خمسةً من كتبي التي لا أستغني عنها، لكن عناصر الحاجز صادروها… أذكر فيما مضى أنّني وأصدقائي كنا نرفض إعارة أي كتابٍ من كتبنا لأننا سنشتاقه إذا ما ابتعد، ونخشى فقده، وكأن أيّ فراغٍ في رفوف المكتبة سيحدث فراغاً في الرّوح، فتخيل أن تفقد جميع كتبك دفعةً واحدة لتتركها تحت رحمةِ الحرب وأذرعها؟!. صدِّقني إن هذا لمأساةٌ حقيقية، لن يشعر بها إلا من كان مغرماً ومتيماً بالكتب.”

مكتباتٌ عريقةٌ كانت تحتفي بمئات العناوين الفريدة والنفيسة، تناقلتها الأجيال عبر عشرات السنين، هي ليست مكتباتٌ بقدر ماهي نسغٌ وذاكرةٌ وتاريخ حافل بملامح الآباء والأجداد. تلك المكتبات لم يشفع السلاح لها ولم يكترث لأصالتها، وبكل وحشية ودمٍ بارد أحالها رماداً وأثراً بعد عين.

كتبٌ عاملها أسيادُ الحرب كعدوٍّ، ثأروا منها كما يفعلونُ مع كلِّ من يشكّل تحدياً لهم، لسلطاتِهم واستبدادهم، لسياطِهم وكراسيهم، فعاقبوها وأُعدموها، حرقاً وتمزيقاً، نيابةً عن أصحابها، فهي التي علَّمتهم الوقوف في وجه الظلم والاستبداد وهي من جعلتهم يبصرون نور الحق والعدالة. وفي حالاتٍ أخرى أحرقت بعض الفصائل المسلحة المتطرفة فيضاً من الكتبِ الثّمينة، بحجة أنها بِدعٌ وخرافات تلهي من يقرأها عن ذكر الله، فالثقافة بنظر أولئك شركٌ وخطيئة، كما أجبرت البعض على حرق كتبه بنفسه ليتجنب الحساب والعقاب.

(محمد) نازحٌ آخرٌ، نجى من الموت بأعجوبة، يروي بعضاً من حكايته: ” كنت شاهداً على مئات الكتب التي ماتت تحت أنقاض البيوت. نعم، الكتب تموت كما البشر والشجر والحيوانات. حاولنا إنقاذ الكثير منها من بين الركام علَّها تحيا من جديد، لكن معظم من نجى منها لم يُكتب له البقاء، فماتت بطرقٍ أخرى… في ظروف الحصار القاهرة قد تضطر أحيانا أن تضحي بأغلى ما لديك لتنجو من شبح الموت. لقد أجبَرَنا الجوع على استخدام مئات الكتب كوقودٍ لطهو طعامنا البائس الذي كنا نحصل عليه بشق الأنفس، أما وحش البرد فأجبرنا على استخدامها كبديلٍ لحطب التدفئة بعد أن صارت أغلب الأشجار حولنا في خبرِ كان. في البداية كنا نضحي بالكتب الأقل قيمة وأهمية، ولكن مع الوقت صرنا نقدم أضحية أكبر، فَنُطعِم النار كتباً ثمينةً من الأدب والعلوم والتاريخ، لتعود علينا بشيء من الفائدة، فالحرب التي لم تشبع من لحم البشر توحّشت لتلتهم ذاكرتهم وثقافتهم ومنابع فكرهم.”

كتب رهن الإقامة الجبرية

أسيرة الصناديق، حبيسة المستودعات، تجثم في حضرة الغبار وشِباك العنكبوت في انتظار مصيرٍ ما، هجرها أصحابها مرغمين وتقطَّعت سُبل اللقاء بها أو التواصل معها. ترى هل ستلتقي بهم يوماً ما؟

كثيرٌ من السوريّين أودعوا كتبهم كأماناتٍ عند أصدقائهم أو معارفهم ليحافظوا عليها من التلف وليبقوها تحت الرعاية والعناية المشددة، بعد أن غادروا بلادهم هرباً من بطش الحرب والموت، وهي اليوم لاتزال قابعةً في بيوتٍ لا تعرفها، مصلوبة على الرفوف، تكابد عناء الفقد، في مكتباتٍ غريبةٍ عنها.

في مدينة جرمانا قبوٌ تحول إلى ذاكرةٍ مصغَّرة للسوريين، وربما يتحول مع الزمن إلى متحف. في جولتي داخل هذا القبو، كنت كمن يسير في تلافيف ذاكرةٍ ما، ذاكرة البلاد.

كتبٌ مخزَّنة في كراتين مغلقة بعناية، تحمل أسماءً ما، مكتباتٌ تحتفي رفوفها بعشرات العناوين، غُطَيت بستائر القماش والنايلون لحمايتها من الغبار وعواصف الزمن، بضع لوحاتٍ متراصفة هنا وهناك لرسامين رحلوا عنها، أشياء مبعثرة في كل ركنٍ، تفوح منها أسماء وروائح أشخاصٍ ما.

يروي لي صاحب القبو شيئاً من حكايته مع هذه الكتب “هذه الكتب هي رائحة الأصدقاء الذين غادروا البلاد، هي صوتهم ونبضهم وحضورهم، أراهم من خلالها. بعضها تُرك كأماناتٍ، وأخرى قمنا بنقلها من بعض البيوت المستأجرة التي هجرها ساكنوها قبل أن يسعفهم وقت سفرهم المفاجئ لجمع أشيائهم وذكرياتهم… كتبٌ كثيرة جمعناها من أماكن متفرقة، بطلبٍ من ذويها، ليتم حفظها في مكانٍ آمن، هم مخلصون لكتبهم حتى وإن ابتعدوا عنها. لقد أصبح هذا المستودع حارساً أميناً لتاريخ الأصدقاء، إذ يحمي مئات الكتب ويدافع عن بقائها، حتى أصبحنا نسميه “مستودع الذكريات.”

في السنوات الماضية أصبح منزلي يعجُّ بمثل تلك الودائع، كتب موزّعة هنا وهناك، بعضها خصصت له ركناً في مكتبتي، والآخر يغفو في الأدراج أو تحت السرير. أتذكر ماضي تلك الكتب، لقد كانت إكسير الحياة لدى أصحابها، كانت سنداً وحضناً لهم وروحاً تلوِّن منازلهم، كانت لسانهم وعيونهم، ولكن عند الرحيل ضاقت أحمالهم عن حمل أخفّها وزّناً… إنَّ عيشي جنباً إلى جنب مع هذه الكتب بات يؤرقني ويجعلني في كلِ لحظةٍ أعيشُ الحاضرَ والماضي معاً، فهي حوَّلت منزلي إلى مسرحٍ مزدحمٍ بالأحبّة وذكرياتهم. ومنزلي هذا ليس استثناء، فكلّ منازل أصدقائي في دمشق أصبحت مأوى لمئات الكتب التي نجت من بطش الحرب لتعيش على أمل البقاء.”

بين الضياع والنهب

كتب أضاعها أصحابها، أعاروها فيما مضى، وأنساهم ضجيج الحرب أن يسترجعوها، وأخرى  كانت تعيش في منازل مشتركة يسكنها مجموعة من الأصدقاء، لكل صديق كتبه الخاصة، وفي غيابهم أضاعت هوية أصحابها بعد اختلاطها ببعضها أثناء جمعها ومن ثم اختلاطها بأخرى خلال تنقلها من منزلٍ إلى آخر في رحلة بحثها عن مكان آمن، أما من مات أصحابها فقد بقيت في أماكن شتاتها كذكرى مؤلمة أو ككتبٍ مجهولة النسب والانتماء.

لقد أصبح اقتفاء أثر الكتب الضائعة حدثاً بارزاً في سنوات الحرب، فلا عجب أن تجد أصدقاء غادروا البلاد منذ سنوات، يسألون أصدقاءهم في سوريا عن مصير كتبهم ويوصونهم بالبحث عنها، طلباً لحياةٍ كانت لهم يوماً ما.

كتب خُطِفت، اعتقلت واغتصبت، نُهبت وضاعت كتاريخ كثيرٍ من السوريين. نهبٌ أشبه بسرقة الأوكسجين، بسرقةِ خيالك وأحلامك وأعضاءِ جسدك. مكتباتٌ حوَّلها تجار ومجرمو الحرب إلى أطلال، لتباع محتوياتها في أسواقهم التي باعت البشر قبل ممتلكاتهم، أو لتحنَّط في بيوتهم التي أصبحت تزدان بمئات الكتب النفيسة المنتقاة بعناية لصٍ محترف. كتبٌ بأغلفةٍ ملفتة وطباعةٍ فاخرة لم يُنظر إلى مضمونها ومحتواها الفكري، يفاخر الناهبون بعظمتها ويمتدحون هيبة حضورها في مكتباتهم التي تشبه الزنازين، دون أن يتذكروا أنها سُرقت بقوة السلاح من بيوتٍ ثكلى سطي عليها للانتقام من أصحابها والاستيلاء على ذاكرة حياتهم. والأكثر إيلاماً أن أولئك اللصوص مجرمي الثقافة لا يقرأون ولا يغنون الثقافة، بل يتعاملون مع الكتاب كمجرد أثاثٍ فاخر.

قد نجد الجرح الأكثر نزفاً في أسواق (التعفيش)، حيث تتكدّس أكوامٌ من الكتب بين البرادات والغسالات وأثاث المنازل. مشهدٌ دراميٌ لو رصدته كاميرات السينما لحصدت عشرات الأفلام. هنا ” تُعَفَّش” الذاكرة والأفكار والأحلام، هل فكر اللصوص بتاريخ وحكايات تلك الكتب؟ بالطبع لا، وبالطبع لا يعرفون قيمتها الفكرية والمعنوية والإنسانية، هي فقط غنيمةٌ أخرى بين (غنائم) الحرب، ومصدرٌ إضافيٌّ للحصول على الأموال.

ثمة رواياتٌ كثيرة عن أشخاصٍ وجدوا كتبهم، مسبيّة في أسواق التعفيش، لتقع المفاجأة في قلوبهم كوقع الطعنة السّامّة، طعنةٌ لن يزولَ أثرها مهما طال الزمن.

كتب مسجاة على الأرصفة

التّشرّد الذي طال حياة نسبةً كبيرةً من السوريين، طال حياةَ كتبهم أيضاً، فأينما التفتّ ستراها مسجَّاة على الأرصفة والبسطات. لو تفحصت صفحاتها ستقرأ تاريخاً كاملاً عن حياةٍ مضت. عباراتٌ لوِّنت بحبرٍ فارق، خُط بجانبها بضع كلماتٍ تشرح معنىً ما، سطورٌ وضع تحتها خطوط  للدلالة على فقرةٍ مميزة. صفحاتٌ تطل منها وجوه قرائها، تتعرف إليهم من العلامات الفارقة التي خلفوها على الأوراق… لمسات حبرهم، رائحة عطرهم… أثر ريقهم وعرقهم ، بقع شايهم وقهوتهم. حكاياتُ شخوصٍ عبروا تاركينَ أدقَّ تفاصيلهم الشخصية بين السطور.

على أحد أرصفة  دمشق التقيت ببائع كتب مستعملة، رفض ذكر اسمه، حدَّثني عن مصادر تلك الكتب: “في السنوات الماضية اشترينا مكتبات بأكملها من أشخاصٍ كثيرين، بأسعارٍ بسيطة. نشتري المكتبة بأكملها دون النظر إلى عناوين كتبها، لذا تحسب كسعر جملة. كثيرون باعوا مكتباتهم الشخصية بداعي السفر، أو الفقر والعوز، أو نتيجة نزوحهم لمناطق أخرى. كتب كثيرة اشتريناها من مكتباتٍ عامة أو دور نشر أُغلقت بعد إفلاسها أو هجرة أصحابها.”  

يضيف البائع: “بشكلٍ شبه يومي، يحضر الكثيرون إلينا ليبيعوا ما يملكونه أو ما يمكنهم الاستغناء عنه من الكتب. البعض يحضرون بصحبة كتبٍ لا يعلمون شيئاً عن مصدرها ولا يعرفون فحواها أو قيمتها، أعرف ذلك من ملامحهم ومن طريقة تعاملهم معها وكأنها خردة. قد تكون كتباً منهوبة أو مباعة من ضمن أثاث المنازل المشتراة، أو كانت منسية في أماكن هجرها سكانها.”

في زيارة أخرى للبائع رأيته يجادل شاباً يحمل حقيبة تحوي كتباً بأحجامٍ مختلفة، وبعد مفاوضات طويلة، اشتراها من الشاب بثلاثة آلاف ليرة. استوقفني المشهد، شعرت وكأن الشاب يبيع قطعةً منه، فسألته عن سبب البيع. أجاب بألم وحرقة: ” توقفت عن العمل منذ فترة، ومنذ أسبوع دفعت إيجار المنزل فخسرت كل ما أملك، ومن حينها وأنا أستدين من أصدقائي ما تيسر من نقود. اليوم أفقت وجيوبي خاوية، فأجبرت مكرهاً على بيع تلك الكتب لأشتري طعاماً وسجائر. هذه ثالث مناسبة أبيع فيها شيئاً من كتبي، الحاجة كافرةٌ يا صديقي وحين تجوع بحقّ تكتشف أن الثقافة لا تبقيك على قيد الحياة.”

بين النزوح ودروب السفر

حين نزح (أبو عدي) من الغوطة، أنقذ مع عائلته عشرة كتب، اصطحبها معه كفردٍ من أفراد العائلة.  تلك الكتب، كعائلته، مكثت معه لأيامٍ في الحدائق، تشردت واستُخدمت كوسائد للنوم، ثم رافقته إلى مركز الايواء في منطقة الزاهرة، ومن ثم إلى مراكز ايواءٍ أخرى، وهي اليوم تعيش معه في شقة (على العظم) لتشاطره البرد والرطوبة وغيرهما.  

منذ عامٍ وكتب (ديمة) مهملةٌ في سجنها المؤقت، في انتظار محطةٍ ما، فهي لا تعرف حتى الآن إن كانت ستسافر أو ستبقى، حالها حال الكثير من سوريي الداخل، لذا لم تتحرر لتستقر في مكتبة، بل بقيت على أهبة الرحيل إلى أن تعرف وجهتها الأخيرة.  

تلك الكتب عاشت سلسلة لا منتهية من النزوح، فمنذ ستة أعوام نزحت مع (ديمة) من مدينة قدسيا إلى مدينة جرمانا، وبعد مسلسل التفجيرات والقذائف في المدينة انتقلت ديمة الى قريتها بصحبة عائلتها الورقية تلك. وفي العام 2015 عادت الى دمشق بنفس الحمولة، التي عبرت الحواجز وتم تفتيشها والتعامل معها بريبة والنظر إلى حاملتها بسخرية: “لماذا تكلف نفسها مشقة نقل هذه السخافات؟” استقرت في دمشق لعامين متنقلة بين بيوت عدة كانت تستأجرها، ثم جاء موعد سفرها إلى لبنان، فنقلت كتبها الى منزل أهلها، لتبقى حتى اليوم على حالها منتظرة استقراراً ما، هل ستنقل الى منزل أخيها ليحفظها في مكتبته، هل ستبقى في مكانها؟ هل سترسل إلى لبنان؟

ثمة كتب سافرت مع أصحابها الذين تحملوا تكاليف نقلها لكي تبقى معهم، أو لحقت بهم بعد أشهر أو سنوات، لم يتحملوا فكرة الابتعاد عنها، فطارت إليهم عبر مكاتب الشحن وحقائب بعض المسافرين. هناك كتب تعيش على أمل لم شملها بأحبائها، ليس في الأمر أحجية، فبعض البشر يتوقون لعناق كتبهم كتوقهم لعناق أحبتهم وذويهم. تلك كتبٌ حالفها الحظ، لكن الأخير لم يحالف كتباً أخرى تاهت وماتت في المنافي، غرقت في البحر مع حامليها أو قدموها كقرابين له ليرأف بحالهم ويمنحهم النجاة. كتبٌ تغرَّبت في لبنان وتركيا وبلدان أخرى، بعد هجرة أصحابها، من دونها، نحو مجهولٍ جديد، فكُتِبَ لها أن تبقى أسيرة منفاها أو أن تعود وحيدةً إلى وطنها الأم.

أتذكر صديقتي “عاشقة الكتب”، حين غادرت لبنان نحو أوروبا منذ عامين، أرسلت لي خمسة عشر كتاباً لأحتفظ بهم “كأمانة غالية”، وأوصتني بالعناية بهم وحمايتهم كما لو أنها توصيني بأبنائها.

لطالما كانت تلك الصديقة صلة وصلٍ بين بعض الكتب وأصحابها وجسراً لعبورها نحوهم، إذ قامت بنقل العشرات منها من دمشق إلى بيروت، خلال سفرها بين العاصمتين، وكانت الكتب المنقولة تشغل الحيّز الأكبر من حِمل حقائبها. حِملٌ جميلٌ تنقله بفرحٍ وحب، ليلتم شمل الكتب مع أصحابها المبعدين عنها.

كانت تقول دائماً “الكتب ليست مجرد أوراق خرساء أو مصدر للثقافة والاكتشاف والمتعة فقط، بل هي كائنات حية لها قلبٌ وروحٌ ومشاعر، فهي تحزن وتنزف إذا ما فارقت أصحابها.” اليوم أنظر إلى كتبها الحاضرة أمامي وأتذكر ما قالت، وأشردُ بعيداً…

ترى ما مستقبل هذه الكتب؟ هل ستحتضنُ أحبتها يوماً ما؟ وهل ستحيا إلى ذلك الحين؟ أم ستلقى مصير كتابٍ نعيش الآن خارج سطوره؟ كتابٌ كان اسمهُ سوريا.

يوميات سورية: نواطير الأبنية-العمل المجهول

يوميات سورية: نواطير الأبنية-العمل المجهول

لا تتطلب البنية العمرانية التقليدية لدمشق وجوداً لمهنة النواطير، لأنّ ارتفاع الأبنية لا يتجاوز الطوابق الأربعة في الأحياء التقليدية القديمة الحديثة مثل الميدان والمزة وباب مصلى والقصور والتجارة وركن الدين ومساكن برزة وبالتالي تغيب المصاعد عن هذه الأبنية ويكون التخديم عملاً خاصاً بأهل البناء كل حسب حاجته ومقدرته. لكنّ التنظيم العمراني الجديد وبداية تنفيذ الأبنية البرجية في المزة الجديدة وفي مشروع دمر والأبنية “التسعاوية” في حي التجارة نسبة إلى عدد الطوابق، فرضت نمطاً جديداً من الخدمات يتطلب وجود ناطورٍ بشكل دائم، وتبدو الخدمة الأهم هي المصاعد من تنظيف وتشغيل وفتح عند الطوارئ.

لكن حتى في تلك الأحياء تخلّى قاطنو بعض الأبنية عن خدمات النواطير توفيراً للنقود ولعدم وجود مكان يتسع للناطور وعائلته، ويتولى أحد الجيران أو أحد أعضاء لجنة البناء مهمة متابعة المصاعد من كافة النواحي بعد التعاقد مع شركة خاصة لصيانة المصعد يتم الاتصال بها عند أي طارئ، وبالطبع يتم تقاسم كلفة الصيانة بين كافة المستفيدين، ويمكن الإشارة هنا إلى أن أبنيةً كثيرة وعدد طوابقها لا يتجاوز الأربعة قد اتفق شاغلوها على تركيب مصعدٍ خارجيٍ لم يكن موجوداً في التصميم الأساسي للبناء، وإن تمنّع أحد الساكنين عن المشاركة بتكاليف التركيب أو الصيانة يتم حرمانه من الاستخدام والاستفادة من المصعد، إما بوضع قفلٍ ومفتاحٍ للعائلات المساهمة أو بوضع رقمٍ سريٍ يتم تغييره بصورة دورية تسمح فقط للمساهمين  وضيوفهم وأهلهم بالاستفادة من خدمة المصعد، وقد يلجأ سكان البناء للتعاقد مع أحد نواطير الأبنية المجاورة لتأمين خدمتي جمع القمامة وشطف الدرج مقابل مبلغٍ ماليٍ محدد شهرياً أو أسبوعياً للراغبين في الاستفادة من هذه الخدمات.

اللافت في مهنة النواطير التغير الكبير الذي طرأ على بنية العمل ذاته، فقد سافر نواطير عتاة، أي متمرسون في مهنتهم ممن جاءوا إلى البناء شبانًاً ثم تزوجوا وأنجبوا، حتى أنّ بعضهم قد أورث عمله لأحد أبنائه. في زمن الحرب السورية،  قرر عدد كبير من النواطير اللجوء إلى أوروبا، نواطير أميون ولا يعرفون جغرافيا خارج حدود أبنيتهم، صاروا الآن جمهوراً من اللاجئين في أوروبا، فجأةً اكتشفوا بأنّ مهنتهم لا مستقبل لها، مهنة بنيت على أرضية هشة وبلا مستقبل أو تسجيل بالتأمينات الاجتماعية أو بالخدمات الطبية والسلامة المهنية، فجأة باتت الهجرة حلماً وفرصة للمستقبل!

الأهم أنّ غياب وسفر هؤلاء النواطير المتمرسين  والمتآلفين مع السكان ومع الطبيعة الخاصة لعملهم قد خلق حاجة ماسة لتوفير بدلاء عنهم، بدلاء في ظلّ حرب ٍاستهلكت رجال البلد، وخاصة الشباب، وباتت قوة العمل خارج الاكتفاء وبرزت حاجة ماسة وجديدة لسد الفراغات الكبيرة التي باتت فجوة لا وجود لمن يسدها ويفي باحتياجاتها.

كما أنّ تزايد أعداد المهجرين والنازحين من بيوتهم في الأحياء القريبة أو من الريف  الخارج عن دورة الحياة أو من المدن والأرياف البعيدة مثل ريف حلب قد أفرز أيدياً عاملة جديدة، تراجعت أعمالها بسبب الحرب أو ضاعت مقدراتها كاملة أو باتت الأراضي قفاراً وحيث لا يوجد بشر لا توجد أية حاجة للعمل الذي كان وتكوّن وارتقى بارتقاء البشرية ووجودها في الأساس. ويمكن الإشارة هنا إلى أن غالبية نواطير الأبنية  قيد الإنشاء في جرمانا مثلاً هم من ريف حلب، يحددون مساحة خاصة بهم، ستائر رثة وبطانيات رقيقة لا ترد شيئاً إلا الضوء، شبابيك عتيقة وأبواب لاتشبه الأبواب ويصير الحيز المكاني بيتاً ومدينةً وبلداً.

هل يسدّ القادمون الجدد الفجوة المتحصلة من غياب النواطير المهاجرين أو المنخرطين بالجيش؟ وكيف لهم إن تم قبولهم الانخراط بعملٍ غريب وجديد؟

عمل الناطور يتطلب سمات خاصة، طراوة  في التعامل وقدرة فائقة على تحمل الأمزجة قبل المهام، وتقبل لكافة الأعمال المطلوبة وحسن الأداء والتنفيذ، استيقاظ مبكر وتواجد مزمن في البناء أو في  منطقة البناء على أقل تقدير، استنفار كامل لعائلة الناطور ذاتها، الزوجة لشطف الدرج، الأبناء لجمع القمامة، وهذه المهام كلها من صلب العمل اليومي المتفق على أدائه مقابل الأجر الزهيد المحدد.

بالمقابل يجهد النواطير وعائلاتهم لإيجاد دخل موازٍ يعوّض ضحالة المرتب الشهري، أو مايمكن اعتباره “اقتصاد ظل!” الزوجة تفرم البقدونس والحشائش وتحفر الكوسا وتلف ورق العنب لعائلات البناء، والأطفال يحملون المتاع والحاجيات ويجلبون مواد البقالة والخبز والأدوية للسكان أيضاً، حتى أنّ إحدى الساكنات كانت تمنح أجراً أسبوعياً لابن الناطور مقابل تنزيه كلبتها وقضائها لحاجتها كل يوم مرتين في الصباح والمساء، ولابد من ذكر أن زوجات النواطير ومنذ اليوم الأول تتحولن لعاملات منزليات، تقسمن أيام الأسبوع بين الساكنات القادرات على الدفع ومن الطبيعي أن تميزن الساكنات السخيات بالمال وغير المتطلبات بالأعمال والمهام، أي مقايضة المال على حساب الجودة.

أم زياد، زوجة أحد النواطير باعت خاتم زواجها وقرطيها واقترضت من إحدى  السيدات الساكنات التي تعمل لديها ما نقصها من قيمة الغسالة الآلية الأوتوماتيكية  واشترتها لتكسب الوقت الذي تقضيه في الغسيل في العمل المنزلي وتقديم خدمات الطبخ وتحضير مكوناته، في بادرة اقتصادية ذكية ،حيث قارنت بين قيمة الوقت المشغول في الغسيل وبين ما تجنيه من عملها المتزايد لمهارتها وسرعتها في أدائه، وطبعا كانت النتيجة لصالح عملها الخاص على حساب الغسيل المضني والمضيع للوقت وللدخل.

اللافت أن نسقاً مختلفاً من النواطير قد حلّ مكان الغائبين مهما كان سبب هذا الغياب، نسق متعلم، صاحب عمل سابق، صاحب ملكية كبيت يسكنه أو قطعة أرض  تدر عليه دخلاً من زراعتها أو استثمارها بالمشاركة مع غيره أو تعهيدها مقابل حصة من الموسم، أو بيت يؤجره أو سيارة يستثمرها شهرياً أو سنوياً. نسق جديد رغب بهذه المهنة وقبل كل شيء بسبب وجود مأوى. أجل مأوى ولو كان عبارة عن غرفتين في قبو رطب أو مجرد قاعة كانت معدة كملجأ أو كمخزن لفائض الحاجات لأهل البناء.

يرتبط النواطير في منطقة محددة بعلاقات معقدة بينهم، تتراوح مابين الغيرة من أجرٍ أعلى أو تساهل أوسع من قبل السكان ولجنة البناء وما بين توافق وتكافل مميزين. يملك  الناطور أبو أحمد سيارة ينقل فيها طلاب المدارس وبعض السكان، وأثناء غيابه يتعهد ناطور البناء المقابل بأخذ مكانه لأمر قد يطرأ، وهو سلوك تبادلي بينهما، يلجآن إليه مرات عديدة في اليوم الواحد. أما ياسر الناطور الذي لا أولاد لديه فقد اتفق مع الناطور أبي مازن على أن يقوم أبناء أبو مازن بجمع قمامة البناء الذي يعمل به مقابل تعويض مالي شهري يدفعه نقداً للأب.

يقول إبراهيم الناطور أنه لا يأخذ مقابلاً من زميله الناطور في البناء المجاور حين يقله إلى السوق أو إلى الطبيب ويعتبر أن ما يفعله واجب غير قابل للتسعير، لأن النواطير تجمعهم وحدة حال ووحدة شقاء وتعب.

نواطير البناء مهنة بلا حماية، لا سجل في التأمينات ولا طبابة ولا تحسين لشروط السكن مثل الدهان أو عزل الرطوبة، والناطور معرض للطرد تحت أية ذريعة. اللافت أنه في بعض الأماكن مثل مشروع دمر يتم دفع فروغ وصل للمائة وخمسين ألف ليرة للناطور الراغب بالرحيل أو لأحد أعضاء لجنة البناء لطرده، وهذه الظاهرة نادرة لكنها تكاثرت فقط بسبب وجود المأوى، المأوى المجاني الذي بات حلماً صعب التحقيق  في بلد هضمت الحرب بيوت بشرها كما هضمت حيواتهم بخفة بالغة لا راد لها.