بواسطة Ahmed Ibrahim | مايو 14, 2018 | Cost of War, غير مصنف
الجزء الثاني
لم يتغير شيء في المخيم الذي كنت قد زرته في تشرين الأول الماضي سوى أن الموت قد غيب أبو شمة، وتلك العجوز التي تشبه الساحرات في الخيمة الأولى منه.
تعرف؟ لما قرأت قصتي تداعت تفاصيل كثيرة… حضرت اللحظات بكل تفاصيلها لدرجة أنني أحسست أن قصتي ناقصة، ولم أرو تفاصيل كثيرة مهمة.
هكذا بدأ لقائي مرة أخرى بشمة، التي أتيتها معزياً في والدها الذي تمكن منه الملعون الأول “السرطان”، كما كان يسميه، هنا في مخيمهم الذي يعيشون فيه في سهل حران جنوب شرق مدينة شانلي أورفة التركية. ولكن الأمر الذي قهرني، تقول شمة: “ليس موت والدي، بل منعهم من دفن الجثّة في المكان الذي أصر في وصيته أن يدفن فيه.”
“استخرجنا كل الأوراق الرسمية من مشفى الـ500 في ولاية أورفة، ونقلنا جثمانه إلى بوابة تل أبيض، حيث كان أقرباء لنا في تل أبيض السورية في انتظار الجنازة، لاستحالة ذهابي أنا، أو أخي، إلى هناك. وبالفعل، استلموا الجثة، وسافروا بها إلى الرقة. لكن داعش منعتهم من دفنه في مقبرة ‘تل البيعة’، حيث أراد وأوصى، هناك حيث قبر أمه وأبيه، وحجتهم أنني مرتدة وكافرة، وكذلك أبي، فلا مكان له في قبور المسلمين، بل ولم يسمحوا لهم بدفنه في كل أراضي الدولة الإسلامية ‘الطاهرة’، حيث تم دفنه في قرية ‘كورمازات’ جنوبي ‘تل أبيض’ في 1 تموز 2016. حتى الموت والدفن بالشكل الطبيعي استكثروه علينا.”
دارت بها دوائر الذكرى: “سبق أن وعدتك أن أحدثك عن بعض القصص، عن مجتمع نساء التنظيم، أو بعض ما عايشته هناك. قد تستغرب من بعض الوقائع، وتتهمني بالادّعاء عليهم، ولكن عزائي أن هناك من هن مثلي يعرفن ذلك جيداً، بل أكثر بكثير، لأن فترة إقامتهنّ مع التنظيم أطول.”
“في الحي الذي أسكنني زوجي فيه، كانت غالبية البيوت لعناصر من التنظيم. ممنوع علي كما ذكرت لك سابقاً مغادرة البيت إلا معه. وهناك في ذلك الحي، وذات عصر يوم، طلب مني أن أرتدي أحسن ما عندي، وألبس كل الحلي والذهب الذي كان أهداني إياها، أو اشتراها لي خلال فترة وجودي معه. استغربت، فهي ليست العادة. وعند المساء، أخذني إلى فيلا لا تبعد سوى أمتار عن البيت الذي نسكنه. رن الجرس، ومن خلال الأنترفون تكلم مع صوت أنثوي ناداه هو باسم ‘أم مهاجر’. قال: هذه زوجتي، وسأعود لاحقاً لأخذها. فُتح الباب، ودخلت.
“هو باب لعالم مختلف جداً. ينقلك هذا الباب من عالم المدينة البائسة المحجبة بالسواد، حيث هو اللون الأوحد، والمزنرة بجثث أبنائها ورؤوسهم، ليرتسم داخل هذا المكان عالم من الألوان، لا ليس عالماً من الألوان، بل بحور ومحيطات من الألوان، والكذب باسم الله.
“دخلت متعثرة بخطواتي، تشجعني كلمات ‘أم مهاجر'(1)، التي نهضت مرحبة، ومن خلفها سهام أكثر من عشرين عيناً تخترقني متفحصة ثيابي ومجوهراتي التي بدأت تبان، بينما كانت إحدى ‘السبايا’ تقشرني من الدرع والعباءة والخمار. أمسكت أم مهاجر بيدي، وأدارتني حول نفسي في حركة راقصة وهي تصلي على النبي، وتمر بيدها الثانية على صدري صعوداً لرقبتي، ثم إلى كتفيَّ نزولاً لتستقر يدها على ردفي في حركة وكلمات وابتسامة لا تخلو من إيحاءات جنسية، الأمر الذي زاد ارتباكي، من جهة لما كنت أتخيله من الورع والجو الديني الذي كنت أتوقعه هنا، ومن جهة أخرى للباس غير المحتشم لأكثرية الموجودات.
“إحدى عشرة سيدة من سبع جنسيات جميعهن لا يشبهن لا من حيث الشكل ولا القوام ولا اللباس ولا الكلام مما عرفت، سواء من نساء وبنات مدينتي، أو ماعرفته من نساء التنظيم قبلاً. متكلفات على غير ذوق، سواء في مكياجهن، أو لباسهن، أو مجوهراتهن. وبحس الأنثى، شعرت بغيرتهن، فلباسي على بساطته أنيق، وحليي تناسبه، وبالأخص الطوق الذهبي الأثري الذي أهداني إياه زوجي مما سلبوه من متحف الموصل، والذي أظهرني كإحدى ملكات التاريخ، وأشعل غيرة لمحتها جيداً، ولقوامي الممشوق واستدارة جسمي في عيون الحاضرات.
“عرَّفتهن أم مهاجر علي، وذكرت زوجي وعمله ‘وبطولاته’ ومنصبه في التنظيم، دون أن تسمع أغلبيتهن ذلك، فلقد كانت النميمة والنظرات التحتانية ما أشغلهن عن كلامها.
“أجلستني مضيفتي وانشغلت بضيفاتها. جالت عيناي في المكان مستكشفة وأنا أدور بإصبعي على حافة كأس الكريستال الفاخرة التي قدمت لي بها العصير إحدى السبايا الثلاث اللواتي يخدمن في الصالون الكبير. لم أكن أعرف أن كأسي من الكريستال أو الزجاج، سوى من ملاحظة أم مهاجر التي اعتبرتها إهانة لي ‘انتبهي للكأس التي في يديك، فهي من الكريستال الفاخر.’
“صالون كبير جداً يحتل صدره الأبعد موقد كبير على حجم الحائط من القرميد الأحمر، تتوضع على رفوفه دلال القهوة العربية بأحجامها المختلفة، وعلى الحائط الأيسر مشرب كبير بطاولة من الرخام الأسود تفصله عن الصالون. أما الحائط الأيمن، فعلى أغلب مساحته برواظ من الجبصين المزخرف يؤطر صورة كبيرة مرسومة على الحائط نفسه طمست بالدهان، ولكن للذي ينتبه جيداً، وخصوصاً إن كان من أبناء الرقة فلن تخفى عليه صورة حافظ الأسد يجلس على كرسي كبير يقابله في الطرف الآخر هارون الرشيد، وبينهما سد الفرات، في صورة هي في ذاكرة الرقيين ولو أنها مطموسة. ولكن جزءاً منها على صغره يوضح في ذاكرتهم كامل الصورة على يسار الصورة. كان هناك باب محدِث وليس من تصميم البيت. كان دائماً مغلقاً. وما لفت انتباهي أن قلة من النسوة هنا عندما يدخلنه فبمفتاح واحد بيد كل واحدة.
“تتوزع في الصالة عدة أطقم من الكنبات والكراسي الفخمة، وتغطي أرضه سجادات لم أرَ مثلها في حياتي. أعرف أن هذا البيت لأحد مديري المؤسسات في عهد النظام. ودارت بي الذاكرة إلى بيت أهلي في حي شمال السكة، أحاول أن استحضر منه ألوان حصيرتنا المصنوعة من خيوط النايلون التي اهترأت لكثرة الغسل، وأقارنها مع ألوان السجادات هنا. هل من المعقول أننا نسكن المدينة نفسها، نحن وهو، ومن ثم هنَّ؟ انتشلتني أم مهاجر من ذكرياتي وهي تسألني عن رأيي في العصير الذي تقول هي أنها طبقت وصفته من المطبخ الفرنسي. لم أكن قد ذقته. ‘أم أنك لا تفضلين شربه قبل العشاء.’ تابعت دون أن تسمع رأيي. لا، لا، عادي ‘قلت في نفسي: الله يرحم أيام الشراب تبع الظروف اللي بخمس ليرات.’
“كان العشاء عبارة عن خروفين مشويين، وكمية من المكسرات التي لا أعرف أسماء أكثرها، أو أسماء التوابل التي كانت تعددها أم مهاجر في تفاخر واضح، متلذذة بتأثير الاستغراب والجهل على وجوهنا، ومستغربة من ضحالة معلوماتنا وجهلنا بالمطابخ العالمية؛ سلطات مختلفة اجتهدت جداً أن أحفظ اسم واحدة فقط دون جدوى، رغم أن مكوناتها هي الخضار التي نعرفها، أو ربما هي تقصدت في تسميتها بأسماء أجنبية.
“بعدها، تم تقديم الفواكه والأراكيل! أي والله أراكيل، وأنا المدمنة على الأركيلة والمحرومة منها لأشهر بدعوى الحرمانية. هنا غير محرمة. الحرمانية التي تطبق على العامة لا تطبق هنا، والدين المفروض في الشارع غير الدين الموجود في الصالونات هنا. عدة أنواع من المعسل، مع حشيش أيضاً. يمكنك ألا تصدق، ويمكن لكثير أن لا يصدقوا، ولكن هو واقع الحال هناك. والأراكيل كلها “بابليون” موصلية، حيث يصنعون أفضل الأراكيل في العالم، كما قالت أم مهاجر. عند الواحدة تقريباً بدأ جرس الباب يدق كل حين، ويطلب أحدهم زوجته عبر الإنترفون. كان دوري عند الثانية صباحاً تقريباً.
“طلب مني زوجي أن أنقل له ما حصل، وأصف له كل تصرف في كل ثانية. اعتقدت بداية أنه، أو أنهم، لا يعرفون ما يحصل، ولكنها لم تكن صدمة كصدمتي أول الدخول إلى صالون أم مهاجر. كانوا يعرفون كل شيء، بل هم من يؤمن كل شيء.
“الخميس التالي ,حسب توقيت السهرة في صالون أم مهاجر، كان كالخميس الذي سبقه. طلب مني أن أجهز نفسي وأستعد. عند المساء، أحضر لي مشبكاً ذهبياً تتوسطه حجرة زمرد غريبة الشكل موصولة من طرفها الخلفي بأسلاك رفيعة موصولة بجهاز صغير يشبه بطارية الموبايل، ربما أكبر قليلاً. قال هذه لحمايتك، وهي كاميرا مع مسجل صوت. رفضت بداية أن أضعه خوفاً من أم مهاجر ومن معها، وهن صاحبات اليد الطولى في كل الرقة، عبر كتيبة الخنساء التي تمثل أم مهاجر إحدى قياداتها. ولكنه أقنعني أن جميع النساء هناك يتجسسن على البقية بالطريقة نفسها، وأنه هو من يجهز للجميع هذه الأدوات. لم أفهم لماذا يتجسسون على بعضهم إن كان كلامه صحيحاً.
“ألصق الأسلاك الناعمة على جسمي، ووضع الجهاز في ثيابي الداخلية، ما بين ساقي، وألبسني ثيابي وحليي بيديه قطعة قطعة. أجلسني وأوقفني عدة مرات، ثم طلب مني أن أمشي، ثم أجلس، ثم أنحني، ثم أستقم. كل ذلك وهو يحدق في شاشة الكمبيوتر، حتى بانت ملامح الرضا على وجهه، واطمأن أن عمله تام.
“في السهرة، كانت هنالك سيدتان جديدتان، وكانت ثقتي بنفسي أكبر، ولكن ما كنت أحمله على صدري، وما بين ساقي هو ما كان يربكني ويخيفني. إحدى المرأتين الجديدتين عرفت عنها أم مهاجر باسم ‘أختنا أم سيف الله’، أو كما تُشتهر بـ’أخت جليبيب'(2). والسيدة الأخرى كانت ‘أم ليث الإنكليزية’ (3) الوحيدة المحتشمة اللباس، والجدية في كلامها، والمتشددة جداً في آرائها.
“كالخميس الماضي، كانت أم مهاجر تتحفنا بتسميات غريبة عجيبة لأنواع الضيافات التي تقدمها، والأواني التي تقدم فيها هذه الضيافات في عنجهية وفوقية متعمدة.
“كان جمع النسوة كله يتساءل عن موعد ما على السكايب، ألم يحن موعده. لم أكن أعلم شيئاً عن الموعد، أو مع من، إلى أن تحلق أكثرهن حول شاشة كمبيوتر، ربما هي أكبر شاشة كمبيوتر سبق أن رأيتها، بل هي أكبر من شاشة التلفاز في بيت أهلي. كان الاتصال من اسطنبول مع سيدتين إحداهما تتكلم العربية، والأخرى تتكلم عربية مكسرة بطريقة مضحكة. قامت السيدتان بعرض بضاعة محل كامل من الألبسة الداخلية والخارجية والإكسسوارات، وأدوات التجميل، والعطورات، بواسطة ثلاث عارضات أزياء شكلهن وذوقهن لا يبعد كثيراً عن ذوق الموجودات، ثلاث ساعات من التسوق والاختيار والتعديلات على الأزياء والألبسة وألوانها، والتي كن يتصفحن موديلاتها على صور مرسلة سابقاً غير العرض المباشر. طلبت السيدتان على الطرف الآخر مهلة أسبوع حتى يتم إجراء التعديلات، ومطابقة القياسات التي كانت تقوم بأخذها من أجساد الموجودات سيدة خمسينية تضع نظارة طبية أعرفها جيداً. كانت تملك محل خياطة يتبع لأحد المتاجر الكبرى لبيع الأقمشة في شارع تل أبيض. وكما الخميس الماضي انفض الجمع بعد عشاء فاخر بتسميات غريبة من قبل أم مهاجر، وأراكيل، وحفلة رقص من ثقافات متنوعة، كانت ‘الجزراويات'(4) الأكثر استهلاكاً لكل شيء، من الأكل، إلى كمية الألبسة التي تم طلبها على أسمائهن، إلى استهلاك رؤوس الأراكيل، إلى الرقص الماجن ذي الإيحاءات الجنسية الفاضحة التي تخجل منه حتى النسوة هنا.
“أم ليث، وثلاث أخريات، قضين أغلب الوقت في الغرفة ذات الباب الأسود، وعندما يخرجن فليهمسن في أذن أم مهاجر، أو أم سيف الله، أو ليطلبن من إحداهن أن تدخل تلك الغرفة التي شدت انتباهي.
“لم ينتظر زوجي حتى أخلع نقابي ودرعي وعباءتي، بل مد يده إلى ما بين ساقي من على الباب، وأخرج ما وضعه هناك، ومباشرة ألحقه بجهاز الكمبيوتر خاصته، وبدأ يخلع ثيابه على عجل ويلقيها بعشوائية، كما أوامره التي يلقيها علي “بدي عشا… جيبيلي الدوا من البراد… شوفيلي مفاتيح الخزنة… هاتي شاحن الموبايل… اقفلي باب الشقة. أنهيت ما أمر به وجلست أتابع معه. غمرني بنظرة امتنان فرحاً بما يشاهده وهو يقوم بالتقطيع والتوصيل. كنز هذا يا حرمة، رح يكون بيوم من الأيام كنز. هذه كانت آخر كلمات سمعتها قبل أن يغلبني النعاس.
“الاثنين اللي قبل الخميس ‘حسب توقيت صالون أم مهاجر’، اعتباراً من الآن كل يوم إثنين وثلاثاء هنالك دورة شرعية في صالون أم مهاجر، وعليك أن تلتزمي بموعد الدورة. ربما هو قرار عما شاهده، أو شاهدوه في الفيديو الذي صورته، تساءلت في نفسي، وسألته، لكنه لم يجبني، وقال أنا لن أمر لأخذك، ولك الإذن بالذهاب لوحدك. قالها وهو يغلق الباب خارجاً.
“كنت ثالث الواصلات إلى منزل أم مهاجر. وأنا أمد يدي لأقرع الجرس سمعت حديثاً بين الدورية التي تقف غير بعيد عن منزل أم مهاجر واثنتين من النساء يبحثن في حاويات القمامة عن بقايا أكل، وهي ظاهرة انتشرت بعد سيطرة داعش على المدينة ‘انقلعي من هين إنتي وإياها.’ واضح من لهجته أنه من أهالي المدينة. ترد إحدى المرأتين وهي تغوص إلى نصفها بحاوية القمامة، ‘ولك ابني والله متنا من الجوع، واحنا أولى من الكلاب والقطط،’ فيرد عليها الملثم الآخر: ‘لا، والله! الكلاب والقطط أولى منكم. أنتم جايين تزتون شرايح مشان الطيران يضرب بيوت المجاهدين.’ ‘ولك يا ابني أي شرايح، وأي طيران، والكعبة عندي خمسة أولاد، وهين بالحاويات خير كثير. الله يوفقك خلينا ناخذ ونروح.’ ‘اتق الله يا كافرة، أتحلفين بغير الله، سأستدعي لك كتيبة الخنساء ليقيموا عليك الحد.’ كيف اختفت المرأتان في لمح البصر، لا أعرف! وسط قهقهات العناصر. أردت أن أقول للمرأتين: لو أنكما تريان الطعام هنا في الداخل، ولكنني لم أقل، وضغطت على الجرس ودخلت. كان هنالك سبع عشرة سيدة، هذه المرة كنا عندما اكتمل عقدنا سوريتين، وعراقيتين، وثلاث تونسيات، وسعودية واحدة، وبريطانيتين، وأربع فرنسيات، وألمانية واحدة، وبلجيكية واحدة، وصومالية واحدة.
“طلب منا بواسطة أم ليث الاسكتلندية، وهي أميرة الجمع في هذا اليوم، وإلى الاثنين المقبل، حيث سنُؤمَّر من امرأة أخرى، أن تتكلم كل واحدة عن تجربتها مع الدولة، ونظرتها إلى مستقبل الدولة، وما هو الخطاب الذي سنستقطب به من وجهة نظر كل منا مزيداً من النساء والرجال للانضمام والالتحاق بدولة الخلافة. ولم تحدد الاسكتلندية وقتاً للخطاب، فالمجال مفتوح.
“تكلمت هي بداية، وتفاخرت بأن دولة الخلافة عناصرها من 87 دولة، وهو أكبر من عدد الدول التي تحالفت لمحاربة دولة الخلافة على حداثة تكوينها. كانت تستخدم العربية والفرنسية والإنكليزية. بصراحة، ورغم ضحالة ثقافتي الدينية، إلا أنه كان واضحاً أنها تعرف كيف تختار الآيات والأحاديث وتقولبها في صلب حديثها، ولو أنني لم أقتنع بكلمة منه بسبب ما رأيت في جلستي وسهرتي الخميسين المنصرمين، ولكنني أعجبت بشدة باستخدامها للغات الثلاث، واختيارها للآيات والأحاديث. تكلمت عن وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً تويتر، في نشر فكر الخلافة، وخاصة في أوساط من يبحثون عن هويتهم في أوروبا، الهوية التي أضاعوها هناك، فلا هم أوروبيون ويعترف بهم، ولا هم مسلمون. وهنا دورنا أن ندلهم على جذورهم في دولة الخلافة الراشدة.
“تتالت الكلمات والآراء والاقتراحات. لم تجبرني أم ليث على الحديث، ولم أتحدث، بل كنت مستمعة فقط ‘وفي الخلاصة، واللي شفتو خلال أول يومين من الدورة الشرعية، هو الوعي والثقافة الدينية للمهاجرات القادمات من أوروبا أكثر بكثير من المهاجرات الأخريات، ومن الأنصاريات السوريات والعراقيات. ومن خلال أحاديثهن أيضاً هن يتفوقن في القسوة والعنف، سواء الفكري، أو الجسدي.’
“يوم الخميس الذي يلي اثنين وثلاثاء الدورة الشرعية ‘حسب توقيت صالون أم مهاجر.’
“كما الخميس الذي سبق، جهزني زوجي بالكاميرا من خلال المشبك الذهبي، وأهداني إسوارة ذهبية على شكل أفعى تمتد إلى مرفقي تقريباً. أوصلني وذهب إلى أشغاله. لفت انتباهي وانتباه الجميع صناديق من الكرتون تحت المشرب تماماً تحامي عنهن أم مهاجر، وفي الوقت نفسه تعطي الأمر درجة من التشويق والغموض، ولو أن أغلب الموجودات حزرن ما في الصناديق. كل هذا في انتظار اكتمال الجمع. وعند وصول الجميع، فتحت الصناديق التي كانت تحتوي أكياساً وصناديقاً أخرى عليها أرقام بدل الأسماء، وكل واحدة كانت تعرف رقمها، وبدأت حفلة اللبس والمباهاة.
“أجلس في الركن الأبعد من الصالون، وأنفث دخان أركيلتي على شكل حلقات، وأسوح في هذا العالم الذي أنا جزء منه منذ أشهر عدة، أراقب الفرح الطفولي بالثياب والعطورات والماكياجات والإكسسوارات القادمة من وراء الحدود. “تفترسني غيرة قاتلة، فأقضم أظافري أكثر من سحبي لدخان الأركيلة… ساذجات تبعن حماسهن وحب المغامرة، وأشياء أخرى لا أعرف ما هي. لكن الدافع ليس قوة المعتقد الديني بالتأكيد، فقد وقع جميعهن في أيديولوجية التنظيم. لكنني لست ممن وقعن في الأيديولوجية، بل في شيء آخر.
“أحاول أن أفهم ما الذي أتى بهن إلى هنا. أنا أفهم ربما، لكنني لا أبرر انضمام بعض السوريات، وأنا منهن إلى التنظيم، ولكن هؤلاء النسوة ما الذي كان ينقصهن، سواء الخليجيات، أو الأوربيات، أو حتى المغاربيات… رح أقلك رأيي، وهو من حقيقة ما عايشت وعشت طوال الشهور الماضية.
“الدعاية الإعلامية للتنظيم تستخدم بساطة الطرح وسلاسة الفكر لتقنع الكثيرين، وخصوصاً الأوروبيين. أتحدث عن النساء طبعاً وهون ربما إجابة حتى على بعض تساؤلاتي أنا نفسي. اللي ما عرفوا يكونوا أوروبيين، أو يحافظوا على جذورهم، ويكونوا أسوياء في مجتمعاتهم، وأيضاً الصور التي يبثها التنظيم، تدعو من دون أن تقول إلى المغامرة، ورغم إنو فكر داعش ضد حقوق النساء إلا أن الدعاية الإعلامية تبعهم كانت متفوقة في توجيه الدعاية والخطب المناسبة للمرأة المغامرة. التشبه بنساء التاريخ الإسلامي الأول… الأمان… فكرة دولة الخلافة التي ستنافس الدول التي جاؤوا منها، وتلغي الحدود والمسميات حتى للدول الإسلامية نفسها. وقدم هذا الخطاب مشفوعاً بأحاديث وآيات تناسبه وباللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، ولكن المصيبة تكون عند وصول الواحدة منهن إلى هنا. يكن قد وقعن بالفخ، حيث تتكشف الحقيقة، زواج إجباري، ومنع الخروج، ولا وجود للمغامرة، إلا من رحم ربي، وكان لها دور، أو خدمتها ظروف معينة. وأعتقد أن صاحبات الغرفة ذات الباب الأسود ينطبق عليهن هذا الكلام. ويكون النكوص فتبدأ الرشى بداية بالحلي والمجوهرات، ثم ببيوت لا يمتلكها واهبوها أصلاً، ثم المخدرات والحبوب والجو الذي أعيشه معهن الآن أوضح مثال.
“انتشلتني أم ليث الاسكتلندية من أفكاري، وهي التي لم توص أيضاً على أي ثياب، أو مستحضرات تجميل، فسألتني لماذا لم أوص على شيء. فقلت: لم يأذن لي زوجي بذلك. وأنت؟ سألتها، وليتني لم أسألها، كنت قد أدمنت حالتي هذه وطريقة معيشتي. ولكنها فجرت وهدمت كل ذلك. كلمتني بداية عن زوجها الذي مات. كانت متشددة أكثر ربما من ‘مولانا الخليفة’ نفسه، قرصتني من يدي ضاحكة عندما أصاخ الجمع السمع لصوت الطائرة التي هدرت فجأة مترقبين صوت انفجار الصواريخ، ولكنها هي بالذات أكملت ضحكتها: ‘عندما كنت صغيرة كنت أخاف الطائرات وبقيت هكذا. عندما اتصلت بأهلي في اسكتلندا أول ما وصلت إلى تل أبيض قالت لي أمي مرعوبة، وهل ركبت الطائرة؟’ عندما أنهت ضحكتها سألتها عن الغرفة ذات الباب الأسود، فحدجتني بنظرة رافعة حاجبيها: ‘اعتبريها المطبخ، هل فهمت؟’ أجبت: نعم. ولم أفهم. كان واضحاً أنني سألت عما لا يسأل عنه.
“وكانت دعوة أم مهاجر للعشاء طوق نجاة لي، حيث انتهت السهرة باكراً بسبب الثياب التي يجب أن تلبس لمن يجب أن تلبس لهم، والعطور التي سترش، والأصبغة التي ستدهن لتغطية أمور كثيرة.
الاثنين الشرعي “ما زلنا نعتمد ذات التوقيت”
“أخت جليبيب أميرتنا هذا الأسبوع تحدثت عن نفسها، وعن رحلتها من السعودية إلى تركيا، فالرقة. تحدثت عن لقاءاتها الثلاثة بالخليفة أمير المؤمنين في تفاخر، وعن المهام التي كلفها بها. تحدثت عن بطولات أخيها وزوجها، ثم عما قامت به من خدمات للتنظيم، وأنها أقنعت الكثير من السعوديات للانضمام إلى التنظيم، وبأنها ثاني سيدة في الرقة تقود السيارة، فلا حاجة بها للتخفي عن عيون الهيئة في ‘البر’ كما في السعودية، بل إنها تجوب الشوارع بسيارة ‘الخنساء’ بدورياتها على النساء المخالفات للباس، وتدعوهن للالتحاق وتجربة ذلك، وأقنعت كثيرات بالآية الكريمة:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
“والتي وجدتها هنا بهذا الفرات، فرات منَّ به الله على دولة الخلافة ليكون متنزهاً ورئة سياحة للمجاهدين والمجاهدات وعائلاتهم. قالت: ‘كنت أرسل لهن الصور، وكانت نتائج رائعة، والحمد لله، زاد عدد الأخوات أضعافاً.’ لم أفهم ما الربط بين الآية وما تقول، فالمقاربة غير واضحة، سوى في اعتقادها ربما أن كل كلمة فرات هي هذا النهر. ما علاقة فراتنا بما ذكرت ‘فراتنا كرقاوية’.
يوم الثلاثاء الذي يلي يوم الاثنين الشرعي وعلى التقويم ذاته
“لم يختلف حديث أخت جليبيب كثيراً عن اليوم الذي سبقه. كان واضحاً ضحالة ثقافتها الدينية، إذ حولت الدرس الشرعي إلى مناكفة أم مهاجر في تفوقها المطبخي، وتحدثت عن أنواع الكبسة وبهاراتها وسط تبرم وعدم اهتمام من أغلب الموجودات.
خميس آخر، وليس الخميس الأخير لصالون أم مهاجر
“لا أستطيع أن ألبس كل الأساور والقلائد والخواتم والأطواق، ولكنه يصر أن ألبس أكبر كمية منها، حتى تغطي على المشبك الذهبي وزمردته الغريبة. كنت أمشي بكل هذه الحلي كالمكبلة بأصفاد وسلاسل، وخشخشتها تزيد ارتباكي. أوصلني كالعادة وراح كالعادة. كان الجمع ملتئماً، ولكنه غير كامل. على يمين المشرب ذي الرخام الأسود، كان هنالك ما يشبه كرسي طبيب الأسنان تتمدد عليه ‘أم منتصر الجزراوية’ بقميص نوم شفاف ملأته عن آخره حد التفجر. تحت ضوء باهر تعمل فتاتان إحداهما على ساقي أم منتصر، حيث توشم لها بالحناء الجاهزة وشوماً إلى ما دون الركبة، والأخرى على وجهها، تنظف بشرتها وتحف حاجبيها وشاربيها، كل ذلك وسط حلقة من الموجودات اللاتي ينتظرن دورهن، ويسخرن من بعضهن منفجرات بالضحك تعقيباً على كلام أم منتصر الذي قالته بكلام فصيح ورنة صوت مقلدة الشرعيين ‘لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات’، فينطلقن بسيل من التعليقات.
“‘تخيلي أنك لا تنمصين ولا تحفين، لن تتميزي عن أبو المنتصر.’ تعلق أخرى: ‘لا،لا،لا، ستكونين مثل أبو الدرداء، وخصوصاً مع هالكرش. طيب أنت أتتك اللعنة، هههههههه، حرام حرام هاتان النامصاتان، فما ذنبهن’ تقصد فتاتي صالون التجميل. ‘لا، لا، هذن ما لهن علاقة باللعنة أنا كافلتهن.’
“وكان التعليق الصارخ من أم الفاروق العراقية ‘نسوان النبي معقولة ما تنمصن وحفن؟’ هنا تدخلت أم مهاجر حازمة وفرقت الجمع منهية النقاش زاجرة ومتوعدة بعقاب، فساد وجوم وجو ترقب وحذر ومحاضرة لأم ليث لم تنهها حتى تفجر الصخب والضحك من جديد. انزويت و”مجاهدة” ننم ونغتاب البقية أيضاً. تبادلنا الحديث عن حياتنا قبل التنظيم. وكأم ليث، التي كانت الأكثر تشدداً بفكرها، وانتقادها للتقاعس الحاصل هنا، وكانت أيضاً ممن يملكن مفتاح الغرفة ذات الباب الأسود، أرتني صوراً كثيرة لها، منها صور وهي تقوم بذبح شخص ‘مرتد’ بريف الطبقة الشرقي، وصور أخرى وهي تحمل رأسه. انتهت سهرتي باكراً عندما دق الباب وطلبني زوجي. وفور وصولنا إلى البيت، تناول الجهاز وسجل وقطع ووصل ونام.
“انتقلت أم مهاجر إلى ديرالزور، حيث عمل زوجها في حقل العمر النفطي، وغابت أم ليث والمرأة الصومالية. تابعنا تجمعنا في بيت أم منتصر الجزراوية، في بيت أم مهاجر سابقاً، ولكن غابت كاسات الكريستال والأسماء الغريبة لكل السَلطات وأنواع الأكل، وبقيت ‘لكبسة’ سيدة الموقف، وكذلك بقي فضول يفترسني أن أمد رأسي في الغرفة ذات الباب الأسود، التي بقيت تفتح لعدد محدود منا.
“ذات ظهر غادر زوجي البيت، كالعادة، فصعدت إلى السقيفة حيث تسليتي اليومية. وعند المغرب، سمعت صوت طرق عنيف على الباب. ولأنها المرة الأولى التي يطرق فيها الباب بهذه القوة، خفت وترددت كثيراً، حتى جاءني صوت ‘أم منتصر الجزراوية’، فاطمأن قلبي وفتحت الباب.
“اقتحم علي البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني ‘ن11’، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، وأم منتصر الجزراوية، هن من دخل أولاً، فجمعوا وبهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، حتى ثيابه، وكل النقود ومجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالو لي إن زوجي قد ‘استشهد.'”
وأدرك شمة الصباح، لكنها قبل أن تسكت عن الكلام المباح قالت، محاولة إبداء تعبير الندم، وأعتقد أنها كانت صادقة “ما قمت به يلاحقني كل لحظة ويقتلني طوال الوقت.”
هوامش١:
- ــ أم مهاجر..هي نفسها أم سياف، وهي مهاجرة تونسية بداية إلى العراق، وهناك زوجت بنتيها لعناصر بالتنظيم، وأثبتت خلال الفترة نفسها إخلاصاً جعل التنظيم يكلفها بتشكيل كتيبة الخنساء في الرقة. خطفها الأمريكان من حقل العمر النفطي شرقي ديرالزور بعد ان قتلوا زوجها في 16 ايار 2015.
- – أم سيف الله، أو أخت جليبيب: “ندى معيض القحطاني”، زوجة الشيخ محمد الأزدي من السعودية. دار جدل كبير حول سفرها من السعودية إلى تركيا، ومن ثم إلى سوريا، دون محرم. أخوها عبدالهادي معيض عبدالهادي القحطاني (22 سنة)، وهو من أشهر مقاتلي داعش.
- – أم ليث الاسكتلندية هي “أقصى محمود” (23 سنة) طالبة طب اختصاص تصوير أشعة من مدينة غلاسكو الاسكتلندية، ومن أصول باكستانية، والدها من أشهر لاعبي الكريكت.
- – يقصد به المهاجرات الجزراويات نسبة للجزيرة العربية، وخاصة السعوديات.
هوامش٢:
جماعة المعينة= جماعة الإغاثه
ماجعد نشوف منهم شي = لم نرَ منهم أي مساعدة
العصفير = رائحة الدخان المعشش بالمكان
يبدو أن أحدهم عباني = أحدهم كتب بي تقريراً للجهات الأمنية
والعالم مطركعين وراه = العالم يوافقونه ويمشون خلف روايته
يحوشون قطن= يقطفون قطن
أصوبك ياو = أين أنت يا
كُتب هذا الجزء بعد لقاء أجريته مع صاحبة القصة في مخيمها في تركيا واستكملت الباقي معها على السكايب من فرنسا.
عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة الجزء الأول
بواسطة Ahmed Ibrahim | مايو 11, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
يقدم صالون سوريا هذه القصة على جزئين. حوار مع شمة، امرأة عاشت الأجواء الداخلية لداعش ونقلت شهادة عينية عن حياة نساء داعش. أجري الكاتب الحوار مع شمة في عدة أمكنة متفرقة واستكمل قسماً منه عن طريق السكايب.
الجزء الأول
بصعوبة تشق السيارة طريقها في طريق زراعي ضيق جداً امتلأت حفره بماء المطر، محملة دواليب السيارة بوحله. هنا قاطع السائق تأملاتي: وصلنا!
ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، تحيط بها وعلى مد النظر حقولٌ واسعةٌ من القطن والذرة الصفراء في سهل حرَّان، جنوبي ولاية شانلي أورفة التركية، التي لا تبعد أكثر من 30 كماً عن الحدود السورية.
التف جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات حول عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى تسند يدها إلى ذقنها، تقبض بها على عصاة تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي ملامحها بقصص الساحرات، فيما تغطي عينيها نظارة طبية سميكة. بادرتني بالحديث عندما رأت دفتري “أنتم جماعة المعينة*! يابا والله ما جعد نشوف منهم شي”*. لا خالتي أنا أتيت إلى هنا عندي موعد مع “أبو شمة”. لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها لعدم وجود الأسنان متبرمة غير راضية، وأشارت بظهر يدها: آخر خيمة “أبو دحام… صار أبو شمة.. زماااان”؛ بربرت بكلمات أخرى لم أفهم جلها.
زفني الأطفال وأنا أكاد أتعثر بالصغار منهم وهم يتدحرجون بجزمات بلاستيكية ذات ساق، على شورتات لا تتناسب والطقس البارد، بحيث سبقوني جميعاً واصطفوا أمام باب الخيمة تاركين لي مجالاً للدخول. أنوفهم محمرة يتقاطر منها المخاط على أكمامهم وهم يحاولون مسحه، وينقلون أنظارهم بين داخل عمق الخيمة وبيني.
ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة: “أهل البيت.. يا أهل البيت!” فجاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة “فوت.. تفضل ما بي حدا.. فوت.. فوت.”
الوحل متراكم من آثار الدخول والخروج على مدخل الخيمة. انحنيت داخلاً خيمة طولها ربما ستة أمتار بعرض ثلاثة، تفوح منها رائحة “العصفير”*، ورائحة أعقاب سكائر نتنة نتجت عن إحكام إغلاق الخيمة. جاءني من عمقها بعد قليل صوت واهن: “تعال هين بجنبي”*. مد يده من تحت دثار مكون من أغطية “هي عبارة عن ملابس بالية خيطت مع بعضها وألبست قماشة واسعة كوجه لها”، وبطانيات عليها أسماء المنظمات الداعمة. مد يده مسلماً، فأخذت يده بكلتا يديَّ، يده التي لم تكن إلا عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق. كانت عروق اليد نافرة وواضحة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب. جرني وأجلسني إلى جانبه.
يقول أبو شمة أنه في بداية الستين، وكان يعمل حارساً في معمل تجفيف الذرة الصفراء التابع للمؤسسة العامة للأعلاف في الرقة. انقطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه بالمشاركة في اعتصام للأهالي بتاريخ 25 حزيران 2012 أمام المحكمة في الرقة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن في الرقة. يشرح: مروري كان بالمصادفة، عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفهم منها ما الموضوع، ويبدو “أن أحدهم عباني”*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوماً، لأخرج وقد تم فصلي من الوظيفة. عندي أربعة أبناء، وثلاث بنات، ونسكن حي شمال السكة، أكبر عشوائيات الرقة، والمحاذية تماماً لمقر الفرقة العسكرية 17 شمال المدينة.
ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، ولحقه في بداية الثورة أحد أخويه، وإحدى أختيه المتزوجتين، بينما رفض أخوه وأخته الآخران المتزوجان، وكذلك البنت والابن غير المتزوجين الخروج من الرقة. شمّة هي الوحيدة التي بقيت عندي في البيت، وكانت تعمل ممرضة. أمّا حسان، العازب الأخير من الأبناء، فيعمل في محل تصليح دواليب خاص به.
آخر نزوح لنا كان منذ أربعة أشهر إلى تركيا. وها نحن نعيش هنا، 19 شخصاً ما بين صغير وكبير، بمن فيهم ابني وابنتي المتزوجين وعائلاتهم.
“شوف! آني مو شبيح”*، بس لازم نسمي كل شي باسمو، السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4 آذار 2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام. بس، والباقي فراطه*، وهذول… تنهد وصمت طويلاً.. دفع لي بعلبة دخان معدنية دخانها يلف باليد: تعرف تلف، فهززت رأسي أن لا. ساعدته لكي ينهض قليلاً. الملعون تمكن من كل مكان بجسمي. والملعون هذا “زاد”* ما أقدر أتركه. الملعون الأول هو السرطان الذي غزا معظم جسمه، والملعون الثاني الدخان.
بيتي بجانب معمل تجفيف الذرة الصفراء، وهو أكبر معمل تجفيف في في سوريا. جاء أحرار الشام وهجرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة 17، وأنهم قلقون علينا. هجروا أغلب العالم من بيوتها، لكنني رفضت. بدي أموت هنا. عند المساء، تم البدء بنهب 35 ألف طن ذرة مجففة، ولم يحاربوا الفرقة.
أنا لم آتِ من أجل أحرار الشام والنصرة، أو حتى الجيش الحر. قلت له: فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.
أدري.. أدري.. أنتم زاد* ضحك عليكم بشار… مو بس عليكم، عالدنيا كلها، تركها تتلهى بداعش، وهو قام يسرح ويمرح بكيفو*. جاب إيران وحزب الله والعراقيين، يا رجال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم. داعش.. داعش.. داعش سوت.. داعش عملت.. داعش ذبحت… لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم صندويشات.. منو جابهم، جابهم النظام.. منو سواهم، سواهم النظام.. والعالم مطرقعين* وراه.. ما شافم* الكيماوي.. ما شافم السجون واللي يصير بيها.. ما شافم البراميل.. ما شافم الجوع والحصار.
أنهكه الكلام والسعال.. التفت إلي قائلاً: إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز.. أووووووه! نسيت، قصدي عالنار. ما رح حدا يجي قبل 5 المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن*، إش* بدنا نسوي، بدنا نعيش. شكرت كرم ضيافته، ولكنه أحرجني: يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف، واحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف اللي (…).
لا، لا، ياعم، والله بس مو مشتهي الشاي حالياً. لا تكذب “قالها مموناً نفسه عليَّ “ما بي مدخن ما يشتهي الشاي، أو القهوة.” دلني الأولاد على مكان إشعال النار، ومكان الشاي.
وفي الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل “الصفري* 2015″، حسب التوقيت المحلي للمخيم.
جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن، ولكن مع توفر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة، ورخص أجورها، اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن، وعدم خلطه مع الأوراق الجافة، والعيدان، مما يعطي منتجاً من الخيوط، وبالتالي يكون النسيج ذا مواصفات عالية.
أشعلت نيران المخيم وتحلق حولها كل الموجودين، المهمة الأول العجن والخبز ثم الطبخ، ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب.
يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق وفي رأسها جمرة يرسمون بها أشكالاً عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: هذا صاروخ.. لا شوف طيارتي.. هذا دوشكا.. شوووووفو عندي الآربجي.. أنا داعش بدي أذبحكم.. مام حرقني.. الله لا يوفقك هيج حرقت بيجمتك.. بعد عن الدخان… ليش حرقت جزمتك.. أنتم شياطين ما تنامون.. نوم الظالم عبادة.. ولكنهم لا ينامون. إنهم في انتظار العرانيس “أكواز الذرة” التي دمسوها في النار.
يتلفن لي السائق فيصمت الجميع على رنة الموبايل.. بلهجة عرب أورفة “أصوبك ياو… أجيك خلصت شغلك؟ لا ما خلصت بس تعال خذني، بكرا نرجع مرة ثانية، ولكن الجميع أصر أن أنام عندهم. والله! عندنا بطانيات نظيفة. حتى الأطفال قالوا: خليك عندنا أمانة.. أمانة .. يا جماعة والله ما بدي أضيق عليكم، وشرف لي أن أنام عندكم. نادى أبو شمة من داخل الخيمة بصوت قوي تعالى به على مرضه، ما تروح يعني ما تروح. رح تنام جنبي خليني أخلص من شخير أم شمة. تحول الجو إلى مرح ومونولوج تعليقات بين أم شمة وزوجها، وانقسم الجمع فريقين بين مؤيد لها، أو له.
انتقلت وأغلب الحاضرين إلى خيمة أبو شمة، حيث الحديث في الشأن العام والبلد والحرب والسياسة اللجوء بتركيا وأوروبا. الفساد في المعارضة والنظام.. تشتت الفصائل.. المنظمات الإغاثية ونهبها على اسم اللاجئين، سعر كيلو قطاف القطن، وهكذا.
بطارية السيارة التي تنير الخيمة تبدأ بالنفاد. هنا تتفاجأ بمستوى الوعي الذي يتمتع به هؤلاء البسطاء. كل هذا ونحن نتحلق حول النار الموضوعة بصاج الخبز*، وأغلبنا يحمل أعواداً نحرك بها الرماد لنستخرج بقايا الجمرات نلتمس دفئها الذي بدأ يخبو أيضاً.
انفض الجمع كل إلى خيمته. نباح كلب بعيد، وصفير الهواء خارج الخيمة. نام الجميع مباشرة، وكأنهم تخدروا، وبدأت سيمفونية الشخير، وما يصدر من النيام، حيث لا خصوصية هنا لأحد، حتى في العلاقات الحميمة للمتزوجين التي أعتقد أنهم يمارسونها خلسة في الحقول.
يبدأ الصباح كالمساء.. بالنار. وبداية قصتنا تبدأ من هنا.
شمة
شمة، سمراء فراتية في السابعة والعشرين، خريجة معهد التمريض في الرقة، ومارست عملها في المشفى الوطني صباحاً، وفي عيادات أطباء خاصة مساء، حتى قرر تنظيم داعش الاستغناء عن خدمات الممرضات والطبيبات الإناث، حارماً المئات منهن من دخل كان يساعدهن وعائلاتهن على مواجهة أعباء الحياة، دون أن يقدم التنظيم أي جهد للتعويض عليهن.
تعتذر شمة وأخوها خلدون من “شاويش الورشة”، رئيس الورشة، لأن عندهم ضيف الذي هو أنا.
تقول شمة: كانوا يستنجدون بنا فقط عندما يكون عدد الجرحى والقتلى كبيراً نتيجة قصف أو معركة، وكانت الأولوية دائماً لعناصر التنظيم في عمليات الإسعاف. وهناك رأيته.
كان واضحاً أنه مهم، من خلال اهتمام الجميع به. كانت إصابته سطحية، وأغلبها رضوض نتيجة طيرانه وسقوطه على الأرض إثر سقوط صاروخ بجانب سيارته في تدمر.
الكيمياء في هذه الحالات لا يمكن التحكم به، لم أنتبه لكيميائه بداية، فقد كنت مشغولة بعملي وخائفة منهم. ولكنني بحس الأنثى أحسست بنظراته تخترق تفاصيل جسدي. أصر أن أهتم بجراحه وحده.
أحببته، نعم أحببته! فلم يبقَ من شباب الرقة أحد، بعد أن هاجر قسم منهم، وشرد قسماً منهم النظام، ومن بقي شردتهم داعش. عمري كان ستة وعشرين سنة. وفي عرف أهل مدينتنا، أصبحت من العوانس. وفي ظل هذه الظروف، لابد للأنثى من رجل يحميها. أنا لا أدافع عن قراري بحبي له “يقولون لك الحرة لا ترضع من ثدييها”، ويقولون الحرة لا تزني”. نعم، ولكن ما الذي دعم ذلك؟
اكتشفت لاحقاً أنه ليس خطأ وحسب، بل كفر، وعلى رأي الدواعش هو كفر بواح، ولكن قل لي بالله عليك عندما وضعنا نحن والضباع في قفص واحد، وقالوا لنا احذرن الضباع لكي لا تأكلكن، ماذا قدم العالم لصمودنا في وجه الضباع، وأغلب من بقي في الرقة هم نساء وأطفال ومن كبار السن.
بعض الأوروبيات من مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة والدقيقتين يفتن بالتنظيم ويقطعن آلاف الكيلومترات للالتحاق بهذا الطويل الفارع الذي يحكي لثامه قصة غموض ومغامرة، فما المطلوب منا ونحن نعيش معهم ليس لدقائق وساعات، بل لأيام طوال “كل يوم بطول سنة الجوع”*، وربما لسنين. أعرف أن هذ الكلام لا يعجب الكثيرين، لكن هذا منطق الأمر.
تزوجته “…”، بداية كان عاشقاً، ويعرف كيف يدلل الأنثى، يعرف كيف يقول كلام الحب، أي والله، ويحفظ نزار قباني، وشاعراً فرنسياً. تعرف؟ حتى على الموصل أخذني.
لم يدم هذا طويلاً، ربما لشهر، ثم منعني بداية من زيارة أهلي، وحول البيت إلى سجن. التلفزيون ممنوع، النت ممنوع، رغم أنه متوفر في بيتنا. الواتساب، وكل وسائل الاتصال، ممنوعة. فقط كميات كبيرة من الحبوب، وبحكم خبرتي وعملي عرفتها مباشرة “كابتكون”. عندما سألته عنها قال هي أدوية للمجاهدين. كان عنده عشرات آلاف منها، عثرت عليها مصادفة وأنا أنظف سقيفة البيت. وهناك في تلك السقيفة عثرت على تسليتي التي أبقيتها سراً عليه. ذكريات أهل البيت الأساسيين، حيث كان لأحد نشطاء الثورة قبل أن يستولي عليه “محمود عقارات”، أمير ديوان العقارات لصالح التنظيم.
في السقيفة، عثرت على صور عرس، صور أطفال، سجلات مدرسية، شهادات جامعية، منشورات من بداية الثورة تحض على التظاهر، وسندات ملكية لأراض وبيوت لأسماء تتشابه الكنية فيها، وألعاب أطفال، وبنطال جينز عليه بقع دم، دفاتر مدرسية لبداية تعلم الكتابة، مرحات، شهادات تفوق. في هذه السقيفة، عشت حياة العائلة بكل تفاصيلها، وفي هذه السقيفة تعرفت على الثورة في خطواتها الأولى، وفيها عرفت كذب الدواعش عندما كفروا هؤلاء الشباب واستولوا على بيوتهم، وفيها عرفت أي منزلق أدخلت نفسي فيه. بدأت أرتب ذكريات تلك العائلة، وأرتب نفسي، عندما بات يأكلني الإحساس بالخجل، خجلة أنا منهم، من ذكرياتهم، من ألعاب أطفالهم، من صور أعراسهم. خجلة أنا منهم ومن نفسي.
تغيرت معاملته معي عندما اكتشفت أنه متزوج ثلاث نساء أخريات، آخرهن “سبية” يزيدية اشتراها من الموصل، وزوجته التونسية الأم لأطفال ثلاثة، وأخرى لم أرها، ولكن زوجتيه الأخريين اللتين جاء بهما إلى بيتي مرة واحدة قالتا إنها تونسية فرنسية.
عندما تغوص في مجتمعهم تكتشف حجم الكذب، تكتشف أن لا دين ولا مبدأ لهم. وبالنسبة لنساء التنظيم، هنالك مافيا تديرها “أم سياف”. تصدق بالله العظيم تشبه إدارة عمليات الدعارة، فما أن يموت الزوج حتى تسارع أم سياف إلى ما يشبه البيع إلى شخص آخر من التنظيم، غير مراعية حتى للعدة الشرعية، أو رأي الأرملة، فجميع من تزوجن عناصر من التنظيم ربطن حياتهن ومصيرهن بهذا التنظيم. سبعة أشهر قضيتها معه قبل أن تقضي عليه طائرات التحالف في مدينة الطبقة غربي الرقة المدينة 50 كم، عرفت ذلك عندما اقتحم عليّ البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، فجمعوا بهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، ثيابه وكل النقود إضافة إلى مجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالوا لي إن زوجي قد “استشهد”.
اعتقدت أني تحررت عندما مات، ولكن ككل نساء التنظيم جاءت أم “منتصر الجزراويه” التي استلمت المهمة بعد أن خطف الأمريكان “أم سياف” من حقل العمر إثر مقتل زوجها، جاءت تعرض علي الزواج من “أبو عمر الحمصي”، المسؤول عن تجهيز كل السيارات المفخخة، قالتها بفخر، وكأنها ميزة تميزه. قالت ذلك في محاولة لإقناعي، وكنت أعرفه لأنه كان يزور زوجي، ولكنه أخرس أبكم. قالت: ولك أحسنلك.. ترتاحي من كلامه وأوامره.. وهذيك الشغلة ما بدها حكي.
طلبتُ مهلة للتفكير، وأبديت حزني على زوجي الأول، فاقتنعت وأمهلتني أسبوعين، رتبت خلالها ذكريات العائلة التي كان زوجي الأول يحتل بيتهم باسم التنظيم، وقمت بوضعها في مغلفات وكأنها لعائلتي، واتفقت مع أخي على هجر البلد إلى تركيا.
وهنا، تواصلت مع من بقي من تلك العائلة التي تشرد أفرادها في ثلاث دول. طلبت منهم أن يسامحوني من قلوبهم، كما طلبت السماح من آخرين، ولو أنني لم أسامح نفسي.
كان البنطال لأحد شباب العائلة ممن استشهدوا في مجزرة الساعة التي ارتكبها النظام قبل تحرير الرقة.
بواسطة Abdullah Al Hassan | مايو 8, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
في دراسة عن التجارة البينية داخل سوريا في زمن الحرب، أَعدّها سمير عيطة وشاركتُه التقصّي عن بعض جوانبها، كان من الواضح حجم التبادل التجاري والنقل البيني بين مناطق النفوذ والسيطرة في الداخل السوري، بالإضافة إلى الواردات التركية الضخمة التي أغرقت الشمال السوري عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، سواء تلك التي تدخل بقصد التجارة، أو عبر طريق المنظمات الإغاثية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، حتى أن المنتجات التركية تصل بيسر وسهولة إلى كافة مناطق سيطرة النظام السوري كما لاحظنا في مدن حلب وحماه وحمص ودمشق والساحل. كما تصل هذه الواردات إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بينما تأتي مواد البنزين والمازوت، وأسطوانات الغاز، بوفرة ودون انقطاع من مناطق النظام إلى مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة “قسد” أيضاً، بالإضافة إلى بعض المواد التموينية والملابس، وفي المقابل يتم نقل القمح والكثير من المنتجات الزراعية بالإضافة إلى اللحوم والحليب من مناطق المعارضة إلى مناطق سيطرة النظام بكل سلاسة.
هذه التجارة البينية، تتم عبر “معابِر” معروفة، يشرف عليها من كلا الجانبين، خصوم الحرب، يأخذون عليها “أتاوة” العبور بما يضمن بقاؤُهم مع استمرار الحرب. ولكي نستوضح الأمر أكثر، يكفي أن نعلم بأن معبراً صغيراً في بلدة “مورك” الواقعة في ريف حماة الشمالي، يدرّ على القائمين عليه ما قيمته ٣٠ – ٥٠ ألف دولار يومياً، فما بالك بمعبر “باب الهوى” الحدودي مع الدولة التركية، إذا علمنا بأن صادرات تركيا إلى سوريا بلغت عام ٢٠١٧ أعلى معدلاتها مقارنة بما قبل عام ٢٠١١.
منذ بداية تشكيلها، سعت أغلب فصائل المعارضة السورية المسلحة للبحث عن مصدر تمويلٍ خاص بها بعيداً عن إرادة الممول، فمن بيع السلاح المُستولَى عليه من المعارك ومن ثكنات الجيش السوري، إلى سرقة الآثار والإتجار بها، وطلب فديةٍ مقابل إطلاق سراح بعض المختطفين، إلى الاستيلاء على آبار النفط (داعش وقوات قسد) وتوزيعه بعد تكريره بشكل بدائي، ليصل إلى كافة المناطق السورية بما فيها مناطق النظام، وأخيراً المعابر التجارية، التي تبيّن بأنّ دخلها المادي جيّد ومُستدام، وخاصّة بعد اتفاقيات “خفض التصعيد الأخيرة”، مع حرص أربابها – من كلا الجانبين – على إبقاء الوضع على ما هو عليه.
إنّ وصول بعض الجهات الراديكالية إلى التمويل الذاتي يُشكّل خطراً أكبر على مستقبل سوريا والمنطقة، من تحرّرها عن أجندة المُموّل الخارجي، لأنّ ذلك يُمكّنها من العمل لأجل تحقيق مشروعها الخاص، كما لاحظنا عند تنظيم داعش (الدولة الإسلامية)، فما إن تمكّن هذا التنظيم المتطرف من السيطرة على مدينة الموصل في العراق في العاشر من حزيران ٢٠١٤، ووضع يده على الأموال المُودَعة في فروع مصارفها، ليستولي بعدها بأيام قليلة على أكبر حقول النفط في العراق وسوريا (٧ حقول للنفط ومصفاتين في شمال العراق، و٦ حقول نفط، من أصل ١٠ في سوريا متواجدة جميعها في محافظتي الحسكة ودير الزور)، حتى أعلن في ٢٩ حزيران ٢٠١٤ عن قيام دولة خلافته “دولة الإسلام في العراق والشام” وعاصمتها مدينة الرقة السورية. ليبدأ محطة جديدة من الإرهاب المحلي والعالمي، وما تبعه من تدخل عسكري خارجي لا زال يهدد وحدة الأراضي السورية حتى الآن، على الرغم من القضاء على التنظيم الإرهابي عسكرياً.
أما تنظيم “جبهة النصرة” فلم يَنعَم بالنفط السوري كثيراً سواء من محافظة الحسكة، حيث استطاعت وحدات “حماية الشعب الكردي” إخراجه من هناك في نهاية عام ٢٠١٣، أو من محافظة دير الزور، حين أخرجه تنظيم داعش منها قُبَيل أيام من إعلان دولة خلافته. وبالتالي تقهقرت جبهة النصرة باتجاه محافظة إدلب وبقي تمويلها كغيرها من باقي الفصائل المعارضة مع ميزاتٍ إضافية تتعلق بخبرة التنظيم والقتال بسبب وجود قادة متمرسين من تنظيم القاعدة الأم وعدد منتسبين وحلفاء جعلت منها القوة الأكبر في محافظة إدلب ومحيطها، ناهيك عن ارتباطها المشبوه بالأموال والمخابرات القطرية ومن هم في حلفها منذ بداية نشأتها.
حالياً، وبعد أن وصل تنظيم جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) إلى هذه المرحلة المتقدمة في الوضع السوري بعد غربلة الكثير من الفصائل المعارضة ومع وجود اتفاقيات “خفض التصعيد” التي أدّت إلى تثبيت الجبهات خاصة في محافظة إدلب ومحيطها، تفرّغت هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل للتناحر فيما بينها من أجل السيطرة على المعابر التجارية والصراع على مصدر الدخل الأكبر المتاح حالياً. ويكفي تسليط الضوء على بعض ما جرى مؤخراً في محافظة إدلب وريف حلب الغربي للوقوف على أهمية المعابر كمصدرٍ لاقتصاد الحرب.
في ١٨ تموز ٢٠١٧ قامت “هيئة تحرير الشام” ومن معها بمحاصرة معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وذلك بعد سيطرتها منفردةً على مدينة إدلب ومعظم بلدات الشمال السوري في المحافظة (أكثر من ٣٠ بلدة وقرية كانت تحت سيطرة أحرار الشام)، لتحاصر من بداخله من قيادات الصف الأول ومقاتلي “حركة أحرار الشام الإسلامية”. وبعد ثلاثة أيام من القتال والحصار، ومع قيام السلطات التركية بإغلاق المعبر من جهتها، اضطر قادة الحركة للجلوس والتفاوض مع الهيئة التي أصرّت على تَسَلُّم السلاح الثقيل والذخيرة مقابل وقف إطلاق النار، ثم إطلاق سراح المعتقلين لدى الطرفين، وانسحاب قادة وعناصر الحركة من المعبر وتسليمه إلى إدارة مدنية، بحسب ما جاء في بيان للحركة.
وهكذا أصبح معبر باب الهوى الحدودي – بتوافق مع الإدارة التركية – تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الفعلية، ولكن من خلف ستار إدارة مدنية. طبعاً لم يكتف زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني ومن معه بالسيطرة على معبر باب الهوى بعد إضعاف أحرار الشام وإبعادهم نحو الجنوب، بل سار إلى معبر أطمة وخربة الجوز، وزحف على مناطق ومستودعات الأحرار في ريف إدلب الشمالي تباعاً، ليصبح وحلفاؤه في الهيئة الجهة الأقوى في الشمال السوري، وبالتالي تفرّغ تماماً للسيطرة على المؤسسات المدنية وفرض “إدارته المدنية” ثم “حكومة الإنقاذ” مؤخراً.
في ١٢ تشرين الثاني ٢٠١٧ جرى الاتفاق بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري لفتح “معبر بلدة مورِك” على طريق دمشق – حلب الدولي المقطوع منذ منتصف ٢٠١٤، ليصبح بعد ذلك أهم معبر تجاري (مخصص للحركة التجارية فقط) بين مناطق النظام والمعارضة. وجاءت عملية فتح الأوتوستراد من جهة بلدة مورِك عقب سيطرة “هيئة تحرير الشام” مطلع تشرين الأول ٢٠١٧ على قرية “أبو دالي” شمال شرقي حماة والتي كانت بمثابة معبر بين النظام والمعارضة وخط تهريب رئيسي بيد عشائر موالية للنظام، كما جاءت بعد إغلاق النظام لمعبر “باب المضيق” إثر استهداف فصائل المعارضة لمدينة السقيلبية (شمال غربي مدينة حماة) ونزوح أكثر من ٣٥ ألف نسمة منها.
خلال الأسابيع الأولى من بداية عام ٢٠١٨ قام الجيش السوري بحملة عسكرية ضخمة تستهدف المناطق الشرقية لمحافظة إدلب، استعاد خلالها عدداً كبيراً من البلدات والقرى التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها. وعند محاولته التقدم غرباً باتجاه مدينتي سراقب ومعرة النعمان في وسط إدلب، بعد عمليات قصفٍ شديدة، تدخّل الجانب التركي بسرعة وزرع نقطة مراقبة (كما هو مقرر في اتفاقية خفض التصعيد الخاصة بمحافظة إدلب) في منطقة “تل العيس” ثم نقطة أخرى جنوباً في منطقة “تل طوقان” بالقرب من مطار “أبو الضهور” العسكري الذي أصبح تحت سيطرة الجيش السوري. ومع إنشاء نقاط المراقبة التركية توقفت المعارك فجأة، وبعدها بأيامٍ غادرت قوات العقيد سهيل الحسن محافظة إدلب إلى تخوم الغوطة الشرقية، حيث كانت المعارك على أشدها بين فصائل المعارضة والنظام السوري على جبهة حرستا. أثناء ذلك اندمجت حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة نور الدين الزنكي في فصيلٍ واحد تحت مسمى “جبهة تحرير سوريا”، وبعد أيام من الاندماج، تحديداً في ٢٠ شباط، شنّ الفصيل الجديد هجمات متفرقة على مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في وسط وجنوب إدلب، كان نتيجتها سيطرة الجبهة على مواقع الهيئة في بلدة “ترملا” في ريف إدلب الجنوبي، وعلى مدينة “أريحا” وعدة بلدات صغيرة بعد انسحاب مقاتلي الهيئة منها. الأهم كانت سيطرة “جبهة تحرير سوريا” مع فصيل “جيش العزة” على إدارة معبر بلدة مورِك التجاري الهام، وبعد أقل من أسبوعين توقفت المعارك فجأة في محافظة إدلب، لتنقل الهيئة معركتها مباشرة إلى مناطق سيطرة الزنكي في ريف حلب الغربي مستهدفةً معبر قرية “العزاوية” الذي يصل ريف حلب الغربي مع مدينة عفرين، والتي أصبحت لاحقاً تحت سيطرة قوات “غصن الزيتون” المدعومة تركياً، مما يعني فتح الطريق بين ريف حلب الشمالي وإدلب دون المرور في الأراضي التركية.
استمرت المعارك الشرسة هناك في بلدة ”بسرطون“ ومحيطها شمال الأتارب لأكثر من شهرين، وخسرت فيها الهيئة الكثير من عناصرها وعتادها الثقيل، ويعود ذلك إلى تصدي الأهالي والكتائب المحلية لأرتال الهيئة، وتحصّن الزنكي في مناطقه المرتفعة في عنجارة وقبتان الجبل وجبل الشيخ بركات، ومن غير المستبعد أن يكون حصل على دعم ومؤازرة من قوات غصن الزيتون التي سيطرت على مدينة عفرين من خلفه.
في السابع من نيسان أُعلن عن التوصل الى هدنة بين “هيئة تحرير الشام“ و”جبهة تحرير سوريا“، على أن يستمر وقف إطلاق النار بين الطرفين بحسب الهدنة الموقعة أسبوعاً كاملاً ليتم بحث الملفات العالقة بين الطرفين. ولكن في منتصف نيسان وبعد انقضاء هدنة الأسبوع، سارعت الهيئة للانقضاض على مناطق سيطرة أحرار الشام في محافظة إدلب واندلعت الاشتباكات بين الطرفين على طول الطريق الدولي من مدينة معرة النعمان جنوب إدلب، حتى بلدة مورِك شمال محافظة حماة، مما أدى إلى قطع الطريق الدولي. واستطاعت هيئة تحرير الشام السيطرة على بلدة مورِك ومعبرها التجاري، وعلى مدينة خان شيخون والكثير من البلدات والقرى الواقعة جنوب إدلب، ومنها ”تلة العِيس“ التي يُتوقّع أن تكون معبراً تجارباً جديداً بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة في محافظة إدلب. أثناء ذلك، استعادت حركة أحرار الشام القرى الواقعة على طول الأوتوستراد بين مدينة إدلب ومعبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ربما في محاولة منها لاستعادة المعبر من سيطرة الهيئة.
لكن في ٢٤ نيسان توصلت “هيئة تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا” بالاشتراك مع “ألوية صقور الشام” (حلفاء الجبهة في معاركها ضد الهيئة)، إلى اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق نار دائم بين الطرفين، وإطلاق سراح المعتقلين خلال جدول زمني، وفتح الطرقات، ورفع الحواجز، وتشكيل ”لجنة” من كليهما إلى جانب “لجنة الوساطة” لمتابعة تنفيذ الاتفاق، والعمل على بدء مشاورات موسعة ومستمرة للوصول إلى حل شامل على الصعيد ”العسكري، والسياسي، والإداري، والقضائي.”
لم يكن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه بين الهيئة والأحرار، وربما لن يكون الأخير، فكم من الاتفاقات بينهما تم خرقها، وكم من المعارك تم خوضها. في حين تبقى محافظة إدلب والشمال السوري عموماً رهناً لسياسات دولية وإقليمية وتوازن قوى بين جيوش أمريكية، تركية وروسية في الداخل السوري. ومؤخراً دعت فرنسا – العائدة بقوة إلى التدخل المباشر في الملف السوري – على لسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان إلى ” تقرير مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمّن نزع سلاح الميليشيات” وذلك تجنباً لوقوع كارثة إنسانية في مدينة إدلب، والتي قد تكون الهدف التالي للنظام، كما جاء في كلامه.
يُذكر بأن محافظة إدلب تعتبر سجناً كبيراً، يقطنها حوالي مليوني نسمة، بينهم عشرات الآلاف من السوريين الذين تمّ إجلاؤهم من مناطق استعادها النظام السوري، وهي مغلقة تماماً أمام عبور المواطنين السوريين من خلال أبراج مراقبة ودوريات لقوات حدودية تركية، وجدار اسمنتي أنهت بناؤه الحكومة التركية في نهاية عام ٢٠١٧ ويمتد على طول الحدود بين تركيا وسوريا، ويُعَد ثالث أطول جدار حدودي في العالم بطول ٦٨٨ كم، بعد سور الصين العظيم والجدار الفاصل بين المكسيك وأمريكا. بالإضافة إلى معارك الفصائل وقتالها فيما بينها، ما زال قصف طيران النظام السوري وبراميله المتفجرة مستمراً – رغم اتفاقية خفض التصعيد – بحجة تواجد عناصر جبهة النصرة هناك.
بواسطة Safwan Dawood | مايو 8, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
في سنغافورة التي بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من 60 بالمئة سبعينيات القرن الماضي أصبحت الآن تضاهي في تقدمها العلمي والاجتماعي نظيراتها في العالم الغربي. لقد تنبهت حكوماتها المتعاقبة لحقيقة أن التعليم عامل حاسم في تطوير الإنسان. ولعبت الحاجات الاقتصادية في سنغافورة دورًا هاماً في تحديد مسارات سياسات التعليم. وأطلقت مبادرة “مدارس التفكير، تعلُّم الأمة” قائمة على أربعة مبادئ: إعادة النظر في أجور المعلمين, إعطاء مدراء المدارس مزيداً من الاستقلالية، استحداث التميز المدرسي، إشراف موجهين مختصون في استحداث برامج جديدة. حالياً سنغافورة حاضرة معروفة على مستوى العالم, واحتلت المركز الأول في مؤشر جودة التعليم العالمي للعام الدراسي الحالي.
شمل مؤشر جودة التعليم العالمي الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام الدراسي 2017-2018، حوالي 140 دولة. يرتب هذا المؤشر دول العالم وفق 12 معياراً رئيسياً وحوالي 40 معياراً فرعياً. هذه المعايير معايير دقيقة ومحددة بأسس علمية وتربوية وتعليمية رصينة، وهي ذات أهمية كبيرة، إذ أنها تُقدم معلومات تفصيلية ودقيقة عن واقع سير العملية التعليمية في البلدان التي يغطيها المؤشر، وتشمل: المؤسسات، البنية التحتية، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، بيئة الاقتصاد الكلي، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، الابتكار، تطور الأعمال، كفاءة أسواق السلع.
أظهرت بيانات هذا المؤشر للعام الدراسي الحالي نتائج صادمة، وطبعاً نتائج هذا المؤشر ليست الوحيدة، إذ إن هناك العديد من المؤشرات العالمية والدراسات التي تبين وللأسف أن الواقع التعليمي المحلي السوري غارق في المشاكل، لذلك من السخرية أن ننسب هذه الدراسات والمؤشرات ومنها مؤشر دافوس إلى نظرية المؤامرة التي عودنا عليها المطبلون في الإعلام السوري الرسمي. هذا واقع أليم وعلينا أن نكون جريئين في الاعتراف بحقيقة تدني مستوى التعليم في سوريا فالأرقام لاتكذب، ولا تتموه. وهناك من الدلائل الواضحة التي نراها في حياتنا اليومية يمكن أن تؤكد صحة هذه المؤشرات، مثلاً أعداد الطلاب الهائلة في الصف الواحد، التسيب المدرسي، الغش الممنهج في الامتحانات، سوية الحالة المادية والمعنوية المتدنية للمعلمين، الضعف التكنولوجي وغيرها الكثير من المسائل. ومن نتيجة هذا التردي قامت معظم الأسر السورية على حساب قوتها ورفاهيتها بمحاولة سد التراجع التعليمي في المدارس، بطرق متعددة أوسعها انتشاراً الاعتماد على الدروس الخصوصية التي أصبحت حالياً ثقافة أسروية سورية عامة وهذا مكمن خطرها.
وفيما تسعى دول العالم بكل طاقاتها لتحقيق أفضل عملية تعليمية، لم نرى من المؤسسات التعليمية التشريعية أو التنفيذية في سوريا سوى الطابع الاستعراضي من قبيل شعارات التطوير والتحديث، والتقوقع في ايديولوجيات متصحرة مازالت تهيمن على البرامج والخطط وفق نظرية الرأي الواحد، يقودها مختصون من لون سياسي واحد معظمهم من منظومة إدارية شديدة الفساد والبيروقراطية. إن الهدف ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻰ للتعليم ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ وتقدمه، وليس ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺃﻭ تطبيق الإيديولوجيا سواء كانت سياسية ام دينية، أو بناء المناهج وإنجازها وفق رؤية السلطة التي هي في سوريا تتبع حزب البعث، فالسلطة فانية أما الوطن فباق. النظام السياسي للاتحاد السوفياتي ذهب بينما المنهج التعليمي والعلمي لمؤسساته بقيت وحافظت من خلالها روسيا الحالية على تفوقها العسكري والفضائي ومجالات أخرى عديدة، أما في سوريا فالواقع مزري ولم يتم النظر يوماً إلى التعليم كمحور من محاور التنمية. وفي الوقت الذي تُعتَبر دولة (عدوة) لسوريا كإسرائيل وزارة التعليم فيها على أنها واحدة من الوزارات الأربع السيادية، لم تنظر الحكومات البعثية المتعاقبة لأهمية هذه الوزارة، حتى أخصائيو التربية والتعليم المنوط بهم معالجة هذه المهمات، لم ينظروا بشكل جدي للمشاكل المتعددة الموجودة في النظام التعليمي المحلي.
والحقيقة أن المواطن السوري لم ير سوى أكذوبات التطوير والتحديث، إذ مازالت العملية التعليمية قائمة على الحفظ والتلقين لا على التفاعل والإبداع. فالعلم هو “طريقة وأسلوب للتفكير أكثر من مجرد كمية من المعلومات” على ما يقول المفكر كارل ساغان. والعلم حيادي ولا يمكن أدلجته، لكن في سوريا بدت المناهج مقيدة بالمنظور الإيديولوجي البعثي من جهة وبمفاهيم إخوانية إسلامية من جهة أخرى، فقد أدخلت وزارة التربية هذا العام ولأول مرة في تاريخ سوريا مادة “التربية الدينية” لطلاب الصف الأول الابتدائي، مع ملاحظة أن صورة الأم المحجبة تطغى على مناهج المرحلة الإبتدائية. حتى الكتب التعليمية العلمية لم تنج من هذه التأثيرات. مثلا في مادة العلوم للصف الثالث الثانوي العالمي نجد عبارة “سقطت نظرية داروين بينما ثبتت نظرية محمد.” وفي مادة الفيزياء للصف الثاني الإعدادي نجد عبارة “تمت التجربة بإذن الله.” ويطبع التأثير الديني سير الحياة المدرسية بشكل قوي، مثلاً نلاحظ على الأقل خلال العشر سنوات الماضية شلل المدارس في اليوم الذي يسبق والذي يلي عيد الأضحى، كما يُختصر الدوام المدرسي خلال شهر رمضان.
ويبدو أن النظام السوري قد أدرك أهمية التربية والتعليم في تكريس سلطته فقط، حيث ومنذ بداية الألفية الجديدة وسحقْ ماسمي وقتها “ربيع دمشق”، لاحظنا استمرارية في سياسة القمع لكل ماهو يساري أو قومي علماني في مقابل تسهيل تمدد الفكر الديني. لاحقاً وخلال الأزمة السورية تعرض النظام لضغوط كبيرة فأصبح مجبراً على تلبية مطالب الإسلام الرسمي (المعتدل) لأنه يحارب الإسلام المتطرف المُمَثل بشكل رئيسي في “تنظيم الدولة الإسلامية” والتنظيمات المقربة من “تنظيم القاعدة” في سوريا. ويعتقد النظام أن استعداء الإسلام المعتدل لايصب في الوقت الحالي في مصلحته، لذلك ارتأى الدعم الكبير له، وهذا يفسر لماذا ميزانية وزارة الأوقاف كبيرة جداً وهي تعادل أقل بقليل مجموع ميزانيتي وزارة الصحة والتعليم العالي! ولماذا هذا التدخل الكبير لهذه الوزارة في إقرار المناهج. في المقابل طالما استخدم النظام الذي يُعد فيه حزب البعث واقعيا قائداً للدولة والمجتمع، الخطاب الثقافي واحتكار التعليم لخدمة قضيته الايديولوجية العربية عبر تضخيم الدلائل التاريخية، لابل تزييفها أحياناً، فمثلا نجد في مادة الثقافة للسنة الأولى في كلية الترجمة الصياغة (البعثية) للتاريخ العربي. تتحدث الفصول الأولى عن سيرة نبي الإسلام، بينما يتحدث الفصل الثاني عن التخلف الذي كان يعيشه الغرب وفساد الكنائس في العصور الوسطى وكيف ساهم الإسلام في نهضة الغرب وإنقاذه من الظلمات. في الفصل الثالث نقرأ كيف أخذ الغرب العلم والفلسفة من الدولة العربية الإسلامية. وفي القسم الأخير نجد ماقيل عن محمد من أقوال لكتاب وعلماء من الغرب. مثال آخر نجده في كتاب التاريخ للخامس الابتدائي -وهو تزوير صريح للتاريخ- عبارة: “أقبلت القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية على شكل موجات واستقرت في بلاد الشام والعراق وأنشأوا الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية.” وبالرغم من محاولات وزارة التربية في سوريا خلال الفترة الأخيرة إبراز النزعة الوطنية في المناهج بتوليفة عربية إسلامية وإخفاء النزعة القومية البعثية التقليدية التي كانت سائدة سابقاً، إلا أن تأثير هذه المحاولات بقيت محدودة ولم تستطع أن تلامس الرموز القهرية للنظام والحاكمة للمجتمع السوري.
لقد أكملت الحرب على مستقبل العملية التعليمية في سوريا، إذ بينت المذكرة الإخبارية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن عام 2016 هو الأسوأ لأطفال سوريا، وقالت إن نحو 2.7 مليون طفل بين سن الخامسة والسابعة عشر لايذهبون إلى المدارس، بينهم 600 ألف طفل لاجئ، وأن 1.3 مليون طفل آخرين معرضون لخطر التسرب. وقالت منظمة “أنقذوا الطفولة” أن أضرار قطاع المباني المدرسية لوحده تُقدر بنحو 3 مليارات دولار، وأدت الى انخفاض معدل التعليم في سوريا بمقدار 50% عن مستوياته قبل اندلاع الحرب السورية عام 2011. وبينت تقارير محلية لعام 2017 تعرض المرافق التعليمية على مستوى سوريا إلى نحو 4000 هجوم أدت إلى أضرار جزئية أو كلية لـ 2445 مدرسة. وأكثر المنشآت التعليمية ضرراً كانت المدارس الثانوية بنسبة 14.7% من مجمل المرافق التعليمية المتضررة كلياً، تليها المعاهد المهنية بنسبة 14.5%. كما أدت الحرب الى تحويل العديد من المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين أو مراكز عسكرية. وبحسب معلومات صادرة عن وزارة التربية السورية تحولت حوالي 243 مدرسة من أصل 21 ألف مدرسة حكومية في أرجاء البلاد إلى مراكز إيواء، فيما قدرت وزارة التربية تكلفة الخسائر المادية لقطاع التعليم في سورية حتى عام 2015 بحوالي 50 مليار ليرة (حوالي 105 مليون دولار). وحيث أن التعليم هو استثمار مستقبلي قُدرت الخسارة المستقبلية بـنحو 5.4% من الناتج المحلي نتيجة حرمان الأطفال السوريين من التعليم. ويذكر تقرير “جيل سوريا الضائع” أنه: “وبالنظر إلى تجارب الدول الأخرى التي تأثرت بالنزاعات يمكننا التنبؤ بأن النزاع الحالي قد يؤدي إلى انخفاض معدل سنوات الدراسة بنصف عام على المدى الطويل. وعندما يطبق على امتداد التعداد السكاني فإنه يزيد من التكلفة السنوية على الاقتصاد السوري الى مافوق 1.26 مليار دولار أمريكي, أي 3.1% من إجمالي الناتج المحلي.”
من منتصف الثمانينات حتى بداية التسعينات، لعبت سوريا دوراً يعادل عشرة أضعاف حجمها على الساحة الدولية بحسب صحيفة دير شبيغل الألمانية عام 1985، وسميت بأنها أكبر دولة صغيرة في العالم كما قال أحد الدبلوماسيين الكبار في البيت الأبيض. من أسس لهذا الدور؟ طبعاً هي مجموعة من العوامل لكن أهمها كان الاهتمام بالعملية التعليمية والتدريب وتأهيل الكوادر. للأسف الشديد سوريا والعراق ومصر التي قادت التعليم عربياً منذ خمسينات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة نجدها قد سقطت. مصر جاءت بالمركز قبل الأخير في مؤشر دافوس لعام2017، في حين لم تدخل سوريا والعراق في الترتيب أصلاً وذلك لافتقارهما بحسب التقرير: (لأبسط معايير الجودة في التعليم).
مرة أخرى لنكن جريئين ونقرأ مؤشر دافوس بواقعية بدلاً من الاستهزاء به، وإلهاء المواطنين بنظرية المؤامرة، وأن نقول صراحة أن هناك ضرورة قصوى ولا تقبل التأجيل لمراجعة السياسات الحكومية في سوريا في مجال التعليم, ووضع أسس اكثر انفتاحاً على العالم الذي بات يسبقنا كل يوم بخطوة. فالتعليم والعلم بالنسبة للمجتمعات هو أساس التقدم الحضاري وهذه بديهية. ولا يأتي العلم بدون التعليم الذي هو المحرّك الأساسي لتطور أي أمة. لذلك نرى بوضوح أن أحد أهم الفوارق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو نسبة التعليم وجودته، ولا تبتعد القوة الاقتصادية والعسكرية وقوة العدالة وقوة النسيج المجتمعي كثيراً عن هذه المقارنة. وفيما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته الأخيرة للشعب الروسي قبيل انتخابه للمرة الرابعة أن “التخلف العلمي يحمل مخاطر فقدان السيادة” نجد أن صور حليفه في دمشق قد تصدرت قاعات الجامعات الحكومية وجدران المدارس وبوابات المعاهد وقاعات التعليم وأروقة المختبرات في وقت أصبحت سوريا متخمة بالقواعد العسكرية الأجنبية الحليفة والعدوة.
بواسطة Samer Ismail | أبريل 30, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
مشاهدة الحلقات العشر الأولى من معظم الأعمال التلفزيونية السورية التي قُدمت لموسم 2017، لن يشكل حافزاً للجمهور بمتابعة تلفزيونية لعام 2018 أو كالتي كانت قبل عام 2011، فالاستثناءات تكاد تكون نادرة في خريطة الإنتاج الدارمي السوري، وما نجا من سخط الجمهور، سوف لن يعثر بسهولة على أعذار لأعمال توافر لها المال والخبرة الإخراجية، دون أن تكون جديرة بالمتابعة على مساحة البث منذ نيف وسبع سنوات.
الحلول المقترحة لإبعاد شبح انقراض ظاهرة الدراما التلفزيونية السورية التي سطع نجمها مع بداية التسعينيات، جميعها أخفق في إيجاد مخرج لأزمات متعددة تحيط اليوم بهذه (الصناعة) تاركةً مصير عشرات العائلات التي كانت تعيش من المهن التي توفرها هذه الدراما على قارعة الطريق، فمن مؤتمرات ولقاءات أقامتها المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني عام 2014 في فندق شيراتون دمشق، إلى دعوات بإقامة مجلس أعلى للدرامين السوريين، وصولاً إلى تخصيص صندوق دعم وطني لتمويل وشراء الأعمال السورية. جميعها حتى الآن بقي قبض ريح في مواجهة ما يشبه عزلة أو حصار تعاني منه المسلسلات السورية، وذلك بعد فك الارتباطات الإنتاجية بين الدراما السورية والمحطات العربية الكبرى في الخليج العربي التي كان لها الوزن الأكبر في إنتاج وتمويل وتسويق هذه الأعمال.
وأوصلت هذه القطيعة اليوم بين سوق الدراما السورية ومحطات البث الخليجي إلى ما يشبه حالة موت سريري لعشرات الأعمال التي تم إنتاجها دون أن تجد فرصة تسويق فعلية على قنوات من مثل: (أبو ظبي) و( دبي) و(إم بي سي). المحطات البارزة في سوق الدراما العربية، حيث استعاضت هذه المحطات عن الإنتاج السوري بأعمال مصرية وخليجية وتركية مدبلجة (مؤخراً تم إيقاف الدبلجة عن التركي). وفي ظل انعدام سوق محلية قادرة على استيعاب الإنتاج التلفزيوني السوري والتعويض عن خسائر بملايين الدولارات، يبدو الوضع يزداد سوءاً مع تحكم قنوات لبنانية من مثل (الجديد) و(إم تي في) بشراء بعض الأعمال السورية بأبخس الأسعار، حيث وصل ثمن الساعة الدرامية السورية في بازار هذه المحطات إلى (500 دولار أمريكي) بينما كانت الساعة الدرامية السورية تباع بما يقارب ( 30 ألف دولار أمريكي) للحلقة التلفزيونية الواحدة.
ويقول ممثل من ممثلي الصف الأول رفض ذكر اسمه: “الدراما السورية كانت حلماً جميلاً استفقنا في هذه الحرب على ضياعه من بين أيدينا، الآن أفكر بتأمين قوت أطفالي وعائلتي لا أكثر، وكما ترى أعيش في فندق منذ سنوات، وقد بعتُ سيارتي مؤخراً كي أستطيع دفع أجرة الغرفة.”
حال هذا النجم السوري ليس أفضل من زملاء كثيرين له فقدوا مورد رزقهم، دون أن يكون للمؤسسة العامة للإنتاج دور فعلي في تغطية خساراتهم الفادحة، مما يجعلهم اليوم عرضةً هم ومخرجو وكتّاب وفنيو الدراما السورية لابتزاز رؤوس أموال جاهلة لأمراء الحرب تدخل اليوم سوق الإنتاج التلفزيوني، ممارسةً نوع من التبييض لأموال الحرب في الدراما وسوق الميديا، لكن في شروط غير إنسانية، وبتحكم ذهنية مافياوية ريعية لا تحسب حساباً لجودة النص ولا لخبرات المخرج والممثلين، بل تدير شركاتها الجديدة بعقلية (المعلم) ناسفةً كل تقاليد المهنة، وحافرةً قبوراً جماعية لعشرات من الممثلين والفنانين والكتّاب الذين لم يمتثلوا حتى الآن لمزاج دراما الرقاصات وغواني الليل وقواد الساحات الخلفية للحرب.
دون ألم تابع الجمهور العام الماضي أعمال ما اصطلح على تسميتها بـ (مسلسلات البيئة الشامية) التي تصدرت أجزاؤها واجهة العرض الرمضاني، كما لو أنها (مهابهاراتا شامية) لا ينقضي جزء منها حتى يأتي جزء جديد من غامض علمه، لنكون مع (طوق البنات4) و ( باب الحارة9) و (عطر الشام2) و( خاتون2) فيما احتجب (وردة شامية) النسخة السورية من (ريا وسكينة) بعد امتناع العديد من المحطات الفضائية عن شراء العديد من الأعمال السورية، فيما يشبه حصار سوق خليجي لهذه المسلسلات، فيما نجح ( قناديل العشاق) لمؤلفه خلدون قتلان ومخرجه سيف سبيعي بكسر هذا الحصار بعد الاستعانة بالمغنية اللبنانية سيرين عبد النور، كوصفة جديدة للتسويق إلى المحطات العارضة، أحال أعمال برمتها إلى ما يشبه (دراما فيديو كليب).
معادلة يبدو أنها سوف تكون بمثابة منفذ بيع وحيد لأعمال تكدست أشرطتها في أدراج الشركات المنتجة، دون أن تلقى فرصة لائقة بعرض في سوق المهن التلفزيونية الجديدة، فلا النص الجيد ولا الإخراج ولا حتى إدارة الممثلين أمست من أولويات الإنتاج السوري الجديد، بل شيئاً فشيئاً ومع دخول الحرب عامها الثامن، تبدى المأزق أكثر فأكثر بالنسبة لمزاج السوق الجديدة، والذي عكس بجلاء منقطع النظير ما تعرض له الوسط التلفزيوني السوري من انقسام حاد بين (دراما الداخل) و(دراما المنفى) ولكن بتباينات حادة من عمل لآخر، ووفقاً لأمزجة الشركات الدولية التي ترعى نوعية جديدة من هذه الأعمال بين استوديوهات بيروت ودبي، وما تبقى منها في دمشق، حيث تعاني هذه الأخيرة من تدني حاد في أجور المخرجين والكتّاب والممثلين والفنيين، نظراً لانهيار الليرة السورية أمام الدولار بما يعادل انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية إلى عشرة أضعاف قيمتها ما قبل آذار 2011.
كل ما سبق لن يعطي صك غفران لأعمال الموجة الجديدة من (دراما الخناجر) والعنتريات والعودة إلى الحارات المغلقة كبديل عن دراما المدينة المنفتحة على الآخر، وليضاف لها (دراما العشيرة) مع قرار الشركة المنتجة إنتاج جزء ثانٍ من مسلسل ( الهيبة- هوزان عكو وسامر برقاوي) الذي زاد في الطنبور نغماً بعد الرواية الجديدة لسيرة العائلة، وما اكتنفها من تكريس (الجناح العسكري) لعائلات تعيش على تجارة اللبن والمخدرات والأخذ بالثأر في أجواء حداثية، بينما ينسحب الوطني إلى الخلف تحت وطأة القتل العبثي وأخلاق المافيا.
دراما التوحش هذه يبدو أنها في ازدياد وتغوّل على حساب الترويج لأنماط عيش جديدة، تعكسها الدراما بقوة المحاكاة على جمهور بات اليوم رهين أعمال تحرّض على العنف والإرهاب، ناسفةً العقود الاجتماعية المدنية، وواضعةً الدولة كهيكل فولكلوري ليس أكثر على هامش ولاءاتها الجديدة.
مع هذا وذاك لم يعد من السهولة بمكان أن نطلق صفة (دراما سورية) على أعمال لم يبق منها سوى جنسية من يكتبها أو يخرجها أو يقف أمام الكاميرا لأداء مشاهدها، فمن حيث الجنسية، نعم هذه أعمال سورية حققها فنانون يتمتعون بالجنسية السورية، لكن معظم ما يقدم عبرها لا يعدو أن يكون شخصيات باهتة وضائعة في سديم عولمي خالص، فلا المكان واضح ولا الزمان جلي، فقط هناك حفاظ على وحدة الحدث كضلع أساسي من أضلاع الوصفة الأرسطية، تماماً كما كان الحال مع مسلسل (أوركيديا) لكاتبه عدنان عودة ومخرجه حاتم علي، والذي نزع نحو بنية استعراضية لأماكن التصوير (تم تصوير معظمه في رومانيا) على حساب نص تبدو فيه النزاعات محرّفة عن (صراع عروش) ومآسي شكسبيرية لممالك تميد وأخرى يؤلفها القتل والدسائس والمؤامرات. بنية رمزية لم تسعف صاحب (ربيع قرطبة) في تقديم عمل حجز مساحته على قنوات عرض بارزة، دون القدرة على التأثير المتوقع منه نظراً لحشد ممثلي الصف الأول في كوادره الباذخة، وميزانيته المالية العالية ( تم تداول خمسة ملايين دولار لإنتاجه).
رغم كل ذلك ثمة من أصر على دراما سورية صرفة، أعادت أنماط العيش والظروف الحياتية للعائلة في الحرب السورية إلى واجهة الفن التلفزيوني، حدث ذلك مع مسلسل (أزمة عائلية) لمخرجه هشام شربتجي الذي قدّم العائلة هنا على مسافة حذرة من طرفي النزاع، لأسرة من الطبقة المتوسطة في المجتمع السوري وما تكابده من أحداث الموت والتهجير اليومي، حيث جاء العمل في شرطه الكوميدي خافتاً، لكنه أعاد صورة الطبقة الوسطى التي حوّلتها الحرب إلى حطام في معظم المدن السورية الكبرى، منحازاً مرةً أخرى إلى تناول تهكمي للأحداث بعيداً عن شرطها السياسي، بل بالاتكاء على زحمتها اليومية ولعبجاتها المعيشية ومفارقاتها الدامية.
مكابدات لن نعثر عليها بعد اليوم في معظم خطوط الإنتاج المعطّلة التي إما تعكس حياة غاية في الرفاهية، أو تصوّر قاعاً لمجتمعات هامشية ترعرعت فيها الجرائم ونمت في ساحاتها الخلفية قيم الانحلال الأخلاقي وتجارة الكيف. عشوائيات وممالك رملية محدثة في قلب المدن التي تعيش على حواف الحرب، كما هو الحال مع مسلسل (شوق) لمخرجته رشا شربتجي وكاتبه حازم سليمان والذي حقق مستوى عالياً من المجازفة والخوض في أحوال عصابات الحرب وما تركته من آثار مباشرة على كرامة الإنسان وحقه في الحياة، لنتعرف على (روز) السيدة التي ستختطفها مافيا إسلامية أقرب إلى داعش، لتقوم ببيعها هي ونساء سوريات في سوق السبايا لمجاهدين على جبهات القتال، حيث تدور القصة على ثلاثة محاور، فبالإضافة إلى معسكر اعتقال النساء، هناك قصة حب بين بيروت ودمشق لا تلبث أن تصبح بمثابة تمرير مناظر فارهة بغية تحقيق شروط التسويق على حساب القصة المحورية التي حظيت باهتمام الشارع السوري، لما فيه من عرض حال لأول مرة لواقع عشرات النساء المختطفات في سجون الفاشيست الديني (داعش).
المشهدية المنقبضة والمكان الخطر وكمية العنف الزائدة تبدو اليوم من مفاعيل التسويق للدراما المنفية من معظم تلفزيونات العرب، لكنها في الأعمال الكوميدية تبدو أكثر استخفافاً بعقل المشاهد وذائقته. تجلى ذلك في الجزء الثاني عشر من مسلسل (بقعة ضوء) الذي شهد تراجعاً كبيراً على مستوى الأفكار التي ناقشها في لوحاته في العام الماضي (كتب معظمها شادي كيوان وسامر سلمان) فيما توقفت شركة (سما الفن) عن إنتاج جزء جديد منه بعد تدني مستوى لوحاته، خصوصاً لوحات (سيفون) التي كتبها وقام بأدائها الممثل أيمن رضا، مفتتحاً نوعاً جديداً من (دراما المرحاض) والتي يقضي فيها رجل خمسيني مذعور أيامه ولياليه في الحمّام لتسجيل اعترافات أمام كاميرا منزلية، لا يلبث أن يقوم بمسحها بعد جلسات التصوير، خوفاً من تعرضه للمساءلة.
فكرة قد تكون مناسبة لفيلم روائي قصير، لكن لا طاقة على مطّها في ثلاثين لوحة وفق سطحية النصوص المكتوبة لها، ناهيك عن لوحة ( ترامبو- تأليف ديانا فارس) التي تطرقت للانتخابات الرئاسية الأمريكية ببطولة (سلوم حداد)، لتكون هذه اللوحة مجرد (تنكيت) وتقليد لكاركتر قاطن البيت الأبيض دونالد ترامب وخصمه (هيلاري كلينتون- أدى الدور وفاء موصللي) لوحة لم تبلغ شكل الكباريه السياسي، كما أنها لم تتعد التهريج في مستوياته الدنيا، كما كان الحال مع استعادة لوحة (أم سعيد الرز) التي بدت في هذا الجزء باهتة وبعيدة عن الصدمة التي حققها مؤلفها ومؤديها ( أيمن رضا) في الجزء الثاني عشر من مسلسل ( ياناس خلوني بحالي).
أعمال كثيرة لم تحظَ هذا الموسم بفرصة العرض من مثل (سايكو) لأمل عرفة و (ترجمان الأشواق) لمحمد عبد العزيز، و (فوضى) لسمير حسين و( هوا أصفر) لأحمد إبراهيم أحمد و(الغريب) لمحمد زهير رجب، حيث لم تحظَ هذه الأعمال بفرصة عرض مناسبة على قنوات الخليج، وذلك بعد عرض معظمها على الرقابة في محطات خليجية بارزة فضلت استبعادها عن خارطة البث الخاص بها للالتحاق بسوق الفرجة الرمضانية القادم، بينما تستمر شركات ذات رؤوس أموال غامضة في إنتاج أعمال غاية في السخف والاستهانة بذكاء المشاهد، من مثل (جنان نسوان) و (غضبان) و(سنة أولى زواج – قررت الشركة إنتاج جزء ثانٍ منه) الأعمال التي ضربت عرض الحائط بألف باء الكتابة والإخراج والتمثيل، مورطةً ممثلة مثل ديمة قندلفت في المشاركة ببطولتها.
يبقى (الرابوص) لمخرجه إياد نحاس وكاتبه سعيد خناوي خطوة جريئة في خلق عوالم غرائبية لم يتوفر لكوادرها ذات الأجواء المريبة سيناريو قادر على سرد حكاية شخصياته المأزومة والخائفة، مثله في ذلك مثل (حكم الهوى) لمخرجه محمد وقاف، والذي عانى النص الذي كتبته ريما عثمان له من هنات عديدة وضعف في معالجة قصص الحب التي روتها عبر ثلاثيات كررت ثيمات درامية تم تناولها في أعمال مشابهة على نحو: (أهل الغرام) و (سيرة الحب) وسواها من مسلسلات الحيارى والعشاق والضائعين، بعيداً عن زمن الحرب وويلاتها، وبانسلاخ تام عن ظروف الحياة تحت القذائف والصواريخ وعلى مقربة من السيارات المفخخة، حيث تبدو الحياة بلون وردي مع إقحام بيروت على حكاية بعض الثلاثيات، من أجل الدخول في وصفة ما يسمى (البان آراب) وسواها من بدائل الوحدة والسوق العربية المشتركة في الدم والمسلسلات.
بالمقابل فضل آخرون الاتجاه إلى خيار مسلسلات (النت فليكس) والعرض مباشرة عبر اليوتيوب، حيث حظي مسلسل (بدون قيد) لكاتبه زاهي وهبي ومخرجه أمين دره بمتابعة لافتة على موقع الفيديو العالمي، مقتحماً محظورات رقابية عديدة، لكن دون الاشتباك فعلياً مع البنية الاجتماعية السورية الراهنة، زاد في ذلك التقتير في الإنتاج المرصود للمسلسل. على عكس مسلسل ( المهلب بن أبي صفرة) الذي أعاد ذكرات المسلسلات التاريخية السورية عن نص لمحمد البطوش وإخراج الأردني محمد لطفي، مستعيداً سيرة أحد ولاة الأمويين، بينما يشهد مسلسل ( هارون الرشيد) لمؤلفه عثمان جحا ومخرجه عبد الباري أبو الخير نكوصاً نحو العصر العباسي عبر تقديم خفايا من شخصية ملك الشرق القديم، وبميزانية قدمها تلفزيون أبو ظبي بالشراكة مع شركة (غولدن لاين) كمنتج منفذ للعمل الذي يضم العديد من ممثلي الصف الأول بين نجومه. بادرة ينظر إليها البعض بعين الريبة، ففي الوقت الذي تمتنع فيه المحطات العارضة عن تقديم الأعمال السورية على شاشاتها لاسيما التي تختص بالحرب، تقدم هذه المحطات على تمويل مسلسلات تاريخية ذات سياق ديني رجعي، مما يطرح أسئلة مجدداً عن الأجندة التي تقف خلف إعادة تكريس العصور الإسلامية على مساحة الفرجة العربية!
بواسطة Hamad Al-Mahameed | أبريل 30, 2018 | Cost of War, غير مصنف
طيلة أكثر من خمس سنوات مضت والعجوز السبعينية “أم. ش” لم تفقد الأمل بالعودة إلى منزلها في “مخيم اليرموك” للاجئين الفلسطينيين، لكن أصوات الانفجارات العنيفة المستمرة الناجمة عن حملة النظام ضد تنظيمي “داعش” و”هيئة تحرير الشام”، في منطقة جنوب دمشق أطاحت بأملها وجعلته مجرد حلم.
العجوز الفلسطينية التي فضلت البقاء في بيتها بعد خروج المخيم عن سيطرة النظام، أجبرت على النزوح إلى بلدات ريف دمشق الجنوبي الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، إثر سيطرة تنظيم داعش عليه، وتراقب حاليا باستمرار من على أحد أسطح الأبنية الغارات والصواريخ التي تستهدف المخيم.
وبلهجة فلسطينية مترافقة مع توتر كبير تقول العجوز: “راح .. راح.. خيّا ما بقي شي (لم يبق شيء).. ما بقي لا بيوت ولا شوارع.. راح المخيم…”، وتضيف “وين (أين) ترجع الناس.. وين (أين) تقعد خيّا على الردم…!”
وفي التاسع عشر من ابريل (نيسان) الجاري، وفي إطار مساع لتأمين دمشق ومحيطها، بدأ النظام وحلفاؤه حملة عسكرية لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرته في جنوب دمشق، واستهدفت مسلحي تنظيمي «داعش» و«هيئة تحرير الشام» في منطلق سيطرتهما، وذلك بعد إغلاق ملف وجود المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية لدمشق.
وتعتبر مناطق جنوب دمشق الخارجة عن سيطرة النظام مع منطقة القلمون الشرقي التي باتت مراحل تنفيذ اتفاقات التهجير لمقاتلي المعارضة في نهاياتها آخر معقلين تسيطر عليهما المعارضة المسلحة و”داعش” و”تحرير الشام” في محيط العاصمة دمشق، بعد استعادة النظام وحلفائه السيطرة على معظم مدن وبلدات الريف الدمشقي وتهجير مقاتليها وأعداد كبيرة من سكانها.
وتشكل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في جنوب دمشق كتلة من البلدات والأحياء متجاورة فيما بينها، منها ما يتبع إدرايا لمحافظة دمشق، ومنها لمحافظة ريف دمشق، وتسيطر على بعضها فصائل معارضة مسلحة، على حين يسيطر تنظيمي “داعش” و”تحرير الشام” على القسم الآخر منها.
ويسيطر “داعش” على كامل ناحية “الحجر الأسود” التابعة لمحافظة ريف دمشق وعلى أجزاء واسعة من “مخيم اليرموك” التابع لمحافظة دمشق ويعتبر المدخل الجنوبي للمدينة وعلى القسمين الجنوبي من حي “التضامن” والشرقي من حي “القدم”، بينما تسيطر فصائل المعارضة على منطقة بلدات “يلد” و”ببيل” و”بيت سحم”، التابعة إدارياً لريف العاصمة، وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية من العاصمة.
ومضات أمل
النازحون من تلك المناطق إلى أحياء سيطرة النظام في وسط العاصمة وأطرافها وإلى بلدات ريف دمشق الجنوبي الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، انتعش الأمل لديهم بالعودة إلى منازلهم مع توقعات للنظام وحلفائه قبيل الحملة، أفصحت عنها قيادات في فصائل فلسطينية تقاتل إلى جانبه، ومفادها أن المعركة هناك “لن تكون صعبة وستستغرق أياما معدودة فقط”، وأن ما سيحصل هو سيناريو مشابه لما حصل في مدن وبلدات وقرى الغوطة الشرقية من اتفاقات أفضت إلى تهجير مقاتلي المعارضة وعوائلهم إلى شمال البلاد، بعد أيام قليلة من بدء الحملة العسكرية هناك.
لكن مهلة 48 ساعة منحت ل”داعش” للخروج انتهت وبدأ النظام وحلفاؤه في التاسع عشر من ابريل (نيسان) الجاري قصفاً جوياً وصاروخياً ومدفعياً عنيفاً لتلك المناطق وهو مستمر حتى اليوم وينجم عنه بشكل يومي انفجارات عنيفة يسمع صوتها بوضوح في الأحياء المجاورة لمناطق سيطرة “داعش” و”تحرير الشام” من الجهة الجنوبية.
(س.م) من أبناء المخيم، وخلال تبادل للحديث مع أشخاص يقفون أمامه وإلى جانبيه، يركز بصره إلى أجواء المنطقة الجنوبية، ويشير إلى سحب الدخان والغبار الكثيفة التي تغطيها والمنبعثة من المباني في المخيم و”الحجر الأسود” من جراء استهدافها، ويقول بحسرة “لم يبق حجر على حجر”، لكن أحد من يتبادل الحديث معهم وفي محاولة للتعالى على جسامة ما يجري، يقول: “متل (كما) عمرناه في السابق بنرجع نعمروا.”
ذكريات
ويعتبر “مخيم اليرموك” من أبرز مناطق جنوب العاصمة الخارجة عن سيطرة النظام ويتبع إدارياً محافظة دمشق ويشكل بوابة العاصمة من الجهة الجنوبية، ويقع على بعد أكثر من سبعة كيلومترات جنوب دمشق، وتصل مساحته إلى نحو كيلومترين مربعين. ويحده من الجهة الجنوبية “الحجر الأسود”، ومن الجهة الغربية حي “القدم” ومن الشرق حي “لتضامن” ومن الشمال منطقة “الزاهرة”.
وأنشئ “مخيم اليرموك” عام 1957 على بقعة زراعية صغيرة، ومع مرور الزمن تحول إلى أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا ودول الجوار، وراح اللاجئون يحسّنون مساكنهم ويشيدون الأبنية الطابقية لتتسع للعائلات الكبيرة والمتنامية، وبات كمنطقة حيوية تستقطب السوريين من الريف للعيش فيها، لقربها من دمشق، ووصل عدد اللاجئين الفلسطينيين فيه قبل الحرب الى ما يقارب 200 ألف لاجئ من أصل نحو 450 الف لاجئ في عموم سورية علما بأنه يوجد في سوريا وحدها خمسة عشر مخيما تتوزع على ست مدن. حتى لُقّب ب”عاصمة الشتات الفلسطيني”.
وإلى جانب اللاجئين الفلسطينيين كان يعيش في “مخيم اليرموك” نحو 400 ألف سوري من محافظات عدة.
وتسارع التطور العمراني في المخيم في بدايات القرن العشرين وتحسنت الخدمات بشكل ملحوظ فيه، وتم افتتاح العديد من المراكز والمؤسسات الحكومية والأسواق التجارية لدرجة بات منطقة حيوية جدا أكثر من أحياء وسط العاصمة التي استقطب تجارها لفتح فروع لمحالهم التجارية فيه للاستفادة من الكثافة السكانية وجني أكبر قدر ممكن من الأرباح في أسواق باتت الأكبر والأكثر حيوية في العاصمة السورية.
وكان سوق شارع اليرموك الرئيسي للألبسة والأحذية والصاغة والمفروشات والمأكولات الجاهزة من أهم أسواق المخيم، حيث كانت العديد من محاله تفتح على مدار اليوم، بينما يعتبر سوقا شارع لوبية وصفد من أهم أسواق الألبسة الجاهزة، على حين كان سوق الخضار في شارع فلسطين من أكبر أسواق العاصمة ويؤمه الدمشقيون من معظم أحياء العاصمة.
وبمجرد الوصول إلى “مخيم اليرموك”، والدخول في شارع اليرموك الرئيسي من مدخله الشمالي كان المرء يواجه سيلاً بشرياً تتزاحم أقدامه على الأرصفة لإيجاد مكان لها وتتقدم ببطئ كالسلحفاة، في وقت لا يختلف المشهد في سوقي لوبية وصفد حيث يبدو الشارعان والمحلات أكثر اكتظاظا، لدرجة أن الكثيرين كانوا يصفون المشهد هناك بـ”يوم الحشر”.
وإن كان سر الإقبال على أسواق “مخيم اليرموك” من قبل الباعة، هو استثمار الاكتظاظ السكاني الكبير فيها، بطرح البضائع بأسعار أقل مما هي عليه في أسواق أخرى وفق أسلوب “ربح أقل وبيع أكثر”، فإن إقبال المواطنين عليها من كل حدب وصوب كان سببه تنوع المعروضات وأناقة المحال والعاملين فيها والأهم من كل ذلك تدني الأسعار عما هي عليه في أسواق وسط العاصمة.
“اليرموك” الذي يحمل رمزية لحق عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هجروا منها عام 1948، حلت النكبة به عندما أطلقت طائرات النظام ثلاثة صواريخ عليه في 16 ديسمبر (كانون الأول) 2012 حيث قتل وأصيب عشرات المدنيين، ونزح أكثر من 90 في المائة من سكانه، وذلك عقب سيطرة فصائل “الجيش الحر” عليه.
وانتهى المطاف بالمخيم بسيطرة “داعش” على الجزء الأكبر منه في أبريل (نيسان) عام 2016 إثر هجوم عنيف على “تحرير الشام” في أماكن وجودها هناك ومحاصرتها في جيب صغير في غربه، بعد أن كانت الأخيرة انتهت بالتعاون مع “داعش” من وجود فصائل “الجيش الحر”.
ومع سيطرة “داعش” الذي يصل عدد مسلحيه في مناطق سيطرته بجنوب دمشق الى نحو 2000 مسلح على “اليرموك” نزح كثير من المدنيين من المخيم إلى مناطق سيطرة “الجيش الحر” في “يلدا” و”ببيلا” و”بيت سحم”، ولا يتجاوز عدد الباقين فيه 4 آلاف مدني.
العديد من أهالي المخيم والتجار الذين كانوا فيه يستبعدون عودة الوضع إلى المخيم إلى ما كان عليه قبل الحرب، بعد كل هذا القصف والمعارك الجارية هناك، ويقول أحد التجار “الأمور تغيرت كليا… قد تمسح المنطقة بشكل كامل ويعاد بناؤها. الماضي بات ذكرى ليس إلا!”
معقل الدواعش
وإن كان “مخيم اليرموك” من أهم المناطق في جنوب العاصمة التي يسيطر على أجزاء كبيرة منها تنظيم داعش، فإن ناحية “الحجر الأسود” التابعة إداريا لمحافظة ريف دمشق، وتقع جنوب العاصمة، وتبعد عن مركز المدينة نحو 7 كيلومترات، تعتبر المعقل الرئيس له ذلك أنه يسيطر عليها بالكامل.
ويتركز حاليا قصف النظام وحلفاؤه على الناحية كونها تحتوي مراكز قيادات التنظيم ومقر إقامة معظم مسلحيه وغرف عملياته ومستودعات الذخيرة والمواد الغذائية.
وتحاذي الناحية من الجهة الشمالية القسم الجنوبي من “مخيم اليرموك”، ويحدها من الجنوب بلدة سبينة، ومن الغرب حي “القدم” الدمشقي، ومن الشرق بلدة “يلدا”، ووصل عدد سكانها قبل الحرب الى نحو 60 ألفاً، أغلبهم من نازحي هضبة الجولان التي نزحوا منها عام 1967، إضافة إلى خليط من كثير من سكان المحافظات السورية ومن اللاجئين الفلسطينيين.
وفي بداية الثورة، تم الإعلان عن تشكل فصائل مسلحة في “الحجر الأسود” تتبع لـ”الجيش الحر”، منها “لواء الحجر الأسود” و”صقور الجولان” وتكونت في غالبيتها من نازحي الجولان، ليطغى بعد ذلك حضور فصائل متشددة على حساب “الجيش الحر” الذي انتهى وجوده بتفكك مجموعاته أو الاندماج مع تنظيم “داعش” أو “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام لاحقا).
وبسبب الصراع على النفوذ بين “النصرة” و”داعش” تمكن الأخير من طرد “النصرة” إلى “مخيم اليرموك”، وسيطر بمفرده على “الحجر الأسود” الذي بات معقله الرئيس في جنوب العاصمة.
جزءان من حيين
كما يسيطر “داعش” على العديد من الجادات في القسم الجنوبي من حي “التضامن” الدمشقي الذي يحاذيه “مخيم اليرموك” من الغرب وبلدة “يلدا” من الشرق والجنوب، بينما تحده من الشمال منطقة “حي الزهور»”.
وسيطر “الجيش الحر” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، على هذا الجزء من الحي مما أدى إلى نزوح غالبية سكانه، على حين بقي الجزء الشمالي منه تحت سيطرة جيش النظام وميليشياته وشكل منطلقا للهجمات ضد الفصائل المعارضة في الجادات الجنوبية.
وكانت أعداد قاطنيه قبل بداية الحرب نحو 200 ألف ومعظهم من نازحي هضبة الجولان ومن محافظات أخرى.
وشكل المنحدرون من محافظات درعا ودير الزور وإدلب اللذين يتجمعون في الجادات الجنوبية من الحي ، نواة الحراك السلمي في عامه الأول. وعمد النظام إلى تدمير منازل الأهالي بشكل شبه كامل في حي زليخة التابع إداريا لبلدة “يلدا” ويحاذي الجادات الجنوبية من الحي من الجهة الشرقية.
وبعد سيطرة تنظيم داعش على القسم الأكبر من مخيم اليرموك أبريل عام 2016، قام أيضا بالسيطرة على الجادات الجنوبية من حي «التضامن»، بينما تراجعت الفصائل التي كانت توجد فيها إلى بلدات “يلدا” و”ببيلا” و”بيت سحم”، حيث تسيطر فصائل إسلامية وأخرى من “الجيش الحر”.
إضافة إلى ذلك يسيطر تنظيم “داعش” على الجزء الشرقي هي حي “القدم” وهو من الأحياء الدمشقية العريقة، ويقع إلى الجنوب من العاصمة، ويحده شمالا حي “الميدان” وجنوبا بلدة “سبينه”، وغربا مدينة “درايا” وشرقا “الحجر الأسود”، بينما يسيطر النظام على القسم الغربي منه.
ويفصل بين القسمين طريق دمشق – درعا الدولي القديم، وسيطر “الجيش الحر” على معظم القسمين في بداية الثورة، إلا أن النظام تمكن لاحقا من استعادة السيطرة على القسم الغربي.
وسيطر التنظيم على القسم الشرقي من الحي في مارس (آذار) الماضي ، إثر هجوم شنه على قوات النظام بعد محاولاته السيطرة عليه في أعقاب اتفاق «تسوية» مع الفصائل تم بموجبه تهجير المقاتلين وعوائلهم من الحي إلى شمال البلاد.
ومن ضمن مناطق الجنوب الدمشقي الخارجة عن سيطرة النظام منطقة بلدات “يلدا” و”ببيلا” و”بيت سحم”، التابعة إدارياً لريف العاصمة، وتقع في الجهة الجنوبية الشرقية من العاصمة، ويحدها من الشمال «مخيم اليرموك» و”حي التضامن”، ومن الجنوب منطقة “السيدة زينب” التي تسيطر عليها ميليشيات إيرانية، ومن الشرق غوطة دمشق الشرقية، ومن الغرب ناحية “الحجر الأسود”.
وتسيطر على هذه المنطقة التي تصل مساحتها إلى نحو أربعة كيلومترات مربعة، فصائل إسلامية وأخرى من “الجيش الحر”، ويتوقع أن تشهد احتمالاً مشابهاً لما حصل في كثير من المناطق من تهجير قسري للمقاتلين وعوائلهم.