يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

خلال الأزمات الكبرى تبدو التغيرات الطارئة على سوق العمل معياراً حقيقياً وذات مغزى وتترافق مع مؤشراتٍ دلالية تُحوّل التغيرات من مجرد حالات طارئة إلى تاريخ للعمل والعمال والإنتاج والسوق والميزان الاقتصادي لتبلغ درجة التأريخ لدورة اقتصادية مؤثرة تبدأ بالسبب أو الفعل وتنتهي برد الفعل وهو جملة المتغيرات الظاهرة والخفية، ومن يرسم ملامح الدورة الاقتصادية ويؤرخ  لآلية عجلة الإنتاج إنما يؤرخ أحوال المجتمع وحيويته الفعلية ،المعطّل منها والفعّال.

في حي المزة العريق والمزدحم بسكانه وبالوافدين الجدد الطارئين على المكان نزوحاً من مناطق أصبحت خارج دائرة الحياة، يُرتب أبو أحمد مستحضرات التجميل والأمشاط والعطور وملاقط الشعر وعدة الحلاقة وإزالة الشعر بعناية بالغة. يحمل بيده اليمنى نفاضة غبارٍ من الريش الأسود ليحافظ على لمعان بضاعته، وعيناه تراقبان السيدات خوفا من السرقة أو من أن تجرّب سيدة قلم حمرة شفاه وتعيده فتعطّل بهذه الحركة بيعه بعد أن تركت شفاهها علامةً بارزة عليه.

بعد خروج المنطقة التي كان يسكنها أبو أحمد من دائرة الحياة والتي فقد على إثرها منزله ودكانه الصغير المحتوي على بضاعة بالملايين، لم يعد له القدرة على استئجار دكان ٍبديل بعد أن أصبح بدل الإيجار الشهري يفوق قدرة الأغلبية على دفعه، حيث تتراوح الأجرة (حسب المساحة والموقع) الشهرية وسطياً بين ١٠٠-٢٠٠ ألف ليرة سورية، مع دفعة لمدة ستة أشهر سلفاً.

باع أبو أحمد حلي زوجته حتى خاتم الزواج  واشترى شاحنة صغيرة من نوع السوزوكي وجعل لها باباً حديدياً وجدراناً مغلقة، يفتحها خلال النهار ويغلقها ليلاً ويبقى هو في الشارع ملاصقاً لرزقه في حرّ الصيف وبرودة الشتاء، يردّد أبو أحمد عبارة “الحمد لله مستورة” لكنه يئنّ من وجع قدميه ومن غلاء أجار بيته ومن صعوبة الحياة القاهرة المستجدة.

***

كان أبو أيمن مالكا لأحد مخازن الخشب الكبيرة في ريف دمشق. خرج من بلدته وخسر المخزن والخشب وغلّة عمره وسنين شقائه، واضطر لأن يعمل كنادلٍ في أحد المقاهي الشعبية وتراه يحدث نفسه كمن فقد عقله. فالخشب يحتاج لمبالغ طائلة لتعويضه ولا يمكن تخزينه في شاحنة سوزوكي صغيرة، وتبديل التجارة صعب لأن المهنة تصير وطناً خاصاً لصيقاً بالروح والجسد.

***

في الحافلة المهترئة أحاول إيقاظ سيدة غافية تبدو على أصابعها بقايا حروق صغيرة بندبات حمراء اللون. تستفيق بصعوبة، أسألها  عن سرّ غفوتها وعن أصابعها. تقول “التعب”، حيث تعمل بالشمع الساخن الحارق لإزالة الشعر الزائد، وتزور البيوت وهي التي لم تعتد قطع كل هذه المسافات لتصل إلى زبوناتها اللواتي كنّ  يتسابقن لحجز مواعيدهن لزيارتها في محلها المشهور بالقرب من دمشق.

***

أما نظيرة فقد وزعت أيام الأسبوع ما بين صاحبات بيوتٍ يرغبن  بتحضير الكبّة أو لف ورق العنب وغيرها من الوجبات المتعبة. لا تملك نظيرة ترف يوم العطلة ولا تحديداً لساعات العمل، أجرها حسب كيلو البرغل أو الرز وعدد الساعات الضائعة في وسائط النقل وشروط الانتقال الصعبة غير مدرج في قوائم الحساب، وقد تعمل في بيتين في ذات اليوم كي لا تخسر زبائنها علّها تستطيع دفع بدل الإيجار وإعاشة وإطعام أحفادها وأمهاتهم بعد غياب الرجال كلٌ في متاهة موته أو تغييبه أو هجرته.

كانت نظيرة تملك ورشة خياطة مميزة ومشهورة وخاصة خياطة فساتين السهرة وشك الفساتين بالخرز والسيلان، لكن ثمة عملٍ لا يعوّض. لا تكفي قوة العمل والرغبة بإنجازه لتحقيقه، فمهنة كهذه تحتاج لماكيناتٍ ضخمة ودقيقة وباهظة الثمن ولتوافر مكانٍ واسع وعاملاتٍ متميزاتٍ وخبيراتٍ تتفاوت أجورهن حسب الخبرة.

يبدو التساؤل الأهم هنا هو الفارق ما بين امتلاك عملٍ خاصٍ بكافة تفاصيله وما بين العمل في البيوت. كافة أشكال العمل في البيوت حتى وإن كان عالي الجودة والمستوى والاختصاص هو عمل خدمي دوني يطيح بالهرم الاجتماعي من أعاليه وحتى أدنى درجة فيه، ويتحول المنخرط فيه من صاحب عملٍ ومالكٍ إلى عامل خدمة يحدد الزبون وقت حاجته له، أجره، والحيز الجغرافي الذي سيشغله، وقد تتشعب طلبات الخدمة المطلوبة لتصل إلى حدّ الإرهاق أو الإذلال.

***

سياراتٌ معطلةٌ على الأرصفة، في أزقة فرعية، أو في ساحاتٍ باتت مواقف للسيارات المعطلة وورشاتٍ متنقلةٍ للصيانة بعدما تبخرت محال التصليح ومعداتها كالبخار إثر تضررها بفعل القذائف أو احترقها أو تهدمها، أو بعدما صارت بعيدة مع أنها مرأية، بعيدة وهي ملاصقة للروح والجسد وغير بعيدة بالجغرافيا لكنها موصدة الأبواب وعصية على الوصول إليها.

في الحرب تنكسر النفوس وتضيق رحابة المساحات الممنوحة للكرامة كي تختار بين ذل الفقر وجدلية البقاء، يقول أبو سامر: “أنا مستعد أن أعمل في تعزيل المجارير لتأمين ربطة الخبز لأبنائي. أمسى أبو سامر رقماً إضافياً في قائمة الواقفين في طوابير عمال الفاعل المياومين، الذين تآخوا مع حجارة الرصيف الذي يجلسون عليه بانتظار الفرج. تهرب منهم الأحلام وتجفّ الابتسامات والقلق هو سيد الزمان والمكان، تتبدل قيمهم وأخلاقهم، يتخاطفون أي زبون عمل، يقبلون بأي نوع من الأعمال، يكسرون سعر الخدمة المتفق على تسعيرها، يتشاجرون ويتشاتمون، يسخرون من بعض والكدمات والجروح الظاهرة على الجسد تقهرهم أكثر. يجلسون بعيداً عن بعضهم بعد أن يفقدوا جميعا فرصة العمل المؤقت لأنّ الزبون يريد منحهم الأقل دوماً. تخيّل أن تتشاجر مع أخيك من أجل ليرات ولقيمات ثم يدير الزبون لك ظهره ليأكلك الندم والحزن وشبح الجوع وخسارة الأخ والصديق والشريك.

في المقلب الآخر دكاكين ضخمة تفتح أبوابها، فروع تصل للرقم تسعة أو عشرة لمحلٍ مختص ببيع الفروج مثلاً، وهيصة وعراضة وورود ووموالد وأغاني ودبكة. مكتبة لبيع القرطاسية تحوّلت لمركز فخم لبيع التنباك والمعسل، الأراجيل تستهلك الأرصفة وباتت خدمة أركيلتك واصلة عالباب تصنف كخدمة جليلة وعظيمة يُدفع لقائها بسخاءٍ مريب. سيارات فخمة تنقل ركاباً غرباء أو مقربين تنكروا بزي رجال الأعمال وأصحاب البيزنس وباتوا أشخاصاً مفتاحيين يحلون العقد ويعرفون آلية الوصول لكل المفاصل الصلدة والمغلقة بشيفرات الوساطة والرشوة.

نساءٌ يبعن أجسادهنّ بخفة القبلة الأولى، أو يقمن بشطف الأدراج في الأبنية العالية، يأخذن كل شيء قابل للتدوير، زوج جوارب، خبز يابس، خضار زائدة وذابلة، طبخة على وشك التلف مغمورة بالحموضة والجفاف، وشبابٌ يبيعون الممنوعات أو يهددوا الصيادلة بالمديات للحصول على حبوب وعقاقير مهدئة إدمانية التأثير.

أطفال تركوا مقاعد الدراسة لتوصيل طلبات البقاليات إلى البيوت، أو للعمل عتالين على عربات معدنية برائحة  كريهة نفاذة، محنيي الظهور، بعيون ميتة وبطون جائعة. وباعة المسروقات يتاجرون بكل شيئ، بأطباقٍ مازالت حبة الأرز الأخيرة يابسة في منتصفها، عربة طفل صار في حكم الغياب، فنجان قهوة بكامل بهاء بقايا الرشفة الأخيرة لامرأةٍ كانت تتبادل الحياة والقهوة مع زوجها على شرفة بيتهما الموغل في الغياب والفقدان.

مولات ضخمة ومطاعم بديكورات حديثة وملاهي عامرة بالشابات الفتيات المهدورات في قاعاتٍ مسمومة وأثرياء جدد بلا عمل وبلا شهادة علمية أو خبرة وبلا اسم، لهم لقب واحد واسم واحد حيتان الزمن الصعب، الزمن الضائع، “تجار الحرب” وأصحاب الخطوات الواثقة الجديدة.

في الحرب تتوه التعاريف وتهرم اللغة والتوصيفات، ثمة موتٌ معلن لا من راد له، من يتكيف قد ينجو للحظات ومن يسعفه الحظ ليستبدل تعباً بآخر ووجعاً بآخر قد يشبع لمدة أطول. في الحرب يتغير كل شيء وصاحب العمل يصير عاملاً أو بلا عمل، العاطل عن العمل قد يصير رجل أعمالٍ فاقع الثراء.

في الحرب أي عملٍ مهما كان شائناً هو عملٌ ويكتسب قيمته العليا من كمية المورد المادي وليس من نوع العمل ولا من جهد العامل وتميزه.

قالوا الحرب مضيعة الأصايل، وأقول الحرب مرآة  لانقلاباتٍ عميقة لا تبقي ولا تذر، تعمم فرضية أن البقاء للأقوى وفي صراع الأقوياء نتلاشى  حتى حدود العدم.

تنقلب البنى وتتصارع، والتكيّف مجرّد وهم ٍأو حيلةٍ للبقاء، وأي بقاء؟

هنا دمشق. ونحن مازلنا هنا.

الجامعة السورية

الجامعة السورية

 قد يظن بعضهم أن الأفكار الجديدة تولد في عقل المفكر بصورة مفاجئة وعلى نحو تلقائي. وليس من شأن ظن كهذا إلا حرمان القارئ المشاركة في المتعة الناجمة عن ملاحظة حركة الذهن -وهو يبني المفهوم أو الفكرة- ابتداءً من لحظة الاهتمام الأولى وحتى لحظة الولادة، معبرًا فيها عن المفهوم أو الفكرة في إطار لغوي قابل للفهم والنقد.

ولم يكن لمفهوم (الجامعة السورية) إلا أن يكون ثمرة لمسار طويل من انخراط الذهن في تأمل عميق ومؤلم لمجريات الثورة السورية، إخفاقًا ونجاحًا. وبما أنه من المتعذر على الخبرة الحية أن تصبح قابلة للفهم والتمثل إلا بالتعبير عنها من خلال (إطار منطقي)، فإن مفهوم (الجامعة السورية) قد مر في أربع مراحل مترابطة ومتكاملة، قد ضمها حدس واحد أو رؤية أيديولوجية شاملة. ومن شأن العرض الآتي أن يكشفها خطوة خطوة.

أولًا: الخصائص النوعية للثورة السورية

الثورة السورية، التي اندلعت في الخامس عشر من آذار/ مارس عام  2011، ثورة أصيلة توافرت لها جملة الشروط التي جعلتها تتخذ صورة انتفاضة شعبية على النظام السياسي السوري المستبد والفاقد لصور الشرعية كلها؛ السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وما كان لها أن تكون كذلك إلا تكيفًا مع نجاح هذا النظام في تحويل ملايين السوريين إلى جزر منفردة، يعْسر على الجميع التواصل مع الجميع بسبب السطوة الوحشية لأجهزة الأمن، فتحول كل فرد سوري نتيجة ذلك إلى حبيس ذاته. يضاف إلى ذلك تلك الحروب الضارية التي شنها النظام السوري على الأذكياء والمبدعين والموهوبين، إلى أن وضعوا إبداعاتهم ومواهبهم في خدمة استبداد النظام وقمعه الطائفي والعشائري. وهكذا تعذر على السوريين إنتاج فعل سياسي يتجاوز مفهوم الانتفاضة الشعبية.

ومع ذلك، للثورة السورية بعد حضاري إنساني يتمثل في التطلع إلى تحقيق الانعتاق الذاتي للذوات البشرية، وإطلاق طاقاتها الحرة في ميادين شتى من الحياة، تلك الطاقات التي عطلها النظام حتى كاد البشر يتحولون إلى بقايا إنسانية قد ضخ فيها الاستبداد مضمونًا مناقضًا لكل ما هو إنساني، ومجافيًا لكل ما تقضيه الكرامة الإنسانية من حرية وعقلانية وقدرة على اختيار المعنى والماهية اللذين من حق كل فرد أن يعين انطلاقًا منهما ذاته بصورة حرة، ومن دون أي قيد أو أي صورة من صور الإجبار والإكراه والتعسف.

وأما التشوهات التي لحقت بالثورة -وهي الصور المختلفة للأسلمة وما اقترن بها من صور الاستتباع السياسي والعسكري للأطراف الإقليمية والدولية- فترجع في حقيقتها إلى الجهد المنظم للقيادة العشائرية والطائفية في دمشق، وإلى السلطة الشيعية التي نصبها الإيرانيون في بغداد، وإلى الجهد الجبار الذي بذلته طهران في باكستان وأفغانستان وغيرهما من البلدان الإسلامية، وتمخض في جملته عن إغراق الوطن السوري بميليشيات شيعية متخلفة، الأمر الذي واجهته أطراف أُخَر بتكوين ميليشيات سنية لا تقل تخلفًا عن نظيرتها الشيعية. ويعلم الجميع كيف أطلق النظام السوري ألوف المعتقلين من إرهابيي القاعدة بعفو رئاسي رسمي، بينما أقدم العراقيون على فعل الشيء نفسه متذرعين بهرب المسجونين الإسلاميين. ذلك كله يعني أن (الأسلمة) مهما كانت صورتها لا تزيد على كونها قشرة أريد لها أن تكون بديلًا  من المضمون الإنساني والحضاري للثورة السورية.

وعلى الرغم من المحاولات كلها لتلطيخ سمعة الثورة السورية ودمغها بوصمة الإرهاب من جانب النظام وحلفائه، فإن الإنجاز الأهم في الثورة السورية يبقى متمثلًا  في كشفها أن (الفكرة الجامعة) التي فرضها النظام على الشعب السوري بالحديد والنار -ما يقرب نصف قرن- قد أصبحت فكرة ميتة، ويتعذر على أي عاقل أن يدعو إلى أن تحكم سورية والسوريين بها من جديد. وفي هذا الإطار، لا تشير المناقشات المتعثرة حول (الانتقال السياسي) في مراحل التفاوض كلها في جنيف، إلا إلى شيء واحد هو موت الأفكار التي حكم النظام بها سورية من جهة، وإلى تجاوز وعي السوريين جميعًا هذه الأفكار من جهة أخرى.

إن تركيز المناقشات في مفهوم (الانتقال السياسي) و(الدستور الجديد) يشير إلى أن المجتمع الدولي مجمع على أن النظام السياسي وطريقته في الحكم قد أصبحت مناقضة ومتناقضة مع الوقائع الجديدة التي خلقتها الثورة السورية. وليس ثمة ما يعوق اليوم تحقيق (الانتقال السياسي وصوغ الدستور الجديد) إلا المزاد العلني الذي جعل النظام بموجبه (سورية) رهينة لمصالح القوى الإقليمية والدولية، برجاء إبقائه في السلطة نظير ما يتنازل عنه من سيادة وطنية.

إن رعاية (المجتمع الدولي) على الرغم من الصعوبات التي تواجهها كلها، فكرة (الانتقال السياسي)، تعني أن الجميع يعترفون بالحاجة الملحة إلى استحداث (فكرة جامعة) جديدة تسمح للسوريين أن يحكموا أنفسهم وفقًا لمثل مستمدة من المبادئ الديمقراطية والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية المتوافقة مع القانون الدولي، والمراعية لمواثيق (حقوق الإنسان). وهذه الرعاية تشير أيضًا إلى أن الجهاز النظري والمقولات الرئيسة التي يتكون منها أسلوب الحكم السابق متناقضة مع القيم الحضارية والإنسانية التي حركت السوريين في دعوتهم إلى إسقاط النظام.

والخلاصة، إن التطلع إلى فكرة جامعة جديدة يبرهن ببساطة على أن الشعب السوري يأبى إلا أن يتخطى أفكار البعث التي أسس عليها استبداد النظام السوري. وبعبارة أخرى، من حق السوريين، بل من واجبهم، أن ينصب فكرهم على إبداع (فكرة جامعة جديدة) أو بالأحرى (أيديولوجيا)، أو نظام سياسي جديد أكثر انسجامًا وتوافقًا مع الحقائق والوقائع التي خلقتها الثورة السورية عبر سنواتها الست السابقات. وفي ضوء ذلك أصبحت مهمة الإنتلجنسيا السورية -فلاسفة ومفكرين وساسة ورجال قانون واقتصاد وعلماء اجتماع ودين وغيرهم- أن يعملوا متضافرين على صوغ (منظومة أيديولوجية) يكون من شأنها عقلنة الحياة ضمن أنماطها الجديدة. وما هذه (المنظومة) إلا ما نطلق عليه في هذا السياق مصطلح الفكرة الجامعة. وليس بوسعنا الشروع في التحدث عنها إلا بعد أن نعرض الطريق، أو بالأحرى المنهج الذي لا بد من اتباعه في تكوين هذه (المنظومة الأيديولوجية) أو ما نفضل أن ندعوه بـ (فكرة جامعة).

ثانيًا: الأيديولوجيا ومعيار المطابقة

قُضِيَ على الإنسان -بحكم طبيعته ذاتها- ألا يكون قادرًا على الوصول إلى العالم الذي يعيش فيه -بل إلى المعطيات كلها التي لا انفكاك له عنها- إلا عبر أفكاره، أو بالأحرى عبر (الكليات الذهنية) أو الفكرية التي لا يستطيع من دونها تنظيم عالمه والسيطرة عليه وتفسيره أو تغييره إلا من خلال هذه الكليات. ومن الواضح هنا أن مصطلح (العالم) يحيل على صور التجربة الممكنة جميعها، سواء أكانت خبرات فردية أم اجتماعية أم تاريخية أم نفسية أم غير ذلك مما لا حصر له من الصور المحتملة للخبرة الإنسانية.  إذ لا يمكن لهذه الخبرات -من حيث هي جزئيات- أن تكون منطوية على أي دلالة أو معنى مالم تصبح على علاقة تفاعلية مع الكليات المشار إليها سابقًا.

وما لا ينبغي التورط فيه الوهم الذي يمضي إلى القول عن هذه الكليات: إنها تدل على موجودات عقلية مفارقة، وجودها سابق على التجربة، أو هو سابق على انخراط العقل الإنساني في معاينة العالم بثرائه وغناه. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكن من الممكن للذهن أن يُركِّب معطيات الخبرة الإنسانية من خلال التفاعل بينها وبين تلك الكليات، أو لنقل المقولات المنظمة للتجربة الإنسانية والخبرة البشرية في ميادينها المحتملة شتى.

والطبيعة الحقيقية لهذه (الكليات) أو (العموميات الذهنية) التي تنظم الخبرة وتخلع عليها كل ما فيها من دلالات، لا تزيد على كونها مجموعة من الاستعدادات أو القابليات التي لا تستطيع أن تمارس وظائفها إلا إذا احتكت بالمعطيات التي تقوم بتنظيمها وإعادة تركيبها، وتواصلت وتفاعلت معها على نحو يمنح الخبرة الإنسانية ما فيها من دلالة من ناحية، ويجعلها، من ناحية أخرى، جزءًا من المحرز الإنساني في المجال التطبيقي والتجريبي.

غير أن (الكليات الذهنية) لا تستطيع ممارسة تأثيرها القيمي والتفسيري إلا بعد أن تصاغ في أطر قيمية وأبنية عقلية يمكنها أن تستخدم في الحوار بين البشر وفي الدفاع عن المصالح المتباينة للشرائح الاجتماعية داخل هذا المجتمع أو ذاك. إذ لما لم تكن حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتعقلن إلا من خلال الأفكار والكليات، وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى التعبير عن مصالحهم -المتناقضة أو المتماثلة- من خلال أطر ذهنية تفسر هذه المصالح، وتسوغها، وتخلع عليها نوعًا من العقلانية والشرعية في أطر فكرية مناقضة في تبنيها لمصالح شرائح اجتماعية أخرى منافسة ومعارضة للشرائح الأولى.

هذه الأطر الذهنية التي تسوغ الصيغ المتباينة للمصالح المتناقضة، وتفسرها، وتدافع عنها، هو ما درج الفلاسفة على تسميته (بالأيديولوجيا). وهذا يعني أن المصلحة أو جملة المصالح لاتقدم فجة وصريحة. ذلك لأن للأيديولوجيا وظيفة أخرى تتمثل في قدرتها على تقنيع المصالح، وتسويغها وعرضها على أنها تمثل المصلحة العليا لأفراد المجتمع جميعهم. والحقيقة مختلفة عن ذلك الاختلاف كله. فكل أيديولوجيا تدافع عن مصالح شريحة اجتماعية محددة في إطار مقنَّع يدعي أنه يمثل القيم الإنسانية التي يجدر بالبشر كلهم تبنيها.

وهذا يعني أن (الأيديولوجيا) -على نحو ما- هي صورة من صور (الوعي الزائف)، وذلك راجع إلى ماتنطوي عليه من مقدرة على (التقنيع) ومن ميل إلى الانحياز. ولكن هذا لا يعني أن الأيديولوجيا لا بد أن تكون زائفة جملة وتفصيلًا. بل يعني أن كل أيديولوجيا إنما تنطوي على قدر من الانحياز بسبب إعلائها لمصلحة فئة اجتماعية على مصالح الفئات الأخريات كلها.

وهنا لا بد من التمييز في صميم كل أيديولوجيا، بين ما يمكن تسميته (بالوعي المطابق) وبين ما يمكن تسميته أيضًا (بالوعي الزائف). ومن ثَمَّ يمكن الإشارة إلى بعض المعايير التي قد يكون من شأنها إرشادنا إلى التمييز بين تجليات الوعي الزائف والوعي المطابق. فكلما كانت الإيديولوجيا أقرب إلى (روح العصر) كلما كان من المحتمل أن تكون متسمة أو محققة لقدر أكبر من المطابقة أو التطابق مع الوقائع المعاشة التي تلقى القبول بصفة عامة في هذا العصر أو ذاك. وكلما كانت الأيديولوجيا تدافع عن مصلحة عدد أكبر من البشر أو شرائح اجتماعية واسعة كان وصفها بالمطابقة محتملًا بدرجة أكبر، شرط ألا تكون الأكثرية تفكر على نحو مناقض (لروح العصر) وهو المعيار الأول. وحسبنا أن تتصف الأيديولوجيا أو (الفكرة الجامعة) بالمقدرة على الوفاء بمتطلبات هذين الشرطين أو المعيارين حتى تكون أقرب إلى تحقيق شروط الوعي (المطابق).

وترجع أهمية مفهوم (الوعي المطابق) إلى كونه يمثل نوعًا من الضمان أو الثقة النسبية بالأيديولوجية المطروحة أو لنقل (بالفكرة الجامعة) التي قد تكون مطروحة على بساط البحث في حقبة من حقب الصراع التي يمر بها مجتمع ما كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى المجتمع السوري.

وبما أن الأيديولوجيا تتعلق بالصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهذا يعني أنها لا تنفك -بحال من الأحوال- عن مفهوم (المصلحة)، ولذا فإنها الوسيلة التي لا بد منها في الدفاع عن مصلحة الفئات الاجتماعية. ويتخذ هذا الدفاع صورة تسويغ أخلاقي وسياسي لمنظومة المصالح التي تتبناها وتدافع عنها الفئات الاجتماعية المختلفة.

وهكذا تتحول الأيديولوجيا –ببساطة- من الوصف والتفسير إلى التقويم الأخلاقي والسياسي الذي ينتهي بالأيديولوجيا إلى أن تصبح إطارًا قيميًا معقدًا يخلع على المصالح المتباينة قيمة أخلاقية تسمح بقبولها والارتقاء بها إلى مستوى (الحق) من الناحية القانونية. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بفضل فكرة (الوعي المطابق) الذي يعني أنه ليس من الضروري أن تكون الأيديولوجيا -على الأقل في نظر المدافعين عنها- إلا على قدر محدود من الزيف. ومع ذلك فإن الأيديولوجيا، بسبب اقترانها بالمصالح، لا بد أن تكون منطوية على قدر من الزيف قائم في صميم كل أيديولوجيا. ولكن لا بد من الانتباه إلى الحقيقة التي نبهنا إليها سابقًا، وهي أنه كلما كانت الأيديولوجيا أقرب إلى الوعي المطابق -ولا يكون ذلك إلا باحترامها للمعايير التي تحدثنا عنها سابقًا- شكل هذا العنصر قدرًا من التحصين للأيديولوجيا من الانزلاق إلى (الوعي الزائف).

هذا الحديث عن الأيديولوجيا، وكيفية تكوينها، ومراحل تركيبها، وعناصر هذا التركيب الذي أفضى بنا إلى التحدث عن بعض المعايير التي تمكننا من الحكم على درجة الصدق أو الزيف في الأيديولوجية، من خلال مفهومي (الوعي المطابق والوعي الزائف)، هو ما سنقوم بتطبيقه على تصورنا عن (الجامعة السورية) في محاولة نقدية تستهدف الدفاع عن هذه الفكرة باستخدام المفهومات ذاتها التي نتمكن بوساطتها من التعرف إلى درجة الزيف أو الصدق المتضمنة في فكرتنا. وفي هذا السياق سيكون سؤالنا المطروح هو : إلى أي حد تمثل (الجامعة السورية) وعيًا مطابقًا بالعصر وبالأوضاع التي يحياها السوريون في سورية وفي بلدان اللجوء والمنافي البعيدة في أوروبا والأميركتين، أو هل كان تصورنا عن هذه الفكرة الجامعة أقرب إلى الوعي الزائف بالوقائع التي دفعت بنا إلى إنتاج مثل هذا التصور؟

غير أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة من البحث. إذ يجب علينا قبل ذلك أن ندلي ببعض الإشارات السريعة حول فكرتين جامعتين وجهتا الحياة في منطقتنا منذ عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن.

ثالثًا: نقد الأيديولوجيات السائدة

لو ألقينا نظرة على الأيديولوجيات التي طرحت في عصر النهضة العربية الحديثة وما بعدها الذي يؤرخ لانطلاقه في منتصف القرن التاسع عشر، لوجدنا أنفسنا في مواجهة أيديولوجيتين تمحور حولهما النشاط السياسي والثقافي. وهما: (فكرة الجامعة الإسلامية) التي تنطوي ضمنًا على مشروع خلافة إسلامية والثانية (فكرة القومية العربية) أو (الجامعة العربية) التي  جرى تبنيها -لاحقًا- من بلدان المشرق العربي: مصر وسورية والعراق.

وفي ما يتصل بمفهوم (الجامعة الإسلامية) لا يخفى على أحد أن هذا المفهوم يعود بجذوره إلى الإمبراطورية التي أسسها العرب بعد انتصار الإسلام في الجزيرة العربية، وتأسيس الدولة الأموية التي امتد نفوذها من إسبانيا غربًا إلى حدود الصين شرقًا. ومن الواضح أننا هنا في مواجهة مشروع إمبراطوري يستهدف -بصورة أو بأخرى- إعادة إنتاج التاريخ القديم أو الذاكرة العربية في واقع جديد هو الحاضر العربي. وقد ارتبط هذا الحلم بفكرة مقارعة الاستعمار وتحرير بلدان العالم الإسلامي من سلطان الغزاة الأوروبيين.

وعلى الرغم من الحماس الذي أبداه جمال الدين الأفغاني لهذه الفكرة ومن بعده (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه (أم القرى) وغيرهما، فإن الشخص الوحيد الذي حاول تجيير هذه الفكرة لمصلحته هو السلطان (عبد الحميد الثاني). لقد حاول هذا السلطان (عثمنة) الفكرة لعله يقضي على الإصلاحات العصرية التي سبق (لمدحت باشا) أن أدخلها في أساليب الحكم في السلطنة في منتصف القرن التاسع عشر. ولكن الفكرة لم تنتج شيئًا يذكر، لأنه كان قد سبق للسلطنة أن أصبحت رجلًا  مريضًا تتربص به القوى الأوروبية الصاعدة آنذاك وتتحين الفرصة لتقاسم ممتلكاته.

ولم يكن حظ الملك (فؤاد الأول) في عام 1920 في مصر بأفضل من حظ سابقه، فسرعان ما أخفق في إعلان نفسه خليفة على مصر والعالم الإسلامي، ولهذا الأمر حيثياته وتفصيلاته.

وما كان لهذه الفكرة أن تثمر شيئًا لأنها قد كانت بمنزلة صورة فارغة من كل مضمون. ذلك أن العنصر الأساس المكون لها هو الأفكار والذكريات والعواطف مع غياب لكل عنصر واقعي يمكن له أن يندمج بالصور الذهنية والنفسية. فبلدان العالم الإسلامي معظمها في ذلك الحين كانت مستعمرة وغارقة في جهلها. ثم إن الأمية كانت سائدة ومنتشرة، وهي الأسر الأكبر للعقل الذي قيد الرجال والنساء في ذلك العصر. ذلك كله وغيره حرم هذه الفكرة حتى الاقتراب من مفهوم (الوعي المطابق).  

ولو نظرنا اليوم إلى (فكرة الجامعة الإسلامية)، لوجدناها أشد افتقارًا إلى عناصر الوعي المطابق. وحسبنا أن ننظر إلى الرموز المحتملة لهذه الفكرة حتى نتبين أن (الوهابية) لا تزيد على كونها إسلامًا صحراويًا بدويًا معرقلًا  لكل تقدم. أما الإخوان المسلمون، فإنهم يرفضون الديمقراطية من دون تردد، ولا يؤمنون بمبدأ المواطنة بوصفه أساسًا للمساواة في الدولة الحديثة.

والمرء في حل من الحديث عن (القاعدة) و(تنظيم الدولة الإسلامية) في ما أرى. إذ يكفي أن نتذكر أن أهم شرط (للوعي المطابق) أن تكون الأيديولوجيا متوافقة مع روح العصر. ولا أظن أن أيًا من الاتجاهات المذكورة سابقًا تربطه رابطة جدية بما تعيشه الإنسانية اليوم من تقدم في ظل شرعة حقوق الإنسان والحياة الديمقراطية.

وما قلناه عن الصور المتخلفة للوعي السني ينطبق على (الوعي الشيعي) المتعين في إسلام (ولاية الفقيه) الذي لا يقل تخلفًا عن نظيراته السنية. وهو مفروض عنوة على الشعب الإيراني صاحب الحضارة العريقة.

ومع ذلك يمكن القول: تنفرد ولاية الفقيه الراهنة بميولها الإمبراطورية العدوانية العنيفة المتمثلة في العمل على تشييع العالم الإسلامي تمهيدًا لإخضاعه لسلطتها وسيادتها. وما تخريب سورية والعراق وتدمير مواطن أهل السنة وممتلكاتهم فيهما إلا الخطوة الأولى الممهدة لفرض التشيّع حتى على الطوائف الإسلامية من غير أهل  السنة.

وفي أي حال، فإن فكرة (الجامعة الإسلامية) -سواء أكانت سنية أم شيعية- هي فكرة إمبراطورية لأن الغزو أحد مكوناتها الرئيسة. إنها لا تستهدف المحافظة على العالم الإسلامي والمسلمين الذين يعيشون في كنفها -على سبيل الافتراض- بل هي تتطلع إلى غزو العالم بجملته وأسلمته أيضًا، لا فرق في ذلك بين أن تكون هذه الجامعة سنية أو شيعية. ولو افترضنا أنهما سيطرتا على العالم مناصفة، فلن يكون إلا الجهاد المتبادل بينهما إلى أن تفني إحداهما الأخرى.

وليس هذا بالأمر المستغرب، فهو من طبيعة كل جامعة دينية. ولقد سبق لمثل هذا الصراع أن خبرته المسيحية في العصور الوسطى عندما انقسمت الكنيسة على نفسها إلى كنيسة شرقية وأخرى غربية. وقد خبرت المسيحية هذا الصراع مرة أخرى بين الكنيستين في مرحلة الحروب الصليبية. ذلكم هو الشأن بالنسبة إلى كل فكرة جامعة تتخذ من الدين -أي دين- أساسًا لها.

أما الأيديولوجية الثانية، فهي فكرة (القومية العربية)، أو ما ندعوه بـ (الجامعة العربية)، فقد بدأت في الظهور في منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، وقد تبلورت تمامًا في مطلع القرن العشرين. ومن المعروف أن هذه الفكرة قد عبرت في بادئ أمرها عن رفض التتريك والعثمنة. وقد ترافق مع ذلك بزوغ (وعي قومي عربي بالذات) كشف إحساس العرب بالتمايز عن الأتراك المقترن بضرب من الاعتزاز بالماضي الإمبراطوري للعرب استنبطوا منه -خطًا- إمكان بعث أمجاد هذا الماضي بما فيه من سطوة وهيمنة.

ومن هنا نشأت فكرة (البعث) بكل تأكيد. فكما أن الموتى لا يبعثون من قبورهم، فكذلك هو الأمر لبعث الأمم وما أبدعته من حضارات وثقافات.

فإبان عصر النهضة في أوروبا لم يخطر لأي مثقف أوروبي أن يكون بعث بعض التقاليد اليونانية والرومانية في الفن والأدب وبعض صور الحياة أن يعني عودة (أثينا) أو (روما) إلى الحياة من جديد. كل ما حدث هو أن ما جرت استعادته أو بعثه سرعان ما جرى تجاوزه في فن جديد، وفي أدب مستحدث، وفي علم غير مسبوق أسس لظهور (عقلانية جديدة) سمحت بإنتاج رؤية جديدة للكون والطبيعة والإنسان مستقلة الاستقلال كله عن الرؤية اللاهوتية للعصور الوسطى.

وبعكس ما حدث في عصر النهضة الأوروبي ظل العصب الحي في أيديولوجيا القومية العربية متمركزًا في فكرة البعث والإحياء: بعث الماضي، وإحياء ما اقترن به من أمجاد. وهذا ما يفسر اهتمام فلاسفة القومية العربية بفكرة المقومات، وهي جملة العناصر المستمدة من الماضي من مثل اللغة والتاريخ المشترك. بل إن أحد هؤلاء الفلاسفة قد مضى إلى تصور الأمة العربية بوصفها (كيانًا رحمانيًا روحيًا) تخبو جذوته، ولكنها لا تنطفئ أبدًا. وذلك لأنها قابلة للاشتعال والانبعاث في أي وقت تتوافر فيه العناصر الروحية الدافعة لإيقاد هذه الجذوة من جديد.

وما يدعو إلى العجب أن تغيب فكرة (المصلحة) -الفردية والجماعية- في أيديولوجيا سياسية تريد أن تغير الواقع ببعث أفضل ما استطاع العرب إنجازه في يوم من الأيام. وافتقرت هذه الأيديولوجية إلى مفهوم حداثي عن الإنسان لحساب رؤية تقليدية عنه. زد على ذلك غياب أي تصور عن التنمية البشرية، وحل محلها محض تصور مادي عن الاقتصاد. والأعجب من ذلك كله أن تكون الوصفة الوحيدة التي يمكن للعرب استخدامها في حل مشكلاتهم، وعلى رأسها تحرير فلسطين هي فكرة الوحدة. وبذلك أصبح كل شيء معلقًا على توحيد العالم العربي، ما أدى إلى غياب مفهوم (الدولة) وبروز مفهوم (القطر) عوضًا عن ذلك. وهكذا تحولت الكيانات العربية إلى أقطار تنتظر التوحيد بدلًا  من أن يتحول كل منها إلى دولة. وبذلك شعر الجميع براحة الضمير تجاه التمزق والهزائم التي تسبب بها جنرالات الأقطار العربية الذين وضعوا أيديهم على أهم ثلاثة مراكز أو أقطار عربية. وباسم الوحدة العربية دمروا الشروط الضرورية كلها لقيام الديمقراطية، ومجتمع العدالة، وحقوق الإنسان. ومن ثم كانت الكوارث التي دفعوا بنا إليها حروبًا أهلية وصراعات طائفية وعشائرية في الداخل، وهزائم لا حصر لها في الخارج.

والسؤال الذي لا بد من طرحه هو: هل ثمة سبيل اليوم إلى وصف (الفكرة العربية) بالقدرة على توفير الشروط التي تسمح لنا أن نصفها بأنها (وعي مطابق)؟ وهل تستطيع هذه الفكرة الإجابة عن الأسئلة المطروحة على الشعوب التي تحيا في هذه المنطقة من العالم على سبل الخروج مما تعانيه من تمزقات وطنية، وحروب أهلية، ودكتاتوريات عسكرية، وإخفاقات تنموية واقتصادية، ومن تعددية إثنية ودينية، ومن تنوع طائفي حتى داخل الدين الواحد؟ هل يمكن لنا بالاعتماد عليها أن نرسي قواعد جديدة للحياة تضمن وحدة البلد الواحد، وترسي الأمن فيه، وتعيد اللحمة بين مكوناته البشرية والثقافية والدينية، وأن تنسج علاقات مع القوى الإقليمية والدولية تتسم بشيء من الاستقرار يغني المكونات المتعددة عن التحالفات مع هذه القوة الإقليمية أو الدولية؟ هل تستطيع هذه الفكرة أن تقدم مشروعًا لا يتجاهل المكونات غير العربية والديانات غير الإسلامية والطوائف غير السنية في سورية على سبيل المثال؟.

يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد أن تكون بالنفي، وهذا ما يفتح الباب للقول: إنها لم تعد تقدم (وعيًا مطابقًا) للوقائع. فهي تفترض أن الماضي يتكرر، وهذا تصور زائف. ثم إنها -في الحقيقة- صورة من صور (الجامعة الإسلامية) ما دامت الفكرة العربية لا تتطلع إلى شيء، في نهاية المطاف، إلا إلى تحقيق (الرسالة الخالدة) للأمة العربية. وهذا هو الجوهر المشترك بين الجامعتين الإسلامية والعربية.

رابعًا: الجامعة السورية: الوظيفة والماهية

في ضوء ما تقدم، ألا ينبغي البحث عن (فكرة جامعة) جديدة على الأقل بالنسبة (إلى الوطن السوري) الذي يمتد جغرافيًا بين درعا جنوبًا والقامشلي شمالًا، وبين البحر الأبيض المتوسط غربًا والحدود العراقية شرقًا!

وما يسوّغ هذا المسعى هو أن ثمة ضروبًا من العناصر الأيديولوجية الجديدة آخذة في التكون والتبلور استجابة للتحديات الجديدة الناجمة عما يعصف بالإقليم كله من دمار وخراب وحروب همجية تغذيها المصالح الإقليمية، وتحاول القوى الدولية أن تحتفظ بالهيمنة على المشهد بأكمله.

وبناءً على ذلك كله، ألا يحق لنا -نحن السوريين- أن ننخرط في إنتاج أفكار من شأنها أن ترسم سبل العيش المشترك المفضي إلى مستقبل يتسم بالاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية المستدامة في الصعد كلها؟

ليس هذا من حقنا فحسب، بل إن فعله يرقى إلى درجة الواجب. والشروع في ذلك مشروط بقدر كبير من الشجاعة، لنتمكن من التفكير النظري والفلسفي الذي يستبعد -موقتًا- دور الفاعلين الإقليميين والدوليين في مجرى ما يحدث اليوم في سورية. على أن هذا الاستبعاد (الفرضي والموقت) لدور الفاعلين الإقليميين والدوليين لا بد من العودة إليه، ومناقشته بكل تأكيد في الوقت الملائم.

وفي الإجابة عن السؤال: ما (الجامعة السورية) التي سيدور الحديث عنها ههنا؟ نقول: الجامعة السورية محاولة لاكتشاف صورة من صور (الوعي المطابق) مصوغ في إطار أيديولوجي، ما يزال محتاجًا إلى التطوير والتوسيع والتطبيق، وإلى أن يجري التوافق حوله من المكونات السورية شتى، وذلك بقصد الانتقال من (الأيديولوجيات الإمبراطورية) -سواء اتخذت صورة الجامعة الإسلامية أم الجامعة العربية- إلى (أيديولوجيا وطنية)، أو إلى ما نفضل التعبير عنه (بالجامعة السورية) التي نحاول من خلالها -بوصفنا سوريين- أن نبني بلدًا، وأن ننتج وطنًا موحدًا قويًا وعادلًا ومنصفًا، وفي إمكانه توحيد أبنائه جميعهم، بإثنياتهم المختلفة، ودياناتهم المتنوعة، وطوائفهم المتباينة.

هذه هي الماهية العامة لفكرتنا عن (الجامعة السورية). إنها مشروع أيديولوجي يستهدف تنمية (الوعي السوري) بذاته بوصفه (وعيًا وطنيًا) يجمع بين العرب والكرد والسريان والأشوريين والتركمان والأرمن والشركس وغيرهم. ثم إنه لا يستهدف التقريب بين الإثنيات واحترامها فحسب، بصرف النظر عن حجمها -كبرًا وصغرًا- بل التقريب أيضًا بين المنتسبين إلى الديانات والطوائف السورية جميعها، من دون أن تكون (الجامعة السورية) معنية بمناقشة أي من الجوانب العقائدية والإيمانية التي تخص أي دين أو طائفة. كل ما تستهدفه الجامعة السورية هو تسهيل الحوار، وجعله ممكنًا بين المنتسبين إليها، مع الأخذ بالحسبان أن مصلحة أي سوري اليوم -مهما كانت الإثنية التي ينتسب إليها أو الديانة التي يتبعها- العثور على وسائل الحوار والتواصل التي تمكن من بناء وطن واحد وجامع والعيش في كنفه بسلام. ومن شأن ذلك أن يمكن الجميع من العمل على خلق أفضل الأحوال المنتجة للتنمية البشرية المستدامة، التي تتخذ من الإنسان الفرد، بحد ذاته، هدفًا لها. وجلي أنه لا سبيل إلى تحقق هذا الهدف إلا بتوفير الشروط الضرورية لاحترام الشخصية البشرية والكرامة الإنسانية لكل فرد بوصفه شخصية حرة، حقه في النقد والانتقاد لا يحده حد، على افتراض أن الحرية ذاتها لاحد لها إلا الحرية، ولا شيء غير الحرية.

ومن ذلك يستبين أن مهمة الجامعة السورية التصدي لمجموعة من المهمات هي ذاتها التي تؤلف مضمون هذه الجامعة. وقبل أن نجمل هذه المهمات من واجبنا أن نبين أنه ليس ثمة علاقة أو رابطة من أي نوع بين تصورات (أنطون سعادة) لسورية الكبرى أو الهلال الخصيب وما تتطلع إلى إنجازه الجامعة السورية من أهداف سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية وروحية وقانونية وإنسانية، وهي العناصر التي يتطلع إليها هذا المشروع. ولذا ننبه إلى أن من شروط استقبال الذهن لهذا المفهوم -أولًا  وقبل كل شيء- الانصراف تمامًا عن الأفكار التي يروج لها (الحزب السوري القومي الاجتماعي). فتفكيرنا هنا مركز تمامًا على سورية (الوطن الصغير) الذي تركه لنا سايكس – بيكو. ومشروعنا هذا يتطلع إلى الانخراط في محاولة جديدة لبناء هذا الوطن بعد أن دمره الاستبداد السياسي بحكمه المديد مرات ومرات. وليس الدمار الذي ألحقه نظام الأسد الابن بالوطن السوري في رد فعله على ثورة الكرامة والحرية، إلا الصورة الأخيرة من صور تدمير الإنسان وتحطيم الأوطان.

ولعرض مضمون ما نعنيه بالجامعة السورية، علينا بادئ ذي بدء أن نبين أن المفهومات الرئيسة المكونة لتصورنا عنها تنطوي على ازدواج واضح يجمع بين المفهوم أو الماهية المكونة لهذا التصور والإجراءات والعمليات التي لا تتحقق هذه الماهية إلا بها. بعبارة أخرى، نحن في مواجهة مفهومات عامة تنطوي على تعريفاتها الإجرائية ولو بصورة إجمالية. والخلاصة هي أن المفهومات المستخدمة في بناء مفهوم الجامعة السورية هي نفسها ما ينبغي فضه بالتعينات التاريخية لهذه المفهومات.

ومن الممكن عرض المفهومات التي أشرنا إليها على النحو الآتي:

  1. إرادة العيش المشترك: وهنا يجب الانطلاق من المصالح المتبادلة والمتكاملة بين مكونات الشعب السوري جميعها. هي القاعدة التي تضمن وحدة هذه المكونات وتفاعلها المفضي إلى إنتاج كيان سياسي واجتماعي وأخلاقي وروحي متجاوز لما يتصف به كل مكون بصورة منفردة. وهذا الكيان هو (الجمهورية السورية). والجولان جزء لا يتجزأ من هذه الجمهورية.
  2. الجامعة السورية مفهموم جيوستراتيجي: وظيفة هذا المفهوم حفظ وحدة الأراضي السورية الواقعة بين درعا جنوبًا والقامشلي شمالًا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربًا حتى آخر نقطة جغرافية واقعة على الحدود السورية العراقية شرقًا. والجولان أرض سورية يجب العمل بالوسائل كلها ليكون تحت السيادة السورية من جديد.

  3. وحدة الأراضي السورية: ينص مفهوم (الجامعة السورية) صراحة، على أن كل شبر من الأرض السورية هو ملك للسوريين جميعهم، ومن ثمة فإنه ليس من حق أي مكون من المكونات السورية الانفراد بالادعاء بأن هذا الجزء أو ذاك من الأراضي السورية تعود ملكيته إليه وحده من دون بقية السوريين. فدمشق للسوريين كلهم وليست للعرب أو لسكانها مهما كانت المكونات التي ينتمون إليها. وكذا الأمر بالنسبة إلى اللاذقية وحلب والقاملشي والأراضي السورية كلها. فهذه الأراضي تشكل وحدة واحدة غير قابلة للتقسيم أو التجزئة تحت أي سبب أو مسمى.

  4. الجامعة السورية رؤية أيديولوجية: من مهماتها الاضطلاع بوظيفة تقديم الأسس والمسوغات التي تسمح للمكونات السورية جميعها بالتعرف إلى أنفسها بوصفها مكونات ذات خصائص معينة من الناحية الثقافية من جهة، ولكنها من جهة أخرى تهيئ الشروط الضرورية لخلق الوحدة السياسية  في ما بين هذه العناصر البشرية المكونة للجمهورية السورية.

  5. المواطنة: مبدأ المواطنة المتساوية الذي ستقوم عليه الجمهورية السورية الجديدة، هو الضامن لتمتع السوريين كافة بحقوق متساوية، سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًا وثقافيًا.

  6. العلمانية: والعلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة مبدأ مكمل وضامن وموجه للحياة السياسية والعلاقات المدنية بين الأفراد في حياتهم الشخصية ومعاملاتهم القانونية.

  7. حرية العمل السياسي: الجامعة السورية مفهوم يضمن حرية العمل السياسي للأفراد والأحزاب المرخصة قانونيًا في أراضي الجمهورية السورية كلها. وهذا يعني أن من حق أي حزب سياسي أن تكون الجغرافيا السورية بأكملها ميدانًا لنشاطه، شرط ألا تتخذ الأحزاب طابعًا إثنيًا أو دينيًا.

  8. مسألة الأقليات: من شأن المبادئ السابقة أن تجعل مفهوم (الجامعة السورية) مفهومًا قادرًا على التعامل مع مسألة الأقليات السورية الدينية والإثنية. فبمقتضى هذا المفهوم يصبح السوريون جميعهم أكثرية أو أكثريات. فالفكرة الموجهة لهذه الجامعة هي التوازن في ما بين المصالح، مصالح الأفراد ومصالح المكونات. وبمقتضى ذلك لا يتخذ أي قرار إلا بالاستناد إلى صورة من صور إجماع ممثلي المكونات السورية جميعها في المجالس التمثيلية والتشريعية.

  9. الحرية الشخصية: الحرية الشخصية وحرية الضمير والاعتقاد أحد المبادئ الجوهرية للجامعة السورية. والسوريون  بوصفهم أفرادًا متساوون في امتلاك هذا الحق وممارسته. ومن ثم لا يحق لأحد أن يفرض أفكاره أو معتقداته على الغير مستخدمًا أي صورة من صور الإكراه أو الضغط أو العنف، حتى إن بدت بعض الأفكار سامية ومقدسة في نظر أولئك الذين يسعون لفرضها بطرائق لا تنسجم مع القوانين الضامنة لحرية الاعتقاد والضمير.

  10.  حرية التعبير: ومن المبادئ الرئيسة التي تعلي الجامعة السورية من شأنها حرية التعبير السياسي، من خلال الحياة الحزبية والكتابة الصحافية في وسائل الإعلام والاتصال شتى. يضاف إلى ذلك حرية التعبير الثقافي واستخدام اللغة التي تخص هذا المكون السوري أو ذاك. وفي هذا الإطار يحق لكل مكون سوري استخدام لغته في التعليم والإعلام فوق أرض الجمهورية السورية بأكملها في حدود القانون.

    تلكم هي أهم الأفكار والمبادئ والمفهومات الناظمة لتصورنا عن الجامعة السورية. ونعتقد بإخلاص وصدق أن هذا المفهوم ينطوي على قدر كبير من الاتساق مع روح العصر والانسجام مع متطلبات الحياة الديمقراطية ومراعاة المبادئ الأساس لحقوق الإنسان. ولهذه الأسباب مجتمعة فهو مفهوم من الممكن وصفه بأنه (وعي متطابق) -أو على الأقل أقرب ما يمكن إلى المطابقة- مع جملة الوقائع التي تعصف اليوم بالوطن السوري. نعني بذلك أن هذا المفهوم يستجيب -بصورة بناءة- للمقتضيات الرئيسة التي تسمح للسوريين، إن حققوا نوعًا من الإجماع عليها، الشروع في مناقشة أهم هذه المشكلات والعمل بدأب وصبر على إيجاد الحلول الملائمة لما ألمّ بالوطن السوري. سيظل بناء أي نوع من الإجماع شرطًا ضروريًا لمواجهة مقتضيات المراحل المقبلة من أزمات الوطن السوري وما أكثرها.

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

ربما هي مصادفة سعيدة بتزامن يوم المرأة العالمي مع عيد الأم في شهرٍ واحد هو شهر آذار (مارس). لكن بسبب تفاصيل الحرب اليومية يغدو معنى كلمة عيد أو يومٍ خاصٍ للنساء ترفاً ممجوجاً ومدعاةً للكوميديا السوداء، ويصير سؤال النساء عن رغباتهن أو انطباعاتهن في هاتين المناسبتين مجرّد كلامٍ فارغٍ دون أي مضمون، ،وهذراً كلامياً لا مبرر له ولا من مستعدٍ حتى لخوض غمار التفاعل معه والإجابة عن تلك الأسئلة. إن كان البعض يحيل هذين اليومين لمناسبة تذكيرية بالهموم والنواقص والانفعالات العاطفية إلا أنّ الطابع العام هو مجرد اجترار لهمومٍ تئن دونما سعي لتدبيرها واستهلاكٍ للدموع لا راد له وزهورٍ وورودٍ على الشاشة الزرقاء أو شاشة الجوال وهدايا ترهق الجيوب ولا تُفرح القلوب.

“أم نشأت” سيدة خمسينية تعيش في الحديقة. قد توحي كلمة حديقة بوجود مساحة خضراء وارفة الظلال وفيرة المياه والمقاعد، لكنها هنا مجرد أرض جرداء بلا شجر أو عشب طري، مقاعدها مجرد بقايا مفصلاتٍ معدنية مغروزة في الأرض الجرداء. سألتها عن أمنياتها فقالت: “لا أمنيات، مجرد حاجات، أن أعود لبيتي، أن أستحم بماءٍ نظيف وحمامٍ مغلقٍ، أن أنعم بملابس نظيفة ودافئة بعد الاستحمام، أن أشرب قهوتي على شرفتي الصغيرة وأن ألقي تحية الصباح على جيراني وأهل حارتي.”

كانت “أم نشأت” قد قالت لي سابقاً في أول يومِ في السنة الجديدة وفور معايدتي وأمنياتي لها بسنة أفضل: “ليش قديش اليوم بالشهر نحنا وبأي سنة ؟” قالت لي يومها: “لو كان لدي مجرد حائطٍ صغيرٍ أعلق عليه تقويماً للأيام وساعةً جداريةً لكنتُ  فهمتُ عليك ورددت المعايدة بأحسن منها!”

في اللامكان الذي يصير بيتك واللازمان الذي يصير عالمك  نحن لا شيء أيضاً.

***

في مراكز الإيواء والحدائق والبيوت المشتركة التي تضم عائلاتٍ عديدةٍ يتحول الجنس إلى كابوس وتصبح العلاقات الزوجية مسرحاً للانتقام. “غالية” سيدة متزوجة تزوج زوجها الشهم بامرأة ثانية، ويعيشون في أحد مراكز الإيواء. بترتيب ٍغريزيٍ وبقرارٍ تحت إلحاح الحاجة تقرر النسوة تخصيص أحد الحمامات للعلاقات الجنسية، يبدو الأمر هنا تحايلاً عبقرياً على التشرد والحرمان، لكنه يترتب على غالية أن تكون الحارس الأمين لزوجها وضرّتها أثناء ممارستهما للعلاقة الزوجية. تخيلوا غالية تقف على باب الحمام والاضطهاد العاطفي يصفعها بعدد اللحظات خاصة بعد أن تخلى زوجها عن معاشرتها لصالح الزوجة الأصغر سناً والأجمل والأحدث. وكأن الزوجتين مجرد طنجرة يُفضل استخدام الأحدث حرصاً على جودة الطعام ومنظره، تشييئٌ دونيٌ تتآمر فيه الحرب وظروفها والقوانين التمييزية وهمجيتها والعادات ووحشيتها وذلها.

***

تحاول سمر جاهدةً تأمين موافقة على وصايتها على طفلتيها لأن زوجها مفقودٌ ووالد الزوج بعيدٌ جغرافياً وأشقاء الزوج في ألمانيا. تريد سمر التصرف في بيت الزوجية وتأجيره لتأمين دخلٍ يعيلها مع ابنتيها الصغيرتين.

أمّا غادة فقد استلمت قرار زوجها بتطليقها عبر وكيلٍ قانوني هو زوج أخته، وزوج غادة في هولندا وقد تزوج بسيدة سورية من حلب تعيش هناك. يبدو قرار الزوج تطليق زوجته إيجابياً فهو يمنح غادة هنا حريتها ويفك وثاقها من ارتباط ٍعلى الورق، لكنه يُجبر غادة باعتبارها مطلّقة ترك منزل الزوجية هي وأطفالها الثلاثة ولتذهب إلى الجحيم، خاصةُ أنها لا تعمل وأهلها  يعيشون في بيتٍ مستأجر يقطنه سبعة عشر شخصاً، والنفقة في أحسن الأحوال لا تتجاوز العشرة آلاف عدا عن الإجراءات المعقدة لرفع الدعوى ووجود الزوج في الخارج وغيرها من التعقيدات البيروقراطية.

***

تحولت شذا ما بين ليلة وضحاها إلى معيلةٍ لأسرتها، لوالدتها المصابة بالسكري ولأبيها الضرير ولشقيقاتها اليافعات وأبناء أختها الكبرى التي أصبحت أرملة فجأة. مقابل بنطال جينز لأختها التي لم يتبق لديها ما يستر جسدها، وافقت شذا على ممارسة الجنس مع صاحب محل بيع الألبسة الجاهزة الذي تعمل لديه. وكرّت سبحة بناطلين الجينز والبيجامات والأحذية وأسطوانة الغاز وتكاليف الدواء وأجرة البيت وملابس المدرسة والكتب والدفاتر، وهكذا تحولت شذا لإحدى ممتلكات صاحب المحل الذي خصص مكانا ضيقا في المستودع لمعاشرتها كما يشاء مقابل الإنفاق دونما حماية أو أدنى اعتراف، بل إن  تسميعات الجوار من أصحاب المحال والزبائن جعلت من شذا عاهرة يحاول الجميع النيل منها بذريعة أنها رخيصة ولا مانع لديها من معاشرة أي كان مقابل منفعة مادية.

***

سميرة سيدة خمسينية سافر زوجها وولداها إلى النمسا فباتت وحيدة ومهجورة مصابة بمرض ارتفاع الضغط.  تقطن سميرة في شقة في الطابق الثاني عشر من برجٍ سكني، وذات يوم اكتشفت نفاذ أدويتها بينما كانت الكهرباء مقطوعة والصيدليات في عطلتها الأسبوعية فماتت من الخوف إثر نوبة قلبية نفسية المنشأ من شدة الذعر. كان بوسعها البقاء حيةً أياماً دونما دواء خفض الضغط لكن توترها ووحدتها وغياب من يرعاها أو يتطوع لمتابعة أدويتها مرةً بالأسبوع أودوا بحياتها في لحظةٍ موجعةٍ، ولو توفر لها أي مقوّم من المتابعة أو المسؤولية أو الشراكة، لكانت قد بقيت على قيد الحياة تنتظر ورقة لم الشمل لتلتحق بعائلتها. ولابدّ من  الإشارة هنا إلى أن عدة سيدات أعرفهن قد قمن بخطوةٍ غريبةٍ وحديثة العهد على المجتمع السوري، خطوةٌ صفق لها الكثيرون والكثيرات واعتبروها حلا مثالياً لتوابع وحدتهم/ن، وهي قيامهن ببيع البيوت التي يسكنونها ويملكونها ووضع قيمتها في المصرف والإقامة في أحد المآوي المأجورة التي تتبع للكنيسة مقابل الإقامة والمتابعة الصحية والتنظيف، أي عناية كاملة مع حق استقبال الضيوف وحرية الحركة خارج وداخل المأوى المذكور.

وتبدو الشكوى الأكثر إيلاماً هي حياة الأبناء، موتهم غير المعلن إلا باتصال هاتفي، تغيبهم الطويل دونما خبر أو زيارة أو معلومة، استقبالهم بكفن أو من دونه والتكتم على أمراضهم النفسية جراء الاختباء  الطويل أو الشدات النفسية جراء التهديد أو الفصل من العمل أو ضياع مصادر الرزق أو تضرر أجسادهم بقذائف أو رصاص طائش لا يوجد من يردعه أو يحاسب أو يعوض عن نتائجه المرة.

***

في الحرب اسأل النساء وحدهن عنها، على وجوههن تمر شظايا الخيبات والفقد والرحيل وعلى أجسادهن تسجل علامات الانتقام والانكسارات والعقوبات والانهزامات، هن مرآة الحرب وهن خلاصة القول وبلاغة الخسارات. في قلوبهن أسئلة بلا أجوبة وانتظارٌ يطول يميت جذوة الحياة قبل ترنح أجسادهن في مهاوي الترمل والطلاق والفقدان والجوع والمذلة والتنميط والتهميش والاغتصاب والمتاجرة بعواطفهن وأمومتهن وأجسادهن وحقوقهن الأساسية. في الحرب تصبح الأعياد مجرد نهشٍ للروح وضرباتٍ صارخة للتذكير بفداحة الجروح والنواقص وبسطوة الغياب والتغييب.

للسوريات القابضات على الجمر، المنتظرات ظلال الأمل وقرارا بوقف الحرب، كنّ بخير يا غاليات. لنكون وسورية  بخير.

هنا دمشق

الثامن من آذار 2018

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

همّشتْ الحرب الدائرة المثقفين السوريين وأنواع الفنون الثقافية، وحُرم الكتاب والمثقفون المقيمون في الداخل، رغم ظروف الحرب، من المشاركة في المهرجانات والمعارض  والأنشطة الثقافية العربية. كانت القطيعة داخلية وخارجية، وقد أدت إلى حرمان الجمهور من الاطلاع على كافة الإصدارات الجديدة من كتب ومجلات كانت تأتي إلى العاصمة السورية بشكل دوري قبل الحرب. واليوم نجد أنفسنا أسرى العالم الإلكتروني – في الأوقات التي تأتي فيها الكهرباء – باحثين عن كتاب أو مجلة أو صحيفة لنطلع من خلالها على ما يدور من أحداث ونتاج ثقافي لم يعد يصل إلينا كمنشورات ورقية.

المقاهي تعود جزئياً

عاد لبعض المقاهي الدمشقية ألقها وتحولت إلى مواقع للتواصل الاجتماعي بعد أن هجرها الكثير من المثقفين صوب العالم الافتراضي. تجد غالبية المهتمين من روائيين وكتاب يحرصون على تواجدهم في المقاهي الشعبية للمشاركة بحوارات وندوات ارتجالية للبحث في ظاهرة أو النقاش حول إصدار جديد رغم أن أبرز ما يسيطر على الجلسات هو الوضع الأمني والتطورات السياسية، لكن أغلب المثقفين يغيبون عن فعاليات ثقافية منظمة تطلقها المؤسسات الرسمية، وهي لم تخرج عن شكل الصالونات الثقافية التي كانت منتشرة في سورية قبل عقود، لكن من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق على المواضيع التي ستطرح أو تناقش أثناء هذه الجلسات الودية والتي نادرا ما تصل إلى سبعة أفراد.

إعادة تدوير

المطالعة على ضوء الشموع في ساعات الليل هي ما يميز ليالي المثقفين السوريين، كثير منهم عاد لقراءة كتب كان قد قرأها سابقاً، أو قراءة كتب مركونة في مكتبته المنزلية ولم يسمح له الوقت للاطلاع عليها في زمن الكهرباء والتواصل الاجتماعي، حتى زمن الكتابة على الورق عاد وفرض نفسه بقوة. ولم يعد البعض يرزح تحت رحمة التيار الكهربائي، المهم أن لا يتوقف عن الفعل.

هناك قسم كبير من المثقفين بدأ يرتاد مكتبات الرصيف للبحث عن كتب قديمة أو كتب ترفض المكتبات وضعها على رفوفها ليطفئ عطشه الثقافي، إعادة تدوير ثقافية لصحف ومجلات صادرة في عشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم.

ورغم الكثير من العراقيل هناك من يصر على إنشاء حركة ثقافية ولو على الصعيد المحلي، القاص خضر الماغوط قال: “ما زلنا نتابع الحياة الثقافية والأدبية، عن طريق الندوات والمحاضرات والملتقيات الخاصة التي أحدثتها الحرب في العديد من المناطق السورية، غير خاضعين للظروف القاهرة والصعبة التي تصادفنا،” مؤكدا على “أن المقاطعة الدولية والعربية المفروضة على سورية لم تكن مقاطعة اقتصادية فقط، بل هي مقاطعة لكل نواحي الحياة بما فيها الثقافية، فلم يعد يصل من دور النشر الخارجية إلى سورية كتب، مجلات، صحف، دوريات أو حتى تبادل للوفود الثقافية بين سوريا والعالم الخارجي. تُوجه إلينا دعوات لمهرجانات الرواية والقصة من قبل المنظمين في الدول العربية، لكن السياسة تحرمنا من المشاركة ولا تمنحنا سمة دخول.”

يضيف أن المكتبات وأكشاك بيع الصحف أصبحت خاوية تماماً من كل ما هو جديد. وبالطبع افتقدنا جميعاً إلى الكثير من الصحف والمجلات التي كنا نتابعها وفقدناها فجأة، وكان من الممكن أن يحدث تصحر ثقافي بالكامل لولا وجود الكتب والجرائد والمجلات الورقية بما يعادلها من النسخ الإلكترونية عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأغلبية من المهتمين رغم بعض الصعوبات أحياناً.

هناك دوريات ليس لها مواقع على الشبكة العنكبوتية، وأخرى لا تزود مواقعها إلا بعناوين الموضوعات،  إضافة إلى قلة عدد الصحف والمجلات السورية، حتى الصحف التي تصدر غاب عنها زوايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لسببين، أولهما أن الجريدة الرسمية تخصص أغلب صفحاتها لمواضيع تخص الحرب والصراع في المنطقة، وغابت عنها الصفحات الثقافية، إلا في ما ندر، أما الصحف والمجلات الخاصة فنجدها جنحت إلى الاهتمام بالدعاية والإعلان التجاري، أضف إلى ذلك الشللية والعلاقات الخاصة، فلا يجد الكاتب مكاناً له طالما هو بعيد عن الشلل واللوبيات الثقافية، هذا ما يحدث أيضا في الجرائد والمجلات الحكومية، التصحر موجود في العلاقات بين المثقف والصحف المحلية، أكثر مما هو ناتج عن غياب الصحف والمجلات الخارجية، لكن رغم الإمكانيات البسيطة والثقافة والوعي، استطعنا  تجاوز المعوقات التي تسعى إلى توقف حياتنا الاجتماعية والفنية والثقافية وما زال هناك وسائل لاستمرار الحياة الثقافية، رغم قساوة الظروف التي خلقتها الحرب وتخلقها في كل لحظة.

الشاعرة عبير سليمان تؤكد على استمرار علاقتها مع الكتاب رغم أنها فوضوية نوعا ما: “قبل الحرب كنت أحرص على اقتناء الإصدارات الجديدة وأثابر على القراءة، أثناء الحرب أقرأ مجموعة من الكتب وبشكل عشوائي من غير أن أنتهي من قراءتها أنهيت بعضها فقط، الكتب التي أحرص على قراءتها وأنتهي منها في يوم واحد كتب الشعر ربما لأنها الأقرب وجدانيا.”

أما فيما يخص دور النشر الخارجية لم يعد يصلنا الجديد، أحيانا نستطيع الاطلاع على النسخ الإلكترونية للأصدقاء خارج سورية، أما الكتب الأخرى فنعرف عنها من خلال ما تكتب عنه الصحافة. في سورية دور النشر مستمرة وثمة أزمة إعلانية، لا أحد يلقي الضوء على الأسماء والإصدارات الجديدة، ودور وزارة الثقافة خجول بالنسبة للكتاب كما النشاطات الأدبية شبه المعدومة، ولولا التواصل الافتراضي بين الكتاب والشعراء لاعتقدنا أن أنواع الأدب أصابتها قذيفة ولفظت أنفاسها الأخيرة.

الكاتب والفنان التشكيلي أيمن الدقر قال: “لا أعتقد أن التصحر الثقافي بسبب الحرب، التصحر قائم أصلا عند معظم الناس. لا أعتقد أن هناك عائلة سورية لا تمتلك مكتبة منزلية، وهناك مكتبات تزخر بكتب مهمة وعشرات الكتب التي تحمل توقيع مؤلفها وأجزم أن أحدا منهم لم يقرأ إلا صفحة الإهداء.” لكن بشكل خاص وإن كنا نريد الحديث عن النخبة أو القارئ الحقيقي، أعتقد أن أغلب ما كان يرد من مجلات لا يستحق القراءة أما الكتب فهناك ما يستحق المطالعة والاقتناء، غير أن غالبية الدوريات التي كانت تصل ورقية كالصحف حجزت لها مكانا على صفحات الانترنت، ومن يريد فعلا أن يقرأ ويتطلع إليها يستطيع ذلك بسهولة باستثناء القليل ممن لم يتصالحوا مع التطور التكنولوجي وما يزالون يستخدمون القرطاس والقلم جازماً أن أسباب التصحر الحقيقية بدأت قبل الحرب. يسأل: “أين كتب الطفل ومجلات الأطفال واليافعين؟.” الطفل استبدل الكتاب بجهاز خليوي وألعاب إلكترونية، مع تطور عالم الميديا والقنوات الفضائية التي تعمل على خلق ثقافة جديدة أرهقت الإنسان العربي وجعلته غير قادر على تنمية ميوله الثقافية وتركته رهينة القلق والخوف من المستقبل.

من جسر فكتوريا إلى جسر جورج واشنطن

عمار شاهين صاحب بسطة لبيع الكتب، قال لنا: “بالطبع هناك مشكلة بالنسبة للإصدارات الجديدة التي لم يعد يصل أغلبها، لكن ذلك لم يؤثر بشكل كبير، هناك آلاف الكتب المهمة التي تستحق القراءة ولم تطلع عليها الأجيال الجديدة، وهي موجودة لدينا بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي تصدر وغير مهمة.” ويرى شاهين أن الكتب القديمة والمجلات مضامينها أهم بكثير مما فقدناه من الكتب والمجلات الحديثة التي لم تعد تصل أثناء الحرب، مضيفا: “هل يمكن مقارنة مجلة شعر أو الآداب بالمجلات الثقافية التي كانت تأتي من الخليج وكتب التنفيعات. كنا دائما نرفض شراءها ووضعها ضمن مجموعتنا، حتى الإصدارات القديمة من المجلات السورية – مجلة المعرفة – أهم بكثير من الأعداد الجديدة التي تصدر اليوم من المجلة ذاتها، لدينا الكثير الكثير من أمهات الكتب القيمة التي لا يمكنك أن تجدها أصلا في أشهر المكتبات السورية، لكن ما زال البعض يتعامل مع مكتبة الرصيف بتعالٍ خاصة، ولم تهتم الحكومات بمكتبات الرصيف وتمنحها أكشاكاً خاصة بها كما منحت بعض المهن اليدوية وبائعي السجائر.

عادل صاحب بسطة صغيرة في مدخل بناء يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والمجلات، لكنه اليوم يضع كتباً قديمة ومجلات قديمة نادرا ما يجد راغبا لها. يقول: “اليوم يعرض علينا كتب ومجموعات أكثر مما يطلب منا، أكثر من شخص طلب مني أن أبيع له مجموعات أدبية، وموسوعات كان اقتناها في زمن الرخاء، اليوم رغم ارتفاع سعر الورق والتجليد الفني سعر تلك المجموعات أقل لكن لا أحد يقبل أن يقتنيها، المهتمون بالكتاب والثقافة لا يملكون المال، وأصحاب الأموال لا يعنيهم إلا المجلات الفنية وأخبار الموضة،” نعم هناك جفاف وتصحر و”تقحل” حسب تعبيره.

أبو مهيار الميداني لديه عروض للكتب المستعملة، لكن الكتب القيمة مغلفة يضعها جانبا في صناديق كرتونية، مجلات مسرحية وسينمائية تعود إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر، مجلدات ضخمة، أعداد قديمة جدا لمجلات مصرية ولبنانية، جهة مخصصة للكتب الصادرة عن دور نشر عراقية، للوهلة الأولى تعتقد أنه مجرد بائع “كومسيون” يشتري ويبيع الكتب المستعملة، لكن ما إن تبدأ الحديث معه حتى تجده يكبر ويكبر حتى يملأ الفراغ تحت جسر فكتوريا. يكاد رأسه يوازي الجسر، تكتشف أنه ليس مجرد بائع أو مطلع يرشدك إلى الكتب المهمة، يقدم شرحا وافياً عن كل كتاب، حتى الكتب غير الموجودة لديه يقدم لمحة عن المؤلف وأهم ما صدر له بما فيها الكتب المترجمة، تكتشف لا حقا أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول: “ما تشاهده عندي مجرد جزء مما كنت أملكه من الكتب، المكتبة التي فقدتها مع منزلي وابني المخطوف في حي “عين ترما” كانت تضم خمسة عشرة ألف كتاب وكلها كتب مهمة، سأبيع ما بقي لدي من كتب وأهاجر إلى أمريكا، لدي موافقة من قبل الحرب لكن لم أسافر، اليوم لم أعد أملك إلا القليل من الكتب.

دور النشر والمكتبات

بعض الدور لا تصدر عنواناً واحداً في العام، وبعضها تعيد طباعة ما نشرته سابقاً. الدور العلمانية وبعض الدور الدينية ما زالت تحافظ على نشر كتب جديدة، الكل يحاول الحفاظ على وجوده رغم المتغيرات السياسية، وكثيرة هي العناوين التي يعاد نشرها، أو تقوم بعض الدور بطباعتها على نفقتها الخاصة إكمالا لمشروعها  غير المعلن. بالمقابل هناك الكثير من دور النشر توقفت عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب، ودور عمرها بعمر الحرب لم تطبع كتابا واحدا، وأخرى قديمة تعيد طباعة عنوان واحد فقط. كلفة طباعة الكتاب الواحد اليوم توازي طباعة ستة كتب في العام الأول من الحرب وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار والمواد التي تخضع لانخفاض سعر الليرة، وهذا برأي الكثيرين سبب إحجام البعض عن اقتناء الكتاب اليوم، والذي لا يتناسب سعره مع دخل الفرد. كما يلجأ بعض الكتاب لطباعة مؤلفه على نفقة المؤسسات الرسمية من غير أن يدفع ليرة واحدة لكنه يقع في مشكلة الحذف والرقابة التي ترفض غالبا ما لا يتوافق مع مزاج الرقيب.

العناوين الجديدة

العناوين الجديدة قليلة نسبياً في أي مكتبة مختصة. يتصدر الواجهة كتب الصراعات السياسية والحروب، وكتب تروي سيرة بعض الحكام الذين أثروا في العالم أثناء فترة حكمهم. الرواية تحتل المكتبات لكن أغلبها إصدارات قديمة ومحلية، الكتب والروايات التي تطبع في دول مجاورة لكتاب سوريين من غير الممكن أن تجدها على رفوف مكتبة بسبب غلاء ثمنها والاحتكار الذي تمارسه الدور الخارجية على المؤلف حين تكون الطباعة على كلفتها.

يرجع صاحب مكتبة نوبل المشكلة إلى غياب الكثير من العناوين الجديدة بسبب فرق الأسعار ودخل الفرد يقول: “إن دخل الفرد في الحرب لم يعد يسمح له باقتناء كتابين، جميع أنواع الكتب السورية تضاعفت أسعارها ثلاث أو أربعة أضعاف بما فيها الكتب القديمة كونه لم تعد تتكرر طباعتها، غير أننا لم نعد نستطيع تلبية رغبة القارئ بأنواع الكتب التي تصدر في دور نشر خارج سورية لعدة أسباب أولها فرق السعر وانخفاض سعر الصرف، وأجور الشحن الغالية نسبياً، الأمر الذي يضاعف سعر أي كتاب إلى عشرة أضعاف سعره في السابق، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء عناوين جديدة لوضعها في الواجهة ولا أحد يسأل عنها، الكثير من المهتمين يسألون عن أسماء وعناوين لكنهم يحجمون عن شرائها، وللأسف لم يعد يوجد نهم للقراءة بسبب ظروف الحرب، للأسف الثقافة لم تعد أولوية عند المواطن السوري. وبعد بدء الحرب الكثير من المكتبات أغلقت أبوابها ومنها ما تحول إلى مطاعم للوجبات السريعة ولبيع إكسسوارات الهاتف الخليوي.”

لم تتوقف الجهات المعنية بالثقافة والكتاب عن العمل طيلة فترة الحرب سواء في طباعة المؤلفات السورية، أو ترجمة المؤلفات من لغات أخرى، محاولة أن يكون سعر الكتاب متماشياً مع دخل الفرد رغم الزيادة التي طرأت عليه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى أنه بإمكان المهتم ترقب المعارض الصغيرة الدائمة والتي تقدم حسومات للقارئ تصل إلى خمسين بالمائة أحيانا، لكن أغلب الإصدارات تتعلق بالحرب وآثارها وأسبابها وتداعياتها وثقافة المقاومة، العروبة وأسئلة النهضة، الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي، الحرب القذرة …الخ. أما الكتب الثقافية فنجدها مكررة كأن تصدر المجموعة الكاملة لشاعر أو قاص، أو دراسات نقدية عن الشاعر وشعره وغالبا ما تكون بتكليف من الشاعر ذاته لبعض أصدقائه، أو تكون من أجل المال فنجدها خالية من النقد الحقيقي وتتجه نحو الإطناب والتصفيق والتأليه الأدبي، وللأسف أغلب الإصدارات الثقافية ضعيفة من حيث المضمون والكتب التي تحمل قيمة قليلة نسبيا بالنسبة لما يتم طباعته ونشره كل عام. وهو أحد أسباب عزوف ونفور الفرد عن قراءتها والاطلاع على محتوياتها.

دمرت الحرب الكتاب كما دمرت رموزاً من التراث الإنساني، وهو ليس مجرد كلام استهلاكي فهناك الكثير من الجرائم الفنية ارتكبت بحق المكتبات الخاصة، ومستودعات كثيرة للكتب خاصة وعامة لا  أحد يعرف شيئاً عن مصيرها، وثمة كتب نُهبت وكتب أُحرقت وكتب كان مصيرها حاويات القمامة، مكتبات شخصية تركها أصحابها وأغلب تجار الكتب المستعملة فقدوا مستودعات مليئة بكتب قديمة، وكل هذا انعكس على الجو العام وعلى حياة الفرد والمثقف فلم تنج الثقافة هي الأخرى من اللصوص والحدث اليومي والقذائف والحرب.

التجييش الطائفي: مثالان من سورية

التجييش الطائفي: مثالان من سورية

أحاول قراءة الواقع من كل الزوايا التي أستطيع الرؤية منها ومستنداً إلى التاريخ (المدوّن والشفهي) ووقائعه من وجهات نظرٍ متعددة. قرأت الكثير عن حوادث تاريخية ومجازر شهدتها بلادنا وقد استُخدِمت بعض السرديات حول هذه المجازر بغرض التحريض الطائفي لاحقاً رغم أن جذر المجزرة الأصلية لم يكن يمتّ للطائفية بصلة. ورغم ذلك يتداول البعض هذه السرديات دون نقد بغرض التحريض الذي قد يُفضي إلى القتل ويتم إضافة تفاصيل مختلقة قد تطغى على جوهر وجذور الحدث نفسه.

فعلى سبيل المثال كنت أسمع عن مجزرةٍ ارتكبها الإسماعيليون بحق العلويين في بلدة القدموس (التابعة لمحافظة طرطوس) منذ بضع مئات من السنين، وبحسب المرويات فقد قتلوا خمسين من رجال الدين العلويين الذين تم رميهم في بئرٍ في قلعة القدموس. كانت الروايات أحياناً تزيد من قسوة المشهد عبر رواية تفاصيلٍ عن التمثيل بالقتلى وكأّنّ الرواة شهود عيانٍ لكنّ الصور المكثفة التي ينسجها الخيال تجعلك، إن كنت علوياً، متحفزاً لقتل كل اسماعيليٍ. أما واقع الحال فإنّ القصة وإن حدثت فعلاً إلا أنّ أسبابها ليست طائفية كما يتداول البعض مساهماً في بناء مظلومياته الخاصة. ربما كان الضحايا جميعاً من خارج المذهب العلوي أو ربما قتل بضعة أفراد والبقية كلهم من المذهب الإسماعيلي من أنصار ولي عهد قلعة القدموس الذي تم تهريبه وقتل أنصاره ليستتب المُلك (الإمارة ) لابن أمير القلعة، الذي أصدر أمراً بتعيين ابنه ولياً للعهد بدلاً من أخيه الذي هرب بعد قتل أنصاره في القلعة وكوّن أسرةً جديدةً من مذهبٍ آخر وأصبح علوياً.

كان “صالح” ولي عهد القلعة والجد الأكبر لعائلتي وأصبح أعرجاً جرّاء القفز من القلعة وبقيت ذكرى هذه الحادثة متداولة في عائلتنا. قد يقول قائل إنّ ولي العهد الفار كان علوياً قبل مغادرة القلعة، يبقَى ذلك مجرّد تكهناتٍ لا يمكن التحقق منها. والمغزى من هذه القصة، وغيرها من قصص المظلوميات المتداولة بين من يحسبون أنفسهم أبناء طوائف ومذاهب، أن أساس المجزرة كان صراعاً بين الأخوة على السلطة وليس على المذهب.

بدأت بهذه المقدمة الطويلة لأشير إلى توظيفٍ مشابه لحوادث، لا أساس أو دافع طائفي وراءها، وقعت في عدة مناطق بعد اندلاع الانتفاضة السورية وخلال الحرب الدائرة ويتم تداولها بغرض التحريض الطائفي ولحرف الأنظار بعيداً عن جذر الحدث، وقد عايشتُ بعض هذه الحوادث عن قرب.

في 8 شباط/فبراير من العام 2014، وأثناء المفاوضات على خروج المدنيين من حمص القديمة وإدخال المعونات لمن سيبقى تحت الحصار كانت هناك مطالبات بالكشف عن مصير المختطفين بالمناطق المحاصرة والذين تم اختطافهم على خلفية طائفية. انتهت المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بعد مخاض عسير وتم الاتفاق بموجبها على خروج المدنيين ممن يريدون الخروج وإدخال مساعدات غذائية لمن رفض الخروج. وبالفعل خرج الكثير من المدنيين وغالبيتهم من النساء والأطفال والعجزة وتم إدخال المساعدات تحت إشراف الأمم المتحدة، في هذه الأثناء تداعى الكثير من أهالي المخطوفين من أحياء الزهراء وعكرمة والنزهة للاعتصام ضد تنفيذ الاتفاق حتى يتم الكشف عن مصير أبنائهم المخطوفين.

أخذت هذه الدعوة أشكالاً تحريضية على صفحات التواصل الاجتماعي بشكل مريب، فقد تداول بعض الناشطين (المعارضين) الخبر تحت عنوان “أهالي الأحياء الموالية يعتصمون ضد إدخال الغذاء إلى المحاصرين بحمص القديمة” في حين دعا بعض المؤيدين صراحةً بالموت للمحاصرين بناءً على دوافع طائفية، بينما انتفى العنوان الحقيقي لسبب الاعتصام وهو الكشف عن مصير المختطفين الذين تمت تصفيتهم وحرمانهم من الحياة وبنفس الوقت وُجد من يتهم الآخرين بأنهم يريدون منع الغذاء عن المحاصرين. هذا لا يعني أبدا عدم وجود مثل هؤلاء الذين يريدون منع دخول المساعدات إلى المحاصرين لاعتبارات شتى ولكن الجميع خرج تحت عنوان نريد معرفة مصير المفقودين وقد تم تغييب ذلك العنوان تماماً عن كل الصفحات والأخبار. كنتُ قد كتبت حول هذا التحريض والتشويه لحقيقة ما يحدث على صفحتي الشخصية السابقة على الفايسبوك (قبل إغلاقها إثر اعتقالي) بعد اتصالي مع بعض الناشطين الذين دعوا إلى الاعتصام. وقد سألت شابة اختُطف شقيقها واسمه حسن ادريس وأخبرتني عن أسباب تنظيم هذا الاعتصام وأكدت لي أنه “يوجد بعض من يستغل الاعتصام لهدفٍ آخر ولكننا سنخرج من أجل هدفٍ واحد ألا وهو معرفة مصير مخطوفينا.”

كنت قد حذرت وقتها وأنا أرى التهافت على التحريض الطائفي: “تريثوا وتبينوا ولا تهجموا كالمجانين حتى لا يصيبكم الندم. ما حدث مخجل أن يفعله كائن بشري، ولكن ردة الفعل كانت من نفس البضاعة وكلي أسف وأنا مكتئب لدرجة أنني فكرت بتسكير كل أنواع الاتصالات وقنوات التلفزيون. لن ننتصر إلا بالحب ومن يصدر الحقد سيرتد إليه.” لكنّ التشويه والكذب لم يتوقف.

بعد اتفاق الوعر (آذار/مارس 2017) تمت الدعوة مجدداً للاعتصام على طريق طرابلس من أجل الموضوع نفسه والمطالبة فقط بمصير المخطوفين، ولكن لم يتم الأمر ولم يعرف أحد من ذوي المخطوفين أية معلومة عن أبنائهم. ربما كانت السلطة راضية عن ذلك حتى لا يكون هناك مطلب من الطرف الآخر بالكشف عن المختفين في سجون النظام أيضاً. الذي يهمني من المثال الذي أوردته هنا، ومثله كثير، هو الآلية التي يتم من خلالها استغلال العنف والغضب من أجل التحريض الطائفي وفرض قراءة للحدث من زاوية واحدة وهي نفس الزاوية التي يتم من خلالها توصيف الصراع في سوريا كصراعٍ بين طوائف عبر إخفاء الأسباب الرئيسية لبعض الحوادث لأنها لا تخدم أجندته وهذه جريمة بحق المجتمع وأهالي الضحايا، ولكن يوجد دائماً من يلوي عنق الحقيقة ويعزو الحدث لشيء آخر.

عند انعدام الأمانة والتعتيم على حقيقة حدثٍ ما، فإنّ الناقل يُخفي شيئاً من القصة ويضيف ما يناسبه ليقدمه لهذا الطرف أو ذاك حتى لو تسبب الخبر في تشويه التاريخ وهدم الوطن والتحريض على القتل. يجري الآن توثيق الكثير من الحوادث التي حدثت بالسنين السبع الأخيرة ويمكن أن تجد وثائق لا تتعدى مصداقيتها أكثر من ذكر الواقعة، في حين تضلل تلك الوثائق الباحث عن حقيقة ما حدث فعلاً ويضيع السبب والفاعلين والشهود، وبرأيي هذه جريمة يرتكبها هؤلاء بحق السوريين. أن تخفي الكثير أو القليل من الوقائع لأنها لا تتفق مع قضيتك أو تعريفك للضحية والمجرم فأنت تسهم في استمرار الجريمة.

يوميات سورية: حياة مُعطّلة

يوميات سورية: حياة مُعطّلة

يومٌ ربيعي مشمس، عمالُ الترحيل ينقلون أكياس البحص والاسمنت من بيتٍ يُرمم في الطابق التاسع والحقيقة أنهما بيتان في الطابقين التاسع والعاشر اشتراهما  شابٌ في مقتبل العمر ليحولهما إلى بيت واحد وفق نظام الدوبلكس. بحسبةٍ بسيطةٍ نعرف أنّ الثمن المدفوع لشراء المنزلين فقط تتجاوز المائة والخمسين مليون  ليرة سورية!

يصيبنا الحكاك والقنوط ويغمرنا سؤال “من أين له هذا؟” وخاصةً في ظلّ هذه الحرب! فكيف إنّ تعرفنا إلى كلفة الهدم والربط والإكساء التي تجاوزت أسعار موادها العشرين ضعفاً. إنه مثال على انتهاكٍ صارخٍ لا للوضع المعيشي الصعب لعامة السوريين فحسب بل انتهاكٌ للقيم و للمنطق الأساسي للحرب القائم على التوفير والتقتير تحسباً للحظة رحيل ٍمفاجئ ٍأو خوفاً من إصابةٍ قد تلحق بالبيت جراء ظروف الحرب الدائرة.

عائلاتٌ سورية تسكن في الحدائق، تسوّر سياجها بالكرتون منعاً لوصول أيدي الزعران الذين يمدّون أصابعهم القذرة لقرص النساء والأطفال أو لسرقة ما تطوله أيديهم العابثة، وناطور الحديقة يُخفي مسكة الصنبور بين يديه ليمنع النساء والفتيات من الاستحمام، استحمامٌ يشبه لعبةً طفولية سرّها هو إغماض العينيين والدوران حول الذات والصابونة الكاوية سيئة الصنع تدور على الجسد من تحت الكنزة درئاً للعيون الكاشفة، تتوه اليدان الغضتان في الوصول إلى كافة تفاصيل الجسد المغمور بالقذارة والرطوبة والإهمال، ويتحول غسل الشعر إلى مهمة صعبة تتوقف في لحظة عدوانيةٍ عندما يقطع ناطور الحديقة المياه فيبقى الشعر غارقا بالصابون الجاف، قاسياً وباهتاً وأقرب للبياض بفعل الترسبات القلوية على شعرٍ لم يدفأ يوماً ولم يغمره ترفُ التغلغل لمشطٍ نظيفٍ ومريح.

***

براءة طفلةٍ صغيرةٍ لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، يمنحها أحدهم قطعة شوكولا وفي اللحظة الفاصلة ما بين منحٍ وإمساكٍ تسقط قطعة الشوكولا على الرصيف الساخن فما كان من براءة إلا الاستلقاء ولعق الشوكولا الذائبة من على الرصيف مباشرة.

أعرف أن أسئلةً مثل “ما جدوى الحمل والولادة وجلب أطفالٍ جددٍ ينضمون للشقاء” والاسم الساخر “براءة” في زحمة الحرب هي أسئلةٌ وجودية ذات معنى لكنها بلا فائدة، فارغة مثل طبول الحرب الجاعرة.

***

أمام أحد مطاعم الشاورما ذاتِ الاسم العريق والأسعار المرتفعة جداً، يُقدم أحد الزبائن بقايا وجبتين طلبهما ولم يكملهما لقطةٍ تموءُ جائعةً. في المكان طفلان مشرّدان والجوع ينتهك أحشاءهما، يحاول أحدهما سحب الوجبة من بين  مخالب القطة التي لا  تبدي أية مقاومة، لكنّ الرجل الشهم الحريص على صحة القطط والحيوانات الغارق في سفالته يصرخُ بالطفل ويطردهُ ويعيد تثبيت الوجبة بين مخالب القطة في حالة عطف إنساني تنتمي لهمجية محدثي النعمة وزارعي الحقد تفاضل بين طفلين جائعين وقطة، لحظة تنمُّر همجية تماثل شتائم الرجل نفسه وهو يصرخ بعامل النظافة الذي تجرأ وأوقف عربته خلف سيارة ذاك المتوحش، سيارة دفع رباعي حديثة جداً تُوقظ سؤال “من أين لك هذا؟” فكيف الحال إذاً بسيارةٍ موديل 2017 في بلدٍ يكتوي بنار الحصار وتوقف  الاستيراد اللذين طالا حتى الأدوية.

***

في حافلةٍ صغيرةٍ للنقل تجتمع نساءٌ مختلفاتٍ في تفاصيلٍ ظاهرية لا أكثر، تقول سيدةٌ لصديقتها وبصوت عالٍ: “هدول مو من عنا.” اختلافٌ في نوع المعاطف، حداثتها، اختلافٌ ما بين لونٍ ناصعٍ ولامعٍ وما بين لونٍ باهتٍ وحائلٍ للسترات، عرواتُ الأزرار متسعة تضم أزراراً مختلفة اللون والشكل. الحجابات شبه ذائبة من شدة رقتها ومنكشة الخيوط بمواجهة أزرارٍ لامعةٍ، متناسقةٍ ومشدودةٍ، بمواجهة حجاباتٍ مماثلةٍ للملابس في ألوانها، جديدة وسميكة ولامعة.

بالفعل لم يكذب إحساس تلك المرأة ولاخبرتها، فأهل الحي “الراقي” يعرفون بعضهم من وجوههم، من ملابسهم، من صدى كلماتهم ومن جوالاتهم الباذخة. النسوة “المختلفات” واللواتي تجرّأن على مشاركة الغنيات المنكِرات لقسوة الحرب وآثارها المدمرة هنّ بالفعل لسن من ذات الحي! هنّ من اللواتي يسكنّ مراكز الإيواء الثلاثة التي امتلأت بالمهجرّين قسرياً ذات ساعة رحيلٍ أو تهجيرٍ أو هربٍ، لا فرق.

ذات يوم وحين قرروا إغلاق تلك المراكز وزّع سكانها أرقام هواتفهم/نّ على كافة الركاب علّهم/نّ يحظون ببيت للآجار تتشاركه أكثر من عائلة، ولم يكن أمام البعض سوى اللجوء إلى الحدائق وعبثها وهمجيتها، أما  البعض الآخرون  فقد استأجروا بعيداً بيوتاً على الهيكل من دون إكساء أو نوافذ أو أبواب، والمطبخ والحمام مجرّد برميلٍ أزرقٍ بلاستيكي كبير موصول في أسفله صنبور ضخم ومتوحش.

***

نسوةٌ رباتُ أسرٍ ومعيلاتٍ يوقفن سيارة للأجرة لتقلّهن إلى بيوتهنّ مع صناديق مواد الإعانة الممنوحة لهن. يشترط السائق عليهن عبوة زيتٍ ذات الليتر من كلّ سيدةٍ لمسافةٍ لا تكلفه أكثر من خمسمائة ليرة، لكنه يسطو على رزقهن ويكسب ألفين وثمانمائة ليرة، هي أسعار عبوات الزيت حسب سعر السوق. تمتثل النسوة لابتزاز السائق ويدفعن بصمت مستكين.

في البيت يتبادلن المحتويات، أولاد فلانة لا يأكلن البرغل، وفلانة وأمها وأم زوجها مصاباتٍ بالسكري فيمنحن الأرز مقابل البرغل. تقول آية: “أحلم بأن أطلب طبخة محدّدة وأن تلبي أمي، نحن نأكل على هوى كرتونة الإعانة وعندما تنتهي موادها نقترض من بعضنا. لا جديد يؤكل. وحبة الفواكه حلم وحبة البندورة للطبخ فقط لأنها تُشترى مهترئة لأنها الأرخص والأقل سعراً.”

***

على الطريق المهندم والأنيق تتبادل سيدتان أطراف الحديث عن حميةٍ ناجعةٍ لجسدٍ رشيقٍ، وعن مدرّب الجِم (أو نادي اللياقة). يصرف شباب مقتدرون أو محدثو النعمة أموالاً طائلة على مكملاتٍ غذائية وفيتامينات تنفخ العضلات وتجعل قيمتهم أعلى في سوقٍ لا قيمة للرجال ولا للحيوات فيه، سوق الحرب .

النساء يتمشين ببيجاماتٍ رياضية باهظة الثمن وأحذيةٍ رياضية ٍمريحة، يُنشطن الأجساد الرخوة والمرفهة. على الرصيف المقابل نسوةٌ خرجنَ منذ الفجر لتعملن في منازل المتريضات اللواتي لايقبلن أي تأخير أو تجاهل لتفاصيل العمل المنزلي الذي يجب أن يكون متقناً ولامعاً/ تقول المشغّلة للشغالة: “أعطيك دم قلبي وأنت تراوغين!”

***

تعجّ مراكز التعليم المرممة بالطلاب الذين هجروا المدرسة بسبب الحرب، أو بسبب غياب الوثائق الشخصية، أو بحكم أنهم صاروا معيلين لذويهم. يتعلمون فكّ الخط ويطمحون  لمجرد إغفاءة مطمئنة على مقعد دافئ.

هي المدينة تحيا على فوارق تأصلت بحكم الحرب. إن كان بوسع المتعبين وثقيلي الأحمال الحلم، فالعودة إلى بيوتهم هي الأساس وهي المشتهى والمنتهى. تحلم سيدة برعاية أصص أزهارها واحتساء فنجان قهوة بفناجينها التي أبقتها هناك على رجاء العودة سريعاً إلى شرفتها وبيتها.

ظلال الرحيل والنزوح أوضح وأعمق من مجرد ظل مرادف للحرب، هي وجه المدينة الآخر، هي تفاصيل الحرب على أجساد البشر وعقولهم، على أسمائهم وأسماء عائلاتهم والراحلين والمسافرين والمجانين منهم والعقلاء رغماً عنهم كي يلوذ بهم من يحتاجهم.

كل شيء ممتزج بنقيضه، يتنافران ويعتركان وإن بصمت، لكنه صمت الجمر الذي سيحرق الأخضر واليابس كل صباح في ليل الحرب الطويل… هنا دمشق.