وطأة الكتابة وشغفها في زمن الحرب

وطأة الكتابة وشغفها في زمن الحرب

كيف كتبت الغرانيق، ومرايا الحياة في زمن الصمت، وتشظيات.

أقف على شرفة شقتي في الطابق الثالث، المطلة على الساحة الرئيسية في البلدة، وأنظر إلى الشوارع، وقد فرغت من المارة وأرخت الحوانيت أغلاقها، حتى القطط والكلاب الشاردة اختفت، هي واليمام المعشش بين أخشاب أسطح البيوت القديمة. وساد صمت ثقيل مريب على البلدة “وكأن أناسها قد هجروها، أو أن إلهاً أسطورياً عبثياً خلق البلدة، ونسي في لحظة ثمالة أن يخلق أناسها”، أمسك بقلم وأكتب على ورقة مرمية أمامي على طاولة صغيرة في الشرفة.

حدث هذا في عام ٢٠١١، بعد خروج التظاهرات في بلدتي الواقعة في ريف دمشق الغربي، كما خرجت في المدن والبلدات السورية، تطالب بـ”إسقاط النظام” وبـ”الحرية والكرامة”… وقد جاء اليوم دور اقتحام بلدتي من قبل خليط من “جيش النظام” وأجهزته الأمنية ومجموعات من “الشبيحة”، وإجراء حملة اعتقالات شاملة بين الأهالي لكسر شوكة “الانتفاضة السلمية”.

ومنذ الصباح، ومع توارد الأنباء عن حصار “جيش النظام” للبلدة وتحرك المدرعات نحوها، اختفى نشطاء “الانتفاضة” في الحقول والتلال حولها، والتم الأهالي في بيوتهم قلقاً وترقباً… وأقف أنا على  طرف الشرفة مستطلعاً ومترقباَ، وأيضاً بقلق شديد.

دخلت الدبابة الأولى إلى الساحة تستطلع الوضع، وهي تزمجر وجنازيرها تحفر الإسفلت، وتوقفت عند مدخلها. أشاهدها، وأسمع صرير برجها يدور، فإذا بمدفعها يتجه نحو شرفتي. وشعرت أن عيناً معدنية تراقبني من داخل برجها. ينتابني خوف شديد، ويتصبب عرق غزير مني، وأنا كنت أظن نفسي متفرجاً، وإذ بي أصبحت هدفاً… لكنها تتراجع في لحظة أخيرة عن إطلاق قذيفتها، وأكتب على أوراقي بيد مرتجفة مبلولة بالعرق مع التوقيت “اكتشفت الدبابة أنني لست أميراً صحراوياً في إمارة إسلامية، يقود جيوشه المؤمنة من الشرفة، ولا ألوح بسيف، أو بلطة، أو ساطور.”

وسرعان ما تتالى وراء الدبابة الأولى رتل من الدبابات… ثماني، تسع، عشر. وأكتب ملاحظة عنها، ودائماً مع التوقيت، وأنا على الشرفة. تنحرف سبع منها نحو البلدة القديمة… أكتب. ووراء الدبابات، يدخل جنود، أشاهدهم يتمركزون في المواقع المهمة في الساحة، وتليهم فرق المداهمة من “الأمن” و”الشبيحة”، بشاحناتها الصغيرة المحملة بالرشاشات، والسلالم، والحبال… أكتب. تشتعل سيمفونية إطلاق رصاص غزير في الأحياء القديمة، حيث تنطلق التظاهرات عادة، يطلقها الجنود على الغيمات العابرة والظلال… أكتب. تنتشر فرق المداهمة في البلدة، وتأخذ باعتقال شباب ورجال من البيوت وفق دلالات المخبرين الملثمين المرافقين… أكتب. يقف مخبر غير ملثم من شباب “المساكن العسكرية”، المتاخمة للبلدة، متحدياً في الساحة… أكتب. يخرج رجال ونساء موالون لـ”النظام” إلى الشارع، ويتطوعون لكشف منازل “المتظاهرين” وكل من “يعارض النظام من الرجال والنساء والأطفال والقطط والعصافير”، لهجتهم السلطوية تفضحهم… أكتب. تبدو الاعتقالات عشوائية، حسب مزاج “المخبرين” و”الموالين”… أكتب. تصل حافلات النقل المدنية الخضراء فارغة إلا من حراسها، تلك التي استوردتها الدولة من الصين حديثاً لتخفيف أزمة المواصلات في العاصمة، وتتوزع في البلدة… أكتب. ترجع ممتلئة بالمعتقلين، أراهم مقيدين، راكعين على أرضها، وقد شُدت العُصابات على عيونهم، و”الشبيحة” على أبوابها، يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجاً بالتقاط “طرائدهم”… أكتب. تصل فرق المداهمة إلى بنايتي، يحطمون باب شقة فارغة، يتسلقون السطح… أكتب. أشعر بهم أمام باب شقتي… أتوقف عن الكتابة.

وكانت حصيلة الحملة العشوائية الضارية يومها اعتقال حوالي ٧٠٠ شخص من أهالي البلدة، معظمهم من غير المتظاهرين، وهؤلاء كانوا قد اختفوا بغالبيتهم في الحقول والتلال، أو فروا إلى البلدات المجاورة الآمنة .

كانت تلك الحملة الأولى من الاعتقالات في بدايات “الانتفاضة” في بلدتي، وكانت السلطة تظن وقتها أن “حفلة تعذيب” قاسية للمعتقلين ستردعهم عن التظاهر في الشوارع، ومن ثم أفرجت عن معظمهم ـ لكن في حملات الاعتقال التالية لم يعد يرجع أحد من المعتقلين، كان الجميع يُصابون وفق تقرير طبي رسمي بـ”نوبة قلبية” مفاجئة في المعتقل، بمن فيهم المراهقون والشباب الصغار، وتختفي جثثهم برعاية مافيات المتاجرة بالأعضاء البشرية، ويحصل أهاليهم على بقايا مقتنياتهم: الهوية الشخصية وشحاطة بلاستيكية.

أشاهد آثار التعذيب على أجساد العائدين من الاعتقال في الحملة الأولى؛ على الوجوه المتورمة المشوهة، والأضلع المكّسرة، والجروح النازفة الملتهبة، وخاصة عند المعاصم، حيث شُدت القيود البلاستيكية بعنف… أكتب. وأشاهد الكآبة على الوجوه، وامتلاء القلوب بالحقد على الجلاد… أكتب.

قال أحدهم “أنا لم أخرج مع المتظاهرين، فلماذا اعتقلوني وعذبوني”… أكتب.

قال لي ثان “في مركز التجميع الأول، دخل علينا عسكري “بغل” من دير الزور، وأخذ يضربنا بشكل عشوائي بسوط، ويرفسنا ببوطه العسكري. ولما تدخل ضابط برتبة “عقيد” لمنعه من ضربنا، نهره صف ضابط صغير “مساعد” من “الفرقة الرابعة”، مهدداً “لا تتدخل فيما لا يعنيك”… أكتب.

قال لي ثالث “حشرونا عشرين شخصاً في زنزانة تتسع لخمسة”… أكتب.

قال لي رابع “قتلوا أخي تحت التعذيب”… أكتب.

وقال خامس، وسادس… وعاشر… أكتب.

وأكتب أن معظم هؤلاء المعتقلين من أهالي بلدتي شعروا بإهانة كرامتهم على يد “الجلاد الصغير” و”الجلاد الكبير”، وأكتب أنهم حملوا السلاح في أول خطوة من “عسكرة الانتفاضة” في رد فعل على العنف الموجه ضدهم.

ومن هنا بدأت عمليات الاغتيال المتبادلة؛ “المنتفضون” يغتالون “المخبرين”، و”الشبيحة” من “المساكن العسكرية” يردون عليهم باغتيال عشوائي لـ”أعيان البلدة”. وليس بعيداً من بنايتي، حدثت أربع عمليات اغتيال متتالية لـ”مخبرين أمنيين” شرسين، تسببوا باعتقال المئات من شباب البلدة… حدث هذا وأنا على الشرفة… وأكتب.

وفجأة تتشكل الملاحظات التي أكتبها في فصل متكامل، لم يكن ينقصها إلا الصياغة الأدبية مع بعض الخيال الروائي ـ طبعاً إلى جانب الفانتازيا التي أحبها. ومع أن هذا سيكون الفصل ما قبل الأخير في روايتي الجديدة، فقد ولدت به “الغرانيق”، وسيتم نشرها بعد ثلاث سنوات من كتابتها، وسأكون محظوظاً أن ذلك حدث بعد الخروج من البلاد بعد ست سنوات من بدء “الانتفاضة”.

بعد حملة المداهمات الأمنية الأولى، تحولت البناية التي أسكنها إلى موقع عسكري محصن لـ”جيش النظام”، بسبب إطلالتها الإستراتيجية على الساحة التي كان يجتمع فيها المتظاهرون، فملأ العسكر شققها بعد فرار معظم قاطنيها، وتوزعت الرشاشات على سطحها، وتوضعت الدبابات أمامها، وتوزعت كاميرات المراقبة حولها. وتم خطف مالك البناية من قبل “عصابة أمنية”، طلبت فدية عالية مقابل الإفراج عنه، لم تستطع عائلته جمعها، فتم قتله. وهربت زوجتي وطفلاي الاثنان أيضاً من البناية، بعد معركة حامية الوطيس حولها، وقد استقر رشاش فوق سطح شقتي تماماً، تهتز معه، وهو يطلق الرصاص بدون توقف طوال معركة طويلة.

…وأنا بقيت في شقتي. كان لدي فيها مكتبة ضخمة، جمعتها منذ طفولتي، وذكريات العائلة… وكان لدي أمل أن الأمور ستنتهي قريباً.

حدثت المداهمة الأولى لشقتي من قبل حوالي أربعين عسكرياً من عناصر “جيش النظام” المقيمين في البناية، بدعوى أن هناك من  يصور انطلاق الدبابات ومجموعات الجنود منها ، ويبث ما يصوره على شبكة النيت كتحذير لـ”المنتفضين”. وكان هناك حقاً شبان صغار شجعان يتسلقون بناية مجاورة مهجورة بقربي، ويقومون بالتصوير بهواتفهم المحمولة من مستوى شقتي. وحتى تم التأكد من أنه ليس لدي جهاز هاتف محمول ولا شبكة نيت، كانت قد تم قلب شقتي رأساً على عقب، وتبعثرت محتوياتها، وأصيب بعض الجنود بخيبة أمل عندما لم يجدوا “ذهباً” في خزانة زوجتي .

وقف ضابط المداهمة برتبة “نقيب” أمام مكتبتي مذهولاً، واختار أكبر مجلدين ضخمين أنيقين ليأخذهما، فقد يجد فيهما قصص مغامرات وجنس يتسلى بهما، وخاصة في الليل، حيث لا يجرؤ هو وجنوده على مغادرة البناية. قرأ العنوان “من الفناء إلى البقاء” للباحث الفلسفي المصري حسن حنفي بجزأين، وسرعان ما رماهما أرضاً كأنه أمسك عقرباً سيلدغه، وصرخ “ماذا تفعل بهذه الكتب المجنونة؟”. تلعثمت وبربربت بشيء غير مفهوم، فأردف “لو جاءت دوريات الأمن بدلاً مني لرمتك أنت وكتبك من الطابق الثالث إلى الشارع مباشرة، قبل أن يبحثوا عن هاتفك المحمول.” وأراد اصطحابي مع عسكره ليتسلى بالتحقيق معي في شقته، حسب ما يفعل مع أهالي الحي… لكن معركة اندلعت مع “منتفضين مسلحين”، ليس بعيداً عن البناية، فتركني عند الدرج، وأنا أكاد أتعثر بشحاطتي.   

تحول الطابق الأول غير مكتمل البناء إلى مركز تحقيق أمني أولي، وكانت سيارات الأمن تقود المعتقلين الذين يُسحبون من بيوتهم، أو الذين يُلتقطون على الحواجز الأمنية في الشوارع إليه. يتم إدخالهم إلى البناية وراء بعضهم البعض، مربوطين بحبل طويل أمام أعين المارة، وكنت أرى الذين يُسحبون من بيوتهم حفاة وشبه عراة. وعندما يتم إخراجهم إلى المراكز الأمنية، كانت ثيابهم تبدو ممزقة والدماء تنزف منهم. وكانت الأصوات المجروحة المتألمة في “حفلات التعذيب” تضج في الشوارع والحارات، وتقتحم شقتي عبر منوَّر البناية. وحتى عندما تتوقف، تبقى تضج في رأسي، وهي تجأر “دخيل الله، ليس لي علاقة، ما بعرف.” أما التحقيق العسكري، فكان يجري في شقة من الطابق الثالث، تشترك مع شقتي بجدار مشترك. وأذكر تحقيقاً مع شاب بتهمة “إرهابي” لأنه نافس عسكرياً من البناية على “عشق” فتاة في الحي القريب من البناية.

وذات يوم انتشر خبر “انشقاق” أربعة جنود من البناية، وتمت مداهمة البيوت المجاورة بحثاً عنهم، لكن “المنشقون” كانوا قد أصبحوا خارج البلدة، في مناطق آمنة مع “المنتفضين”.

ونتيجة توتر الأوضاع ليلاً، والخوف من “المنتفضين”، أخذ العسكر يقنصون من يسير في الشوارع ليلاً من الأبنية التي حولوها إلى مواقع عسكرية. وبعد أربع جثث امتنع الأهالي عن مغادرة منازلهم… ليلاً، ومعظم نهارهم.

كان الوضع الذي أعيشه عبثياً كافكاوياً، وعدمياً يذكر بكامو أيضاً، وكل هذا مع مزيج من سخرية كوميديا سوداء في أكثر صورها غرائبية… أن تعيش “حراً” في معتقل، وفي موقع عسكري، فتستطيع الدخول إليه والخروج منه بـ”حرية” نسبية، رغم وجود مناوبات حراسة عسكر ظاهرة، ومخبرين متخفين في المحلات بصفة باعة… وكنت أكتب، لكن بشواش شديد وفوضى غريبة هذه المرة، ملاحظات متناثرة، أسطر غير مكتملة.

في المداهمة الأخيرة لشقتي من قبل العسكر عصر ذات يوم، اقتحمها وسط ذهولي حوالي ثلاثين عسكرياً بخوذهم وأسلحتهم الكاملة، كان أحدهم يحمل رشاشاً بشريط رصاص طويل يلفه على جسده، وبقيادة “عقيد” موتور، استلم حديثاً الموقع العسكري ـ الشقة، والحاجز الأمني أمامها، دخلوا كمن يقتحمون ساحة معركة. ظننت أن ما يحدث أمامي “فيلم رعب أمريكي”، وأنني دخلت مشاهده بالخطأ عن طريق تقنيات “الواقع الافتراضي” الحاسوبي… كان عسكري واحد يكفي ليأخذ مني ما يريد.

وبما أن معظم الجنود المداهمين يعرفونني، يشاهدونني أدخل إلى البناية وأخرج منها يومياً عدة مرات، وهم في نوبات حراستهم على مدخلها، فقد بدوا متوترين، لا يعرفون ماذا يفعلون بي… صرخ بهم العقيد “فرغوا الخزانة… اقلبوا الأرائك… انزعوا الفرش عن الأسرة… ابحثوا في أواني المطبخ… اقلبوا الكتب أرضاً”… كنت أرغب بقلم وورقة لأسجل كيف يبحث الجنود عن أنفاق وممرات ومغائر في شقتي، لكن معركة حامية الوطيس من قلب الأثاث وبعثرته رأساً على عقب كانت دائرة.

وفجأة تحولت الشقة إلى ركام حقيقي، وكأنها تعرضت إلى زلزال مدمر، أو تسونامي بحري، وأنا مذهول مما يحدث. وجد الجنود بين ألعاب أطفالي “مسدساً بلاستيكياً، يرش ماء”… يعلق العقيد “وتقول لي أنك رجل مسالم… وأنت إرهابي.” وجد الجنود كرتونة، فيها ملابس داخلية قديمة لزوجتي… أخرجها العقيد قطعة قطعة بطرف بندقية، يستعرضها أمام العسكر، وهو يصرخ بسخرية “وتقول أنك مثقف، والنساء “الشراميط” تحضر لعندك طوال الوقت.”

لم يكن يريد “العقيد” سوى إهانتي، وربما ودفعي إلى مغادرة الشقة، وكأنه يشعر بالحقد لأنه لم يتم اعتقالي بعد ولا مرة، فلم أكن فقط رجلاً تجاوز الستين من عمره ومسالماً، إذ أنه من المفترض أيضاً أني أعيش بأمان في موقع عسكري، حيث لا يزورني أحد فيه. خرج العسكر من ركام الشقة، أما أنا فجلست بين ركام الزلزال والتسونامي، وقد زارت عيني دمعتان، وأنا أنظر إلى شيء واحد معلق أمامي على الجدار، نسي العسكر نزعه؛ كان برنس ابني الصغير، الذي خرج به من الحمام يوم هروبه، وبقي معلقاً منذ ثلاث سنوات بانتظار عودته…  بقيت مذهولاً طوال الليل حتى غفوت فوق كومة ثياب.

في صباح اليوم التالي، ودون أن أرتب شيئاً في الشقة من ركام الزلزال، جلست إلى طاولتي، وبدأت أكتب روايتي التالية “فيلم سوري طويل” أو باسم آخر “مرايا الحياة في زمن الموت”… تفجرت أفكار الكوميديا السوداء الساخرة بطريقة مذهلة، لم أستطع إيقافها وهي تتدافع وأخذت أكتب بجنون شهراً، واثنين، وعشرة، وسنة.

وفي أثناء ذلك، كان “العقيد” الموتور “يعفش” جميع البيوت الفارغة بدعوى أن مالكيها “إرهابيون”، مستغلاً عدم خروج الأهالي ليلاً خوفاً من القنص، ويؤمن الغطاء الأمني لخطف أهالي من البلدة من أجل الحصول على فدية مالية عالية. ويوم ماتت والدتي السبعينية “نبش” الجثة حتى كاد يفك الكفن عنها ـ دون أن أعرف عن ماذا يبحث، وسمح لستة أشخاص منا بدفنها في المقبرة، بعد الحصول على موافقة أمنية، وتحت إشراف حاجز عسكري مجاور لها… ويوم انفجر به لغم ومات، زغردت النساء في بلدتي، فيما لف هو بالعلم الوطني.

أنهيت الرواية منذ عامين، وتنتظر دورها في النشر. أتريث قليلاً حتى تأخذ “الغرانيق” مداها.

سيطر “عسكر النظام” على بلدتي بعد عدة حملات اجتياح واعتقالات وقمع دموي لها، وأصبح الأهالي تحت رحمة “أجهزته الأمنية” و”ميليشياته الانكشارية الطائفية”، إلا أن خط النار مع “المنتفضين” سيستقر لعدة سنوات غير بعيد عنها ببضعة كيلومترات فقط. وفي أثناء ذلك، لم ينقطع الأمل لدى الأهالي  من “تحرير” مناطقهم، رغم بدء تكدس “الميليشيات الشيعية الإيرانية” فيها.

كانت “الانتفاضة السورية السلمية” قد تحولت إلى “العسكرة” كرد فعل على العنف الموجه إليها من قبل “النظام العسكري”، ومن ثم إلى “الأسلمة”، بعد أن غدت مطية دول إقليمية تحت يافطة “أصدقاء سوريا”. وكل منها يريد تحقيق مصالحه في البلاد باسم “المعارضة”، ضمن صراعات نفوذ ونزاعات إقليمية ودولية، تشتم منها رائحة “النفط” و”الغاز”، و”الموقع الاستراتيجي للتحالفات العسكرية.

حمل “المنتفضون” في البداية اسم “الجيش الحر”، الذي ما لبث أن حلت مكانه “جماعات إسلامية”، رفعت رايات سوداء وبيضاء، حسب الجهات الخارجية الداعمة. وتحولت إلى التنازع فيما بينها، على “مناطق النفوذ والسيطرة”، إلى جانب الاختلافات الدموية على “حف الشوارب”، و”اللباس الأفغاني”، وإقامة الحدود على “المدخنين”، و”المرتدين”، و”النصيرية”. وما أن تسيطر جماعة منها على “بضعة أمتار” من أرض حتى تعلن عليها “خلافتها الإسلامية”، وتقوم بـ”تطبيق الحدود” على أهاليها، متناسية شعارات “نصرة المستضعفين” والوقوف بوجه “المستبد” التي كانت تدعي أنها سبب إعلانها. كان الأهالي بحاجة إلى “بطولات” تشابه “أحلام اليقظة الجمعية”، ألبسوها لبعض “المغامرين” كمنتفضين، وسيكشفهم المستقبل مشاركين في عمليات خطف لـ”الكفار” مقابل الفدية، لا فرق بينهم وبين العصابات التي ترعاها “الأجهزة الأمنية” سراً لخطف الأهالي مقابل الفدية.

وفيما انضم إلى “الجماعات الإسلامية” مقاتلون أصوليون من بلدان مختلفة، كان نشطاء “الانتفاضة” السلميون ومعظم “المنشقين العسكريين” ينسحبون من المواجهة مع “النظام”، بعد افتقاد الدعم “الغربي الديمقراطي المزعوم”، ويتفرقون مهجرين مشردين في بلدان مختلفة.

وفي لحظة انهيار في صفوفه، استقدم “النظام” ميليشيات شيعية إقليمية بقيادات إيرانية، وتحول إلى أداة إيرانية، تقوم بتدمير منهجي لمناطق “السنّة” بالبراميل المتفجرة، ضمن مشروع “التغيير الديموغرافي الإيراني”، والقائم على تهجير أكبر عدد من سكان هذه المناطق بـ”غطاء دولي” صامت. لم تكن إيران ترغب بانتهاء الحرب وقيام تسوية سياسية ما، إذ كان معنى ذلك خروجها من البلاد خاسرة، لذلك فلتشتعل طويلاً مادام وقودها هم “أهل البلاد” من أجل “هلالها الشيعي”، وطالما منحها “أوباما” فرصة تاريخية لن تتكرر بسهولة مقابل “الاتفاق النووي” معها.

وفي لحظة انهيار ثانية لـ”النظام”، رغم ثقل “الدعم الإيراني”، دخل “الروس” بقوة تدميرية هائلة، مناسبة للصراع مع جيوش غربية قوية، بدعوى القضاء على “الإرهاب”، وأخذوا يستكملون تدمير البلاد. وبالمقابل شارك الأمريكيون بالتدمير في “حصتهم” من الشمال السوري، وفي بقية المناطق لم يكونوا فقط “يتفرجون” على “المجزرة”، وإنما يعملون أيضاً على إذكاء “جذوتها” باستمرار، دون السماح لطرف بالانتصار على الآخر، حتى تتدمر كامل البلاد، وتتحقق أهدافهم بتقسيم المنطقة وإعادة رسم حدودها.

أنتظر أهالي بلدتي طويلاَ، مثل أهالي البلدات الأخرى،  قدوم “الإسلاميين” لـ”تحريرهم” من سلطة “عسكر النظام” و”الميليشيات الإيرانية”، بعد أن وعدوهم بـ”النصرة” أو “الشهادة في سبيل الله”، وقد كانوا قريبين منها عدة كيلومترات فقط… وإذ بـ”الإسلاميين” يهاجرون إلى الشمال، تاركين أهالي البلدات الذين انتظروا طويلاً “نصرتهم”، وسلموهم إلى “النظام” و”ميليشياته”، واستغنوا عن “الشهادة في سبيل الله”. حدث هذا باتفاقات إقليمية مريبة، قطرية ـ تركية من جهة، وإيرانية من جهة أخرى، على طريق إقامة كيانات “سنية” و”شيعية” مستقبلية، فيما سلمت تركيا حلب إلى”النظام” و”الميليشيات الشيعية”، فقصمت ظهر “معارضة النظام” نهائياً، مقابل منحها الحرية في منع تشكل “دولة كردية” في مواجهة الضغوط الأمريكية.

وبعد ما تم الاتفاق على تقسيم “الكعكة السورية” بين القوى الإقليمية والدولية، لم يعد هناك مبرر لوجود “داعش”، التي حضرت إلينا كل القوى الإقليمية والدولية بدعوى قتالها، فاستكملوا تدمير البلاد بدلاً من تدميرها… أما “داعش” فقد تلاشت لوحدها بهدوء نسبي، دون أن تترك أثار “أسرى حرب  أو محاكمات…، بعد أن أدت دورها في مسلسل أمريكي هوليودي متقن الصنع مخابراتياً.

وفي هذه الأثناء، تحول السوريون بجميع أطرافهم إلى المشاركة في مشاهد مسرح موت عبثي على أراضيهم، يلعبون فيه معاً أدوار “القاتل” و”المقتول”، في صراع بين “مشروع وهابي خليجي” و”مشروع شيعي إيراني”، إلى جانب صراع من أجل “بناء مشروع إخوان مسلمين إقليمي” “بناء هلال شيعي”، لتكتمل حكايات الموت بصراع خفي ضاري بين الروس والأمريكيين على مناطق النفوذ… ثم فقد السوريون الحماس لأدوار “القاتل” و”المقتول” معاً، في لعبة لم يعودوا يدركون أبعادها.

يموت الأهالي في المناطق الواقعة خارج سلطة “النظام” ـ المسماة “محررة” ـ بقصف تدميري لا يرحم، يمارسه “الجميع ضدهم”، في اختبارات لأحدث الأسلحة، بما فيها الصواريخ العابرة للقارات. وبالمقابل لم تسلم مناطق “النظام” من الجنون الذي ينال الجميع، فليس هناك خيار أمام الشباب من كل الأعمار إلا سوقهم إلى “الخدمة الإجبارية” أو “الخدمة الاحتياطية” أغناماً ماضية إلى “الذبح”، في حروب “الآخرين” العبثية… أو التهجير والتشرد في أصقاع الأرض.

تشظت البلاد، وقد اقتسمتها القواعد والجيوش والميليشيات الأجنبية، و”تشظى” الإنسان معها أيضاً، وقد اقتسمته “عسكرة النظام” و”أسلمة ما تبقى من معارضة”، بحدودهما القصوى… و”تشظى” في الوقت نفسه من رُمي خارج البلاد. في الداخل إنسان ممزق بالرعب والموت المجاني، وعليه أن “يصفق” بقوة لآلهة بهيمية متوحشة غامضة، كي يعيش، وفي الخارج ممزق بالضياع والتشرد، و”الحنين” لأشياء مبهمة كانتها البلاد؛ بيته وأصدقائه وذكرياته… وإلى جانب ذلك عدنا نعيش جنون “ما قبل الحداثة”، لا أدري إن كنا قد غادرناها أصلاً؛ جنون “البداوة”، و”الطوائف”، و”عسكرة البوط”، و”عسكرة السيف”، وتحول من يمثل السوريون إلى “دمى في مسرح عرائس.” وأصبحنا نتحدث عن “نصيريين”، بدلاً من علويين، وسنّة، ودروز، وإسماعيليين، وعن “تشييع ولطميات”، و”أمويين وحسينيين”… عن مسلمي و”مسيحيي جزية”… عن عرب، وأكراد، وتركمان، و”فينيقيين” بانتماءات جديدة… عن عبدة “ابن تيمية” و”الإمام علي”، وطقوس وثنية لـ”البوط العسكري” و”بوتين”… عن “كعبة مكة” و”كعبة قم”… وعن “غرانيق” جديدة في الأرض.

… وهكذا ولدت روايتي الأخيرة “تشظيات”؛ تشظيات الإنسان السوري من أي طرف كان، وفي أي مكان كان… أصبحنا في الوقت نفسه “جلادين” و”ضحايا” لأنفسنا…”ساديين” و”مازوشيين”، نغرق في أحلام يقظة يائسة تعبيراً عن فشلنا في مواجهة الذات والواقع. أكتب “تشظيات” بناء على شهادات “ناجين من الاعتقالات”، و”ناجين من الغرق في البحار”، مازالوا يعيشون الجرح اليومي النازف… شهادات “جلادين للنظام” و”أمراء حرب إسلاميين” يفتخرون بساديتهم علناً… هي شهادات الموت والحياة… شهادات أعدت صياغتها أدبياً، ولكثرتها كان عليّ أن أختار منها لضرورات النشر.

لم تحطم “الانتفاضة السورية” تماثيل “الغرانيق” في الساحات فقط، وإنما تماثيل “الغرانيق” في العقول أيضاً؛ أشباه الآلهة تلك التي حاول عسكر “النظام الشمولي” أن يزرعوها في أذهاننا بالرعب والقمع… لكن في الوقت نفسه أتساءل من أين يأتي كل هذا العنف الذي يعيشه السوريون، وبأيديهم؟ هل هو ميراث الستالينية، الذي ورثته “الأحزاب العقائدية” لدينا، التي انكشفت هشاشتها وجذورها العشائرية والطائفية، بغض النظر عن علمانيتها الشكلية، ميراث تشربه العسكر، بعد أن دعموه بمزج عجيب من “فقيه السلطان”… أم هو “طبائع البداوة” و”الاستبداد الشرقي” المتجذر في نفوسنا وثقافتنا اليومية… أم هو تداعيات “تهميش المدن والأرياف” من قبل “استبداد عسكري أمني” خلال زمن طويل لصالح “مافيات إنكشارية طائفية”… أم هو “الترييف العسكري” ـ بمظهره “السلطوي” ـ في مواجهة “ترييف محافظ متعصب”… أم هو “عسكرة الحياة اليومية والمؤسسات والعقول والثقافة” التي مارسها العسكر والأحزاب العقائدية، إلى جانب تاريخ متجذر من “الدعوة اليومية إلى الجهاد على منابر المساجد” يقابله “خوف الأقليات التاريخي العميق”… أم هذا كله مجتمعاً؟

منذ السنوات الأولى لـ”الانتفاضة” ساد نقاش بين الروائيين السوريين عن الكتابة عن “الثورة السورية” أو عن “الحرب” لمن فقدوا الأمل من الثورات بعد أن عاشوا المآلات… هل نكتب في خضم الأحداث، أم عندما تنجلي الأحداث؟

كان رأي الجهة الأولى هي الكتابة في خضم الأحداث، فتأتي الحكايات أكثر حرارة وانفعالية، حيث يمكن نقلها بصورة أكثر واقعية ووثائقية، فالروائي هو ابن الأحداث التي يعيشها، وهو الذي ينفعل بها، وينقلها مباشرة، وهنا بالذات من خلال احتكاكه المباشر مع الموت والخراب والتهجير.

لكن بالمقابل كان رأي الجهة الثانية معاكساً، إذ ينبغي انتظار انجلاء المشهد في خواتمه، حتى يمكن محاكمة الأحداث التاريخية بطريقة أكثر عقلانية، فمن كان يظن أن “الانتفاضة السلمية” ستفرز “إسلامييها المتطرفين”، على سبيل المثال، ومن كان يتوقع هذا الجنون من تدخل القوى الإقليمية والدولية في بلادنا من جرائها؟ وبرأيهم سيكون مثل هذا الحذر ضرورياً كي لا يسقط الروائي في موقف تاريخي لا يحسد عليه.

يبدو أن كلا الطرفين لديه نقاط قوته الإيجابية والسلبية… طبعاً مع الحفاظ على خصوصية كل روائي في مقاربة الأحداث. لكن هل كان من السهل أن تقول لروائي الآن بأن يتوقف عن الكتابة حتى انجلاء الأحداث؟

بالنسبة لي، لم أكن أفكر بأي من الرأيين السابقين، على الأقل بشكل مباشر، فأنا دائماً أعتقد أنني لست روائيا محترفاً، مع أني نشرت روايتي الأولى “وصايا الغبار”، والآن روايتي الثانية “الغرانيق”. لكن الكتابة اليومية ـ وإن بأبسط أشكالها كملاحظات ـ هي بالنسبة لي جزء من نفسيتي، ومن نمط حياتي، وطريقة تفكيري، هي جزء من حياتي اليومية، وأمارسها كما أمارس “أحلام اليقظة”… هي الهواء الذي أتنفسه وأعيش به، والحلم الذي يجعلني أحتمل الحياة القاسية حولي، سواء بوجود “حرب” أو بدونها.

وبالمقابل لدي شعور مبهم دائم أني أطفو في الزمن، مما يجعلني أعيش حياتي كأحداث كرواية، فتتكامل الحياة اليومية مع الكتابة في صياغتها. وبهذا تغدوا الحياة التي أعيشها رواية، والرواية التي أكتبها هي حياتي. ولذلك أكتب دائماً بضمير المتكلم “أنا”، ويسيطر دائماً على رواياتي بطل واحد، لكنه منفصم الشخصيات، أو بالأحرى متشظ إلى عدة شخصيات في آن واحد، هو انعكاس لتشظينا في الحياة؛ في مجتمع قمعي يفرض وجوده على أدق تفاصيل حياتنا، حتى على أحلامنا. ومنذ طفولتنا يحتل “رجل الأمن” و”رجل الدين” ـ عسكرة وأسلمة بتوافق غريب ـ حيزاً كبيراً من حياتنا… ولقد عشت أيام الحرب ـ دون أوهام البطولة ودون أحلام اليقظة الجماعية عنها ـ كشاهد على الموت والخراب والتهجير، أنا وعائلتي وأقارب أصدقاء لي، وهو ما سجلته في كتاباتي.

هل أبدو بهذا ميالاً إلى الرأي الأول عن الكتابة في خضم الأحداث؟ ربما نعم، ولكنني باللاشعور كنت حذراً من الوقوع في التداعيات السلبية التي يعرضها الرأي الثاني… فأنا أكتب دائماً عن إنسان مأزوم، منفصم، متشظ، ولا مكان لدي لتمجيد شخص سيكشفه الزمن  “ديكتاتورا عسكرياً”، أو “أمير حرب إسلامياً”، ولا أتحمس لمجموعة سيكشفها الزمن لاحقاً مجموعة إرهابية أو إسلامية متطرفة… أكتب عن المجرم، الذي سيبقى أبد الدهر مجرماً بأفعاله، وأكتب عن الإنسان البسيط المعذب، الذي سيموت بسيطاً ومعذباً… أكتب كي لا تشوه دعاية “المنتصر” حقيقة الموت والخراب الذي نال منا جميعاً… أكتب الحكاية كي لا ننسى، حكايات الشوارع البيوت والحقول، التي دمرتها الحرب، حكايات المصاطب الطينية التي تظللها أشجار الجوز ونشرب عليها الشاي في البلدات، وحكايات الأسواق الشعبية في المدن. حكايات بلا “عسكرة” و”أسلمة”، بلا “بوط عسكري” و”سيف إسلامي”.

كتبت هذه الشهادة بطلب من “صالون سوريا” وستتبعها شهادات أخرى لكتاب وشعراء سوريين يتحدثون عن تجربتهم الشخصية في الكتابة في سياق التجربة السورية في السنوات الأخيرة.

أيُها المَوت توقَف عَن التَحديق في أطفالِنا وارحَل بعيداً

أيُها المَوت توقَف عَن التَحديق في أطفالِنا وارحَل بعيداً

المَكان: الأرضً التي غَدا أطفالًها وجبةً يوميةُ شهيةً للموتِ والاغتصاب.

الزَمان: زمنُ النار وزمنُ القتلى وزمنُ الأهوال، زمنُ العار.

الحَدَث: نظرةٌ حزينةٌ منكسرةٌ لطفلٍ امتلأ قلبُه رُعباً بعدَ أن تعرضَت طفولَتَهُ للاغتصاب.

مشهدُ الإذلالِ الأبشع منَ الموت

في ذلك الصباح الحزين المُخَضبِ بالدمعِ وبحيراتِ الحُزن ما كانَ عقلي يعمل، ساعةُ القلبِ وحدَها كانت تدُقُ بِخَفقاتٍ مجروحةٍ تكاُد الروحُ تخرجُ فيها من بين دَفتي الصدر, وأنا أرى هذا الطفلَ الذي تعرضَ للاغتِصاب. في هذا الزمن السوري المستباح في هذا الزمن السوري المُفتت كالغُبار يُغتَصبُ الأطفال السوريون ويُرمَونَ في الشوارعِ لا شيءَ يَحميهم أو يُغطيهم سوى الغطاء الجوي للكرة الأرضية.

الأطفالُ السوريون اليوم تحتَ النار طفولَتُهم  تترنحُ ودَمُهُم ينهمرُ في ظلِ انحطاطٍ سياسيٍ وانحطاطٍ اجتماعيٍ وانحطاطٍ اقتصادي وحربٍ أهليةٍ وقمعٍ وإرهابٍ وقتل وسجونٍ ومُعتقلاتٍ وتصفياتٍ سريةٍ وطوائفَ وعشائرَ وجنرالاتٍ يتحكَمونَ بِرقابِ البشرِ القطعان, كُلُّ شيءٍ في سورية مُباح لِأنَ القانون مُستَباح, الإنسانُ في سورية خانعٌ ومهزوم ومُستَلب ومُزَعزع الروح، فالليلة وكُل ليله وفي جميعِ الأوقات دماءُ السوريين مَهدورة لا يعرفون متى وبأيِ أرضٍ يموتون لكنًهم يعرفون أنَّ الموتَ ينتظرُهُم هُناك.

مُحَمَد هذا الطفل، نموذجٌ لِأطفالِ سورية المُطوقين في جَفن الردى الذي ينهشُهُم حتى لَتبدو حياتُهم ضرباً مِنَ الحُلُم يُستَعادُ كًشريطٍ سينمائيٍ جميل مُفعمٍ بالأسى وفُقدانٍ الذاكرة فيصيرُ الموت هوَ الحقيقة وليسَ الحياة، هَكذا يزحفُ الموتُ نحوَ الأبرياء نحوَ الأطفال بلا عقلانية وعشوائية ومجانية.

كُلُّ طفلٍ في سورية قًدّ يكونُ مُحَمَد

أطفالُ سوريةَ اليوم تحتَ السكين تتلوى أجسادُهُم الرقيقة من الجوعِ والقَتلِ والإرهابِ والاغتصاب، أجسادُهُم وهي تَتَمزقُ وتُغتَصب وحدَها تصرُخُ في زحمةِ الموت هل تُرى لا يستَحقُ أطفالُ سوريةَ غيرَ الموتِ في هذا الزمَن الأَعمى؟ في زمنِ “العار”، هل هُناك من أملٍ لِأطفالٍ يحيون في قلبِ هذا الجحيم ؟ وهل ينبَغي إن كُنا صادقين أن نَشعُرَ بِنَبضةِ تفاؤُل تحتَ غمرةِ هذا الاجتياح البربري للموت اللاعقلاني المُنفَلِت من عِقالِه على سطحِ الأرضِ السورية ؟

مُحَمَد مَلأت الجراحاتُ وَجهَهَ وجَسدَه وكأنَ سادياً هوَ مَن انتزَعَ مِنهُ براءتَهُ، كانَت ترتَمي مِن عَينيه الرائِعَتين ظلالُ الحُزنِ العَميق تُحِيطُهُما أشعةُ الخوفِ فتُعطي لِنَظرتِهِ عُمقاً، كانَت عيناهُ تقولان كَم هوَ مُخجِلٌ ومُحزِنٌ أنَّ كثيرينَ مِنَ السوريينَ اليوم يَحسُدونَ الكِلاب.

حِزبُ الصَمت

قيلَ يوماً لا تخشَ أصدقاءك فأقصى ما بِإمكَانِهم خيانتُك ولا تخشَ أعداءكَ فأقصى ما يستطيعون اغتيالَك بل اخشَ اللامُبالين مَن يقولون امشِ الحَيط الحَيط وقُل يا ربِ السَتر، مَن يقولون مَن يأخُذ أُمنا نُسميهِ عَمنا، مَن يقولون العَين لا تُقاوِمُ المِخرَز، مَن يقولون “الإيد اللي ما فيك تَعضها بوسها وادعي عليها بالكسِر”، فَصمتُهُم يُجيزُ الخيانَة ويُبررُ القَتل.

وقفتُ قليلاً لِأرى ما سَيفعَلُهُ السوريون لِهذا الصَغير، مُحَمَد المُغتَصَب، بعضُهم مَرَّ قائِلاً إِنّا لله وإِنّا إليهِ لَراجِعون ولا حَولَ ولا قوةَ إلا بالله ناسياً صوتَ الأجدادِ الصارخِ بالخليفةِ والله لو وَجدنا فيكَ اعوجاجاً لَقومناهُ بِحَدِ السُيوف وبعضُهُم مَرَّ دونَ فِعلٍ أو حتى ردِّ فِعل وكأنَّ مُحَمَداً كانَ يَعتَمِرُ قُبَعَةَ الإِخفاء وكَأنَّ الذَبحَ والقتلَ والاغتصاب صارَ أمراً عادياً لا تَستوقِفُنا بشاعتُهُ وأفضَلُهُم أحضرَ شَرشَفاً وغطى بِهِ بَراءَةَ مُحَمَد مُغطياً بِذلِكَ عارَنا.

الوَطنُ يَتمَزقُ أشلاءً، وأطفالُ سوريةَ يُحرَمونَ مِن بَراءَتِهِم ومَعَ ذلِك فالمواطِنُ السوري المُحايِد لا يَصرُخ، بل يصمت، يَبيعُ ويَشتري ويَهرُبُ بَعيداً عَن النارِ اللافِحةِ يقولُ “ما دَخَلني فَخار يكسِر بَعضو.”

أَيُها الموت تَوقَف عَن التَحديقِ في أطفالِنا وارحَل بعيداً

مُحَمَد طِفلٌ في عُمرِ الفاجِعَة، مُتعَبُ المَلامِح، مَذعُورٌ كذئِبٍ جَريح، بِوَجهِهِ المُحترِق مِن وَهجِ الشَمس، تَعَرَضَ كَما كَثيرونَ غيرُهُ مِن أطفالِ سوريةَ لِلإذلالِ الأبشَعِ مِنَ الموت “الاغتِصاب”، عَورَةُ مُحَمَد المَكشوفَة كَشَفَت عوراتِنا، عَرَتنا، كَسَرَت كِبرياءَنا،  تَصرُخُ بي عَيناه أَن “لا يُلامُ الذِئبُ في عُدوانِهِ… إِن يَكُ الراعي عدوَّ الغَنَمِ.”

عصيرُ الحياةِ المُر وعجينَةُ الموتِ اليومي تَقذِفُ حِمَمَها إلى كُلِّ الجِهات، والموتُ يَفعَلُ في أطفالِ سوريةَ فِعلَ المُتوالية الحِسابية فَهوَ ما إِن بَدأَ لَم يترُك لِطُفولَتِهِم فُسحَةً لِالتِقاطِ الأنفاس فَصارَت حُدودُهُم كَما يَقولُ الماغوط مِنَ الشِمالِ الرُعب ومِنَ الجنوبِ الحُزن ومِنَ الشَرقِ الغُبار ومِنَ الغَربِ الأطلال والغِربان بَعدَ أَن غَدَت طُفولَتُهُم وَجبَةً يَومِيَةً لِلموتِ والاغتِصاب.

في أعماقِ مَن تَبقى على هذهِ الأرضِ السوريةِ المُستباحةِ مِن أطفال صَرخَةٌ تَنشُدُ الحَدَ الأدنى مِن حياةِ الحُريَةِ والكرامَةِ والمُستَقبَل فَذاكِرةُ الأطفالِ حَيَةٌ لا تنسى الإرهابَ والخوفَ والتجويع.

وَرَقَةُ التوتِ الأَخيرة

أيُها الصامِتونَ في كُلِّ مَكان على أرضِ سوريةَ قِفوا وألقوا نَظرةً خاطِفَةً على ما كُنتُم عليه وما أنتُم عَليه الآن مِن نِعَمٍ ومباهِجَ ومَسرات، أينَ كُنتُم تَسكُنون وتُقيمون وأينَ صِرتُم تَسكُنون وتُقيمون، ماذا كُنتُم تأكُلون وماذا صِرتُم تأكُلون، كُلُّ هذا لم يأتِ مِن فَراغ بَل هوَ نِتاجُ رَبيعِ الدَّمِ الذي أغرَقَ السوريينَ في الفَقرِ والجَهلِ والمَرَضِ والجوعِ والتَخَلُف.

أيُها المُسَلَحونَ الأكارِم، أياً كانَتِ انتماءاتُكُم وطوائِفَكُم وأهدافَكُم وأنواعُ أسلِحَتِكُم، تابعوا أعمالَكُم ولا تُبقوا على شيءٍ في سورية… دَمِروا مَصانِعَها، اهدِموا مساكِنَها لا تَترُكوا في سوريةَ إلا الدُخان والخَرائِب… ولَكِن فَقَط تَرَفقوا بِالأطفال، فما جَريمَتُهم إن وُلِدوا في سوريةَ وفي هذهِ المَرحَلة؟

في عَصرِ الموتِ السوري يُولَدُ أطفالُ سوريةَ في زَحمَةِ الموتِ مَذعورين ويَرحلونَ في زَحمَةِ الموتِ مَذعورين. مسكينٌ يا مُحمَد، مِسكينُ أيُها الطِفلُ السوريُ الجَريحُ المُتعَب كَم مِنَ التزويرِ والتشويهِ يُرتَكبانِ بِحَقِ طفولَتِكَ بينما نَحنُ مُنشَغِلونَ بِآخِرِ وَرَقَةِ تُوتٍ تُغَطِّي عَوراتِنا.

سوريون في السودان: على سيرة الهجرة واللجوء

سوريون في السودان: على سيرة الهجرة واللجوء

يفرض الوجود السوري في السودان الكثير من الأسئلة، ليس أوّلها تاريخ العلاقة بين البلدين وآفاقها أو بتعبير آخر القواسم المشتركة، عندها يقفز الكثير من السياسي ليحتلّ المشهد، أو العناوين والمنشيتات العريضة، في حين يُكشَف عن واقع آخر يقاسيه السوريون في هجرتهم إلى السودان. حيث لا تبقى تلك النظرة المطمئنّة إلى التاريخ والآفاق على حالها على الرغم من كثرة القواسم، بل وزيادتها عن حدّها أحياناً، إذ لابدّ من وضع الهجرة اليوم في سياق مسبباتها الأولى، أي الحرب السورية المستمرّة منذ سبعة أعوام.

تعددت محطات الهجرة السورية، بل والتهجير أيضاً، دولُ الجوار كانت الأقرب لكنها لم تكن الأرحم ولا الأفضل، قضى لاجئون سوريون حاولوا العبور إلى تركيا، واقتحم الجيش اللبناني مخيمات للاجئين سوريين، وتحوّل مخيم الزعتري في الأردن لأكبر كارثة لجوء في المنطقة، في حين أغلقت دول الخليج حدودها ولم تستقبل لاجئاً واحداً، ولم تسقط شرط التأشيرة عن السوريين حتى في هذا الظرف الاستثنائي! عند هذا الشرط الأخير، أي التأشيرة، يبرز السبب البيروقراطي الذي يشرح لماذا توجّه السوريون إلى السودان؟ فهو البلد العربي الوحيد، بالإضافة لعدّة بلدان قليلة غير عربية، لم يشترط على السوريين التأشيرة حتى يدخلوا أراضيه. إذن تضافرت العوامل في الأعوام السابقة، بين الحرب والسياسة من جهة، وبين العبور المحفوف بالموت إلى أوربا وتحوّل المتوسط إلى كابوس ثقيل ينضاف إلى كوابيس الحرب السورية، وبين السفر الآمن إلى بلد آمن (السودان)، وعدم قطع الصلة نهائياً مع إمكانية العودة إلى سوريا. كلّ ما سبق يُساعد في وضع اليد على واقع حال أكثر من مئتي ألف سوري، (في إحصاء تقديري غير رسمي)، موجودين حالياً في السودان.

الأشقياء، الحظّ عدوّنا

محمد، مازن، وعمار، (أسماء مستعارة) ثلاثة طلاب سوريين أنهَوا دراستهم الجامعية في جامعة دمشق، كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية (الهمك) عام 2015، يقول محمد: “الطلاب في دول برا تحتفل بالتخرّج الجامعي ثم تبدأ مباشرة بتأسيس حياتها العملية والأسريّة، أمّا نحن فشوفة عينك، ادخرنا كل ما نملك ودفعناه ثمن تيكت طيارة، وها نحن نحتفل هنا بهذا الطقس اللطيف” في إشارة منه للحرارة الشديدة في مدينة الخرطوم التي تبلغ أكثر من 40 درجة مئوية. المجموعة التي بدأها محمد وصديقاه لم تمرّ عليها سنتان من الزمن حتى توسّعت، فبلغت أكثر من ثلاثين شابّاً تتشارك كلّ مجموعة منهم بيتاً أو شقة، يراوح عدد المجموعة الواحدة بين الستة أو العشرة أشخاص، لكن تبقى مجموعة الواتساب التي أسسها محمد، وأطلق عليها اسم الأشقياء أو (يلي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى) هي الرابط الأساس بينهم، يتقاسمون من خلالها أخبار الوفود حسب تعبير محمد، ويقصد بهم الشباب الجامعيين الذين لفظتهم البلاد بعد أنِ استنفذوا كلّ وسائل التأجيل عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري.

يحقّ للطلاب الجامعيين في سوريا، التأجيل السنوي عن الخدمة الإلزامية سنتين عن كلّ سنة جامعية، وفي ظلّ واقع الحرب المدمّرة تحوّلت مواسم أو فترات السَّوْق كما يتمّ تسميتها في شُعَب التجنيد إلى أشباح وكوابيس ثقيلة تطارد الفئة الشابّة، التي ما إن تُنهِ الدراسة الجامعية (أي مبررات التأجيل) حتى تبدأ مباشرة بالبحث عن وسيلة للسفر خارج سوريا، ومن هنا لم يكن أثر الحرب بشعاً وتنكيلياً بالمناطق التي قصفتها الطائرات وحرثتها البراميل، أو المناطق التي احتلّتها قوى إسلامية متشددة فقط، فالبلاد كلّ البلاد صارت مرهونة بمظاهر العسكرة التي اجتاحت المجتمع، بالبدلات المموهة وبنادق الكلاشنكوف الملقّمة برصاص غير طائش أبداً، وأخيراً موضوع حديثنا هنا: الشباب المرهون بوقته وجسده لصالح شعبة التجنيد!

في تتبّع سيرة الأشقياء، لا نقف على محمد ومجموعته فقط، فبين صالونات الحلاقة السورية التي باتت تنتشر في أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وبين مطاعم المأكولات الشامية والحلبية، ستظلّ تجدُ شباباً سوريين تدور على ألسنتهم أحاديث الهمّ الثقيل وأسئلة عن الوقت الذي قضيته هنا؟ ومع من تسكن؟ ومن أين أنت في سوريا؟ (على ما يحمل السؤال الأخير في طيّاته الكثير من ردّات الفعل تبدو أحياناً على الوجوه وأحياناً أخرى على الألسن) الذي يدلّ على أنّ السوريين لم يحملوا أمتعتهم فقط في هجرتهم، بل تعدّوها إلى انتماءاتهم السياسية، ومواقفهم من النظام والمعارضة، والحرب المشتعلة بينهما أيضاً. في حين يبقى المتداول الأكثر شيوعاً على ألسنة هذه الفئة، هو تلك العلامة الكلامية، وكأنها مواساتهم الكبرى التي تقرّب بينهم مهما كان اللقاء قصيراً أو عابراً: “جيش ما؟  أليس كذلك”.  

من جهتها تعلن السفارة السورية في الخرطوم، عن مواعيد سنوية معيّنة لما يُعرَف بسندات الإقامة، الأمر الذي يُمكّن جلّ فئة الشباب هذه من استصدار سند إقامة يسمح لهم من خلاله بالعودة إلى سوريا لمدّة ثلاثة أشهر فقط دون أن يتم سوقهم للجيش، (يستنكف بعض الشباب المُعارِض هذه الممارسة، ويعتبرونها رضوخاً لسياسات نظامٍ يعارضونه!) بمعنى آخر سند الإقامة هو تأجيل محدود للمغتربين، لكنّ أهمية السندات الأساسية بالنسبة للحكومة لا تتشكل من كونها فرصة لعودة بعض الشباب إلى سوريا، بل من اعتبارها شرطاً أساسيّاً من أجل دفع البدل النقدي لإسقاط الخدمة الإلزامية عن المغتربين، ومقداره 8 آلاف دولار. هذا الروتين كان يسمُ حياة الشابّ السوري من قبل الحرب، كيف يسافر؟ وإلى أين؟ والمدّة المشروطة التي سيقضيها (أي أربع سنوات) حتى يتمكّن بعدها من دفع البدل، إذ لا يُقبل دفع البدل النقدي من غير قضاء هذه المدّة، ولا مؤشرات على إقرار مشروع البدل الداخلي إلى الآن. هذا الهمّ قديم عند الشباب السوري، لكنّه لم يكن ليظهر إلا بشكل محدود، فلا أحد كان يفكّر مجرّد التفكير بأنه لن يلتحق بجيش بلاده يوماً ما.

من هنا يتّضحُ أنّ أبرز سمة للوجود السوري في الخرطوم، هي غلبة الطابع الشبابي، بل الذكوري، التي تشكّل النسبة الأغلب، ليس همُّ العمل هو ما يجتذبهم، بقدر همّ الحرب والموت هو ما يدفعهم ويلفظهم خارجاً؛ إذ ليست فرص العمل في السودان بالتنوّع أو بالسهولة المتوقّعة، بالعكس تماماً إنّ معدّلات البطالة مرتفعة حتى بين الشباب السوداني أصلاً، وبالتالي فرص العمل محصورة في إطار المهن التي يخلقها السوريون بأنفسهم، والتي تنتمي إلى كل ما هو يدوي أو حرفي كالمطاعم أو الحلاقة أو نجارة الألمنيوم، هذه المهن وإن كان يقوم عليها أربابها، إلا أنّها تستقطب الشباب العاطل عن العمل بالضرورة كونها هي المتاح الوحيد لهم حتى لو كانوا خرّيجي جامعات، من غير أن توفّر لهم مرتّبات قد لا تتعدى شهرياً أكثر من ٨٠ إلى ١٠٠ دولار، ما يجعل حلم البدل النقدي بعيداً وغير مطروح أساساً، وهنا كما يقال يكتفون من الغنيمة بالإياب، فبعد معاينة سوق العمل في السودان على حقيقته وقسوته، يحاول الكثيرون قتل الوقت فقط، أو المسارعة لاستصدار سند الإقامة، (حتى المعارض منهم أحياناً) فإمّا أن يعودوا إلى سوريا ليتخّلفوا هناك عن الخدمة الإلزامية، أي في مناطق لا تسيطر عليها القوات الحكومية تمام السيطرة، ولا تخضع لقرارات شعبة التجنيد، أو يعودوا أدراجهم نحو دول الجوار لبنان بشكلٍ أساسي إن تعذّر دخولهم إلى سوريا، في الحالتين هم أشقياء… وأعداءٌ للحظّ.

لجوء أم مواطنة

لم تتوقّف التسهيلات البيروقراطية والسياسية التي قدّمها السودان للسوريين على إسقاط شرط التأشيرة أوّلاً، بل إنّ عاملاً أبرز بات يجتذب السوريين للقدوم إلى الخرطوم، وهو الحصول على الجنسية السودانية واستصدار جواز سفر سوداني، الأمر الذي عاد ببعض الأريحية ليس فقط على شريحة واسعة من فئة الشباب المذكورة أعلاه، بل تعدّاهم إلى فئة العائلات السورية. هنا يجب أن نحدد طبيعة الوجود السوري من ناحية قانونية، وكيف يمكنُ تعريفها وماذا تبقّى من لجوئهم أو تعريفهم كلاجئين طالما بإمكانهم أن يكونوا مواطنين في هذا البلد الذي “لجأوا” إليه؟ لكن قبل التدقيق في المصطلحات حقوقياً وقانونياً، تساعدنا طريقة وصول السوريين إلى السودان ومقارنتها بوصول آخرين إلى أوربا أو نزوحهم إلى مخيمات اللجوء في الداخل والجوار، تساعدنا في فهم الإطار العام لهذا الوجود، حيث يكفي السوري أن يقطع تذكرة بما يقارب ٢٠٠ دولاراً، حتى يستقلّ طائرة من الخطوط الجوية السورية، تنقلُه من دمشق إلى الخرطوم، أو في حالات أخرى من بيروت إلى الخرطوم، وبالتالي نحن هنا أمام عملية دخول إلى الأراضي السودانية  نظامية وقانونية لا يترتّب عليها أي مخالفة، وهي حركة أيسر بما لا يقارن مع تبعات الموت في المتوسط وقطع الحدود بين تركيا والاتحاد الأوربي.

من جهة ثانية فإن الخطاب الرسمي للحكومة السودانيّة يركّز على مقولة ضيوف لا لاجئين، وبغض النظر عن الإشكاليات السياسية والاجتماعية (السودانية ــ السودانية) المترتّبة على هذا المفهوم، لكن علينا أوّلاً ألا نقفز من فوق ظواهر الأشياء، فلا السوريين حُجزت حريّتهم في مخيّمات مُهينة للكرامة الإنسانية، ولا مُنعوا من حقّ العمل أو التعليم، ولا حوصرت حركتهم بمواقيت معينة أو حظر تجوّل، بالرغم من بعض الدعوات السودانية التي تعاني من جهل قانوني مدقع تطالب الحكومة بحجز السوريين في مخيّمات! وهذه دعوة لا تملك أي مسوّغ قانوني لها ولا بأيّ شكل، بالرغم ممّا يعانيه السودان من حروب داخله أو في جواره (كالحرب المشتعلة في دولة جنوب السودان)، ونزوح الكثير إلى الشمال حيث المخيّمات بالفعل. القياس الشكلي هنا بين الوجود السوري والجنوب سوداني يفتقر للكثير من المقوّمات التي تمكننا من اعتباره مقارنة أساساً.

سهيل، مهندس من دمشق وربّ أسرة، عَمل في الإمارات لأكثر من 15 عاماً، عندما عاد إلى سوريا كانت “الأحداث” كما يسميها في بدايتها، “عالخليج ما فينا نرجع حملت حالي أنا وزوجتي والولاد وجينا على السودان، أنا طلّعت جنسية من سنتين وصار فيني أرد أرجع عالخليج، وروح وأجي، والولاد كفوا تعليمهم هون.”  استطاع سهيل وهو رجل خمسيني من تأسيس مصدر دخل ثابت له بعد أن ربط بين عمله بالعقارات في الخليج مع عمله بالسودان، توسّعت أشغاله بعد أن أصبح مواطناً سودانياً وصارت حركته أسهل بين أكثر من دولة خليجية، بالرغم من أنّ الجواز السوداني الذي حصّله ليس أفضل حالاً من السوري في حقيقة ترتيبه، لكنّ الحرب السورية وتأثيرها الإقليمي، وخاصّة مع دخول دول خليجية على خط الصراع المسلّح، وقرار الجامعة العربية القديم بخصوص تعليق عضوية سوريا، كان وبالاً على كل السوريين دون استثناء، حيث يحلم الكثير من الشباب السوري في الخرطوم باستصدار جواز سفر سوداني لا لشيء إلا للتوجه فوراً نحو إحدى الدول الخليجية. استقرار سهيل في السودان لأكثر من خمسة أعوام مكّنه بسهولة من استصدار الجنسية، التي يُشترط للحصول عليها إقامة لستة أشهر فقط، ولم تكلّفه “المعاملة” كما يقول أكثر من ٥٠٠ دولار.

على العكس من سهيل، يعيش عبدالله واقعاً مزرياً ومختلفاً، فهو الآخر متزوج وعنده زوجة وأربعة أولاد يعيشون معه في الخرطوم لكنّه صُدم بواقع سوق العمل فيها يقول: “ما قدرت أصمّد أكثر من شهرين بعدين بديت المصايب وصفينا بالشارع كلنا، أنا والمرا والولاد. بصعوبة ومن بين المتسولين والمتسوّلات، رضي عبدالله بالحديث عن رحلته التي بدأت مع اجتياح داعش للحجر الأسود، حيث كان يقطن، وتحوّلها لمعقل أساسي للتنظيم الإسلامي المتشدد، نزح بداية إلى إحدى المدارس داخل مدينة دمشق، ثمّ سمع من مُقرّبين عن أنّ السفر إلى السودان غير مكلف وأنّ فرص العمل متوافرة، بيد أنّه لم يعد قادراً على تدبّر أمره عندما اكتشف أنّ أجرة منزل في الخرطوم ليست أقل من ٢٠٠ دولار، في حين أنّ سقف الأجور لعامل مثله لا يتجاوز ١٠٠ دولار، عندها لم يجد بُدّاً من النزول إلى الشارع ليتسوّل هو وجميع أفراد عائلته، في ظلّ غياب كامل لأي منظّمة أممية تُعنى بشؤون السوريين في الخرطوم، وهنا نجد أنفسنا أمام معضلة كبيرة في أنّ عدم تحديد وضع السوريين كلاجئين والاعتماد فقط على الآلية النظامية التي وصلوا بها إلى السودان تعفي الحكومة السودانية من تحمّل مسؤولياتها الحقيقية بالتنسيق مع المنظمات الدولية لوضع حدّ لهذه الظاهرة الخطيرة التي باتت تتوسّع وتنتشر بين هذه الفئة تحديداً، دون أيّ حلول جدّية!  بالمقابل تحرص الشريحة العظمى من السوريين في السودان على عدم تصنيفهم كلاجئين من قبل المنظمات الأممية، لأنّ هذا لن ينعكس إيجاباً عليهم على الإطلاق بالعكس سيتم سحب جوازات سفرهم منهم، ويعطون بطاقات لجوء لن يتمكنوا بعدها من العمل أو السفر، وتحدّ من حركتهم، وأقصى ما يمكن أن يتلقوه من مساعدات هي مرتّب ٢٠٠ دولار شهرياً فقط، ويعتبرون أنّ بعض المتسوّلين لا يشكلون ظاهرة ولا فئة إنما مجرّد أشخاص امتهنوا هذه المهنة ولا يرغبون الإقلاع عنها!

لا حلول أهليّة لمشاكل بيروقراطية

يتميّز اللاجئون السوريون في الدول العربية عن نظرائهم الذين وصلوا أوربا بأنهم لا يثيرون شهيّة الاستقصاء الصحفي، ولا أسئلة الاندماج والهويّات، في إعلام يتصدّره خطاب الخصوصية الثقافية ومراكز أبحاث مهووسة بتنميط الناس حسب أديانهم وثقافاتهم، مع ذلك فإنّ المشكلات الاجتماعية أو السلوكية الناجمة أو المترتبة على هذا الشتات قلّما تجد (في الحالتين) من يقرأها إلا ضمن هذا الإطار، أمّا على سويّة شعبية فيتراوح التعاطي بين قيم التغني بالكرم ومحاباة الضيوف من جهة، أو بين العداء والتشكك بهؤلاء الغرباء من جهة أخرى.

تبقى المشكلة الأكبر في هذه الأنماط الإعلامية والنخبوية التي تعزل المهاجرين عن واقعهم، من منطلق (هكذا تتطلّب المهنة)، في حين يغرق السوري ويتخبّط بمشاكل يوميّة قد يكون حلّها يسيراً ولا تُكلّف أكثر من معاملة حكومية، بيد أنّ البيروقراطية التي يخضع لها المهاجرون السوريون، ليست هي بيروقراطية المعاملات الرسمية والروتينية في الدولة، بقدر ما تحمل معها بُعداً سياسياً خطيراً، وهنا تجد أنّ الواقع السوري في السودان هو الأقل معاناة من حيث حرية الحركة وقيود العمل (فرض لبنان نظام الكفالة على دخول السوريين إليه، وهذا أيضاً نشّط الهجرة نحو السودان ولو مؤقّتاً).

بالمقابل صار الوجود السوري أكثر ارتباطاً وتأثُّراً أيضاً بالظرف الاقتصادي المفروض على الدولة ذاتها، أي السودان. فالبلد يعاني حصاراً اقتصادياً وعقوبات منذ قرابة العشرين عاماً، ولو سبرنا آراء السوريين عن رفع العقوبات مؤخراً، فالكل سيبادر بالحديث إيجاباً ويأمل أن رفعها سيحسن من ظروف العمل ويقوّي الاقتصاد؛ فالعقوبات شيء مجحف وسيّئ بالضرورة، لكن بعد أن رُفعت العقوبات شهد الجنيه السوداني انهياراً سريعاً من ١٨ جنيه للدولار الواحد، إلى الثلاثين، وهذا سرعان ما أثّر على أسعار العقارات المستأجرة، والمواد الغذائية، في حين يتمّ النظر إلى السوريين أنّهم أحد عوامل هذا الغلاء دون أن يتأثروا به كونهم يمتلكون سلفاً العملة الصعبة، ويدخلونها إلى البلد، ولا يسكنون إلا الأحياء الراقية في العاصمة!.

أخيراً، وبالرغم من تراكم المشاكل في واقع السوريين الذين فُرضت عليهم الهجرة، والتي تبدو أنها مشاكل مصاغة ضمن بنود قانونية داخل بلدهم أولاً، ثم في البلدان التي هاجروا إليها، فإنّ الحلول بالمقابل تعاني من الارتجال والفرز الذي يُركّز على شرائح منهم، ومشكلات مثيرة إعلامياً كالاندماج في أوروبا وخلافه. وكما تُرك الداخل السوري لحلّ مشكلاته في إطارها الأهلي بعيداً عن القانون وسيادة الدولة يسير الخارج السوري في ذات الطريق، مع غياب المشاريع الجديّة والحلول التي يجب أن تقوم عليها دول ومنظمات أممية، ولو أنّ شيئاً من هذا لا يلوح في الأفق القريب.

كلفة النزيف السوري

كلفة النزيف السوري

في كل مرة يتم الحديث فيها عن كلفة الحرب في سوريا، تظهر أرقام مخيفة حول حجم خسائر سوريا نتيجة الحرب. لذا فإن الحديث عن تكلفة أي حرب لا يمكن أن يكون مجرد عملية حسابية، إذن ان الحرب لا تقتصر على حساب كلفة دمار البنى التحتية والقطاعات الانتاجية والاقتصادية،  إنما تشمل تكاليف الحرب الخسائر البشرية والمجتمعية.

رغم وجود عدد من الاحصاءات والدراسات التي تقدر كلفة الحرب في سوريا، فان إيجاد مؤشر قياسي لتحديد الكلفة بشكل دقيق يكاد يكون شبه مستحيل نتيجة استمرار الحرب والصراع، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم. مع ذلك فإن فهم جوهر كلفة أي حرب وحجمها أمر ضروري للغاية لتحديد الاحتياجات الأولوية، ولإعداد خريطة لإعادة الإعمار التي يمكن البدء فيها عند ظهور أول مبادرة للاستقرار والسلام.

قد يكون حساب كلفة الحرب أمر بغاية التعقيد إذا ما اقتصر الأمر على طرح رقم كلي لمجموع أضرار الحرب، لكن يجب أن لا ننسى عند الحديث عن الكلفة بأن تكون النظرة شاملة وعامة تشمل أضرار الممتلكات والقيمة الاقتصادية المفقودة للقتلى أو المعوقين في الحرب، وتكاليف الاضطرابات الاقتصادية في زمن الحرب. وعلى عكس ذلك، فإن التكاليف “السلبية”  أي المكاسب الاقتصادية الناجمة عن الحرب – هي عوامل ينبغي أخذها في الاعتبار عند تحديد تكاليف الحرب،  ولا نغفل أن جزء من التكاليف سينقل إلى الأجيال المقبلة على  شكل رسوم فائدة على ديون الحرب، وعادة ما تستمر هذه الرسوم لفترة طويلة بعد أن تفقد الديون هويتها في مجموع الدين الوطني، في فئة مماثلة هي تكاليف المعاشات التقاعدية والمكافآت للمحاربين القدامى والرعاية الطبية للمتضررين من الحرب.

كما أن فاتورة أي حرب لا تقتصر على تكلفة الدبابات والطائرات وغيرها من الأسلحة المشاركة في الحرب بل يوجد أيضاً تكاليف يصعب تقديرها مثل العلاج الطبي والنفسي لتأهيل الجنود والمدنيين الذين أصيبوا خلال الحرب، إلى جانب الخسائر غير المباشرة الناتجة عن توقف عجلة الصناعة والتجارة والزراعة؛ وضياع سنوات من التعليم وفقدان عدد كبير من القوى العاملة التي كانت تشكل يوماً من الأيام أساساً اقتصادياً هاماً لنمو سوريا، نتيجة وجود نسبة كبيرة من فئة جيل الشباب ضمن الهرم السكاني لسوريا.

استناداُ إلى ما جاء قي في آخر تقرير صادر عن البنك الدولي قدر فيه حجم الخسائر في سورية بنحو 226 مليار دولار أميركي، شملت تلك الخسائر التي ذكرها التقرير إلى حد كبير تفاصيل عدد القتلى وحجم الدمار وتقدير كلفة الأضرار البشرية والمادية ، وما ذكره التقرير من أرقام طالت جميع القطاعات البشرية والاقتصادية يكاد يشكل رقماً مرعباً للأجيال القادمة التي ستتحمل جزء من تسديد فاتورة هذه الحرب.

من جانب آخر، تغفل بعض التقارير والاحصاءات الاقتصادية المتعلقة بحساب كلفة الحرب ، حساب خسائر الرأسمال البشري والمادي الذي تم تهجيره، حيث شهدت سوريا خلال السنوات الأخيرة هجرة كبيرة لرؤوس الأموال البشرية والمادية، على صعيد فئة الشباب خسرت سوريا نسبة كبيرة من القوى العاملة الفتية، منهم من قتل ومنهم من هجر لنجد أن غالبية القطاعات والمؤسسات العاملة تعاني من نقص لليد العاملة وللعقول الشابة. اذ خسر المجتمع  والاقتصاد السوري كوادر عديدة، أنفق عليها مبالغ كبيرة لإعدادها وتأهيلها، يضاف إليها خسارة دورها في إعادة الإعمار مستقبلا.

ولأن لكل خسارة أثرها على المجتمع نجد أن  الخسائر البشرية ترتب عليها مشكلات اجتماعية، تتعلق بوجود توازن بين عدد الذكور والإناث في المجتمع السوري، ما سيترتب عليه فقدان عدد من الإناث لفرصة الزواج، ما سيساهم بانخفاض عدد الولادات.

 من جانب آخر  دفع الأطفال ثمنا باهظا لهذا النزاع، حيث قتل مابين ٢٠ ألف طفل، جراء الأسلحة المتفجرة، أما الناجون من الأطفال فقد خسر أكثر من مليوني طفل فرصة التعليم نتيجة عدم ذهابهم إلى المدرسة، إضافة لوجود ٥.٧ مليون طفل بحاجة إلى المساعدة التعليمية. بالطبع لا تقتصر حاجة الأطفال للتعليم فقط بل هم بحاجة إلى رعاية نفسية للتعافي من سنوات إراقة الدماء التى شاهدوها. كما يحتاج الوالدان إلى الدعم المادي والمعنوي أيضا، فعندما يغرق الوالدان أكثر فأكثر في الفقر، تزداد المخاطر بالنسبة للأطفال ويضطرون للعمل ، تباع البنات في الزواج، ويحتاج الأهل إلى الاعتماد على عمل الأطفال، وهذه كارثة مستقبلية بالنسبة للجيل القادم.

في حرب مثل الحرب السورية،  لايمكن أن نتجاهل حساب كلفة تحطيم منظومة القيم العامة، التي يتطلب إعادة تكوينها الكثير من الجهد والوقت لاسيما وأن مفرزات الحرب خلقت طبقة من الناس يستسهلون العنف، والسرقة والخطف والغش والقتل. لعل كلفة هذه القيم ستخلق مظاهر مجتمعية غير طبيعية تحمل مورثاتها للاجيال القادمة لتكون بمثابة القنبلة الموقوتة المعدة للانفجار في أي وقت مستقبلاً.

كذلك واجهت سوريا أزمة انعكست على اقتصادها تمثل بهجرة مادية خارج سوريا، فقد تم نقل الكثير من المصانع والرساميل إلى الخارج، وهي بحسب أقل التقديرات لا تقل عن نحو ٥٠ مليار دولار. وهذه الهجرة مازالت تشكل تحدياً للأطراف المتنازعة في كيفية جذبها وإعادتها للداخل السوري بعد انتهاء الحرب، خاصة وأن عدم وجود استقرار واضح في سوريا سيؤخر من عملية إعادة الإعمار مستقبلاُ.

أما بالنسبة الى الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية، فان عدد القتلى من مختلف الأطراف لا يقل عن ٧٠٠ ألف قتيل، عدا عن عدد الجرحى المعاقين نتيجة الصراع لذين لا يقل عددهم عن نحو ١.٢ مليون شخص. هنا لابد أن نحتسب تعويضات شركات التأمين على حالات الوفاة في الحوادث، فقد كانت قيمة تعويض شركات التأمين قبل الأزمة تعادل ٧٥٠ ألف ليرة ماقيمته  ١٥ ألف دولار، بينما تبلغ قيمة التعويضات حالياً ١.٢٥ مليون ليرة أي ما يقارب ٢٥٠٠ دولار، إن وجود مثل هذه الفجوة بين قيمة التعويضات سابقا وحالياً سيطرح إشكالية حول القيمة الفعلية التي ستدفعها شركات التأمين للتعويض على حالات الوفاة، والتي يتوجب أن تبقى قيمتها تعادل ١٥ ألف دولار.

من الناحية العسكرية، نجد أن خسائر سوريا كانت فادحة في صفوف الجيش من قتلى ومصابين وجرحى ومفقودين، عدا عن عدد الانشقاقات بصفوف الجيش، وبالتالي فإن كلفة تعويض الجرحى والمصابين من الجيش مكلفة بشكل كبير وطويلة الأمد وهي أضعاف كلفة القتلى، وبالتالي ستجد سوريا صعوبةً في إعادة بناء جيشها مستقبلاً خاصة بعد الاستنزاف الذي تعرض له طوال سنوات الحرب. إلى جانب ذلك نجد أن ما تم بناءه خلال العقود السابقة من معدات عسكرية أسلحة وطائرات ومدرعات قتالية، كانت أسعارها بالسابق غير مكلفة فان الحرب ادت الى خسائر إضافية لا يمكن إنكارها حين إعداد فاتورة الحرب، فقد خسرت سوريا آلاف المدرعات ومئات الطائرات، ان اعادة بناء تلك المعدات مستقبلا سيكون مكلفا خاصة وان الاسعار لم تعد منخفضة.

بالحد الأدنى لو فرضنا أن سوريا بحاجة الى ١٠٠٠ مدرعة ودبابة لإعادة تشكيل  ثلاث فرق عسكرية مستقبلا، ووفق الأسعار الحالية نجد أن قيمة المدرعة تعادل ٥ مليون دولار وبحسبة بسيطة نجد أن سوريا بحاجة إلى ١٠٠٠ مدرعة مايعادل قيمتها ٥ مليار دولار. أما سلاح الجو لو فرضنا أن سوريا بحاجة لـ ١٠٠ طائرة حديثة فإن كلفة كل طائرة تعادل مابين ٢٠ إلى ٢٥ مليون دولار كأقل تقدير، وبالتالي فإن كلفة ١٠٠ طائرة تساوي ٢٠٠ مليار دولار، مع العلم أن الطائرات السورية هي من الجيل الثالث، يضاف لذلك ماخسرته سوريا من طيارين تكلفت بتدريبهم.

عطفا على كل ماسبق مهما حاولنا تفصيل كلفة الحرب، لكن لا يمكن أن ننكر حقيقة صعوبة اختصار كلفة النزيف السوري بأرقام  خاصة وأنه من المجحف عد وحصر  دماء السوريين  بمبلغ مادي أو برقم.

حين يخسر السوريون أمنهم ووطنهم، يصبح الحديث عن أي كلفة سواء كانت عسكرية أو اقتصادية لا قيمة لها  في حسابات السوريين الذين ضحوا بدمائهم ثمناً  لحياة حرة وكريمة.

فرص وعقد الحل الروسي في سوريا

فرص وعقد الحل الروسي في سوريا

مع نهاية وتيرة الصدام المسلّح في سوريا بين قوات المعارضة المصنفة معتدلةوالجيش السوري ثم الدخول في دهاليز التفاوض السياسي وفق الرؤية الروسية للحل، أصبح واضحاً تماماً بأن النظام السوري يمتلك أوراقاً أكثر تمكّنه من الحفاظ على قدرٍ كبير من السُّلطة في سوريا. صحيح بأن النظام الذي كنا نعرفه قبل ٢٠١١ قد انتهى، لكن بقاء رموز السلطة في الحكم والتي تحظى بدعم الدول الصديقة له، تجعل من مسألة إعادة انتاج نظام شبيهٍ قادرٍ على فرض أجندته وقبضته الأمنية من جديد أمراً ممكناً.

ماكان مستحيلاً ومرفوضاً خلال الأشهر الأولى من انتفاضات العالم العربي بات ممكناً وقد شهدنا إعادة إنتاج الأنظمة التسلطية في مصر واليمن وبدرجة أقل في تونس، وقريباً في ليبيا، حيث تتغير رموز السلطة الحاكمة دون المسّ ببنية النظام الدكتاتوري الذي ثار عليه الناس، بل أحياناً ينتج نظاماً أشد قمعاً من سابقه بحجة محاربة الفوضى والتدخل الخارجي.

لقد نجح أصدقاء النظام السوري في ضمان استمراريته وصموده طيلة السنوات السبع الأخيرة. فلولا دعم إيران وحزب الله لكان سقط عسكرياً في ٢٠١٣ (حيث تعتبر معركة القصير بداية اعادة التوازن لقوات الجيش السوري مقابل قوات المعارضة)، ولولا تدخل سلاح الجو الروسي في أيلول (سبتمبر) ٢٠١٥  فإنّ دمشق كانت ستسقط أثناء أسبوعين أو ثلاثة في يد الإرهابيين“، بحسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

كان لتشكيل “جيش الفتح” بعد توافق تركي سعودي قطري في الشمال السوري في اذار (مارس) ٢٠١٥ دورٌ بارز في طرد قوات الجيش السوري من كامل محافظة ادلب ومحيطها خلال ايام معدودة، بالإضافة الى معارك كثيرة خاضتها فصائل أخرى في ريف حماه واللاذقية ومدينة حلب وجبال القلمون شمال غرب العاصمة دمشق، وكان الحديث جديّاً يدور حول نسخ تجربة “جيش الفتح” في الشمال ونقلها الى الجنوب خصوصاً بعد سيطرة فصائل  ـ “الجيش الحر” على بصرى الشام ومعبر نصيب على حدود الأردن.

لم تكتف الحكومة الروسية بدعم النظام السوري عسكرياً، فقد تبيّن كما بات واضحاً الآن بأنها تملك استراتيجية وخطة عمل شاملة، فبعد أقل من شهرين من تدخلها العسكري في سوريا دعت إلى اجتماع جميع المنخرطين في الأزمة السورية في العاصمة فيينا، وبدون استثناء أي طرف كما حدث في جنيف ٢٠١٢ (حين تم استثناء ايران والسعودية).

أسفرت المفاوضات بعد ثلاثة جولات بوضع خارطة طريق للحل تحمل ثلاثة عناوين أساسية: وقف الاعمال العدائية، ضمان ايصال المساعدات الانسانية، والدفع بالعملية السياسية على أساس مقررات جنيف١ تحت إشراف الأمم المتحدة  وذلك عبر التفاوض بين النظام السوري والمعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة وغير طائفية (بدلاً من تشكيل حكومة انتقاليةكما ورد في جنيف١). يلي ذلك وضع دستور وإجراء انتخابات جديدة. طبعاً كان هناك الكثير من التفاصيل الملحقة مثل التأكيد على أن تنظيم “داعش” وجبهة النصرة المصنّفتين في “القوائم الارهابيةمن قبل مجلس الامن، والمتفق على تصنيفها من قبل المشاركين، يجب ان تُهزم.

ولعل أبرز إنجازات لقاءات فيينا كان إنتاج المجموعة الدولية لدعم سورياالتي كسرت الاصطفاف الدولي بين داعمي المعارضة وداعمي النظام، بالإضافة إلى تأييد مجلس الأمن لمخرجات فيينا٣.

من الملاحظ اجتهاد الحكومة الروسية لوضع مقررات فيينا٣ موضع التنفيذ عبر إصدارها في القرار ٢٢٥٤، ربما ساعدتها الظروف كثيراً في تحقيق ذلك ولكنها كانت أفضل من اقتنص الفرص. فالعلاقات الروسية التركية انقلبت فجأة إلى التنسيق والحميمية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز (يوليو) ٢٠١٦، وانخراط المملكة العربية السعودية في حرب اليمن، ثم ظروف ونتائج الأزمة الخليجية مع قطر، كل ذلك ساعد بشكل مباشر على تنفيذ المخطط الروسي بدءاً من إعادة سيطرة الجيش السوري وحلفائه وميلشيات تدعمها إيران على شطر مدينة حلب الشرقي وإخراج كامل فصائل المعارضة منه، ثم تحقيق البند الأول من مخرجات فيينا٣ المعني بوقف الأعمال العدائية، وذلك بالتعاون مع تركيا وايران في أستانة وانتاج أربع مناطق خفض تصعيد أساسية في سوريا (في الغوطة الشرقية، مناطق معينة في شمال محافظة حمص، مناطق معيّنة في جنوبي سوريا، ومحافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة لها).

وقد تزامن ذلك مع محاربة تنظيم “داعش” في سوريا والعراق بالتعاون مع الحكومة الأميركية وقوات التحالف الدولي وإضعاف التنظيم بشكل شبه كامل وإخراجه من المناطق التي يسيطر عليها. أما في الشمال السوري فقد تمت عملية فصل للفصائل المصنفة معتدلةعن جبهة النصرة بمساعي تركية، ثم حدث مؤخراً عملية تطهير داخل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) نفسها عندما أقدم زعيمها أبو محمد الجولاني على اعتقال وتوقيف المتشددين والأجانب المرتبطين بتنظيم “القاعدة” الأم داخل الهيئة.

بالنسبة للغوطة الشرقية تكفّل فصيل جيش الإسلام بالقضاء على عناصر هيئة تحرير الشام هناك، وأخرج اتفاق خفض التصعيد الأخير مع “فيلق الرحمن” ما تبقى من عناصرها إلى مدينة إدلب، بينما تكفّل حزب الله اللبناني بمساندة المدفعية والطيران السوري بالقضاء على وجودهم في جرود عرسال وجبال القلمون الغربي، في حين أشار رئيس الأركان العامة الروسي، فاليري غيراسيموف، إلى أن هدف روسيا لعام ٢٠١٨ هو القضاء على مسلحي جبهة النصرةوأمثالهم.

لم يحدث أي تطور فعلي على مستوى ضمان ايصال المساعدات الإنسانية، بل تُرك الموضوع سلاحاً للضغط على الفصائل المعارضة لتحقيق مكاسب معينة تحت أعين وأنظار العالم. أما بالنسبة للحل السياسي عبر التفاوض، فبعد فشل ثماني لقاءات حوار في جنيف، تقوم الخارجية الروسية بالإعداد لمؤتمر حوار سوري ضخم في سوتشي في نهاية كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨، وذلك بعد عمليات تطعيم  للمعارضة السورية، ومحاولات تطويع من تبقى منها ومن يساندها للرؤية الروسية للحل.

يبدو للوهلة الأولى بأن الأمور تمضي كما خططت موسكو بالضبط، فمخرجات لقاء سوتشي سوف تحدد ملامح الفترة الانتقالية ومن يقودها، ومشاركة المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان ديمستورا تعني بأنها تحت إشراف الأمم المتحدة وبمباركتها. لكن في حقيقة الأمر هناك عقبة واحدة، وهي الأصعب حتماً، فالرؤية الروسية للحل سوف تصطدم مباشرة بالإرادة الأوروبية المعنية بملف إعادة الإعمار وما يترتب على ذلك من فوائد سياسية واقتصادية، فروسيا تعلم يقيناً بأن ملف إعادة الإعمار مرتبط بشكل مباشر بالتسوية السياسية، وأوروبا التي تمسك هذا الملف لديها شروطها وشكوكها رغم تعاطيها الإيجابي مع آلية ونتائج الحل الروسي حتى الآن، لكن من يضمن مصالحها في سوريا عندما تفتح صندوق إعادة الإعمار؟ هل النظام المتوقع إنتاجه في سوريا بعد التسوية الروسية قادر على إعطاء تطمينات في ملفات حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية ومسألة المعتقلين، أو تأمين بعض النفوذ الاقتصادي والسياسي الذي يهم الكثير من قادة ومستثمري أوروبا؟

ستكون هذه معضلة الحل والمساومة لا ريب بين روسيا والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى أميركا، وهي بدأت فعلاً قبل انطلاق مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، سواء في الورقة التي قدمها وزير خارجية أمريكا السيد تيلرسون وحلفائه الغربيين والإقليميين حول مبادئ تصورهم للحل السياسي السوري، أو من خلال رسالة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التي تضمنت معايير محددة يجب أن تتحقق قبل مشاركة الأمم المتحدة  في سوتشي، كل هذا يعطي مساحة صغيرة وضيقة يمكن للمعارضة السوريةسواء من داخل مؤتمر الحوار في سوتشي أم من خارجه أن تلعب من خلالها لتحقيق شيئاً مؤثراً يمكن البناء عليه لأجل سوريا المستقبل، فهل هي معنية وقادرة على ذلك؟

قصة قريتين

قصة قريتين

قبل أي شيء في الحرب يتجمد الإحساس بالزمان والمكان معاً وتضأل المساحة التي يقف عليها المرء حتى تكاد تختفي. الطرقات المألوفة للعين المجردة بين المدن والقرى ستتبدد وتصبح رهينة الخيال، فتلك السهوب والبيوت والمنحدرات المترامية  ستختفي تحت وطأة الخوف والهلع وفقدان الأمان. المسافة التي كنت تقطعها برفة العين صارت تحتاج لأيام وربما أسابيع وسنوات طويلة، أو ربما لن تراها بعد ذلك أبداً. غرق كل شيء في الجحيم السوري، والمدن الكبرى أخذت نصيبها من الانقسام الاجتماعي الكبير والدمار والصور الملتقطة مروعة جداً بحيث يخال المرء أن الذي يحدث لا علاقة له بالواقع، فقط محض خيال مبني في سيناريو فيلم رعب. مدن وقرى مترامية الأطراف كأنها تقيم أعمدتها على أرض كواكب بعيدة .

في أتون طاحونة هذا الصراع الذي بدأ في نقطة وانتهى في مجرة حسابات الدول ومصالحها وصراعاتها، بينما الكائن والمواطن البسيط الذي كان يصرخ في الشوارع للحرية انتهى به الأمر يصرخ لرغيف الخبز. بقي الريف المحيط بالمدن مرهوناً بشكل كبير للتحولات المفاجئة التي قد تحدث في أي لحظة. دفعت الأثمان الكبيرة مقدماً دماً وتشريداً وسجوناً جاهزة والخريطة التي درسناها على مقاعد الدراسة وحفظنا سهولها وجبالها وأنهارها ستختفي وتصبح مجرد ذكرى. مناطق كثيرة في الريف البعيد والقريب واجه الأهالي فيها أقدارهم لوحدهم عزلاً في عراء مرسوم بالدم والهلع والجوع.

في محاولة لتسليط الضوء على بعض هذا الريف المسكوت عنه وعن عذابات سكانه، ولجذب الأنظار إلى ما آلت إليه الأمور فيه بعيداً عن الخطاب الرسمي لأي طرف من الأطراف المتصارعة، فثمة من يدفع الثمن عنهم جميعاً، والذي يتدفأ في الفنادق وغيرها ويصرخ وراء الميكروفون، ليس كمن يقف في البرد كالحطبة التالفة في مهب الريح.

ع. الداغستاني من دير فول وسمير تسي من بئر عجم حاولا أن يحكيا عن قريتيهما، و بعضاً من التراجيديا التي عايشاها دون نقصان باليوم والساعة والدقيقة والثانية. ليست فانتازيا أو حكايات للتسلية المبرحة. إنها قصص الموت السوري اليومي وهي رواية الجرحى والمفقودين والمظلومين والهاربين من العسف والقذائف الطائشة والموت الحتمي. قريتان طحنتهما الرحى السورية الهائلة فيما يحاول شاهدان أن يسردا ما شاهداه وشهدا عليه وكيف كان عليهما أن يتركا كل شيء وراءهما ويغذان الخطى باتجاه المجهول الذي لا يعرفان عنه شيئاً.

دير فول: الموت البطيء

سمير أباظة مجنون القرية يختصر كل التفاصيل الكثيرة التي يمكن سردها هنا. سمير الذي كان يدور في أحياء وشوارع دير فول، يحمل لافتة صغيرة يمشي وهو يصرخ: “حرية، حرية” سيجدونه مسجى فيما بعد على ناصية شارع من الشوارع بعد يوم قصف شديد وفي جسده أكثر من رصاصة وآثار شظايا بادية عليه.

تقع دير فول في ريف حمص الشمالي وهي قرية صغيرة سكانها من الأقلية الداغستانية وتضم أيضاً بعض التركمان والبدو. عدد سكانها لا يتجاوز ال ٦٠٠٠ نسمة. منهم البعثي والشيوعي والمستقل. لم تسلم القرية من الطيران الحربي وانتقام داعش والنصرة وتحولت إلى مسرح عمليات عبثي اضطر فيه الأهالي إلى مغادرتها نحو القرى المجاورة مثل عين النسر والمشرفة والسلمية والمخرم الفوقاني. انتفضت القرية وتعرضت لمضايقات أمنية وملاحقة أبنائها.

قال لي: “أنا في السويد الآن لكنني دائماً حين أنام أجد نفسي في الحلم على أحد حواجز النظام.” على الطريق الرئيسية من جهة ساقية الري باتجاه قرية عسيلة ومنذ نيف من الزمن تم غرس أشجار سرو سُرقت فيما بعد وبيعت في أكياس نايلون وصل فيه سعر كيلو الحطب إلى ٣٠٠ ليرة سورية. حتى شجر الزيتون المثمر والذي يقدر عمره بحوالي ٢٥ سنة تم تحطيبه وبيعه في الأسواق . كانت عملية التصحير ممنهجة. وهكذا انكشفت الأرض لمرمى المدافع والرشاشات والصواريخ. والذي بقي من أهل القرية سينامون تحت الأرض خوفاً من القصف .والمصدر الغذائي الرئيسي كان البرية.

دخلت داعش إلى القرية بعد انقطاع عام للكهرباء عبر حواجز النظام وارتكبت مجازر بحق الشيوعيين والبعثيين في القرية ثم تم فرض النقاب والجلباب على النساء. كما أنها انسحبت من القرية انسحاباً ملغزاً أيضاً. استطاعت بعض الكتائب الصغيرة هناك وبعض كتائب الجيش الحر وقسم من وجوه القرية وكبارها بإدارة شؤونها من ماء وكهرباء ومحاولة تأمين بعض المواد الغذائية الأساسية عبر المساعدات. بالنسبة للمياه ومصادرها فهي جوفية، لأستخراجها نحتاج إلى مولدات كهربائية، هنا كانت تتم رشوة الحواجز حتى تصل الكهرباء لبضع ساعات قليلة ومن ثم يتم استجرارها. هذا بالنسبة للآبار التي يملكها الأهالي، لكن هنالك بئر مياه للبلدية تتم الإستفادة منها في حال كانت الكهرباء موصولة أيضاً.

لم يشفع الجذر الداغستاني للقرية ولا وجود أكثر من ٤٠ ضابطاً من شبانها في الجيش النظامي حتى في ظل التسويات. بقي الذي بقي فيها يواجه مصيره لوحده، والمساعدات التي تصل لاتذكر وكانت تحدث في إطار الدعاية الإعلامية وتبييض الوجه لا أكثر. قصفت دير فول بالصواريخ والقنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية.

وصل سعر بيضة الدجاج إلى ٩٠ ليرة سورية وربطة الخبز ٣٠٠ ليرة وجرة الغاز ٤٠٠٠ ليرة وتنكة زيت الزيتون٣٠٠٠٠ ليرة ومع انحدار قيمة الليرة السورية لم يجد السكان ما يسد رمقهم. حتى الفرن الوحيد الذي كان يؤمن للأهالي بعض الخبز سيُقتل صاحبه في ظروف غامضة. والدواء ممنوع منعاً باتاً تداوله أو دخوله وبالتحديد أدوية الجروح والالتهابات، ومن يتم القبض عليه وفي حوزته أي كمية مهما كانت قليلة سيُعدم على الفور ميدانياً. القصف لم يتوقف والجثث ستراها مرمية في الطرقات أينما اتجهت. تم تهجير ثلاثة أرباع القرية فانتشروا في المدن والبلاد القريبة والبعيدة منهم من رحل إلى سلمية وحماه وتركيا والأردن وألمانيا والسويد. التهجير كان محكماً وعاماً. والذين خرجوا لم يكن لديهم أي فكرة إلى أين هم ذاهبون. تُركت القرية إلى قدرها ومصيرها. في يوم من الأيام وبعد قصف شديد تهجّرنا مع الأغنام والأبقار والكلاب، حتى أن ابني لمح الكلب المعروف في القرية والملقب بكاسر في قرية مجاورة يقف تحت شجرة تين ضخمة وحيداً، ويتابع قائلاً: “انظر أبي حتى كاسر هاجر أيضاً.”

في بيت تسكنه امرأة مسنة تم قصفه رأت المرأة الشمس تلمع في مرآة جيرانها. في يوم آخر تم قصف بناية يقطنها صديق لي. هذا البيت إن كنت أتذكر شيئاً منه أنه طيلة ثلاثين عاماً كانت تتكوم أمامه تلال الرمل والنبكة والإسمنت والنحاتة وقطع البلوك والبلاط ولا شيء غير ذلك، كل هذه السنين وهو يبني بيت العمر كما يقولون. في النهاية سيسقط صاروخ عليه، بينما عائلته كانت خارج البيت للصدفة، وكان صديقي يقف على سلّم العلية الحديد. دُمّر البيت بأكمله بينما سلّم الحديد الذي يقف عليه صديقي سيبقى سليماً وينجو، وهو يقيم الآن في تركيا بعيداً عن البيت وعن دير فول.

بئر عجم : البيت الذي تركناه وراءنا

في بئر عجم القرية الشركسية الهادئة في هضبة الجولان والتي لا يزيد عدد المقيمين فيها عن ٤٠٠ نسمة، احتلتها اسرائيل سنة ١٩٦٧ ثم تم استعادتها ضمن الاتفاقيات التي جرت تلك الفترة مع سوريا تحت مظلة الرعاية الدولية. سمير تسي الذي ترك كل شيء في دمشق وبنى بيتاً كبيراً مع أرض مساحتها لا يستهان بها غرسها بكل أنواع الأشجار المثمرة والزيتون وليبدأ حياة جديدة مع عائلته، يشتغلون في الأرض وتربية المواشي والدجاج والزراعة صيفية كانت او شتوية. مثابة حلم لا يضاهيه شيء هذا البيت أو جنة صغيرة لبقية العمر الذي بقي. على الماسينجر ومن فرنسا حيث انتهى به المطاف الآن يخبرني عن الذي حدث وعن تلك اللحظات التي بدأت فيها الأشياء تتغير، فلغاية شهر آب ٢٠١٢، على حد تعبيره، لم يكن هنالك أي حراك شعبي كون المنطقة عدد سكانها قليل جداً، لذلك لم يكن هنالك أي تواجد عسكري أو أمني يذكر. كان شباب القرية يذهبون إلى العاصمة للمشاركة بالمظاهرات فمنهم من اعتقل ومنهم من يعود آخر النهار. اختلفت إيقاعات الحياة رويداً رويداً حتى دخول المرحلة المسلحة التي امتدت ووصلت إلى جباتا الخشب التي سيطر عليها الجيش الحر وطرد منها كل رموز النظام، ثم وصلوا إلى قرى مثل مسحرة، أم باطنة، العجرف، ثم أعداد من تجمعات نازحي  ببيلا والسيدة زينب وخان الشيح التحقوا بالجيش الحر الذي سيدخل بعدها إلى قرية رويحينة بنهاية شهر أيلول ٢٠١٢ لبضع ساعات ثم ينسحب منها. اما التواجد العسكري للجيش النظامي في هذه المنطقة فكان ضمن المسموح فيه على أساس اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل. منطقة فصل القوات عرضها ١٠ كم وطولها ٧٠ كم ممنوع فيها تواجد أي مظهر عسكري سوري، وكانت تحت إشراف قوات الآندوف الأممية.

انسحب عناصر الجيش الحر من رويحينة بدون سابق إنذار ولم يتركوا أي أثر وراءهم، وفيما بعد أصبحت تظهر بعض علامات لوجودهم في الأحراش الواقعة غرب قرية بئر عجم على خط تماس وقف إطلاق النار مع إسرائيل، أعدادهم لم تكن معروفة لكنهم لم يتجاوزوا الخمسين فرداً، الإمدادات اللوجيستية كانت تأتيهم من دمشق ومن القرى الواقعة على طريق دمشق – القنيطرة وكانت تمر عبر حواجز المخابرات بكل سلاسة. أحد المطاعم في دمشق كان يرسل في سيارة مغلقة وجبات أطعمة وسندويتشات هامبرغر وبيبسي وسلطة وصهريج بنزين كلها كانت تمر عبر الحواجز التابعة للجيش السوري.

هنالك برج خاص بمديرية زراعة القنيطرة لمراقبة الأحراش من قبل موظفين تابعين للمديرية الذين لاحظوا بعض الأشياء والأمور التي لم يكن يشاهدونها من قبل مثل ( عظام خرفان، بقايا سندويش، علب كولا…إلخ)، وصل الخبر للمفرزة العسكرية الموجودة بقرية بريقة فأتى ثلاثة عناصر صف ضباط واتخذوا موقعاً  لهم على طريق مقبرة بئر عجم وبدؤوا باطلاق النار باتجاه البرج، علماً أن المسافة ١٥٠٠م ومدى البندقية المجدي فقط ٥٠٠ م، ولم يكونوا على أية حال يشاهدون أهدافاً. بعد ساعتين ستنتهي الذخيرة فيذهب العناصر لمقابلة الأهالي أمام المسجد وبعض الدكاكين يخبرونهم بأن مهمتهم انتهت والآن جاء دورهم، أي سكان القرية، بأن لايستقبلوا أياً من عناصر الجيش الحر إذا نزلوا من الأحراش إلى القرية. لم تمض أيام حتى أتى الجيش الحر إلى القرية القديمة واستولى عليها ثم القرية الجديدة كذلك الأمر ومبنى البلدية وهكذا تمددوا حتى وصلوا إلى طريق بريقة حتى اقتربت المسافة بينهم وبين مفرزة المخابرات السورية بما لا يتعدى المئة متراً. استولوا كذلك على مقسم الهاتف في بئرعجم فانقطعت الاتصالات واعتمدوا إعدادية الشهيد نزار حاج حسن مقر لهم. بعد ٢٤ ساعة بدأت قذائف الهاون تنهمر على القرية بشكل متقطع، وفي الليل كان اللواء ٦١ يرمي القنابل المضيئة أما ضربات المدفعية فكانت تأتي من اللواء ٩٠، كل هذه القذائف كانت ترمى بشكل عشوائي على منازل المدنيين هناك. الفرصة الوحيدة المتوفرة لهروب العائلات ونزوحها من القرية كانت حين يتوقف القصف. في أحد الأيام اتصل بي ضابط برتبة عقيد ولا أدري من أين أتى برقم موبايلي وبدأ يسألني عن أعدادهم ومواقعهم ونوع أسلحتهم. قلت له: نحن لا نعرف أين هم، نتسمر في بيوتنا ولا ندري ماالذي يحدث في الخارج والقذائف تنهمر علينا. قال لي: “يجب أن تتحملوا القصف حتى يتم تصحيح الهدف.” أعاد الإتصال بي مرة ثانية وكرر نفس الأسئلة . خلال يومين سيشتد القصف ويصبح كثيفاً ومتلاحقاً.

في أحد أيام الجمعة ٢-١١-٢٠١٢ أصبح القصف خفيفاً لمدة ساعة، فطلبت من جاري الكوسوفي، يحمل جنسية سورية، ويملك سيارتين، أن يأخذ زوجتي وابنتي إلى دمشق مع أفراد عائلته وبعض الجيران أيضاً. كانتا آخر سيارتين تغادران المنطقة. بعد ذلك لم يستطع أحد أن يغادر. بعد ذهابهم بحوالى نصف ساعة حاولت الذهاب مشياً إلى قرية رويحينة  التي تبعد ٢ كم وكانت تحت سيطرة النظام كي أشتري خبزاً ودخاناً لكن القصف اشتد وصار كثيفاً فعدت فوراً إلى البيت وتم إغلاق الطريق. ومن يومها تغيرت نوعية القصف من هاونات إلى مدفعية ودبابات. في قرية زبيدة الغربية شرق بئر عجم بحوالي مسافة كيلو متر واحد تتواجد سرية دبابات تقصف بلا هوادة، إلى القصف المدفعي (الهاوزر بعيد المدى) من قمة تل الحارّة إلى جميع أنواع القذائف منها الانشطاري والعنقودي والفسفوري. استمر الحال على ما هو عليه. وضعنا كمدنيين حدث ولا حرج: لاماء ولا كهرباء ولا طعام أو خبز، كنا نأكل العشب وأوراق الشجر.

يوم الإثنين ٥-١١-٢٠١٢ اتصل ابني بي حوالي الساعة التاسعة صباحاً من قدسيا وأخبرني أن ما يزيد عن ٥٠ شاباً شركسياً “في طريقهم إلى القرية لإخراجكم منها.” قلتُ له أن الوضع صعب للغاية ومن المستحيل دخولهم المنطقة، فهي على خط النار والقصف لا يتوقف. لكنهم أتوا من كودنة – بريقة وهي طريق فرعية. اجتمعوا مع قائد اللواء ٦١ وكان متواجداً أيضاً ضابط نمساوي رفيع المستوى من قوات الآندوف على آخر حاجز عسكري بقرية بريقة وجرت المفاوضات أن يسمح لهم بالدخول وإخراج ما يقارب ٣٠٠ فرد متوزعين في ملاجئ يلفها ظلام دامس. اتصل ابني بي مرة ثانية وقال لي “إن الجيش سمح لنا بالدخول ونحن في الطريق إليكم.” كررتُ انزعاجي ورفضي للفكرة بسبب القصف المتواصل وإن الليل اقترب. قال لي، “سيتوقف القصف الآن. ثم انقطع الاتصال بيني وبينه فجأة، واعتقدتُ أنه عاد إلى دمشق هو والذين معه ولم أدر ما الذي حدث بعد ذلك.

في صباح اليوم التالي ٦-١١-٢٠١٢ أتى إلى منزلي رجل من أهل القرية وكان معي إثنان من أبناء الجيران وصديق لي لواء متقاعد. ملامح الرجل لم تكن على مايرام، بدأتُ السؤال عن أحواله وأحوال عائلته، لكنه ظل متردداً وعلامات القلق والحزن بادية على وجهه: “ابنك ينال راح”، قال هذه العبارة وصمت. لم يخطر على بالي أنه يتحدث عن ابني للوهلة الأولى، لأنني اعتقدت أنه عاد إلى دمشق بعد إلحاحي عليه بالعودة. استطرد الزائر، “ابنك ينال استشهد الساعة ٣:٤٠ عصراً يوم ٥-١١-٢٠١٢. بعد ذلك اتصل بي الضابط العقيد وقال لي: “قتلنا ابنك، وبتعرف الوطن بدّو تضحيات” وكان قصده أن العصابات الإرهابية تقتل المدنيين. السيارات التي حاولت الدخول إلى بئر عجم عادت إلى قرية بريقة. وفي هذه الأثناء كان طاقم محطة الإخبارية التلفزيونية متواجداً هناك حين أتى الشاب الذي كان يقود السيارة التي أقلت ابني وثيابه مغطاة بالدم. أجبروا الشاب على تغيير ملابسه وأجروا مقابلة تلفزيونية معه تحت تهديد السلاح والضرب ثم أرغموه على القول أن العصابات الإرهابية قتلت ابني. مع العلم أن ابني جلس في المقعد الذي من جهة شرق الطريق، وشرق الطريق بين بريقة وبئر عجم تحت سيطرة الجيش النظامي. من هنا علمت أن الجيش هو الذي أطلق النارعلى ابني.

أخذوا جثته إلى مسجد قرية كودنة وتمت تسجيته هناك، بينما أنا محاصر حصاراً تاماً مع أهالي القرية. اتصلت بزوج ابنتي وسألته عن الجثة، جثة ابني. فقال لي أنه تم أخذ الجثة من قبل مديرية الصحة إلى مستشفى ممدوح أباظة في مدينة البعث. اتصلت بأخي وسألته: لماذا لم يتم دفن الجثة؟ فقال لي إنهم “لا يسلمون الجثة بسبب اختلاف الكنية.”

سألت أحد الموظفين بمحافظة القنيطرة وهو صديق لي أن يساعدني في هذا الأمر، فقال “تعالوا وخذوا الجثة.” اتصلت بأخي وطلبت منه أن يذهب ويستلم الجثة. ذهب أخي مع مجموعة من الشباب في قدسيا إلى مستشفى ممدوح أباظة واستلموا الجثة. ثم قال لي صديق ابني أنه حين النزول إلى قدسيا سيضعون الجثة في براد الجثث بجامع الجادات بقدسيا. رفضتُ ذلك مع إصراري أن يتم الدفن في نفس اليوم. قال لي، “بإمكاننا انتظارك حتى تخرج من الحصار وسيكون باستطاعتك رؤيته وحضور الجنازة والعزاء.” قلت، أنا لا أعرف متى أخرج من هذا الحصار، دعوا أمه وأخواته يرونه ثم ادفنوه اليوم.

يوم الخميس ٨-١١-٢٠١٢ اشتد القصف صباحاً بشكل هستيري حتى الواحدة ظهراً ثم توقف فجأة ولم نر بعدها سوى سرايا من مشاة الجيش النظامي تأتي من شرق القرية ثم تتغلغل فيها بدون أن يطلق الجيش الحر أي طلقة باتجاههم وكان تعدادهم يقارب ال٨٠٠ عسكرياً، اعتقدنا كمدنيين أن اتفاقاً حصل بين الطرفين على عودة الجيش النظامي إلى القرية ويكون بعدها بمقدورنا مغادرتها . كانت أوهامنا هي التي تحدثنا بذلك، إنه اليأس وقد أطبق على رقابنا.

استولوا على القرية ودخل قائد الحملة مبنى البلدية يعلن الانتصار والتطهير. بعد ذلك سمعنا الرصاص يلعلع في السماء وبدأ العساكر يهربون وإذ بالجيش الحر يقوم بهجوم معاكس وقائد الحملة داخل مبنى البلدية لا يدري ما الذي يجري في الخارج إلى أن داهم بعض العناصر مبنى البلدية، فحاول الهرب إلى الجامع الذي بمقابل مبنى البلدية ثم صعد إلى المنارة وقذف بنفسه منها ومات. حين أتى الليل حاولنا الدخول مع مجموعة من المدنيين إلى ملجأ تحت أحد البيوت ثم صعدت أنا وشاب إلى البيت بحثاً عن الماء. كدنا نموت من العطش والجوع وكان الظلام دامساً ولم يكن باستطاعتنا إشعال قداحة لأن المكان سيتم قصفه على الفور. وبينما أنا على هذه الحالة وقعت يدي على كتف آدمية دافئة بعض الشيء، وإذ بعسكري متكور على نفسه يحمل بندقية ومعه ١٢ آخرين، هم بقايا المجموعة التي انسحبت ولا يعرفون أين يذهبون. طلبوا ماء وطعاماً. سألته، “أين طعامك وماؤك؟” نزلتُ إلى الملجأ وأخبرت من معي أن في البيت ١٣ عسكرياً هاربين.

اليوم التالي ٩-١١-٢٠١٢ السادسة صباحاً وقفت على باب الملجأ فرأيت مجموعات من الجيش الحر يبحثون بين البيوت عن الهاربين، وإن عرفَ العساكر المختبئون في البيت بالأمر سنتحول إلى دروع بشرية بين الطرفين فقلت للذين معي أن نهرب إلى البرية فخرجنا رجالاً ونساءً باتجاه قرية زبيدة، وفي طريقنا قبل مغادرة الحارة قابلتنا قوة من الجيش الحر وسألنا أحدهم “إلى أين أنتم ذاهبون؟” فقلت له، نحن لا نريد أن نبقى أكثر من ذلك، سنترك كل شيء هنا. في هذه اللحظات أتى عنصر من الجيش الحر راكضاً من جهة الملجأ الذي كنا فيه وأخبر قائد القوة بوجود عساكر في البيت الذي غادرناه فتركونا إلى سبيلنا وهجموا على البيت الذي يتواجد فيه العسكر. مشينا باتجاه البرية وكان الضباب كثيفاً ساعدنا على ألا يكتشفنا أحد  لكن ذلك لم يمنع الدوشكات من أن تقصف باتجاهنا لكننا لم نصب بأذى. صادفنا في الطريق حقل ألغام عبرناه ووصلنا إلى قرية زبيدة الغربية، استقبلنا أهالي القرية ثم انقسمت مجموعتنا إلى قسمين نساء ورجالاً. في الصباح تناولنا الإفطار وشحنّا الموبايلات وأخبرنا أهالينا في دمشق أننا خرجنا. بعد ذلك بدأت بقية الملاجىء التي في بئر عجم تخرج.

في ١٠-١١-٢٠١٢ خرج جميع المتبقين في القرية ولم يبق أحد هناك. بعد ذلك أخذني أحد الشباب إلى مدينة البعث التي تقع في الطريق قبل مدينة القنيطرة. كنت قد أخبرت ابنتي أنني خرجت من بئر عجم وعن مكان تواجدي. جاري الكوسوفي الذي أصبح يقيم في مدينة صحنايا عرف من زوجتي أنني في مدينة البعث فأتى بسيارته من صحنايا وأخذني إلى قدسيا حيث منزل أحد أقربائي. كان عزاء ابني منتهياً، فطلبت من أحد أصدقائه أن يأخذني إلى المقبرة لأرى قبره، فقال لي “إلى يوم غد.” لم أعرف لماذا إلى يوم غد. في اليوم التالي أخذني بالسيارة إلى المقبرة وأسرّ لي بعد ذلك أنه حصل لي على موافقة لرؤية القبر من مسافة ١٥ متراً فقط، وهذا ما حدث. ولم أستطع بعدها رؤية القبر لأنني لم أحصل على موافقة. بعدها بوقت قصير غادرت سوريا أنا وعائلتي إلى الأردن في ٢٦-١١-٢٠١٢. بقينا في عمان إلى تاريخ ٢٠-١٢-٢٠١٦ ثم غادرنا إلى فرنسا. علمت بعدها أن كتائب لجبهة النصرة تسيطر على القرية.

من حديث على الموبايل

-آخر مرة خرجت فيها من البيت في طريقي إلى بيت صديقي الكوسوفي، سمعتُ دوياً هائلاً، وإذ بقذيفتين ضربتا بيتي. ومن يومها لم أعد إليه. لم يبق لا سقف ولا حيطان ولا أبواب.

-مرة وقعت قذيفة على بئر عجم وكان هنالك ثلاثة شبان يدخنون أما باب أحد البيوت. صاروا قطعاً صغيرة لملمناها ووضعناها في أكياس نايلون.

٧-١١-٢٠١٢

في قرية بئر عجم خمسة ملاجئ فقط تنعدم فيها أي خدمات، لا ماء ولا كهرباء أو حمامات، بمساحة ١٠٠ متر مربع للملجأ الواحد. في أحدها انحشر عدد كبير من الأهالي مع بطانياتهم وبعض الفرش الإسفنجية وما تبقى من مؤن البيت. صدف وجود امرأة حامل في آخر أيامها بدأت تشكو آلام الطلق ووقعت على الأرض دون أن يكون هنالك أي مادة إسعافية أو حتى طبيب بين الموجودين. صرخت إحدى النساء الحاضرات وأقنعت المرأة التي على الأرض بأن لها تجارب كثيرة في التوليد، وعلى الفور تضامن الجميع ووضعوا ساترا من البطانيات وتمت عملية الولادة على أكمل وجه. كتم الجميع أنفاسهم خوفاً من طارىء ما قد يحدث حتى سمعوا بكاء المولود الجديد، وبعد يومين سنحت الفرصة للجميع بالخروج والتوجه مشياً على الأقدام إلى قرية زبيدة الغربية وسط الضباب والصقيع. الآن الرضيع وأمه ووالده في النمسا، والمرأة التي قامت بالتوليد في ألمانيا.

بني هذا النص على شهادة حية لكل من عامر الداغستاني من قرية دير فول وسمير تسي من بير عجم، وكلاهما قريتان سوريتان هُجر سكانهما بشكل كامل في سياق الحرب السورية. وينشر موقع صالون سوريا هذه المادة في سياق مشروع لكتابة قصص تروي ما جرى للقرى والمدن السورية منذ ٢٠١١ حتى الآن.