بواسطة أسامة إسبر | فبراير 10, 2023 | Cost of War, Poetry, العربية, غير مصنف, مقالات
(شذرات وأقوال)
-١-
من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا.
يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.
-٢-
حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها، حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟
-٣-
أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.
-٤-
تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.
-٥-
لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه.
قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.
-٦-
مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.
-٧-
العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل. وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.
في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذبُ.
-٨-
إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:
كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض.
كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج
غير قادرة على فعل أي شيء.
-٩-
بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.
بعد الموت يعضّك القبر،
يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.
إلى حياة محاصرة،
إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف
في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها
سكانها على حافة الهلاك
أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:
الموت لا يأتي بالتقسيط.
-١٠-
الذين نسُيوا تحت الأنقاض،
جرح لن يندمل في الذاكرة،
سينزف كلما تذكرنا ما حدث.
-١١-
رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.
جندريس،
على أطلالك لا تعرف العين أين هي
أو إن كانت عمياء أم مبصرة،
والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.
جندريس،
فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح
والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.
-١٢-
حلب،
عمارات كثيرة مضعضعة.
الشقوق في الجسد الإسمنتي
جراح في الأجساد
طعن في الأرواح.
المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.
لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.
حلب،
زائر آخر في مطلع الفجر
يُركع المدينة
ويكسر عظماً آخر في ظهرها.
-١٣-
جبلة\اللاذقية
كان المطر غزيراً،
الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،
والبَشَرة تتجلد.
كان البحر خريطة مطفأة
والجبال تندب أشجارها.
فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،
كانت الريح تخمد الأصوات
وهي تحملها بعيداً.
-١٤-
إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها.
تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.
الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.
إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب.
-١٥-
ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.
-١٦-
مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.
-١٧-
لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.
-١٨-
ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟
-١٩-
نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.
-٢٠-
سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.
-٢١-
لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية.
بواسطة طارق علي | فبراير 9, 2023 | Cost of War, Poetry, Reports, العربية, غير مصنف, مقالات
لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.
أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”
وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.
جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.
لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.
جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.
بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.
الناس لبعضها
ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.
ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.
ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.
حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.
إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.
وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”
أين المساعدات؟
اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.
وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.
ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”.
وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.
تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.
وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.
ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.
وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.
وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.
تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.
بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.
ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.
وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.
وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس.
وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.
في الأسباب
قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.
وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.
يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.
بواسطة نادر عقل | فبراير 1, 2023 | Cost of War, Roundtables, العربية, مقالات
أستيقظُ في الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت السوريّ، وأنا أكاد أتجمّد من البرد، والشمس لم تشرق بعد، فعن أي صباح يتحدّثون؟ أبحث في العتم عن صنبور المياه لأغسل وجهي المتحجّب بطبقاتٍ من الظلمة لا نهاية لها، فأصل إليه متعرّفاً على موقعه بصعوبة، فالتيار الكهربائيّ مقطوع دائماً، وبطارية السيارة التي اشتريتها لأعتمد عليها في إضاءة محل سكني بعد تركيب وصلات ومصابيح عليها فارغة تماماً، وذابت آخر الشموع التي كانت عندي. وها أنا الآن أصبحتُ البصير –الضرير، إذ رغم امتلاكي لعينين حادتين أو لآلة باصرة –على حدّ تعبير الفلاسفة-إلا أني بدأت أتعلّم كيف أسلك سلوك الأعمى، وكان الأفضل منذ طفولتي أنَّ أسلك سلوك إنسان مثل أبي العلاء المعرّي، فهو لم يكن ليعلّمني فقط البقاء حيّاً على المستوى الفيزيولوجي في مثل هذه الظروف اللعينة؛ بل كان ليعلّمني أيضاً ألا أتحطّم على المستوى النفسيّ؛ لأنه يعرف كيف يدرّب العقل على مواجهةِ شناعة الحياة.
أصلُ إلى صنبور المياه، أتحسّسه ثم أفتحه، فأجد أنَّ حظي كان جيداً، لأنَّ المياه غير مقطوعة، تتدفق المياه، أضعُ يدي فيها، فيقشعرُ جسمي من شدّة برودتها، أقرّر التراجع، ثم أتردّد، فأقول في نفسي: لا بدّ من إزاحة غبار الظلمات عن وجهي فأخاطر بغسل رأسي ووجهي…أرتدي ملابسي، راقصاً، من هولِ البرد…أفتحُ باب منزلي وأخرج، في سِفْرِ خروجٍ لا خروج فيه… أقف على الرصيف منتظراً مرور أيّ وسيلة نقل…لا شيء …وفجأةً تمرّ سيارة أجرة…ألوِّح له بيدي …يقف سائقها…أسأله: كم تريد أجرة للوصول بي إلى مكان عملي…إنّه يبعد 16 كيلو متراً؟ أجاب: أريد خمسين ألف ليرة سورية…قلت له: إنَّ راتبي 150 ألفاً…فهل من المعقول أن تأخذ مني هذا المبلغ….شَخَرَ بسيارته وابتعد عني دون أن يتكلم كلمة…فَقَفلتُ راجعاً إلى منزلي، وجلست على الكرسي الخشبي واضعاً كفي الحائرة على ذقني وقارعاً سنّ نادمٍ على هذه الحياة المريرة التي اخترتُ أن أعيشها.
هذا ما قاله لي “محمد” الشاعر وأستاذ الأدب العربي حينما سألته عن أحواله؛ ولكن ربما كان “محمد” أقلّ صلابةً من غيره، نظراً إلى أنَّ مشاعره مرهفة بصفته شاعراً ولغويّاً.
غير أنّي حينما التقيتُ مع “عبد الله” الخرِّيج الجامعيّ وسألته عن أيامه، فقال لي: أنا أعمل الآن في سوق الهال في بيع الخضار…وهذا أفضل عمل استطعت أن أحصل عليه…وعندما سألته عن سبب عدم رغبته في الاستفادة من شهادته الجامعيّة. قال بسخرية مريرة: إنّ ما أُحصّله من مال في يوم واحد هنا يعادل الراتب الحكوميّ بناء على تعييني في وظيفة حسب شهادتي… الشهادة الجامعيّة أمر تافه وسخيف من الناحية الماديّة. وتابع قائلاً: لولا عملي في سوق الهال لتحطّمت حياتي كلّها، فقد استأجرت غرفة في إحدى العشوائيات بمبلغ قدره 200 ألف ليرة سورية، وأسكن فيها أنا وزوجتي وابني، فعملي في سوق الهال يسهّل عليّ الحصول على الطعام، فالخضار يعطيني إياها ربّ العمل كجزء من أجرتي عن عملي معه، وهنا أتعرّف على أناس جَيِّدين من جيراني في المحلات المجاورة، فيمكن أن أشتري اللحم والحبوب والمنظِّفات وإلى ما هنالك بأسعار مقبولة مقارنةً مع غيري، لأنه بسبب العمل في مكان واحد توجد مراعاة لي من قِبَلِ التُّجار. وبعد أن سألته عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي. قال: لقد اعتدنا أن تكون لنا عيون خفافيش، ولكن من أجل زوجتي وابني اشتريت بطارية درّاجة نارية، ومددت لها أسلاكاً ومصابيحَ مناسبة، مع شاحِنٍ كهربائيٍّ لها، والأمور تسير على ما يرام…وحاولت أن أفهم منه كيف يؤمّن التدفئة في منزله….ضحك بأعلى صوته وقال: هذا أمر نسيه الناس كلّهم، لقد بلغ سعر ليتر المازوت عشرة آلاف ليرة سورية في السوق السوداء، ولا يمكن لنا أن نشتريه إطلاقاً!! نحن نضع علينا فوق اللباس السميك أغطيةً تحمينا من البرد، ونبقى أياماً طويلة غير قادرين على الطبخ أو شرب أي مشروب ساخن، لأنَّ أسطوانات الغاز مفقودة، وننتظر دورنا أحياناً للحصول على أسطوانة غاز شهرين أو ثلاثة أشهر…وليس أمامنا أي حلّ، إلا أنه كنت قد اقتنيتُ أسطوانة غاز من الحجم الصغير يمكن تركيب قاعدة لشعلة اللهب عليها وأحياناً عندما يتوافر معي مال زائد أقوم بتعبئتها من أجل الطبخ؛ أما إذا لم يتوافر معي المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله…ثم سألته: ماذا بالنسبة إلى الثياب والأحذية كيف تؤمّن لعائلتك هذا النوع من المتطلبات؟ فقال: عليك بـ”البالةِ” يا صديقي ففيها ألبسة أوروبية من أجود الأنواع، ولا يهم إن كان أصحابها الأصليون موتى أو أحياء، مرضى أو أصحّاء، فنحن نغسلها ونلبسها..
أما محمود وهو مزارع قويّ شديد البأس، فجاء كلامه غريباً عندما سألته عن طريقة تدبيره لأحواله المعاشية. قال: أنا أعيش في قرية جبلية عالية جداً، والبرد هناك شديد جداً يكاد يفتك بالمرء، ولذلك أذهب قبل حلول الشتاء إلى الأحراش المجاورة لقريتي وأحفر في الأرض بحثاً عن جذور الأشجار، لأنه لم تبق جذوع وأغصان أشجار على الإطلاق، إذ بسبب حاجة الناس إلى التدفئة تم القضاء على غابات بأكملها. المهم أني أحفر بحثاً عن الجذور العميقة للأشجار مدة طويلة حتى أجمع ما أستطيع جمعه وأقوم بتخزينه من أجل برد الشتاء. كما أقوم بزراعة قطعة الأرض الصغيرة قرب منزلي في الصيف بأنواع مختلفة من الخضار، وتقوم زوجتي بتخزين ما يمكن تخزينه منها بعد تعريضه لأشعة الشمس. وقد قمتُ بتربية الدجاج في “قُنٍّ” قربَ منزلي، فيمكن أن أحصل على اللحم والبيض في بعض الأحيان وليس دائماً. ويهمني أن أخبرك عن أمرٍ هو أنني أذهب في موسم صيد الأسماك إلى بعض سدود المياه القريبة من قريتي، واصطاد ما أقدر عليه من أسماك وأقوم ببيعها للناس في قريتي، لأنهم غير قادرين على شراء لحم الدجاج والضأن والأبقار، وهكذا أحصل على بعض الدَّخل الماديِّ. كما أنني أذهب في موسم قطاف الزيتون إلى بعض القرى لأعمل عند بعض مالكي أشجار الزيتون، فأحصل على ما يكفيني من ثمار الزيتون والزيت كأجرة لي على عملي في قطاف الزيتون…وإذا توقفت عن العمل بهذه الطريقة سأعجز تماماً عن الاستمرار في الحياة…
أما “شادي” وهو طالب جامعيّ، فقد أخبرني أنه متزوج وعنده ثلاثة أبناء، وهو يعيل أمه، بسبب موت والده…أشار إلى ثيابه وقال لي: انظرْ هل هذا لباس يليق بإنسان؟ إني أعمل، ليلاً ونهاراً، من أجل الصمود في الحياة، فأنا الآن ملتزم بالعمل في “كشك” على الشارع وأبقى موجوداً فيه طوال الليل، أبيع للعابرين التبغ والكحول وإلى ما هنالك. وأعمل في النهار في “العتالة”. نعم أذهب إلى أي مكان فيه هذا النوع من الأعمال، وأحمل على ظهري الأشياء الثقيلة من مختلف الأنواع من أفران وبرادات وغسالات…وما إن أنتهي من العمل في “العتالة” وألبث قليلاً في المنزل حتى يأتي موعد ذهابي إلى الكشك؛ غير أني أكون سعيداً لأنَّ زوجتي قادرة على طبخ وجبات مقبولة وهي تعطي لأمي حصتها منها كلّ يوم…وتابع قائلاً: ماذا في مقدوري أن أفعل أكثر من ذلك؟ إني أفعل كلّ ما في وسعي من أجل البقاء حيّاً مع أمي وزوجتي وأبنائي…ولكن كلّ ما أجنيه من مال لا يسد الرمق، فالأسعار مرتفعة جداً ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو…إنَّ الفقر ينخر في عظامي وروحي…وهناك أناس يقبعون في شققهم الفاخرة مثل الرخويات في قواقعها دون أن يكترثوا بمعاناة الناس.
ودّعت شادي ودخلت في صمت عميق، متفكِّراً في هول المعاناة التي يمرّ فيها السوريون، ولكن يمكن هنا أن نكتشفَ بنيةً عميقةً ومباطنةً موجودةً في الإنسان بصفته إنساناً، وليس في الإنسان السوريّ وحدَه، وهي أنَّ الرجوع إلى “البدائيّة” بالمعنى الأنثروبولوجيّ قد يصبحُ حلّاً لمشكلة الإنسان في أزماتٍ معيّنة، أي أنَّ الإنسان السوريّ هنا في أزمته عاد إلى مواجهة الطبيعة بأساليب بدائية ولكن مبتكرة، عوضاً عمّا خسره من تقنيات حضارية حديثة، ولذلك تحوّل الإنسان السوريّ من تحديد هربرت ماركيوز للإنسان، بصفته ذا بُعدٍ واحد، ويقصد منه البُعد الاستهلاكيّ في المجتمعات الصناعية الأوروبيّة التي تمَّ تصديرها في نسخ مشوّهة إلى عالمنا العربيّ، إلى الإنسان الذي يمتلك “فكراً بريّاً” على حدّ تعبير كلود ليفي ستراوس؛ ولكن الفكر البريّ هنا هو فكر أعمق مما حدّده ستراوس نفسه، فهو ليس فكر القبائل البدائية القائم على الأسطورة والسحر والوثنية وطقوس الصيد في المجتمعات الأوليّةِ على نحو يكوِّن بنيةً ثقافيّة مخصوصة تضاهي، إنسانيّاً، في رأي ستراوس بنيات المجتمعات الأوروبية المعاصرة؛ بل أصبح الفكر البريّ هنا في سوريا محاولة لإعادة تجديد الذات في ظروف أشدّ صعوبة من الظروف التي يمرّ فيها البشر البدائيون، فما تزال، مثلاً في الأمازون، الأراضي والمياه والهواء تعجّ بأنواع متعددة من الحيوانات والأسماك والطيور، وبكلمة بالنسبة لقبائل الأمازون البدائيّة توجد عندهم المصادر الأساسية للحياة، لأنهم لم يعتادوا على أنماط الحياة الحديثة، لذلك هم متكيّفون تماماً مع واقعهم.
أما الإنسان السوريّ، فإنّه فَقَدَ وسائل الاستمرار الحديثة من أجل البقاء، ولا توجد حوله طبيعة غنيّة بأسباب الحياة. من هنا أصبح الإنسان السوريّ نوعاً جديداً غير الإنسان الأوروبي المعاصر وغير الإنسان البدائي. إنّه مزيج من كليهما، ولذلك لا بدّ من أن ينبثق من أعماقه ما يسمّيه نيتشه “الإنسان الأعلى” من أجل تغيير هذا الواقع الشائن، هذا الواقع الذي يتجه بكلّ قواه إلى تحويل شعب ابتكر للعالم أول أبجدية في التاريخ إلى شعب بدائي يعيش في “مجتمعات غير كتابية”، على حدّ تعبير ستراوس نفسه.
بواسطة مايك سالم | سبتمبر 26, 2022 | Cost of War, العربية, تقارير, غير مصنف
“بخوف سألتني ابنة أختي الصغيرة همساً عندما جاءنا أحد الأشخاص باحثا عن سقف يؤويه: خالتو هاد من عنا؟!.. ما خطر ببالي يوما بأني سأتعرض لهكذا سؤال من طفل أو طفلة” تقول نيرمين محمد لـ”صالون سوريا”، وتتابع: “نزل سؤالُ الصغيرة على رأسي كصاعقة، أجبتها: إي خالتو هاد سوري، لم تقتنع، عاجلتني بعبارةٍ أخرى، قالت: بس بابا قال ما بدنا نأجر حدا مو من عنا”.
أخذتني كلمات نوارة بعيدا، لَحِظَتْ نيرمين ذلك، وعندما اصطدمت عيناي بعينيها، طأطأت رأسها أمامي خجلاً، وعادت لتحدثني “مازالت ابنة أختي في حيرة من أمرها تبحث عن أي معالم لهوية أو انتماء”.
تقول أسما التي نزحت من دير الزور، عن دمشق: “هذه المدينة منحتني الأمان بفترات كنت كتير بحاجتو، لكنها اليوم تلفظني لأني من الطائفة التي بدأت بـ(الشي)”.
تعيش أسما في حي المزة 86 وعنه تقول “كل المفاتيح هناك في الحي بيد العلويين، فصوتهم أعلى وامتيازاتهم أكبر، ودائما ما تُحسم أي مشكلة لشبابهم، ولا أعتقد أن هذا سيتغير في المستقبل، نحنا مكسور جناحنا.. فينا نعيش هون طالما نحنا أوادم”.
تغيير وجه دمشق
بجولة طويلة بين أحياء دمشق المختلفة٬ مشيت في الشوارع التي أعرفها وتعرفني، تحدثت مع قاطنين أصولهم من هنا، ومع وافدين قُدامي وجدد، عبر حكاياهم وما تحمله أرواحهم من انطباعاتٍ عن المدينة٬ حاولت رصد ماهية الأرض المشتركة التي تجمعهم أو تفرقهم٬ ما ملامحها كما يصفونها٬ وما إذا كانت هناك مساحة لانتمائهم لها أم لا.
كانت دمشق الممتلئة حُبا وصخبا وضجيجا وكذبا من يوم إنشائها ملجأ لكل المظلومين والمساكين والفقراء والمطرودين، أما اليوم فهناك وضعٌ جديد يُرسم على الأرض، وهو ما يحذر منه الباحث في علم الاجتماع السياسي فايز عدنان في حديثه لـ”صالون سوريا”، يؤكد فايز: “أن محاولات حثيثة تتم لإفراغ العاصمة السورية وما حولها من طائفةٍ بعينها، فقبل سنوات من الآن وتحديدا قبل اندلاع الحرب السورية كان من السهولة بمكان أن تجد مكانا يؤويك في دمشق أيا كانت منطقتك أو طائفتك، في تلك الأيام لم تكن بحاجة لأكثر من ورقة ممهورة باسمك وباسم صاحب العقار لتستأجر منزلا في العاصمة. أما اليوم فتشابكت الأمور كَكُرَة صوف مع تزايد الحاجة للمنازل في قلب دمشق الذي يشهد اختناقاً سكانياً وانتشار الخوف بين مكونات المجتمع السوري، ناهيكم عن العراقيل الأمنية التي توضع في وجه الباحثين من طائفةٍ أو مناطق معينة عن مسكن يُظلهُم تحت سقفه، ويزيد من الوضع مأساوية ما تقوم به المكاتب العقارية من تأجير البيوت وفق خريطةٍ طائفية”.
يتابع فايز عدنان حديثه قائلا: “يُمنع السَكَن مثالا لا حصرا في عش الورور, وهي منطقة تقع على أحد سفوح جبال قاسيون مُطِلة على منطقة برزة، إلا لمواليدها أو العاملين بها أو المالكين لعقاراتٍ فيها، كما يُمنع أيضا تجديد إيجار السكن في بعض المناطق الدمشقية كحي (المزة 86)، إلا للعلويين والشيعة وبعض الحالات الخاصة الأخرى”.
قدرٌ اختير لنا
في “الكيكية” على سفح قاسيون استقر سامر العشا في منزلٍ مستأجر هو عبارة عن غرفة صغيرة لا يصلها ماء ولا تُنيرها كهرباء، سامر النازح من الحجر الأسود جنوب العاصمة دمشق ما كان قادراً برغم ما عرضه من مال على تأمين منزل له ولأسرته في حي “المزة 86” الرخيص نسبيا مُقارنة بالمناطق المنظمة في العاصمة دمشق كحي “ركن الدين” الذي يصل فيه بدل الإيجار لمنزل تبلغ مساحته 120 متراً حوالي الـ600 ألف ليرة سورية شهريا، والسبب هو “طائفته.”
يروي سامر حكايته لـ”صالون سوريا”: “قالها السمسار لي علناً، لن تجد من يؤجرك منزله مهما دفعت من مال، فأنت غريب عن تركيبة الحي الطائفية للسكان، وقعت كلماته عليَّ كزلزال، زَعَقتُ في وجهه، يا أخي أنا لست إرهابياً ولا مطلوباً، فلماذا لا استطيع السكن وسط دمشق؟”.
وفي حي باب توما الدمشقي، تتحفظ نجاح طنوس، وهي صاحبة منزل في الحي الذي تسكنه غالبية مسيحية، عن استقبال بعض المستأجرين، تقول: “ما بدي مشاكل، أخوتنا المسلمين عالعين والراس، لكنهم سيسببون المتاعب لي، وأنا لا أريد أي متاعب، هم أخوتنا ولم نكن نميز، لكن اليوم الحذر واجب”.
ويرى الباحث الاجتماعي فايز عدنان: “أن النزعة الطائفية التي يلمسها أي شخص في مناطق كعش الورور والمزة 86 ذات الغالبية العلوية، عند بعض السكان بعد الحرب هي نتيجة استفزاز الهوية المُعرَضة للخطر”.
ليست الطائفية وحدها مشكلة في السعي لاستئجار منزل في دمشق، بل المناطقية أيضاً. عمار الشيخ بكري نازح من “كفر بطنا”، وسمه أهل المنطقة بالـ”عوايني” أي جاسوس النظام، فخرج منها، إلا أن تعاونه مع الدولة لم يشفع له عند السماسرة وأصحاب العقارات في حي “المزة 86” العشوائي.
فالجهة الأمنية المشرفة على المنطقة “المخابرات العامة” والتي قصدها تباعا لثلاث مرات متتاليات بصحبة ثلاثة من أصحاب المنازل التي حاول استئجارها في الحي، أخضعته “لسلسلة من الإهانات” بحسب قوله.
في النهاية رفضت المخابرات بعد الاطلاع على بطاقة عمار الشخصية منحه الموافقة الأمنية اللازمة لتوقيع عقد الإيجار، والسبب انتمائه لمنطقة تعتبرها دمشق حاضنة شعبية للمعارضة السورية المسلحة، و بات واضحا أنه في منطقة “المزة 86″، يستحيل أن يسكن من هو قادم من الغوطة الدمشقية.
الموافقات الأمنية تعزز الانقاسامات
يقول المحامي وسام طه لـ”صالون سوريا”: “إن عمليات إيجار البيوت والعقارات في مناطق النظام، تخضع إلى رقابة أمنيّة مشددة، إذ تفرض السلطات على المستأجر والمؤجر مراجعة مقارها الأمنية والحصول على موافقة خطيّة، قبل إبرام العقود أو عند تجديدها”.. وصدرت في عام 2014 أوامر أمنية تمنع منعا باتا الموافقة على تأجير منزل أو غرفة في دمشق دون الحصول مسبقا على الموافقة الأمنية.
ويقتضي الحصول على الموافقة الأمنية، أن يذهب المواطن ويملأ استمارة تفصيلية عن وضعه وعائلته وعمله وتوجهه السياسي، قبل أن يجري تصديقها من البلدية المعنية في المنطقة المراد السكن فيها، وانتظار أسبوع إلى 15 يوماً بل وربما شهراً ريثما تصل الأوامر بالموافقة أو الرفض. يأتي ذلك في ظل تشديد النظام السوري الإجراءات الأمنية في العاصمة خوفا من تسلل عناصر المعارضة.
يُتابع المحامي وسام حديثه بالقول: “يُنفّذ هذا الإجراء بصرامة خصوصا في العاصمة دمشق ومحافظة حلب، ويبدو أن النازحين من المناطق التي شكلت بيئة حاضنة لمعارضة النظام هم الأقل حظاً في الحصول على الموافقة”.
لا يواجه سماسرة العقارات مشاكل كبيرة في الحصول على الموافقة الأمنية إن كان المستأجر فتاة، حتى لو كانت من طائفة مختلفة وفقاً لسومر سلوم، وهو صاحب مكتب عقارات في حي المزة 86، يقول السمسار لـ”صالون سوريا”: “يحتاج الرجال للحصول على الموافقة الأمنية لواسطة كبيرة، في الواقع نحن لا نستطيع توقع النتيجة دائماً ولكن طلبات عديدة تُرفض، بما فيها طلبات تجديد عقد الإيجار، وذلك لاعتبارات أمنية أو طائفية”.
يتابع السمسار سومر حديثه بالقول: “كنا نتحايل ونلتف على الأمر لمساعدة المستأجرين بتنظيم العقد باسم أحد نساء العائلة التي تريد استئجار أحد المنازل وتقديم تفاصيل هوية المرأة للجهة الأمنية لتسهيل الحصول على الموافقة وتوقيع العقد، لكن المشكلة المستجدة التي منعتنا من الاستمرار في هذه الحيلة هي المداهمات الشهرية والتفتيش الأمني الدقيق الذي باتت تقوم به الجهات المختصة بين حينٍ وحين للمكاتب العقارية، وبشكل عشوائي للمنازل المُستأجرة للاطلاع على بيانات وأسماء المستأجرين في تلك المنازل”.
يختلف البعض مع ما ذهب إليه سومر عن معاملة أمنية مختلفة للنساء، اذ تروي أم حسن وهي أم لخمسة أطفال ما عاينته في أحد المراكز الأمنية، تقول: “كان عناصر الأمن يعاملون الجميع بدونية وكأننا مُجرمون، أما النسوة اللواتي كن يتشحن بالجلابيب أو بالخمار فكان لهن نصيب الأسد من الإهانات”، وتُردف: “أن الضابط تحرّى عن اسمي واسم زوجي المتوفى بحادث سير، وكذلك عن اسم أبي وإخوتي وأمي وحتى جدي وجدتي، بعدها سألني الضابط عن حادثة زوجي الأمر الذي استغربته، قبل أن يطلب مني الإنصراف مصحوبةً بتحذير شديد من استضافة أياً كان في منزلي المُستأجر”.
فوبيا أصحاب العقارات الأمنية
يتملك الخوف أصحاب العقارات من عدم الامتثال للإجراءات الأمنية، فقد تم استدعاء عدد من أصحاب البيوت لفرع الأمن العسكري حتى أن بعضهم اعتُقل بتهمة إيواء مطلوبين
وفي هذا السياق يشير حيان علي، وهو مالك لأحد العقارات في “حي تشرين” الدمشقي، في حديثه لـ”صالون سوريا”: “لا يمكنني تحمل مسؤولية تأجير المنزل من دون الموافقة الأمنية، لا أحد مستعدٌ لتحمل مسؤولية وجود مطلوبين، أو حتى من يتعاطف مع المسلحين في منزله، هذه مسؤولية كبيرة”.
ويشير متطوع إغاثي في دمشق، يوسف بلاط (اسم مستعار) إلى أن “الجهات الأمنية تُعاقب عدداً كبيراً من المطلوبين لإجبارهم على تسليم أنفسهم من خلال اعتقال أقاربهم ممن يتوجهون إلى المقرات الأمنية للاستحصال على موافقة تخولهم استئجار منزل في العاصمة دمشق”، ويضيف: “حتى في مراكز الإيواء التي عملت فيها ومنها مركز الحرجلة في الريف الدمشقي، كان علينا كفرق إغاثية تقديم بيانات مفصلة عن النازحين إليها، وطرد بعض النازحين بالفعل بسبب خلفياتهم المناطقية وأحيانا الطائفية”.
بواسطة رنيم غسان خلوف | ديسمبر 30, 2021 | Cost of War, العربية
“أحلى السهرات مع الفنان الكبير والراقصة جيجي”، “المقاعد محدودة وأيام قليلة تفصلنا عن بداية الـ ٢٠٢٢”، “ما بقي إلا القليل لتخلص 2021 خلصها بفرح، للحجز والاستفسار الاتصال على الأرقام التالية”، “أحلى السهرات بالميلاد ورأس السنة مع الصوت العذب واللحن الجميل”.
هذه جملة اقتباسات بدأت تنتشر في شوارع كل المدن السورية التي تعيش تقنينَ كل شيء. كم مواطن ومواطنة مرّوا من أمام هذه اللافتات والإعلانات دون أن ينتبهوا لها ومشاغلهم تقتصر على توفير الغاز والكهرباء؟ وكم مواطن ومواطنة تساءلوا في سرّهم عمّن سيحضر الطبل والزمر في بلاد ترقص بلا دف؟ وكم مواطن ومواطنة همّوا في مراسلة الجهة المنظّمة للسؤال عن مقعد بالقرب من “البيست”؟ هل على المواطن أن يعيش فقط هموم وقود التدفئة والحرب؟ ما المشكلة لو رقصت الطالبات وتمايل الطلاب لليلة واحدة فقط دون التفكير بالغد المجهول؟ في البلاد التي تعيش كل أشكال التناقض كل شيء ممكن.
فوق 200 ألف
بداية كانون الأول (ديسبمر)، ارتفع سعر كل شيء إلا المواطن/ة، بدأ يخفّ سعره ووزنه وتنقص فيتاميناته بسبب قلة الغذاء والخضار والفواكه التي تبشر الجهات المعنية في تصريحاتها للإعلام أن أسعارها سترتفع 15% في المحال التجارية وبيع المفرق. كيف ستكون حاضرة على موائد رأس السنة هذا العام؟.
يتحدث جورج البالغ من العمر 40 عاماً وهو واحد من منظّمي الحفلات في مطاعم دمشق القديمة لـ “صالون سوريا”: “تسعيرة الدخول إلى حفل رأس السنة هذا العام تبدأ من 60 ألف ليرة سورية وتصل إلى الـ 200 ألف”. وهو يتحدث عن الحفلات التي ينظّمها والتي تتضمن وجبة دجاج ومشروب روحي ونرجيلة ومطرب من الدرجة الثانية أو الثالثة، أي أنه غير معروف. ويشير جورج إلى أن الأسعار ارتفعت عن العام الماضي ما يقارب 100% وأكثر، حيث بلغ سعر أعلى بطاقة 75 ألف ليرة سورية. في أحد المطاعم الفخمة في العاصمة دمشق، تبدأ أسعار البطاقات بـ 200 ألف ليرة سورية للشخص الواحد، وتصل لل300 ألف ليرة للطاولات القريبة من المطرب. وتتضمن وجبة عشاء كاملة وكل أنواع المشروبات، ومع ذلك يشير أحد العمال في المطعم إلى أن هامش الربح قليل جداً، لكن لا توجد خسارة بالطبع لأصحاب المنشأت.
وبين الـ60 ألف وال200 ألف ليرة سورية، هنا في شرق العاصمة دمشق أماكن للرقص والكأس فقط. وتعتبر اليوم للشباب والشابات الفقراء، أي ذوي الدخل المحدود والعازبين/ات، ممن يريدون أن يودعوا عامهم برقصة مع الحبيب/ة ع الناشف “أي دون عشاء وبكأس واحد”، على حد تعبير علي 30 عاماً وهو مستثمر أحد البارات في باب توما، “40 ألف ليرة سورية” أي حوالي نصف راتب موظف/ة بعد الزيادة الأخيرة، هي ثمن دخول أرخص البارات بمشروب واحد لليلة رأس السنة، لكن هنا الرقص ببلاش، يمكن للشباب والشابات الرقص حتى الصباح ولا أجور على كل هزة خصر يميناً ويساراً.
سهار بعد سهار!
كيف سيقضي بعض السوريين والسوريات رأس السنة هذا العام؟ ومن سيطرق باب أماكن السهر؟ وكيف سترقص الناس هذا العام في بلاد التقنين؟ لا يقتصر الاحتفال برأس السنة الجديدة على طائفة معينة فقط، فالجميع يشارك في الاحتفال على طريقته.
تنوعت الإجابات واختلفت الأسباب بين من سيرقص على أمنية أن تكون هذه الرقصة الأخيرة له في البلاد، ويودع 2022 تحت برج خليفة أو في أحد الدول الأوربية. أحمد 23 سنة طالب في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق، قام هو وأصدقاؤه بحجز أماكن في أحد بارات باب توما بتكلفة 40 ألف للشخص، ومع أن أحمد لم يبدأ العمل ومازال يدرس فقط، إلا أنه قرر وزملاؤه منذ شهرين أن يلملموا بعض النقود من مصروفهم الشخصي ليحتفلوا في هذا اليوم مع بعضهم البعض. سيسهر أحمد ويشرب نخب البلاد المتعبة ويقرع الكأس مع الرفاق على أمل ولادة جديدة خارج حدود الوطن. حال أحمد كحال الكثير من الشباب والشابات الذين اقتصدوا بمصاريفهم مدة أشهر ليستطيعوا الاحتفال بنهاية العام. أما نهى 33 عاماً وهي موظفة حكومية فستخرج مع زميلتها في السكن للسير في شوارع دمشق بعد منتصف الليل ومراقبة الناس لأن وضعها المادي لا يسمح لها بأن تسهر خارج منزلها. و ككل عام ستقوم مع شريكتها في السكن بتحضير بعض المأكولات المتعارف عليها “تبولة، سلطات، دجاج مشوي”. إذ أن إعداد الدجاج بات يتطلّب مناسبة واحتفالاً ولم يعد شراؤه في الأيام العادية ممكناً.
هذه الحالات هي نماذج قليلة من شريحة باتت تتجاوز ربما الـ 70% من تعداد السوريين. لكن رغم كل وجع دمشق هناك وجه آخر للحياة، حيث يتسابق فيه الناس للحصول على مقعد في حفلات “الكلاس” ومحلات الخمس نجوم. إبراهيم، أحد التجار في دمشق سيدفع مليوني ليرة سورية مقابل أن يحضر حفلاً مع عائلته في مطعم خمس نجوم ليلة رأس السنة. ويرى أن هذا الرقم منطقي في ظل تدهور الليرة السورية الحالي أمام سعر الصرف وأن أي مواطن سيدخل إلى بيته عشاء عادياً لا تتخلّله لحوم حمراء، سيدفع 150 ألف ليرة سورية تغطّي عشاء شخصين فقط.
الدكتورة سحر 32 عاماً تعتقد أن الأوضاع تتيح للجميع أن يحتفلوا كلّ على طريقته وبحسب دخله ومستواه المعيشي، وهي ستسطيع بدخلها وبمستوى معيشتها مع زوجها أن تحتفل في أغلى مطاعم دمشق وستستمتع بنتاج عمل وجهد بذلته طوال العام. كما أنها تحب أن تستقبل العام الجديد في أفخم الأماكن وتتمنى لو كان بإمكان كل السوريين أن يحتفلوا في أماكن فاخرة. ستدفع سحر ما يقارب 4 ملايين ليرة سورية هي وعائلتها وعائلة زوجها أيضاً، وتقول “عادي”!
أطلال الماضي!
كل سنة، وعند الساعة الثانية عشر يقبّل الجميع بعضهم البعض على أمل الخير والقادم الأفضل. في سوريا وقبل الحرب تحديداً منذ 11 عام ، كان الكل يحتفل على طريقته ولا رائحة تعلو على رائحة الشواء والبطاطا المقلية وغيرها. تقف أم غسان 55 عاماً على أطلال الماضي وتتذكر “جمعة” عائلتها وأبنائها وكيف أن عشاء رأس السنة مما لذّ وطاب في العام 2010 بلغت تكلفته 10000 آلاف ليرة في قريتها غرب حمص. وعند الساعة 12 تماماً يدخل الجيران إلى بيوت بعضهم البعض للمعايدة “ع الحارك” ويرقص الشباب والشابات في الشارع. لا ممنوع أو عيب أو حتى غالي. أما هذا العام فيقتصر عشاء رأس السنة على البرتقال والقليل من الموالح العادية وكأس مشروب من صنع يديها ويدي زوجها، أما الأولاد فكلّهم خارج البلاد يحتفلون على طريقتهم وستنتظر مكالمة جماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
“من زمان، كيف كنا، ووين صرنا، بتتذكروا” جميعها مفردات يتعكز عليها السوريون والسوريات للبقاء على قيد الحياة كل عام، وعلى أبواب 2022 أمنيات السلام للشام.
بواسطة طارق علي | نوفمبر 10, 2021 | Cost of War, غير مصنف
بيدين راعشتين، يخرج أبو أحمد ورقة نقدية من فئة ألفي ليرة سورية. يمسكها بحذر الخائف من السرقة، والحريص على ما يبدو أنّه آخر ما بجيبه. يتفحص الرجل السبعيني أقراص الفلافل، وهي تقلى من أمام واجهة أحد المطاعم الصغيرة في مدينة جرمانا بريف دمشق.
ينقل عينيه بين زبونين ينتظران دورهما، ينصت باهتمام لسؤال عابر من جواره، “كم سعر السندويشة؟”، يأتي الجواب: “1300 ليرة”، يتحسس العجوز ماله من جديد، وتبدو ملامحه وكأنّه يجري عملية حسابية بسيطة ومعقدة في آن، يسأل صاحب المطعم: “هل يمكنني أن آخذ سندويشتين بألفي ليرة”، يجيبه العامل: “نعم ولكن بعدد أقراص فلافل أقل”، يقول أبو أحمد: “لا بأس، واحدة بلا مخلل والثانية زيادة بندورة، لو سمحت”.
“لو سمحت”، بكل انكسار الكون يقولها الرجل السبعيني وبكل ما أوتي من عزة نفس مزقتها ظروف الأيام وأحوالها، أبو أحمد الذي عاصر أحداث “الإخوان المسلمين” نهاية سبعينات القرن الماضي، يقول لـ “صالون سوري”: “لم يحصل هذا وقتذاك، لم نجع أو نتشرد أو ننم دون طعام، لم نقف على واجهات المحال نشتهي ونتمنى، آخ على هذا البلد”. ببحة وقهر يقولها أبو أحمد، ويمضي ليأخذ سندويشتيه داخل كيس أبيض، على عكس ألوان أيام حياة السوريين، “تنتظرني أم أحمد في المنزل، اليوم قررت أن أدللها وأن نستعيض عن الزعتر واللبن بالفلافل، من حسن الحظ وسوءه في آن أنّه ليس لدينا أولاد”، وعن آخر مرة تناولا فيها اللحوم، يقول: “كان ذلك قبل أربعة أشهر حين كنا مدعوين لدى ابن عمي”.
وفي دمشق أيضاً
لا يبدو الحال في دمشق أفضل بأي شكل. سيدة في عقدها الرابع تقف على واجهة محل لبيع الألبان، في حي الشيخ سعد التجاري، على مقربة من وسط العاصمة، تراقب وتتمعن بالأسعار المعروضة، على الواجهة وضعت أسعار تقول أن كيلو الجبنة البلدي بـ 9400 ليرة سورية، والمغلية بـ 10000 والعكاوية بذات السعر، أما الشلل حب بـ 18000 ليرة، وكذلك المالحة والحلوة وحلوم، أما القشقوان فسعرها 19500 ليرة.
“حقيقةً وقفت مصدومة لهول الأسعار، بدايةً كنت أفكر بشراء بعض الجبن بألفي ليرة لزوم الإفطار والعشاء ربما، نحن خمسة أشخاص في المنزل، ولكن في ظل هذه الأسعار من الجيد أن يسمح لي بتذوق الجبنة فقط بألفي ليرة، يبدو أنّنا سنتناول الزعتر وبعض المكدوس أيضاً ليوم آخر”، تقول السيدة.
ولما أسمته شدة فضولها راحت تسأل عن أسعار الدجاج، رافقها “صالون سوري” ليرى طبيعة الأسعار فعلاً، ليتبين أنّ سعر كيلو الفروج 7400 ليرة، الشرحات 11500، الدبابيس 7100، وكيلو الجوانج 5400، هنا لم يكن من الضروري مراقبة ردات فعل السيدة وهي تقرأ، فكل ما كانت ستحسه كان واضحاً وجلياً يمكن لمسه وقراءته على جبين السوريين، السوريين الذين يبلغ متوسط راتب أفضل موظف فيهم سبعين ألف ليرة سورية، مبلغ بالكاد يكفي بضعة أيام، وبقية الشهر يقضيها السوريون بالشح والاستدانة و”تدبير راسهم”.
طعام اليوم
بحسبة اقتصادية سريعة، إذا أرادت عائلة مكونة من خمسة أفراد، تقليص وجبات طعامها الرئيسية من ثلاث وجبات إلى وجبتين فقط، وأن تقتصر هاتان الوجبتان على الفلافل، فستحتاج العائلة لـ 6500 ليرة على الفطور، ومثلها على العشاء، أي ما يعادل 390000 ألف ليرة ثمناً للفلافل فقط في الشهر، أي نحو خمسة أضعاف الراتب، وهذا دون دفع أي مصاريف للطبابة والمدارس والجامعات والفواتير وأجار المنزل والإصلاحات البسيطة وأجور النقل والملابس والخضار والفواكه… والخ
إذن، فإنّ راتب الموظف الحكومي يكفي في ظل هذه المعطيات ثمن فلافل لخمسة أيام بالضبط، لتبدأ رحلة يطلق عليها الشوام اسم “الحربقة” وتعني بصورة مبسطة “تدبير الراس”، لإيجاد طرائق وبدائل لإمضاء الشهر، قد تبدو المهمة مستحيلة حقاً، لكنّ السوريين خبروا أيام الفقر هذه، وعاينوها عن قرب، ووجدوا أساليب متعددة للتعايش معهما، بأقلّ القليل.
أكثر من عمل
سالم موظف حكومي ويعمل بعد الظهر سائق تكسي في دمشق، يخبر “صالون سوري” أنّه يعمل لدوامين متتاليين، فيعود إلى منزله بعد الحادية عشر ليلاً كل يوم، “أخرج صباحاً في السابعة والنصف، بالكاد أعود آخر اليوم لأرى زوجتي وطفلتي قليلاً، وأتعشى، ثم أنام فوراً، هذه حياتي وهذا شكلها، كذلك زوجتي تعمل من داخل المنزل في مهنة الخياطة، لا أقول أنّ دخلها سيء للغاية ولكنّه بالتأكيد ليس جيداً، إلّا أنّ دخلي ودخلها معها مجتمعين بالكاد يغطيان مصاريفنا الأساسية يضاف إليهما أجار المنزل المرتفع ومصاريف الطفلة الصغيرة”.
المشكلة بالدخل لا بالأسعار
تضحك ميرنا (طالبة جامعية) حين سؤالها عن انخفاض سعر الموز الذي وصل إلى أربعة آلاف بعد أن كان عشرة آلاف قبل أيام قليلة، “يبدو أنّ المشكلة ليست في سعره الذي انخفض، فرغم انخفاضه لا زلنا غير قادرين على شرائه، المشكلة في دخلنا، أنا أعمل بعد جامعتي في محل للمكياج براتب 60 ألف، ووالدي موظف، أما والدتي ربة منزل، ولدي أخوان، لولا أنّنا جميعاً نعمل، لما كنا تمكنا من الإكمال ولو بالحد الأدنى، وأقول الحد الأدنى لأنّ مرتبي كما هو، وفوقه مبلغ من إخوتي حتى يكفيني ثمن مواصلات وبضع محاضرات فقط، هل تعتقد أنّ زملائي لا يلاحظون أبداً أني لا أغير ملابسي كثيراً؟، ولا أصبغ شعري؟، ولا أروح لصالونات تجميل؟، نعم، هم يعرفون جيداً، ولكن كثر منهم مثلي، فليكن الله بعون الناس، ما يحصل ليس قليلاً”.
لقمة الذل
يقال أنّ السوريين شعب حي، ولكن قد يبدو مفهوم الحي مختلفاً قليلاً في هذه الأيام، فثمة حياة كالموت. هكذا يحياها ويصفها السوريون، وحياة لأجل الركض واللهاث خلف لقمة الطعام، فهذه عائلة تطالها وأخرى لا تصلها، وبين كل هذا وذاك، طبقة سوريةٌ أفرزتها الحرب، أناس لو اشتهوا الموز قد يشترون شاحنة، هذا ما يقوله المدرس الثانوي فاتح حمادة.
وفي كل الأحوال، يبقى أنّ الغالبية جائعة وخائفة وحزينة، تبحث عن خبزها كفاف يومها، عن لقمة كانت مغمسةً بالدم، وصارت مغمسةً بالذل، هل يصدق أحدٌّ أنّ سوريين كثر صاروا يتناولون طعامهم من القمامة؟!.