(مقابلة تلفزيونية مع بسام حداد على: Democracy Now!)
ترجمة وتحرير: أسامة إسبر
إيمي غودمان: نواصلُ تغطية سقوط نظام عائلة الأسد في سوريا بعد أكثر من نصف قرن من الدكتاتورية الوحشية، وذلك في أعقاب التقدم السريع للمقاتلين المتمردين. لمزيد من التفاصيل، ننتقل إلى فيلادلفيا حيث ينضم إلينا بسام حداد، الأستاذ المشارك في جامعة جورج ميسون، ومؤلف كتاب “شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي لنظام استبدادي يثابر على الاستمرار”، ومؤسس مشارك ومحرر لمجلة “جدلية” الإلكترونية، ومدير مؤسسة الدراسات العربية في جامعة جورج ميسون.
أستاذ حداد، أولاً، ما الذي ستقوله لنا عن ما حدث هذا الأسبوع؟
بسام حداد: شكرًا لك، إيمي. يسعدني أن أكون معك مرة أخرى. في الحقيقة هناك أسئلة أكثر مما هناك أجوبة، لذلك من المهم، خاصة اليوم، أن نأخذ هذا في عين الاعتبار ونحن نتابع حديثنا. سألجأ إلى التحليل، لكنني لا أستطيع أن أغفل تأكيد أهمية ما حدث في سوريا وقيمته، وأعني انهيار نظام الأسد بعد ٥٤ عامًا من الحكم، أو بعد ٧١ عامًا من حكم حزب البعث، وما يعنيه هذا بالنسبة للمواطنين السوريين الذين عاشوا في ظل هذا النظام لعقود عديدة. إنها لحظة لا يمكننا تجاهلها أو تجاوزها ونحن نحاول تحليل الصورة الأكبر، رغم أنها قاتمة جدًا ومليئة بالمشاكل. لكن لا يمكننا التقليل من أهمية هذا الأمر، نظراً لوحشية النظام، وفشله التام في الحكم في السنوات الأخيرة، على الأقل بعد عام ٢٠١٩ و٢٠٢٠، وعجزه عن توفير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية لشعبه، وهذا ما لعب دورًا في تقدم “هيئة تحرير الشام” السريع ودخولها جميع المدن الكبرى في سوريا.
إيمي غودمان: حدّثْنا عن “هيئة تحرير الشام”، وتاريخها، وقائدها الجولاني، وما الذي تشعر بالقلق حياله الآن.
بسام حداد: كما تعلمون، إن “هيئة تحرير الشام” ائتلاف يضم عدة جماعات من أبرزها “جبهة النصرة”، التي يميل الجميع إلى القول إنها مرتبطة بتنظيم القاعدة، رغم أنه حدث نوع من الانفصال. ومع ذلك، هي ما هي عليه. قال الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج صالح، إنه قلق بشأن أيديولوجية “هيئة تحرير الشام” وبعض العواقب المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن ذلك. وإذا كان ياسين الحاج صالح، قد وصف رجال حزب الله بأنهم “شبيحة”، بإمكانك أن تتخيلي قلقه من “هيئة تحرير الشام”، ومدى قلق الآخرين بشأن المستقبل.
لم تتصرف “هيئة تحرير الشام” من تلقاء ذاتها لأنها لا تستطيع مغادرة إدلب من دون ضوء أخضر من تركيا. وحتى الحكومة التركية لا يمكنها اتخاذ مثل هذا القرار بمفردها. انطلاقاً من هذا، إن السؤال الأول الذي يجب طرحه هو: مع من نسّقتْ تركيا للقيام بهذه الحملة، أو لشن هذه العملية؟ السؤال الثاني هو: هل كانت هناك أية علاقة بين وقف إطلاق النار في لبنان وما فعلته تركيا اليوم، أو منذ عشرة أيام، أو قبل بدء التنسيق؟ وما نوع التنسيق الذي حدث بين تركيا وروسيا، وكذلك بين روسيا و”هيئة تحرير الشام”، وغيرها؟ تبيّن أنه سُمح للروس بالحفاظ على قاعدة جوية كما كشفت التقارير الأخيرة. لكن علينا التحقق من ذلك، وهناك العديد من الأسئلة.
يمكن أن نواصل حديثنا عن التداعيات الإقليمية والعالمية الخطيرة، إلا أنني أود أن أغتنم هذه الفرصة للتحدث عما يعنيه ذلك لملايين السوريين الذين هم في الواقع سعداء بما حدث. لكن كثيرين منهم قلقون، بمن فيهم من يحتفلون، قلقون بشأن المستقبل، وبشأن كيفية حدوث هذا الأمر، وإلى أين سيقود، ومن سيتولى القيادة في سوريا. هناك كثيرون ينتابهم القلق بشأن ما يعنيه ذلك من ناحية هيمنة قوى عظمى، مثل أمريكا وإسرائيل، نظراً لغياب، أو ضعف محور المقاومة. هذه ليست قضية صغيرة، وستصبح جزءًا من العناوين الرئيسية في المستقبل القريب.
إيمي غودمان: حدّثنا أكثر عن هذا الموضوع. ما الذي قد يعترض طريق إعادة بناء سوريا؟ هل سيتأثر الأمر بالدعم الدولي الذي ستحتاج إليه سوريا لإعادة البناء، والذي سيشمل الولايات المتحدة، ولاعبين مثل دول الخليج العربية؟ ستشارك تركيا بقوة، كما أشرت، وهي بالفعل متورطة. فهل سيدفع هذا ما يحدث في سوريا في اتجاه معين؟
بسام حداد: يجب أن أكرر مرة أخرى أن هناك كثيرًا من الأسئلة والقليل من الأجوبة، لأننا لا نعرف بالضبط كيف تم تنسيق هذا الأمر، ومع من، وما المقايضات التي حصلت بالفعل. ولكن هذه ستكون مرحلة، أما المرحلة التالية، أو هذه المرحلة الحالية هي في الحقيقة ليست الطور الذي نستطيع التركيز عليه لأنه وفقًا لأفضل التحليلات، لن يتم نقل التشكيل الحالي إلى المرحلة التالية. يتحرك التشكيل السياسي والاقتصادي والعسكري القائم اليوم إلى الأمام، وهو مؤلف من الأشخاص الذين لديهم الأسلحة واستولوا على السلطة، وليسوا على الأرجح بمفردهم، ربما هم جزء من تحالف أكبر، وأكثر تنوعًا. هناك الكثير من الخوف والقلق في سوريا. وهناك الكثير من الخوف والقلق في تركيا والولايات المتحدة والعديد من الدول العربية القوية، والتي من المحتمل أن يتم الاعتماد عليها إلى حد ما للمساعدة في إعادة بناء سوريا، وهو خوف وقلق من تفرّد مجموعة معينة، هي هيئة تحرير الشام، وكيف أنها لا ينبغي أن تكون اللاعب الوحيد على الساحة السورية. لكن الأسئلة المطروحة الآن هي مجرد أسئلة. من الصعب للغاية التعرف على الاتجاه الذي تتجه إليه الأمور. لكننا نعلم أن الولايات المتحدة وإسرائيل تشعران بارتياح شديد. لقد وصفت إسرائيل، يوم أمس، على القناة 13، ما حدث بأنه إنجاز. وهذا “الإنجاز” سيتيح لها المضي قدمًا في إبادة غزة، بالتعاون مع الولايات المتحدة التي هي شريك كامل في هذه الإبادة. وستظهر مسائل أكبر وأكثر تعقيداً في الأسابيع القادمة.
إن الابتهاج مهم اليوم بالنسبة للناس الذين كانوا تحت نير النظام، ولا يمكننا أن نقلل من شأنه، مهما كان اهتمامنا بالإمبريالية والاقتصاد السياسي العالمي ومواضيع أخرى. من الضروري أن نعي ذلك، لأن أحد الأشياء التي ستسبب لي المتاعب وتجعل هاتفي ينفجر في غضون بضع دقائق فقط من اتصالات أصدقائي هو أن الكثير من الناس الذين يبالغون في التأكيد على مسألة الإمبريالية في يوم كهذا أو في أسبوع كهذا، يُغْفلون وجود الشعب السوري من غير قصد، للأسف، ويجعلونه غير مرئي، وكأنه ليس مهماً، وكأن السياسة العالمية هي الوحيدة التي لها أهمية. وهذا شيءٌ أود أن أحذّر منه، على الرغم من أننا يمكن أن نقول إن ما حدث هو انتصار لقوى عالمية مثل الولايات المتحدة، وانتصار للمخططات الإمبريالية، وللدول العربية المحافظة في المنطقة، ولمن يسعون إلى تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل في المنطقة، وبالتأكيد لإسرائيل، أو أي طرف يرغب في إضعاف أي مقاومة في المنطقة ضد هذه المخططات، التي لا تتعلق فقط بسرقة الأراضي والسيطرة السياسية، ولكن أيضًا بمخططات اقتصادية ستؤدي إلى إضعاف الطبقة العاملة في المنطقة، وستواصل فعل ذلك.
إيمي غودمان: هل يمكنك التحدث أكثر عن “هيئة تحرير الشام“، وهل تعتقد أنها ستكون من الشركاء الرئيسيين في سوريا الجديدة؟ حدّثْنا عن خلفيتها، وإدارتها لإدلب، وكيف كانت تُدار إدلب، وتلك المنطقة بأكملها؟
بسام حداد: لم تكن هيئة تحرير الشام تسيطر بشكل كامل على إدلب. كانت القوة المهيمنة في إدلب، وكان هناك عدة جماعات لها أيضًا قوة معينة. إلا أن هيئة تحرير الشام كانت قادرة على الحكم، إلى حد كبير. من غير المحتمل أن تنفرد هيئة تحرير الشام بالحكم في سوريا. ثمة توافق إقليمي ودولي على ذلك، وحتى توافق داخلي. ورغم كل ما رأيناه، فإنّ المجتمع السوري يُعَدّ من بين أكثر المجتمعات العربية علمانية. وحتى إذا كان التوجه نحو النزعة الإسلامية المحافظة قد ازداد بشكل كبير في السنوات أو العقود الأخيرة، أو حتى أكثر من ذلك، فليست هناك رغبة بما تدعو إليه “هيئة تحرير الشام”، بما في ذلك خطابها الذي كان إقصائياً في السنوات الأخيرة (مثلًا في ٢٠١٤، و٢٠١٥،و٢٠١٦)، لكنها تقول الآن إنها ترفض هذا الخطاب. وهي في الواقع تحاول التأكد من أن قواتها لا تضطهد الآخرين، رغم أن ما رأيناه في العديد من مناطق سوريا هو أشكال مختلفة من الإقصاء، مثل تدمير محلات الخمور، وحرق أشجار عيد الميلاد وأشياء من هذا القبيل، وهي أمور من المفترض أن هيئة تحرير الشام قد رفضتها، وحاولت تصحيح مسارها. هذا النهج الجديد لهيئة تحرير الشام مثير للاهتمام، ومن المحتمل أن يكون أيضًا منسقًا مع أولئك الذين منحوا هذا التنظيم الضوء الأخضر للتحرك قدمًا. لكنني نستطيع القول إنه في جميع الحالات، ليست هيئة تحرير الشام” فطيرة التفاح” – أو من الأفضل أن نقول بما أننا نتحدث عن سوريا- “الكنافة” التي يتطلع إليها السوريون.
وفي المستقبل القريب جدًا، وبعد تأسيس الحكومة الجديدة، وتشكيل البنية العسكرية الجديدة سنكتشف أن هناك محاولات لتوسيع التحالف وربما أيضًا لتجنب الخطأ الفظيع الذي ارتكبته الولايات المتحدة بعد غزوها الوحشي للعراق في ٢٠٠٣، وهو تفكيك الدولة، والحزب الحاكم، والجيش، وما إلى ذلك، لأن ذلك أدى إلى خلق الفوضى التي كانت في النهاية غير منتجة للقوة الغازية وما بعدها. لذلك، أعتقد أن المسار سيكون مختلفًا عما رأيناه في العراق. سيكون أيضًا مسارًا أصعب، لأن سوريا ليس فيها موارد كما في العراق مثل النفط، ولا تمتلك أي جزء منها، لأن مواردها كلها خارج سيطرة الحكومة الآن. لذلك، سيكون أمام سوريا مستقبل مليء بالتحديات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ما أخشاه هو أنه بعد مدة قصيرة، ستختفي سوريا من الأخبار، وسنرى ما كنت أتحدث عنه في وقت سابق، وأعني الإطار التحليلي لما يعنيه ذلك للمنطقة. سنراه في القريب العاجل في الواقع، مع حدوث التطورات.
إيمي غودمان: شكراً بسام على وجودك معنا.
لمن يود الاستماع على المقابلة بالإنكليزية، انقر الرابط التالي:
شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد بقائه، دعمت تركيا المعارضة المسلحة والسياسية، مما جعلها لاعبًا حاسمًا في المشهد السوري. على الجانب الآخر، استغلت إسرائيل هشاشة الوضع لتقويض قدرات الجيش السوري، مستهدفة 80% من بنيته الاستراتيجية، في غياب ردود فعل جادة من النظام الساقط.
في المقابل، أظهرت مؤشرات دولية رغبة الرئيس المنتخب دونالد ترامب بعدم التدخل المباشر في سوريا، معتبرًا أنها لا تمثل أولوية للمصالح الأمريكية. هذه السياسة عززت واقعًا جديدًا على الأرض، حيث بدا أن الإدارة الأمريكية تمنح إسرائيل ضوءًا أخضر لفرض رؤيتها الاستراتيجية، تحت غطاء تأمين حدودها وأمنها القومي.
من جهة أخرى، وفي ظل انهيار النظام السوري وعجزه عن تلبية أي دور فعال، نسّقت تركيا مع روسيا وإيران لإدارة المشهد، حيث التقت مصالحها في تحقيق تفاهمات مرحلية رغم التناقضات الجوهرية. بدت تركيا أكثر واقعية، حيث أدركت أن النظام بات ورقة خاسرة، مركزة جهودها على حماية نفوذها ومصالحها على الأرض. هذا التنسيق يطرح تساؤلات حول ملامح المرحلة المقبلة ودور هذه القوى في إعادة تشكيل المشهد السوري.
أحمد الشرع، زعيم تحرير الشام والوجه البارز اليوم في القوى العسكرية المعارضة، أكد أن سوريا لن تكون ساحة لحروب جديدة مع أي طرف. هذه التطمينات الدولية تفتح الباب للتساؤل حول مدى جدية هذا التصريح في ظل التوغل الإسرائيلي المستمر، والتهديدات الروسية الحازمة ضد أي مساس بقواعدها البحرية في سوريا.
بعد سقوط نظام بشار الأسد، شهدت سوريا تحولات ميدانية وديناميكيات جديدة بين القوى الفاعلة على الأرض. في العاصمة دمشق، سيطرت قوات المعارضة المسلحة على المدينة دون مقاومة تُذكر، مما أدى إلى فرار الأسد. في مدينة حمص، انسحبت القوات الحكومية بشكل كامل، مما أتاح للمعارضة السيطرة على المدينة، واحتفل السكان المحليون بسقوط النظام، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع مرددين هتافات مثل “رحل الأسد، حمص حرة”.
أما في المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، التي تُعتبر معاقل للطائفة العلوية، فقد شهدت المدن احتجاجات واسعة ضد النظام، حيث أُسقطت تماثيل حافظ الأسد، والد بشار الأسد، في مشهد يعكس تغير المزاج الشعبي. ورغم مخاوف السكان من التعرض لهجمات انتقامية، فإن التعامل السلمي من قبل المعارضة هدّأ من هذه المخاوف وأشاع أجواء من الأمل بإمكانية تحقيق مصالحة وطنية.
هذه التحولات الميدانية السريعة تُظهر التغيرات الجذرية في المشهد السوري بعد سقوط النظام، وتبرز التأثيرات العميقة على المجتمعات المحلية التي تسعى الآن للبحث عن مستقبل جديد بعيدًا عن الصراعات الدامية.
بعد سقوط نظام الأسد وسيطرة المعارضة على دمشق، أصدرت القوى الدولية والإقليمية تصريحات تؤكد مواقفها من المشهد السوري الجديد. فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي أن “الوضع الحالي في سوريا يتطلب دعم الجهات المحلية التي أثبتت قدرتها على تحقيق الاستقرار”، مشددًا على أن “أي عملية سياسية يجب أن تكون شاملة وتُمثل تطلعات الشعب السوري بعيدًا عن التطرف والإقصاء”. من جانبها، أوضحت روسيا عبر وزير خارجيتها أن “أي عملية سياسية في سوريا يجب أن تراعي القوى المسيطرة على الأرض لضمان الاستقرار، مع الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الروسية، خاصة في الساحل السوري”.
بدورها، أعلنت إيران دعمها لتشكيل حكومة انتقالية، مؤكدة أن “المرحلة المقبلة في سوريا يجب أن تكون نابعة من الداخل، بالتعاون مع القوى الميدانية لضمان توازن المصالح”. أما تركيا، فقد شددت على أهمية شمولية العملية السياسية، حيث صرح الرئيس التركي بأن “المرحلة الجديدة في سوريا يجب أن تُبنى على مشاركة حقيقية لجميع الأطراف، مع ضمان وحدة الأراضي السورية وحماية حقوق جميع المكونات”. وعلى الصعيد العربي، دعت السعودية والإمارات إلى “إطلاق حوار سوري-سوري برعاية دولية يضمن تمثيلًا عادلًا للشعب السوري، مع التركيز على إعادة الإعمار وعودة الاستقرار” فيما بدأت دول مثل قطر تستأنف عملها الدبلوماسية في سفارتها بدمشق.
تشير التصريحات إلى أن القوى الدولية والإقليمية تتجه نحو التعامل مع قوى الأمر الواقع في سوريا كفاعل أساسي في أي عملية سياسية مقبلة. روسيا وإيران تسعيان إلى حماية مصالحهما الاستراتيجية عبر التنسيق مع القوى المسيطرة، بينما تركز الولايات المتحدة وتركيا على ضمان شمولية العملية السياسية وتحقيق الاستقرار. الدول العربية، رغم دعوتها لحوار شامل، تظل بعيدة عن تأثير فعلي على الأرض. غياب القوى السياسية الحرة التي تعيش معظم قياداتها في الخارج يُعقد المشهد، ويُبقي مستقبل سوريا مرهونًا بتوازنات دولية وإقليمية أكثر من كونه قرارًا سوريًا داخليًا.
مع سقوط نظام الأسد، انهار الجيش السوري بسرعة مذهلة، ليكشف عن هشاشة كيانه وعدم وطنيته التي كانت سببًا رئيسيًا في عجزه عن البقاء كجيش وطني. لعقود، تحول الجيش إلى أداة لحماية نظام الأسد بدلاً من حماية البلاد، حيث أهملت تجهيزاته، وبقيت معداته العسكرية قديمة وغير فعالة في مواجهة أي تهديد خارجي. الطيران الحربي الذي كان يفترض أن يحمي سماء سوريا لم يستخدم سوى ضد المدنيين والمعارضة المسلحة، التي هي في الأساس جزء من الشعب السوري.
هذا الانهيار السريع يعكس مدى عدم وطنية النظام الذي حول الجيش إلى أداة قمع، أوهمت السوريين بأنها تحميهم، بينما كانت في الواقع درعًا شخصيًا للرئيس المخلوع بشار الأسد. وما إن غادر الأسد وعائلته إلى روسيا كلاجئين، وفقًا لتقارير دولية كشفت عن حيازته مبلغًا ضخمًا يصل إلى 2 مليار دولار، حتى انهار النظام بأكمله في العاصمة دمشق، فجأة فرغت الأفرع الأمنية وقطعات الجيش، سواء بسبب اتفاقيات دولية لإعادة رسم خارطة المنطقة أو نتيجة تخلي الحلفاء الدوليين عن دعمه للبقاء.
هذا الواقع يضع الطائفة العلوية، التي دفعت أثمانًا باهظة للدفاع عن النظام، في مواجهة استحقاقات صعبة. بعد أن قدمت معظم شبابها دفاعًا عن الأسد ونظامه، أصبحت الآن محط استهداف، خاصة في حوادث معنوية ومظاهر انهيار مجتمعي في القرداحة، مسقط رأس الأسد. هذه التطورات تفتح الباب لأسئلة ملحة: كيف يمكن إعادة لم الشمل بين الطوائف السورية المختلفة؟ وما هي الضمانات التي يمكن تقديمها للطوائف التي عانت من قمع النظام أيضًا، لضمان العدالة والمصالحة الوطنية؟ الطريق نحو سوريا موحدة وآمنة يبدو معقدًا، لكنه يبدأ بالاعتراف بجذور المأساة ومعالجة تبعاتها بروح وطنية جامعة.
بعد سقوط نظام الأسد، ظهرت قوى الأمر الواقع كفاعلين رئيسيين في المشهد السوري، مع تساؤلات حول إعادة لمّ الشمل بين الطوائف وضمان العدالة والمصالحة الوطنية. في هذا السياق، أصدرت إدارة العمليات في المعارضة المسلحة بيانًا يؤكد على أهمية “إطلاق حوار شامل بين جميع مكونات الشعب السوري لضمان بناء دولة تحترم حقوق الجميع بعيدًا عن الإقصاء”، مشيرة إلى أن “القوات المسلحة للمعارضة ستلتزم بحماية المدنيين وممتلكاتهم، ولن تتحول إلى طرف قمعي كما كان الجيش السابق”.
هذا الطرح يعكس إدراك المعارضة لأهمية تقديم ضمانات حقيقية للطوائف التي عانت من النظام السابق، مع التركيز على بناء دولة مؤسساتية تعتمد على العدالة والمساواة. تحقيق هذه الأهداف يتطلب إدارة متوازنة لقوى الأمر الواقع، وضمان انخراطها في عملية سياسية تُمثل جميع السوريين، في ظل دعم دولي يرعى الانتقال السلمي ويمنع العودة إلى دوامة العنف.
إلى جانب ذلك، تسيطر اليوم فصائل مسلحة ذات أيديولوجيات وانتماءات متباينة على أجزاء واسعة من البلاد، مما يعكس تفكك النسيج الاجتماعي السوري. بعض هذه الفصائل يحمل طابعًا طائفيًا أو مناطقيًا، وهو ما قد يشكل عائقًا أمام المصالحة إذا لم يتم دمجها بطريقة عادلة في العملية السياسية. إعادة لم الشمل تتطلب قيادة وطنية جامعة قادرة على تجاوز الطائفية والمناطقية، عبر مؤتمرات مصالحة وطنية مدعومة دوليًا، تضمن تمثيلًا عادلًا لجميع المكونات، بما في ذلك الطائفة العلوية التي تحملت أعباء كبيرة دفاعًا عن النظام.
في الوقت ذاته، تحتاج الطوائف التي عانت من قمع النظام إلى ضمانات حقيقية لمستقبلها. ورغم أن بعض الأمل قد يكون معقودًا على الفصائل المعارضة التي تسيطر على مناطقها، فإن هذه الفصائل ليست كافية لتقديم حماية شاملة. هنا يبرز دور القوى الدولية في بناء إطار قانوني يضمن العدالة والمحاسبة للمتورطين في الانتهاكات، مع إنشاء نظام أمني جديد يركز على حماية جميع المواطنين على قدم المساواة.
تحقيق وحدة سوريا وأمنها يتطلب التغلب على النفوذ الأيديولوجي والطائفي لقوى الأمر الواقع، وإيجاد صيغة لإدماجها في مؤسسات الدولة بما يضمن مصالح الجميع. إلى جانب ذلك، يجب مواجهة التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤجج الانقسامات، عبر دعم عملية سياسية وطنية شاملة تعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وتطلق برامج إعادة إعمار تستهدف تعزيز التعايش والمساواة بين السوريين.
إن قوى الأمر الواقع اليوم تحمل في طياتها فرصًا وتحديات لتحقيق المصالحة الوطنية. نجاح إعادة بناء سوريا يعتمد على تحويل هذه القوى من جهات عسكرية إلى أطراف سياسية ملتزمة بمشروع وطني جامع. هذا التحول يتطلب إرادة داخلية ودعمًا دوليًا كبيرًا لضمان العدالة والمصالحة وبناء دولة جديدة تلبي تطلعات جميع السوريين.
لعب الشعب السوري دورًا محوريًا في رسم ملامح المرحلة الجديدة، رغم التحديات الكبيرة. في دمشق، خرجت جموع من المواطنين إلى الساحات العامة، مطالبين بحكومة تمثل إرادة الشعب وتعكس تطلعاته نحو الديمقراطية والحرية. في حمص، قام السكان بتنظيم لجان محلية لإدارة شؤون المدينة، مع التركيز على تأمين الخدمات الأساسية وإعادة الحياة إلى طبيعتها.
أما في المناطق الريفية، فقد ساهمت المبادرات الشعبية في دعم استقرار المناطق المحررة، حيث أطلق المواطنون حملات لإعادة بناء المدارس والمستشفيات التي دُمرت خلال الصراع. وعلى الصعيد السياسي، شهدت الساحة ظهور وجوه جديدة من ناشطين مدنيين وشخصيات مجتمعية تسعى لتوحيد الصفوف وطرح رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.
هذا التفاعل الشعبي يُظهر أن إرادة السوريين ليست مجرد عامل هامشي، بل قوة دافعة أساسية يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل البلاد، إذا ما أتيحت لهم الفرصة للمشاركة الفاعلة في عملية بناء الدولة.
حين تُفْقَد الشرعية، وينهار الاقتصاد، وينحسرُ الدعم الشعبي، ويتفشّى الفساد والمحسوبية، وتُفْرضُ العقوبات والعزلة الدولية، ويشتدّ التغوّل الأمني وسوء الإدارة والرشوة، ويُفْقد دعم النخبة وتتفكك، أو تُصادَر أموالها وتُهَمَّش، ويتحوّل الجيش إلى حرس خاص وتسود الفئوية، ويفتقر الرئيس ونخبته للرؤية السياسية، ويثور الشعب، ويتم تبني العنف الأمني المتوحش كطريقة للحفاظ على السلطة مترافقاً مع كم الأفواه والرقابة على الصحافة، والتحكم بالمعلومات ونهب المال العام، وحين يتم الفشل في التكيف مع الظروف المتبدلة، وفهم المتغيرات الإقليمية والدولية وإطالة الاتكال على العنف، واللجوء إلى الدعم الخارجي دون استقلالية في اتخاذ القرار، والتمسك بالكرسي على حساب أي شيء، فإن النتيجة هي السقوط المدوي، والذي يكون أحياناً سوريالياً.
تغيّر المشهد في سوريا بشكل مفاجئ وبسرعة فائقة. فبشار الأسد، الذي ورث السلطة عن أبيه في انتهاك صارخٍ للقانون، اختار أن يتخلى عن ٢٤ عاماً من الحكم في يوم واحد، في صفقة لا تزال تفاصيلها غامضة، ومن الصعب التنبؤ بتداعياتها واحتمالات ما قد تفضي إليه من نتائج في الداخل السوري. كما لو أن لاعب شطرنج قضى بحركة واحدة مفاجئة على الملك وجنرالاته وجنوده على رقعة اللحظة السورية.
قرأ بشار الأسد الأوضاع الداخلية والإقليمية والخارجية بعينين أمنيتين أعماهما ضباب الغرور والتسلط والعجرفة، فلم يستطع أن يفهم طبيعة التحولات في المنطقة، ونظر إلى الربيع العربي منذ بدايته على أنه مؤامرة، وبدأ حربه على الشعب السوري الذي ردْكَلتْهُ ممارسات الأجهزة الأمنية الوحشية وغير الإنسانية، ودفعت الكثير من أبنائه إلى الخيارات التطرفية القصوى. بدأت الحكاية بقتل المتظاهرين السلميين، أو زجّهم في السجون، وتطور الأمر إلى اقتحام المدن بالدبابات، وقصفها بالبراميل المتفجرة، وتشريد أهلها في الداخل والخارج إلى درجة أن الجيش العربي السوري، تحوّل إلى ”جيش أسدي“، كما قال المعارضون لحكمه، إلى آلة لخدمة كرسيه، وصار يُقارَن بقوات الاحتلال التي تأسّس كي يقاتلها بالأساس، بل هناك من المعارضين من ذهب إلى أبعد من ذلك وقال إن ما فعله يذكر بوحشيته بممارسات إسرائيل.
ازداد عدد القتلى من السوريين العزّل والأبرياء، وتوسّعت السجون العلنية منها والسرية، وهُدمت البيوت والمدن فوق سكانها، وانهار الاقتصاد، وزاد من انهياره الحصار الغربي الجائر الذي فُرض على سوريا وشعبها. أوغل الجهاز الأمني في الإجرام ضد الشعب بتطبيقه للحل الأمني الذي انتهجه بشار غير مصغٍ لنصيحة العقلاء من ضباطه ضارباً عرض الحائط بجميع وجهات النظر. ويتجلى حله الأمني الآن في هذه المناظر المخزية للزنزانات التي حُرر منها المساجين الذين رأيناهم على الشاشات، والتي زُجّوا فيها دون محاكمة لأنهم رددوا بصوت جهوري: هيا ارحلْ يا بشار! هذه الزنزانات التي تجعل (إذا ما عدّلنا قليلاً جملة لسلمان رشدي) الطفل في سوريا يولد من رحم أمه محمراً من العار.
لم يُصْغ بشار الأسد، ولا المجموعة التي تحلقت حوله من شاربي البلاك ليبل والنبيذ المعتق وويسكي السينكل مولت ومدخني السيجار الكوبي وراكبي السيارات الفاخرة ومهربي الكبتاغون لأصوات السوريين تهدر في المدن، واتخذ قراراً بإخراس الجميع بخياره الأمني الذي كان أشد تطرفاً من تطرف السلفية الجهادية. وصُفّي الضباط الذين أرادوا التوصل إلى حل وسط مع المعارضة، وتحولت سوريا إلى سجن كبير. قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، وهاجر من هاجر حتى صارت الأرقام المتداولة مخيفة. واستطاع جهاز الحكم السوري، الذي أداره بشار وبعض ضباط الأمن المقربين منه، أن يقنع كثيراً من السوريين بالقتال معه، وخاصة من أبناء الطائفة العلوية والأقليات الأخرى، تحت ذريعة حماية أنفسهم من ”الإرهابيين“، ومن ”المذابح القادمة“، وعزف على وتر الذاكرة التاريخية كي يحقق ما يريده، ثم في نهاية المطاف أبرم صفقة كي ينفد بجلده هو وعائلته متخلياً عن ضباطه وجنوده بطريقة تفتقر للفروسية والرجولة غير مستبعدة عنه، وغادر البلاد مالئاً حقائبه بالمال غير آبه بمن تركهم خلفه.
ما حدث في سوريا كان مفاجئاً وغير متوقع. ففي رفة هدب اختفى الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وغادر الجميع مواقعهم وكراسيهم من العرفاء إلى أعلى الرتب. وطُويت حقبة من الدكتاتورية العسكرية استمرت عقوداً، وأُرسل الجميع إلى بيوتهم تاركين أسلحتهم خلفهم دون أن يفهموا الأمر المربك الذي وصل إليهم بالانسحاب إلى درجة أن بعض المقاتلين المغرر بهم عدّوا ما حدث خيانة فقرروا الانضمام إلى المعارضة.
اقتحم أبو محمد الجولاني زعيم المنظمة السلفية الجهادية هيئة تحرير الشام، هو والفصائل المنضوية تحت لوائه في عملية ”ردع العدوان“، المشهد في حلب وحماة وحمص ودمشق وصولاً إلى الساحل السوري وجاء إلى العاصمة دمشق كي يلقي خطبة النصر في الجامع الأموي معلناً نهاية نظام الأسد وبداية نظام جديد. استخدم، هو وقادة قواته، لغة جديدة غير مألوفة في القاموس السياسي الحالي للمنطقة، مستمدة من صلب التجربة الإسلامية، وهي أنهم لن ينتقموا، ولن يحاربوا من لا يحاربهم، وإنهم لا يقاتلون طلباً للثأر، بل يقاتلون في سبيل الله، وإنهم يريدون بناء دولة مؤسسات (كما قال أبو محمد الجولاني في حواره مع قناة السي إن إن الأمريكية)، وسيقومون بحماية مؤسسات الدولة الموجودة وتشغيلها. أربكت هذه اللغة الجديدة، وغير المألوفة في الجو السوري، السرديات السائدة وأصحابها، وهزمت توقعاتهم. ثمة أشخاص قادمون إلى السلطة بأسلحة جديدة، ولغة جديدة، ويبشّرون بلغة الانفتاح والبناء واحترام الأقليات الدينية وأملاك الناس، ويتصرفون بذكاء وحنكة أكسبتهم ودّ الجميع. ومما سمعناه في الساحل السوري والقرداحة ومصياف والسلمية حيث العلويون والإسماعيليون والقرى المسيحية في طرطوس وأماكن تواجد المسيحيين في دمشق هو أنهم قادمون كي يبنوا ما هُدم، ويحافظوا على النظام، ويطبقوا القانون مما فاجأ الجميع في هذه المناطق.
هرب بشار الأسد مع أمواله المسروقة من دم الشعب السوري بعد أن حوّل سوريا إلى ”جمهورية كبتاغون“، وذهب كي يعيش خارج البلاد تاركاً خلفه إرثاً مخزياً من قصور الرؤية السياسية والفشل. كان متكبراً ومتجبراً ومغروراً، ويعد نفسه أذكى من الجميع. كان باختصار، من النوع الذي لا يصغي إلا إلى نفسه. إن من سماهم سكانَ مكب نفايات الإرهاب، الذين نقلتهم باصاته الخضراء من المناطق التي هاجمها جيشه وقواته الرديفة، وجمّعتهم في إدلب، هم الذين نظّموا أنفسهم، وتدرّبوا، وتلقوا الدعم المطلوب، وزحفوا إليه فاضطر إلى الفرار في مسرحية هزلية للفشل السياسي لا نعرف حتى الآن ما الذي ستتمخض عنه فيما بدأت سوريا تدخل عهداً جديداً في ظل هذه المجموعات المسلحة التي زحفت بدعم تركي مباشر، وربما بأجندة اقتصادية وترتيبات يتولاها رجال الأعمال الجدد من ذوي التوجه النيوليبرالي ومن خلفية إسلامية تم تليينها وتثقيفها وتدريبها كي تتولى إدارة البلاد.
فقد بشار الأسد شرعيته المشكوك بأمرها في الأساس منذ أول رصاصة أُطْلقت بأمر منه على المتظاهرين، وثم بدأ يخسر الجميع داخل البلاد وخارجها إلى أن تخلى عنه في النهاية حماته الإقليميون والدوليون فسقط كأنه أسد من ورق. وبدأ العالم كله يرى تماثيل عهده المتوارث تتحطم وتتهاوى وتُداس بالأقدام في المدن السورية التي كان يقصفها بالمدافع والصواريخ دون رحمة جنود وصف ضباط ومساعدون وضباط رددوا هذا الشعار الهمجي: ”الأسد، أو نحرق البلد“.
لا يمكن التحدث عن إرث إيجابي تركه بشار خلفه. لن يذكر الناس إلا سجن صيدنايا الرهيب، وسجون الأقبية الأمنية الأخرى التي عمقت الجرح السوري، ورفعت الأسوار بين مكونات الشعب السوري، لن يذكروا إلا نهب المال العام والفساد ومشاغل الكبتاغون وبطولات معارضيه المدنيين الذين تظاهروا ضده بشجاعة تاريخية قل مثيلها ودفعوا أثماناً باهظة.
في خضم هذه التحولات يجب ألا ننسى خطر إسرائيل المتربص بسوريا على الدوام، والذي تُرجم في الهجمات الأخيرة المدمرة، كا يجب ألا ننسى أن هناك قوى أخرى عربية وإقليمية ودولية، لعبت أدواراً مشبوهة في سوريا، ولا تريد لها الخير، وأن ما جرى كان نتيجة سلسلة تدخلات مدروسة في الجغرافيا السورية إلا أن النظام يتحمل في النهاية المسؤولية عما جرى ويجري بسبب لجوئه إلى الحل الأمني وتغليب مصلحة البقاء على الكرسي على مصلحة سوريا كدولة وشعب.
منذ مدة، وقبل هربه، شاهدنا فيديو لبشار نشره موقع رئاسة الجمهورية يدخل فيه إلى القصر الجمهوري كفاتح فيما تعزف له فرقة موسيقية موسيقى كلاسيكية، كما لو أنه كان يتوهم أنه نابليون بونابرت مترجلاً عن حصانه وداخلاً إلى مقره بعد عودته منتصراً من إحدى المعارك، لكن بشار لم يكن من طينة قادة كهؤلاء، ولقد فرّ في جنح الظلام حين حُبسَ في خانة اليك. وفي يوم الأحد في الثامن من كانون الأول\ديسمبر بدأ يوم جديد في سوريا، ويبقى أن ننتظر التطورات كي نرى كيف سيكون البديل وشكل الحكم القادم في الجمهورية التي سُمّيت مرة قلب العروبة النابض وقلعة الصمود والتصدي، القلعة التي انهارت أسسها فجأة كأنها بُنيت من كرتون وحكمها أسد من ورق.
لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.
وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.
فالفيلم يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل.
المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد، فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.
تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.
تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.
شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة حياتهم. تتوالى أصوات الرواة في الفيلم ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.
تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.
ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة في الفيلم، فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.
لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.
تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية بالمرة. كما نرى في قصة الفتاة التي قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”. هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها.
حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.
بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها انقرضت.
هل نجا من بقي بعد الحرب؟
يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام.
تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.
يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال. يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟
كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.
يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية.
القصص في ملتقى هارموني الثقافي:
عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد.
يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها.
سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً.
نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم وتذهب النظرات إلى البعيد.
يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.
على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.
تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.
على الرغم من مرور أكثر من عقدين على بدء التعليم الافتراضي الجامعي في سوريا، وما وفره من خصائص تتصف بالمرونة والحداثة النسبية، يواجه الطلاب والمدرسون على السواء عوائق بسبب ضعف البنى التحية واللوجستية اللازمة.
تسوغ آية أسباب التحاقها بكلية الحقوق الافتراضية؛ منها ما يتعلق بخصوصية الأمومة وتربية الأطفال. تقول آية لـ (صالون سوريا): “اخترت الدراسة في الجامعة الافتراضية بسبب قدرتي على اختيار الأوقات التي تناسبني، كما أنني غير مقيدة بالحضور الدائم لكوني أم لطفلين. علاوة على ما سبق، أجد كل ما يلزمني من ملفات ومحاضرات وملخصات وغير ذلك على موقع الجامعة”.
خصائص جديدة
في عام 2002، أُحدثت أول هيئة عامة علمية باسم الجامعة الافتراضية السورية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري مقرها دمشق، لكن التعليم الافتراضي في سوريا يواجه تحديات مرتبطة بتوفر البنى التحتية اللازمة من إنترنت وإنشاءات وأجهزة ذكية.
من وجهة نظر آية تتضمن محاسن هذا النوع من التعليم المعدل المطلوب المناسب للالتحاق بالجامعة إلى جانب أن ساعات الدراسة مريحة للطلاب والطالبات. تضيف آية: “يمكن للطالب أو الطالبة التواصل مع المدرس بغرض الاستفسار أو السؤال بسرعة نسبياً”.
ينسحب واقع التعليم الافتراضي على آمال وتطلعات المدرسين والمدرسات أيضاً، حيث فرض التعليم عبر الإنترنت الـتكيف مع خصائص جديدة بما تحمل من ميزات وصعوبات.
مارست نور التدريس عبر الإنترنت. خلال حديثها مع (صالون سوريا) تفرّق المدرّسة الجامعية بين ميزات ومساوئ كل من التعليم الافتراضي والصفي، فمثلاً: بيئة التعليم الافتراضية تتيح للطلاب التعلم من أي مكان؛ بينما يمنح التعليم الصفي المدرس والطالب التفاعل المباشر فيما بينهم. من ناحية أخرى، يتيح التعليم الافتراضي تنظيماً أكبر للوقت ومرونة في اختيار المدة الزمنية المناسبة لكل من المدرس والطالب، إلا أنه لا يسمح كثيراً بالتفاعل وتكوين العلاقات الاجتماعية بين الطلاب.
يتحلى التعليم الافتراضي بالمرونة الزمنية، توضح نور أن المدرسين يحددون جداول زمنية مناسبة للدروس، ما يسهل عليهم الموازنة بين العمل والحياة الشخصية، وكذلك الوصول إلى مراجع ومصادر تعليمية منوعة بهدف إثراء المحتوى المقدم؛ فضلاً عن أنه فرصة للتدريب على المهارات التكنولوجية والتعليمية الجديدة.
من الإيجابيات أيضاً، تشيد نور بالقدرة على توسيع القاعدة الطلابية، حيث يمكن للمدرسين جذب طلاب من مناطق مختلفة، مما يوسع شبكة التعليم ويزيد عدد المتعلمين.
افتراضي أم صفي!
ازدهر التعليم الافتراضي مجدداً أثناء انتشار فيروس كورونا والإغلاق المؤقت للمؤسسات التعليمية التقليدية، دفعت هذه الحالة الطارئة رنيم الحموي (طالبة إعلام) إلى دخول التعليم الافتراضي، تروي الحموي لـ (صالون سوريا): “كان هناك خوف من الاختلاط بسبب الجائحة، فوددت أن أضمن استمرار العملية التعليمية من دون انقطاع”.
تلعب عوامل سهولة التواصل مع المدرسين والمدرسات إلى جانب البعد الاقتصادي أدواراً في اختيار نوع التعليم، وهو ما حثّ الحموي على التعليم الافتراضي، تكمل الطالبة الجامعية حديثها: “التواصل مع المدرسين والمدرسات أسهل وأسرع”.
وتضيف الحموي: “التعليم الافتراضي أكثر اقتصادية من التعليم الصفي لأنه يتيح الدراسة من المنزل بشكل يخفف من تكاليف التنقل، وخاصة في الأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، ومنها أزمة المواصلات”.
تفضل آية التعليم الافتراضي أكثر من التعليم الصفي التقليدي، تشرح موقفها: “كل شيء من حولنا بات معتمداً على الإنترنت، بحيث أحصل على ما أريد متى شئت. يضاف إلى ذلك سرعة الحصول على أية أوراق إدارية عبر الانترنت، وتتصف المناهج الدراسية بالتحديث الذي يواكب روح العصر“.
عقبات في الطريق
يواجه الطلاب والطالبات مشاكل لوجستية وعوائق مادية مختلفة ربما تحرمهم من إكمال تعليمهم الجامعي، تورد آية بعض هذه الصعوبات وهي ارتفاع ثمن باقات الإنترنت، بما لا يسمح لكثير من الطلاب بالاشتراك، ناهيك عن بطء الإنترنت أثناء المحاضرات (Online)، وارتفاع أسعار الحاسوب المحمول.
يعتمد التعليم الافتراضي بشكل أساسي على جودة شبكة الإنترنت، بيد أن الاتصال بالشبكة المحلية غير مستقر ويتعرض لمشاكل تقنية مزمنة، يفاقم المشكلة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة. وهنا تخبرنا آية عن هذه المعاناة ومحاولتها لخلق الحلول: “إن ضعف الإنترنت والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي يؤثران على العملية التعليمية أثناء المحاضرات (Online) بشكل كبير، لذا أستمع إلى المحاضرات المثبتة من قبل المدرس (Offline) في الموقع الإلكتروني”.
عدم توفر الحواسيب لا يتوقف على الطلاب وحدهم، بل حتى على المدرسين. لم يتمكن عمر وهو مدرّس جامعي من العمل في التعليم الافتراضي لعدم توفر الأدوات المادية الأساسية ومنها الحاسب المحمول، يقول: ”منذ تعطل الحاسوب السابق وفشل محاولة إصلاحه، لم أتمكن من اقتناء حاسوب جديد حتى الآن نظراً لارتفاع أسعار هذه الأجهزة في السوق بما لا يتناسب مع دخلي، لكني أحاول جاهداً تأمين المبلغ المطلوب لاقتناء الجهاز”.
تنطلق نظرة نور في تقييم التعليم الافتراضي في سورية من الظروف التي تمر بها البلاد كالبنية التحتية التكنولوجية، حيث إن الوصول إلى الإنترنت يشكل تحدياً يؤثر في قدرة الطلاب والمعلمين على المشاركة في التعليم الافتراضي.
وتشير نور إلى التفاوت في توفر الحواسيب مما يعوق وصول بعض الطلاب إلى منصات التعليم الافتراضي؛ فضلاً عن عقبات أخرى تؤثر على التفاعل بين المعلمين والطلاب وبالتالي على فعالية التعليم نفسه.
يمتاز التعليم التقليدي بقدرة المدرس والمدرسة على حض الطلاب والطالبات على المشاركة وإبداء الآراء والإجابة على التساؤلات أثناء الحصة الدرسية، في حين تنوه نور إلى عيوب تتعلق بفقدان التفاعل الشخصي والاتصال المباشر مع الطلاب، ويعاني المدرسون من صعوبات تقنية مثل عدم استقرار الإنترنت أو نقص المعدات اللازمة، مما يضر بعملية التدريس.
ترى نور أن التعليم الافتراضي يفرض على المدرسين المزيد من الوقت والجهد في إعداد الدروس والتفاعل مع الطلاب عبر المنصات الرقمية، كذلك يصعب تحفيز بعض الطلاب للحضور والمشاركة في الدروس الافتراضية في بعض الأحيان.
تقطن أم عمر مع أولادها الثلاثة في منزل ضمن بناء كان يفترض إكمال بنائه وإكسائه لكنّ الحرب عاجلت مدينة دوما في ريف دمشق فتوقفت أحوال الاستثمار فيها كما سائر البلاد. قُتل زوج أم عمر خلال سنوات الحرب، وصار منزلها ركاماً لأسباب يطول شرحها وتبدو محاولة شرحها نكأ لجراح عقد انقضى على دمار المنزل الذي كان لسوء حظها- مجاوراً لغرفة عمليات تتبع فصيلاً مسلحاً. ورغم خسارتها لجنى العمر، إلا أنّ أم عمر ممتنة أنها وأطفالها خرجوا أحياء.
البحث عن مأوى
هامت أم عمر على وجهها في الشوارع لياليَ طوالاً لم يكن لينير عتمتها سوى سماء مشتعلةٌ بصنوف القذائف والمدافع والرصاص المخطط. قصدت جمعيات خيرية اصطفت على الطرف الآخر من النزاع بحكم التموضع الجغرافي والسياسي لكل طرف، لكنّها لم تفلح في العثور على المأوى. طردها قائد فصيل عسكري راحت تلتمس منه سكناً، ولو غرفةً، أيّ شيءٍ يقيهم أمطار شباط الغزيرة. قَبِل صديقٌ سابق لزوجها استضافتهم مؤقتاً، لكنّ زوجته رفضت غيرةً. بحثت في بيان قيدٍ عائلي تمتلكه بين أسماء إخوتها عالمةً مسبقاً بالنتيجة، وحدها هناك، من مات مات، ومن هاجر في وقتٍ سابقٍ نجا بنفسه.
ضاقت بأمّ عمر الدنيا واستحكمت حلقاتها وما انفرجت، على مضضٍ طلبت الإيواء من ابنة خالتها، وجرت العادة أن يسمع المرء عن زوجة أب تهين أولاده، عن زوج أم يهين أولادها، وهكذا، ولكن عن زوج ابن خالةٍ، فتلك كانت معاناةً أخرى، كان يهينها، يحقرها، جعل أولادها الصغار يعملون بـ “الفعالة” على صغر عمرهم، ضربها مراراً، حاول الاعتداء عليها أخيراً، فهربت من جديد لتهيم على وجهها في أضيق حيزٍ جغرافي يستحيل الخروج منه تحت وطأة إطباق حصار عسكري معلوم الأسباب.
الخيار الأخير
لم يبق أمام أم عمر إلا الالتجاء إلى إحدى كتل البناء الكثيرة التي لم يكتمل إنشاؤها في دوما وغيرها، حيث استقرت أم عمر وأطفالها في الطابق الثالث ببناء قريب من ساحة المدينة. تقول أم عمر: “يوم قررت ولا أدري كيف سأقولها، الاستيلاء على هذا المنزل وهو على”العظم “. كنت أعلم أنّ أصحابه هاجروا جميعهم ولن يعودوا، الآن على الأقل، هكذا قلت وقتها، وبعد كل هذه السنين لم يعد أحد منهم فعلاً، كان المنزل مقطّعاً ولكنّه غير مكسو، بلا نوافذ أو أبواب أو خدمات صحية وكهربائية، كان جدراناً فقط، جدراناً بلا طينة حتى”.
خلال الأشهر والسنوات التالية عملت أم عمر في الكثير من الأشغال بين الخياطة والحياكة والمياومة وشيئاً فشيئاً تمكنت من إنجاز العديد من الأمور لصالح المنزل الذي لا تملكه أساساً، ومشهد المنزل اليوم يبدو مغرقاً في سريالية عجيبة.
أين تلك السريالية؟ هي في جدار مطلي وآخر لا، في جدار بطينٍ وآخر لا، في جهة من المنزل لها نوافذها وأبوابها وأخرى لا، في مطبخ شبه مكتمل بنصف الأغراض، من كلّ شيء نصفه، حتى الخدمات الصحية، إلا أنّها تمكنت فعلياً من إتمام الشؤون الكهربائية، والمفارقة الأخرى أنّها استنزفت مدخرات تعبها على إتمام تمديدات الكهرباء في بلد لا كهرباء فيه.
في نهاية المطاف تدرك أم عمر أنّ هذا المنزل ليس لها، ولن يكون ولو حولته لقصر، وإذا ما عاد أصحابه فستلقى شرّ طردةٍ منه ولن يعوضها أحدٌ بقرشٍ واحدٍ، ولكن هل تملك أم عمر رفاهية الاختيار لئلا يكون هذا خيارها الوحيد بكل ما بذلته من أجل جعله صالحاً للسكن!
تشير في حديثها أنّها تعرف كل ذلك، وتضيف: “منذ أول يومٍ في الحرب هذه البلد ما عادت للفقير، كيف يمكن أن تكون البلد لأولادها الذين يحلمون بامتلاك منزلٍ فيها، بأبسط حقوقهم؟ كيف ترى السوريّ اليوم يتدبر أمر معيشته كلّ يومٍ بيوم؟ كذلك أفعل أنا منتظرة اليوم الذي سأطرد فيه من هذا المنزل، ولكنّي حينها لن أخاف كما كنت قبل سنين، فأولادي حينها سيكونون رجالاً”. تغالب دمعتها وتكمل: “ما لم يتركوني ويهاجروا كما يفعل الجميع”.
عقدة مركبة
يعاني السوريّ عقدةً مركبةً تقف حائلاً في وجه كل ما يمكن أن يفكر فيه تجاه مستقبله، فتلعب دوراً مركزياً وأساسياً في قراره بالهجرة، وفي سياق الهجرة من الضرورة التذكير أنّها لا زالت تتنامى باضطراد.
وتمثل مدينة حمص المدمرة بأكثر من نصفها مثالاً عن حلم السكن، فما بقي من أحياء من حمص، ومن بينها عكرمة على سبيل المثال تتراوح أسعار العقارات الجيّدة فيها بين 700 مليون و5 مليار، نعم 5 مليار في مدينةٍ لا شيء مغرٍ فيها للسكن، وفي حيٍّ ليس أبو رمانة ولا المالكي أو الشعلان في دمشق، مجرد حيٍّ عادي. ومن يعتقد أنّ الأحياء الشعبية أقل ثمناً يكون واهماً في ثورة جنون العقارات أمام العرض الوفير والطلب ما دون الشحيح، ضمن واحدةٍ من أغرب معادلات الاقتصاد.
“استبدلوني بمنزل بريء الذمة”
كان المهندس أحمد المنجد يريد الزواج من زميلته في الكلية بعد قصّة حب دامت سنوات عدّة، لكنّ والدها اشترط عليه امتلاك منزلٍ قبل الزواج. رغم ما مرّ به أحمد من ظروف وجدانية متعارضة لكنّه يبدو أنّه لم يفقد شيئاً من طرافته التي يعبر عنها بأنّها الشيء الوحيد الذي لا زال متمسكاً به، إذ قال لوالد الفتاة: “لنسكن لديك، أنت أصلاً ورثت منزلك من والدك، هل يمكنك شراء منزل الآن”.
يقول أحمد إنّه قضى أشهراً مبتسماً وهو يفكر في معضلة الحصول على البيت ساخراً في كلّ لحظة من فوضوية المنطق الذي قوبل به من طرف الوالد، فالمهندس الذي تخرج قبل سنوات قليلة، لم يكن ليجمع ثمن منزل، ولو كان يعمل بالمخدرات، كما يقول.
أخيراً قرر أحمد الهجرة إلى ليبيا، هناك حيث يتقاضى الآن ثلاثة آلاف دولار شهرياً، وهذه الطريقة الوحيدة ليتمكن من العودة يوماً ما وشراء منزل، لكنّ حبيبته تزوجت، فقرر أن يسمي ما حصل معه بأنّه: “جرى استبداله بمنزل عقاري مفرز 2400 سهم بريء الذمة ولا ضرائب عليه”.
لولا الحرب!
يتداول السوريون مراراً مقولة تنسب لحاكم الإمارات السابق وبأنّه قالها في ثمانينيات القرن الماضي في ذكرى تأسيس دولتهم ومفادها: “كيف سأطلب من مواطن إماراتي واحد الولاء لدولته وهو يقطن بالإيجار؟” وعليه بدأت مشاريع تمليك كل المواطنين لمنازل لتصل تلك الدولة منذ سنوات مرحلةً لا يوجد فيها مواطن دونما منزل.
تسترعي هذه المقولة الانتباه بشدّة، فهي تحمل بعدين، سياسياً واقتصادياً، ومن المجحف القول إنّ سوريا مع بداية الألفية الحالية لم تكن تسير في طريق مشابه عبر القروض الميّسرة والمسهلة التي تفضي لامتلاك شقة، عدا عن إنشاء مئات المجمعات السكنية في كلّ المحافظات وبأقساط شهرية تكاد لا تذكر أمام راتب شهري كان مجزياً وكافياً.
بنوكٌ شريرة
أما اليوم فقط تغيّر كل شيء، ولكن ما زال يمكن الحصول على قرض لشراء عقار، أعلاه ما يمنحه البنك العقاري وهو مئتا مليون ليرة سورية، يجري سدادها على عشر سنين، وبفوائد كبيرة بالطبع، وبالمحصلة سيحاج القرض وساطة وفوقها بضع مئات ملايين أخرى وربما مليارات لشراء عقار.
في حين تمنح البنوك الخاصة قروضاً أيضاً، بعضها يمنح قرضاً نصف مليار ويسترده ملياراً ونصفاً، فيما يُمكن وصفة بعملية سرقة وابتزاز منتشرة بشكل واسع في قطاع البنوك الخاصة وعلى رأسها البنوك الإسلامية التي وجدت طريقتها للحصول على أرباح خيالية دون استخدام الفوائد، بل تحت مسميات أخرى تجعلها أكثر شرعية وخنقاً للمواطن في آن.
مخاطر اعتياد المهانة
انقضى قرابة أربعة عشر عاماً على الحرب السوريّة، شيئاً فشيئاً اعتاد السوريّ في الداخل المهانة في كل مفصل وجزء من حياته. ناس كثيرون اعتادوا تناول الخبز والشاي، ومن الممكن قرص من البندورة وفلافل في مناسبات ليست كثيرة. وهناك الكثير الكثير من الباحثين عن الطعام في حاويات القمامة. ولكن كلّ ذلك يمكن بشكل أو بآخر معالجته في مشاريع التعافي المبكر أو الشروع بإعادة الإعمار أو إعادة هيكلة السياسة الاقتصادية وتحقيق انفتاح ليبرالي نحو العمل الحر والسوق الجماعي الذي يدمج بين المعسكرين الكلاسيكيين في الاقتصاد، الاشتراكية والرأسمالية.
ولكن من يؤمن منازل يسكنها أولئك المشردون، وبالمناسبة فحتى المستأجرون هم مشردون تحت وطأة ابتزاز الارتفاع المستمر للإيجار وهم ما يزالون يقطنون ذات العقار، فعلامَ يكون إيجار منزل في حمص 5 ملايين شهرياً، وفي طرطوس 6 ملايين شهرياً، وفي دمشق قد يصل إلى أكثر من 10 ملايين شهرياً. وأما أفقر الفقراء فلا يستطيعون إيجاد منزل غير مفروش بأقل من 500 ألف، وهو رقم يمثل ضعف راتب الموظف الحكومي.
تحقيق حلم يداوي جراح المقهورين
ثمّة شيء وحيدٌ يمكن قوله للإيضاح: إذا كان متوسط ثمن عقار متواضع في حيٍّ جيد نحو مليار ليرة، وكان من سيشتريه موظفاً، فإنّه سيحتاج جمع مرتبه لـ 300 سنة دون أن يصرف منه قرشاً واحداً! وهل يعلم القائمون على الأمر أن أسعار العقارات في دبي وبيروت وماليزيا باتت أرخص من دمشق!
لذا يسكن الناس، الكثير منهم، في بيوت على الهيكل، وبأفضل الحالات بالتشطيبات الأولية، مستغنين عن كل ما أمكن من تمديدات كهربائية وصحية، هؤلاء لا يريدون سوى حلم السقف والجدران والباقي تحلّه الأيام.