بواسطة سلوى زكزك | ديسمبر 14, 2023 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لم تنته الحرب، والرصاص تحوّل إلى تفصيل جزئي في زوايا الذاكرة، الإنهاك المعيشي هو السمة الأبرز، لكن روائح الحنطة المسلوقة المزينة بالقرفة تفوح من بعض البيوت. إنها الوجبة الساحرة والملهمة لطقس احتفالي بمناسبة عيد البربارة، أو عيد الحنطة كما تحب الغالبية تسميته، لذلك يحتفل السوريون بعيد البربارة بالحنطة المسلوقة مع القرفة واليانسون ومحلاة بالسكر أو بالدبس أو مطبوخة مع اللحم وخاصة لحم الدجاج. إنها مظاهر احتفالية لكنها تعيد الكرة إلى ملعبها الأول منذ سنوات طويلة وبعيدة جداً، لتشابه الأحوال الاقتصادية، حين كان للاحتفالات توظيف غذائي أهم من الديني، لدرجة أن عيد البربارة مثلاً يتحول إلى طقس غذائي بحت، كما يتحول يوم الأحد إلى موعد أسبوعي لأكل اللحم. حتى أن القصابين لا يقومون بعملية الذبح إلا مساء الأحد أو في صباحه.
لم تنته الحرب، وفي تفاصيل العيش تدور رحى حرب أكثر سطوة وشمولاً، إنها حرب الخوف من الجوع والتردي الواسع للقوة الشرائية للسكان، لكن الغالبية مصرة على الاحتفالات على الرغم من استنكاف البعض عن إضاءة أشجار الميلاد أو تركيبها، حتى أن البعض استغنى نهائيا عن الاحتفال بالأعياد. إلا أن بضعة أشجار تبدو واضحة على بعض الشرفات وخلف زجاج واجهات البيوت، عدا عن وجودها في واجهات أو زوايا المحال التجارية في غالبية الأسواق والأحياء المزدانة بالأضواء رغم شح الكهرباء. تبدو أشجار الميلاد وكأنها قد تحولت لفعل يعاند الحرب ويصر على البقاء ولو بأضواء باهتة ومتناوبة تخضع لساعات التقنين الطويلة والمعتمة، كما يلاحظ احتواء الواجهات التجارية على ملابس أو معروضات بألوان محددة ترتبط بأعياد الميلاد كالأحمر والأخضر والذهبي، بل ويمكن وبكل وضوح ملاحظة أشجار ميلاد عملاقة موضوعة في ساحات الأحياء والقرى وبعض المناطق التي قررت إعلان المظاهر الاحتفالية رغم كل الخراب. هناك تنتصب أشجار بكامل زينتها لكنها غير مضاءة أبداً بلون أخضر داكن كئيب وبزينة باهتة لا يزورها الضوء إلا لماماً، لكنها تبقى مساحة متفردة ليجتمع حولها الأطفال أو أفراد العائلات لالتقاط الصور التذكارية، والصورة تصير صفعة مدوية في مواجهة كل هذا الخراب.
اللافت في احتفالات هذا العام هو التحضيرات المسبقة لاحتفالات غنائية واسعة، ويبلغ التزامن حده الأقصى في الإعلان عن حفلات ميلادية لكورالات كبيرة العدد وفي نفس التوقيت في طرطوس وحمص مثلاً في الثاني عشر من شهر كانون الأول\شهر الميلاد.
أوجد السوريون والسوريات مساحات احتفالية رغم كل الضيق، لم يتوقفوا يوماً عن الغناء ولا عن عزف الموسيقا ولاعن تشكيل الكورالات والجوقات الاحتفالية التي تستعيد الإرث الجميل لأغان تراثية أو لأغاني فيروز المشهورة والمحببة. وكذلك الأغاني الميلادية والأغاني الاحتفالية بالسنة الجديدة، وكأن شيئاً لم ينقطع أبداً، وكأن خيوط الحياة السعيدة ما زالت مرتبطة ببعضها بوشائج إبداعية والأهم أنها جماعية ومعلنة ومشرعة أمام الجميع.
من زاوية معتمة في بيته يراقب جواد حركة العابرين في الشوارع المظلمة، يلتمع ضوء شجرة ميلاد على زاوية مقابلة، تراوده فكرة طريفة، سيذهب إلى ذاك المنزل وبيده هدية لطفل المغارة، المسيح، هدية عبارة عن حبة حلوى كمعايدة له بعيد الميلاد أو بيوم ميلاده، وربما يكتب له رسالة مختصرة جداً قائلاً له، كن معنا، فقلوبنا تحتاج دفء المحبة ونحن نحتاج السلام والراحة.
ينتظر السوريون الأعياد ليكونوا على مواعيد لشراء الملابس والأحذية وربما وجبات الطعام المميزة اللازمة لهم والتي يؤجلونها لأوقات الأعياد فتصير فرحتهم بها مضاعفة، فرحة تلبية الاحتياجات وفرحة استقبال الأعياد بملابس جديدة وأنيقة تفرح الصدور وتدعم القلوب المنتظرة للحظات فرح حقيقية.
لكن العيد هذا العام أجبر وعد على بيع خاتم زواجها، وهو القطعة الذهبية الوحيدة التي أبقتها الحرب لها. فور بيعها لخاتمها اشترت حذاء لابنها الأصغر، الذي انتظر طويلاً وهي تؤمله بأنها ستشتري له ما يريده. والحقيقة أنه لا يريد شيئاً بدافع الاقتناء أو الاشتهاء أو مجرد الرغبة، بل يحتاج الكثير من الأساسيات بدءاً من الملابس الداخلية وصولاً إلى معطف مناسب وكاف لرد البرد القارس في مواجهة غياب التدفئة بكافة أشكالها، كما اشترت بعض المؤونة للمنزل الخالي بكل ما في الكلمة من معنى من كل مقومات الاحتياج وخاصة زيت الزيتون والسكر والأرز ومواد التنظيف، عدا عن ضرورة دفع بعض الفواتير اللازمة والمتأخرة.
هنا تبدو الإشارة ضرورية جداً إلى أن ابن وعد عضو في فريق الكشاف العائد لإحدى الكنائس التي تحتفل بعيد الميلاد. إنه يحتاج حذاءً جديداً ليس فقط لأن حذاءه مهترئ، بل من أجل الاحتفال بمظهر لائق ويناسب العيد ولا يخدش حاله المهترئ مشاعر وعيون المحتفلين الذين يؤدي الفتى الألحان لهم. سيكون هناك في الطريق ليعزف الألحان الكورالية والميلادية الاحتفالية ليسعد الناس المحتفلة بالأعياد، ليتذوقوا نكهة العيد السعيد ولكي يقول الجميع إن العيد قد مر من هنا، لكن ثمة أم عرفنا قصتها بالصدفة تروي أنها باعت خاتم زواجها من أجل حذاء العيد لابنها.
لم تنته الحرب، وكل الأعياد وأشجار الميلاد عاجزة عن تدفئة قدمي طفل يعزف الموسيقا احتفالاً بالعيد لإسعاد الناس وبقائهم في مواجهة الخراب.
لم تنته الحرب ولن تنتهي الأعياد والأشجار باقية ما بقيَ الناس والزينة والأضواء والألوان والموسيقا والأغاني ستبقى امتداداً للذاكرة ولقوة الوجود، لكن الرسائل ليست في عناوينها دوماً، بل في مضامينها المضمرة والساطعة في حزنها وعجزها، في الحكايات التي تدور وراء الأبواب من أجل تلبية الحاجات الأساسية، في خواتم الزواج المباعة على وعد بالانفراج والكرامة والأمان. وربما ستبقى على موعد مع ابتسامة طفل يجدد حذاءه المهترئ، الذي أصرت أمه على أن يحتفل وأن يشارك الناس ألحانه الاحتفالية بحذاء جديد، طالما كانت وستبقى أحذية الأطفال وصمة عار على جبين الحروب، طالما سيكون حضور الأطفال والموسيقا والأغاني والحكايات صفعة على وجوه الحرب، المتعددة التي بات لزاماً أن تتوقف.
على الأرض السلام وفي الناس المسرة.
بواسطة علي محمد إسبر | ديسمبر 11, 2023 | News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لا يمكن أن تُختزل القضيّة الفلسطينيّة في أيّ تيار أو حزب سياسيّ، سواء أكان علمانيّاً أم دينيّاً، لأنها قضيّة إنسانيّة تُعبِّر عن معاناة شعب يُستأصل من جذوره التاريخيّة؛ ولذلك ينبغي أن نفهم تاريخيّاً، تمثيلاً لا حصراً، أنَّ منظمة التحرير الفلسطينيّة وحركة حماس ليستا إلا تعبيراً عن تجليّات مقاومة الشعب الفلسطينيّ لاحتلال أرضه. وبناءً على هذا الفهم ينبغي الاعتراف بأنَّ لكلِّ فرد من أفراد الشعب الفلسطينيّ موقفاً سياسيّاً دفعه إلى أن ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس مقبولاً قراءة خلاف الأحزاب الفلسطينيّة مع بعضها بعضاً للتنافس على الزعامة السياسيّة للشعب الفلسطينيّ بوصفه خلافاً تصنيفيّاً، أي يؤدي إلى قبول حزب أو اتجاه من جهة مقاومته للاحتلال الإسرائيليّ وعدم قبول حزب آخر. ذلك أنَّ اعتراف الدول الغربيّة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة بصفتها الممثّل الوحيد للشعب الفلسطينيّ هو في حقيقته اعتراف ساذج لا يدل على وعي سياسيّ حقيقيّ بالتكوين السوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ في مسار تطوّره التاريخيّ. إذ كيف يسمح الساسة الغربيون لأنفسهم، مثلاً، بأن يقبلوا الأحزاب اليهوديّة المتطرّفة على تعدّدها وأن ينظروا في الوقت نفسه إلى حركة حماس بصفتها تنظيماً متطرّفاً، علماً أنَّ حركة حماس استقطبت خيرة أبناء الشعب الفلسطينيّ، وهذا يعني أنَّ إيديولوجيا حماس الدينيّة-السياسيّة هي إيديولوجيا مقبولة بالنسبة إلى شريحة مهمة من أبناء الشعب الفلسطينيّ؛ بل يوجد لهذه الشريحة مؤيدون -ويمكن أن يكونوا دولاً أو جماعات أو أفراداً- في أنحاء العالم كافةً.
إذن، تنظيم حماس يؤلِّف حضوراً جغرافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً لا يمكن حذفه من الوجود، ولن تجدي فتيلاً محاولات الساسة الغربيين وصف حركة حماس بأنها حركة إرهابيّة، لأنَّ في داخل أبناء الشعب الفلسطينيّ من أتباع حركة حماس شعوراً حاسماً ونهائيّاً بأنَّهم يحاربون الإسرائيليين، لأنهم قاموا باحتلال أرضهم، وفي رأيهم لم تسهم القوى الغربيّة في هذا الخصوص إلا في تأصيل وتبرير وتسويغ هذا الاحتلال، بل إنَّ هؤلاء الساسة الغربيين أنفسهم يحاكمون حماس على تهمة أو نقيصة وهي أنَّ حماس وفقاً لتصنيفهم تُعَدُّ حركة دينيّة متطرّفة تمارس أعمال عنف ضدّ المستوطنين الإسرائيليين المدنيين، على نحو ينسجم مع فهم زعماء حماس للعقيدة الإسلاميّة فهماً متشدّداً.
لكن لماذا لم يكترث الساسة الغربيون أنفسهم بأنَّ وجود دولة إسرائيل ينهض على مزاعم توراتيّة بأنَّ فلسطين هي الأرض الموعودة أو أرض الميعاد، وهذا ما دفع اليهود إلى الهجرة من مختلف أنحاء العالم إلى الهجرة نحو أرض الميعاد، أرض إسرائيل، فنكتشف مشهداً كوميديّاً إلى أقصى حدّ إذ اجتمع أُناس من أعراق متباعدة لا يوجد أنثربولوجيّاً أي جذر مشترك بينها تحت اسم شعب الله المختار.
قد جاء في سفر التثنية (2:14)ما يجيب عن سؤال: ما الذي يميّز شعب إسرائيل عن بقيّة شعوب العالم؟ “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْض.”
الحقيقة أنَّ كلَّ يهوديّ متديِّن موجود الآن على أرض ميعاده يشعر في أعماقه بأنّه قد اختاره الربُّ إلهُهُ ليكون فوق مستوى الناس كافةً من غير اليهود، ولا شك في أنَّ هذه الفكرة المرعبة يوجد فيها من التطرّف ما يقل وجوده في تاريخ النّوع الإنسانيّ. والغريب في الأمر أنَّ الساسة الغربيين في أوروبا وأمريكا يدعمون هذه الفكرة إلى أقصى حدّ، ويكرّسونها في عقل كلّ يهوديّ مقيم على أرض فلسطين، وبذلك تحوّلت الحضارة الغربيّة العلمانيّة في أوروبا وأمريكا إلى نار لقِدْرِ شعب الله المختار الذي يُطبخُ فيه أطفال غزة الأبرياء.
لقد استطاع الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه بعبقريّة فائقة أن يشخّص هذه المفارقة الحضاريّة التي تُحيّر عقل كلّ مَنْ يُفكِّر فيها، ويمكن أن أُجَلِّيها في هذا السؤال: كيف يمكن أن تتحوّل الحضارة الغربيّة التي هي جوهريّاً في فلسفتها وعلمها نقيض إسرائيل التوراتيّة إلى خادمة مطيعة لشعب الله المختار؟
لقد قارن نيتشه بين الرومان واليهود، والرومان في رأيه هم التعبير الأعمق عن الحضارة العربيّة، أما اليهود فهم التعبير الأعمق عن الشعب الكهنوتيّ.
يقول نيتشه: “كان الرومان هم الأقوياء النبلاء. وبلغوا من القوّة مبلغاً لم يصل إليه حتى الآن أحد على وجه الأرض، ولو في الحلم. كلّ أثر من آثار سيطرتهم، وصولاً إلى أدنى كتابة من كتاباتهم، مدعاة للنشوة والافتتان، شرط ان يتمكّن المرء من معرفة أيّة يد كانت وراء هذا الأثر. أما اليهود فبالعكس. لقد كانوا ذلك الشعب الكهنوتيّ الحقود بلا منازع. كانوا شعباً يملك في ميدان الأخلاق الشعبيّة عبقريّة لا مثيل لها… أيُّ الشعبين أحرز النصر مؤقتاً، روما أم ياهودا؟ لا مجال للشك في الجواب. بل حريّ أن يتفكّر المرء في المسألة التالية: أمام مَنْ ينحني الناس في روما نفسها، انحناءهم أمام القِوام الذي تتقوّم به جميع القيم العليا-وليس في روما وحدها، بل في نصف الكرة الأرضيّة، في كلّ مكان أصبح فيه الإنسان مدجّناً أو يكاد. إنهم ينحنون أمام…اليهود”. (نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص47).
ينبغي ألا يُفهم كلام نيتشه الذي مات عام 1900 من جهة معاداة الساميّة من أجل تصنيفه ثم رفضه، فنيتشه كان ثورة فكريّة هائلة وفي جميع الاتّجاهات، غير أنَّ اللافت في كلام نيتشه وفقاً لمقاصده هو أنَّ روح الحضارة الرومانيّة الغربيّة التي كان مذهبها الفلسفيّ هو الرواقيّة التي أسّسها زينون الفينيقيّ تتناقض تناقضاً تامّاً مع الروح العبرانيّة؛ لكن أباطرة روما الذين كان منهم الإمبراطور الرواقيّ ماركوس أوريليوس انعطفوا في ما بعد بسبب الإمبراطور قسطنطين إلى حظيرة “الخراف الضالة من بني إسرائيل”!
وها هو الغرب الآن تحديداً الغرب الأمريكيّ ينعطف عن إنجازاته العظيمة كلّها باتّجاه نوع من التطرّف يدعم إسرائيل في كلّ ما تفعله في غزّة بذريعة تطرّف حركة حماس؛ وهذه التهمة أغمضت عيون الساسة الغربيين عن جنود شعب الله المختار وهم يهدمون بيوت الفلسطينيين فوق رؤوسهم، ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يقبلون من فلسطينيي غزَّة أي دفاع عن أنفسهم في وجه الحصار والقتل والهدم والحرق؛ ولذلك لم تعد معايير السياسة الأمريكيّة صالحة لإدارة الأزمات السياسيّة في العالم؛ لأنَّ “السُّعار التكنولوجيّ العسكريّ الرهيب”، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني هيدغر، دفع الساسة الأمريكيين إلى نوع من الجنون السياسيّ الذي يهمِّش الإنسانيّة لصالح ضرب من العِرقيّة الدينيّة، فكيف يمكن أن يقوم البيت الأبيض بتعزيز وجود شعب الله المختار في أرض ميعاده المزعومة، أي كيف يمكن له يدعم فكرة توراتيّة متطرّفة، ويرفض رفضاً قاطعاً أن يُدافع الفلسطينيون عن أنفسهم من مُنطلق دينيّ كما هو الحال مع حركة حماس.
ولكن وإن كانت فكرة شعب الله المختار مقنعة للساسة الغربيين وفي مقدمتهم الأمريكيين من جهة اعترافهم بحق تاريخي لليهود في فلسطين فماذا سيفعلون إن كان وجود اليهود في فلسطين مجرد وجود كتابي نصي لا تؤيده أي اكتشافات آثارية أو أركيولوجية هنا سينتقلون من دون أي شك لتبرير وجودهم بذرائع إنسانية ويتناسون أن اليهود بنوا وجودهم في فلسطين على كذبة كبرى. يوجد فشل ذريع الآن عند علماء الآثار الإسرائيليين إذ لم يقدروا على إثبات وجود أي دلائل تشير إلى وجود اليهود في فلسطين بما ينسجم مع مقولات التوراة حتى أن مزاعم اليهود التوراتية أصبحت الآن بين العلماء المتخصصين مجرد أساطير.
وقد يبهرنا الفيلسوف الكنعاني أو الفينيقي فرفوريوس المتوفى في بدايات القرن الثالث للميلاد عندما نعرف أنه دعا الناس إلى التوقف عن الانخداع بأساطير اليهود. وفي غزة نفسها بخان يونس منذ أمد قريب أعلن عن اكتشاف تمثال حجري يرجع تاريخه إلى 2500 عام قبل الميلاد يمثل عناة إلهة الحب عند الكنعانيين وكأن التاريخ يريد أن يقول لأبناء غزة وجودكم حقيقي ووجود الإسرائيليين مختلق. وهنا يظهر التطرف الحقيقي للغرب الذي يهمل وقائع التاريخ ويتبع الأساطير.
لم يدمر أبناء غزة تمثال عناة، بل قبلوه بصفته جزءاً من تاريخهم وحافظوا عليه. وقد تكون روح الحضارة الغربية أقرب إلى عناة من يهوه. غير أن ما لم يفكر فيه الغربيون هو أنه رغم ضياع بلاد كنعان وحلول إسرائيل محلها فقد يصرخ تمثال عناة في يوم قادم لنداء البعل ليستعيد أرضه السليبة.
بواسطة رهادة عبدوش | ديسمبر 9, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
تتسمّر ليا ذات الاثنا عشر عاماً أمام التلفاز وتبكي رافضةً الطعام وهي تئن كأنّما جرحٌ بدأ ينخز عليها، تضع يدها على قدمها المبتورة وتتذكر ذلك اليوم جيداً عندما قُصف بيتهم في كفربطنا، تتذكر نفسها عندما كانت طفلة الثلاث سنوات، تلعب أمام منزلهم، وإذ بحجارةٍ تتكوّم عليها، دون أن تسمع أي صوت لثلاثة أيامٍ بعدها، يومها حملها عمّها وأسعفوا والدها الذي فارق الحياة بعد أيام، واستيقظت لترى نفسها دون قدم وآلام بقيت لشهور. تذكر أمها ما حدث وتؤكّد أن ما يحدث في غزة اليوم يعيد إليهم أيام الحزن التي لم تلغها حياتهم الجديدة في مصر.
وتصف فاطمة وجوه أبنائها بعمر الستة عشر والرابعة عشر، وهم يطالبونها بالكفّ عن متابعة أخبار غزّة فهذه الصور قد رأوها سابقاً في باب عمرو، بل يسبقون الحدث ليكرروا مع المذيع دماء هنا وهناك وأصواتٌ لأنين يسمعونه إلى اليوم في مناماتهم، تعود مشاعر وقصص الحرب بكلّ تفاصيلها رغم مواظبتهم لدى الأخصائيين النفسيين في منظمة الهلال الأحمر في حمص بعد نزوحهم إلى مناطق أخرى وعودتهم إلى دارٍ أعادوا ترميمه لكنه لم يعد كما كان، كما لم يعودوا كما كانوا.
توقفت ليليان عن متابعة أخبار غزة من اليوم الرابع فهي لا تريد أبداً إعادة الذكرى أمام أبنائها الذين بالكاد توقفت آثار الحرب السورية عنهم، فهم من سكان جرمانا محيط دمشق، كانت القذائف تمطرهم وأكثر من مرة كادت القذيفة أن تنهي حياة أحد أفراد العائلة، ففي إحدى الليالِ وقعت القذيفة وهدمت جزء من البيت وهربوا ليلتجئوا عند أحد أقربائهم، ومن وقتها لم يتوقف طفلاها عن التبول اللاإرادي، جرّاء الهلع الذي أصابهم، إلى أن بلغا الخامسة عشر من العمر، وبعد مواظبتهم لدى أخصائيين في مركز الراعي الصالح بدمشق.
هذه الصور والمشاهد يتحدث عنا الآباء والأمهات، والشباب والشابات لتعود ذكرياتهم المؤلمة إليهم وإلى أبنائهم، مشاهد لم تفارقهم لكنها كانت مختبئة في مكان ما في الذاكرة، أعادتها الحرب في غزة.
الآثار النفسية للحروب والصراعات
“تمتدّ آلام الحرب لسنوات طويلة قد لا تنتهي بجيل واحد، فوقف الأعمال العسكرية لا يعني وقف الآثار النفسية لتلك العمليات”
هكذا تصف سماح القادري آثار الحرب على الأطفال لتؤكّد من خلال عملها لسنوات طويلة لدى مركز لحماية النساء والأطفال من العنف في دمشق، أن معاينتها لأطفال عاشوا الخوف والجزع حتى دون فقد أحد أفراد العائلة، سيؤثر حتماً لسنوات على حياتهم و طريقة تفكيرهم.
وما يحدث في غزّة اليوم يعيد تلك المشاهد بتفاصيلها المرعبة، ويؤثّر على الأطفال الذين سمعوا حكايات الكبار،والبالغين الذين عانوا تلك الحرب في طفولتهم، لترتكس بعض المشكلات، وقد تواصلت مع حالة تتحدث عنها القادري:”عادت نوبات الهلع لصبي عمره الآن أربعة عشر عاماً فقد والديه في الحرب السورية، وعاش وحيداً دون عائلة ومكث فترة في ميتم إلى أن توصّل إليه أحد أقربائه وضمه إلى أسرته، تلك السنوات لم تمحِ الحزن والألم وماكان مختبئاً في ذاكرته وجسده، واليوم يداوم في العيادة لتظهر حوادث قد شاهدها ولم يذكرها قبل الآن”
“إنّها الندوب التي لن نشفى منها أبداً وخاصّة من كان طفلاً وستعود دوماً إن لم نعيش بأمان ويعيش أبناؤنا دون هاجس عودة الحرب مرة أخرى” بهذه العبارة أيضاً عرّفت الأخصائية الاجتماعية بديعة دلول آثار الحرب على الأطفال والكبار، لتؤكّد أنّ آثارها على الأطفال أشدّ وطأةً وهذا ما عاينته بنفسها أثناء متابعتها لحالات مؤلمة من أطفال فقدوا أجزاء من جسدهم وأفراداً من عائلتهم وكثيراً من أمانهم.
“تترك الحرب جراحاً خفية لا تمحى بسهولة في قلوب ونفوس الأطفال الأبرياء، الذين ولدوا في رحم المعاناة وذاقوا أشكال القهر والفقر والرعب، علاوة عن الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم خلال الحرب، أو من تعرّضوا للاِعتداء والاِستغلال” تتابع بديعة وتؤكّد أن عدداً من الأطفال الذين لم يبلغوا الثمانية عشرة من العمر وبعضهم في الثالثة عشرة بدأوا يتوافدوا إلى مراكز متابعة الأطفال في الهلال الأحمر والمنظمات في الكنائس والأديرة في سرية.
الحقوق المهدورة في يوم الطفل العالمي
تعدد كاتي غيث وهي مرشدة تربوية في مدرسة خاصة: ” المشاكل النفسية التي يصاب بها الطفل إثر تداعيات الحرب وتقول عنها لا تحصى لكن يمكن ذكر بعضها من مثل: الشعور الدائم بالخوف والقلق والاِكتئاب، تأخّر النمو العقلي والبدني والعاطفي، صعوبة الاِندماج في المجتمع والعجز عن بناء روابط عاطفية مع الآخرين، الاِضطرابات السلوكية وردود الفعل العِدائية.
وعودة الحروب أوالخوف من عودتها تشكل هاجساً لدى البالغين والأهل والأطفال وخاصة ما يحدث في غزة من مثل اِضطرابات ما بعد الصدمة، اِضطرابات في الطعام والنوم والذاكرة، عودة الاِكتئاب والقلق واليأس من المستقبل.، اللجوء إلى التدخين أو المخدرات أو المشروبات الكحولية.
الشعور الدائم بالغضب وجلد الذات.
وهذا حديث الأطفال في المدرس مع هاجس وخوف من عودة الحرب إلى سورية.
أما عن حقوقهم فهي تذكرها بمناسة عيد الطفل العالمي ومصادقة سورية ومعظم دول العالم على اتفاقية حقوق الطفل وحمايته في النزاعات المسلّحة وتشدد على حاجتهم الأساسية إلى الرعاية والحماية والبيئة الآمنة وتقول:
” إنهم بعد الحرب ينتبهون إلى فقدهم كامل حقوقهم وللأمان والرعاية والصحة والتعليم، كلّ هذا يؤثر على حياتهم وعندما تعاد الصور ستعود مرةّ أخرى أمام أعينهم المأساة بكاملها بل قد تؤثر بشكل أقوى من السابق ارتكاسات أشد تأثيراً من الحدث المباشر نفسه، إعادة الذكريات المؤلمة والشعور بأن كل شيء قد يعود كما كان خلال الحرب، وخاصة مع مؤشرات يلتقطها الأطفال لدى الكبار بأنهم ليسوا بأمان. لذلك يجب التعامل مع الطفل بصراحة وتوضيح ما يحدث وتهيئته نفسياً لفهم الحرب وتأثيرها.
ويبقى السؤال الدائم، هل ستتحقق اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها سورية ومعظم دول العالم وتعاهدت على حماية الأطفال واللاجئين في النزاعات المسلّحة؟ وهل سيعيش أطفالنا بأمان كأطفال العالم، أم أننا سنبقى رهينة الصراعات وسيبقى أطفالنا في خطر كل الانتهاكات.
هذا ما يعيشه أطفال سورية وأطفال غزّة وفلسطين.
بواسطة كوس كوستماير | ديسمبر 7, 2023 | Culture, Poetry, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر
كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“ صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.
من أعماله المسرحية ”حول النقود“، ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.
القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.
١- عناد
الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة
يركع وحيداً بين الأنقاض
يضربُ الفولاذ
يُدْمي الحجر
يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته
يصلّي كي ينطق من تبقى
غير أنه لا يخرج أحد.
الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة
ينبش الأرض بأظافره
يتضرّعُ إلى الموتى
يتوسّل إليهم أن يرجعوا.
حين تكتفي الريح من الإصغاء
تُعْول وتهبّ مبتعدةً
حينها، حتى المطر
يشعر بالعار من بقائه.
٢- الحرب على الأطفال
“هذه حرب على الأطفال”.
جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.
تتقدّم الجيوشُ
فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.
يبكي أطفالٌ رضّعٌ
تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.
تُعرّى أمهاتٌ
وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.
يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.
يُجْبرُ أطباء على السير على الماء
يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم
يُقتل أشقاءٌ وشقيقات
وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس
حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.
تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.
سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.
شهدْنا نهاية الأيام
وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.
الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم
وما من مكانٍ نهرب إليه،
أو نختبئ فيه
ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة
أو لإعادة الأطفال
كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل
حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.
نرى أجساد الأطفال
تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.
نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء
يصلّون للسلام،
لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم
ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ
أو يروي ظمأهم الحارق
لإنقاذ أطفالهم من الدفن
لا أحد يتمرد
ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة
تتقدّم عبر أخبارنا اليومية
وتزحفُ على شاشاتنا في الليل
كي تحتفي بدولارات جُمعت
وأذى أُلحق بالآخرين
حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.
٣- درس لشرح المفردات
(إلى نعومي شهاب ناي)
نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.
(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)
كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها
(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)
هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة
وهناك كلمات كثيرة كاذبة.
(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)
إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ
ستسمعه يتكسّر على الجدران
ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.
دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.
هل تعرفونها؟
Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل
تمتلك شهية أسطورية
للموت وتقتلُ كل شيء
يقع في مدى بصرها.
تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين
والطلاب والمزارعين، والأطفال
والناس بشتى أصنافهم.
هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح
يتكاثر في جميع الأمكنة
ويفضّل أن يعمل في الشوارع
ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته
دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.
وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:
مرادف للأسى
وكلمة أخرى للكراهية.
٤- فن الحرب
حين جاءت الطائرات
كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون
شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.
أنتم تعرفون المشهد،
أعرف أنكم تعرفونه،
ومطّلعون على خلفية الفيلم:
الغرفة القذرة بالأسود والأبيض
حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق
التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.
وحين بدأت القنابلُ بالسقوط
كان يقف عند النافذة
في الوهج الأحمر للصواريخ
والسماء مذهلة وملتهبة.
تعرفون الأغنية،
أعرف أنكم تعرفونها:
الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.
النار تلتهم حقول القمح
الظلال تتقيّح في الشوارع.
لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟
الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،
ويركضون في عاصفة معدنية
صُنعت بلغةٍ
لم يتعلموها أبداً في المدرسة.
يتذكر فجأة
كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات
قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.
السماء فارغةٌ وصامتة الآن
آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن
أن الموت قادم غداً إلى البلدة.
يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج
إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.
تعرفون المشهد:
الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية
وفجأة ابن الإنسان
بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة
يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟
ما الذي فعلته؟
ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟
٥- النظام العالمي الجديد
يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،
وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة
إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.
في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك
أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك
وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك
طوال الليل حتى الصباح.
أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،
لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح
فمك طَعْم الطمي
والشذى الأسود للتوت المسحوق.
لكلّ منزل سرّهُ،
ولكلِّ أمةٍ متعتها:
الجوز الأرضي من السنغال
نبيذُ النخيل من غامبيا.
خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،
الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،
أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا
وخبز التشاباتي من إسلام آباد.
يجب أن تُزال الحدود اليوم،
على الفور،
وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.
وفي هذا النظام العالمي الجديد
سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء
ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران
ونعدّ وليمةً عظيمة.
نحتفي بالصداقة أولاً،
نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات
عن أعاجيب عادية رأيناها.
نتقاسم كلّ ما أحضرناه،
ونعتني بالجميع
مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.
حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!
كم ستبدو رائعة وعذبة!
وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة
من شاي النعناع القوي،
ثم نجتمع معاً تحت النجوم
ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا.
بواسطة رهف حبوب | ديسمبر 4, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
أنظر إلى ابني الأصغر الذي لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، وأفكر فيما واجهتهُ خلال الساعات الماضية فقط. كان شاهداً على نوبة جديدة من نوبات جنون زوجي الهمجية. زوجي الذي ضربني وطردني من المنزل برفقة أبنائي الاثنين، أكبرهما لم يتجاوز بعد عامه الثاني، هذا ما تقوله السيدة (ا.ع) من ريف دمشق لـ “موقع صالون سوريا”.
تخبرنا تلك الأمّ عن المعاناة التي تكابدها بينما تفكر في علبة الحليب التي لن تكفي أكثر من يومين، ثمّ؛ وبعد ذلك يجب أن تعود إلى جحيم الزوجية بسبب عدم قدرتها على إعالة طفليها، تقول: “الحليب مقطوع من الأسواق، ولو توفر فإن كلفته تبلغ حوالي 75 ألف ليرة سورية، ولا أملك منها حتى خمس ليرات!”.
ومع وجود صعوبات معيشية لدى عائلتها، يستحيل بقاؤها مع طفليها في بيتهم، على الرغم من محاولات الاحتواء والاحتضان التي يبديها الأهل، لكن هذه المرأة تشعر أنها تشكل عبئاً عليهم: “أدرك أنني سأعود إلى زوجي بسبب الحاجة إلى علبة الحليب تلك”.
تخبرنا السيدة (ا.ع)، وهي في أواخر العشرينات اليوم، كيف درست في كلية التجارة والاقتصاد في جامعة دمشق، وتعرّفت هناك على زوجها من خلال أصدقاء مشتركين. وتؤكد في حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أنها عاشت قصة حبّ جمعتها مع زوجها لسنوات “إلا أن ما حدث بعد الزواج لم يكن بالإمكان التنبّؤ به. عمل زوجي على عزلي عن أصدقائي، ثمّ دفعني لترك العمل من أجل الاعتماد عليه كلّياً من الناحية المعيشية. ربّما يُعتبر هذا السلوك أمراً عادياً بالنسبة للعديد من الأزواج، لكنّه في الحقيقة عبارة عن تكتيك يعتمده الشخص المُعَنّف للتأكد من أنّ زوجته لن تستطيع تأمين حياتها وحياة أبنائها خارج جدران سجنها المنزلي”.
تتالت الأيام ومعها تصاعد خطابه العنيف من سُباب وإهانة مستمرة، ثمّ تصعّد إلى عنف جسدي كبير، وقد يصل أحياناً إلى التهديد بالقتل! وفي كل مرة تخرج (ا.ع) من منزلها، تعرف أنّها ستعود بعد أيام، لأنها لن تستطيع العيش دون أطفالها الذين باتوا سلاح الابتزاز الأشهر في يد الزوج.
تقول: “لا أستطيع العيش دون أطفالي، مجرّد الفكرة تجعلني أتمنّى الموت قبل حدوثها. هذا ما يجعلني مستمرة في هذه الحياة رغم عدم وجود أيّة مقومات للحياة أصلاً”، وتضيف: حتى وإن قرّرت أن أترك زوجي، فإلى أين الرحيل؟ إلى أهلي الذين يعانون من أجل لقمة العيش؟ ومن سيحميني منه حين يحاول انتزاع أطفالي مني؟ بصراحة لا أثق بتنفيذ القانون الذي ينصّ أن لي الحق في الحضانة، حالياً، وذلك لأنّه -بحسب تجارب شاهدتها- يمكن تطويع القانون بالرشاوى.
وتختتم هذه الأمّ التي فطر الخوف على أبنائها، قلبها قصّتها وهي تؤكّد أنّ “مشوارها ليس سهلاً. إنّي أودّ تجنّب شرّ زوجي ليعيش أطفالي، ولست أعرف كيف يمكن أن أجد حلاً بعيداً عن ذلك الجحيم الذي يفترض به أن يكون جنّتي على الأرض..”.
ما البديل!
صدى قصة (ا.ع) يصل إلى مدينة حلب، حيث تأتي قصة السيدة (ك.ج)، التي تواصل معها “موقع صالون سوريا” للحديث عن تجربتها القاسية في العودة إلى زوجها بعد هجره لها لأكثر من عام بسبب التعنيف الذي تتعرض له.
تروي السيدة الثلاثينية (ك.ج) كيف عاشت مع زوجها لسنوات تتنقل بين المدن السورية بسبب ظروف الحرب والنزوح، في محاولة لإيجاد مدينة آمنة، لعلّهم يستطيعون بناء حياتهم فيها.
تقول: “مع مظاهر عودة الحياة إلى مدينة حلب، قرابة العام 2020، عدتُ مع زوجي إلى هناك، لكنّ طِباعه تغيّرت، وبات أكثر عنفاً وصداميّةً، حتّى وصلتْ به الحالة في أحد الأيام إلى طردي من المنزل مع ابني إلى الشارع، منتصف اللّيل دون أيّ سبب!”
وتشير السيدة (ك.ج) إلى الوقت العصيب الذي قضته في السفر من حلب إلى منزل أسرتها بريف دمشق، لتعيش معهم فترة انتظار زوجها أن يأتي، أن يرسل إليهم بعض المال على الأقلّ، لكنّ الأيام مضت ولم يعد الزوج، لأنّه قرر أن “يبدأ صفحة جديدة دون أن يكون لابنه وزوجته مكان فيها”.
تقول: “في تلك الأوقات كنت أعمل لساعات طويلة في عيادة طبيب، أنظّم المواعيد وبعض أعمال السكرتارية، لكنّ الراتب لم يكن يكفي سوى أجرة مواصلات! كنت أدور في حلقة مفرغة من العمل غير المأجور تقريباً، ناهيك عن الحالة التي يعيشها ابني بعيداً عن أبيه، وكذلك بعيداً عني-أحياناً كثيرة بسبب انشغالي بالعمل”.
وتضيف: “دفعني اليأس أخيراً إلى التواصل معه ومحاولة استمالته لإعادتنا. بالرغم من أنني لم أفعل شيئاً يتطلب عقابي أو نبذي أو حتى هجر ابنه بتلك الطريقة، وما صدمني حقاً أنه كان يريد الزواج بامرأة أخرى. تطلّب الأمر مني إقناعه حتى أعادني إلى هذا المنزل الذي لا أطيق العيش فيه مع زوج هجرني، وكاد أن يتزوج غيري. ما دفعني إلى العودة هو الحاجة المادية فقط، فأنا لا أحمل شهادة جامعية أو حرفة، وعشت أيامي إمّا معتمدة على عائلتي أو على زوجي، مادياً. ومع سوء الوضع المعيشي اليوم، بات من المستحيل استئجار بيت وتربية ابني وحدي، حاولت، ولم أستطع تأمين اللوازم الأساسية لحياتنا”.
وتختم السيدة (ك.ج) حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بالقول: “لقد رأيت كثيراً من الفيديوهات والمنشورات على وسائل التواصل، عن سيدات يطلبن من النساء استجماع قوتهن والعيش بكرامة ورفض العودة إلى الزوج السيء، لكن ما تغفل عنه تلك الفيديوهات هو طرح ما هو البديل؟ كيف لي أن أعيش؟ لا يوجد منازل تقدم رعاية للسيدات الهاربات من العنف المنزلي أو المطلقات الباحثات عن فرصة ثانية بالحياة”.
تشكّل تلك القصص، جزءاً من آلاف السرديات الأخرى عن بلد نهشتها الحرب والفقر منذ سنوات، ولم يكن ازدياد حالات العنف الجسديّ والنفسيّ والجنسيّ ضدّ النساء، سوى أمر طبيعيّ في بلد يقبع أكثر من نصف سكانه تحت خطّ الفقر، بحسب تقديرات أممية. إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة التي دفعت بدورها لنمو العنف داخل الأسر السورية.
لقد تمّ توثيق نحو عشرة آلاف حالة عنف ضد النساء في سوريا عام 2022 منها ثلاثة آلاف حالة عنف جسديّ، إضافة إلى نحو ألف حالة اغتصاب أو محاولة اغتصاب وذلك بحسب تقديرات منظمة “العفو الدولية”.
في وقت أشارت الأرقام الرسمية الصادرة عن “المركز الوطني للصحة والإحصاء في سوريا” أن 20% من النساء في سوريا تعرضن للعنف الجسديّ خلال حياتهن، و15% تعرضن للعنف الجنسي. بينما أشارت الأمم المتحدة إلى تعرض النساء والفتيات النازحات في جميع أنحاء سوريا للخطر بشكل خاص، لأن النزوح جعل النساء أكثر عرضة للعنف، بعد أن فقدن الكثير من وسائل الحماية التقليدية، مثل الدعم الأسريّ والمجتمعيّ.
ماذا يفعل القانون؟
وللوقوف على الجانب القانوني حول تلك القصص، تواصل “موقع صالون سوريا” مع رهادة عبدوش، وهي محامية سورية وناشطة في قضايا المرأة. والتي أخبرتنا بدورها أن السبب الأساسي في نمو تلك الظواهر هو “عدم قدرة القانون حالياً على حماية النساء وخاصة المعنفات، بسبب وجود الكثير من الفجوات التي تسهّل العنف وترسّخ التمييز ضدّ المرأة. لأن قانون الأحوال الشخصية مكتوب على أساس دينيّ (…) ويميز في العديد من مواده بين النساء والرجال”.
ومن بين تلك المفارقات القانونية تقول رهادة: “إعطاء الولاية للذكر فقط وليس للمرأة والطلاق بالإرادة المنفردة (الطلاق الإداري). إضافة إلى حرمان المرأة السورية من منح جنسيتها لأولادها، وزوجها. تزويج القاصرات، وواجب الطاعة المفروض على المرأة، وغيرها من المواد. كما تُعَاقَب المرأة بعقوبة أشدّ من الرجل في حالة الزنا، فيما يتمّ تخفيف عقوبة المغتصب في حال تزوج من ضحيته”.
وركّزت رهادة في حديثها على “فجوات قانون العقوبات السوريّ” التي يمكن استغلالها لترسيخ العنف ضدّ النساء وضمان استمراريته من قبل معنفيهم. تقول: “قانون العقوبات السوريّ لا يحتوي على قانون خاص يتعلق بالعنف الأسريّ أو مواد تحمي النساء منه، بالإضافة إلى عدم وجود بيت للحاضنة أو نفقة للأطفال ترعاها أو تشارك بها الدولة. إضافة إلى عدم وجود آلية تراقب إعطاء الإرث للنساء”.
وقد وجهّت رهادة مع العديد من الناشطات النسويات والحقوقيات، دعوات إلى سنّ قانون خاص بالعنف الأسريّ يحمي النساء ويسهّل آلية الوصول إلى النساء المعنّفات. وإيجاد أماكن أو منشآت خاصة لحماية النساء المعنفات، على أن تكون تلك الأماكن آمنة تشرف عليها الدولة والجهات المختصّة والمجتمع المحليّ.
مصادر:
بواسطة دعد ديب | نوفمبر 28, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
حين نقرأ كتابات غسان كنفاني النظرية التي كرسها لدحض الدعاية الصهيونية وتفكيك ما تضمنته خزانة الأدب الصهيوني المليئة بالافتراءات، وكشف ما وقع فيه من مغالطات وأكاذيب ندرك بوضوح لما كان صاحب “عائد إلى حيفا” من أوائل من استهدفتهم آلة القتل الدموية الصهيونية، ومن هنا نجد ضرورة استحضار أفكاره والاطلاع على قراءاته لواقع يزداد كارثية وموتاً.
يوضح غسان كنفاني كيف تقاتل الصهيونية على جبهة اللغة، فالأدب كان سلاحًا بيدها لا يقل أهمية عن الاستثمار السياسي هذا إذا لم تسبقه، فالأدب الصهيوني تعبير عن الأدب الذي كتب ليخدم حركة استعمار اليهود لفلسطين سواء كتبه يهود أو سواهم ممن يتعاطفون ويتبنون أفكارهم الاستعمارية، فمن خلال تقصي جذور الصهيونية الأمر الذي أدى لغسل أدمغة عدد كبير من البشر، يتعقب كنفاني بعضاً من هذه الأعمال ويفند زيفها وضلالها من خلال شعار هام وهو: “اعرف عدوك”.
فهو يوضح كيف قفزت اللغة العبرية فجأة بعد احتلال فلسطين من لغة ديانة إلى لغة قومية، على الرغم أنه خلال ألفي سنة ماضية لم تشكل اليهودية فيه رابطة قومية ولا روابط جغرافية ولا سياسية أو اجتماعية فمن أجل ذلك تم التركيز على اللغة لادعاء مشتركات غير موجودة بالأصل، وهذا يوضح الحملة التي تشنها الصهيونية على من يتمسك بلغته الأصلية غير العبرية مثل جماعة الييديش، لغة يهود أوربا الشرقية.
كيف ولدت الصهيونية الأدبية:
برز الإنتاج الأدبي الصهيوني بشكل كبير في فترة الانفراج التي عاشها اليهود ولم يكن انعكاساً للاضطهاد الذي عانوا منه، وفي فترة الحكم العربي بالأندلس تميز أفضل المفكرين اليهود وكذلك في المغرب ومصر ومنهم “موسى بن ميمون”، بالوقت الذي عانى اليهود في أوربا من الاضطهاد والقهر والتمييز.
وكان أمام اليهودي المضطهد موقفان: إما أن يتعذب في سبيل المساواة والاندماج أو المزيد من الشعور بالتميز والتمسك بأسطورة التفوق، فلم يكن الاضطهاد هو الرحم الذي نشأت منه الصهيونية.
وباعتبار أن الأدب العبري بمجمله أدب ديني فقد كان ثمة ضغط على التيار الذي يدعو للمساواة والاندماج على حساب إعلاء الآخر السلبي الذي يدعو للتفوق والاستعلاء، لذا استخدمت الصهيونية السياسية العرق والدين في الأدب الصهيوني لخدمة أهدافها العنصرية، ففي بداية القرن التاسع عشر بدأت اوضاع اليهود بالتحسن في أوربة مع شعارات نابليون بالمساواة في فرنسا، وبدأ الصوت الصهيوني يتوضح وقد أخذ شكله النهائي في مؤتمر بال عام 1897، وبدأت الشخصية اليهودية تتحول من نموذجها الشايلوكي إلى شكل أكثر توازناً نتيجة دعوات معاداة العنصرية، وبرز في إنكلترا تحول كبير بنبذ النموذج الشايلوكي وتعامل إنساني جديد مع الشخصية اليهودية عبر إنتاج ثقافي غزير، وبالمقابل فإن الأقلية اليهودية الموجودة في لندن بدأت تشكل نموًا اقتصاديًا واجتماعيًا لافتًا وصولًا إلى نقطة الانعطاف الهامة التي حدثت عام 1858 عندما أصبح اليهودي ليونيل روتشيلد عضوًا في البرلمان البريطاني لأول مرة في تاريخ اليهود مع تصاعد أعدادهم وتمركزهم في لندن، لينعكس ذلك على الأدب وتسييس الشخصية اليهودية فيه.
فبعد كتاب هارنغتون ورواية ايفنتهو لوالتر سكوت التي تطرح الطيبة والرومانسية التي ثبتها شيلي وبايرون في الشخصية اليهودية، كان المطلوب نموذجًا آخر لشخصية غير رومانسية وترفض الاندماج كذلك، على غرار الشخصية التي خلقها بنيامين دزرائيلي باعتباره داعية عنصرياً. ففي روايته “دافيد آلروي” طرح البطل اليهودي الصهيوني قبل نصف قرن من ولادة الصهيونية كموقف عنصري متطرف بتأكيده أن العرق العبري صاف غير مختلط ، وذات الموقف تبناه هتلر مقلوبا بعد 80 سنة ومجمل قول دزرائيلي في روايته أن اليهود وحدهم مهيؤون لقيادة العالم، وعلى خطى تطور وضع اليهودي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كان الأدب صدى لهذا التطور والانتقال من البطل الرومانسي إلى الشخص الحائر وبعده إلى الشخصية العنصرية التي تؤمن بتفوق العرق، وقد وضحته شخصية مردخاي لدى “جورج إليوت” في روايتها “دانييل ديروندا” في ترسيخ هذا الأمر ورسم خطة عمل لصهينة اليهودي واستغلال عقدة التفوق إلى أبعد حد بالخلط بين العرق والدين حتى أصبح كتابها إنجيلاً صهيونياً.
منشأ شخصية اليهودي التائه وتطورها:
يرى غسان كنفاني أن اليهودي التائه مفهوم يدور في الحلقة الدينية التي استولدته وهو يتقلب بين دور المذنب لدور المتذمر؛ من موقف الخاطئ إلى موقف المعذب متأرجحًا بين التنور والتعصب ليركب بعدها اليهودي الجوال على موجة تحويل العرق والدين إلى قضية التفوق العنصرية.
قد تكون شخصية اليهودي التائه قد مثلت في الأصل حيرة الإنسان تجاه معضلة الموت والفرار منها إلى الأسطورة قبل أن تتخذ شكلها النهائي في حكاية رجل شاهد صلب المسيح واستعجله للذهاب إلى الصليب وحكم عليه المصلوب بالتجول في العالم إلى يوم القيامة، وكانت هذه الشخصية محببة إلى أن جاء وقت انقلبت إلى شخصية اليهودي الجوال صاحب قضية اجتماعية وتحولت تدريجيًا لتطرف وانزلقت إلى العنصرية وانتقلت الشخصية من المجال الديني إلى أن أخذت طابعها السياسي.
وقد تجلت في مسرحية “الغريب” ل ديفيد بينسكي وتبنتها فورًا فرقة هابيما في توظيف الديني لخدمة قضية سياسية ليشكل بعدها ثلاثي الدين والعرق والسياسة أبشع غزو استعماري في العصر الحديث، ويبلغ هذا التيار ذروته مع الكاتب السويدي الحائز على نوبل بار لاغركفيست في روايته القصيرة ” موت اهاسورس” حيث اليهودي الجوال هو من يحاسب الرب على العقوبة التي جعلته يتوه في أنحاء الأرض، ويعتبر أن عذاب التجوال على مدى القرون هو أصعب من عذاب الصلب نفسه، ويرى ذاته في موته أي نهاية تشرده في إسرائيل، ليصل كاتب آخر هو “أهارون دافيد غوردون” إلى نتيجة بأنه لهم ميزة أن يكونوا الأوائل ليس لأنهم الأفضل وإنما لأنهم تعذبوا كثيرًا.
فالرواج الذي هيأته السياسة للأدب الصهيوني ورعت انتشاره قد تسلح بكل الأسلحة الممكنة كالمبالغة والتزوير وطمس الحقائق، وكان يقوم بمهمة مزدوجة تعبئة اليهود لخلق جو عالمي للتعاطف معهم وطمس كل ما يمكن أن يعرقل مشروعهم.
إذ إن الأسلوب الدعائي الذي اتبعه تيودور هرتسل في روايته ” الأرض القديمة الجديدة”
قبل أن يتحول بكليته إلى السياسة بتصوير أرض فلسطين وكأنها بلاد ممتدة تنتظر عودة اليهود ليحيوها ويعيشوا فيها، ولا كلمة عمن يقطن في هذه الأرض بالأساس وعن مصيرهم.
شعوران يسيطران على الشخصية اليهودية كما صورها الأدب الصهيوني الأول هو الفخار وهو أمر مقبول والنوع الثاني احتقار البشر والنظر بدونية إليهم، على الرغم من أن الدراسات العلمية وضحت أن اليهود المعاصرين لا صلة لهم قومية أو دينية بيهود العهد القديم، وما يفسر رفض الصهيونية لفكرة الاندماج مع الشعوب التي عاشت في ظهرانيها ذلك التخطيط لأن تحل مكان وأرض شعب آخر، إذ يؤكد كنفاني في اعتراضه على أسلوب التفكير اليهودي في أنه لو تم التفريق بين الدين والقومية كمفهومين مختلفين لما وقع هذا الخلط والالتباس.
سمات البطل في الرواية اليهودية:
أهم صفتين للبطل أن يكون هارباً من اضطهاد وأن يكون آتياً من بلاد أوربية. ولقد صورته معظم الروايات وهو يعيش حالة غرام مع شخص غير يهودي وغير عربي يتفاعل مع قضيته وينضم إليها، ويبرز العرب كأفراد لا قضية لهم وبالغالب مأجورين من قبل قوة خارجية.
ويبقى السؤال لماذا عجزوا عن الاندماج مع الشعوب التي أتوا منها، من هنا جاء تضخيم حالة الاضطهاد التي عانوا منها وتصغير واحتقار الشعوب الأخرى، إذ لا يستطيع الكاتب الصهيوني أن يتجاوز عقد العرق والدين بالإضافة إلى القضايا الأخرى كالاضطهاد ومذابح هتلر.
وقد أجمل هذه المحاور التي دارت حولها الأعمال الروائية الصهيونية:
- التفوق اليهودي المطلق والبطل المعصوم
- الموقف من العرب ومن الشعوب الأخرى
- الشخصية اليهودية وعلاقتها بإسرائيل
- المبررات الصهيونية للغزو الإسرائيلي مثل الاضطهاد الذي عانوه والمذابح الهتلرية.
لذا فإن عقدة التفوق ستقود إلى موقف عنصري آخر سبق أن ثبته هتلر الذي يدعون العداء له، وتصوير العرب وهم يلقون القنابل على اليهود ورغم ذلك هم لا يتحركون كونهم في غاية الانسجام وهم يسمعون الموسيقى السنفونية، والغريب أن قنابلهم ومعداتهم الحربية لا تقتل النساء والأطفال، أما العرب فرغم تردي معداتهم القتالية والحربية لا يقتلون إلا النساء والأطفال، نعم هذه هي الصورة التي أرادوا تصديرها الى العالم، فالدعوة الصهيونية إلى غزو فلسطين ترافقت بتبرير كأي مستعمر أو غازي متمثلة بأسطورة التفوق الحضاري والعلمي والبدني والأخلاقي، وأنهم أتوا لمساعدة البلاد التي يغزونها والعمل على ترقيتها.
فالأدب الصهيوني واجهته معضلتان: أولاً التبرير لماذا رفض اليهود الاندماج مع المجتمعات التي أتوا منها على الرغم من أن ذات الكتّاب الذين نادوا بذلك شجعوا على الاندماج بالمجتمع الأميركي والثانية تبرير اقتلاع شعب من أرضه وتهجيره عنها، إذ أفصح الأدب الصهيوني عن احتقاره لكل الشعوب وبالأخص العرب باعتبارهم أعداء مباشرين لهم، أما اليهود القادمون إلى أرض لا يعلمون عنها شيئًا فهم من يستميت في الدفاع عنها، وما العرب في حرب فلسطين بالنسبة لهم إلا عبارة عن حرب مرتزقة ومأجورين لا قضية لهم وهم غير جديرين بوطن بتأكيد سهولة الوصول إلى أراضيهم ونسائهم، هذا ما يسوقون له في رواياتهم من أكاذيب وتضليل للرأي العام العالمي وهذه هي الصورة السيئة التي يضعون العربي فيها.
ففي رواية “الينبوع” ل “جيمس بشنر” يصور المقاومة العربية في حرب عام 1948 بأنها حرب أناس قدموا من الصحراء للغزو مدهوشين من جمال المزارع اليهودية، كما ينفي فكرة أن يكون العرب قد حاربوا الصليبين يومًا، ويعطي أفكاراً حقيرة ومغلوطة عن الدين الإسلامي، وفي عمل آخر يؤكد أن المنطقة كانت صحراء هنا ولم تنتعش وتخضر إلا مع مجيئهم وأن كل ما فعله اليهود هو أنهم سرقوا منهم الأمراض والأوساخ والملاريا التي كادت تقضي عليهم. ويبدو الكاتب “جوشوا بارزيلاي” ناشزًا عن ذلك السيل من الافتراءات الدعائية التي يملؤون صحائفهم بها، حيث يصف أرض فلسطين قبل أن تلمسها قدم أي كائن يهودي مهاجر بأنها الجنة ذاتها ببساتينها وخضرتها، وذلك قبل أن تجند الدعاية الصهيونية لوصف أرض فلسطين بالصحراء وقبل أن يستوردوا شتلات النخيل من العراق ويخصبوا بها أرض الكنانة على حد زعمهم.
بماذا تبرر الصهيونية اغتصاب أرض فلسطين:
إن مذابح هتلر واضطهاد الغرب الأوربي تقف وراء مظلومية اليهود، إذ يذكر أحد أبطال إحدى الروايات بعد تدميره دبابتين عربيتين: “هذا من أجلك يا سارة”، لنعرف أنها سارة التي قضت في مذبحة بألمانيا، فالسؤال هنا ما شأن عرب فلسطين بتلك المذابح ولماذا عليهم هم دفع الثمن وخاصة أن قسماً كبيراً من اليهود عاشوا مع العرب دون أي مشاكل تذكر، كما يشير للوجود الإنكليزي في فلسطين: “هل يملك أولئك الإنكليز حق الوجود في فلسطين أكثر من اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد” يعترف باللا شعور بأنه مستعمر آخر، فالإنكليز كانوا مستعمرين وليسوا أصحاب الأرض، وفي مروية أخرى يقول:” إنها دار الأتراك” فهل وجود أي مستعمر ينفي حق أهلها الأصليين في وجودهم على أرضهم، فالاستعمار التركي كان في أغلب البلدان العربية والفرنسي والإنكليزي كذلك، وهذا لا يعطي أي حق لأي مستعمر جديد بغض النظر عن ظروف ومعاناة عاشها في أي مكان بالعالم، هذا إذ تجاهلنا الخرافات اللاهوتية عن يهود بنوا الأهرامات تحت سوط الفراعنة.
مع ذلك هناك بعض الأدباء اليهود المقيمين بفلسطين قبل عام 1948 كانوا غير قادرين على تحميل العرب الجرائم الهتلرية ولكونهم ليسوا مطالبين بتبرير الهجرة لأنهم موجودون قبلًا لذا كانت كتاباتهم أقرب للموضوعية ومنهم “يائيل دايان” ففي روايتها “طوبى للخائفين” وإن كانت تحاول تبرير العنف باعتباره وراثة جاءت من الأجيال السابقة فإنها انتقدت فكرة البطل المعصوم الذي خلقته الدعاية الصهيونية، وهناك “بنيامين تموز” الذي وصف علاقة العربي بشجرة الزيتون العتيقة وكيف تم قطعها، هذا النموذج تحرص الصهيونية على تجنبه رغم أنه لا يستطيع أن يتعدى نصف الطريق أي لا يمكنه أن يرسم اللوحة كاملة فهي حركة ذات حرية محدودة.
بين جائزة نوبل وعدوان 5 حزيران:
في عام 1966 منحت جائزة نوبل لكاتب صهيوني هو شموئيل يوسف عغنون وكأنها أشبه بوثيقة بلفور أدبية فلجنة نوبل وجدت في كتاباته العرقية المتعصبة رسالة إسرائيل إلى عصرنا وبعدها بسبعة شهور كان عدوان الخامس من حزيران وهو تتويج لكل ما تم تحضيره من غسل أدمغة العالم واليهود بثقافة عنصرية خرقاء.
ذلك الكاتب الذي أجمع النقاد على اكتظاظ نتاجه الأدبي بأفكار استعمارية توسعية وأردفها بقصص دينية لا تجد صدى لها إلا عند اليهودي المحافظ، لأنه لا يغطي قيمًا عالمية ولا موضوعًا إنسانيًا مشتركًا.