اليسار السوري وسؤال الفعالية

اليسار السوري وسؤال الفعالية

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

تبدو قوى اليسار السوري المتعددة، ضعيفة تتسم بالتشرذم والتيه الفكري، رغم أن حدثًا تاريخيًا -وهو انتفاضة السوريين بعد عدّة عقود من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة والمتفاقمة، وغياب الحريات العامة وتكميم الأفواه- كان ملائمًا لتطور هذه القوى اليسارية وتبوئها موقع الصدارة في تاريخ سوريا الحديث، غير أن ذلك لم يحدث! ما دفعنا لسؤال عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية والإعلامية السورية من مختلف المشارب، عما تبقى الآن من “يسارية” اليسار السوري، وعن حضوره في المشهد السياسي السوري منذ نصف قرن، والقمع الذي تعرض لهبعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهل كان فاعلًا في أوساط السوريين بمختلف أعمارهم وشرائحهم في العقد الأخير، وماذا عن موقفه من الأزمة السورية المشتعلة منذ نيف وسبع سنوات؟

شعبوقوى اليسار السوري ضعيفة ومعزولة

يقول الطبيب والكاتب راتب شعبو والذي قضى 16 سنة متّصلة في سجون النظام السوري: “حين رفع السوريون صوتهم في المظاهرات تكلموا لغة وطنية ويسارية، تكلموا عن شعب سوري واحد وعن ديموقراطية وحرية وكرامة وعدل، غير أن القوى اليسارية مع ذلك لم تستطع قيادة الحراك، ولا حتى أن تكون جزءًا مؤثرًا في قيادته. تصدرت الحراك قوى تكفر بالديموقراطية وبالحرية وبوحدة الشعب السوري، وهذا يقول إن الحاجة الفعلية والعميقة للشعب السوري (يسارية)، وإن القوى الفاعلة تشد الدفة إلى اليمين ثم اليمين المتطرف. لكن لماذا يفشل اليسار في أن يكون قوة فاعلة في ثورة (يسارية) في العمق؟”.

يضيف صاحب رواية «ماذا وراء هذه الجدران»: “لا يكفي “سوء اليسار السوري لتعليل هذه المفارقة، وإنما يجب توسيع دائرة البحث، فمن الملاحظ أن اليسار السوري بكامل طيفه قد فشل، من كان منه مبدئيًا ومن كان براغماتيًا، من كان واقعيًا ومن كان نصوصيًا، من تحالف مع الاتحاد السوفييتي ومن مال إلى الشيوعية الأوروبية ومن استهدى بأصولية ماركسية، من عارض السلطات القائمة وطالب بإسقاطها، ومن هادن السلطات القائمة وتحالف معها، من قبل العمل مع المعارضين الإسلاميين ومن رفض العمل معهم.. إلخ. كما لو أن تربتنا غير صالحة لنبتة اليسار”.

وبهذا يرى شعبو أن مشكلة اليسار السوري “ليست في صواب أو خطأ خياراته، المشكلة في أن خياراته لا تجد- بفعل القمع المستمر- فرصة كافية لتموت، أو لتختبر قابليتها للحياة. هذا الواقع لم يؤد فقط إلى تهميش مزمن للقوى اليسارية المعارضة، بل أدى إلى حرمان هذه القوى من تطوير ذاتها، فبقيت ضعيفة ومعزولة، ولم تراكم أية خبرة يعول عليها، فلم تكن في ثورة 2011 أفضل حالًا منها في سنوات الصراع العنيف على السلطة الذي شهدته سوريا بين 1979 و1982، الاصطفافات نفسها، والتنافر نفسه، والفشل نفسه”.

الأتاسي: جردة حساب لمسيرة انحدارية

من جهته، يقول المهندس نشوان الأتاسي: شكّل مصطلح اليسار في سوريا – على غرار مصطلح الاشتراكية- عباءة فضفاضة انضوت تحت غلالها فرق وجماعات وأشباه أحزاب، كما شخصيات، متنافرة ومتناقضة؛ من يسار البعث (بأجنحته المتعددة والمتصارعة)، إلى اليسار الناصري الهيولي، إلى اليسار القومي العربي المتمركس، وأخيراً وليس آخراً، اليسار الماركسي المتفتت الذي تشظى إلى فرق شتى”.

ويردف صاحب كتاب «تطور المجتمع السوري 1831 – 2011» مضيفاً “المشترك الوحيد بين كل تلك الأجسام كان رفع ذات اللافتة/الشاخصة، بيد أنها اختلفت وتباينت وتصارعت في كل ما عدا ذلك، بل إنها عمدت إلى تصفيات بينية، كلما سنحت لها فرصة ذلك، بطرق أشد عنفًا وهمجية من تلك التي مارستها مع من يفترض بهم أن يكونوا أعداءها (الطبقيين)، وقد تمظهر ذلك في أشد صوره وضوحًا إثر اندلاع ثورة السوريين عام 2011، الحدث الذي ساهم في استكمال تشظي هذا اليسار وانقسامه عموديًا ما بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام على أسس، أبعد ما تكون عن الفكر والثقافة أو النهج السياسي، إن لم نقل على نقيضهما!”.

ويتابع الأتاسي: “بناء على هذا وفي التحليل النهائي، يتعذر القول بوجود (أيديولوجية) أو فكر محدد كان يحكم مسارات تلك الأجسام وأساليب عملها السياسية، الأمر الذي لم يكن خافيًا على معظم (الجماهير) التي ادعت تلك الأجسام تمثيلها، ولهذا لم يكن لها من تأثير يذكر عليها، لا من الناحية الفكرية والأيديولوجية، ولا من الناحية التنظيمية. لقد كان اليسار السوري في المحصلة محاولة مبتسرة ومشوهة لتقليد روح عصر ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، لهذا لم يتمكن من الصمود أمام تحديات الداخل والخارج، ولا أمام الضحالة الفكرية والسياسية للذين حملوا لواءه والأهم، أمام المغريات التي قدمتها السلطة لمن تمكنوا من الاستيلاء عليها لاحقًا باسمه، فانقلبوا عليه إثر استيلائهم عليها…. بل على مجمل الشعب”.

ويختم الأتاسي بقوله: “قد يجد البعض في شبه التطابق الزمني بين اضمحلال اليسار السوري والأزمة التي يعاني منها اليسار العالمي، نوعًا من الإغراء الذهني في تجنب تحميل الذات مسؤولية ما حصل، لكن ما يدحض هذا التطابق هو أن يسارنا لم يكن يوماً جزءاً عضوياً من اليسار العالمي ولا امتداداً له” مستدركاً “ما سبق ليس تحميلًا للمسؤولية لأحد ولا جلداً للذات، إنما هي مجرد (جردة حساب) لمسيرة انحدارية امتدت على مساحة زمنية قاربت نصف القرن”.

سعدو: تمزيق التابوات اليسارية (البكداشية)

بدوره قال الصحافي والمحلل السياسي أحمد مظهر سعدو: “إن اليسار السوري يشبه في واقعه وحركته إلى حد كبير اليسار العربي عموماً، بما عاشه وتعرض له من قمع وعسف، ويلتقي معه أيضاً في مسألة تقبل الشارع لطروحاته، وقيمه وأيديولوجيته التي حملها، لكن (اليسار السوري) إن صحت التسمية، جاء بالأساس كإيديولوجيا بعيدة عن موروث المجتمع، ومنفرة في بعض الأحيان، للكثير مما يحمل الناس من قيم لاهوتية يصعب تجاوزها، خاصة وأن منظري اليسار الأُوَل لم يستطيعوا هم أنفسهم الخروج من هذه الإشكالية، فكانوا في حالة تصادم واضح المعالم مع قيم وعادات ومنتجات الأديان في الشارع السوري كما العربي”.

ويتابعسعدو قائلًا: “كل ذلك لم يحل دون ولوجهم (الثوري) إلى غير منعطف من منعطفات الواقع المتحرك في سورية، ودون تمظهر العديد من نخبهم ذات التوجه الوطني الديمقراطي التي استوعبت المرحلة، وفكت ارتباطها أمميًا، مدركة أنه ليس بالضرورة إذا ما غيمت في موسكو أن تنزل مطرًا في سورية. فعرفت بعض النخب ومن اصطف إلى جانبها كيف تتعامل مع الواقع عبر رؤيا حداثية، ممزقة التابوات اليسارية (البكداشية) وخارجة كلية من اليسار التقليدي، بل وخرجت عليه، أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ ورياض الترك وعبد الله هوشة وآخرين، ممن أنتجوا حالة جديدة ومتجددة، ساهمت في كشف المسارات (البكداشية) الانتهازية، الوصولية، التي لم تعد تعنيها ديكتاتورية البروليتاريا، بقدر ما يعنيها الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وبأي طريق، فأصبح اليسار السوري إبان ذلك يسارين، يساراً مدجناً كلاسيكياً وموالياً للاستبداد، ويساراً ثورياً وطنياً ديمقراطياً، بأفكار جديدة متنورة، إلا أنه مقموع مسحوق، تعج به أقبية النظام السوري القامع لكل الأفواه المعارضة، وهو من ألغى السياسة من المجتمع أصلًا، مع ظهور حراك الأخوان المسلمين أواخر السبعينات من القرن الفائت، حيث زج معظم قادة اليسار الثوري في السجون، كما جرت تصفيات للكثير منهم، ومن ثم اتهامهم بالانحياز إلى جانب الإخوان المسلمين زوراً “.

قرقوط:تشظي اليسار السوري من داخله

الكاتب والسيناريست حافظ قرقوط يقول: “لم تستفد قيادات الأحزاب الشيوعية من التجارب وكرست الديكتاتورية حتى في قيادة أحزابها، وللأسف بشكل عام، الأحزاب الشيوعية المختلفة رأت في الإنسان الفرد مجرد أداة لأجل المنظومة السياسية الأممية، وليس هدفًا للتنمية والعمل على نيله حقوقه كونها لب الموضوع في سبيل نيل المجتمع حقوقه، وبالتالي بنية الدولة والإدارات”. ويتابع قرقوط: “تشظى اليسار السوري من داخله بسبب تركيبته الصماء، ولم يبق من عمله السياسي الطويل سوى ذكريات، يعتقد ورثته بأنها ذات قيمة نضالية في مسيرته، بينما هي جزء من منظومة فكرية ساهمت ككل الأيديولوجيات بتهميش الإنسان كقيمة فاعلة، ولهذا لم ينل شعبية كافية تحميه من بطش السلطات، التي عاملت عدداً من أفراده بقسوة شديدة في المعتقلات”.

ويضيف الكاتب: “الكثير من الشخصيات التي عبأت جعبتها الثقافية بالفكر اليساري رأت في نفسها أنها نخبة، وتعاملت مع المجتمع بفوقية المثقف لا بعقلية السياسي الذي عليه أن يكون لسان حال مجتمعه، وبعضهم أصبح بوقاً للاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا لم يتجاوز الفعل السياسي بأحسن حالاته لتلك الأحزاب العشرات من الشباب الحالمين بعالم أفضل بين ركام الشعارات التي جعلته منفصلاً عن الواقع، وغريبًا عن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين ممن ادعى نضاله لأجلهم”.

ويختم قرقوط بالقول: “أظن أن الأحداث التي رافقت الثورة السورية أثبتت أن اليسار العربي كان على صراع مع الأنظمة للوصول إلى السلطة، وليس نضالًا لأجل مجتمع مسحوق، ولهذا كان اليسار بعيداً عن فهم قيمة الثورة السورية وشعبيتها، وانحاز لصف النظام بدلاً من المظلومين، وهذا يعيدنا إلى بدايات تشكيله وغربته عن الواقع الذي كان عليه أن يترسخ به، وأظن أن موقفه هذا سيؤثر كثيراً على سقف نموه السياسي في المستقبل، كون كلمة يسار أصبحت مرادفة لكلمة ديكتاتورية، في حال لم يعدل من رؤيته الفكرية والسياسية”.

سفر: اليسار في مرحلة جديدة

أماالصحافي والكاتب بسام سفر، وهو معتقل سابق، فيقول:”تاريخياً في سوريا، أحزاب اليسار بعضها داعم للنظام السوري عبر الجبهة الوطنية التقدمية، والآخر منها ضد سياسة النظام في القمع والديكتاتورية والحريات السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان، وعدم الاهتمام بمصالح الفئات الفقيرة والمهمشة من السوريين”.

ويتابع سفر، عضو المكتب السياسي في “حزب العمل الشيوعي” وعضو المكتب التنفيذي في “هيئة التنسيق الوطنية”، حديثه قائلًا:لعب القمع والسجن الطويل لأحزاب اليسار السوري منها (حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، حزب البعث العربي الديمقراطي (23 شباط/فبراير).. إلخ)، دوراً كبيراً أضعف وأنهك هذه الأحزاب، حيث قُدم أفرادها إلى محاكم استثنائية حكمتهم لسنوات طويلة، وأبعدوا عن الفعالية السياسية والاجتماعية والتأثير بالناس، وجعل القمع منهم هياكل تنظيمية غير قادرة على إقناع الأجيال الجديدة في دخول معترك الحياة السياسية، خصيصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهزيمة الاشتراكية المحققة فيه. فيما بعد، صار حضور هذا اليسار أكثر واقعية عبر خطاب سياسي واقعي بعيدًا عن الخطاب واللغة الخشبية”. ويستدرك سفر ” لكن فعاليته الجماهيرية ضعيفة بين الناس نتيجة اللغة السياسية العالية التي يستخدمها هذا اليسار، وجاءت محاولات تجديد لغته وخطابه السياسي مع الثورة السورية في العام 2011، وما بعده حيث جدد هياكله التنظيمية ليصبح ملائمًا للمرحلة الجديدة، ولم يوفق بذلك حتى الآن، رغم حضوره السياسي في الهيئات السياسية السورية من هيئة المفاوضات العليا، وهيئة المفاوضات الحالية الممثلة للمعارضة السياسية التي تفاوض النظام وذلك عبر القرارات الأممية التي اتخذها مجلس الأمن الدولي، لتكون الأساس للحل السياسي عبر مسار جنيف التفاوضي”.

الرايات السوداء تبحث عن حلة جديدة

الرايات السوداء تبحث عن حلة جديدة

بعد سيطرتها على كبريات المدن العراقية والسورية، تتهاوى دولة الخلافة الآن على الأراضي السورية، لتحدد الساعات القليلة القادمة موعد النهاية المنتظرة للتنظيم في آخر معاقله في منطقة “وادي الفرات”.

وفي جحيم المعارك الأخيرة، اختفى المئات من مقاتلي التنظيم بين قوافل المدنيين الفارين، رافضين لقبول فكرة انهيار خلافتهم، متربصين بأية فرصة للثأر والانتقام، فقبل أيام شهد مخيم الهول في ريف الحسكة مقتل ثلاثين شخصاً بعملية انتقامية من العناصر الهاربة. إذ قبضت القوات الأمنية الكردية المعروفة “بالأسايش” على خلايا نائمة لداعش دخلوا لمخيم الهول ملاذ المدنيين الفارين من معارك الباغوز في ريف ديرالزور متنكرين بهيئة نساء، مخفين وجوههم بالنقاب، وارتكبوا المجزرة قبل أن يدفنوا الجثث تحت خيامهم.

ويتحضر مسلحو داعش لإعدام ٦٠٠ رهينة إيزيدية مختطفة لديهم منذ الثالث من آب/اغسطس 2014، بعد أن أعدموا 50 مختطفة منهم مؤخراً، ونفذت هذه العملية الوحشية على ثلاث مراحل في أماكن مختلفة في بلدة الباغوز، انتقاماً لمقتل قياديين بارزين من التنظيم مع عائلاتهم في قصف جوي لطائرات التحالف على المدينة.

ويبرز هنا سؤال كنت قد طرحتهُ قبل أربع سنوات على كارون روز وهو دبلوماسي بريطاني رفيع المستوى، “هل يمكن أن ينتهي شبح داعش ويتبدد دون رجعة، أم أنه سيعاد الى القمقم ليستحضر بنسخة جديدة؟”.

وكان روز قد علق على سيناريو انتهاء داعش خلال زيارته لمدن وبلدات كردية في شمال وشرق سورية صيف 2015 مشيراً إلى أنه: “من الصعب التكهن بكيفية انتهاء داعش ومتى، كونه ظهر ووصل لمرحلة متقدمة من القوة في فترة وجيزة؛ فالقضاء عليه يتطلب جهداً أكبر ووقتاً أطول، وحسب متابعتي الشخصية لمجريات الأحداث أستبعد القضاء عليه نهائياً؛ فمستقبلاً سيناريو داعش سيتكرر باسم جديد وعلى جغرافية جديدة”.

وفقدت داعش 99 % من الأراضي عبر حدود خلافتها المزعومة، التي أعلنها البغدادي في العراق وسوريا عام 2014.

وانهارت أحلام التنظيم المتشدد بإنشاء دولة حين قضي عليه في الموصل بالعراق في تموز/يوليو 2017، وطرد في مرحلة تالية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من منطقة الرقة السورية التي كان قد أعلنها عاصمة لخلافته. وانسحب عناصر داعش بعد الهزائم الكبيرة التي مُني بها إلى المناطق الصحراوية في سوريا، ويكاد لا يبقى لهم أية مكاسب إقليمية.

وفي الوقت الذي سحب فيه داعش البساط من تنظيم “القاعدة” منذ 2014 في مدن كالرقة والموصل، نشهد أخيراً معاودة تنظيمات تابعة للقاعدة استحواذها على مدن كإدلب، أو دول أخرى مثل اليمن، فيما يتجه داعش نحو احتلال جبال تورا بورا معقل أسامة بن لادن، من أجل وضع لوائه فيها وإثبات قوة وجوده.

فمن اللافت أن يظهر عناصر من تنظيم “حراس الدين” -المتمركز فيجبال غرب إدلب وجبل باريشا ومدينة سرمين السورية- في عدد من المحافظات العراقية كصلاح الدين والأنبار ونينوى وكركوك وخانقين، وقضاء الشرقاط. وتأسس الفصيل الجهادي البالغ قوامه ١٨ ألف مقاتل في أواخر فبراير/شباط الماضي، وبايع تنظيم القاعدة معلناً ولاءه لأيمن الظواهري، لينضم إليه لاحقاً العديد من قيادات “تحرير الشام”، أما أول عملية نفذها بمفرده فكانت ضد قوات الحكومة السورية شمال محافظة حماه.

في الوقت الذي سعى فيه العديد من مقاتلي داعش للانتقال خارج سوريا إلى صحراء العراق بالقرب من منطقة الأنبار، وكجزء أبعد من استراتيجية التنظيم، يظهر الاهتمام في إيجاد مناطق نفوذ جديدة مثل ليبيا وأفغانستان وحتى الصومال ودول أخرى، الأمر الذي يلقي الضوء على ضرورة اجتثاث الفكر الآيديولوجي المتطرف كالذي ينشره “داعش” لتعطيل قدرته على التغلغل إلى المتعاطفين ومن لديهم قابلية للتطرف والأدلجة.

يصف الخبير في شؤون الحركات الإسلامية والإرهاب منير أديب انقراضتنظيم متطرف كداعش “بالأمر الشديد الصعوبة، لأن ذلك يستلزم استسلام هذه التنظيمات وإعلانها الخسارة، وهو أمر ترفضه غالبية هذه التنظيمات التي تستعيض عن ذلك بالركون، حتى تحصل على فرص تمكنها من النهوض من جديد” بحسب قوله.

وفي ظل السياسات غير الجدية في التعامل مع التنظيم المتطرف، يؤكد أديب على “حتمية العودة لداعش”، مشيراً إلى أننا الآن نشهد إعادة إنتاج جديد للتنظيم بتكتيك مختلف، وباسم مختلف أيضاً.

ومع غياب تصورات المواجهة للأفكار المتطرفة التي خلفها التنظيم، لا يعني تحرير الموصل والرقة بالضرورة نهاية التنظيم، فالخشية أن يكون السياق السياسي والأمني -الذي أحيا التطرف وسيّده على مناطق شاسعة- لا يزال قائماً في العراق وسورية والمنطقة بشكل عام. ولهذا فإن الانحسار الجغرافي للتنظيم، ربما يقابله تمدد أيديولوجي لرايات سود تبحث عن وسائل تنظيمية جديدة لتظهر مجدداً في مناطق تشهد صراعات سواء كانت في الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا أو في غرب أفريقيا أو في أوروبا من خلال استراتيجية (الذئاب المنفردة) والخلايا النائمة.

رسائل الأسد الى خامنئي

رسائل الأسد الى خامنئي

حملت الزيارة العلنية الأولى للرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران أكثر من «رسالة»، خصوصاً أنها جاءت بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الإبقاء على جزء من قوات بلاده شرق سوريا وتشكيل «قوات سلام» أوروبية – أميركية و«منطقة أمنية»، وعشية زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى موسكو لاستعادة التنسيق العسكري في الأجواء السورية بعد تشغيل «إس 300»، في وقت تكثف فيه القصف على ريف إدلب، إضافة إلى تزامن الزيارة، وهي الأولى منذ 8 سنوات، مع تصعيد العمل لتشكيل اللجنة الدستورية وتراجع الحديث عن «التطبيع العربي» مع دمشق. ويمكن الإشارة إلى «الرسائل السبع» التالية:

1- عتب روسي: بحسب المعلومات، أعربت موسكو عن عدم ارتياحها لانتقادات الأسد في خطابه الأخير «مسار آستانة – سوتشي» لتشكيل اللجنة الدستورية؛ إذ إنه قال الأسبوع الماضي إن حكومته لن تساوم على دستور البلاد مع المعارضة المدعومة من تركيا، منتقداً عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة و«عملية سوتشي» لإجراء إصلاح دستوري. وقال الأسد: «الدستور هو مصير البلد، وبالتالي هو غير خاضع لأي مساومات أو مجاملات، وأي تهاون فيه قد يكون ثمنه أكبر من ثمن الحرب نفسها». ووصف مسؤولي المعارضة الذين تم اختيارهم للجنة الدستورية بأنهم «عملاء» تركيا التي تدعم فصائل المعارضة.

كانت روسيا قادت مع تركيا وإيران «عملية آستانة» واستضافت مؤتمر الحوار السوري في سوتشي في بداية العام الماضي لتشكيل لجنة من الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني لإجراء إصلاح دستوري.

وردت موسكو، بحسب معلومات، على خطاب الرئيس الأسد، بأنها كثفت الاتصالات مع الأمم المتحدة للوصول إلى تفاهمات حول تعديل 6 أسماء في القائمة الثالثة التي توافقت عليها روسيا وتركيا وإيران.

من جهته، أطلع الرئيس حسن روحاني الأسد على نتائج القمة الروسية – التركية – الإيرانية، خصوصاً ما يتعلق بـ«وحدة سوريا، وخروج القوات الأجنبية غير الشرعية» ما يعني استثناء روسيا وميليشيات إيران، بحسب تفسير طهران.

2- إرضاء إيران: أبطأت طهران قبل 3 أشهر من تزويد دمشق بمشتقات النفط والمواد الغذائية للضغط على الحكومة السورية لتوقيع «اتفاق طويل الأمد» بين الطرفين، وهذا ما حدث خلال زيارة نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغیري إلى دمشق الأسبوع الماضي. وأعطت الاتفاقات امتيازات لها علاقة بالإعمار والمشروعات الاقتصادية، مما كان بمثابة رد على الضغوطات الروسية التي ظهرت في السنة الأخيرة للحصول على امتيازات استثمار الفوسفات والغاز والاتفاقات العسكرية. وأبلغ روحاني نظيره السوري بأهمية «إعطاء أولوية» لإيران في الإعمار.

3- التطبيع العربي: بدأت دول عربية في نهاية العام إعادة فتح سفاراتها في دمشق، وجرى الحديث عن «عودة الدور العربي إلى سوريا لمواجهة الدورين الإيراني والتركي»، لكن مسيرة التطبيع تجمدت وجرى تأجيل قرار عودة دمشق إلى الجامعة إلى ما بعد القمة العربية في تونس نهاية مارس (آذار) الحالي. ولا تخرج زيارة الأسد إلى طهران عن أنها رسالة للتمسك بـ«علاقة استراتيجية» مع طهران ضد جهود إخراج إيران من سوريا أو إبعاد دمشق عن طهران.

4- الوجود الأميركي: مرة ثانية، قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب نصائح حلفائه بإبقاء 200 جندي شرق الفرات، و200 جندي في قاعدة التنف. وطلب من دول أوروبية مساهمة عسكرية تصل إلى ألفي جندي لتشكيل «قوات سلام» وتثبيت الاستقرار شرق الفرات. ويعتقد مسؤولون أميركيون أن هدف واشنطن هو منع ظهور «داعش» وإضعاف نفوذ إيران. ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا) عن المرشد الإيراني علي خامنئي قوله للأسد إن «محاولات أميركا الرامیة إلى الوجود على الحدود العراقية – السورية نموذج آخر من المؤامرات»؛ مؤكداً أن «إيران وسوريا تشكلان العمق الاستراتيجي كلتيهما للأخرى»، فيما قال الأسد: «الأكراد والعشائر لديهم علاقات جيدة مع الحكومة، حتى إن بعض الجماعات التي سبق أن كانت معارضة للحكومة واشتبكت معها، أصبحت تؤيد الحكومة وتخالف الرؤية الأميركية». ويتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تنسيقاً روسياً – إيرانياً مع العشائر لإضعاف حلفاء واشنطن.

5- المنطقة الأمنية: نقلت «إرنا» عن خامنئي قوله إن «انتصار محور» دمشق – طهران دفع أميركا إلى «حبك مؤامرات جديدة»؛ معرجاً في هذا الخصوص على قضية المنطقة العازلة التي يحاول الأميركيون تطبيقها في سوريا، وأنه «أكد أنه ينبغي التصدي بحزم لهذه المؤامرات الخطرة».

ويتفاوض مسؤولون أميركيون وأتراك لإقامة «منطقة أمنية» بين جرابلس على نهر الفرات وفش خابور على نهر دجلة شمال شرقي سوريا، بحيث تكون بعمق بين 28 و32 كيلومترا وتنتشر فيها قوات دولية، لكن موسكو اقترحت تفعيل «اتفاق أضنة» بين دمشق وأنقرة، الأمر الذي تدعمه طهران. لكن تركيا ترفض القيام باتصالات سياسية مع دمشق مع موافقتها على اتصالات أمنية لمحاربة «حزب العمال الكردستاني» بعمق 5 كيلومترات. وهناك من يسعى إلى استعادة تنسيق إيراني – سوري – تركي ضد قيام «كيان كردي» كما حصل بين الدول الثلاث ضد كردستان العراق نهاية التسعينات.

6- مثلث الشمال: لا تزال دمشق تضغط عسكرياً للقيام بعمل عسكري في ريف إدلب بدعم من إيران لـ«جر روسيا إلى هذا الخيار»، لكن موسكو تلتزم إلى الآن الاتفاق مع تركيا لخفض التصعيد في «مثلث الشمال». وإذ عزز الجيش التركي نقاطه هناك بعدما حصل على تمديد من روسيا لخفض التصعيد، كثفت قوات الحكومة السورية قصفها على مدينتي خان شيخون ومعرة النعمان على الطريق الرئيسية بين حماة وحلب. ويعتقد أن إيران تدعم دمشق في ذلك للضغط على تركيا كي تبتعد عن «المشروع الأميركي» شمال شرقي سوريا.

7- خريطة مواقع إيران: بحسب مصادر إعلامية، أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو أول من أمس بـ«خريطة مواقع إيرانية» في سوريا، وأنه طلب التنسيق العسكري لدى بدء روسيا تشغيل منظومة «إس 300» الجديدة في سوريا. واستهدفت الزيارة أيضاً طي صفحة التوتر بين موسكو وتل أبيب بعد إسقاطها طائرة روسية غرب سوريا في سبتمبر (أيلول) الماضي. واستهدفت زيارة الأسد التنسيق العسكري المضاد بعدما تعرضت مواقع إيرانية لغارات إسرائيلية عدة وسط صمت روسي.

لا شك في أن حضور قائد «فيلق القدس» قاسم سليمان لقاءي الأسد مع خامنئي وروحاني مؤشر على حضور الجانب العسكري – الأمني، وزيادة التنسيق بينهما إزاء الوجود الأميركي و«المنطقة الأمنية» وإدلب والغارات الإسرائيلية، وغياب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف دليل على تراجع أهمية البعد السياسي المتعلق بمسار اللجنة الدستورية والعملية السياسية… أي تأجيل البحث السياسي إلى «ما بعد الحسم العسكري وخروج القوات الأجنبية»… عدا روسيا وإيران.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

بين تهديدات أردوغان وتغريدات ترمب.. ماذا ينتظر أكراد سوريا؟

بين تهديدات أردوغان وتغريدات ترمب.. ماذا ينتظر أكراد سوريا؟

“مع كل تغريدة للرئيس الأميركي، دونالد ترمب، نوضب أغراضنا الشخصية في حقائبنا، لكننا لا نعرف إلى أين سنمضي؟”. يقول أحد أكراد سوريا المقيمين شمال شرق سوريا، و التي تتمتع بشبه حكمٍ ذاتي منذ أكثر من ست سنوات، تعليقاً على تهديدات أنقرة المستمرة ومواقف واشنطن المحيرة التي ترد فيها على الأولى.

وتغير تغريدات الرئيس الأميركي المزاج العام للسكان الأكراد وغيرهم في تلك المناطق، فإذا كانت التغريدة لصالحهم، تعود الحقائب لأماكنها، وإن لم تكن كذلك، فالحقائب في متناول اليدّ دوماً، خشية من موجةِ نزوحٍ أو لجوءٍ مُحتمل قد يخلّفه الهجوم البرّي التركي المقرر شنّه في وقتٍ غير محدد.

ويرى العديد من سكان هذه المنطقة في وجود القواعد العسكرية الأمريكية، والتي يبلغ عددها 21 قاعدة في مناطق أكراد سوريا، عاملاً إضافياً لاستقرار المنطقة وحمايتها من التهديدات التركية المستمرة باجتياحها برّاً، ويربطون ذلك بمصالح واشنطن على الأرض في أغنى المناطق السورية التي تشكل نحو 52% من ثروات البلاد الطبيعية كالغاز والنفط والزراعة. ويعتقد العديد أن أمريكا لن تتخلى عن المنطقة بالرغم من إعلانها عن سحب قواتها العسكرية من المنطقة في الوقت الذي مازال فيه الأكراد وحلفاؤهم المحليون في قوات “سوريا الديمقراطية”، يحاربون تنظيم “داعش” في آخر جيوبه الصغيرة بالقرب من الحدود السورية ـ العراقية.

ولا يقتصر القلق من هذا الانسحاب على الأهالي فحسب، فالجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية الّذي يمثّله “مجلس سوريا الديمقراطية”، كثّف جهوده الدبلوماسية منذ اللحظات الأولى للإعلان، ووصل وفده العاصمة الفرنسية باريس بعد أيامٍ لكسبِ حليفٍ جديد، واستقبلتهم فرنسا في قصر الإليزيه مؤكدة دعمها لـ”سوريا الديمقراطية” في حربها ضد “داعش”.

وبالإضافة لكسب حليف جديد، هدفت هذه الزيارة الدبلوماسية لمجلس سوريا الديمقراطية لمنع تكرار تجربة مدينة عفرين الّتي سيطرت عليها أنقرة بالتعاون مع فصائل من المعارضة السورية المسلحة في آذار/مارس الماضي. إذ نجم عن سيطرة أنقرة ومواليها على عفرين فرار أكثر من نصف السكان لخارجها، بالإضافة لعملياتٍ تطهير عرقي وديموغرافي لا تزال مستمرة في هذه المنطقة.
ولهذا يخشى المسؤلون الأكراد من الاجتياح التركي لمناطق نفوذهم شرق نهر الفرات، وغربه بمدينة منبج التي ترفض أنقرة وجود مقاتلين أكرادٍ فيها. وبالإضافة لفرنسا ، وصلت وفود أخرى من “مجلس سوريا الديمقراطية” إلى قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري، ومن ثم مضوا نحو موسكو وواشنطن أيضاً.

ويحاول مجلس سوريا الديمقراطية من خلال جوالاته ومباحثاته الديبلوماسية هذه، المحافظة على حالة الاستقرار التي تتمتع بها مناطقه والتي يقطنها ملايين السكان وآلاف النازحين، ولهذا فاوضوا النظام السوري عبر “خارطة طريق كُردية” قدّمها المجلس لموسكو بغية إقناع النظام السوري بشروطه، والتي تتمثل بالاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية وضمان حقوق مختلف السكان وفي مقدمتهم الأكراد، مع إمكانية ضم مقاتلي “سوريا الديمقراطية” للجيش السوري في المستقبل.

لكن في الوقت ذاته، يؤكد مسؤولون أكراد أنه لا يمكن للنظام أن يعود إلى مناطقهم بالشكل الّذي كان عليه قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية في البلاد منتصف آذار/مارس من العام 2011.

وبالرغم من ترحيب وزارة الخارجية السورية بالمفاوضات مع الأكراد، إلا أن الملف مجمد ولم يشهد أي تقدم للآن، فالنظام يحاول تجريد مجلس سوريا الديمقراطية من صلاحياته وضمه إلى صفوفه على غرار عمليات المصالحة الوطنية التي عمل عليها في مناطق للمعارضة المسلّحة بالقرب من دمشق، الأمر الّذي يرفضه الأكراد، حتى لو كلفهم ذلك صراعاً طويلاً مع تنظيم “داعش” وأنقرة معاً بحسب تصريحات بعض مسؤوليهم.

وبالرغم من معارضة بعض الكيانات الكردية للتفاوض مع النظام فإن تفاوض سوريا الديمقراطية مع دمشق يعد “إنجازاً كُردياً” كما وصفه بعض المسؤولين، سيما وأن النظام حتى الأمس القريب، لم يكن يقرّ بوجود الأكراد على الأراضي السورية أبداً.

من جهة ثانية ، يبدو أن مختلف فصائل المعارضة السورية تقف مع أنقرة ضد أكراد سوريا، وهو ما يبدو واضحاً في بيانات الهيئة العليا للتفاوض وكذلك في بيانات الائتلاف السوري المعارض و”الجيش الوطني” الّذي تدعمه أنقرة. الأمر الّذي لا يترك خياراتٍ كثيرة أمام الأكراد، فإما سيناريو عفرين أو الوصول مع النظام لحلولٍ تجبنهم الدخول التركي، حتى لو كلّفهم ذلك خسارة سياسية معنوية وكذلك فعلية لمكتسباتهم.

ولا يمكن تصنيف المجلس أو الإدارة كمعارضة أو موالاة، فموقفهما من النظام  واضح وعلني، وكان الرئيس المشترك الحالي لمجلس سوريا الديمقراطية، رياض درار، معتقلاً لسنوات نتيجة معارضته للنظام.

وبهذا يبدو أن أمام مناطق أكراد سوريا حلّان لا ثالث لهما، عودة النظام وأعلامه وراياته لمناطقهم بشكلٍ رمزي خاصة على الحدود مع تركيا، وذلك بالتنسيق مع الجانب الروسي، لحمايتها من تهديدات تركيا، أو بقاء الأمريكيين في هذه المنطقة إلى أجلٍ غير مُسمى.

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

حين استسلم الحزب “الشيوعي السوري” لامتيازات “الجبهة الوطنية التقدمية” التي أنشأها الرئيس حافظ أسد في 7 مارس/ آذار 1972، بقيادة حزب البعث وتشجيع من القيادة السوفيتية آنذاك، كان رياض الترك يعدّ للانشقاق الأول في تاريخ الحزب، ليقوده بعد شهر من ذلك رافضاً التحالف مع النظام.

وبهذا أعلن الترك خروجاً عن طاعة الكرملين، تنظيمياً وبرنامجياً، مؤكداً على التيمة الرئيسية لموضوعات الخلاف التي أثيرت في المؤتمر الثالث للحزب 1969، والقائمة على متلازمة الديمقراطية والمسألة القومية وخفض سقف التبعية للكرملين، وهي القضايا التي سبق سماع أصدائها في بعض أروقة الأحزاب الشيوعية الأوربية، بُعيد ربيع براغ.

لم يتأخر رياض الترك بعقد المؤتمر الرابع للحزب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث حافظ فيه على اسم الحزب الشيوعي مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي”، تعبيراً عن شرعية تمثيله أغلبية أعضاء المكتب السياسي بهذا الانشقاق، إضافة لشرعية انتخابه أميناً عاما للحزب القديم/ الجديد.

وقد شكلت هذه التجربة، حالة نضالية فارقة في مسيرة اليسار السوري عموماً،تميزت بالراديكالية والكفاحية العالية في مواجهة النظام، وبشكل خاص بعد التدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن هذه الراديكالية لم تحمِ الحزب الشيوعي- المكتب السياسي من الهزات القادمة، بل ربما بسببها، خرجت مجموعة يوسف نمر وصبحي أنطون من المكتب السياسي للحزب قبيل المؤتمر الخامس عام 1978، ليشكلوا منظمة باسم “اتحاد الشيوعيين”.

بالتوازي مع ذلك، كان الترك يطور هوية الحزب الفكرية والأيديولوجية مبتعداً عن الماركسية اللينينية، باتجاه تكريس خطاب شعبوي عروبي وإسلامي، انعكس بالضرورة على خطه السياسي، وعلى تحالفاته في تلك الفترة. وبدأت تتضح ملامح هذا الخط السياسية تدريجياً، منذ أن اكتفى الحزب بإدانة النظام في تعليقه على مجزرة مدرسة المدفعية في حلب حزيران/ يونيو 1979، باعتبار أن “رد فعل الإخوان العنيف، إنما هو بسبب قمع واستبداد النظام”، رافضاً بذلك توجيه أية إدانة لجماعة الإخوان، في سياق العنف المتبادل بينها وبين النظام على أساس الانقسامات العمودية والطائفية في المجتمع، وصولاً إلى مطالبة اللجنة المركزية لحزبه، في رسالة داخلية بتاريخ حزيران/ يونيو 1980، بتشكيل “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”.

مقابل هذا الإصرار على التحالف مع الإسلاميين، أبدى الترك تشنجاً ورفضاً قاطعاً للتحالف أو التنسيق مع رابطة العمل الشيوعي في تلك الفترة، رغم أنها الأقرب إليه بالمعنى الراديكالي والنضالي والاستعداد للتضحية، وبالمعنى السياسي أيضاً في موقفهما الرافض للتدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية. حدا هذا الموقف بالرابطة لتقديم تقريظ عالي للمكتب السياسي ضمن كراس “جدل بناء الحزب الشيوعي الثوري في الساحة السورية” 1977، اعتبرت فيه أن المكتب السياسي هو الفصيل الأقرب إليها سياسياً وبرنامجياً، مشيرة إلى حديث عن مبادرة للانضمام كأفراد فقط إلى “المكتب السياسي”، لكن قيادة “المكتب” رفضت المبادرة، وأوقفت الحوار دون أي تعليل، مكتفية ببث اتهامات سيئة في كواليس العمل السياسي، لا تتعلق بالتحليل المادي والتاريخي للواقع والسياسة.

رغم هذا، سحب المكتب السياسي الفيتو على أي تعاون أو تنسيق مع رابطة العمل، إلى مطبخ المعارضة السورية، والتي كانت بصدد تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1979، حيث أصرّ رياض الترك على إقصاء الرابطة من التجمع، وفرض رأيه بقوة التعنت الديمقراطي على فرقاء التجمع الآخرين، كما أكدت عدّة حوارات لاحقة في “سجن صيدنايا العسكري”، مع أشخاص قياديين ساهموا مباشرة في تلك النقاشات التي أفضت إلى تأسيس التجمع.

انتظر المكتب السياسي طويلاً خروج كوادره، ومن ثم الأمين العام من السجن في أيار/ مايو 1998، ليبدأ التحضير لانعقاد المؤتمر السادس للحزب في نيسان/ إبريل 2005، وفجر هذا المؤتمر مفاجأة في أوساط اليسار السوري تحديداً، حيث تخلى الحزب عن تسميته الشيوعية ليصبح “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، وتخلى رياض الترك عن الأمانة العامة للحزب لينتخب عبد الله هوشي أميناً عاماً له، تزامن هذا مع خروج مجموعة جديدة من صفوفه بقيادة محمد سيد رصاص وجون نسطه، حافظت بدورها على مسمى “الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي”.

جاءت مع ذلك ولادة “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، والذي لقي ترحيباً من أغلبية قوى المعارضة السورية والشخصيات الوطنية، كما رحبت به قيادة الأخوان المسلمين.

إلا أن رياض الترك، وبعكس نتائج المؤتمر، بدأ يعمل على تعطيل دور القيادة الجديدة وأغلب المؤسسات، من خلال الهيمنة على اللجنة المركزية للحزب، مما دفع الأمين الأول المنتخب عبد الله هوشة لتقديم استقالته بعد أشهر على انتخابه، وهو الذي سبق له قيادة العمل السري للحزب و”التجمع الوطني الديمقراطي” لعشرين سنة حين غيبت السجون رفاقه، كما كان لهوشة دور مهم في الإعداد للمؤتمر السادس للحزب الذي صنع التحول باتجاه “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، لكنه”لم يستطع التكيف مع بقايا العقلية الستالينية في الحزب، فاستقال من الأمانة ومن اللجنة المركزية” على حدّ تعبير رفيقه في التجربة عبد الله تركماني، في نعوته للرفيق عبد الله هوشه، الذي وافته المنية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2018.

أعتقد أن سنوات الاعتقال المديد لرياض الترك ولفيف من رفاقه، حولته إلى إحدى أهم أيقونات المعارضة السورية، التي كان يمكن أن تبني خطاً يسارياً وطنياً للحراك الثوري الذي اندلع في آذار 2011، لكنه فشل في الاستجابة لحراك السوريين العفوي في تلك اللحظة، وخاض حرب إشاعات ضد “لجان التنسيق المحلية”،وكان قد تخلى عن “التجمع الوطني الديمقراطي” ليتركه في هشاشة “هيئة التنسيق الوطني”، ذاهباً بإعلان دمشق إلى خياره الأول للتحالف مع الإسلاميين، عبر تشكيل “المجلس الوطني السوري” في اسطنبول صيف 2011.

وبهذا قاد معه “إعلان دمشق” إلى ذات الفشل الكارثي، مما اضطر كوادر “الحزب” وقيادات “إعلان دمشق” لتدارس مأزق عجزها التاريخي عن بلورة آليات عمل ديمقراطية، وطبيعة تحالفاتها الكارثية، وهو ما بدأ يظهر للعلن مع تشكيل “قيادة مؤقتة” منذ عام 2014، طالبت بإسقاط الشرعية عن قيادة أو هيمنة رياض الترك، وحملته كامل المسؤولية عن سنوات الثورة العجاف.

لكن القائد -الذي لا يقبل النقد- سارع إلى معاقبة “الخراف الضالة في حزبه”، بأوامر التنبيه والإنذار، وتعليق العضوية وإسقاطها عن بعضهم، متهماً إياهم بالتآمر و”التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”، ولم ينس الترك أن يستعير من النظام -الذي أمضى حياته في مقارعته- الإشارة إلى تورط أطراف خارجية تدّعي تمثيلها للثورة.

إثر ذلك ذهبت “القيادة المؤقتة” إلى “لجنة التحكيم الوطنية” للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، باعتبارها صاحبة الاختصاص للفصل في المنازعات الحزبية، وفقاً للنظام الداخلي، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها.

لكن القيادة التاريخية استعارت ثانية من نظام البعث مبرراً لكل تجاوزاتها للنظام الداخلي/ الدستور، بحالة الطوارئ، وفق المادة 59 من النظام الداخلي، حتى أنها فرضت إجراءاتٍ عقابية بحق “لجنة التحكيم الوطنية” نفسها، المنتخبة من قبل المؤتمر.

يكاد الحزب الآن أن يتشظى، فيما لازال يُصر رياض الترك على شرعيته البائدة، منكراً كل ما يوجه له من اتهامات، وفي أول حوار له مع صحيفة “القدس العربي:3/9/2018″ بعيد وصوله إلى فرنسا، يتنصل الترك من العسكرة والأسلمة التي حصلت في الثورة السورية بقوله:”نحن من جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشق لم ننخرط في أي عمل مسلح، ولم نرتبط بأي جهة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية”!

هل نسي رياض الترك أن جورج صبرا هو الذي ردّد في لحظة انتخابه “رئيسا للمجلس الوطني السوري” مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012: “نريد سلاحاً نريد سلاحاً نريد سلاحاً”! وأنه في لحظة انسحاب “لجان التنسيق المحلية” من المجلس الوطني رفضاً لسيطرة الإخوان المسلمين، كان صبرا يُصرح بأن المجلس يضم أهم مكونات المعارضة السورية للنظام؟

بالتأكيد لم يكن جورج صبرا في يوم ما قاذف آر بي جي في “جبهة النصرة”، لكنه هو الذي دافع عن “جبهة النصرة” وعن سلاح النصرة، باعتباره “جهداً عسكرياً كبيراً في دعم مسيرة الثورة لإسقاط النظام والدفاع عن السوريين”.

وهل نسي رياض الترك أن صبرا مُنح الجنسية التركية لعلمانيته؟ وهل سمع بأن صبرا ما زال يراهن باسم “حزب الشعب” و”إعلان دمشق” على “المجلس الإسلامي السوري” لمهمّة إعادة إحياء “الوطنية السورية”، وأن يكونوا “المظلة التي تُنبت القيادة السورية الجديدة”؟

أليس هذا الصوت رجع الصدى لما حاكه رياض الترك سنيناً طويلة؟

أليس مفاجئاً أن يتابع الترك حملته على “لجان التنسيق المحلية” وأيقونتها رزان زيتونة، بمغالطات كالحديث عن حضور مؤتمر “أنطاليا”؟ فيما كان هو يشرف على دور ممثليه من “إعلان دمشق” في هذا المؤتمر، أنس العبدة وعبد الرزاق عيد؟

يبدو أن علينا الاعتراف ولو متأخرين، بأن الكفاحية العالية والنضالية التي تميزت بها بعض تجارب اليسار، كانت عقيمة بكل أسف، لأنها لم تقترن بالديمقراطية في مستوى التعامل مع أعضائها كأفراد ومنظمات أيضاً، أو فيما بينها كقوى سياسية، مما يفسر جزءاً من أسباب تصدعات هذه التجارب وانقساماتها المتكررة، وعجزها عن مواكبة زخم الحراك الثوري الذي اجتاح سوريا.

التكسي كرسيُ الحكايات المتنقل ومرآة الواقع

التكسي كرسيُ الحكايات المتنقل ومرآة الواقع

حواجزٌ اسمنتية وأخرى حديدية تبتلع ثلاثة أرباع الشارع فيما يشغل عسكري جزءاً من الربع الأخير وهو يؤدي واجب التفييش وعرقلة حركة السير، على مد النظر تنتشر باصاتٌ ضخمة تحمّل أتلالاً من الأفراد، وبأعدادٍ كبيرة تثير تعليقاً متذمراً بين منتظري وسائل النقل العامة: ” من أين تخرج هذه الجموع وأغلب الشعب بين المهجر والشهيد؟”

يمكن لزاوية منعطف تحت جسر الرئيس أو جسر الثورة أن تُجسد مشهد المأساة اليومية، كما لو أنّها لوحة تحمل وجوهاً معلّقة في الفراغ، بملامح ونظرات واحدة، وحركات جسد متأهبة للتدافع والركل عند قدوم وسيلة النقل.

وفي ظل سنوات الحرب المحقونة بضجيجها طفت في الطرقات سُلطة جديدة، تضاف إلى قائمة السُلطات الكثيرة في البلد، مثلتها سُلطة السرفيس والتكسي.

فالكثيرون اليوم لجؤوا إلى مهنة سائقي التكسي، بعد أن قضمت أنياب الحرب العديد من المهن، وأفرزت نسباً كبيرة من العاطلين عن العمل، مما دفع خليطاً هائلاً من كافة شرائح المجتمع للالتفاف حول هذا المقود.

وتكفي القفزات التي شهدتها عدادات التكسي لأن تقتني تكسي جديدة، بسبب الزيادات التي تراكمت خلال السنوات الثمانية الماضية، ففيما كنت تستطيع الذهاب إلى سوق الحميدية أو منطقة الحريقة وتوابعها بـ (35) ل.س قبل الحرب، اليوم يترتب عليك أن تدفع مبلغاً يتراوح بين (600-700) ل.س للمشوار الواحد، إن سوّلت لك نفسك اتخاذ قرارٍ بركوب التكسي، فعملة اليوم لم تعد لها قيمة في هذه البقاع.

 في إحدى دوائر الدولة حيث الشعور باللاقيمة واللاعتبارية التي تقابل المراجعين هناك، قال لي أحدهم:” لقد خدمت في الدولة 20 عاماً كمهندس زراعي، وفي اللحظة التي طُلب مني فيها أن أخالف القانون بحفر آبار ارتوازية في دمشق، وذلك من قبل الأكبر مني نفوذاً، تخليت عن وظيفتي، واقتنيت سيارة أعيش فيها مرتاح البال، وأعود لبيتي لأنام نظيفاً” مضيفاً “صدقيني يا ابنتي، غيري سيفعلها، لقد عُرض علي مليونا ليرة سورية، الشام الآن في أحلك أيامها عطشاً والموافقة على هذه الآبار فيه ضرر كبير لها.” منهياً حديثنا بـقوله: “اتركي كل شيء خلفك، ولا تنتظري اصلاح الكون، نحن هنا محكومون، ولا خيار لنا إلا بيع أنفسنا اذا أردنا أن نبقى في هذه المؤسسات، وهذا ما دفعني لإدارة هذه المؤسسة (السيارة) كي أريح نفسي من كل قرفهم”.

ولكن في دمشق لا يمكن الاعتياد على هذه الوسيلة في تنقلاتك، وإن أجبرت على هذا الخيار فهناك خطوات عليك ترتيبها قبل رحلتك، أولها وجهة السائق، حيث تحددها لتتوافق مع وجهة السائق ثم أجرة الطريق والخلاف بينكما من حيث التسعيرة، حيث تعد المفاصلة أحد أهم الشروط المسبقة لعملية الركوب، إذ يمكن لبعض السائقين أن يرمي أسعاراً خيالية بين منطقتين تفصل بينهما بضعة أمتار لا أكثر. غالبية السائقين يتحكمون بالرُكاب في أوقات الذروة والازدحام المروري، حيث يجري ضمنياً اتفاق فيما بينهم على تسعيرة واحدة، ويجري تطبيق هذه المعاهدة دون أن يخل أحداً بشروطها. أكثر شواهدها حضوراً، اختزلته السنوات الأخيرة بمسمى “التكسي سرفيس” والتي أخذت على عاتقها تخفيف أزمة المواصلات ولكن بشروط السائقين، فجميعهم يمسكون بالخيط وإبرته، ويحيكون أسعار الطرقات وفقاً لمشيئتهم.

 يصطف سرب من السيارات المتوجهة إلى جرمانا عند حافة جسر الرئيس، في البداية جرى الاتفاق على 300 ليرة، أصبحت لاحقاً 400 لتنتهي بـ 500، يلحق هذه التسعيرات العديد من المبررات المتعلقة بارتفاع سعر مادة البنزين، وغلاء القطع، حتى أنّ البعض قد يضاعف التسعيرة إلى عشرة أضعاف. وباتت هذه الديباجة مكررة حتى حفظها معظم أفراد الشعب عن ظهر قلب وبات يرددها على مسمع السائقين، إلى أن حلت أزمة الوقود وتمت إزالة بعض الحواجز من الطرقات، عندها واجه بعض الركاب سائقيهم بأنه لم يعد مبرراً لهم إبقاء السعر المرتفع على حاله، إلا أنهم وجدوا تبريرات جديدة كرشوة شرطي المرور حيث يتطلب حفاظ التكسي على مهنته استخدام رشاويٍ يُسكت بها شرطة المرور، إلى جانب الكثير من الأمور التي تجعل الراكب المُحتاج للتوصيلة يصمت ويصعد معه وهو ممتن. و تستطيع هذه “التكسي سرفيس” أن تخبرك عن الكثير من أحوال من يصعد بقربك، فهي كمساحة أصغر من السرفيس أو الباص وقلة عدد الركاب تخلق جواً من الألفة، ورغبة بالشكوى والتحدث مطولاً.

يبدو الجميع محتاجين لمن يتحدثون إليه بعد أن فقدوا قدرتهم على كبت كل هذه المآسي التي لم تعد محتملة، الشعور بالوحدة يترافق مع إدارك بأن كل من حولك يعيش الحال ذاته، مما يساعد على تحطيم الكثير من الحواجز بين الناس، فالكارثة وحدّت الآمهم، وبات الجميع يشعرون بأن الحزن والغضب حالة معممة، لهذا لم يعد مهماً ما يتم التفوه به اتجاه كل هذه الخسائر.

نادراً ما كنت أصمت عند المشاركة بحديث يشمل الحال العام، ولكن في واحدة من المرات التي كانت فيها وجهتي جديدة عرطوز، تشاركت عندها التكسي مع ثلاثة اشخاص، أحدهم يجلس في المقعد الأمامي يحمل موبايله منهاراً وهو يصرخ: “كيف حصل ذلك؟ لقد قلتم لي بأنه قد تجاوز مرحلة الخطر” قبل أن ترتجف أصابعه ويسقط الموبايل من يده، يتفوه ببضعة كلمات:” لقد كنت في حماة لم يعطوني إجازة منذ سنتين، هربت من هناك لأزور ولدي المريض بالسرطان، يالله طفل لا يتجاوز عمره الخامسة يأكله السرطان؟ لقد استدنت من صديقي أجرة القدوم إلى دمشق وعبرت كل هذه المسافة فقط لأراه”.

يسمع سائق التكسي العديد من الحكايات كهذي التي شهدتها، ويُعيد العديد منها على مسامع ركاب سيارته ببعض المبالغة أيضاً، وبإحساس ودقة تبدو جلية في مرآة عينيه أحياناً أخرى.

سائق أنيق تملأ رائحة عطره السيارة، يشيح بوجهه بعيداً ويشارك قصصه الخاصة عن زوجته التي تركته مع ثلاثة أولاد. “لقد تزوجتْ قريبة أحد أصدقائي الذين تطوعوا في الدفاع الوطني، وكانت أكبر منه سناً، لا أعلم لما فعلت ذلك، كنت زوجاً صالحاً، ولتعلمي أنا أعمل في مديرية الشؤون الاجتماعية صباحاً وسائق تكسي بعد الظهر، ولكني رزقت بزوجة ثانية بعد سنة من هجرها لي الحمد لله، هي حنونة تعتني بأولادي، أكبرهم سنة أولى جامعة”.

وفي تكسي أخرى كان ردُّ السائق عند مفاصلتي له أبلغ من أية نقود كنت سأدفعها: “نحن تركنا بيوتنا وأراضينا وقدمنا إلى دمشق لا نحمل شيئاً إلا رائحة دورنا وأهالينا، كان لي معمل في عربين وفيه عمال كثيرون لا علم لي اليوم أين أراضيهم يا ابنتي، فلتهدأي أرجوك لأني لن أتقاضى منك إلا المبلغ الذي تأتين به عادة”.

بين كل القصص اليومية التي أسمعها والأحاديث التي أخوضها في تكاسي البلد، لن أنسى ذاك الحوار مع أحد السائقين الذي كان الأكثر أهمية بالنسبة لي لما يحمله من تناقضات الواقع وبشاعته.

صعدت التكسي بتوتر فشكل السائق بذقنه الطويلة وشعره الحليق أثار قلقي، وعند وصولنا إلى أول حاجز بدأ بالسرد: “البارحة عدتُ من دير الزور، عدت من ساحات المعركة إلى ساحات مشابهة لها، فنحن في معسكراتنا نواجه حرب البقاء، عندما يصمت صوت المدفعية يعلو صوتٌ من الداخل يخبرك كيف كتب لك البقاء وهناك من قاتل وناطح التلال والصحاري إلا أن الموت قد كان سباقاً إليهم، لماذا هم ولست أنا؟ ومن له الأحقية في البقاء؟ بالرغم من أنّ الغد سيكون شبيهاً باليوم، وستذهبين لتخوضين المعركة من جديد ويمكن للوقت أن يلحقك بهم بعد ساعات قليلة. هذه الساعات المسالمة هنا كانت أثقل من كل ساعات القتال الذي انتهت بسرعة قياسية مقارنة بالزمن الذي ستجلسين به لتعددين كل خسائرك التي رحلت قبل دقائق من الآن، خسائرك الماضية”. مضيفاً “المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت الفتاة التي كنت أرتاح لها كانت قبل اتصال العقيد المسؤول عني ليخبرني بأمر الالتحاق بقطعتي التي ستقاتل في دير الزور، كانت تتصل بي لتتلمس تعلقي بها، تطلب مني أن أطمأنها بكلمة عن مصير علاقتنا وعن تمسكي بها، عن طلبي منها بأن تنتظرني حتى الأبد… إلا أنها الآن متزوجة. فلقد أنهيت المحادثة بطلبي منها أن تكمل حياتها بشكل طبيعي وألا توقف حياتها عند شخص مجهول الطريق والإحداثيات، إن جاء أحدهم إليك راغباً فتزوجيه قلت لها وفعلت.”

في ساعات الذروة يفاصل أحد الركاب كالعادة السائق الصعود في سيارته فيرد عليه: “الطريق هو الحاكم”. يتشاركان حديثاً طويلاً يبدأ بأنّ هذه المهنة صعبة وخطرة لننتهي بأنه من دير الزور، وعندما يتلمس السائق حنيناً من الراكب يسأل “زرتها؟” ويدور الحديث التالي

نعم أثناء مواسم التنقيب الأثري هناك

الله يرحم، لم يعد هناك تنقيب ولا صخام

 الكون بجله اشترك بهذه الجريمة ولكن المهربين الحقيرين هم الأسوأ

يغضب ويدير رأسه نحوي قائلاً: “من هم الحقيرين؟ أتعلمين لو أنه يقع بين يدي تحفة لما توانيت ثانية عن بيعها.” أجيبه فوراً: “إنه تاريخ البلد وفيه هويتنا وتراثنا”. يردف قائلاً “عندك ولاد؟”  أجبته “لا،” فتابع قائلاً “عندما يطلب ابنك منك جاكيت أو حذاء ولا تملكين سعره ستلعنين أبو التاريخ وأبو البلد، أنا أمّي لكني أعي تماماً ما تقولينه ولكن أولادنا أهم من كل هذا، فكي عني (أي حلّي عني.)!”

في الأيام القليلة الماضية والتي عانينا فيها من موجة الصقيع والبرد صعدت فيها مع شابٍ في مقتبل العمر، يدور حديث بيننا عن المازوت والكهرباء والاتفاقات التي بقيت قائمة حتى مع الدول الأعداء في خصوصهما، يقول بحسرة: ” إني نادم أشد الندم كوني رفضت مرافقة أخي في الوقت الذي سافر فيه، الآن لا أفعل شيئاً سوى إيجاد طريقة هرب وبأسرع وقت ممكن، لو يمكنهم سرقة الهواء الذي نتنفسه لما قصروا ولكنه هواء ملوث طافح بالبشاعة لا يمكن لأحد شراءه.”

إضافة لحكايات الألفة ينعكس غياب الأمان والحوادث على علاقة السائقين بركابهم أيضاً، حيث شهدت السنوات الأخيرة تعرّض الكثير من سائقي التكسي للقتل والنهب، كما اختطف العديد من السائقين مع سياراتهم وتم قتلهم أو اعتقالهم،في الوقت نفسه ملأ الرعب  قلوب الراكبين بسبب جهلهم بمن يقود سيارتهم وقلقهم من خطورة الطرقات التي بات يسكنها الرعب والخوف، خوفٌ بات يسكن طرفي العلاقة شأنها شأن بلد كامل بات فيه الجميع يخشى من الجميع.