جولة في بيت جدي بمدينة إدلب

جولة في بيت جدي بمدينة إدلب

في إحدى حارات مدينة إدلب الضيقة، يختبئ متجر هيثم أبو راشد الذي سمّاه بـ”بيت جدي” ، الذي ما أن تدخله حتى تهرب من المزاج العام المثقل بهموم الحياة وتأمين القوت اليومي في مدينة يقبع غالبية أهلها تحت خط الفقر، إلى عبق الماضي والتراث السوري القديم.

يستعين أبو راشد بالموسيقا لتساعده في نقل رواد محله بعيداً عن الواقع، فتعلو أصوات الأغاني التراثية القديمة من مذياعه القديم دائماً، لتطرب زائري متجره من المدفوعين بالفضول لاستكشاف “الأنتيكا”، إضافة لأولئك المتشوقين لرؤية التحف القديمة والحنين للأيام كان يرون مثل تلك القطع في بيوت أجدادهم التي خسروها بسبب الحرب.

أما الراغبين بالشراء، فهم قلة فقط، ولا يكتف الزوار بالمشاهدة فقط، و انما يقوم أغلبهم بالتقاط الصور التذكارية للمقتنيات.

ينغمس  أبو راشد بالأحاديث مع  رواد محله وهو يشرح لهم عن القطع الموجودة، وفي حال خلو محله، يجلس بين رفوف تتوزع داخل محله وتضم صوانٍ نحاسية وخناجر مزخرفة تجاورها المسابح العاجية والتحف الخزفية، ليتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يتفحص مجموعات خاصة بجامعي التحف والمهتمين بـحفظ التراث السوري، والهدف الأول منها بحسب أبو راشد هو المحافظة على ما تلتهمه الحرب من تراثنا.

يتشارك جامعي التحف عبر تلك المجموعات صور مقتنياتهم ومعلوماتهم عنها، كما يبحثون من خلالها  عن قطع ناقصة من الأطقم النادرة، أو يعرضون قطعًا مميزة وقعت صدفة بيد أحدهم، أو ورثها عن اجداده دون معرفة قيمتها، فربما تكون القطعة الوحيدة التي نجت من بيت إحدى الجدات التي نزحت مع ذويها من مسقط راسها، بالإضافة إلى ذلك يتبادل بعضهم القطع التي تستهويهم، أما هدف أبو راشد من الانضمام لهذه المجموعات، فهو البحث عن قطع جديدة يضيفها إلى مجموعته، وخاصة القطع النادرة.

يقول أبو راشد لـ”صالون سوريا”: “رغم تخرجي من كلية الحقوق، لكني هجرت مهنة المحاماة مع بدء سنين الحرب، وحولت هوايتي في جمع القطع الأثرية لمهنة، وفتحت متجر بيت جدي لبيع الأنتيكا والقطع الأثرية في عام 2015، حيث بدأت بداية بالقطع التي ورثتها عن والدي، حتى أصبحت اليوم أمتلك حوالي 7000 قطعة مختلفة الأحجام، قمت بجمعها على مدار سنوات من العمل”.

وتتنوع القطع لدى أبو راشد من دلات القهوة العربية والصواني والفناجين النحاسية والرحى الحجرية التي كانت تستخدم في طحن الحبوب، إلى المهباج الذي كان يستخدم في صناعة القهوة العربية (القهوة المرة حيث يطحن البن والهال فيه)

بالإضافة إلى السبح والالبسة التراثية والشمعدانات والتحف الزجاجية والنحاسية وآلات الموسيقية، كبيانو قديم وعود وكمان، ومجموعة الأسلحة التقليدية المكونة من الخناجر والسيوف الدمشقية والبنادق اليدوية، ومدفع الهاون العثماني النحاسي الذي يفوق عمره قرنين من الزمن، وتعد المجموعة الأسلحة هي الأكثر شعبية بحسب قوله.

عن أسعار القطع يقول أبو راشد “لا يوجد لها ثمن محدد، فهي تخضع للعرض والطلب على السوق ،وهذا ما يؤثر  سلباً على تجارتي، لكني لا أكترث كثيراً بهذا الأمر، لأن هدفي من المتجر لا يقتصر على الربح المادي فقط، انما ايضاً للحفاظ على ميراث الأجداد ، وحماية االتراث السوري من الاندثار، ولا سيما إن سوريا هي بلد قدم الكثير للتراث الإنساني، فمنه خرجت أول أبجدية للعالم وحضارات تدمر وإبيلا وماري شاهدة على تراثنا الذي يجب المحافظة عليه”.

ويشير أبو راشد إلى أن زبائن متجره هم أيضاً من هواة ومحبي المقتنيات القديمة، وهم على دراية بقيمة التحف ولا يشترونها عن عبث، ولهذا فهم يدفعون فيها مبالغ مالية مناسبة.

القت الحرب بظلالها على مهنة أبو راشد كما فعلت بعموم البلاد، حيث منع تقطيع أوصال البلاد أبو راشد من التنقل بين المحافظات لجمع القطع الأثرية كما كان يفعل قبلاً، كما حرمت الحرب متجر أبو راشد من زيارة السياح الأجانب والمغتربين الذين يكونون عادة الزبائن الرئيسين لهذه التجارات.

خالد المحمود، أحد زبائن أبو راشد، يعرف عن نفسه بانه غاو لجمع القطع الأثرية، لذلك يأتي لمحل “بيت جدي” بشكل دوري للاطلاع على القطع الأثرية، يقول خالد “زيارة متجر أبو راشد هي معراج للذكريات والمشاعر التي فقدت جزءاً كبيراً منها بعد تهجيري من مدينة حمص لإدلب، وعندما تعرفت على هذا المتجر بالصدفة، أصبحت أزوره بشكل دوري رغم عدم قدرتي على شراء أي من القطع الموجودة، لكني آتي لرؤية القطع الجديدة وتصويرها وحفظها على مجلد خاص لدي خوفاً من فقدان تلك القطع وعدم قدرتي على رؤيتها مجدداً”.

ورغم صعوبة مهنة أبو راشد، واعتبار العديد من أهالي المنطقة لتجارته “بالرفاهية” التي لا يستطيع الكثير مجاراتها، والأعباء الاقتصادية التي يتحملها، إلا أن خيار ترك المهنة التي بدأها منذ سبع سنوات هو خيار غير مطروح بالنسبة له بسبب حبه للقطع الأثرية،  

سوريون يؤسسون متاحفهم الخاصة بعيداً عن ضجيج الحرب

سوريون يؤسسون متاحفهم الخاصة بعيداً عن ضجيج الحرب

في منطقة “ببيلا” الخارجة منذ سنوات قليلة من حرب قاسية، وبُعيد الشاخصة المرحبة بالقادمين توقنا أمام باب معدني كبير خلفه يقبع بناء من ثلاث طوابق، وبمجرد اقترابك منه ستشعر بالتأكيد أنك غادرت المكان والزمان، لا شيئ سيذكرك بأنك في العام 2022 إلا مشاهد الدمار التي تكشفها النوافذ.

هنا أسس خليل عبدالله متحفه الخاص، و جمع فيه مئات القطع القديمة التي تعكس تاريخ دمشق خاصة وسورية عامة، وبين القطع العديدة ستسمع حكايات أعراس ريف دمشق، ومجوهرات سيداتها، إضافة لمجالس رجال الحارة وسيوفهم القديمة وخناجرهم، ولا ننسى مصبات القهوة وسهرات المذياع وصناديق السمع، وأول الدرشات الهاتفية بهواتف “القرص”.

يخبرنا خليل بأنه بدأ بجمع التحف كهواية من أربعين سنة، ومع بداية الحرب في ببيلا قام بإخلاء البناء كاملاً، وبقيت التحف حوالي السبع سنوات في مكان آمن داخل العاصمة.

وعن بناء المتحف يوضح الرجل الستيني ”اشتريت قطعة أرض في ببيلا منذ سنوات عديدة، وقررت إنشاء بناء فيها أحوله إلى متحف، بعدما ضاق منزلي بالتحف العديدة التي أملكها“.

 يرفض عبدالله -الذي كان يعمل سابقاً بالشحن بين الدول العربية- بيع القطع التي يمتلكها خاصة وأنه حصل عليها بعد جولات عديدة في مختلف المحافظات السورية، كما اشترى الكثير منها من دول أوروبية، ودول عربية أيضاً.

نجح متحفه في استقطاب الكثير من الشخصيات الهامة ووسائل الاعلام، كما يستقبل عبدالله كل من يرغب بزيارة المكان بوجه بشوش، ولكنه يرفض أن يكون متحفه مأجور فهو يخاف على مقتنياته، ولا يمكنه ترك المكان مفتوحاً أمام أعداد كبيرة.

يقول عبد الله ”حتى اليوم لم أكتف من جمع المقتنيات ومازالت أسعى للمزيد، لكن صعوبة تأمين البنزين جعلت من العسير علي التنقل بين المحافظات، لكني لا أكف عن زيارة البيوت التي يود أصحابها بيع قطعهم القديمة، ومازالت قادراً على تميز القطع الأصلية، واكشفها بطرفة عين، وخاصة تلك المصنوعة من الصدف“، متأسفاً لغياب الحرفيين أصحاب الخبرة الذين سافر غالبيتهم بعد الحرب، كما يتأسف لجهل الكثيرين بما يملكون من إرث خلفته العائلة ما يجعلهم عرضة لاستغلال التجار.

في جولتنا بالمكان الذي يضم أكثر من ألف قطعة، عرفنا عبدالله على أنواع مختلفة من الأوبالين بتصاميم متنوعة، وأطلعنا على “المينة” الرائعة بألوانها المتعددة من خلال قطع فنية مختلفة منتشرة على رفوف المتحف تنوع بين صحون ومزهريات وسواهما، ومن داخل الصناديق يمكن التعرف على مختلف بلدان العالم من خلال طوابع وعملات ترجع لسنوات قديمة وحقب زمنية مختلفة، رتبها كلها في دفاتر خاصة، و مازال يعرف قصة كل عملة وكل طابع إضافة لتاريخ ومكان شرائها. 

لا يريد عبدلله من متحفه أي شيء، ”فهو بالنسبة لي مكان للراحة والسعادة أجلس فيه يومياً، أدخن نرجيلتي وأطمئن على سلامة محتويات المكان، وأُسعد أكثر حينما يشاركني أصدقاء العمر وأصدقاء أبنائي بزيارة المتحف، ونتبادل الأحاديث والقصص في ليال لا تشبه تعب ليال دمشقي بشيء“ بحسب قوله.

وفي قلب دمشق

 هذه الليالي ربما هي قريبة من الليالي التي ينظمها هيئم طباخة بشكل دوري في منزله العربي الكائن في حي القنوات داخل دمشق القديمة، هذا المنزل الذي جعله أشبه بالمتحف المتخصص بالتراث أيضاً.

 التجربة في منزل طباخة تختلف عن سابقتها، فهنا نحتاج للسير بين الأحياء القديمة والبيوت العتيقة كي نصل لمدخل المنزل، وبمجرد تجاوزنا العتبة سنجد نفسا أيضاً امام كمية كبيرة من القطع التراثية وأول ما يصادفنا هو “صندوق الدنيا” الذي كان وسيلة لتسلية الأولاد قبل زمن الموبايلات والشاشات، أمامه كانت تتزاحم رؤوس صغيرة لرؤية صور تروي حكاية بسيطة تمنحهم من المتعة ما كان يسعدهم لساعات في حينها.

 يعمل طباخة بالأصل بمجال الألبسة، وهو يملك محلات في المنطقة نفسها، تركها لأولاده وتفرغ لعشقه القديم المتمثل بجمع التحف والاعتناء بها، لهذا اشترى منزلا خاصاً وحوله لمتحف، تحول لنقطة علام في المنطقة ونجح في استقطاب من الشخصيات الثقافية والاقتصادية في البلد، يقول طباخة :” أتمنى لو يملك كل أهل دمشق زاوية في بيوتهم يعرضون فيها القطع القديمة“. 

 يشتري طباخة القطع من خلال جولاته في الأسواق ومن خلال معارفه، وبالنسبة له “أصغر قطعة غالية على قلبي، فجل وقتي أقضيه في المتحف، وبابي مفتوح للجميع“ بحسب قوله، وكي يكمل الجو التراثي، قرر ارتداء اللباس الدمشقي القديم مع الطربوش، ويشرح لنا عن لباسه من خلال قصيدة تتحدث عن تفاصيل كل قطعة من هذا اللباس التي تبدأ بالطربوش، ويختم قصيدته بالقول:” بان الحارات لا تحلو الا بلباس رجالها”.

يسعى طباخة لتوثيق تاريخ بلده من خلال القطع التي يجمعها، وهذا التراث يتمثل بكل التفاصيل من زجاجات العطر الشهيرة على رفوف الحلاقين القدماء، وملابس طلاب المدارس أو أزياء الأحياء المختلفة بالإضافة لأواني الطبخ وأدوات الأكل وزجاجات الكولا القديمة، وشرائط المسجلات والكثير غيرها.

ومتحف في السويداء

هذا الشغف هو أيضاً ما دفع شادي عدنان اسليم، 42 سنة، لتأسيس متحفه في محافظة السويداء. ونشأ عدنان في منزل عائلة غني بالتاريخ، فهو بيت روماني قديمة يقع بقلب السويداء، وكان يضم صوراً وخناجر وكل مقتنيات العائلة التي تعود لأجيال مختلفة حافظوا عليها وصانوها، لهذا تفتحت عينا شادي على هذا الإرث، وبدأ منذ عشرين سنة بجمع دلال القهوة، وكان ينوي جمع دلة من كل قرية، وتفاصيل تراثية تخص كل منطقة، ومع الأيام ازداد العدد لديه، حتى قرر في عام 2019 تأسيس متحفه الخاص على نفقته الخاصة، وكان الأمر مكلفاً بشكل كبير بالنسبة له، لكن شغفه كان أكبر من الظروف، عن هذا يقول عدنان: “أريد توثيق تاريخ بلدي، كي يتعرف أبناء هذا الجيل على ماضي آبائهم وطبيعية الحياة القديمة”، ولتحقيق الغاية بنى منشآة في مساحة تصل لمئة متر وهي تضم حوالي ثمانية آلاف قطعة باختلاف أحجامها.

يؤكد شادي بأنه يعاني كثيراً في تأمين القطع بسبب صعوبة الوصول إليها وارتفاع التكلفة، خاصة وأن مشروعه دون عائد، فالدخول للمتحف مجاني. ورغم أنه وضع صندوقاً للتبرعات، لكن ما يجمعه الصندوق لا يشكل ربع المبلغ اللازم لخدمة المكان، وما يزيد الأمور صعوبة هو عدم وجد أية جهة داعمة لمشروعه، فالدعم الذي حصل عليه هو إعلامي فقط وبالكلام والتشجيع.

رغم هذا، إلا أن شادي مصر على حلمه، رغم تراكم الديون التي أجبرته على بيع سيارته، ولهذا قرر عدم الاستماع لانتقادات الناس بخصوص ما يصرفه من مال وتعب. يقول شادي بكل فخر، ”المتحف هو الأهم على مستوى الوطن العربي فهو يضم قطعاً كثيرة ونادرة، خاصة على مستوى الأسلحة كالسيف الدمشقي وسيف الجوهر والخناجر العثمانية والعُمانية والبدوية وغيرها، وهي كلها قطع ذات قيمة مادية وتاريخية عالية“.

لا تقتصر التجربة على هذه المتاحف الخاصة الثلاثة فثمة متاحف عديدة أخرى وباختصاصات متنوعة مثل المتحف الجيولوجي للدكتور المرحوم فواز الأزكي الذي أسسه عام 2002 في قريته قسمين وسط طبيعة ساحرة، مستفيداً من خبرته الطويلة في المجال الجيولوجي فهو خريج جامعة بوخارست وحاصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها، وأستاذ في جامعة تشرين في كلية العلوم وقسم الجيولوجيا.

الحفافة.. صالون تجميل متنقل في صرّة امرأة 

الحفافة.. صالون تجميل متنقل في صرّة امرأة 

عندما كانت خضرا، تزور أمي في البيت، كنت أحصل على فسحة قسرية، كنت أطرد من البيت بكلمة ”روح إلعب”، كنت قد تجاوزت سن الثانية عشر بقليل، و صرت أعي أن ثمة سبباً لإخراجي من البيت كلما زارتنا السيدة العجوز ذات التجاعيد، وقد اكتشفت السبب ذات زيارة عندما اقتحمت البيت مسرعاً، لأجد أمي تتربع تحت شجرة العنب بينما تجثو خضرا، على ركبتيها وتحرك خيطا أخذ شكل المثلث لكونه يمر بين أصابع كلتا يديها، وتقبض على جزء منه بين أسنانها، وبحركة تشبه حركة رأس الدجاجة حين مشيها، كان رأس خضرا، يتحرك نحو الأمام والخلف وكأنها آلة، وهنا عرفت لماذا كانت تُسمى “خضرا الحفافة“.

 كنت أحسب أنها تسمية محلية بحتة تختص بالمنطقة الشرقية من سورية، لكن لاحقاً اكتشفت أن العراق يستخدم ذات التسمية للمهنة النسائية.

كانت خضرا تنفرد بمهنة بالغة الحساسية في حي كبير ضمن مدينة الحسكة، لم يكن ينافسها إلا مرور بعض نساء الغجر في الحي بين فترة وأخرى، ويطرحن ذات الخدمات بسعر أقل، وكانت النسوة في الحي يستقبلن الغجريات اللواتي يعرفن شعبياً بأحد اسمي (القرباط – الغجر)، بحثاً عن توفير بضع ليرات، في حين أن حجتهن أنهن يتقن العمل أكثر من “خضرا”، والطريف أن غياب “القرباطيات”، بدافع ترحال قبائلهن المستمر، كان يعيد لـ “حفافة الحي”، سطوتها على السوق.

أين الحفافة؟

توفيت خضرا قبل سنوات، ولم يعد لـ “الحفافة” وجود مهني، ومن بقين ممن مارسن هذه المهنة حتى بداية الألفية الثالثة، هن الآن في العقد السادس أو السابع من العمر على أقل تقدير، ومنهن فتون، السيدة التي نزحت مع أسرتها في العام ٢٠٠٥ من محافظة الحسكة نحو ريف دمشق الجنوبي هرباً من الجفاف، وهي حالياً تسكن في محيط بلدة “سعسع”، لتدير شؤون البيت وتنظم حركته في غياب الذكور من أفراد أسرتها لساعات طويلة في العمل، وتوكل لفتون رعاية أحفادها حينما تغادر زوجات أبناءها إلى المزارع القريبة ليعملن في قطاف الخضار.

تقول فتون لـ“صالون سوريا“، عن عملها كـ ”حفافة” ”كنت أحمل صرة أو كيساً من النايلون يحتوي على عدة العمل المكونة من كرة من خيطان القطن التي تستخدم عادة في تجهيز (لحاف الصوف)، إضافة لمقص وملقط شعر وعلبة كريم كان عبارة عن (دهون القطن)، وتعني (فازلين)، وكنت أتقاضى مبلغ ٢٥ ليرة سورية عن حف الوجه، وفي حال كانت السيدة تريد أن تزيل شعر جسدها كانت تدفع مبلغ ٥٠ ليرة إضافية.“

فتون التي ورثت مهنتها كـ “حفافة”، عن أمها، تضيف ”توقفت عن العمل لمدة ست سنوات بطلب من زوجي، لكن سوء الأحوال المعاشية أقنعه بعملي مجدداً، فمهنتي تحتاجها النسوة مثل ما تحتاج القابلة لتوليدهن، وحين عودتي للمهنة كان عدد زبائني يتراوح بين ٥-٨ نساء أسبوعياً، ويصل ما أتقاضاه شهرياً من عملي لنحو ٢٥٠٠ ليرة، وكان هذا مبلغ يساوي راتب موظف في بعض الأحيان، وغالباً ما كنّ يردن تنظيف كامل للوجه والجسد، ورغم احتياجهن لي إلا أن عدداً قليلاً من النساء كنّ يطلبن المساعدة في إزالة الشعر من المناطق الحساسة، وهنا كنا نستخدم السكر الذي نذيبه مع بعضٍ من الليمون أو ملح الليمون لنصنع ما تسميه النساء بـ “العقيدة”، وقد صار تحضير السكر سهلاً بعد ظهوره معلباً في الأسواق، وقد توقف عملي بشكل نهائي بعد أن وصلت إلى ريف الشام، فالمعرفة المسبقة بالحفافة من قبل الزبونات واحدٌ من أهم شروط نجاحها في العمل واستمراريته، كما إن وصولي لهنا تزامن مع زيادة عدد الصالونات، وظهور أدوية وأجهزة إزالة الشعر“.

سمرة، تعمل كفافة في مخيم للنزوح بريف دير الزور الشمالي حيث تعيش، عن ظروف عملها تقول لـ“صالون سوريا“: “أعمل في حف نساء المخيم، وبشكل جماعي، أجلس معهن بالتتالي في خيمة واحدة منهن، فيما تجلس البقية أمام باب الخيمة لمنع دخول أحد من الذكور او الأطفال، وآخر من تقوم بحف وجهها، هي صاحبة الخيمة، فانتهاء الجلسة لأي منهن يعني مغادرتها نحو خيمتها“.

تضيف السيدة التي بلغت العقد السادس من عمرها ”غالباً ما يكون الحف مرة واحدة شهرياً لكل من النساء، وهو يرتبط بتنظيم الجسد بعد انقضاء العادة الشهرية، وغالباً ما تكون الواحدة منهن قد استحمت بشكل سريع خشية أن تشم الحفافة رائحة سيئة منها، وتبلغ قيمة حف الوجه ٢٠٠٠ ليرة، في حين أن تنظيف الجسد بالعقيدة يكلف ٣٠٠٠ ليرة إضافية، وهو سعر أقل بكثير من الصالونات التي تتواجد في المدن“، وتشير سمرة، إلى أنها عادت لممارسة الحف بعد سكنها في المخيم، في حين أنها وحتى السنة الثانية من الحرب لم تكن تمارس هذه المهنة لكون النساء يعتمدن الأساليب الحديثة في التجميل.

سمرة تعتبر جلسات الحف شبيهة بجلسات السهر، فالنساء تتحدث عما يواجهنه من مشاكل زوجية، وحياتية، ثم يتبادلن الأخبار عن نساء أخريات في المخيم، ويتدرج الأمر نحو أخبار المخيم الحساسة من وصول المساعدات، وآخر ما سمعنه من أزواجهن عن أخبار الحرب، فيما يدور حديث بين الحفافة والزبونة عن أشياء أخرى تتعلق بالزبونة على مستوى جسدي، مثل سؤالها للحفافة عن مشاكل في شعر الرأس، أو أمراض نسوية، وتقدم الحفافة بحكم كبر سنها النصيحة الطبية مثل “استخدمي المرهم كذا للفطور، أو الدواء الفلاني لإزالة الألم”، وغالبا ما تكون النصيحة مبنية على تجربة سابقة للحفافة نفسها أو لزبونة عانت من ذات المشكلة.

تنهي الحفافة عملها أحيانا بسؤال “رح تتحممي”، وإن كانت الإجابة بالنفي، تخرج كحلاً عربياً من صرتها لتضع للزبونة منه، ثم تسرح لها رموشها بـ “المسكرة”، والبعض من “أحمر الشفاه”، سيكون إتماماً لعملية تجميل شاملة ورخيصة، لتكون “الحفافة”، صالون تجميل متنقل، لم يعد موجوداً في المدن كما هو الحال في تسعينيات القرن الماضي، ونادر الوجود في يومنا هذا، وحدود امتداده بين أسوار المخيمات أو جغرافيا القرى البعيدة عن الصالونات الحديثة، وإمكانية الحصول على جهاز إلكتروني أو عقاقير دوائية لإزالة الشعر بشكل سريع.

في حي القيمرية الدمشقي…بائع فطائر بنكهة الحنين 

في حي القيمرية الدمشقي…بائع فطائر بنكهة الحنين 

في كوة لا تتجاوز ثلاثة أمتار، تشعر وكأنها خرجت عنوة من جدار طويل، تستوقف المارة في حي القيمرية رائحة الفطائر الزكية مهما كانوا مستعجلين. يتوقف أغلبهم لتناول فطيرة كبيرة صُنعت من خبز الصاج، بينما ينبههم “عبد الله” قائلاً “اوعا سخنة، كلها ع مهل كيلا تحرق لسانك”.

بيدين ماهرتين يعجن عبد الله مقادير متساوية من عجينة رقيقة، ثم يقلبها بين راحتي كفيه  لتستقر أخيراً في فرن مكور ملتهب، هذا هو العمل اليومي للشاب الثلاثيني الذي لم يقفل أبواب محله منذ 19 عاماً، باستثناء يوم استراحته في يوم الجمعة.

أصر عبد الله أيضاً على الالتزام بعمله حتى عندما كانت تسقط القذائف والصواريخ على الحي الدمشقي، عن هذا يقول لـ”صالون سوريا”:” في عام 2003 افتتحت محلي، أبدأ العمل منذ الساعة السادسة صباحا حتى العاشرة مساءا بالتناوب مع شقيقي، لم انقطع عن العمل ليوم واحد خلال هذه السنوات رغم سقوط القذائف وضجيج الحرب، لدرجة أن قذيفة سقطت على بعد متر واحد من محلي، ومع ذلك لم أتوقف وصممت على الاستمرار في العمل ولم أغلق”.

على خلاف الكثير من أصحاب المحال المجاورة، لم يرث عبدالله صنعته  من والده أو جده، بل تعلمها على يد أحد صناع الفطائر الماهرين في الجنوب اللبناني، ليعود إلى دمشق ويبدأ بمشروعه الخاص، ” أحب صنعتي وأتقنها جيداً، أعمل بسرعة كبيرة، فيداي اعتادتا حركة صنع الفطيرة، أصنعها وأنا مغمض العين” يقول عبد الله الذي يحاول مراعاة أحوال الناس و يحرص على عدم رفع أسعاره لتبقى متاحة للجميع. مضيفاً ” كونت سمعتي على مدار سنوات من خلال المحبة والوجه البشوش والمعاملة اللطيفة، بالإضافة إلى أسعاري المنطقية وجودة الفطائر، الجميع هنا يعرفني، كما يقصدني العديد من ساكني الحارات المجاورة لتذوق فطائري”. 

معاناة الحصول على أسطوانة الغاز

تترأس أسطوانة الغاز قائمة “المستعصيات”، فالحصول عليها أمر في غاية الصعوبة، وفي حال توفرها فسعرها باهظ الثمن، وعن ذلك، يشرح عبد الله” أدفع ثمن جرة الغاز 125 ألف ليرة سورية حسب السعر الحر، وأنا استهلك أسطوانة واحدة كل يومين، أما المدعوم فيحق لي اقتناء جرة واحدة بالشهر”، ويسترجع عبد ذاكرته قبل اندلاع الحرب بأعوام طويلة، عندما كان سعر الأسطوانة 100 ليرة سورية، كما كانت جودة الغاز المعبأة أفضل، إلى جانب امتلائها بالكامل، بينما الآن تأتي ناقصة قليلا بالرغم من سعرها المرتفع.

كذلك، يواجه عبد الله تحديات إضافية تتمثل بتأمين شراء المواد الغذائية التي يحتاجها في عمله لصنع الفطائر، عدا عن غلاء أسعارها، معترفاً أنه يضطر لاقتناء المواد ذات الجودة المتوسطة ومن الموزع مباشرة، عن هذا يشرح عبد الله:” ارتفعت أسعار اللبنة والجبنة بكافة أنواعها إلى الضعف، وكذلك اللحومات الباردة، في السابق كنت اشتري النقانق المستوردة من لبنان، أما الآن فهذا غير ممكن على الإطلاق، لأنها ستفسد ولن يشتريها أحد، لذلك استبدلها بمحلية الصنع، الأمر كذلك بالنسبة للأجبان، أحرص على شرائها من صاحب المبقرة مباشرة لتخفيف النفقات وليتمكن الزبون من شرائها في آن معا”.

يستذكر عبدالله ضاحكاً لائحة الأسعار منذ أكثر من عشرة أعوام، إذ طرأ تغيير كبير عليها، ففطيرة الزعتر كانت بـ 10ليرات سورية، بينما الآن بـ 1500 ليرة سورية، أما فطيرة الجبنة فكانت بـ 15ليرة، لتصبح اليوم 2500 ليرة، بينما كانت تعد فطيرة الشيش الأغلى ثمنا، فوصل سعرها إلى 25 ليرة آنذاك، بينما اليوم بلغ سعر الأخيرة 5000 آلاف”.

فطائر التنور

“فطائر دافئة كأيام زمان”

 يجسد محل عبد الله الصغير مقولة “الأماكن الدافئة هي الأكثر ازدحاما”، لهذا المكان خصوصية مميزة لدى زبائن حي القيمرية، فبالرغم من مساحته الضيقة التي لا تتسع لموطئ قدم، إلا أنه يستقطب مئات الزبائن في اليوم الواحد، مما لا يتيح لعبد الله خمس دقائق راحة. تشغل فطائره مكانة خاصة في قلب  زبائنه، كنهال وهي طالبة جامعية اعتادت تناول فطورها عنده وهي متوجهة إلى جامعتها، تقول نهال:” أكره الاستيقاظ باكرا وإضاعة وقتي لإعداد الفطور، اعتدت على تناول فطيرة الجبن والزعتر عنده منذ 4 سنوات، لدرجة أنه يحضرها قبل موعد مروري بدقائق كي لا أضطر للانتظار”، كذلك الحال بالنسبة لفرح (30 عاما) التي تصف نفسها بـ”الزبونة الدائمة منذ 15 عشر عاما”، تقول فرح لصالون سوريا:” أتناول فطائره منذ أيام الثانوية لغاية اليوم، أذكر أنني كنت في كل صباح وأنا ذاهبة إلى مدرستي اشتري فطيرة جبنة و آكلها في الطريق، وكذلك أفعل الآن خلال توجهي إلى العمل”.بينما أم علي تعتبر فطائر عبد الله منقذها الوحيد والطبق الشهي عند تكاسلها في إعداد طعام الغداء لأسرتها، توضح” ألجأ إلى فطائره اللذيذة عند عدم تحضيري الغداء وأحيانا أخرى عند دعوة  صديقاتي لوجبة فطور شهية”، أما محمد (32عاما) فسبب اختياره لفطائر عبدالله كان عاطفيا بامتياز، يعبر قائلا “تعرفت على هذا المحل قبل نشوب الحرب، أرفض تناول الفطائر من أي مكان آخر مهما بلغ مني الجوع، لأنه يذكرني بما كانت عليه سورية قبل الموت والدمار، هو المكان الوحيد الذي يبقى ذاكرتي عن سورية ما قبل 2012 جميلة وزاخرة بالحب”. 

ماتفرقه السياسة تجمعه الفطائر

عند سؤالنا عبدالله عما يجعل محله مميزا ويسمح باستمراره رغم عقد كامل من الحرب، أدت إلى قطع أرزاق العديد من أصحاب المحال، فيجيب بدون تفكير وتردد” ، عدم وجود انحيازات طائفية ولا اصطفافات سياسية، فزبائني ينتمون لأطياف متنوعة، جمعتهم مشاعر  الخسارة والخوف، والفقد، فالقذائف التي كانت تسقط لم تفرق بين طائفة وأخرى، فما تفرقه السياسة، تجمعه الفطائر التي تصنع بحب”. 

مهن سادت، أخرى بادت وغيرها عادت من الاندثار

مهن سادت، أخرى بادت وغيرها عادت من الاندثار

لا يمكن القول بأن التسول مهنة جديدة في سوريا، إلا أنها كادت تندثر عشية الحرب، أما اليوم فهي في أوج ازدهارها. على الإشارة المرورية في الشيخ سعد يمكن لحظ المتسولين، على إشارات المزة، وفي دمشق القديمة، وعلى جسر المشاة قرب شارع الثورة، وعشرات الأماكن ، هذا في العاصمة فقط.

“صالون سوريا” تمكن من محاورة إحدى السيدات التي كانت تتسول على أحد جسور المشاة في دمشق واضعةً صغيرها على صدرها، وهي ترضعه وعلى حجرها ولد ثان نائم عمره خمسة أعوام، تقول: “أنا مهجرة، ساعدني الله يوفقك”، وعند سؤالها: “بماذا نساعد بالضبط؟”، تقول: “من مال الله”، بإجابات مقتضبة تشير إلى أن زوجها قضى تحت ركام منزلهم.

حاولنا سؤالها أكثر، أشاحت برأسها وبكت عميقاً، ثم قالت “هذا طفلي من زواجي الثاني، زوجي يجبرني على العمل”. رافضة إضافة أية كلمة أخرى. ينام قربها على بعد أقل من مترين شاب يافع، هو الآخر متسول، ولكنه غافٍ، لا تربطه علاقة بتلك السيدة، بحسب قولها.

النباشون/ات

رحلة واحدة في أحياء جرمانا بريف دمشق تكفي للتعرف على عشرات النباشين والنباشات الذين يتنافسون على مكبات القمامة.

ولمعرفة مدى انتشار هذه المهنة، مثلاً يدخل قرابة 1800 طن نفايات يومياً إلى محطة قمامة باب شرقي، وما أن تكاد تنتهي الشاحنات من إفراغ حمولتها من القمامة حتى ترى أكثر من 40 إلى 50 نباشاً يهرولون نحوها، ليجمعوا ما تيسر لهم من كراتين وحديد وبلاستيك ومواد منظفات وغيرها، وكلمة “نباش” تعني العامل في جمع القمامة كمهنة.

يقول أحمد، 11 عاماً وهو أحد نباشي جرمانا لـ “صالون سوريا“: “والدي علمني هذا العمل منذ أن كنت صغيراً”، لا يعرف أحمد الصغير لماذا لم يدخل المدرسة كأقرانه، ولكنّه يعلم جيداً أنّ عليه إتمام عملّه لئلا يعاقبه والده، لا يقرأ ولا يكتب، لكنّه يعرف أنّهم مهجرون، ولا يدري لما لا تعيش والدته معه ومع والده وإخوته (زينة وهبة ومحمود)، الذين يعملون ذات عمله.

وقبل أن ننهي حديثنا معه يطلب: “لا تقولوا لأبي أني اشتكيت من موضوع المدرسة”.

بيع الأمبيرات

في ظل أزمة الكهرباء في سوريا، وساعات التقنين التي وصلت حدود 20 ساعة يومياً من الانقطاع، لجأ الأهالي في عدة مناطق في سوريا إلى نظام “الأمبيرات” كحل إسعافي وبديل.

والأمبيرات يقصد بها نظام توليد الطاقة الكهربائية عن طريق مولدات تعمل على المحروقات وغالباً المازوت، ويرتفع سعر الأمبير بالتزامن مع أي زيادة لأسعار المشتقات النفطية في سوريا. وعلى الرغم من أنّ الأمبيرات كانت ذات يوم تقع ضمن القدرة المادية للشريحة الأوسع من السوريين في المناطق التي تعمل بها هذه المولدات، إلا أنّها اليوم أصبح للطبقة الغنية فقط. 

يقول ميمون وهو اسم مستعار لصاحب مولدة تعمل في حلب، رفض الكشف عن اسمه: “أدرك أن أسعارنا صارت مرتفعة على المواطن العادي، ولكن مادة المازوت قليلة للغاية في السوق، لذا نحصل عليها مكرهين من السوق السوداء بمبالغ مرتفعة، ما يرغمنا مجبرين على رفع أجورها، ورغم ذلك نحن نؤمن الرفاهية للمواطن من جهة وللورشات والعيادات والمخابر وغيرها من جهة أخرى“.

سماسرة جوازات السفر

يحتل جواز سفر سوريا حاليًا المرتبة 111 وفقًا لمؤشر جايد Guide لترتيب جوازات السفر، ويعد جواز سفر سوريا ثالث أدنى مرتبة في العالم، ورغم هذه المرتبة المتدنية للغاية، إلا أن استصدار الجواز صار ضرباً من المستحيل في الكثير من الأحيان.

فقد وصلت المدة المفترضة لانتظار استصدار الجواز أحياناً حتى عام 2025، مما خلق سوقاً سوداء نشط فيه السماسرة القادرين على حجز أدوار سريعة للتقديم على الجواز عبر المنصة الالكترونية التي اطلقتها وزارة الداخلية أواخر العام الفائت.

يمكن القول إنّ عام 2022 الجاري شهد ازدحاماً غير معقول على دور حجز جوازات السفر، ما أحدث ازمة غير مسبوقة يمكن وصفها بالأولى من نوعها في هذا الإطار والتي ما زالت مستمرة.

فالمنصة الالكترونية فتحت باب التواطؤ والفساد عبر تحصيل مبالغ وصلت أحياناً لعدة ملايين من الشخص الراغب بالحصول على جواز سفره بأسرع وقت. التسجيل على المنصة صعب للغاية بسبب الشروط التقنية المعقدة التي تجعل “سيرفر” الخدمة خارج الخدمة غالباً. وطبعاً لا يمكن الحصول على الجواز دون التسجيل على المنصة. ولهذا سرعان ما انتشر سماسرة المنصة في المحافظات السورية، وهؤلاء لهم دور في تقريب حجز موعد استصدار الجواز عبر طرقهم الخاصة ومقابل مبالغ مالية تكون كبيرة غالباً، هذا ما قاله أحمد الذي لجأ لأحد السماسرة لاستصدار جواز سفر سريع قبل أشهر كلفه أكثر من مليونين ليرة.

يقول أحمد لـ “صالون سوريا“: “لم يكن باليد حيلة، كانت الأمور معقدة ومتشابكة ومتداخلة كثيراً، أكثر مما هي عليه الآن حتى، فحذوت حذو غيري ممن لجؤا لهؤلاء السماسرة للحصول على جواز سفر في أقل من شهر بدلاً من انتظار عام أو عامين أو أكثر”.

في شهر آذار الفائت حاولت منى الشيخ جاهدةً الحصول على جواز سفر، عن رحلتها في فرع الهجرة والجوازات في دمشق تروي لـ “صالون سوريا“: “كنت أعلم بضرورة حجز موعد على المنصة، ولم أوفر حينها جهداً للحجز لكن دون نتيجة، لم يقبل الحارس بإدخالي إلى الفرع رغم كل محاولات إقناعي له، كان دوماً يجيب بأن التعليمات لديه صارمة، لذا، عدت أدراجي إلى المنزل ولكن ليس خالية الوفاض، فكنت كنت استحصلت على رقم سمسار يمكنه أن يحجز لي موعداً على المنصة بسرعة نسبية ومقابل بدل مادي بلغ حوالي مليوني ليرة سورية، وكان جوازاً مستعجلاً يستغرق استصداره أقل من شهر”.

وفي تصريح سابق أفاد مدير إدارة الهجرة والجوازات أن العاملين في الهجرة –بعضهم- يتعاملون مع سماسرة، مشيرا إلى تقديم رئيس أحد فروع الهجرة مع عدد من العناصر إلى القضاء من خلال إدارة الأمن الجنائي.

شركات التأمين 

لم تكن شركات التأمين بهذا الازدهار قبل الحرب، ولكن شروط الحرب وظروفها أسهمت في تكاثر هذه الشركات وإقبال شرائح واسعة من السوريين عليها.

التأمين الصحي مثلاً صار حاجة ضرورية بعد أن أصبح معظم السوريين عاجزين عن التداوي في المستشفيات الخاصة بعد الارتفاع المهول في أسعارها، فتكلفة عملية القثطرة القلبية في المستشفيات الخاصة تبلغ حوالي 700 ألف ليرة، أما تركيب الشبكة القلبية فيكلف الملايين.

وتسبب الازدياد في الحوادث الأمنية والعسكرية في زيادة أهمية التأمين على السيارة، البيت، الحياة الشخصية والصحية، فالقذائف والاشتباكات جعلت الجميع تحت دائرة الخطر والضرر، وصار التأمين على الحياة والممتلكات ضرورة.

وبلغ عدد شركات التأمين أكثر من 20 شركة خاصة حتى اليوم، يقول ماهر سيفو الموظف في إحدى الشركات لـ “صالون سوريا”: “الإقبال ازداد كثيراً في الحرب، الناس تؤمن على كل ما تملك، وليس فقط ما يتعلق بالحرائق والزلازل، بل بتلك الأمور المتعلقة بالحرب“.

مهن قديمة جديدة

لا شك أن بعض المهن وصلت حافة النهاية بفعل الحرب في سوريا، وبالمقابل ثمة مهن تنتعش، يمكن وصف تلك المهن بالحاجة اليومية للناس كمهن الإكساء والترميم والبناء والحلاقة الرجالية والنسائية والمهن المرتبطة بالسيارات (كهرباء – ميكانيك – بخ) وغيرها من المهن التي يستحيل الاستغناء عنها مهما اشتدت الظروف الاقتصادية على السوريين، ويمكن أن نضيف إليهم بعض الحرف الإنتاجية كالمعادن والخزف والموبيليا والحلويات والخراطة والمشغولات الذهبية والفضية التي لها زبائنها الأوفياء، وكذلك الحرف التراثية التي يمكن تصديرها كالموزاييك والبروكار الذي تشتهر به سوريا والصدف.

مؤيد أحد عمال الترميم الذي قال لـ “صالون سوريا”: “الآن هناك ارتفاع كبير بالطلب على عملنا بحكم أنّ الناس يعودون بكثرة إلى منازلهم بعد انتهاء الحرب ولكن في المقابل هناك مشكلة في تأمين اليد العاملة..”.

أما عن المهن التي باتت على وشك الاندثار فهي مثلاً مهنة دق النحاس وتزيينه، سيما في حلب التي اشتهرت بهذه الصنعة عبر تاريخها.

الطاقة الشمسية استثمار جديد لتجار الأزمات 

الطاقة الشمسية استثمار جديد لتجار الأزمات 

خمس ساعات من الانقطاع، وساعة ونصف من العمل، هذا حال التيار الكهربائي في مختلف المدن والمناطق السورية. إذ تعدى انقطاع التيار كهربائي في بعض المناطق هذه الساعات المحددة ليصل أحياناً إلى يوم كامل، بحسب جدول وصفات مبررات الأعطال التي تقدمها وزارة الكهرباء لمواطنيها.

والمبررات الاعتيادية هي: خارج الخدمة بسبب الإرهاب سابقاً وقيصر حالياً، وبمزج السببين الحكوميين معاً يخلص المواطن إلى نتيجة مفادها ألّا كهرباء في الأمد المنظور.

“كل شيء مرتبط بالكهرباء، وانقطاعها صار روتين يومي للحياة”، تشرح ريما مسلّم وهي مدرسة الرياضيات مقيمة في دمشق، وتضيف: “يعني فوق الموتة عصة قبر، كل شي مؤجل عمله بالبيت لتجي الكهربا، من الغسيل والكوي للاستحمام والطبخ والدراسة، حتى الأكل بالبراد وخصوصي بالصيف لا يصمد بلا كهربا، وآخر شي بتطالبك الحكومة بدفع فواتير الكهرباء”.

وتشير ريما في حديثها لـ “صالون سوريا” إلى آخر “فنون الحكومة” كما وصفتها، وهي رفع شعار التوجه للطاقات البديلة وتشجيع المواطنين على الاستثمار فيها عن طريق تركيب ألواح الطاقة الشمسية على أسطح المنازل لتوليد الكهرباء وتقول: “فكرة حلوة، لكن تطبيقها في ظل الحرب بسوريا صعب كتير، بدها مصاري كتير، والله أعلم بالحال“.

منفذ جديد للفساد

مؤخرا بدأت الحكومة السورية دعواتها إلى اعتماد الطاقة البديلة كحل لأزمة نقص الكهرباء في البلاد في ظل أزمة المحروقات الخانقة، بدلاً من اعتماد السوريين على البطاريات المستخدمة للإنارة وشحن الإلكترونيات المنزلية، والأمبيرات التي شاع استخدامها.

يبين طريف محمد  وهو مهندس في مجال الطاقات المتجددة بأن “الطاقة الشمسية حل سريع ومجدي لتوليد الكهرباء بالنسبة للمنازل أو الورشات والمعامل الصناعية والتجارية، لكن بشرط توفر رأس المال والإرادة الحقيقية للمستثمر باستيراد أفضل أنواع ألواح الطاقة الشمسية” ويشير المهندس طريف لفوائد الاستثمار في هذا المشروع خاصة مع وجود توجه عالمي نحو الطاقات البديلة، لكنه يخشى في نفس الوقت من فاعلية تطبيق هكذا مشاريع في سورية، فالطاقة المتجددة كما يشرح لـ “صالون سوريا” ”تحتاج لميزانيات مالية كبيرة لتغطية حاجة سوريا منها، فضلاً عن ضرورة وجود مساحات شاسعة وتوزيع صحيح لألواح الطاقة“.
من جانبه يؤكد فاضل زين الدين، وهو خبير في الاقتصاد، الجدوى الاقتصادية لاستخدام الطاقة الشمسية كطاقة متجددة لتوليد الكهرباء، إضافة لكونها صديقة للبيئة. ومع التوجه الحكومي للاستثمار بالطاقة البديلة، تم إصدار قرار بإحداث صندوق دعم استخدام الطاقات المتجددة، ورفع كفاءة الطاقة  لتشجيع المواطنين. لكن يبدي فاضل الكثير من القلق من دخول التجار إلى ميدان فساد جديد من أوسع أبوابه ويقول: “بدأنا نشهد تنافساً فيما بين التجار والقطاع الخاص تحديداً للهيمنة على الأسواق والتي تم إغراقها بألواح الطاقة الشمسية، والسيء في الأمر أن هناك الكثير من الأنواع غير الصالحة للاستخدام مع وجود ماركات مزورة، ومعظم الأنواع مستوردة من الصين، ولكن يتم بيعها للناس بأسعار مرتفعة كنخب أول، وهي في الحقيقة ستوك!”

النور للأغنياء فقط

إعلانات ترويجية ومعارض لشركات متخصصة بالطاقة الشمسية بدأت تغزو الشوارع والأحياء، لتغري ميسوري الحال القلة المتواجدين في سوريا للتحول لهذه التقنية الجديدة للحصول على الكهرباء والإنارة، أما السواد الأعظم من الفقراء فلا حول لهم ولا قوة.

“أنا وزوجي مو قادرين نكفي مصاريف ولادنا، منين بدنا نجيب ملايين للكهرباء، بلاها أحسن” بهذه العبارة تختصر رنا سلوم وضعها، وتعمل رنا هي وزوجها في مؤسسة حكومية ويسكنان مع أولادهم الثلاثة في منزل للإيجار بمنطقة دويلعة بريف دمشق.

ولعدم قدرتها على التفكير بخيار الطاقة الشمسية، عمدت رنا لتركيب ليدات وبطاريات فقط لإنارة منزلها ،أما بالنسبة للطاقة البديلة فذلك ضرب من الخيال لأسرة رنا كما معظم السوريين الفقراء. تقول رنا “لدينا مصاريف كثيرة من آجار البيت إلى مصاريف الأولاد والاحتياجات الأساسية، ولا يتعدى مجموع راتبي وراتب زوجي 200 ألف ليرة، تركيب الطاقة الشمسية ليس لنا، وهذا حلم ورفاهية لا نستطيع تحمل أعبائها المادية، وحتى بعد أن أطلقت الحكومة قروض ميسرة لتركيب طاقة شمسية، من أين لنا أن أسدد القرض الذي يقدر بالملايين؟“.

وحتى من تحمّل هذه الأعباء المادية واستخدم الطاقة البديلة من مدخراته، لم يحظ بما أمل به، كما حصل مع صفوان الحريري، فبعد أقل من شهر على تركيبه منظومة الطاقة الشمسية على سطح منزله الواقع في دوما، يصف صفوان لــ “صالون سوريا” كيف تصاعد الدخان من بعض أجزاء المنظومة وأدى بالتالي إلى إعطابها، وبعد توجهه لمهندس كهربائي لمعرفة السبب، تبين أن العطل بسبب رداءة نوع الألواح التي اشتراها من إحدى الشركات التي ادعت بأنها ”نخب أول وممتاز“، يقول صفوان “الفساد صار بكل شي، ما عدنا نعرف النوعيات الجيدة من السيئة، والكل بده ينهب من جيب المواطن“.

حاول صفوان التواصل مع مندوبي الشركة التي باعته منظومة الطاقة الشمسية، للسؤال عن سبب الدخان والعطل في المنظومة فكان الجواب “نحن غير مسؤولين عن حال المنظومة بعد التركيب”، هكذا فقط وبدون تقديم أية مبررات أخرى تشفي غليل صفوان بعد تعرضه لعملية الاحتيال هذه وسرقة الشركة لملايين الليرات التي كان يدخرها.

الطبيبة راما مرهج، من جهة أخرى، حالفها الحظ بتركيبها لمنظومة طاقة شمسية بنوعية جيدة لتشغيل المعدات الكهربائية في عيادتها. ولتتمكن من ذلك لجأت إلى طلب المساعدة من أخيها الذي يعمل في الإمارات لتحويل مبلغ 16 مليون ليرة لتتمكن من شراء المنظومة وتقول لـ“صالون سوريا“٬ “كان الله في عون اللي ماله حدا، الناس بالبلد مو عايشة، صار المغترب المنقذ المالي للأهل، هادا إن كان وضعه منيح بالغربة”. أما بالنسبة للتراخيص المطلوبة لتركيب الألواح الشمسية، تشيرد. راما إلى أنها قامت بتقديم طلب رسمي لمحافظة دمشق وعليه تمت الموافقة بعد الكشف على البناء وملكيته وأخذ الموافقة من سكان البناء، لكن الشك لازال يراود راما خوفاً من إضافة شروط جديدة لتركيب المنظومة، وإن كانت ستدخل في دوامة المخالفات أم لا، خاصة بعد إعلان الحكومة بأن الترخيص إجراء مؤقت إلى حين الإعلان الرسمي عن الشروط والأسس المتعلقة بآلية تركيب الألواح الشمسية.

التكلفة المالية

ألواح وبطاريات وانفرتر ومنظم شحن، هي الأجزاء الأساسية لجهاز الطاقة الشمسية، ويشرح الخبير بتركيب أجهزة الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء بديع علي لـ”صالون سوريا” عملية تركيب الألواح، بأنها تبدأ بحساب الحمل الكهربائي وبناء عليه تقدر الكلفة المالية للشراء ويقول: “مافينا نعطي رقم مالي محدد لأن الحساب مرتبط بسعر الدولار، وسعر الدولار غير مستقر في سوريا، لكن الأسعار تتراوح مابين عدة ملايين لإنارة منزل فقط بدون استخدام الأجهزة الكهربائية، وتصل إلى 40 مليون ليرة للنوعيات الأفضل وبحسب مساحة وكلفة المشروع.” 

أما عن كيفية حساب التكلفة المالية فيشرح سامر كبول الذي يعمل كمحاسب مالي لدى إحدى شركات الطاقة لــ”صالون سوريا” بأن الكلفة يتم تحديدها بحسب استطاعة الألواح وعدد الأجهزة التي تشغّلها، وعليه يتم احتساب والألواح والانفرتر والحديد والكابلات والبطارية وقواطع الحماية، ويضيف “تقدر الشركات حالياً حساب سعر الواط الشمسي مابين 30 إلى 35 سنت، ولتشغيل أغلب الأجهزة الكهربائية في المنزل الواحد تحتاج الطاقة إلى 3 آلاف واط شمسي، وسعر اللوح بنوعية جيدة يقدر بمليون ليرة، ويتطلب تركيب 8 ألواح شمسية مع تركيب بطاريتين سعر الواحدة تبلغ مليون ونصف ليرة بالإضافة إلى العناصر الأخرى من قواطع وكابلات وحديد، فبذلك تبلغ الكلفة الإجمالية تقريباً ما بين 8 إلى 20 مليون ليرة سورية للمنزل الواحد.” مع الإشارة إلى أن البطارية تعمل لمدة 5 سنوات فقط والألواح لمدة 20 عام.

المسؤولية الحكومية

“تقع مسؤولية التأكد من جودة الألواح والانفرترات ومنظمات الشحن والبطاريات على عاتق الحكومة وعلى مركز بحوث الطاقة التابع لوزارة الكهرباء وعلى مسؤولية الجمارك ومديريات الاقتصاد التي تمنح إجازات الاستيراد” بحسب كمال وهو اسم مستعار لمسؤول في المركز الوطني لبحوث الطاقة أكد لـ “صالون سوريا”، أما بالنسبة لإجازات الاستيراد فهي مسؤولية مديريات الاقتصاد التي تمنح هذه التراخيص إضافة إلى الجمارك. ويقول كمال “هذه المنظومات الرديئة دخلت إلى سوريا دون معرفة مركز بحوث الطاقة، رغم أن الآلية الحكومية المتفق عليها بالتوجه نحو الطاقات البديلة تشدد على عدم منح أي إجازة استيراد لمنظومات الطاقة الشمسية إلا بعد عرضها على مركز بحوث الطاقة لتحديد المواصفات الفنية المسموح بها“.

ويشير فاضل سمور الأكاديمي الاقتصادي لــ”صالون سوريا“ بأن “الترويج الواسع والتوجه الحكومي للطاقات المتجددة فتح باباً آخر لتجار الأزمات لممارسة الفساد وجني المال من الناس” منوهاً إلى أن الطاقة الشمسية ليست بديلة تماماً بل هي داعمة لمحطات توليد الكهرباء، أما بالنسبة للطاقة الريحية فلا يوجد استثمار حقيقي لها خاصة أن هناك فقط عنفتين ريحيتين في سوريا كلها رغم أن الاعتماد على العنفات الريحية يوفر على الدولة ملايين الدولارات سنوياً، وفق فاضل.