بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

بيع الأمل: السحر والشعوذة تجارة رابحة

 في ظل الظروف الصعبة والمتدهورة، يلجأ الكثير من الناس في سوريا إلى السحر لحل مشكلاتهم الشخصية المأزومة. تغّص دكاكين الشعوذة بالمريدين على نحو يفوق الوصف، تبيع الوهم لناس يركضون وراء بصيص صغير من الأمل ويدفعون الملايين لشراء ما يعتقدون أنه حلول.

أنفقت سمر (37عاماً) عشرات الملايين ثمناً لهوسها المجنون بزيارة رجال السحر والتبصير وجميع أعمال التنجيم دون أي شعور بالذنب في حالة تصل إلى درجة الإدمان، تقول: “منذ قرابة عشر سنوات وأنا مهووسة بقراءة الفنجان والطالع والكف والحسابات الرقمية. بدأ الأمر كتسلية ثم سرعان ما تحول إلى هوس مرضي، عندما أسمع عن أحد ما ماهر في هذه الأمور أقصده حتى لو كان في مكان بعيد جدا”.

 لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل بلغت درجة الهوس بالشابة التي تعمل صيدلانية لأن تتواصل مع دجال في المغرب كانت قد سمعت عن مهارته في ربط الزوج عن كل النساء باستثنائها، وتتابع حديثها: “لدي مخاوف من أن يهجرني زوجي، أو يتزوج بأخرى، يخفي عني دوماً تفاصيل عمله ولا يسمح لي بإمساك هاتفه. لدي شكوكي حول خيانته، لذلك ألجأ إلى أهل التنجيم لمعرفة أخباره وعما إذا يوجد امرأة غيري في حياته، في إحدى المرات دلوني على منجم  معروف في المغرب، وتواصلت معه عبر الواتساب، طلبت منه حجاب لربط زوجي عن النساء وعدم زيارة أهله”.

 بالرغم من أن أحد الأسباب التي تدفع لأعمال السحر هو الثراء، غير أنها تبذر مالاً كثيراً لقاء هذه الرغبة، ما يجعل المعادلة غير منطقية، تقول: “لا أستطيع ذكر الرقم على وجه الدقة، لكنه يتجاوز 100 مليون على مدار السنوات، كنت وما زالت أقصد أي أحد أسمع بوجوده سواء في دمشق أو في أي محافظة سورية”.

“معملك عمل” بهذه الكلمات تلقت الشابة سارة تعليقات لا متناهية على منشورها في إحدى مجموعات “الفيسبوك” حول شعورها المتواصل بالتعب والإرهاق والبكاء الهستيري والهلوسات وعدم القدرة على النوم ليلاً. بعد أن أجرت تحاليل طبية اتضحت أنها سليمة، تقول: “جافاني النوم منذ شهرين، تجتاحني نوبات هلع وبكاء هستيري غير مبرر، كما كنت أرى ملامح أشخاص غير واضحة، سمعت كثيراً عن أعمال السحر لكن لم يخطر ببالي أن الأمر سيحدث معي بالفعل”.

 امتثلت الشابة لنصائح الفتيات واحتمالية إصابتها بالسحر وأن عليها البحث جيداً في منزلها عن قطعة مشبوهة مرمية في زاوية ما، وبالفعل عثرت الفتاة على  قطعة قماش مهترئة أسفل عامود سريرها بعد أن قلبت بيتها رأساً على عقب بالبحث، وتضيف: “بحثت والدتي وأختي في كل شبر بالمنزل وفي جميع الأماكن غير المتوقعة، وبعد التنقيب الدقيق لمدة ست ساعات وجدنا خرقة قماش ممزقة ملتفة على بعضها بعضاً بإحكام، قمنا بفكها بصعوبة لنجد ورقة صغيرة مكتوب عليه طلاسم غير مفهومة. تكمل الشابة حديثها: “اتصلت أمي على الفور بجدتي لترشدها ما العمل، فنصحتها بإحراقها على الفور ورش ملح مقروء عليه آيات قرآنية في أرجاء المنزل، وبالفعل تحسنت بعد ذلك بكثير وعدت إلى حالتي الطبيعية”.

صور عارية بحجة فك السحر

يستغل المنجمون حوائج الناس وتعلقهم بقشة الأمل للخلاص من مشاكلهم ووضع حد نهائي لمعاناتهم، فيمتثل الكثيرون والكثيرات لرغبات المنجمين وطلباتهم الغريبة دون وعي. وفي الوقت نفسه، هناك بعض الناس ممن لا يذعن لها، كحال فادية الذي دفعها تدهور حالتها الصحية بسبب عمل مكتوب لها من قبل طليقها أن تلجأ إلى أحد الدجالين للخلاص، إلى جانب العراقيل التي تواجهها طوال عامين، تقول لنا عن تجربتها: “عشت جحيماً لا يطاق مع زوجي السابق، لجأت إلى أحد المنجمين الذي بدأ يطلب مني صوراً عارية للقسم الأيسر من جسمي بحجة تطهيري من السحر الذي يتسبب لي بكل هذا الألم، وأنه سيستدعي الجن لخدمته في طرد العمل ورده إلى صاحبه.” تُضيف قائلة: “يتذاكى البعض ولا يطلب صورة لكامل الجسد، بل جزءاً منه للتمويه كي يبرهن أن قصده شريف ولمتطلبات العلاج، باعتبار أن الشخص الذي قد يبيت نوايا سيئة سيطلب حتما صورة طولية لأغراض جنسية بحتة، لكني لم أصدقه وقطعت التواصل معه”.

لم تكن أناهيد بمنأى عن الطلبات الغريبة لمزاج رجال التنجيم تحت مسمى الاتصال بالجن السابع ونيل مبتغاها، تقول السيدة: “لم أنجب لزوجي طفلاً ذكراً ويهددني منذ سنوات بالزواج من امرأة أخرى كي تنجب له ذكراً يحمل اسمه، ذهبت إلى أحد الشيوخ لصنع عمل له كي يمنع ذلك.” تتابع حديثها: “ينجح الأمر لكن يكلفني مبالغ كبيرة مع صور لأجزاء من جسدي، أحياناً يطلب صورا لقدمي أو أصابع يدي وهي مطلية باللون الأسود، أو ارتداء ملابس داخلية باللون الأحمر، لا أمانع في الأمر طالما أن زوجي لن يكون مع امرأة غيري”.

ضغوط الحياة تدفع الأشخاص للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق أهدافهم

تؤكد أريج الرز المتخصصة في علم الاجتماع أن “السحر أمر متداول منذ القدم، وتشتهر فيه المجتمعات الشرقية على مر التاريخ، ما يفسر لجوء العديد من الأفراد إليه وممارسته على نحو مستمر، فهو أمر شائع وأصيل ضمن هذه المجتمعات نتيجة القصص المروية عن النتائج المحققة والتي قد تكون محض خرافات وليست حقيقية.” وتضيف أن إيمان البعض بأنها قصص حقيقية عزز لديهم الرغبة باللجوء إلى هذه الأعمال لتحقيق رغبات معينة لديهم يعجزون عن تحقيقها.

اللجوء إلى أعمال التنجيم لا يقتصر فقط على الشريحة البسيطة غير المتعلمة، بل يطال أيضاً فئة المثقفين، والسبب كما توضحه الأستاذة أريج المتخصصة في علم الاجتماع هو: “بعض المثقفين ونتيجة حالة العجز التي قد يمرون فيها لتحقيق أهدافهم، وكثرة القصص المحكية عن أعمال السحر ونتائجه أثيرت لديهم الرغبة في التجربة وتحقيق ما عجزوا عنه..” وتتابع حديثها: “لكن إغفال العقل واللحاق بهذه الأفعال بصورة مطلقة يعتبر أمراً منافياً للعلم، ما يجعل لحاق المثقفين بالسحر أمراً مستغرباً، لكن في ظل الضغوطات التي يعاني منها معظم السوريين\ات ستظهر ميول للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق الأهداف المأمولة”.

لا تنكر الرز أن عوامل التربية والعادات الشعبية التي تعمل على ترسيخ مفهوم قوى السحر بتحقيق المستحيل تعمل على تعزيز هذا المفهوم لدى الفرد وتجعله إحدى الطرق التي قد يسلكها عند الحاجة، لا سيما أننا في مجتمعات مارست و تناقلت وترسخت لديها هذه الأعمال على مدار السنين.

صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

لطالما شكَّلت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية جزءاً حميمياً ومميزاً من التراث الشعبي، المحفور في وجدان السوريين وذاكرتهم الجمعية، ومعلماً هاماً من المعالم الثقافية والفنية في سوريا، التي تزدان أسواقها الشعبية القديمة، وخاصة في دمشق وحلب، بالعديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، وعلى رأسها آلة العود التي أدرجت منظمة اليونسكو صناعتها على قائمة التراث اللامادي، كونها صناعة عريقة وأصيلة، تعود بدايتها لنهايات القرن التاسع عشر، وتُعد من أبرز الهويات الثقافية السورية. ولكن، وبعد ما فرضته سنوات الحرب الطويلة وتبعاتها، باتت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي أثَّرت بشكلٍ كبير على تاريخها العريق، وعلى كميات إنتاجها وجودة صناعتها، وحجم انتشارها عربياً وعالمياً.   

خلال سنوات الحرب  تعرض الكثير من ورش صناعة الآلات الموسيقية لأضرار بالغة أوقفتها عن العمل، وخاصة في مدينة حلب، ومناطق جوبر وزملكا وداريا في ريف دمشق، التي كانت تضم عشرات الورش، فيما خسرت تلك الصناعة عدداً كبيراً من أمهر الصناع والأيدي العاملة الخبيرة، الذين غادروا البلاد لينقلوا خبراتهم إلى الخارج وليفتتح بعضهم ورشاً بديلة في أماكن إقامتهم الجديدة، في بعض البلدان العربية وتركيا وكندا وبعض بلدان أوروبا وغيرها.

وتعاني معظم الورش التي تمارس عملها اليوم من صعوبات عديدة، قد تُجبر بعضها على التوقف عن العمل، ومن أبرزها صعوبة توفير الأخشاب، حيث أدت العمليات العسكرية، التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، لاقتطاع وإحراق الكثير من الأشجار والبساتين والمساحات الخضراء، بالإضافة لإحراق وتدمير عددٍ من مستودعات الأخشاب، وخاصة في منطقة غوطة دمشق التي كانت تَمدُّ الصُناع بأجود أنواع الأخشاب،  فيما تعرض جزء كبير من أشجار البلاد، خلال السنوات الماضية، لعمليات القطع الجائر، سواء من قبل الباحثين عن حطبٍ للتدفئة، في ظل أزمة الوقود المستمرة منذ سنوات، أو من قبل تجار الحطب الذين انتشرت أسواقهم في عموم البلاد، هذا عدا عن الحرائق الطبيعية التي التهمت مساحات واسعة من الأحراش والغابات السورية. كل ذلك أدى إلى فقدان معظم أنواع الأخشاب التي  تحتاجها صناعة الآلات الموسيقية، والتي تؤثر في نوعية صوت الآلة وجودتها ومتانتها، وخاصة أخشاب الجوز والزان والمشمش، التي ارتفعت أسعارها اليوم، في ظل ندرة توفرها، إلى أرقام خيالية قد يعجز بعض الصناع عن توفيرها، إذ وصل سعر المتر المكعب من خشب الجوز إلى 25 مليون ليرة، وتجاوز سعر المتر المكعب من خشب المشمش والزان حاجز الـ 15 مليون ليرة.   

وبالإضافة لصعوبة توفير الأخشاب، تُشكل صعوبة استيرادها من الخارج تحدياً إضافياً لصُناع الآلات الموسيقية وللمهنة بشكلٍ عام، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير في دول المنشأ، مُقارنة بقيمة الليرة السورية، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف شحنها، في حال أمكن ذلك، وصعوبة إيصالها إلى سوريا  التي تشهد ركوداً في حركة الإستيراد والتصدير، في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.  

صعوبات ومعاناة أخرى

إلى جانب معاناتهم في توفير الأخشاب، يواجه صُناع الآلات الموسيقية معاناة كبيرة مع الانقطاع الطويل للكهرباء، التي قد لا تأتي سوى أربع ساعاتٍ في اليوم، والتي أدت إلى شلل حركة العمل في ورشاتهم لتصبح شبه عاطلة عن الإنتاج. وبما أن تلك الورش تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والجلخ وغيرها من المعدات الثقيلة، فإنها ستحتاج للاستعانة بمولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي ارتفعت أسعارها لأرقام كبيرة جداً. وفي حال توفرت المولدة فسيكلف تشغيلها مبالغ مالية كبيرة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود الذي سيتم شراءه من السوق السوداء. ومن أراد اللجوء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، التي انتشرت في سوريا مؤخراً، فسيحتاج إلى ملايين الليرات، لشراء ألواح الطاقة والبطاريات اللازمة لتشغيل معدات وآلات الورشة. كل ذلك، وإلى جانب ارتفاع إيجار الأماكن التي تصلح لتكون ورشاً للعمل، أدى لارتفاع حجم تكاليف الصناعة، التي أصبحت عائداتها المادية غير مُجدية بالنسبة لكثيرٍ من الصُناع، خاصة في ظل تراجع حجم الإقبال على شراء الآلات الموسيقية، بعد تردي الواقع المعيشي في عموم البلاد.    

وبالإضافة لما ذكر، يعاني معظم الصُناع من صعوبة توفير  الكثير من المواد الأولية ذات الجودة المطلوبة، كبعض أنواع الغراء الأحمر، المصنّع من مواد عضوية، ومفاتيح آلتي العود والبزق ذات النوعية الجيدة، بعد تراجع كميات إنتاجها مع توقف كثير من ورش الخراطة عن العمل. هذا إلى جانب صعوبة توفير ما يلزم من جلود بعض الحيوانات كالأغنام والماعز، والتي تستخدم في صناعة الآلات الإيقاعية كالدفوف والطبول، وذلك نتيجة تراجع حجم الكميات التي كان الصناع يحصلون عليها من المسالخ، بعد ارتفاع أسعار المواشي، وتراجع حجم الإقبال على شراء اللحوم التي ارتفعت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة.  

إلى جانب ذلك، أوجد الواقع الذي تعيشه سوريا صعوبة كبيرة في استيراد كثير من المواد والإكسسوارت التي تدخل في صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة أوتار العود والبزق وجلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية المعروفة. وفي حال تمكن المُصنع من استيرادها فسيحتاج لتكاليف مالية كبيرة، يُضاف إليها تكاليف الرسوم الجمركية، لذا أصبحت كثير من تلك المواد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب أو من خلال بعض الأشخاص المسافرين، ولكن ضمن كميات محدودة جداً، بالكاد تلبي حاجة عددٍ محدود من الآلات.

 ورغم عراقة مهنة تصنيع الآلات الموسيقية وأهميتها الثقافية، وبحسب ما أكده الصُناع الذين التقيناهم، لا يتوفر حتى اليوم  أي دعم حكومي من شأنه أن ينهض بواقع الصناعة، ولا يقام لها أي معرض ثقافي لتقديم منتجاتها، أسوة ببعض الدول، وهو ما يُشكل ظلماً لتاريخها وعراقَتها ويُجحف بحقوق الصُناع المعنوية والمادية، وخاصة صُناع آلة العود التي تُشكل إحدى الهويات الثقافية السورية، إذ لا يوجد حتى اليوم أي جمعية خاصة بهم، وإنما يتبع بعضهم، في أحسن الأحوال، للجمعيات الحرفية، وتُصنف مهنتنم  كمهنة صناعية، ضمن ورشات نجارة الخشب، وليس كمهنة ثقافية وفنية، فيما تخضع ورشاتهم، من حيث حجم الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء والماء،  لقوانين الورش الصناعية والتجارية.

تراجع جودة الصناعة

لطالما كانت سوريا من أهم الدول  العربية في صناعة الآلات الموسيقية، التي تتميز بأنها الأجود والأطول عمراً، بل تُعد من أهم دول العالم في صناعة آلة العود وخاصة العود الدمشقي. لكن تلك الصناعة، وفي ظل العوامل التي ذكرناها، أصبحت مهددة بتراجع جودتها يوماً بعد يوم. ففي ظل صعوبة توفير الأخشاب ذات النوعية الجيدة، يلجأ بعض صناع  آلتي العود والبزق لاستخدام ما توفر من أخشاب قد تكون مصبوغة ومتشققة وغير معالجة، أو معدة لتباع كحطب، وبالتالي لا تُقدم الجودة المطلوبة، فيما يلجأ بعضهم الآخر، في كثير من الأحيان،  لاستخدام أخشاب أشجارٍ مقطوعة حديثاً، لا تصلح للصناعة، كونها تحتاج إلى عملية تجفيف ومعالجة قد تستغرق عدة سنوات.

وفي ظل ارتفاع أسعار أوتار العود المستوردة وصعوبة استيرادها، بات معظم صناع الآلة يستخدمون الأوتار الصينية أو المصنعة محلياً، والتي لا تقدم الجودة المطلوبة وتؤثر على جمالية ودفء وعذوبة صوت الآلة، فيما أصبح استخدام الأوتار الجيدة محصوراً بطلبات بعض العازفين، إذ وصل سعر الأوتار من ماركة “بيراميد لوت”، المصنعة في ألمانيا، إلى نحو 800 ألف ليرة،  وسعر أوتار “الكورشنر”  و “الأورورا” ، المصنعة في تركيا، إلى أكثر من 300 ألف ليرة.

وبعد أن كانت معظم الآلات الإيقاعية تُصنع من أجود أخشاب الجوز والزان، بات بعضها يُصنع من بعض أنواع الأخشاب التجارية كخشب الحور والزنزلخت والكزبرينة وأحياناً الخشب المضغوط، وهو ما يؤثر على جودة الآلة وطبيعة صوتها ومتانتها، إذ يمكن لإطارها أن يتشقق وينحني ويفقد شكله الدائري بعد فترة قصيرة من تصنيعه. فيما استعاض بعض صناع آلة الرق عن استخدام الخشب، بصناعة إطار الآلة من مواد بلاستيكية تُصبُّ في قوالب خاصة بعد معالجتها. ورغم متانة الإطار، نسبياً، إلا أنه يُفقد الآلة طبيعة صوتها الدافئ ورونقه. وإلى جانب ذلك، يضطر بعض الصناع ، نتيجة صعوبة استيراد جلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية، لاستخدام الجلود المصنعة محلياً، والتي  تتأثر بعوامل الطقس بشكلٍ كبير، ولا تُقدم الصوت المثالي للآلة.

نتيجة للظروف السابقة تراجعت كميات الآلات المُصنعة، في مختلف أنواع الورش الموسيقية، إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فمعظم من التقيناهم من صُناع الآلات الإيقاعية في منطقة باب الجابية، وصُناع آلتي العود والبزق في منطقة دويلعة وجرمانا، أكدوا أن حجم إنتاجهم قد تراجع بنسبة 60% مقارنة بالسابق، وهو ما أدى لإيجاد نقصٍ في كميات الآلات المعروضة للبيع في معظم محلات الموسيقا. وقد تأثرت كميات إنتاج الآلات الموسيقية أيضاً بتراجع حجم صادرتها إلى الخارج، في ظل ارتفاع تكاليف الشحن وإيقاف معظم مكاتب الشحن الخارجي عملها في سوريا. كما تأثرت بتراجع حجم الإقبال على شرائها، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير،  نتيجة ارتفاع تكاليف صناعتها ونقلها، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر العود التدريبي نحو مليون ليرة، ووصل  سعر بعض أنواع العود الاحترافي  لأكثر من  سبعة ملايين ليرة، ليصبح شراء الآلات الموسيقية بالنسبة لكثير من الناس نوع من الترف والكماليات.  

بصمة الصراع الكارثيّ على الآثار السوريّة

بصمة الصراع الكارثيّ على الآثار السوريّة

منذ بدأت الثورة في سورية (مارس/آذار 2011)، راحت تتكشف معها التداعيات الاجتماعيّة حول طبيعة الأفراد والجماعات التي ينتمون إليها في سورية، صورة العنف المشترك من كلّ الأطراف، إضافة إلى تصاعد خطاب الكراهيّة؛ إمّا بسبب الانتماء أو بسبب الاختلاف السياسيّ والفكريّ.

لقد برزت البثور الفكريّة في الأفعال المنافية للإنسانية، وبدأنا نرى صور الفساد الضارب في عمق البلاد، مشاهد تؤكد على امتلاك الأغلبية لمعرفة مزيفة عن تقدير الإنسان لبلده وجذوره.

ربّما بدأت الأفكار – في هذه الثورة – على أنّ هدفها الرئيس هو إسقاط النظام السياسيّ، ومع تلك الأفكار والطموحات؛ ظهرت الآفات الكامنة تحت طغيان هذا النظام.

وفي الواجهة تقدّمت السلوكيّات الطاغية لأزلام السُلطة، سواء كانوا قادة حراك شعبيّ أو قادة فصائل مسلّحة.. معارضة أم موالاة، أو كانوا يتربعون على عروش الأزمات في سوريا حتّى قبل الثورة، كان الجميع يشترك، على نحو ما، في تدمير حاضر البلاد وماضيها.

الهدف مما أشرنا إليه أعلاه، هو محاولة تقديم صورة عن المناخ العام حول سؤالنا عن أثر الصراع القائم على الهويّة السورية فيما يخص الحفاظ على الآثار التاريخيّة في تراث تلك الهوية، حيث تعيش الانتماءات وفقاً للقيم والمنظومات والعادات والتقاليد التي تكرسها المجتمعات حسب شرائحها وطوائفها وثقافاتها المتنوعة، والمعروفة بكثرتها وتشعباتها في سورية.

انتماءات رتبت أولوياتها بعيداً عن سؤال وجودي متربط جوهرياً بالتاريخ: ما هي سورية؟ ومن نحن في هذه الجغرافية التاريخيّة الممتدة لآلاف السنوات؟

ربّما لاحظنا كيف كانت العودة للسلف والانتماء العرقيّ أو الدينيّ، هي أوّل الأشياء التي نمّتها السُلطة بين أفراد المجتمع، وكان ذلك خلال المظاهرات وانتشار السلاح والفوضى. وكيف قسّمت المناطق والمدن والمؤسسات والهيئات الإداريّة للبلاد، منذ زمن وفق توازنات مذهبيّة أو ولاءات سياسيّة، حيث أصبح للتفرقة عنوان واحد هو: الاختلاف.

وبعد مرور هذه السنوات من الصراع  المؤلم في سوريا بين السُلطة الحاكمة والجيش السوريّ من خلفها وحلفائها من جهة، ومن يعارضها من الشعب ومسلحيّ المعارضة وحلفائهم من جهة أخرى، ثمّ فيما بعد تحوّل الصراع إلى مُحاصصات إقليميّة حيّدت السوريّ، ولم تعد تهتم لأمر السوريّ – السوريّ، إنّما جعلت التبعية أساساً لمنح امتيازاتها ودعمها، فنتج أمامنا مثلاً: السوريّ- الإيرانيّ، السوريّ-الروسيّ، السوريّ-المعارض، السوريّ-البعثيّ، السوريّ-الإسلاميّ، السوريّ- الكرديّ، السوريّ- الموالي، السوريّ-التركيّ…إلخ، وضمن هذه التقسيمات اللّاسورية، والتي تحكمها نوعية التحالف ضدّ السوريّ الآخر- المختلف، تلاشت تقريباً الاهتمامات السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة بالهوية السورية في عمقها التاريخيّ، هُرّبت الآثار، نُهب معظمها، دمّر منها الكثير، اختلفت أسباب الاستهتار والاتجار بها واتفق الجميع على تحويلها إلى شيء بلا قيمة إنسانيّة!

واليوم، بعد مرور هذه السنوات منذ عام 2011، توجهنا إلى أشخاص لازالوا في سورية، يهتمون لشأن الآثار السورية وأخبارها التي يرثى لها، ترى كيف ينعكس حال الآثار السورية اليوم على تراث الهويّة السوريّة التاريخيّ؟ وما هي السُبل الحقيقية برأي المختصين لضبط وتوثيق وحماية ما تبقى من الآثار في سوريا؟

الآثار بخير؟

“تصف حال الآثار السورية بأنّها تستحق الرثاء، ولكني أقول إن الوطن السوريّ هو الذي يستحق ذلك” هكذا يبدأ د.فاروق إسماعيل، الباحث التاريخي حديثه لصالون سوريا، ويضيف: “لو تأمّلنا الواقع المعيشي للإنسان السوريّ المقيم أو النازح ضمن الوطن وخارجه، وما آلت إليه سوريا من تمزيق على أيدي عابثين ومغامرين وسياسيين وتجار الحروب والمعتقد الديني الذين فرضوا سلطتهم في معظم أرجاء سوريا، ويتصرفون بنهج استبداديّ أسوأ من السلطة المستبدّة التي هبت الثورة للتخلص منها، وقارنا ذلك بوضع المواقع الأثرية، فسوف نستخلص أن الآثار بخير. وتتحدث عن “غياب الاهتمام الحقيقي بها”، وهل هناك مبالاة بالإنسان وحياته؟ أعتقد أن وضع الآثار أفضل من معظم جوانب حياة الإنسان السوريّ، وأن الضرر الأكبر الذي لحق بها؛ من عبث وتخريب وسرقة وتجارة، تم خلال مرحلة سيطرة التنظيمات الجهاديّة الإرهابيّة، التي ما تزال مستمرة في مناطق سورية” بحسب رأيه.

تراث مشترك

فيما يرى الكاتب والباحث تركي المصطفى، المقيم في الداخل السوريّ اليوم، أن النظام يتحمل مسؤولية ما حدث لسوريا، فيما بقيت المنظمات الدولية “تراقب” كلّ ذلك، ويقول: ” كان هناك عملية تدمير منظم للآثار السوريّة التي تكشف عن حضارة عريقة، مرنة، تمكنت من استيعاب كلّ الحضارات التي أسهمت في تشكيل التاريخ البشريّ وتطور المراكز العمرانيّة، وتطوّر المجتمع السوريّ وتشكيل هويته الحضاريّة، ولعلّ أهمّ تلك الصروح هي ممالك “ماري” و “إيبلا” و “أوغاريت” والمدن الأثرية في الشمال السوريّ”.

وفي حديثه يتأسف “المصطفى” الشاهد على ما وصلت إليه حالة الآثار السوريّة من عمليات تنقيب عشوائيّة خارجة عن القانون: “بالأخص في منطقة وادي الفرات الواقعة تحت نفوذ الميليشيات الإيرانيّة، علاوة على تدمير المواقع الأثريّة بالطيران الحربيّ ومدفعية قوات النظام، كما في آثار تدمر التي قُصفت أعمدتها وأبنيتها” على حد قوله.

ويؤكد “المصطفى”: “لقد طال التدمير مدينة حلب وسوق المدينة التاريخيّ، ودمّر الطيران الحربيّ العديد من أحياء المدينة القديمة، ومثل ذلك فعل في مملكة “إيبلا”، وفي ظل الفلتان الأمنيّ وغياب الأجهزة المسؤولة عن حماية الآثار؛ باتت غالبيّة المواقع الأثرية السوريّة عرضة للسرقة وللتنقيب العشوائيّ، ومع ذلك، ورغم حالة الفوضى التي تسود الجغرافية السوريّة يمكن التحرك لحماية ما تبقى من آثار، فقبل أيام قليلة زرتُ “كنيسة قلب لوزة” الواقعة شمال غرب مدينة إدلب فوجدتُ أنّها بحاجة عاجلة للترميم قبل انهيارها وتهديد سلامتها، ومثلها غالبية المواقع الأثريّة، وباعتبار الآثار، إرثاً عالميّاً، فمسؤولية حمايتها تشمل المهتمين بالآثار من مؤسسات ومراكز دولية تتمتع بخبرات وكفاءات عالية سواء كانت حكوميّة وغير حكوميّة، كما ينبغي إشراك عامّة النّاس في نشر الوعي حول إشعارهم بالملكية والاعتزاز بالتراث الثقافيّ كمنجز اجتماعيّ وتكنولوجيّ تاريخيّ، وبالتالي لابد من إيجاد صيغة قانونية دولية لحماية الآثار السوريّة لردع الأنشطة غير القانونية. مثل فرض قيود على أعمال التخريب والتنقيب العشوائي والتجارة في الآثار وتصنيفها كمواقع محمية. وتقديم تسهيلات لإعادة القطع الأثريّة من خلال تعاون دوليّ للحفاظ على تراثنا الإنساني” بحسب تعبيره.

مشكلة الانتماء
عمل الباحث السوري، ماهر حميد، على موضوع الآثار السوريّة دون رغبة منه “بالانخراط في الموضوع السياسيّ”. وفي حديثه يؤكد “حميد” أنّه قام بإعداد تقرير منتصف العام 2015، وقدّمه للمبعوث الأمميّ آنذاك “دي ميستورا” وقد ناقشه د.عارف دليله، ويقول: “تعاني الآثار السوريّة من تدمير كبير اليوم، إضافة إلى السرقات التي حدثت والتنقيب غير المدروس الذي يدمر الطبقات الأثريّة، وذلك ما عانت منه مدن أثرية مثل “إيبلا” و “ماري” و”دوروا اوروبوس” و “أفاميا” على حد قوله.

ويشير “حميد” بالكشف عبر تقريره بأن “تنظيم داعش” وخلال سيطرته على مناطق شمال سوريا، وبعد تعرض التنظيم لحصار عسكريّ، ولم يعد لديه موارد اقتصاديّة بعد توقف تجارة النفط، توجه “التنظيم” إلى بيع الآثار السوريّة للاتجار بها، وتمريرها عبر تركيا من أجل تمويل أنشطته، وقد أنشأ ديواناً خاصاً لهذا الأمر أسماه آنذاك ديوان “الركاز”، يقول: “كنتُ قد طلبت أن يقوم التحالف الدوليّ ضد “التنظيم” برمي مواد معدنيّة وخردوات من طائرة على المواقع الأثريّة، وبالتالي أثناء عمليات النبش غير المدروس التي كان يقوم بها “التنظيم” في المناطق الأثريّة، سنجد أن معظم “النبّاشين” العاملين مع “التنظيم” و”النباشين” في المناطق الأخرى والذين كانوا ينقبون باستخدام جهاز كشف المعادن، تصبح عملياتهم بلا جدوى” بحسب قوله.

ويضيف “حميد”: “ومن بين الاقتراحات التي تضمنت التقرير هي أنّ تشكّل لجنة من الدول التي يقال عنها إنّها من أصدقاء سوريا (…) كي تشتري هذه الآثار من اللصوص في تركيا! مقابل أن تمتلكها لتسع وأربعين سنة، سواء اشترتها فرنسا أو ألمانيا أو غيرها من أصدقاء سوريا، وبعد انقضاء تلك المدة تعود لسوريا. لأنها لو بقيت أكثر من ذلك أي خمسين سنة ستصبح ملكاً للمقتني ولن تعود، ولكن لم يؤخذ بكلّ ذلك” على حد تأكيده.

ويعتقد “حميد” أن ما تعاني منه الآثار السوريّة لن ينعكس على الهويّة السوريّة، مبرراً ذلك بأن: “هوية الهلال الخصيب أصلاً مقسّمة، هناك جزء كبير من تراثنا أصبح في تركيا. ومن المعروف أن حضارة ما بين النهرين كانت واحدة وفيما بعد قسّمت إلى العراق، لبنان، فلسطين، الأردن، سورية. فالهويّة أصلاً مُفتّتة! مثلاً لو وجدنا قطعة أثريّة في الأردن، ماذا نسميها؟ آثاراً أردنيّة؟ بالطبع لا، هي آثار سوريّة، ولكن الهوية فُتت إلى خمسة أو ستة أجزاء. أعتقد أن المشكلة هنا هي في الانتماء. مثلاً، بعض الناس سرقوا مؤسسات الدولة، وأحياناً سرقوا بيوت الآخرين. فقد اعتبر هؤلاء أن الآثار هي جزء من الدولة التي هم بطبيعة الأحوال ضدها، نحن مشكلتنا سياسية، وبالتالي يعتبرون “بشار الأسد” هو مؤسسة المياه ومؤسسة الكهرباء وجميع مؤسسات الدولة (!) وهو في الوقت نفسه الآثار المدفونة تحت الأرض لأنها جميعها مرتبطة بشخص الحاكم.” بحسب رأيه.

ويروي “حميد”: مع بداية الأحداث في سوريا، أصبح هناك نوع من الفلتان الأمنيّ في منطقة (دير الزور) إلى (البوكمال) وبدأت تنتشر الكتائب ذات الأسماء الإسلاميّة مثل “كتيبة أبو بكر، كتيبة عثمان.. إلخ” وأنت تغادر من (دير الزور) إلى (البوكمال) وعلى الطرقات، بعد انطلاق هذه الكتائب، كنا نرى على طرفي الطريق خيماً كثيرة تحتوي على أشخاص من جنسيّات مختلفة، على “أمريكيين وسويسريين وبريطانيين. أتراك” وكلّ خيمة تحت “حماية” لواء من تلك الكتائب الإسلاميّة، وكلّ هؤلاء كانوا مختصين بالآثار، فصرنا نرى الفلاح الذي لا يعرف ما هي “ماري” يذهب مباشرة بتوجيه من إحدى الخيام إلى معبد “دجن” من أجل أن يحفر دون أن يعلم ما هي ماري أصلاً! ربما هذا المعبد معروف من قبل المختصين من الباحثين وسواهم، إنّما بالنسبة للفلاح فهو لا يعرف ما هو! فكانوا يحفرون ويبيعون ما يجدونه” على حد قوله.

توافق على التدمير!
يعتقد الكاتب والباحث السوريّ سعد فنصة أن السؤال اليوم عن الآثار السورية وانعكاسها في تراث الهوية السورية، “قد فات أوانه” لأن: “سوريا تتفكك، وهذه الحروب العبثيّة على أرضها شوّهت البشر قبل الحجر، وحماية بقايا الأوابد التي دُمرت أو نُهبت عن عمد مسألة لديّ شكوك عميقة ومبررة حولها”. ويرى “فنصة” خلال حديثه معنا بأن: “سوريا محتلة من قبل جيوش متعدّدة وحشود طائفيّة وإثنيّة، وتعاني من انعدام الأمن والاستقرار، وهذا ما يجعل مثلاً من حماية الأطفال من التشرد والفاقة والاستغلال؛ شأناً قريباً جداً من حماية الممتلكات الثقافيّة والإنسانيّة في سوريا، ولكنه للأسف بعيد المنال”.

ويضيف: “لقد تمّ نهب الإنسان في سوريا، هُجّر الملايين من سكنهم وحياتهم، واستقدم المحتلّ إلى الأرض السوريّة وجوهاً غريبة ومسلّحة، تمتلك الأرض وما عليها، وهي صاحبة الحقّ السياديّ حتّى على منظومة الحكم المتداعية، القائمة إلى اليوم في دمشق”.

ويؤكد “فنصة” أن كلّ هذه الحرائق التي نشاهدها ونسمع عنها بين الفينة والأخرى في المدن الأثريّة، ونهب حتى حجارتها الأثريّة وتغيير معالمها، هو جزء من خطة ما بعد التدمير الهائل للآثار بالآلة الحربيّة ولمرحلة تتعمق وتتسع، يقول: “أعتقد أن هناك مصالح عالميّة مشتركة في مسح الهويّة الحضاريّة والإنسانية والأثرية للشعب السوريّ. شاهدي وإثباتي فيما أدعيه هو أنّه ثمّة ست مدن سورية أثريّة هي في نطاق الحمايّة الدولية باعتبارها جزءاً من ذاكرة الإنسانيّة، نظراً لأهمية آثارها ومكتشفاتها ومخططاتها العمرانيّة! ماذا فعلت المنظمة الدوليّة (اليونسكو) في حماية ما سبق أن حرّرت عنه القوانين والمحاضر الملزمة في حماية الآثار السورية؟”.

ويوضح “فنصة”بأن المتاحف قُصفت بالبراميل والصواريخ، وكذلك أهم المواقع الأثريّة في بصرى وتدمر و “إيبلا” و “دورا اوروبس” و”ماري” و”أفاميا” وحلب القديمة وغيرها المئات من المدن الأثريّة التي عُدّ دمارها خسارة كبرى لذاكرة الشعب والوطن وعلم الآثار، يقول: “بعد ذلك هجم الجراد الحربيّ، ينبش في تربتها الأثريّة ويخرّب طبقاتها وينهب بقايا مكتشفاتها، هناك أكثر من مليون قطعة أثريّة من مختلف العهود نهبت من سوريا، وهي تباع اليوم في المزادات العالمية ومواقع التسوق بحسب أهميتها وارتفاع أثمانها”.

ويرى “فنصة” أنّ ما حصل في سوريا؛ حصل سابقاً في العراق، وأنّ كلّ الدراسات وأعمال المنظمات الدولية والمحلية ليست أكثر من مجموعات للإحصاء والتقصي! ليس لها وزن أو صوت أو فاعليّة على المواقع المُستهدفة بالنهب أو التخريب. كلّ ذلك لم يتوقف يوماً، منذ تاريخ طويل قبل الحرب أو الثورة أو الانتفاضة الشعبيّة العارمة في سوريا منذ العام 2011، وفي هذا السياق الكارثيّ، طالما بقيت الأمور السياسية والتحصينات العسكريّة والقوانين والتشريعات القديمة التي فاتها الزمن، على حالها، ودون حلّ سياسيّ بتأسيس مؤتمر وطنيّ شامل للسلام وتفعيل القرار الأممي 2254 المُلزم بخروج كلّ القوات المسلّحة المحتلّة للأرض السوريّة وإنهاء المنظومة الأمنيّة القائمة، لا أرى أيّة بارقة أمل في حماية الآثار قبل حماية النّاس والأبرياء من القتل والتعذيب والمعتقلات والتهجير” بحسب تعبيره.

ويرى “فنصة” أن الحلّ يبدأ من التفكير بمحاسبة المتسببين بالكارثة البشريّة والبيئيّة والأثريّة ووضع القوانين الحازمة الملزمة بملاحقة اللصوص والقتلة والمجرمين، دولياً، إلى آخر الدنيا، والذين ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر بسرقة ونهب وتدمير الآثار السوريّة، يقول: “كلّ ذلك كان يمكن الإصرار عليه عبر حزمة متكاملة من مشروع العدالة الانتقالية الذي جاء عليه القرار الأممي، ولكنّه بحاجة إلى شخصيات وطنيّة حقيقيّة تتحمّل مسؤولية حمل تبعات تنفيذ القرار الأممي، وملاحقة المسؤولين الدوليين عن تأخيره ولكن ليس بهذه المعارضة الوهميّة المائعة في رموز الائتلاف التي وظفتها الاستخبارات العربية وصنعوها من مافيات سياسية دولية لمفاوضة الأسد على تقاسم السلطات طوال السنوات الماضية والتي ولم ولن تحصل عليها” بحسب رأيه.

ويختم “فنصة” كلامه بالقول: “الشأن السياسيّ لا ينفصل عن الشأن الإنسانيّ في الصحة والتعليم والثقافة وحماية الآثار. إن سوريا مكتبة معارف أثريّة عريقة -كما أردد دائماً- تمّ تدميرها عن عمد وهيهات أن تُستعاد في ظلّ الظروف والشخصيات المرتزقة نظاماً ومعارضة!”.

عن آلام الناجين السوريين.. وأجسادهم الناطقة

عن آلام الناجين السوريين.. وأجسادهم الناطقة

“مؤلم”

الكلمة نفسها؛ تستخدم لوصف جرح بسيط في اليد أو لمخاض الولادة، يمكن ربطها بالصداع الطفيف أو بألم الأسنان الشديد، قد نستعملها لتجسيد حرق سطحي من الدرجة الأولى أو للنوبات القلبية الحادة!

كسوريين، ندخل عامنا الرابع عشر للحرب، نسأم من كلمة “مؤلم” التي لم تعد تُسعفنا لنعبّر عن مختلف أوجاعنا الجسديّة والنفسيّة، نستحضر تفاصيل ذاكرتنا المُتخمة، نطرق أبواب اللّغة بأيادٍ شققتها الحرب، لكن أجسادنا المنهكة تنقاد نحو أدبيات جديدة لتروي حكايتنا.

الأجساد تتكلم

“حاسة في هدير براسي، متل هدير الطيارات”، تتذكر نور (اسم مستعار) الكلمات بصورة مشوشة في عيادة طبيب الأمراض الداخلية في بلدة “زملكا” بريف دمشق الشرقي، حين تستحضر الأعراض التي تعاني منها.

تنشج بحرقة وألم فيما تغطي وجهها بكفيها، تتلعثم حين تتابع بكاءها، ثم ترفع رأسها وتتشاغل بتقليب منديل ورقي بين يديها، تسود برهة من الصمت قبل أن تنطق: “كنت خاف من الطيارات، صارت الطيارات جوا راسي”.

يؤكد الفحص السريريّ كما يقول الطبيب (ش. ن) أخصائي الأمراض الداخلية أن (نور) تعاني من صداع مترافق مع ارتفاع ضغط الدم، لكنها تصف الصداع الذي تعاني منه بعبارة “يشبه هدير الطائرات”، فيما يشير المرضى عادةً إلى هذا العرض بكلمة “طنين”.

خاضت (نور) كما الكثير من السوريين تجارب صادمة ومؤلمة تسبّبت بها الحرب الدائرة في البلاد، أثرّت بشكل مباشر على أدبيات لغتنا كضحايا حرب، وحوّرت طرقنا ومفرداتنا في التعبير عن الآلام والأوجاع.

يقول الطبيب (ش. ن) إن عمله كطبيب أخصائي مع جمعية أهلية سورية (نتحفظ عن ذكر اسمها بحسب رغبة الطبيب) في بلدتي “زملكا” و”سقبا” في غوطة دمشق الشرقية؛ قد جعله على احتكاك مباشر مع ضحايا الصراع العسكريّ الدائر على مدى أكثر من عقد من الزمن في هاتين المنطقتين اللتين شهدتا حصاراً عسكريّاً امتدَّ لنحو خمس سنوات.

يستعرض الطبيب ملاحظاته عن تغيير واضح في المفردات التي يستخدمها المرضى اليوم للتعبير عن الأعراض الجسديّة التي يعانون منها، واستخدامهم لمصطلحات مستوحاة من الحرب للتوصيف رغم انتهاء الصراع العسكريّ ميدانيّاً، مثل “حاسس راسي رح ينفجر”، “في صوت هدير طيارات براسي”، “في ألم حارق وكأنّ في شظايا اخترقت جسمي”، “كأنّ قنبلة عم تنفجر بداخل بطني”، وبالتحديد في المناطق التي عانى سكانها بشكل مباشر من مواجهات عسكريّة ميدانيّة مروّعة.

تضليل التشخيص

يشير الطبيب (ش. ن) إلى أنّ استخدام المرضى لهذه المصطلحات أثناء أخذ قصتهم السريرية قد يؤثر بشكل مباشر على تشخيص الطبيب، فمن المحتمل أن تبعد هذه المصطلحات الطبيب إلى حدّ ما عن التشخيص الصحيح للأمراض العضويّة كالضغط ونقص التروية وتوجهه أكثر نحو الاضطرابات النفسيّة، سيما مع إمكانية إغفال المريض عن ذكر بعض الأعراض المرافقة مثل تسرّع القلب أو اللّهاث أو ضيق التنفس.

ويؤكد الطبيب (ش. ن) على ضرورة قيام مقدمي الرعاية الطبيّة بشكل عام وفي المناطق التي تعرضت لمعارك عنيفة واشتباكات عسكريّة بالاستقصاءات الطبيّة اللّازمة كالتخطيط الكهربائيّ والإيكو والتحاليل للتشخيص، وبعد نفي هذه المشاكل العضويّة التوجه للاضطرابات النفسيّة، مع أخذ تأثير الحرب على سلوكيات المرضى ولغتهم وتوصيفهم بعين الاعتبار.

جغرافيا

من جانب آخر، يبدو أن هذا التغيير السلوكيّ يرتبط بشكل وثيق بجغرافيا البلاد، وتباين شدّة الصراع الدائر على اختلاف المناطق، حيث تنفي الطبيبة أخصائية الأمراض العينية، وفاء الحسن، مصادفتها لأيّ تبدل بمفردات الشكايات الطبيّة عند مرضاها في منطقتي “جرمانا” و”السيدة زينب” بريف العاصمة الجنوبيّ، واللتين لم تشهدا مواجهات عسكريّة ميدانيّة على الأرض.

توضح (د. وفاء) في حديثها معنا أن تعرض المريض لأهوال الحرب قد يدفعه ليسقط ألمه النفسيّ على ألمه العضويّ لكي يصف أوجاعه، بمعنى آخر يجسّد المريض ألمه النفسيّ جسدياً. وتشرح أكثر: “نقوم بأخذ القصة السريريّة للمريض للأعراض التي تهمنا في اختصاصنا، كالسوابق المرضيّة، الأدوية، العمليات الجراحيّة السابقة، العوامل التحسسية، الشكاية، والأعراض التي يعاني منها المريض، ثمَّ نقوم بجمع هذه المعلومات ونقاطعها مع كلّ من فحصنا السريريّ والاستقصاءات الطبيّة الإضافية كصور الأشعة والتحاليل وغيرها لنصل للتشخيص الصحيح وهذا ما يسمى بـ “دراسة الحالة”، ولا نكتفي فقط بأخذ القصة السريريّة”.

وعن تأثر التشخيص الطبيّ باستخدام المريض لهذه المصطلحات، ترى (د. وفاء) أن التشخيص الطبي لا يتأثر في حال قام الطبيب بالاستقصاءات الطبيّة المطلوبة، ومقارنة نتائج دراسة حالة المريض مع المصطلحات التي يستخدمها لوصف الألم، وبشكل عام من المهم جداً أن تتكامل القصة السريريّة مع الاستقصاءات والتشخيص من قبل مقدمي الرعاية الصحية.

“جسدنة الألم”

في كتابها “الحرب اليوميّة” الصادر عام 2023، تستعرض الباحثة (غريتا لين أولينج) اللّغة المتجسدة التي يستخدمها الأوكرانيين من ضحايا “الحرب الروسية الأوكرانية”، وتوضح أن ذكريات الضحايا لا تُفقد بالضرورة، بل في كثير من الأحيان تتجسد في شكل أحاسيس جسديّة، وقد يجد الناجون أنفسهم يلجأون، بوعي أو بغير وعي، إلى طرق مختلفة لوصف تجاربهم.

وبحسب (يولينغ) فإن الضحايا يروون قصصهم من خلال الإشارة إلى التغيرات الجسديّة التي مروا بها، ويسمّي علماء النفس هذا الأمر “الجسدنة”: عندما يعبر الضيق العقليّ والعاطفيّ عن نفسه جسديّاً.

اللغة تمتلك جسداً “لبيساً”!

يشير اختصاصيّ علم الاجتماع الإعلاميّ، ماهر الراعي، في حديثه معنا إلى أنّ هذه الظاهرة هي ظاهرة طبيعية جداً بل متوقعة بغض النظر عن الجغرافيا المحددة، فحتى المناطق التي لم تتلق ناراً مباشرة من الحريق السوريّ الكبير لم تنجو من تسرب لغة الحرب الى قاموس أفرادها.

يتابع الراعي حديثه: “اللّغة تملك جسداً لبّيساً، من السهل أن تحضر مفردات الحرب أو مفردات أي ظاهرة بمجرد عايشها البشر لفترة مهما قصرت فمثلاً كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا مؤخراً وانتشار لغة التحليل العلميّ سربت عدة مفردات إلى لسان الناس يستخدمونها بمقامات ومواقف غير ذات صلة بقضية الزلازل والكوارث كأن يقول جاري لصديقه: (جايبلك دخان عربي تكتوتني)، أو شاب يصف صبية مرت بقربه: (هلا فهمت ليش “فرانك” بضل يتوقع زلازل تضرب منطقتنا…)، فما بالنا بسنوات طوال من العيش قرب تفاصيل الحرب والاقتتال السوريّ”.

ويردف: “عادة ما أراقب ملامح الأطفال حين يستمعون بقصد أو بغير قصد إلى أحاديث الأهل وأكاد أجزم أنّني كنت ألمح بدقة جهاز “الإيكو” كيف تستطيع مفردة “شهيد، أو فطيسة، أو شظية، أو جريح، أو انفجار، أو كمين أو أو”.. كيف كانت تتموضع في رؤوس الأطفال الصغيرة.. ولا بد أن هذا القاموس سيتم استخدامه لاحقاً فالانسان بالعموم كسول فيما يخصّ الاستخدام اللغويّ إذ عادة ما يستعير مفردات وينقلها بين الميادين ما إن يشعر أنّها صالحة للتعبير والإفصاح، لكن وعلى الرغم من كلّ هذا وعلى الرغم من الحضور الطاغي للغة الحرب إلا أنّني أظن أنّها لن تستمر طويلاً فيما لو خرجنا من الحرب -وهذا مجرد تخمين أستند فيه إلى اعتقادي بأن العقل يملك آلياته وأساليبه لنفض ما يؤذيه من الذاكرة كنوع من التعافي وبذلك سيلعب لعبته بتناسي هذه المفردات وإقصائها من الاستخدام بشكل لا شعوري”.

انتهت الحرب أم لم تنته، لا يهم، عالمنا الداخلي والخارجي قد تغير بالفعل، صبغتنا الحرب بالدم والبؤس، وأطبقت على لغتنا كما أعناقنا، صارت آلامنا قنابل تتفجر وطائرات تهدر وشظايا تتطاير عند أول منعطف!

أمهات سوريات مقاتلات في غياب الأب

أمهات سوريات مقاتلات في غياب الأب

“كان عمري اثني عشر عاماً حين اختطف والدي بداية الحرب في حمص، كان يعمل سائق تكسي، خرج من المنزل يومها ولم يعد، لم أكن سوى مجرد فتاةٍ في الصف السادس الابتدائي لعائلة فقيرةٍ مكافحة ودوني أختين صغيرتين. ظللنا ننتظر عودة والدنا طويلاً، حتى هذه اللحظة ننتظره”. تقول ريم عكاري بغصةٍ وتشرع ببكاء يكاد يبدو أنّه لن يتوقف، تفتح حقيبتها بحثاً عن منديل تجفف به دموعها، وتصمت قليلاً.

ما كانت لتهدأ حتى فتحت هاتفها وتنقلت قليلاً بين الصور فيه لتنهار بكاءً من جديد، استعرضت صوراً لوالدها قائلة: “يا ضيعان هالشبوبية!، أليس حراماً أن يرحل رجل كهذا؟ لا كشهيد ولا كجريح ولا بمصير معروف، فقط مفقود منذ 14 عاماً، لا جثمان له نشيعه ولا قبر له كي نزوه لنبكي هناك، فقط صورٌ كثيرة ظلّت من تلك الأيام التي كان يعود فيها للمنزل ليلاً ورغم إرهاقه يعانقنا ويلهو معنا قليلاً، هل عليّ الآن أن أشرح من هو الأب في حياة الإنسان، في حياة الأسرة، في دورة الكون بأكمله؟”

الفضل لوالدة جبّارة

وفقاً لريم، كان والدها يعيل أسرته بنجاح ويؤمن لها حياةً كريمة على الدوام قبل الحرب، ولكن مع غيابه تأخر كل شيء، ووجدت ربّة المنزل نفسها فجأة تعمل في تنظيف المنازل ومسح أدراج الأبنية والتعزيل. كان عليها أن تفعل كل شيء لئلا تجوع بناتها، ويمتنَ من الفقر والحاجة، لئلا تذلهنّ الحياة وتدلهنّ على درب الانحراف والأخطاء التي لا تحصى.

تقول ريم مؤكدة إنّه لا دور لها بما هي عليه الآن، بل كان كل ذلك بفضل والدةٍ جبّارةٍ كانت رجلاً وامرأة لسنوات عجاف طوال، خلالها كابدت وقاست وتحملت المشقة والمهانة، وبكدّ يمينها وعرق جبينها قاتلت لتحمي تركة زوجها من الأرواح الصغيرة، قاتلت وتمكنت من إيصالهنّ إلى برٍّ من الأمان الذي يعطي دروساً تنبئ عن قوة الإنسان.

صار عمر ريم اليوم 26 عاماً، تخرجت قبل سنوات بمرتبة الامتياز من كليّة الاقتصاد، توظفت سريعاً في أحد البنوك الخاصة، وتدرجت داخله في المناصب حتى صارت اليوم مديرةً لأحد أفرعه في المحافظات في خطة سيرٍ مهنية قد يكون القدر ابتسم فيها للفتاة قليلاً، لكنّ الكفاح كان مفتاحها.

دافعت عن مستقبلهنّ

لم تك والدة ريم تريد الحديث، السيدة الخمسينية التي تبدو عليها ملامح الشقاء ويحفر في وجهها تعب السنين، ترى أنّها لم تفعل معجزةً ولم تقم بعملٍ بطولي، هي قامت بدورها الذي أنجبت من أجله بناتها، هي دافعت عن مستقبلهنّ فقط.

تقول الوالدة: “وظيفة ريم وترقيها المهني غيّر حياتنا بالكامل، أعادني مرّة أخرى سيّدة للمنزل ولكن ليس دون عمل أيضاً، بل بأعمال لطيفة تناسب سني وتعبي، إذ صرت أحضر حلويات منزلية وأسوقها وأبيعها وهكذا، وكذلك ظلّت مايا أختها الأصغر منها وهي الآن في سنتها الرابعة في كلية الطب، أما الصغرى فهي نور، السنة القادمة ستتقدم لامتحانات الثانوية العامة، وهؤلاء الفتيات، لسن بناتي فحسب، لكنّهنّ شريكات دمعاتي وحياتي وكفاحي أيضاً، لم يخذلنني لحظةً أمام كلّ ما بذلت في سنوات من تعب.”

تبرأت من بناتها

قد تبدو قصة ريم، قصة سير حياتها قياساً بما عانته وما وصلت إليه مثالية، بل مغرقة في المثالية، وكمثل قصة ريم هناك مئات وربما آلاف القصص، لكن على الجانب الآخر من الحرب ثمّة قصص موغلةٌ في الظلام والقهر والتفكك المجتمعي الذي خلّفه غياب الأب عن العائلة.

من بين تلك القصص الموحشة قصّة عائلةٍ فقدت الأب في عام 2013 إثر العمليات الحربية المشتعلة بضراوة آنذاك في ريف دمشق، ولحقه ابنه الوحيد قتيلاً بعد عامٍ واحدٍ إثر التحاقه مقاتلاً بإحدى الفصائل المسلحة.

كان لتلك العائلة ثلاث فتيات أخريات، الكبرى في أربيل منذ عام 2016 عاماً تقريباً، الثانية هربت وتزوجت سرّاً وانقطعت أخبارها، أما الصغرى فقد سلكت درباً لا يتماشى مع الأعراف والتقاليد، تلك كلّها تفاصيل روتها الأم التي ظلّت تعيش وحيدةً في منزلها دون أن تتوانى لحظةً في القول إنّها تبرأت من بناتها.

لسنَ بناتي

تقول الوالدة خلال حديثها: “هنّ لسنَ بناتي، كنَ كذلك حتى قبل عشر سنوات أو أقل بقليل من الآن، قبل أن أخسرهنّ واحدةً تلوَ الأخرى، ألم من الممكن أن نعيش فقراء ولكن بشرف!، ألهذه الدرجة موت رجل العائلة أظهر ما بنفوسهنّ من قدرة على سلوك درب الانحراف والتمرد على الأعراف والقيم والمجتمع، والأهم، على قلب أمٍ ربتهنّ كلّ شبرٍ بنذرٍ! والله لم أبخل عليهنّ، وبعد وفاة زوجي وابني صنتهنّ برموش عينيّ وحاولت بطاقتي كلها أن أحافظ عليهنّ وأرفع رأسي بهنّ. لكننا ككل السوريين وصلنا اليوم الذي بكينا فيه من الحاجة والجوع والفقر وما من ربّ أسرةٍ يدق الباب ظهراً قادماً من عمله ليسند هذه الأضلاع المنكسرة.”

وتضيف: “آخر ما عرفته عن فاطمة ابنتي الكبرى أنّها تعيش مع رجلٍ عراقي في أربيل دون عقد زواج، وهناك تعمل في ملهى ليلي، حاولت وحاولت كثيراً التواصل معها ولكنّها لا تريد. اختارت حياةً مقرفةً كفيلةً بخفض رأس أعتى الأمهات، وما حصل معنا جعل عائلة زوجي تتبرأ مني وأنا التي لم أتزوج بعده لأربي البنات، وهـذه العائلة أصلاً لم تلتفت لنا في عزّ حاجتنا، ولكنّ الفضيحة تعم، والجميع يريد أن يحاسب الضعيف.”

وتتابع: “ابنتي الوسطى ميمونة هربت من المنزل وتزوجت سراً من رجل، علمت أنّها في حلب منذ مدّة، وكذلك لم أستطع الوصول إليها. أما الصغرى خولة فأنا بنفسي طردتها من المنزل ودمع الدنيا يعتصر في مقلتي، تلك الفتاة فضحتنا، كلّ يوم توصلها سيارة مختلفة للمنزل، وكل مرة تتلقى اتصالاً من رجل مختلف، وفجأة بدأت تظهر معها أموال وقطع ذهبية، فهمت كل شيء، طردتها وطردت قلبي معها. الشرف في تربيتنا قبل المشاعر، وانظر، كل ذلك لأنّ زوجي ليس هنا، لعن الله هذه الحرب ومن أشعلها ومن كان سبباً في موت كل سوري وفي خسارة بناتي”.

في السجن

خرجت هيفاء من السجن قبل أشهر وهو اسم مستعار لفتاة من دمشق وقد دخلته إثر حكم قضائي يتعلق بتعاطي وتجارة المخدرات والارتباط بأعمال جنسية وأخرى منافية للآداب المجتمعية. لم تكمل هيفاء عامها الخامس والعشرين، وبشعرها الأشقر وطلّتها البهية وأسلوبها الذكي في الحوار لا يمكن إطلاقاً أن تولّد انطباعاً أنّها اليوم سجينة سابقة.

بدأت قصة هيفاء حين قتل والدها في الحرب وصارت تعاني ظلم وتحكم زوجة والدها التي ظلّت تعذبها وتفتعل المشاكل معها إلى أن أجبرتها على ترك المنزل بعمر 19 عاماً، وفي هذا العمر كانت تبدو الفتاة صغيرةً، غضّة، ولا تملك خبرة في الحياة، وكانت طالبةً في السنة الأولى في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ومن مقاعد تلك الكليّة بدأت رحلتها التي قادتها نحو السجن.

درب الجريمة

تروي هيفاء بشيء من الندم مجريات سنينها الفائتة: “في الجامعة تعرّفت على شلّة من الأصدقاء، نمت علاقتنا وتوطدت، كانوا نوعاً ما مرتاحين ومترفين على عكسي تماماً، صرت أشاركهم جلساتهم ولقاءاتهم حتى تلك المسائية. وخلال إحداها جرّبت لأول مرّة سيجارة الحشيش، والسيجارة جاءت بحبة كبتاغون، والحبّة جاءت بمخدرات أخرى”.

وتضيف: “صار يكثر جلوسنا في مقهى شبابي، هناك تعرف علينا صاحب المقهى واستغلنا في ترويج المخدرات مقابل المال، ولاحقاً استغلنا في أشياء كثيرة كالخروج مع رجال وتمضية أوقات، أعجبني الأمر، صرت أجني الكثير من المال وصرت مستقلة وسيّدة نفسي. والأهم أني ورغم كل ما أخطأت به وأعترف به اليوم ولكنّي حافظت على مسافة مع أولئك الرجال، مسافة تسمح باللمس وتمنع جعلي غير عذراء، فأنا تحديداً أعرف قدسية هذه الأمر، أخطأت كثيراً ودخلت في دوامات من المخاطر والقلق ولكني لا زلت عذراء، ولا أدري إن كان ذلك مهماً بعد كل ما فعلت”.

تنوي اليوم هيفاء استكمال دراستها، تقول: “نالني أقذر ما في هذا البلد واكتفيت”، تبحث عن عمل شريف بمردود جيد بعيد عن أيّ شبهة، تعتقد أنّها ستنجح، وتشير ضاحكة: “قد أعمل على تيك توك، البلد كلّها هناك، والجميع يجني أموالاً وحتى المشاهير، دون انتهاك للكرامة أو مخالفة للقانون”.

وتختم حديثها محملةً وزر كل ما مرّت به لرحيل والدها وسندها ولقسوة زوجته عليها، ولولا ذلك لكانت الآن خريجةً جامعية وتعيش حياةً مختلفة بالمطلق.

رجال ونساء

آلافٌ من القصص يمكن الحديث عنها في سوريا، عن عائلات بلد الحرب، لكلّ أسرة حكاية ووجع، لكنّ الأكيد أنّ الحرب كما دفعت بعائلات وأمهات لتقاتل لأجل مستقبل الأولاد، كذلك جعلت من أسر أخرى عرضةً للتفكك والضياع وانهيار قيم منظومة الأخلاق والأعراف.

لم يتناول هذا المقال حال الشباب بعد رحيل آبائهم، لأنّ حالهم في المجتمع السوري محكوم بشروط اجتماعية مختلفة عن النساء والتي تبرر أفعال الرجل فكما يقال في العامية: “يدبّر رأسه”، وإمعاناً في تنظيف صورته يُقال: “لا يعيبه شيء.” والجديد بالذكر أن مقالات مستقبلية يمكن أن تغطي الأبعاد الجندرية لتجارب الصبيان والشباب بعد غياب المعيل.

الصيف ووصمة الفساد في سوريا

الصيف ووصمة الفساد في سوريا

يُعاني مُعظم السوريين من الحر الشديد في سوريا، وأنا على اتصال دائم مع الأحبة الذين اضطروا أن يحتملوا قطع الكهرباء لمدة خمس ساعات أو أكثر حسب المناطق، بعدها تأتي الكهرباء لمدة ساعة لا تكفي لإنجاز أي شيئ من استحمام أو تشغيل الغسالة أو شحن الموبايل. لكن المُخزي أكثر هو اضطرار المواطن للخضوع للفساد.

الرسالة: تبحلق عيون السوريين في شاشة الموبايل بانتظار الرسالة التي تحدد لهم موعد دور كل منهم في تعبئة السيارة بالبنزين بالسعر الذي حددته الدولة. كانت الرسالة تصل إلى صاحبها كل عشرة أيام، وكمية البنزين لا تكفي سوى لمشوار واحد فقط من اللاذقية إلى كسب أو صلنفة، أو حتى لقضاء حاجيات داخل المدينة. أصبحت رسالة البنزين منذ مدة تصل كل ستة عشرة يوماً وبالكمية الضئيلة ذاتها، و90 بالمئة من السوريين لا يملكون الإمكانية لشراء البنزين غير المدعوم بسبب أسعاره الخيالية. العديد من الأسر تؤجل مشاريعها في الذهاب إلى مصيف أو مشوار لأيام بانتظار الرسالة والكارثة الأكبر أن الميكروباصات التي يعتمد عليها معظم المواطنين السوريين (التي تنقلهم من الريف إلى المدينة وبالعكس) تتلقى كمية البنزين تماماً كمواطن عادي أي أن الميكروباص الذي يستلم حصته من بنزين الدولة يستطيع أن يقوم برحلة واحدة فقط في اليوم وإجرة الراكب 3500 ليرة. لكن أصحاب الميكروباصات لا يستطيعون تأمين حاجة أسرتهم من الخبز بالاعتماد على الحصة الضئيلة من البنزين كل سته عشرة يوماً فيضطرون أن يشتروا البنزين باهظ الثمن (غير المدعوم ويسمونه البنزين الحر) ليقوموا بعدة رحلات بين المدن والقرى. في هذه الحالة على المواطن المُسافر أن يدفع إجرة السفر أكثر من     3500 لتصبح إجرة الراكب (16 ألف ليرة سورية). ولو أرادت أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص فقط السفر بالميكروباص عليها أن تدفع مبلغ (64 ألف) ذهاباً و(64 ألف) للعودة. وهذا المبلغ يعجز عنه معظم السوريين.

ليست مسؤولية أصحاب الميكروباصات أن يضطروا للجوء إلى شراء البنزين الحر (باهظ الثمن)، وهم مجبرون أن يرفعوا تسعيرة إجرة الراكب الذي هو بطريقة ما شريكهم في نوع من الفساد، فساد مفروض على المواطنين وعلى أصحاب الميكروباصات. ونتج عن هذا الوضع أن الكثير من الموظفين الذين يسكنون قرى قريبة من المدينة ألا يلتحقوا بعملهم يومياً لأنهم عاجزون عن دفع الإجرة. وتم التواطؤ بين الموظفين بتقسيم الدوام في العمل بطريقة منطقية أي يداوم الموظف ثلاثة أيام، ويعمل نيابة عن زميله الغائب والذي يسكن مناطق بعيدة، بعدها يأتي دور الموظف الغائب ليغطي العمل ثلاثة أيام عن زميله. الحال نفسه بالنسبة لطلاب المدارس وللمدرسين معظمهم يضطرون للتغيب عن الدوام بسبب عدم قدرتهم على دفع إجرة المواصلات.

أما الغلاء الفاحش لكل المواد حيث سعر كيلو اللحم (200 ألف لحم العجل و250 ألف لحم الغنم) أي ما يعادل راتب الموظف. غلاء الدواء وانقطاع العديد من الأدوية خاصة الأدوية لمعالجة السرطان وأدوية الطب النفسي (وإن توافرت فهي للأسف سيئة بإعتراف الأطباء النفسانيين)، وأصبحت مُعاينة الطبيب خمسين ألف ليرة سورية. أصبح العديد من المواطنين يلجؤون إلى الصيدلاني أو الصيدلانية ليصفوا لهم الدواء لمرضهم موفرين على أنفسهم معاينة الطبيب. ويجب أن نذكر أن الكثير من الأطباء هاجروا من سوريا إلى دول أوروبية أو دول الخليج لأن الضرائب التي تفرضها عليهم الدولة باهظة بشكل لامعقول ولأن ظروف العمل أصبحت صعبة في ظل انقطاع الكهرباء وفقر المرضى والظروف العامة بالغة الصعوبة. أخبرتني إحدى الصديقات وهي مهندسة أنها تحتاج كل شهر إلى 200 ألف ليرة سورية ثمن دوائها لكنها كما قالت مشتركة في التأمين الصحي لنقابة المهندسين، وعليها أن تدفع مليون ليرة سورية قيمة التأمين كل سنة. وراتبها التقاعدي بعد ربع قرن من العمل يساوي (160 ألف ليرة سورية) أي أقل من سعر كيلو اللحم.

المؤلم والمُخزي أن آخر الإحصائيات بينت تراجعاً كبيراً في النمو الجسدي والعقلي للأطفال لأن معظم غذائهم سندويش بطاطا، كنتُ أرى حشداً من العائلات في اللاذقية (أحكي ما كنت أراه منذ أربع سنوات قبل سفري إلى باريس) آباء وأمهات وأطفالهم يقفون في طابور أمام محلات الفروج المشوي (أو البروستد) يسيل لعاب الأطفال على قطعة لحم (صدقاً رأيت أطفالاً يسيل لعابهم)، لكن أهلهم لا يملكون سوى شراء سندويشات بطاطا (خبز وبطاطا مقلية). اليوم أصبح سعر الفروج المشوي 300 ألف ليرة سورية، وثمة معلومة طبية مهمة جداً أن اللحوم تحتوي على ثمانية أنواع من البروتينات لا توجد إلا في اللحوم الحمراء وهذه البروتينات ضرورية وأساسية لنمو الأطفال. أكثر من 87 بالمئة من أطفال سوريا محرومون من اللحوم والأسماك والخضار والفاكهة. هذا يؤثر على نمو العضلات والعظام والدماغ إضافة إلى أصعب ألم وهو الحرمان. السوري الذي يتلقى معونات وحوالات خارجية يتمكن من العيش الكريم، يستطيع أن يأكل ويطعم أولاده اللحم والسمك ويشتري لهم دمى ولباساً لا تفوح منه رائحة البالة.

في الطب النفسي وفي كتب علم الاجتماع هناك حالة اكتئاب عام يصيب المجتمع، حيث يستسلم المواطن للقهر والحرمان واليأس وقد أنهكته ظروف قاسية لا تُحتمل، وهو يرى أن الأوضاع تزداد سوءاً، والعبارة الموحدة بين الناس المكتئبين (ما باليد حيلة أو مناجاة رب العالمين). يُمكن تشبيه حالة الشعب السوري وظروف معيشته بما يُسمى في الطب الموت السريري أي أن كل أعضاء الجسم تمرض وتتوقف عن العمل خاصة الدماغ، وحده القلب يستمر في الخفقان كرقاص الساعة.

يستحق الشعب السوري حياة كريمة، يستحق ألا يجد نفسه متورطاً في تحمل ظروف ناجمة عن الفساد العام، بحيث يبدو وكأنه شريك في الفساد بتغيبه عن عمله لأيام بسبب غلاء المواصلات، خاصة وهو يرى أثرياء الحرب وفحش ثرائهم وهم يتباهون بسياراتهم الفارهة وحفلاتهم الباذخة وينشرون الصور على مواقع التواصل الإجتماعي.

الحياة ليست تراكم أيام، ليست كأوراق شجر يابسة متساقطة، السوري يستحق حياة كريمة وحرية انتقاد عيش ذليل دون أن تهبط عليه تهمة جريمة إلكترونية.