مستقبل سوريا بعد سقوط النظام: ما يقوله المثقفون

مستقبل سوريا بعد سقوط النظام: ما يقوله المثقفون

مع سقوط النظام السوري يوم 8 ديسمبر 2024، تنفتح البلاد على مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والتطلعات. بعد عقود من الاستبداد والصراعات، يواجه السوريون مسؤولية جسيمة لبناء دولة تعكس تطلعاتهم للحرية والكرامة. 

إن تحقيق هذا الهدف يتطلب تجاوز إرث طويل من الانقسامات العرقية والدينية التي تشكلت بفعل النظام السابق وسطوة القوة العسكرية على السياسة، والسعي من أجل إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية على أسس جديدة.

التحدي الأول يتمثل في كيفية تحقيق توافق داخلي بين المكونات المتنوعة وصياغة رؤية وطنية جامعة تضمن المشاركة العادلة لكل الأطياف، بما في ذلك الأقليات التي تحمل مفاتيح حيوية لتوحيد البلاد.

 كما يبرز دور القوى المحلية المسلحة في هذا السياق، إذ يمكن أن تكون إما حجر عثرة أمام بناء الدولة، أو شريكًا إذا أُدرجت ضمن مؤسسات وطنية. غياب الحلول الحقيقية للانقسامات الداخلية قد يدفع سوريا نحو سيناريوهات قاتمة تُكرس الفوضى. لذا، يحتاج السوريون إلى حوار شامل يتجاوز الماضي، ويؤسس لمستقبل يليق بطموحاتهم. 

رغم الترحيب الذي لاقته بعض الفصائل المسلحة، مثل هيئة تحرير الشام ذات التاريخ العسكري المختلف، في العديد من المدن السورية عقب سقوط النظام، فإن التخوفات منها تظل قائمة لدى شريحة واسعة من السوريين، خصوصًا من الطوائف الأخرى. هذه المخاوف ترتبط بتاريخ الهيئة المليء بالتشدد وأدلجتها ذات الجذور العميقة، بالإضافة إلى وجود عناصر أجنبية في صفوفها، مما يعزز شعور القلق حول طبيعة المرحلة المقبلة. 

على الرغم من أن إسقاط النظام تم دون إراقة دماء تُذكر في معظم المدن، باستثناء إعدامات قيل إنها طالت من تلوثت أيديهم بالدم السوري تزامنت مع اندلاع بعض الحوادث الثأرية في مناطق سورية، مما يستدعي ضرورة عاجلة لسن أسس قانونية واضحة لمحاسبة الجناة قبل ازدياد المخاوف وفقدان السيطرة عليها. هذه المخاوف لا تقتصر على الداخل السوري فقط، بل تمتد إلى أعين العالم التي تراقب يوميًا تعامل هذه الإدارة الجديدة في سوريا مع مختلف الثقافات والعادات والظواهر، ما يزيد من تعقيد التحديات في مرحلة إعادة البناء الوطني. 

تسعى هذه المقالة لتقديم قراءة نقدية عبر أسئلة، تستند إلى رؤى متعددة ومقترحات عملية، لعلها تساهم في توضيح الطريق أمام السوريين في هذه المرحلة الحاسمة.

كيف يمكن للسوريين تحقيق توافق داخلي في ظل تنوع عرقي وديني واسع وتاريخ طويل من الاختلافات؟

توجهنا بالسؤال إلى الكاتب السوري، نجيب نصير، والذي قال لـ “موقع صالون سوريا” مجيباً: ربما يبدو من المعيب أن أجيب على سؤال بسؤال آخر، ولكن متى كان السوريون، أو غيرهم من التجمعات السكانية العربية، في حالة توافق؟ بالأساس، لا تعبر كلمة “توافق” عن العيش المجتمعي (ولا أقصد الاجتماعي هنا تحديداً)، فهي تشير فقط إلى نوع من الترتيبات المؤقتة لتسيير الأمور، مما يعكس أحد الأعطاب الجذرية في مفهوم العيش المشترك. هذا الترتيب المؤقت تدعمه “الدولة” وتدرّب عليه الأفراد باعتباره شرطاً للعيش في مجتمع معاصر، لتفرض الهوية الجامعة كقاسم مشترك ظاهري بين الجميع. ومع ذلك، يبقى هذا الهدف بعيد المنال طالما ظل مفهوم “التوافق” هو الغاية المرجوة، لأنه يقف في تعارض صريح مع المساواة، العامل التأسيسي الأول لأي مجتمع حقيقي.

عندما يبدأ الحديث عن “الأقليات” الدينية أو الثقافية، يفقد المجتمع معناه الأساسي، ويصبح عقيماً غير قادر على إنتاج دولة حديثة بالمعنى المعاصر. بدلاً من ذلك، يتم إنتاج سلطة غير قابلة للمساءلة أو تحمل المسؤولية، مع استمرار تدريب الشعب على ثقافة النفاق والتملق والفساد، والتغني بقيادة “استثنائية وفريدة”.

منذ عام 1958، لم يعد الشعب السوري يمتلك مجتمعاً بالمعنى الحقيقي، وبالتالي لم ينجح في بناء دولة بالمعايير المتفق عليها بين الأمم. في المجتمعات التي تنتج دولاً، لا يظهر التنوع الديني أو العرقي كعائق أمام الدساتير والقوانين، بل يتم تجاوزه لصالح المساواة، حيث يُنظر إلى هذه الاختلافات كجزء من الفلكلور الذي يجب احترامه دون أن يطغى على الدستور، الذي يُفترض أن يعبر عن إرادة المجتمع بأسره، في حال وجود مجتمع فعلي.

إن التوافق بطبيعته هش ومؤقت، ولا يعبر سوى عن مصالح الأقوى أو الأكثر عدداً، الذين يفرضون رؤيتهم ومصالحهم على حساب المصلحة العامة. هذا ما حدث منذ عام 1958، حيث تم تجاهل المساواة كشرط أساسي لتحرير الإرادة المجتمعية. ومن دون مساواة، لا يمكن تحقيق عدالة، ناهيك عن مفاهيم أعقد، كالحرية، التي تتجاوز بكثير التوافق كمفهوم وأداة.

كما توجهنا بالسؤال للكاتب والصحفي السوري علي سفر، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”: لا يمكن تحقيق توافق حقيقي في أي مجال دون جمع الأطراف المعنية على طاولة حوار. ومن هنا تبرز أهمية الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل، حيث يجتمع الجميع لمناقشة القضايا العالقة والشائكة بصراحة ووضوح. وإذا لم تُحسم النتائج في الجلسات الأولى، يُمكن تمديد النقاشات حتى الوصول إلى حلول شاملة. يُذكر أن فكرة المؤتمر الوطني ليست جديدة على سوريا؛ فقد شهدت المملكة السورية عام 1919 انعقاد مؤتمر مشابه أثناء صياغة دستورها الأول، قبل أن تقضي سلطة الانتداب الفرنسي على أولى التجارب الديمقراطية في البلاد. ومن الطبيعي ألا يبادر الجميع بالمشاركة الفورية في المؤتمر، إلا أنه يبقى القاطرة الأساسية التي تقود نحو المسار السلمي والديمقراطي.

ما هو الدور المتوقع للقوى المحلية المسلحة في إعادة بناء الدولة؟ وهل يمكن احتواؤها ضمن مؤسسات وطنية؟

يقول الكاتب نجيب نصير: السلاح يحسم النقاش ويطفئ النضال الدستوري. في حضوره، يُلغى الفارق بين الجبان والشجاع، والذكي والغبي، والوطني والعميل. السلاح ليس مجرد أداة قهر؛ إنه وسيلة تُسكِت شعوباً بأكملها، وتجعلها تعيش تحت وطأة الخوف، حتى عندما تُضرب مصالحها الأساسية. والمصالح، كما نعلم، هي من الأسس الجوهرية لبناء المجتمع وتأسيس الدولة.

في ظل سيطرة السلاح، لا مكان لفكرة “الاحتواء”، سواء في المؤسسات الوطنية أو الشعبية. فالسلاح هو الذي يفرض تعريفه على حامله، لا العكس. وعليه، فإن الخضوع الفوري والواضح لدستور عادل وشامل هو ما يمكن أن يمهد الطريق للتسالم الاجتماعي، وهو شرط لا غنى عنه للعبور إلى مفهوم المجتمع المعاصر.

لكن مع وجود المجموعات المسلحة، يُجبر الشعب على اختيار ما يخدم بقاء هذه المجموعات واستمرارها. هذا الإذعان لا ينبع من إرادة حرة، بل نتيجة تربية ممتدة على الخضوع والخوف، تجعل الشعب عاجزاً عن مواجهة السلاح. 

فيما يجيبنا الكاتب على سفر: تلعب القوى المسلحة دورًا بالغ الأهمية، خاصة في المرحلة الانتقالية، حيث تكون الضامن والحارس للأمن. ومع ذلك، يجب أن تسهم في تأسيس جيش وطني، وشرطة، وأجهزة أمن عامة. إذا لم تندمج ضمن هذا الإطار المؤسسي، فإن المستقبل قد يتحول إلى مشهد مليشياوي يهدد الاستقرار، حيث تخضع البلاد لأهواء تلك القوى ومصالحها الضيقة. وهذا يعني الانحراف عن أهداف الثورة الأساسية والإخلال بالأمن الشخصي لكل مواطن سوري. 

من الضروري أن يدرك المقاتلون أنفسهم أهمية دورهم في بناء سوريا المستقبلية، وهو إدراك ينبع من الحاجة الملحة لاستعادة الحياة المدنية والتركيز على التنمية. بالمثل، تقع مسؤوليات مشابهة على عاتق السياسيين، لضمان تكامل الأدوار وتحقيق شعور مشترك بين الجميع بأنهم يسهمون في صياغة مستقبل البلاد.

إلى أي مدى يمكن للأقليات العرقية والدينية أن تسهم في صياغة رؤية وطنية جامعة، بعيداً عن الاستقطاب الحالي؟ 

يجبنا الكاتب نجيب نصير: لا يمكن للأقليات أن تقدم شيئاً ذا قيمة طالما بقيت محصورة تحت وسم “الأقلية”، حيث إن المساواة القانونية لا تشملها بشكل كامل. ربما يوفر الدستور بعض الحماية، ولكن القوانين التنفيذية وتعليماتها غالباً ما تستهدفها بشكل مباشر وتُصيبها في مقتل.

نعاني من فقر شديد في علماء الاجتماع والإحصاء، الذين كان يمكن أن يسهم وجودهم في فهم أعمق لواقع الأقليات وعوائق إدماجها في المجتمع بشكل أفضل. لا توجد إحصائيات أو دراسات اجتماعية تسلط الضوء على هذه الأقليات، التي يتم التذكير بها في كل مناسبة تقريباً، وكأن هناك نوايا عامة للتعامل معها بطريقة استثنائية، وهو أمر يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة.

خذ على سبيل المثال السريان، الذين هُجِّروا جماعياً من كيليكيا في جنوب الأناضول عام 1924 لأسباب تتعلق بكونهم أقلية، ثم أعيد تهجيرهم مرة أخرى عام 1969 للسبب ذاته إلى السويد وأستراليا، رغم أنهم مواطنون سوريون. لم تُجرَ أي دراسة أو إحصاء حول مصيرهم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.

وحتى الآن، لا توجد أي دراسة اجتماعية أو إحصائية عن هجرة أي من الأقليات المحلية، مما يجعل الحديث عن إشراكهم في المجتمع، من باب المجاملة الوطنية، تعبيراً واضحاً عن فشل عميق في الرؤية إلى الاجتماع السوري ومفهوم الدولة.

فيما يجيبنا الكاتب علي سفر على نحو: بالطبع، يمكن لجميع المكونات أن تسهم في بناء وجود إيجابي إذا تم الاتفاق على صيغة شاملة للحكم وللدولة. وأعتقد أن تحقيق الشعور بالمساواة يبدأ بتجاوز مفهوم الأكثرية والأقلية، واستبداله بمفهوم المواطنة. هذا النهج يتطلب إعادة بناء المفاهيم التي ترسخت بفعل النظام والقوى الإقليمية والدولية، والتي غالبًا ما نظرت إلى المجتمعات الشرقية من منظور نمطي، وافترضت أن الانقسام المجتمعي أمر ثابت وكأنه صفة جينية. 

إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الانقسام هو نتيجة للاستبداد وأحد أدوات السيطرة التي اعتمدها الطغاة.صحيح أن بؤر الانقسام موجودة في كل المجتمعات، لكن أسلوب تعامل الدولة المدنية والديمقراطية مع الأفراد والجماعات هو العامل الحاسم في صنع الفرق. وتاريخ الشعوب مليء بالتجارب التي تقدم دروسًا ومقاربات مهمة في هذا المجال.

ما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا إذا استمرت الانقسامات الداخلية دون حلول حقيقية؟

يقول نجيب نصير: تأسيس المجتمع يبدأ من تعريفه على أساس الاشتراك في المصالح الدنيوية فقط، وهو الدور الأساسي للقوى السياسية. علينا إعادة صياغة مفهوم الوجود الجماعي للأفراد، ونشر هذا المفهوم وتطبيقه من خلال الدستور. 

هذا النهج يقودنا إلى سيناريو وحيد منطقي: التنمية. أما خارج هذا الخيار، فهناك مئات السيناريوهات المحتملة، ولكن معظمها لا يخرج عن الفوضى أو الركود. فالعالم ليس ساحة خيرية تدعم الإعمار لأجل الإعمار فقط؛ إنه فضاء مفتوح على المنافسة. ولكي تكون جزءاً من هذا العالم، عليك أن تكون منافساً، ذا إرادة قوية، ومتخلصاً من أعباء التخلف.

الثورات، في جوهرها، ليست فقط محاولات للتغيير، بل هي فرصة لتربية الشعوب على التطلع إلى مكانة أعلى مما كانت عليه. ومع ذلك، تبقى الانقسامات الداخلية واحدة من حقائق سوريا القدرية، كما هي حال العديد من دول العالم. الفرق أن هناك أدوات ووسائل في أماكن أخرى للتعامل مع هذه الانقسامات وإدارتها. أما في سوريا، فإما أن هذه الأدوات غائبة، أو أن الرغبة في استخدامها معدومة.

الكلام عن القوى الخارجية صحيح وحقيقي، وكذلك الحديث عن علاقة الحاكم والمحكوم، التي عاشها السوريون لعقود حتى باتت جزءاً من وعيهم الجمعي. لكن فكرة التدرج الزمني للوصول إلى غاية محددة باتت خرافة في عصرنا الحالي. تأسيس مجتمع وتوليد دولة حديثة لم يعد لغزاً؛ نحن نعيش في عالم تحوّل إلى قرية صغيرة، والوصفة السحرية لتحقيق ذلك هي “الدستور”. دستور ينظم صفوف الشعب كمجتمع حي ومعاصر، قادر على الإنتاج والمنافسة على الساحة الدولية.

أن تكون سياسياً، وربما براغماتياً، وتتقدم خطوة خطوة، هذا نهج المجتمعات المؤسسة والمستقرة، التي تعرف دولتها أولوياتها الداخلية والخارجية. أما الثورات، فهي لحظة فارقة تتطلب قرارات حاسمة وإرادة جماعية لإحداث قفزة حقيقية نحو مستقبل أفضل.

فيما يرى على سفر أنه: في مرحلة ما، كان البعض يرى أن التقسيم قد يكون الحل الأفضل في مواجهة الاستعصاء الدموي الذي فرضه الأسد على السوريين، حيث بدا الانفصال وكأنه السبيل الوحيد للتصدي لعصابات القتل التي استباحت حياة البشر. لكن مع سقوط النظام والمجرم وزوال عصابته، أصبح هذا الخيار خلف ظهور السوريين. اليوم، بات من الضروري التفكير في أن الانقسامات الداخلية يجب أن تشكل دافعًا للتفهم والحوار. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن الحلول السحرية غير واردة؛ فبدون الحوار لن نتمكن من تحقيق أي نتائج، حتى لو أعدنا المحاولات مرارًا وتكرارًا.

توجهنا إلى الصحفي والشاعر زيد قطريب وطرحنا عليه الأسئلة السابقة، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”: 

“دعونا لا نقبل تكرار نماذج فاشلة مثل دستور بريمر في العراق أو دستور لبنان واتفاق الطائف. التنوع أمر طبيعي في المجتمعات، فهل يعقل أن نسأل ‘أحمد’ عن ردة فعله إذا فاز ‘طوني’ بالانتخابات؟ وهل يحق لإلياس أن يغضب إذا كان محمد مديراً عليه؟

يجب الانتقال الآن من عقلية القبيلة إلى عقلية المجتمع الواحد، والقوانين هي الضامنة لذلك. في الآونة الأخيرة، اجتاحت إسرائيل حدود اتفاقية الهدنة بحجة حماية الأقليات، وهو ذات الخطاب الذي تكرره أمريكا دائماً. في الواقع، عندما نسمع مثل هذه التصريحات، يبدو الأمر كإنذار بهجوم وشيك، وكأنك تُدفع لحمل السلاح قبل وقوع الخطر.للأسف، الغرب هو المسؤول عن هذه النظرة. فرنسا جاءت بحجة حماية المسيحيين الموارنة، والإنجليز للدروز، وروسيا للأرثوذكس. كل هذا كان مجرد أكاذيب هدفها تفتيت المجتمع السوري تاريخياً وإضعافه. وعندما يقال اليوم إننا لا نستطيع الاتفاق بسبب التنوع الطائفي والعرقي، فهذا يعني ببساطة أننا مهددون بالتفتت. ما أثبته السوريون خلال الأسبوع الماضي بعد سقوط النظام يؤكد أن المجتمع السوري يسير في مسار طبيعي وموحد. إنه مجتمع متنوع مثل المجتمعات الأوروبية والأمريكية، التي لا تنتمي لطائفة أو عرق واحد، لكنها تدير شؤونها بوعي ومواطنة. رعاة سايكس بيكو يتحملون وزر هذا المرض الذي زرعوه في منطقتنا. 

لقد عملوا على تقسيمنا طائفياً وعرقياً، بتبرير أننا عاجزون عن إدارة أنفسنا أو أننا نتعامل مع بعضنا كالأعداء. المجتمع السوري عاش بهذه التركيبة منذ آلاف السنين، فلماذا يُفترض الآن أنه عاجز عن الاتفاق؟ هذه فكرة غربية وأمريكية تهدف إلى تفتيت المنطقة خدمة لمصالحهم. اليوم، هناك قيادة سورية جديدة أمام امتحان مصيري: هل تريد بناء دولة ديمقراطية تحتكم لصندوق الانتخابات؟ أم أنها ستختار الحكم العسكري؟ هل يقبلون تداول السلطة عبر صندوق الانتخابات؟ بكل صراحة، الشعب لم يعمل على الخروج من حكم الأسد البائد، إلا أملاً في الحرية ومواكبة العصر والحداثة. 

وسوى ذلك سيكون عودة للوراء. الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد مواقف الجميع، وفق طبيعة الدولة التي سيتم إقرارها.. الغرب متهم بالنسبة لنا. لم يعتذر عن جرائمه بحقنا، سواء أثناء الثورة السورية الكبرى أو الثورة الجزائرية وثورة المليون شهيد. لم يعتذر عن وعد بلفور، ولا عن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت أوطاننا. التنوع في المجتمعات طبيعي، لكن المستعمرين أرادوا استغلاله لتقسيمنا وجعلنا وليمة سهلة. الحل الوحيد يكمن في صياغة قوانين ودستور يساوي بين جميع أبناء المجتمع في الحقوق والواجبات.

أما إذا لجأنا إلى الاستئثار بالسلطة، فسنكرر أخطاء الماضي. سوريا قادرة أن تكون دولة لجميع أبنائها، لكن أي محاولة لفرض الهيمنة ستؤدي إلى الانقسام. من غير المقبول تجزئة المجتمع. فإذا حاولت الأكثرية فرض رؤيتها بالقوة، فلن يكون هذا إلا استنساخاً لنهج بشار الأسد، ولن نحقق أي تغيير. الأنباء القادمة من المحافظات فيها بعض التجاوزات، وربما يعود هذا إلى وجود كتائب متعددة في المدن السورية. دعونا لا ننسى أن المبدعين السوريين مثل أدونيس والماغوط ونزار قباني، لم يكونوا رموزاً أدبية بسبب انتمائهم الطائفي، بل بسبب إنجازاتهم.

 هذه التصنيفات الطائفية تُسخّف الواقع ولا تخدم مصلحة المجتمع. من يملك السلطة، هو المسؤول عن وضع القوانين والدستور المساوي بين الجميع. فإذا نجح في ذلك، سيكون الجميع معه. أما إذا فشل، فسيبقى المجتمع مشوشاً ومنقسماً. بالنسبة إلي كمواطن عادي، إذا شعرت أن القوانين تحميني وتدفعني للمشاركة، سأنهض للمشاركة دون تردد. أما إذا شعرت أنني مجرد بيدق يمكن أن يتعرض للأذى إذا تكلم، فسأنعزل. لنوسع دائرة الحوار، فليس لنا سوى بعضنا، نحن أبناء الجسد السوري الواحد“.

أمّا بالنسبة للكاتبة والناقدة د. لمى طيارة، الحاصلة على دكتوراه في الإعلام السياسي، فقد أخبرت “موقع صالون سوريا” بأنها لا ترغب في الخوض في فرضيات غير مؤكدة أو تبنيها. ومع ذلك، أكدت أن هذا لا يعني أنها متفائلة بمستقبل مشرق لسوريا في ظل كل هذه التجاذبات القائمة.

وعلى الصعيد الشخصي، أوضحت د. لمى أنها واجهت تحديات كبيرة ككاتبة وناقدة على عدة مستويات. أحد أبرز تلك التحديات كان خوفها من الكتابة في صحف أو مجلات كانت تُعتبر “معادية” للنظام السابق، مما يعني تعرضها للتساؤلات والمضايقات. حتى عندما كانت تكتب مقالات ثقافية أو فنية، كانت تمارس الكتابة بحذر شديد، وكأن “حارس البوابة” يجلس فوق رأسها، يراقب كلماتها، يصحح مسار قلمها، ويحدّ من حريتها.

وأضافت أن النصوص المسرحية التي كتبتها، والتي نالت جوائز واستحسان النقاد والمسرحيين العرب، لم تكن بمعزل عن تلك العقبات. فقد واجهت رفض الرقيب ولم تتمكن من نشرها أو عرضها، بحجة أن “لا أحد يريد الآن التحدث عن أزمات المواطن مثل الكهرباء أو الغاز”. وأكدت أن هذا السلوك كان ممنهجًا للتعتيم الكامل على الواقع ومنع أي صورة حقيقية من الوصول إلى الناس. وأشارت إلى أن هذا التوجه وصل إلى حد إغلاق مكاتب القنوات الفضائية العربية ومنعها من تغطية الأحداث في سوريا. ونتيجة لذلك، ترى أن كثيرًا من أشقائنا العرب، بمن فيهم الإعلاميون، يجهلون الكثير عن واقعنا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.

أما اليوم، فتقول د. لمى إن الخوف أخذ طابعًا مختلفًا، خاصة مع انتشار دعوات لإلغاء وزارة الثقافة وأنشطتها. وتعتبر أن مثل هذه الدعوات تمثل خطرًا كبيرًا، حيث ترى أن الثقافة ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية وأولوية لهذه المرحلة، وليست أمرًا يمكن تأجيله إلى مرحلة لاحقة.

السويداء وسقوط نظام الأسد

السويداء وسقوط نظام الأسد

لم يكن يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر يوماً عادياً في حياة السوريين\ات عامةً وأهل محافظة السويداء خاصةً. منذ أواسط شهر آب/أغسطس عام 2023 بدأ أهل مدينة السويداء جنوب البلاد احتجاجات واسعة على نظام حكم الأسد السابق وسياساته الاقتصادية كرفع سعر البنزين والمشتقات النفطية في سوريا. تنامت الاحتجاجات سريعاً لتصير حاشدةً وتلقى تأييداً شعبياً وجماهيرياً توّج بوقوف المشيخة الدينية الروحية لطائفة الموحدين الدروز إلى جانب الحراك ممثلةً بشيخ العقل حكمت الهجري، فيما احتفظت المرجعيتان الباقيتان والممثلتان بشيخي العقل يوسف جربوع وحمود الحناوي بالحياد المائل نحو النظام المخلوع في أغلب الأحيان.

مظاهرات معيشية فسياسية

تجمهرات السويداء اليومية التي استمرت حتى سقوط النظام بدأت بيافطات ومطالب معيشية فقط، ولكنّها سرعان ما تحوّلت لمظاهرات سياسية تطالب برحيل الأسد وتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يقضي بانتقال سلمي للسلطة في بلدهم. وفي أفضل الأحوال لم يتوقعوا أحداثاً دراماتيكيةً سريعةً تهوي بنظام الحكم في بلدهم بين ليلة وضحاها.

مظاهرات السويداء حملت لأهلها التخوين والعمالة، وما زاد من تجييش النظام ضدهم هو رفع المتظاهرين صورة مقسّمة لنصفين إبان طوفان الأقصى، تحمل تلك اليافطة صورة نصفها للرئيس الأسد ونصفها الآخر لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. فبدوا وحيدين في ميدان القتال مستشرفين أياماً لم تكن بقية المحافظات على اطلاع عليها، والمطلعون عليها جرى كمّ أفواههم بقوة المعتقل كما حصل بناشطي الساحل السوري.

أصوات مناصرة

بالتزامن اجتاحت موجة من التضامن بقية المحافظات، ولكن دون أن تصل مرحلة المظاهرات، إنما اقتصرت على رفع الأصوات علانية ودون هوادة على مواقع التواصل الاجتماعي.

استشعرت السلطة سريعاً حساسيتها وخطورتها في مناطق الساحل السوري خاصةً، البيئة الحاضنة الأمتن للنظام السوري السابق، فجرى سريعاً تغييب تلك الأصوات جنائياً أو أمنياً، وبالفعل سريعاً خمدت تلك الأصوات المناصرة للسويداء.

كان ذلك المؤشر الأول للنظام الساقط على فقدان شرعيته وبيئته الحاضنة ونقاط ارتكازه السابقة، ولكنّه مارس دوره في المكابرة والاستنكار معتبراً أنّ الأمور بخير. وظلّ يتصرف على ذلك النحو حتى اضطر الرئيس السابق للفرار كاللصوص من مطار حميميم الروسي في مدينة اللاذقية.

كانت المؤشرات تتوالى تباعاً، أولها من السويداء، وليس آخرها تحذيرات إيران للأسد بأنّ جيشه يتهاوى ويفتقد المعنويات، كان ذلك قبل أسبوع من سقوطه، لكنّه مرّة أخرى كابر ورفض وظلّ كذلك حتى اجتاح بضع مئات من المقاتلين المعارضين حلب وحماه وحمص ودمشق وهو في غفلة عن أمره وحاله.

وصلت الأمور بالرئيس المخلوع عن كرسيّه “الأبدي” الذي ورثه ليكمل عهد 54 عاماً من حكم عائلة واحدة أن هرب دون أن يخبر شقيقه وأقرب المقربين إليه من حمايته الشخصية وصولاً لمستشاريه وكبار ضباطه تاركاً إياهم لمصير غير معلوم. ليسأل الشارع والمجتمع الدولي لاحقاً: أيّ رئيس هذا الذي يمضي دون أن يخبر أخاه بخطة هربه، وليترك شقيقه يواجه مصيراً كان يمكن أن ينتهي بأسوأ الاحتمالات لولا نجاح هروبه عبر العراق، يقول الناس: “تلك نذالة اشتهر بها الأسد منذ كان شاباً، ولم يغير هذا الطبع حتى في عزّ أزماته”.

تجييش وأحقاد

استاء أهل السويداء من النظام السوري منذ أيام اجتياح داعش ريف المحافظة الشرقي في أواخر تموز/يوليو عام 2018، حيث اتهم الأهالي وفصائل محلية مسلحة النظام والقوى الأمنية بقطع الكهرباء عن المنطقة وقت الهجوم ووقف إمدادهم في المنطقة تاركين إياهم شبه عزل في معركة غير متكافئة قضى فيها أكثر من 200 مدني في قرى ريف السويداء الشرقي على أيدي تنظيم الخلافة. وبالفعل ذلك ما كان، وما كشفته الأيام اللاحقة.

يقول مهيب أبو باكير أحد سكّان تلك القرى ومن أبرز المشاركين في مظاهرات السويداء خلال أشهرها الأولى إنّ الدولة بصورتها الرسمية تركتهم لمصيرهم بغية الاستثمار السياسي فيما سيحصل وكدرس لأهل السويداء الذين تمرد سابقاً الكثير منهم على الحكومة وشكّلوا فصائل مناوئة لها.

ويضيف: “تشكيل بقية الفصائل جاء لحمايتنا بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس زعيم حركة رجال الكرامة عام 2015، وكان لدى شريحة واسعة منّا إيمانٌ أنّ الدولة تركتنا ككبش فداء لداعش من جهة والمخدرات من جهة أخرى ومن جهة ثالثة لجماعات مسلحة كانت ترعاها هي وتلك المجموعات تمارس البلطجة علينا لصالح الأفرع الأمنية”.

دويلة لا تريد الفدرلة

خلال ذلك، وبعده، إلى ما قبل سقوط النظام، عانت السويداء ككثير من المحافظات السورية شحّاً هائلاً في معظم الموارد والاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء وبنزين ومازوت وحوامل طاقة وغيرها، ما جعل الغضب يتصاعد يوماً تلو آخر، وتفقد الدولة بأجهزتها الرسمية مكانها تباعاً، لتحلّ الأعراف العشائرية وشبه الإدارة المحلية محلّها.

احتياج السويداء لتلك العوامل الصحية الأساسية كان شكلاً رئيساً من أشكال الغضب المتفجّر، فتمكنت فصائلها من إنشاء دويلة داخل دولة دون المطالبة بأي نوعٍ من الفدرلة. ولكن ما حصل كان أفضل، على ما يقوله أهالٍ في السويداء، فالنظام بأسره سقط أخيراً، بعد 14 عاماً من حربٍ وقصف وجوع وتنكيل ومعتقلات سرية وتغييب قسري وانتهاك حرمات وسوقٍ إجباري للتجنيد واستخدام أولادهم كحطب للموقدة المشتعلة من أجل الحفاظ على الكرسي.

تواجد شكلي

قبل سقوط النظام ما كان يحصل عند إيقاف القوى الأمنية لمواطن من السويداء في محافظة أخرى، هو لجوء الفصائل المحلية (وأحياناً عوائل المعتقلين) لقطع الطرق في المدينة وخطف ضباط وعناصر من الجيش والأمن للضغط على السلطات نحو الإفراج عن الموقوف، وهو سيناريو قد نجح عشرات المرّات على الأقل.

وفي السياق فإنّ النظام حافظ حتى يوم خلعه على تواجده الرسمي ولو بشكل مبسط عبر فرع حزب البعث، ووجود محافظ ومكتب تنفيذي للمحافظة، ومؤسسات خدمية، وقطعات للجيش أبرزها القوات الخاصة، ومجمل الأفرع والأقسام الأمنية وقيادة الشرطة، والتي تبدو جميعها غير مرحبٍ بها، وتتعرض لهجمات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين وقتٍ وآخر. أما اليوم فجميعها لم تعد موجودة في سوريا الجديدة.

مفاوضات خارج عباءة السلطة

وفي آخر الحوادث التي شهدها النظام الساقط هو إلقاء قواته الأمنية القبض على الشيخ بهاء الشاعر في شهر أيار/مايو الفائت في دمشق، لتختطف فصائل السويداء ضابطاً وثلاثة عناصر للمقايضة عليه، وكانت المرّة الأولى التي تطول فيها عملية التفاوض إلى هذا الحد، فعادةً ما تنقضي تلك الأمور ويتم الإفراج عن المتهم خلال أيام.

هذه المرة توجه وفد من مدينة حمص من أهالي الضباط والعناصر قاصدين “أهل النخوة” في جبل العرب (أي السويداء) للإفراج عن الموقوفين لديهم، وبالفعل تجاوبت تلك الفصائل مع مطالب الوافدين إليهم بعد أشهر من احتجاز الرهائن وبالتزامن مع إطلاق السلطة سراح الشيخ ورفيقه خلال الشهر الفائت. هذه الحادثة مثال عن قصة كانت تتكرر أسبوعياً في تأكيد أن المشاكل بين أطياف الشعب السوري كانت من صنع النظام.

تنحية الضابطة العدلية

الإنفلات الأمني وانعدام الاستقرار خلق حالةً من شريعة الغاب في السويداء في عهد الأسد الابن وفي سنوات الحرب، إذ صار كل طرف يأخذ حقه بيده، مع فقدان الأمل بالضابطة العدلية والشرطية والأمنية والقضائية، فساد عرف المحاسبة العشائرية القاسي. 

ومن بين تلك الأعراف تشكيل دوريات ليلية في القرى والمحافظة، ففي قرية مياماس تمكّن عناصر من القرية من القبض على لصوص دراجات نارية وقاموا بتصويرهم ونشر صورهم وعرضهم على الرئاسة الروحية للطائفة لاتخاذ قرار بشأنهم. وبشكل شبه يومي كانت تحصل أمور مشابهة، والنظام أذن من طين وأخرى من عجين، وكل ذلك زاد في رصيد رغبة إسقاطه لدى سكّان المدينة.

البرودة الاستراتيجية

حصلت نحو 250 جريمة قتل منذ مطلع عام 2024 الجاري في المحافظات التي كانت تسيطر عليها الحكومة وحتى سقوط النظام. كانت حصّة السويداء منها أكثر من 60 جريمة قتل، توزعت ما بين جرائم شرف وسرقة واغتيال وغير ذلك.

اتبع النظام سياسة البرودة الاستراتيجية والتي تتسم بالهدوء وعدم اتخاذ خيار التصعيد والمواجهة العسكرية والحفاظ على سلمية الحراك لئلا يخسر واحداً من أقوى أوراقه التي يقدمها في المحافل الدولية بكونه حامياً للأقليات.

وكانت نهاية تلك البرودة الاستراتيجية إزاحة نظامٍ أثقل كاهل السوريين لعقود طويلة دون إراقة دماء، وتنفست سوريا ومعها السويداء الصعداء في فجر حريةٍ جديد يأمل الجميع أن يكون على قدر الحلم والطموح والتضحيات الجسام التي قدمتها كل الأطراف على مدار العقود الماضية. 

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

(مقابلة  تلفزيونية مع بسام حداد على: Democracy Now!)

ترجمة وتحرير: أسامة إسبر

إيمي غودمان: نواصلُ تغطية سقوط نظام عائلة الأسد في سوريا بعد أكثر من نصف قرن من الدكتاتورية الوحشية، وذلك في أعقاب التقدم السريع للمقاتلين المتمردين. لمزيد من التفاصيل، ننتقل إلى فيلادلفيا حيث ينضم إلينا بسام حداد، الأستاذ المشارك في جامعة جورج ميسون، ومؤلف كتاب “شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي لنظام استبدادي يثابر على الاستمرار”، ومؤسس مشارك ومحرر لمجلة “جدلية” الإلكترونية، ومدير مؤسسة الدراسات العربية في جامعة جورج ميسون. 

أستاذ حداد، أولاً، ما الذي ستقوله لنا عن ما حدث هذا الأسبوع؟

بسام حداد: شكرًا لك، إيمي. يسعدني أن أكون معك مرة أخرى. في الحقيقة هناك أسئلة أكثر مما هناك أجوبة، لذلك من المهم، خاصة اليوم، أن نأخذ هذا في عين الاعتبار ونحن نتابع حديثنا. سألجأ إلى التحليل، لكنني لا أستطيع أن أغفل تأكيد أهمية ما حدث في سوريا وقيمته، وأعني انهيار نظام الأسد بعد ٥٤ عامًا من الحكم، أو بعد ٧١ عامًا من حكم حزب البعث، وما يعنيه هذا بالنسبة للمواطنين السوريين الذين عاشوا في ظل هذا النظام لعقود عديدة. إنها لحظة لا يمكننا تجاهلها أو تجاوزها ونحن نحاول تحليل الصورة الأكبر، رغم أنها قاتمة جدًا ومليئة بالمشاكل. لكن لا يمكننا التقليل من أهمية هذا الأمر، نظراً لوحشية النظام، وفشله التام في الحكم في السنوات الأخيرة، على الأقل بعد عام ٢٠١٩ و٢٠٢٠، وعجزه عن توفير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية لشعبه، وهذا ما لعب دورًا في تقدم “هيئة تحرير الشام” السريع ودخولها جميع المدن الكبرى في سوريا.

إيمي غودمان: حدّثْنا عن “هيئة تحرير الشام”، وتاريخها، وقائدها الجولاني، وما الذي تشعر بالقلق حياله الآن.

بسام حداد: كما تعلمون، إن “هيئة تحرير الشام” ائتلاف يضم عدة جماعات من أبرزها “جبهة النصرة”، التي يميل الجميع إلى القول إنها مرتبطة بتنظيم القاعدة، رغم أنه حدث نوع من الانفصال. ومع ذلك، هي ما هي عليه. قال الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج صالح، إنه قلق بشأن أيديولوجية “هيئة تحرير الشام” وبعض العواقب المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن ذلك. وإذا كان ياسين الحاج صالح، قد وصف رجال حزب الله بأنهم “شبيحة”، بإمكانك أن تتخيلي قلقه من “هيئة تحرير الشام”، ومدى قلق الآخرين بشأن المستقبل. 

لم تتصرف “هيئة تحرير الشام” من تلقاء ذاتها لأنها لا تستطيع مغادرة إدلب من دون ضوء أخضر من تركيا. وحتى الحكومة التركية لا يمكنها اتخاذ مثل هذا القرار بمفردها. انطلاقاً من هذا، إن السؤال الأول الذي يجب طرحه هو: مع من نسّقتْ تركيا للقيام بهذه الحملة، أو لشن هذه العملية؟ السؤال الثاني هو: هل كانت هناك أية علاقة بين وقف إطلاق النار في لبنان وما فعلته تركيا اليوم، أو منذ عشرة أيام، أو قبل بدء التنسيق؟ وما نوع التنسيق الذي حدث بين تركيا وروسيا، وكذلك بين روسيا و”هيئة تحرير الشام”، وغيرها؟ تبيّن أنه سُمح للروس بالحفاظ على قاعدة جوية كما كشفت التقارير الأخيرة. لكن علينا التحقق من ذلك، وهناك العديد من الأسئلة.

يمكن أن نواصل حديثنا عن التداعيات الإقليمية والعالمية الخطيرة، إلا أنني أود أن أغتنم هذه الفرصة للتحدث عما يعنيه ذلك لملايين السوريين الذين هم في الواقع سعداء بما حدث. لكن كثيرين منهم قلقون، بمن فيهم من يحتفلون، قلقون بشأن المستقبل، وبشأن كيفية حدوث هذا الأمر، وإلى أين سيقود، ومن سيتولى القيادة في سوريا. هناك كثيرون ينتابهم القلق بشأن ما يعنيه ذلك من ناحية هيمنة قوى عظمى، مثل أمريكا وإسرائيل، نظراً لغياب، أو ضعف محور المقاومة. هذه ليست قضية صغيرة، وستصبح جزءًا من العناوين الرئيسية في المستقبل القريب.

إيمي غودمان: حدّثنا أكثر عن هذا الموضوع. ما الذي قد يعترض طريق إعادة بناء سوريا؟ هل سيتأثر الأمر بالدعم الدولي الذي ستحتاج إليه سوريا لإعادة البناء، والذي سيشمل الولايات المتحدة، ولاعبين مثل دول الخليج العربية؟ ستشارك تركيا بقوة، كما أشرت، وهي بالفعل متورطة. فهل سيدفع هذا ما يحدث في سوريا في اتجاه معين؟

بسام حداد: يجب أن أكرر مرة أخرى أن هناك كثيرًا من الأسئلة والقليل من الأجوبة، لأننا لا نعرف بالضبط كيف تم تنسيق هذا الأمر، ومع من، وما المقايضات التي حصلت بالفعل. ولكن هذه ستكون مرحلة، أما المرحلة التالية، أو هذه المرحلة الحالية هي في الحقيقة ليست الطور الذي نستطيع التركيز عليه لأنه وفقًا لأفضل التحليلات، لن يتم نقل التشكيل الحالي إلى المرحلة التالية. يتحرك التشكيل السياسي والاقتصادي والعسكري القائم اليوم إلى الأمام، وهو مؤلف من الأشخاص الذين لديهم الأسلحة واستولوا على السلطة، وليسوا على الأرجح بمفردهم، ربما هم جزء من تحالف أكبر، وأكثر تنوعًا. هناك الكثير من الخوف والقلق في سوريا. وهناك الكثير من الخوف والقلق في تركيا والولايات المتحدة والعديد من الدول العربية القوية، والتي من المحتمل أن يتم الاعتماد عليها إلى حد ما للمساعدة في إعادة بناء سوريا، وهو خوف وقلق من تفرّد مجموعة معينة، هي هيئة تحرير الشام، وكيف أنها لا ينبغي أن تكون اللاعب الوحيد على الساحة السورية. لكن الأسئلة المطروحة الآن هي مجرد أسئلة. من الصعب للغاية التعرف على الاتجاه الذي تتجه إليه الأمور. لكننا نعلم أن الولايات المتحدة وإسرائيل تشعران بارتياح شديد. لقد وصفت إسرائيل، يوم أمس، على القناة 13، ما حدث بأنه إنجاز. وهذا “الإنجاز” سيتيح لها المضي قدمًا في إبادة غزة، بالتعاون مع الولايات المتحدة التي هي شريك كامل في هذه الإبادة. وستظهر مسائل أكبر وأكثر تعقيداً في الأسابيع القادمة.

إن الابتهاج مهم اليوم بالنسبة للناس الذين كانوا تحت نير النظام، ولا يمكننا أن نقلل من شأنه، مهما كان اهتمامنا بالإمبريالية والاقتصاد السياسي العالمي ومواضيع أخرى. من الضروري أن نعي ذلك، لأن أحد الأشياء التي ستسبب لي المتاعب وتجعل هاتفي ينفجر في غضون بضع دقائق فقط من اتصالات أصدقائي هو أن الكثير من الناس الذين يبالغون في التأكيد على مسألة الإمبريالية في يوم كهذا أو في أسبوع كهذا، يُغْفلون وجود الشعب السوري من غير قصد، للأسف، ويجعلونه غير مرئي، وكأنه ليس مهماً، وكأن السياسة العالمية هي الوحيدة التي لها أهمية. وهذا شيءٌ أود أن أحذّر منه، على الرغم من أننا يمكن أن نقول إن ما حدث هو انتصار لقوى عالمية مثل الولايات المتحدة، وانتصار للمخططات الإمبريالية، وللدول العربية المحافظة في المنطقة، ولمن يسعون إلى تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل في المنطقة، وبالتأكيد لإسرائيل، أو أي طرف يرغب في إضعاف أي مقاومة في المنطقة ضد هذه المخططات، التي لا تتعلق فقط بسرقة الأراضي والسيطرة السياسية، ولكن أيضًا بمخططات اقتصادية ستؤدي إلى إضعاف الطبقة العاملة في المنطقة، وستواصل فعل ذلك.

إيمي غودمان: هل يمكنك التحدث أكثر عن “هيئة تحرير الشام“، وهل تعتقد أنها ستكون من الشركاء الرئيسيين في سوريا الجديدة؟ حدّثْنا عن خلفيتها، وإدارتها لإدلب، وكيف كانت تُدار إدلب، وتلك المنطقة بأكملها؟

بسام حداد: لم تكن هيئة تحرير الشام تسيطر بشكل كامل على إدلب. كانت القوة المهيمنة في إدلب، وكان هناك عدة جماعات لها أيضًا قوة معينة. إلا أن هيئة تحرير الشام كانت قادرة على الحكم، إلى حد كبير. من غير المحتمل أن تنفرد هيئة تحرير الشام بالحكم في سوريا. ثمة توافق إقليمي ودولي على ذلك، وحتى توافق داخلي. ورغم كل ما رأيناه، فإنّ المجتمع السوري يُعَدّ من بين أكثر المجتمعات العربية علمانية. وحتى إذا كان التوجه نحو النزعة الإسلامية المحافظة قد ازداد بشكل كبير في السنوات أو العقود الأخيرة، أو حتى أكثر من ذلك، فليست هناك رغبة بما تدعو إليه “هيئة تحرير الشام”، بما في ذلك خطابها الذي كان إقصائياً في السنوات الأخيرة (مثلًا في ٢٠١٤، و٢٠١٥،و٢٠١٦)، لكنها تقول الآن إنها ترفض هذا الخطاب. وهي في الواقع تحاول التأكد من أن قواتها لا تضطهد الآخرين، رغم أن ما رأيناه في العديد من مناطق سوريا هو أشكال مختلفة من الإقصاء، مثل تدمير محلات الخمور، وحرق أشجار عيد الميلاد وأشياء من هذا القبيل، وهي أمور من المفترض أن هيئة تحرير الشام قد رفضتها، وحاولت تصحيح مسارها. هذا النهج الجديد لهيئة تحرير الشام مثير للاهتمام، ومن المحتمل أن يكون أيضًا منسقًا مع أولئك الذين منحوا هذا التنظيم الضوء الأخضر للتحرك قدمًا. لكنني نستطيع القول إنه في جميع الحالات، ليست هيئة تحرير الشام” فطيرة التفاح” – أو من الأفضل أن نقول بما أننا نتحدث عن سوريا- “الكنافة” التي يتطلع إليها السوريون.

وفي المستقبل القريب جدًا، وبعد تأسيس الحكومة الجديدة، وتشكيل البنية العسكرية الجديدة سنكتشف أن هناك محاولات لتوسيع التحالف وربما أيضًا لتجنب الخطأ الفظيع الذي ارتكبته الولايات المتحدة بعد غزوها الوحشي للعراق في ٢٠٠٣، وهو تفكيك الدولة، والحزب الحاكم، والجيش، وما إلى ذلك، لأن ذلك أدى إلى خلق الفوضى التي كانت في النهاية غير منتجة للقوة الغازية وما بعدها. لذلك، أعتقد أن المسار سيكون مختلفًا عما رأيناه في العراق. سيكون أيضًا مسارًا أصعب، لأن سوريا ليس فيها موارد كما في العراق مثل النفط، ولا تمتلك أي جزء منها، لأن مواردها كلها خارج سيطرة الحكومة الآن. لذلك، سيكون أمام سوريا مستقبل مليء بالتحديات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ما أخشاه هو أنه بعد مدة قصيرة، ستختفي سوريا من الأخبار، وسنرى ما كنت أتحدث عنه في وقت سابق، وأعني الإطار التحليلي لما يعنيه ذلك للمنطقة. سنراه في القريب العاجل في الواقع، مع حدوث التطورات.

إيمي غودمان: شكراً بسام على وجودك معنا.

لمن يود الاستماع على المقابلة بالإنكليزية، انقر الرابط التالي:

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً إلى عدد حبات الدموع التي تذرفها النساء بسبب ضعفهنّ العاطفي وطبيعتهنّ الهشة والرخوة في مواجهة تفاصيل الحياة.

النقطة الجوهرية والأكثر عنفاً، هو أن كل ما سبق وسواه الكثير لا يقال على ألسن النساء، ولا يذاع على منابرهن أو في جلساتهن النسائية الخاصة. كل ما سبق وأكثر منه سوءاً وتمييزاً يُقال بالنيابة عن النساء! تخيلوا أن نحبس كائناً في الزاوية المعتمة، ثم، نسمي أنفسنا ناطقين باسمه، ثم قائدين لصمته وانكساره لنصل إلى لحظة الانكشاف الحقيقية وهي إعلان عنفنا المباشر، مصادرتنا الحصرية لحقوق النساء حتى في التعبير عن أنفسهن! إنها وببساطة حلقة متكاملة من العنف المكرس، المدار بخبث، والمعمم بصلافة وإنكار همجي.

بعد فرار طاغية سورية، بدأ عهد جديد، تمناه السوريون والسوريات عهداً للحريات والمساواة، لكن الواقع انكشف عن واقع مستجد أجهض أحلام السوريين وخاصة السوريات ببزوغ فجر حرية جديد، فجر يعترف بالشراكة بل وينشدها لتكتمل دورة الحياة الإنسانية بين النساء والرجال وبين دولة مؤسسات، تحمي ولا تظلم، تمنح ولا تحرم، تبسط الأمان كما السيادة، وتؤسس لغد حر وكريم لكافة أبناء وبنات البلد.

فجرت المقابلة مع الناطق الرسمي بإدارة العمليات العسكرية عبيدة الأرناؤوط سيلاً جارفاً من الانتقادات والرفض المباشر الفردي والجماعي، ومازال يتردد صداه، ويمكن اعتبار الردود الجماعية الحادة وغير المستكينة وكأنها المعركة الأولى والأكثر شراسة مع العهد الجديد.

إن كل تصريحاته وأقواله التي قدمها بصورة التفافية، بطريقة تبدو لطيفة لكنها تسويفية أجلت ما هو مطلوب إعلانه بصورة واضحة وحاسمة. كما كانت تصريحات رخوة و قاضمة لحقوق النساء، تصريحات أشعلت معركة لن تخسرها النساء أبداً. والأهم أنه تعرض وبأذى مباشر إلى كرامات النساء السوريات عبر إنكاره لكل التراكم المادي والفكري والعلمي والثوري الذي أسسته وراكمته السوريات وخاصة بعد اندلاع الثورة السورية سنة 2011. إن إنكاره للقوة الحية للنساء السوريات وادعاءه بحقيقة مزيفة تماماً وهي، أن الطبيعة البيولوجية للنساء تعيق تمتعهن بالعمل إلا في مجالات محددة مثل التعليم والخدمة الاجتماعية، تُعد انكشافاً علنياً وحقيقياً لآراء وتوجهات العهد الجديد حيال النساء السوريات. لقد مثلت هذه التصريحات إقصاءً معلناً وواضحاً للنساء السوريات. إن الرفض الإقصائي لحضور السوريات الفعلي في المجالات العامة بكافة أشكالها، قد استنهض قوة النساء، لم يتركن حرفاً دون شرحه، دون الاعتراض عليه، وتفنيده وتقديم خيارات بديلة مع أدلة من خبرات النساء السوريات وإنجازاتهن رغم كل الظلم الذي عانين منه. طالبن بإقالة المذكور عبيدة الأرناؤوط واعتبرن أن تصريحاته قد دقت ناقوس الخطر.

إن الإرث الواسع من تهميش النساء يحتاج إلى قلب بنيوي وقطيعة مع كل أدوات الاستبداد القديم والجديد، والحقيقة التي يجب إعلانها دوماً أن النساء السوريات لطالما سبقن القوانين والأعراف وتجاوزن بإرادة ذاتية معلنة وخفية، كل العثرات والتحريمات القطعية لانطلاقتهن نحو مجازاتهن المرادة والمطلوبة بقوة، بل والممارسة بصلابة منقطعة النظير.

 لا تنتظر النساء المكافأة على صبرهن على الاستبداد الطويل، ولا على بقائهن وحيدات في مواجهة تغييب الشركاء من الرجال آباء وأزواج وأبناء وأخوة. لا تطلب السوريات تمجيداً عاطفياً فارغاً على ثورتهن وانخراطهن في تفاصيل الساحات العامة والخاصة بوضوح وغيرية نبيلة، متظاهرات، معتقلات، طبيبات وصحفيات وكاتبات، معيلات لعدة أسر ومدافعات عن الرجال. المبدأية في طرح قضايا النساء لا تنتظر شكراً من أحد، لكنها تتطلب اعترافاً واضحاً وعلنياً تبنى عليه شراكة متساوية، شراكة وطنية من أجل بناء البلد حراً كريماً لجميع أبنائه وبناته.

يبدو المشهد العام جلياً وواضحاً اليوم، هناك سعي حثيث وفج لخطف كل القيم التي ناضلت النساء من أجلها مع بعض الشركاء الرجال الداعمين لتثبيتها ونيلها، لكن المواجهة اليوم فعلياً هي مواجهة صادمة وحقيقية، لأن النساء السوريات لن يتخلين عن إرثهن النضالي العظيم، عن سعيهن المعلن والواضح لقطع الطريق أمام قوى الظلام والتعنت والإقصاء. المواجهة اليوم ليس فقط من أجل تثبيت الحقوق لكن من أجل استعادتها طالما باتت مهددة بالخطر.

تطالب النساء دوماً بالعدالة وبالمساواة، ويؤكدن دوماً على أن مستقبل أي بلد برجاله وأولاده وبناته لن يكون حراً وكريماً دون حضور النساء الفعال. إن المظاهرات الضخمة التي طالما تعطش لها السوريون والسوريات هي أكبر دليل على أن الخيارات معلنة واضحة تحت سقف الشعار الوطني الأول (سوريا للجميع).

 بعد كل إنجاز مهما كان بسيطاً تراكم السوريات قوة مستجدة لتكسر حلقات الهشاشة المراد تثبيتها وبالتالي يتم عبرها لجم النساء عن الحضور العام. بعد أن أسقطت نضالات الشعب السوري أقسى نظام طغيان لن يعجزوا عن إبقاء جذوة الثورة والأمل بالغد الكريم، الغد الحر، الرحب، الديمقراطي، المدني، الآمن للجميع، ستواصل النساء طريقهن الطويل رغم كل الانحرافات المفروضة بلطف وادعاء واهن ومزيف، لن تسلم النساء الراية حتى تحصيل الحقوق من أجل أن يحيا جميع السوريين والسوريات بحرية وكرامة. 

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟

اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي ودستوري، يمكن وصفها بـ”مرحلة اللادولة”. بغياب رئيس الجمهورية، وتعليق عمل السلطة التشريعية، ووجود حكومة تسيير أعمال محدودة الصلاحيات، لا قوانين تُسنّ ولا قرارات مصيرية تُتخذ. الحديث عن تعديلات دستورية أو تشكيل جمعية تأسيسية يبقى كلامًا نظريًا، طالما لا توجد آليات واضحة أو قوى سياسية حقيقية على الأرض تقود هذا التحول.

ما يثير القلق أكثر من غياب الرئيس أو تعطل المؤسسات هو غياب الرؤية السياسية والتنظيم المؤسسي القادر على قيادة الجماهير وتنظيم العمل السياسي. لا يمكن بناء دولة على أحلام فردية أو قرارات مرتجلة. الشعب بحاجة إلى قوى سياسية منظمة تمثله، تضع أولويات وطنية جامعة، وتدير المرحلة الانتقالية بحكمة وشفافية.

حتى الآن، لم يُعلن عن تشكيلة وزارية واضحة، ولا عن لجان مكملة في الوزارات الموجودة. حكومة تسيير الأعمال تبدو وكأنها مجرد كيان شكلي، غير قادر على تفعيل مقدرات الدولة أو رسم سياسات عامة تلبي احتياجات الشعب. أكثر من ذلك، لا توجد منصة رسمية تجمع مختلف الأطراف لطرح خطط واضحة حول المستقبل.

الإعلام في سوريا، الذي لعب دورًا كبيرًا خلال الثورة، يحتاج الآن إلى إعادة هيكلة وتوظيف مؤسسي. لدينا وكالات رسمية مثل “سانا”، ومحطات فضائية وإذاعات، لكنها ما زالت تعمل بأدوات الماضي، بعيدة عن الواقع اليومي للمواطنين. لماذا لا يتم تفعيل الإعلام ليصبح لسان حال الشعب؟ لماذا لا يتم استخدام هذه الإمكانيات الضخمة لتوثيق الحياة اليومية في المحافظات، ورصد التحديات الحقيقية؟

الثورة تجاوزت مرحلة الأفراد كمحطات إعلامية أو رموز للخطاب الثوري. الآن، نحن بحاجة إلى إعلام مؤسسي يوثق الواقع، يبني رواية جماعية، ويرسخ مفاهيم الرقابة والمساءلة الشعبية. العمل الإعلامي يجب أن يتحول إلى جزء أساسي من بناء الدولة، يعكس تطلعات الناس، ويكون أداة ضغط على المؤسسات لتحقيق الشفافية.

المجتمع المدني اليوم أمام مسؤولية كبيرة. في ظل غياب القيادة السياسية الواضحة، يجب أن يصبح المجتمع المدني حاضنة للنقاشات حول الحقوق والواجبات. الشعب السوري بحاجة إلى فهم عميق لما تعنيه دولة المواطنة والديمقراطية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر ثقافة الحوار والنقد البنّاء، بعيدًا عن العواطف والشعارات.

هناك حاجة ملحة لتحويل النقاشات إلى خطط عملية، تعكس أولويات الشعب. على الجميع أن يدرك أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة والحرية. المرحلة الحالية تتطلب صراعًا حقيقيًا على الأولويات الشعبية الجامعة، وليس مجرد تنافس على الخطابات الرنانة أو الشعارات.

ربما أكبر درس يمكن أن نتعلمه من المرحلة الماضية هو خطورة صناعة الأصنام، سواء كانوا رموزًا سياسية أو اجتماعية. لا أحد يجب أن يكون فوق النقد أو المساءلة. سوريا الجديدة لا يجب أن تكون مكانًا لتقديس الأفراد أو المؤسسات، بل فضاءً للنقد الحر والمراقبة الشعبية الحقيقية.

الحرية لا تتحقق فقط بإسقاط نظام، بل بإرساء ثقافة لا تقبل بالاستبداد بأي شكل. هذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون تحت المجهر: القرارات الحكومية، السياسات العامة، وحتى أداء القوى الثورية والمعارضة. الشعب السوري يجب أن يكون هو الحَكَم النهائي، وهو مصدر الشرعية الوحيد.

سوريا الحرة التي نحلم بها لن تتحقق بين ليلة وضحاها. بناء الدولة يعني الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة المؤسسات. هذا يتطلب تفعيل كل مقدرات الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات القائمة. لدينا وكالات إعلامية، مؤسسات حكومية، وموارد بشرية هائلة، لكنها بحاجة إلى إدارة واعية، تؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي.

لا يمكن ترك الساحة للعواطف أو الخطابات العاطفية. هذه مرحلة السياسة الفاعلة، التي تعتمد على التخطيط والالتزام بأولويات الشعب. المجتمع السوري يجب أن يتحول إلى قوة ضغط مستمرة، تضع معايير للمساءلة وتفرض أجندتها على كل من يتصدر المشهد.

إن كنا نحلم بسوريا ديمقراطية، متنوعة، وحرة، فعلينا أن نعمل بجدية على تحقيق هذا الحلم. بناء الدولة ليس مجرد شعار، بل عملية طويلة ومعقدة، تتطلب تضحيات وصبرًا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع: القوى السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، وحتى كل مواطن يؤمن بأن سوريا تستحق الأفضل.

مرحلة اللادولة ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة.

العمارة ما بين التراث والهوية والنزعة الاقتصادية

العمارة ما بين التراث والهوية والنزعة الاقتصادية

يقع كهف لاسكو في جنوب غرب فرنسا بجوار نهر فيزنر الذي اعتادت الغزلان قطع مياهه صباح كل يوم، وفي مشهدية ساحرة تنفض عنها قطرات المياه العالقة بوبرها، ومن ثم تتجه نحو بوابة الكهف، لتدخله بروية وتتابع حياةً امتدت لما يقارب 17000 عام بجوار قطعان الثيران والأحصنة والغزلان والماعز البري والبيزون والماموث. عوالم مثيرة ارتسمت على جدران هذا الكهف، حددت معالمها شبكة من الخطوط والأصباغ الطبيعية، التي كرّسها إنسان ذلك العصر لتشكيل ما يشبه أولى معارضه الفنية.

في العام 1998 م، اجتاحت سلالات الفطور والعفن رسومات كهف لاسكو، حيث لم تشفع لها آلاف السنوات التي عاشتها متشبثة بجدران الكهف من فتك هذه المخلوقات الصغيرة. ومذ ذاك الاجتياح، لا تنفك ترتسم أمام عينيَّ صورةُ الثور بجرحه الذي ينزُّ كل تلك الأعوام الطويلة، وأتساءل عن المصير الذي ينتظره في حال وصول تلك المخلوقات إليه.

تُصنّف رسومات لاسكو بأنها وثائق مصوّرة يعود تأريخها إلى العصر الحجري القديم الأعلى، وقد أفضت غالبية الدراسات إلى أنّ الهدف الأساسي من هذه التصاوير محوره “السحر” أي تطويع هذه الرسومات وما تحمله من عناصر في ممارسات سحرية وتسخيرها لإشباع غريزة البقاء!

– هل حقًّا “السِّحر” هو الدافع الحقيقي الوحيد الذي حدا بإنسان ذلك العصر إلى تصوير هذه المشاهد؟

– يتبعه تساؤل حول دوافع إنسان العصر الحالي إلى استنساخ هذا الكهف الضخم، و بناء نسخة مطابقة له على بعد 2 كم من الموقع الأصلي؟!

في إحدى دراساته لتاريخ الفن عبر العصور، يذكر أرنولد هاوزر: “إن الغريب في التصاوير المطابقة للطبيعة في العصر الحجري القديم، أنها تعطي انطباعاً بصرياً يبلغ من التلقائية، ومن نقاء الشكل والتحرر من كل تأنق أو قيد عقلي مالا نجد له أي نظير في تاريخ الفن اللاحق إلا عند حلول النزعة الانطباعية الحديثة، ففيها نكتشف دراسات للحركة تذكرنا بالصور الفوتوغرافية”(1). يعني ذلك أنّ إنسان العصر الحجري القديم كان يرسم ما يراه، ولم يكن يصوّر أكثر مما يمكنه أن يلتقطه في لحظة واحدة وفي لمحة واحدة للموضوع.

اذاً يمكننا اعتبار هذه الرسومات بمثابة دلالات بسيطة عن شكل عالمنا قبل ولادة الكاميرا، الأداة المستنسَخة عن أعيننا التي تنقل الانطباعات عن العالم، وتحفظُها. لكنّ الحظ لا يسعفنا دوماً بمصادفة وثائق وبقايا تُسّهل بناءَ تخيّلٍ للحياة سابقاً، خاصة وأنّ غالبية المواد التي استخدمت فيما مضى ذات طبيعة قابلة للتلف والتآكل بفعل عوامل الزمن، والاستثناءات هنا محكومة بمعايير تفرضها البيئة المحيطة وشروطها المناسبة لإنتاج آليات تقاوم التقلبات المناخية القاسية. تزخر المنطقة العربية بالبقايا والدلائل الحافظة لأرشيف كبير من عمر البشرية، إلا أنها الأكثر تشويهاً لهذا المخزون التراثي. ينجم هذا التشوه بشكل أساسي عن “المزاجية السلطويّة”، حيث تتحكم القوى الحاكمة في هذه المنطقة بخارطة توزع هذا التراث، وتكرّس سؤالاً بات يتكرّر:

– ما الذي تقدمه لنا اللُّقى والبقايا الأثرية؟ ولماذا نسعى لدراستها ونقوم بترميم التالف منها؟

التعديات الخطيرة على البنى التاريخية في مصر:

ضمن هذا السياق، ساد الأوساط الثقافية في الآونة الأخيرة جدلٌ كبير، أثارتهُ عمليات الهدم المدروسة للأبنية التاريخية في مصر، والتي يبدو أنه لن يكون آخرها هدم “قصر أندراوس” في الأقصر بقيمتهِ التّاريخيّة والمعماريّة، حيث صرّح أحمد عرابي مدير معبد الأقصر:

“إن القصر له قيمة تاريخية بكل تأكيد، إلا أنه ليس قصراً أثريًّا بأي حال من الأحوال، وغير مدرج كأحد القصور الأثريّة وعدة عوامل أدت إلى هدمه منها عنصري القدم والتشقق!”(2)

بنى “قصر اندرواس” توفيق باشا أندراوس الذي يعدُّ من أهم سياسييّ عصره، وأحد زعماء حزب الوفد المصري(3). تأتي أهمية القصر من كونه شاهداً على أحداثٍ تاريخيّة وسياسيّة هامة، في مقدمتها النضال ضد الإنجليز، واحتضانه لسعد زغلول سنة 1921 عندما رفضت الحكومة أن ترسو سفينته على أي شاطئ، كما شهد القصر اجتماعات عديدة لقيادات حزب الوفد بصعيد مصر والمحافظات الأخرى، وهو أحد قصرين يعودان لعائلة أندراوس، الأول لـِ “يسي باشا أندراوس” هُدم في تسعينات القرن الماضي.

لم يكن قصر أندراوس أول القُصور التي هُدمَت، بل سبقه هدم سلسلة من العمائر التاريخية من بينها قصر “مكرم عبيد” في قلب محافظة قنا، والذي تعرّض سنة 2013 إلى سلسلة من المحاولات الحثيثة الهادفة لهدمه. وهو واحد من العمائر الأثرية ذات الطراز الذي شاع في القرن الماضي في قصور الوجهاء والساسة في عهد أسرة محمد علي، وتعود أهميته التاريخية والحضارية إلى أنه كان مملوكًا لأحد زعماء الحركة الوطنية المصرية، فضلاً عن عناصره الأثرية وتفاصيله المعمارية الفريدة.

وفي المحافظة نفسها يقع قصر “فاضل باشا” حاكم قنا، الذي تعرض لسلسلة من الحرائق، الأمر الذي دعا الأهالي للاعتقاد بأن القصر مسكون بالجن والشياطين، إلا أن المعاينة الجنائية أشارت إلى وجود آثار سكب مواد بترولية ساعدت في اشتعال النيران بأجزاء كبيرة منه. ومحافظة قنا تحتوي على العديد من الأوابد الأثرية، باتت غالبيتها محاطة بالقمامة والقاذورات، وتتعرض لأبشع أنواع الإهمال وعمليات التخريب الممنهجة.

أثارت هذه الإبادة وساوس وأسئلة حيال الرغبة العارمة في اجتثاث القصور التي بنيت مطلعَ القرن العشرين من قبل زعماء الحركة الوطنية المصرية، المناهضة للاحتلال الانكليزي وللملكيّة أيضاً بشكلٍ خاص، والأخطر يكمن في انتهاج سياسة عامة هدفها السّعي وبقوة إلى مسح خارطة المباني التّاريخيّة المنتشرة بكثرة ونسفها من الذاكرة.

في منتصف مايو 2021، كشف آثاريون أنّ طابية الفتح الأثرية في أسوان الفريدة من نوعها في مصر، والتي يرجع تاريخ بنائها إلى العصر العباسي/ الفاطمي، قد هُدمت لإنشاء خزّانات مياه. نفت وزارة الآثار في البداية أن يكون هناك قرار بهدم الطابية ثم زعمت أنّ الهدم حدث عن طريق الخطأ.

تُعلّق الباحثة الآثاريّة سالي سليمان مؤسّسة مبادرة “بصّارة” على الهدم داخل القرافة بأنه كارثة، مشيرة إلى أنّ “قرافة المماليك”*(4) تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري ومبانٍ أخرى غير مسجلة، والهدم بحسب الوزارة لم يمسّ ما هو مسجّل كأثر، إلّا أنّ القرافة تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تخضع لقانون اليونيسكو. وتضيف: “حينما دخل بلدوزر جهة الهدم لم يهدم آثاراً مسجّلة لكن هدم تراثاً إنسانياً مهماً، وكان يمكن أن يحدث أكثر من ذلك لولا أن أثار الأمر الرأي العام.”(5)تعرضت العديد من الأوابد والعمائر الأثريّة في المناطق المأهولة بالسكان لأبشع المجازر، ولم توضع أيّ استراتيجية لحمايتها ودراسة آليات حفظها، آخذين بعين الاعتبار النزعة الاقتصادية في التعامل مع الآثار، وتنازع الملكية بين مسؤولي الأوقاف من جهة ومسؤولي الآثار من جهة ثانية والورثة كجهة ثالثة، الأمر الذي غالبا ما يتحول إلى تبادل الاتهامات فيما بينهم ومن ثمّ تهربهم من المسؤولية، فتضيع معه هوية المبنى ويصبح رهينة قيّمة معلّقة المصير. سيتوه في دوامة المعاملات والأوراق القانونية عند احتياجه لأبسط عمليات الترميم والصيانة، وهناك شواهد عديدة على هذا النوع من المباني التي تهاوت نتيجة الصراع على الملكية والطمع بما سيدره المبنى من أموال وكنوز.

رداً على كل هذه التعديات، جرت مطالبات كثيرة لتسجيل هذه العمائر أثريّاً، إلا أنّ الذي حصل هو العكس تماماً، فلقد عانت بعض الأوابد من سحب الصفة الأثريّة عنها بالرغم من أنها مُسجّلة، وعانى بعضها من ضخ المياه إلى أسسه بهدف تفتيتها، وأُضرمت النيران بأسقف وجدران البعض الآخر محولين إياها إلى مساكن أشباح مخيفة لا تجد من يدافع عنها لحظة إعدامها والفتك بها. ما أشبه ذلك بالاجتياح الفطري الذي يهدد حياة الرسوم الجدارية في الكهوف! ففي كلتا الحالتين نواجه مخلوقات مُتنفذة تتمدد وتنمو بشكلٍ خطير وبتغذية من البيئة المحيطة، وما تقدمه لها من عوامل بقاء وانعاش!

في كتابه “سببية وجدلية العمارة” يذكر رفعت الجادرجي: ” الهدف الإنساني من حماية التراث هو المحافظة على التوثيق العمراني، أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس، ولا تتضمن هذه العملية أية أهداف اقتصادية على الإطلاق. إضافة إلى أنّ المحافظة على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي لتأكيد هوية المجتمع وخصوصيته..”(6)

فأهمية الأبنية التاريخية أنّها تجسيد ظاهر لما هو مخفي ومطمور بين صفحات الكتب والدراسات، تختزل آلاف الرفوف من التاريخ في مداميكها الحجرية، الحافظة للعديد من الوثائق والدلالات المميزة لكل عصر، مما يجعلها سفن للعبور والانتقال بين الأزمنة. وبدورنا سوف نتلقف سير أصحابها وحكاياتهم عبر شقوق النوافذ والشرفات، ما يمكننا من محاكاة الزمن وقراءة تحولاته، لذا فإنه ليس من الترف أو الرّفاهية الحفاظ على هذه العمائر بشقيّها الزخرفي والانشائي.

تتعاظم كارثة هذه الأبنية في حالة تجاورها إلى جانب بعضها البعض مشكّلة (المتحف المديني). شوارع كاملة تتباهى بعصور تاريخية مختلفة تسكن جنباتها. ومع هذا الكم التراثي الهائل، ما الذي يترتب على مدن كحلب، القاهرة، دمشق، بغداد وصنعاء و.. فعله ازاء المتغيرات العاصفة التي تستشرس في استيراد مقاييس الحداثةالبعيدة عن بنية المكان السّيكولوجية والهويّاتية وتجبرها على استيعابه؟

التأثيرات الأساسية في تغيير بنيوية العمارة ونقدها:

لعبت المَيْكَنة التي اجتاحت العالم في أواخر القرن 18 الدور الأساسي في ظاهرة استنساخ الأنماط المعمارية المقولبة، التي أنتجت مدناً منسوخة عن بعضها البعض، مدمرةً كل مظاهر التّنوع والتّجانس الذي يشكّل ملامح كل مدينة ويميزها عن الأخرى. استطاعت المكننة إحداث تغيير جذري في العمارة، وكان أول ظهور لها في مجال تصنيع الحديد الصلب، الذي دخل في تصنيع الجسور والبيوت الزجاجية. ولقد ساهمت حروب القرن (20) في تطور المكننة، فحجم الدمار الذي أصاب المدن فرض على العالم خطة إعادة إعمار سريعة، وبناء عليه بدأت معايير وأشكال جديدة في عمليات البناء. وأبرز ما تم طرحه في ذلك الوقت تجسّد في وحدات لوكوربوزييه(7) التي اعتُبرت حينها الأكثر نجاحاً من سواها لقدرتها على إعادة بناء النسيج المديني على النحو الذي يُساعد في تأمين عمالة كاملة، وتحسين المشهد الاجتماعي، إلى جانب دورها الكبير في حفظ الانتظام الاجتماعي الرأسمالي الذي كان مهدداً بوضوح في العام 1945.

أُثيرت العديد من الانتقادات لنمط عمارة الحداثة، حيث اعتبر كريير بأنّ التخطيط المديني الحداثي يعمل أساساً من خلال إيجاد قطاعات وظيفية، وعليه تغدو حركة السّكان بين القطاعات عبر وسائط مصطنعة هي الهاجس الأساسي للمخطط، مولّدةً بالتالي نمطاً مدينياً هو “مضاد للبيئة” لإسرافه في هدر الوقت والطاقة والأرض، وعبّر عن ذلك في قوله:

“إن البؤس الرمزي للعمارة الراهنة والمجال المديني الراهن هو نتيجة مباشرة وتعبير في آن للرتابة الوظيفية كما أرستها تقاليد التقطيع الوظيفي فنماذج البناء الحديثة وأنماط التخطيط الرئيسية كناطحات السحاب، وسابرات الأعماق، ومنطقة الأعمال المركزية، وشريط المحال التجارية، وغابة المكاتب، والضاحية السكنية…الخ، هي تركيز مفرط، أفقياً أو عمودياً، لاستعمال واحد في قطاع مديني واحد، أو في برنامج بناء واحد، أو تحت سقف واحد”.

على نقيض ذلك سعى كريير إلى مخطط مدينة مؤلفة من “جماعات مدينية محددة وكاملة” تشكل كل منها دائرة مدينية مستقلة داخل عائلة كبرى من الدوائر المدينية، أو بتعبير آخر “مدن داخل مدينة”. في ظل هذه الشروط يمكن إعادة بحث “الثراء الرمزي” للأشكال المدينية التقليدية المبنية على “استيعاب التنوع الأقصى ومحاورته والتعبير عن التنوع الحقيقي، كما تظهره الوقائع الغنية والفعلية للأمكنة العامة، والنسيج المديني”.(8)

وتأتي أهمية هذا الطرح من قدرته على خلق رؤية لأمكنة جديدة مستوحاة من رؤى تقليدية بالرغم من كل التسهيلات التي قد تضفيها التقنيات والمواد الحديثة. مما يتيح الحفاظ على طابع الأمكنة وهويتها دون المساس بمقوماتها كمدينة لها معايير ومحددات تخدم طبيعتها وشروطها الوظيفية، حيث انه ليس من السهل إعادة صياغة شبكة العلاقات المعقدة التي ترسمها وتحددها نقاط ارتكاز مسار الحركة والمركز الحيوي للمكان.

أثار هالبفاكس فكرة الفضاء الاجتماعي ومدى ارتباطه وتأثيره الوطيد في الذات البشرية في كتابه “الذاكرة الجمعية”:

“ليس الموضوع موضوع تناغم وتوافق فيزيائي بين طابع الأمكنة والأشخاص، ولكن كل غرض من الأغراض التي نلقاها ونحتك بها ضمن مجمل الاشياء، تذكرنا بطريقة عيش الكثير من الأشخاص، وعندما نحلل هذا التكوين ونعير انتباهنا لكل جزء من أجزائه نكون وكأننا نشرّح فكراً تتداخل فيه مساهمات عدد من الجماعات.”(9)

في بحثه في أعماق الذاكرة الجمعية يغوص في معضلة “الفضاء المعماري” الذي ترسخ في أدمغتنا، فأفعالنا وردود أفعالنا تنبع مما يحيط بنا من مكونات، وعلاقتنا بالفضاء المعماري بشقيه المادي والعاطفي ومدى انغلاقنا عليه تمثل أدوات ذات تأثير فعال في سيكولوجيتنا البشرية.

في سيرتها الذاتية المعنونة بـ”جبل الرمل” – تيمناً بالجبل الرملي في المندرة في الاسكندرية- تنسج رندا شعث من بيت جدتها فاطمة الذي يقبع في قمة الجبل ذاكرتها الأولى، وتذكر في نهاية سيرتها بأن الجبل قد أُزيل لِيتم البدء بحفر أساسات عمارة على حافة السور البحري: “بيعت الرمال البيضاء، واختفى الجبل تماماً بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه. صار الجبل الرملي الأبيض مسكناً لمئات العائلات، عانت الجدة من العابرين المجهولين الذين يقتحمون حديقتها ليلاً ونهاراً، عابثين بنباتاتها وأزهارها. حاصرتها من جميع الجهات عمارات عشوائية عالية سدت منافذ الهواء. أصابتها حالة ارتباك فصارت تسأل الخالة الزائرة: “أنتو غيرتو عفش البيت ليه؟” ثم تنظر من شباك غرفتها وتسأل: “هو المكوجي اللي كان هناك راح فين؟” والعبارة الأكثر ترديداً صارت: “أنا عايزة ارجع بيتي- رجعوني البيت”. ثم استسلمت للصمت.”(10)

فمحيطنا المادي يحمل طابعنا وطابع الآخرين في آن معاً، ومنزلنا وأثاثنا والأسلوب الذي تُرتب فيه هذه الأشياء، والتراكيب المؤلفة للمكان خارج فضائنا الخاص تشكل إشارات تعريفية ليومياتنا وتذكرنا بأصدقائنا وعائلاتنا وعلاقاتنا المحمية التي غالباً ما نراها ضمن هذا الإطار الآمن. وعند اختفاء أحدها نشعر بتشتت خفي لا ندرك معالمه إلا في حالات التغير المفاجئ الحاصل دفعة واحدة، الأمر الذي لن يلاحظه الكثيرون ممن يسكنون في محيط المكان بداية، لسبب رئيسي يعتمد على أنّ العلاقة مع المحيط المادي قوامه الألفة والثقة. يتم اجتياز الشارع ذاته مرات كثيرة دون التدقيق والتميز لمكونات رصفت بديهياتها في ذاكرتنا الصورية. نعود إلى المكان محتفظين بصوره وتفاصيله الدقيقة التي تركناها فيه، ليس هذا فحسب فمن الممكن أن نضيع في حال باغت المكان الذي ألفناه مصّنعات غريبة.

في كتابها “في أثر عنايات الزيات”، أمضت إيمان مرسال، التي كانت قد غادرت مصر منذ العام 1998، وقتاً طويلاً في رحلة البحث والاستقصاء والتي أرادت أن تكون نقطة البدء المدفن الذي استقر فيه جثمان عنايات. ففي واحدة من الورقات الثلاثة عشرة المتبقية من أثر عنايات وجدت جملة غامضة بخط يدها: “يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر”. إلا أن الطريق إليها لم يكن سهلاً.

في رحلتها هذه لا يمكننا أن نجزم إن أرادت الكاتبة أن تنقل لنا أحاسيس غربتها وتَنَقّلها في أرجاء المكان كمغتربة لا تعلم الكثير عن خباياه، فنقطة الانطلاق حددها عنوان مكتوب في “جريدة الأهرام في يناير 1967” إحداثياته “مدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي”، وقد جاءت الكاتبة على ذكر هذه المنطقة في مقدمة العمل أثناء زيارة لها في العام 1995، أي قبل خوضها غمار السفر وبالتالي قبل معرفتها بعنايات.

“بدت هذه المقابر ليلتها أجمل مكان في العالم، نسيم الصيف وأضواء هضبة المقطم،.. لست في نزهة ولا سفر، بل رحلة الإسراء ستنتهي بانتهاء الليل”.(11)

في العام 2015 عرجت الكاتبة على المكان ذاته إلا أن إحداثياته قد ضاعت منها وتاهت بين أزقته، ولم تصل الكاتبة إلى المكان المطلوب إلا في العام 2018 وبمساعدة باحث آثار، خبيرٍ بتوزع المقابر، إلى جانب حفظه لمعالم القاهرة الفاطمية وتحولاتها.

“قرأت مرة بأن هذه الصحراء كانت مسرحاً لمسيرات المماليك العسكرية ومسابقاتهم وبطولاتهم واحتفالاتهم الدينية، وأنهم بنوا مقابرهم هنا بسبب جفاف التربة، يتوه الغريب في هذه الأميال من الأسوار والبوابات والشوارع المستقيمة. تتداخل عصور تاريخية بولاتها وباشواتها ومساجدها وصورها ومقامات عارفيها. لا إشارات لترسيم الحدود في مدينة الموتى”. (12)

سيزداد تيه هذه الأماكن يوماً بعد يوم إلى أن تجتثّ كعشبة ضارة تسمم المجال الحيوي حسبما يراها الكثيرون في يومنا هذا، فلو انتظرت الكاتبة قليلاً لكانت قد رثت بعض هذه البقايا الأثرية التي جرى هدمها لاحقاً، ومنها ما كان قد ذكر أعلاه “قرافة المماليك”*، أما الأجزاء المتبقية من هذه البقايا فكانت من نصيب الموتى كمثوى أخير لهم، يحاصصهم فيها أحياء لا مكان قادر على استيعابهم.

في كتاب “في أثر عنايات الزيات” اخترقت الكاتبة طبقات من العفن والتكلس المتراكم عبر السنين، وذلك خلال البحث والتنقيب عن شخصيات علمية وسياسية هامة كان لها دورها الكبير في تطوير التراث المصري وحفظه، والتسلسل الحياتي لشخص عنايات المجهول. لقد ارتطمت في رحلتها هذه بالعديد من العراقيل والمجازر المُرتَكبة بحق الأشخاص بالدرجة الاولى وبحق التراث والعمائر بالدرجة الثانية.

المجزرة الأولى ارتكبت بحق عنايات الزيات نفسها المتوفاة سنة 1963، حيث لم يعثر على ملف باسمها بالرغم من وجود اسم ورقم له، ولكن الملف نفسه اختفى واكتفت الموظفة ببضع كلمات: “مش موجود.. غالباً في الهالك.. استغنوا عن ملفات كثيرة في السنة اللي فاتت”.

تذكر إيمان مرسال: “لا يحدث الهالك عشوائياً أو بسبب الاهمال كما نتوقع في الحياة، بل بناء على رأي خبير يفرّق بين الملفات المجمّدة التي تشغل حيزاً مكانياً دون أن يزورها أو يضيف إليها أحد، وبين الملفات “المفتوحة” على امكانيات في المستقبل. هذا يعني أن الأرشيف المؤسساتي الذي يحتاج نظاماً لخلقه والحفاظ على استمراريته واستخدامه، قد يصبح عبثاً، مما يستدعي نظاماً إضافياً لتدميره. الايديولوجيا التي تقف خلف تأسيس الأرشيف هي نفسها ما تقرر تدميره. الأرشيف هو عمل الحضارة، رغبة في الحفاظ على التجاور والتعدد والتناقضات باعتبارها معاً ذاكرة جمعية، لكنه أيضاً لا يمكن أن يكون إلا انعكاساً لوعي ثقافة ما بذاكرتها، في لحظات الانحطاط العابرة، تتضاءل أهمية الذاكرة، يأتي خبير ليقيّم ما هو مهم وما هو تافه من موقعه في هذه اللحظة المنحطة.”(13)

تكررت المجزرة ثانية بحق عنايات عندما نُشرت روايتها “الحب والصمت” سنة (1967)، بعد انتحارها بأربع سنوات، حيث تشير مرسال إلى تلاعب بنهاية الرواية من قبل مؤسسة “الدار القومية للنشر” بما يتماشى مع الأحداث السياسية خلال تلك الفترة الزمنية، ضاربين بعرض الحائط جهد وأحاسيس عنايات ومستغلين فكرة رحيلها الأخير.

بينما الأكثر خطورة من كل ما سبق يكمن في امتلاك جرأة حذف بقايا وأشياء خاصة بأشخاص نعرفهم حق المعرفة والعمل على نسفها من الوجود، نقنع أنفسنا بأننا نمتلك أحقية اتلاف ممتلكاتهم الخاصة، نبقي على ما يتناسب مع قيمنا وأفكارنا، نزيل منها كل تلك الأشياء التي بإمكانها أن تؤثر على سمعتنا وتقاليدنا.

ففي نفس الرحلة لم تجد إيمان من أثر عنايات سوى بضع رسائل ويوميات تحمل مقاطع مجردة وجودية محلّقة، لا خوف منها، لتتحول مع الزمن هذه الأوراق إلى وثائق معتمدة عن شخص عنايات حسب تعبير إيمان..

“كانت الأوراق القليلة التي نجت نقاطاً منزوعة من نص حياة. فلقد حدث طمس لشخص عنايات الحقيقي، لعدم انسجامه مع من يحيطون بها، ظلت فقط السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى. أعيد تأويل قصة حياة شخص “انتحر” منذ أكثر من خمسين عاماً وأصبح التأويل هو القصة الحقيقية. إنهم لا يكذبون عندما يخفون ما يعرفونه لأن ما يعرفونه مؤلم ويجب إزاحته”(14)

كل ما ذكر ينضوي تحت خانة “الأدلجة”، سَوق الذاكرة بما يتناسب مع فكر وأيديولوجيا السلطة الحاكمة في كل عصر وزمان، فكل هذا الاستسهال والتراخي الذي يسيطر على أوساطنا العلمية والثقافية وحتى الاجتماعية فيما يخص قتل شخص أو معلم منشؤه ايديولوجيا الفكر المسيطر، والتحدي الأكبر بهذا الخصوص يكمن في تكوين وعي وهوية حقيقية، فالهوية والذاكرة مرتبطتان بشكل وثيق، وبوجود الهوية تتحرر الذاكرة وتشكل ممرات منفتحة لا تحكمها ايديولوجيا أو انتماء وإنما تنفتح أبواب الحرية في التعبير والرأي.

تشاركت كل من إيمان مرسال ورندا شعث في كتابيهما موضوعاً في غاية الأهمية، عندما أمعنت كلتاهما في رسم خارطة للعديد من الشوارع التي أزيلت منها نقاط علام مهمة، إلى جانب أنهما حددتا الشوارع التي تغيرت اسماؤها تبعاً لحيثيات المرحلة، والعمل على استحضار بعض العمائر التي أزيلت وبني على أنقاضها ما يعاصر المرحلة وتحولاتها، فلقد استعانت ايمان بهيئة المساحة ليكون بمقدورها التعرف على ملامح تلك الأماكن، في حين لجأت رندا شعث إلى مخزونها من الذكريات التي أمدتها بصور وأشخاص الأزمنة الفائتة.

فشارع الحرية بات يكنى بـ “شارع عبد الناصر”، و”سينما بيروت” أصبحت متجراً للأدوات المنزلية، بينما ضُربت جدران “سينما فاتن حمامة” بالمطارق وانتزعت أبوابها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”سينما أمباشي” في أشرفية لبنان.. اجتثاث كامل لكل أثر حافظ لذاكرة المرحلة، والقائمة في هذا الخصوص تطول.

لم يَعد يُراد للمدن المركزية ذات التّاريخ المغرق في القدم أن تستمر في أداء دورها الذي لطالما كانت رائدةً فيه، فعمليات تجريدها من صلاحياتها وسلبها تراثها الغني مثّل الموضوع الأهم لهذه المرحلة. خاصة وأنّ أهمية هذه المدن ووضعها الاستراتيجي محكوم بالحالة السياسية من جهة والاقتصادية من جهة أخرى. وتبعاً للتحولات العاصفة التي يعيشها عالمنا اليوم، بات التعامل مع العمارة القديمة مزنراً بأطر الزيف والتصنع، هناك توجّه لحرق جمالية بنيانها، وجهد مركز على صبّها في قوالب جامدة من شأنها قتل كل مبادرة حيوية تجعل منها أبنية مرنة تستوعب تحديثات المرحلة وتوظفها عضوياً.

كل ما يحيط بنا يصب في خدمة الرأسمالية العالمية التي تغلغلت إلى أساسات الهندسة المعمارية، ونمت لتَعُم ساحات المعمورة، فالتضحية بالهوية من أجل العولمة أفسدت القيم والثقافات التقليدية التي داوم عليها البشر لآلاف السنين. وكل هذا الانفصال الذي باتت تعيشه المدن التاريخية من حيث الانشقاق عن محيطها الحيوي يرتكز بشكل رئيسي على انتحال سمات العمارة الحداثوية البعيدة كل البعد عن المناخ الطبيعي لكلٍ منها، وما نتج عنه من تسطيح للتاريخ الحقيقي لكل منطقة ومسح تحولاتها المفصلية، حتى بتنا لا نعرف عن تاريخ تلك المدن إلا ما وصَلَ إلينا من كتبِ وأخبار الرّحّالة. ندرس تحولات مساكننا، كسائنا، مشروباتنا، العادات واليوميات السائدة حينها من خلال ما ترجمته أعينهم. والأخطر من كل ما تم ذكره يتركز في طور البحث عن آثارنا المدفونة في طبقات ترب هذه المناطق والتي ينزاح مؤشر احداثياتها حيث الخزائن المتحفية الموزعة في جميع أصقاع العالم، تُنفى إليها لتبقى حبيسة تلك العوالم الغريبة، بعيدة عن نسيجها المادي.

ما أشبه هندسة تلك الخزائن بعمارة منازلنا اليوم، التي جرى استيرادها فبتنا نعيش بداخلها غرباء عن محيطنا وعن أنفسنا أيضاً، يفصلنا حاجز بلوري عن العالم الخارجي، بشكل مطابق لحياة تلك القطع التي تعيش في زمن لم تعد تنتمي إليه.

يُنشر هذا التقرير بالتعاون مع جدلية.

الهوامش

1- ارنولد هاوزر. الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، ت: د. فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، ط1، 2005، ص16.

2- صهيب ياسين. قصر أندراوس التاريخي..124 عاماً من حكايا الرعب والسياسة والتاريخ، العين الإخبارية- أغسطس 2021.

3- الحزب الجماهيري قبل ثورة 23 يوليو التي أنهت عهد الملكية، نشأت فكرة الحزب في العهد الملكي وبالتحديد أحداث 1919، ومنذ عشرينات القرن العشرين كانت أغلب الحكومات المتعاقبة على حكم مصر- قبل الثورة- يشكلها حزب الوفد، إلا أنه قد حل إلى جانب العديد من الأحزاب السياسة المصرية بعد قيام الثورة في العام 1953، ليسدل الستار على تجربة التعددية الحزبية المصرية، إلا أنه عاد لينشط ثانية في عهد الرئيس أنور السادات.

4- أو ما يسمى بـ(جبانة المماليك): حوت هذه المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية شرق القاهرة على أقدم القباب الضريحية الباقية في عمارة مصر الاسلامية، حيث يرجح بأن تاريخ بعض قبابها يعود إلى ماقبل الفاطميين، أما معظمها فيعود إلى العصر الفاطمي (العمارة والزخرفة في العصر المملوكي- غالب المير غالب- الهيئة العامة السورية للكتاب، ص189)، وظفت القرافة في العهد المملوكي كميدان للتدريب، إلا أنها لاحقاً لفتت أنظار سلاطين المماليك الذين باشروا ببناء قصورهم التي ألحقوا كل منها بمسجد ومدرسة.

5- محمود عبد الرحمن. (الآثار والتراث في مصر: بين الاهمال والاهتمام)، المفكرة القانونية، يوليو 2021.

6- رفعة الجادرجي. في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص44.

7- نسبة للمعماري شارل إدوار جانِّريه الملقب بـ(لوكوروبوزييه): هو من المعمارين الحداثويين الأوائل، أخذ لوكوربوزييه في تصاميمه وكتاباته ما تخيّله من احتمالات كامنة في المصنع والآلة وعصر السيارة ثم حشدهما نحو مستقبل طوباوي. يذكر ديفيد هارفي بأن العمارة التي سادت خلال هذه الفترة أنتجت صوراً راقية من القوة والتفوق لكل من الشركات والحكومة المهتمة بهذه السمعة، بينما أنتجت هذه الحكومات نفسها مشاريع سكن حداثي للطبقة العاملة التي أصبحت من جهة ثانية رمزاً للاستلاب والظروف غير الانسانية. سادت خلال هذه الفترة الأنماط المعمارية أحادية المعيار أو ذات الخط المعماري المتشابه.

8- ديفيد هارفي. حالة ما بعد الحداثة “بحث في أصول التغيير الثقافي”، ت: د. محمد شّيا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005، ص 94.

9- موريس هالبفاكس. الذاكرة الجمعية، ت: نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، بيروت 2016، ص166.

10- رندا شعث. جبل الرمل، دار الكرمة للنشر، القاهرة 2020، ص136

11- إيمان مرسال. في أثر عنايات الزيات، الكتب خان للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2019، ص10.

12- المرجع السابق ص12.

13- المرجع السابق ص196.

14- المرجع السابق ص203.