“أصبحت أعيش على هامش الحياة بعد الإعاقة، وأقصى أحلامي العودة للمشي من جديد، دون أن أطلب المساعدة من أحد” تقول سوسن التناري (31 عاماً) النازحة من مدينة معرة النعمان إلى مخيم في بلدة “كللي” بريف إدلب الشمالي، التي حكم عليها أن تبقى أسيرة كرسيها المتحرك بقية حياتها، فهو وسيلتها الوحيدة في الحركة والتنقل من مكان إلى آخر، بعد تعرضها لشظية قذيفة في منطقة الظهر، وحول ذلك تقول لصالون سوريا: “أحتاج عدة عمليات جراحية على أمل الشفاء، لكنني أعجز عن دفع تكاليف العلاج .”
تعاني نساء في إدلب من بتر الأطراف والإصابات الناجمة عن القصف العشوائي وانتشار السلاح، ورغم أنّ جميع فئات المجتمع عرضة لهذه المعاناة، إلا أن المجتمع المجحف والنظرة الدونية للمرأة وتغييب دورها وانتقاص حقوقها، تجعل حياة النساء اللواتي يتعرضن للإعاقة أكثر صعوبة وتعقيداً.
بحزن كبير تستذكر التناري لحظة إصابتها فتقول: “بشهر نوفمبر من عام 2019 كنت في طريق عودتي من مكان عملي إلى المنزل، حين سقطت قذيفة على مقربة مني، فاستقرت إحدى شظاياها في عمودي الفقري وتسببت لي بالشلل .”
وتلفت التناري أنها خسرت عملها وكل أمل بعيش حياة طبيعية، وتضيف: “كنت أرعى أطفالي الثلاثة الأيتام، وأؤمن نفقات المنزل من مردود عملي كمعلمة، ولكن بعد إصابتي اضطررت للانتقال للعيش مع والدتي المسنة التي ترعاني مع أطفالي، وأصبحنا جميعاً ننتظر المساعدة من أهل الخير لنؤمن مصروفنا ونبقى على قيد الحياة .”
كما تعجز معظم مصابات الحرب عن تأمين أطراف صناعية بسبب تردي أوضاعهن المادية، وغياب أي جهة أو منظمة تهتم بتقديم أطراف صناعية مجانية لمصابات الحرب وتهتم بهن وترعى شؤونهن .
مريم المعمار (28 عاماً) من مدينة سرمين، أم لطفلين، لم تتمكن من تأمين ثمن طرف صناعي سفلي، بسبب سوء أحوالها المعيشية، وعن ذلك تقول: “فقدت قدمي اليمنى بشظية برميل متفجر منذ خمس سنوات، وبعد انتظار دام قرابة سنة حصلت على طرف صناعي، محلي الصنع من جمعية خيرية، لكنه تسبب لي بآلام كثيرة، ولم يساعدني على المشي، لذلك تخليت عنه وعدت للسير بمساعدة العكازين .”
وتشير المعمار أن معاناتها لم تقف عند حدود الإعاقة، حيث زاد معاناتها عدم تقبل زوجها وأهله لإعاقتها، فعمد لهجرها والزواج من امرأة أخرى، وعن ذلك تضيف بعيون دامعة: “أحاول أن أرعى أولادي وأقوم بواجباتي كأم، ولكن أكثر ما يؤلمني هو تخلي زوجي عني، علماً أنه لو كان مكاني، ما كنت لأتخلى عنه مهما كانت الظروف .”
الشابة رولا السلوم (19 عاماً) نازحة من بلدة خان السبل إلى مدينة حارم، كانت تفضل الموت على إكمال حياتها مبتورة القدمين، وعن معاناتها تقول: “غارة من الطيران الحربي كانت كفيلة بقلب حياتي إلى جحيم وتدمير مستقبلي، حيث أدت لمقتل والدي وبتر قدمي .”
وتضيف: “لم يعد لحياتي معنى، فقد كنت سابقاً مقبلة على الحياة ومفعمة بالنشاط والحيوية، وأسعى للتفوق وإكمال الدراسة، ولكنني اليوم منطوية ومنكسرة، وأخشى الخروج من المنزل خوفاً من رؤية الشفقة والانتقاص في عيون الناس، فهي تذكرني بما وصلت إليه من عجز وبؤس وشقاء .”
وتلفت أنها محملة بذكريات مريرة، وأحلام مقيدة بمواصلة التعليم والعودة للاندماج بالمجتمع بفعل غياب الدعم، وضعف الإمكانيات، وحاجتها الماسة لكرسي كهربائي متحرك، يمكّنها من الذهاب للمدرسة، ثم تضيف بصوت خافت: “حتى لو أتممت دراستي مَن سيوظف معاقة مثلي! .”
من جهتها المرشدة النفسية علا خمورة(33 عاماً) من مدينة إدلب تتحدث عن معاناة النساء ذوات الإعاقة بالقول: “شكلت الإعاقة نقطة تحول قاسية في حياة الكثيرين، وخاصة النساء اللواتي يقع على عاتقهن مهمة رعاية الزوج والأولاد، وتحديات وأعباء كثيرة في ظل محدودية مراكز الرعاية والتأهيل الخاصة بهن، والنظرة القاصرة التي تنحصر بين الشفقة والسخرية، لذا يزداد شعورهن بالقلق والإحباط وفقدان الثقة بالنفس، إلى جانب العزلة والانطواء وتراجع المستوى الدراسي والعملي، والفشل في تكوين علاقات جيدة مع الآخرين، فضلاً عن الإحساس بالشفقة على الذات والغضب والانفعال المستمر . “
وأكدت الخمورة أن غالبية النساء لا يحصلن على الحد الادنى من الحقوق، وينعدم لديهن أي حافز للتحدي وإثبات الذات، نتيجة لثنائية التهميش الناتج عن الإعاقة من جهة والنظرة السلبية للمرأة في المجتمع من جهة أخرى، لذا أوصت بضرورة توفير الرعاية الصحية والتعليم وتحسين المعيشة من خلال محاربة الفقر، والتدريب والتأهيل والعمل، وتوزيع الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين على كل المراكز والجمعيات والمخيمات التي تتواجد فيها النساء ذوات الإعاقة، للتعرف على أفضل الأساليب في التعامل معهن وجعلهن ناجحات ومنتجات وواثقات، فضلاً عن توفير العلاج اللازم، وتردف قائلة: “هؤلاء النساء بحاجة إلى فرص فقط، لا إلى شفقة.”
سلبت الحرب أجزاء من أجسادهن ليعانين الأمرين في محاولة التأقلم مع الإعاقة والالتزام بمسؤولياتهن وأعباء الحياة المضاعفة رغم الظلم والإقصاء وإجحاف المجتمع .
بعد أن حلّت أسوأ أزمات الكهرباء نتيجة شح وصعوبة تأمين موارد الطاقة اللازمة لتشغيل المحطات الكهربائية بأنواعها المختلفة، بدأت “الأمبيرات” تنتشر في محافظة حلب، و امتدت إلى محافظات جديدة تحت وطأة زيادة ساعات التقنين، رغم عدم حصولها على ترخيص قانوني حتى اليوم.
يقول نور من سكان حي الحمدانية في حلب لـ”صالون سوريا”: إن ساعات التغذية الكهربائية لا تزيد في كثير من الأحيان عن ساعتين فقط، مع تحسن في يومي الجمعة والسبت بشكل طفيف؛ إذ تصل إلى ساعتي تغذية كل 4 ساعات في فصل الربيع”، هذا ما دفع حيّه وأغلب أحياء المدينة تقريباً لاستخدام نظام “الأمبيرات” لتوفير الكهرباء اللازمة للمنازل. كذلك تفعل المحلات التجارية في الأسواق، وهو مصدر طاقة كاف لتشغيل الإنارة وبعض الأدوات الكهربائية البسيطة، مثل: التلفاز.
جورج وهو من سكان حي الميدان بحلب في نظام “الأمبيرات” منذ سنوات مقابل 60 ألف ل.س شهرياً (حوالي 23,8 دولاراً أمريكياً حسب النشرة الرسمية لمصرف سورية المركزي).
ويبلغ سعر “الأمبير” الواحد ما بين 8 إلى 10 آلاف ل.س أسبوعياً حسب كل منطقة، وتحتاج العائلة إلى 2 أمبير على الأقل، وبذلك تنفق نحو 16 إلى 20 ألف ل.س (حوالي 8 دولارات) بشكل أسبوعي، ويغطي “الأمبير” عموماً الفترة المسائية من الساعة الرابعة مساء حتى منتصف الليل بمعدل 8 ساعات يومياً، في حين توفر “الأمبيرات” الصناعية 13-14 ساعة تغذية للفعاليات التجارية، لكن بسعر أعلى من المنزلي.
ولم يحصل نظام “الأمبيرات” على ترخيص قانوني في البلاد، كما نفى وزير الكهرباء غسان الزامل في تصريح نشر على وكالة الأنباء السورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 مناقشة أي مشروع لـ”الأمبيرات” في دمشق وريفها، مؤكداً أن وزارته “صاحبة الحق الحصري في توزيع الكهرباء”.
ويتشابه واقع الكهرباء في الريف الدمشقي مع حلب، حيث لا تتجاوز عادة ساعات التغذية الكهربائية 4-5 ساعات يومياً، ما أجبر الأهالي وبعض أصحاب المحلات التجارية على تأمين بدائل، مثل: المولدات التي تعمل على البنزين أو المازوت، ومؤخراً الاشتراك في نظام “الأمبيرات” لأنه أقل كلفة.
أحمد وهو من سكان معضميّة الشام، اشترك مؤخرا في نظام “الأمبيرات” الذي دخل إلى المدينة في الأشهر الماضية. عن تجربته يقول لـ”صالون سوريا”: “بلغت كلفة تركيب الكابلات والساعة الكهربائية وأجور العمال نحو 350 ألف ل.س، تحسب التكلفة الأسبوعية على أساس حجم الاستهلاك مهما بلغ، استعمل كهرباء الأمبير من أجل الإضاءة وشحن الهواتف فقط “.
ودخلت “الأمبيرات” محافظة طرطوس على غرار محافظات أخرى في ظل الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي، وأكد مدير عام كهرباء طرطوس عبد الحميد منصور لصحيفة “الوطن” المحلية في كانون الأول/ديسمبر 2021 أن الشركة ترفض ترخيص عمل هذه “الأمبيرات”، وهي ممنوعة لعدم وجود أي بند في قانون الاستثمار يشرع عملها، مضيفاً أن 10 مولدات “أمبير” تعمل في مدينة طرطوس من دون رخص قانونية.
وتناقلت وسائل إعلام محلية أنباء عن دراسة تجريها لجان رسمية في محافظة حماة لاستثمار مولدات أمبير في المدينة.
وذكر مدير التخطيط والتعاون الدولي في “وزارة الكهرباء” أدهم البلان في تصريح لصحيفة “الوطن” المحلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 أن القطاع الصناعي يستهلك نحو 500 ميغاواط يومياً، وبالتالي يستحوذ على 25% من الطاقة الكهربائية المتاحة حالياً، وتقدر بـ 2000 ميغاواط.
وبلغت الخسائر المباشرة وغير المباشرة لقطاع الطاقة الكهربائية في سورية نحو 6 مليارات ل.س (حوالي 2,4 مليون دولار)، وانخفض إنتاج الكهرباء من 49 مليار كيلو واط ساعي في عام 2011 إلى نحو 19 مليار كيلو واط ساعي عام 2016، ثم عاد للنمو، حيث وصل في عام 2020 إلى 27 مليار كيلو واط ساعي، بحسب تقرير صدر عن “وزارة الكهرباء” في آب/أغسطس 2021.
وصرح رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس مؤخراً أن واقع الكهرباء في سورية سيشهد تحسناً ملحوظاً خلال النصف الثاني من عام 2022، وذلك بعد تأهيل ووضع عدد من مشاريع ومحطات توليد الكهرباء بالخدمة والاستثمار.
وتعمل “وزارة الكهرباء” على إنشاء مشاريع أو تسهيل الاستثمار في الطاقات المتجددة للتخفيف من استهلاك الطاقة التقليدية، وبخاصة من قبل القطاع الصناعي، لكن مساهمة هذه المشاريع في المنظومة الكهربائية ما زالت ضعيفة نسبياً.
عند زيارتك لمنطقة مصياف وريفها بمحافظة حماة، ستقدّم لك في أغلب منازلها التي تنزل فيها ضيفاً منتجات وأطعمة تقليدية، اعتاد الأهالي على صناعتها منذ سنوات طويلة، وعُرفت بتقديمها للضيوف.
وتتفن النساء بصناعة العديد من الأطعمة الشعبية بأنواع وأشكال مختلفة، بعد أن توارثن هذه الأشياء عن الآباء والأمهات.
تقول رؤى: “كان يزورني أصدقائي وخاصة من غير محافظة، وأقدم لهم الهبول وأحبوه كثيراً وأعطيهم قسماً لأهاليهم” مضيفة “للهبول طعم شهي كما له فوائد طبية فهو يمد بالطاقة والنشاط، ويساعد على محاربة السعال عبر غليه وشربه”.
ويوضح الباحث التاريخي لؤي بيطار أن منطقة مصياف اشتهرت بالعديد من الصناعات والمأكولات الشعبية مثل “تين الهبول” ودبس الرمان والعرق البلدي وغيرها، والتي توارثتها الأجيال، مبيناً أن القسم الأكبر من هذه الأطعمة كان يُصنع بغرض الضيافة، “فيما يباع قسم منها بأسعار منخفضة” بحسب قوله، هذا قبل أن يتغير الوضع بعد الحرب، وتصبح صناعة هذه المنتجات مصدر رزق للعديد من العائلات.
تين الهبول
هو علامة مميزة لمنطقة مصياف التي تتميز وريفها بوجود العديد من الأراضي المزروعة بالتين البعل بأصناف عديدة مثل الصفراوي والأحمر والفرزي والملي وغيرها.
تروي السيدة رؤى (50 عاماً) أنها تعلمت من والدتها صناعة التين الهبول، حيث تملك عائلتها أراضٍ مزروعة بالتين.
وعن كيفية صناعته تقول رؤى لـ”صالون سوريا”: “بعد قطف التين يُنتقى الجيد منه ويُنشر على أسطح المنازل حتى يجف بعد تعرضه لأشعة الشمس، وبعدها يُجمع ضمن وعاء معدني فيه ثقوب من الأسفل يسمى الغربول”.
وبعد ذلك يوضع التين الجاف في وعاء معدني كبير مليء بالماء موضوع على النار، ويُترك حتى تطهى ثمار التين على البخار بشكل كامل.
وتتابع رؤى “عقب هذه العملية يُعجن التين مع بعضه، ويقطع إلى قطع صغيرة ويغمس بنخالة القمح، ويمكن إضافة الجوز أو اللوز أو جوز الهند ثم تناوله”.
كما تحدثت رؤى عن وجود نوع آخر من التين، الذي يوضع تحت أشعة الشمس حتى يجف ويصبح جاهزاً للأكل ويسمى “المسطوح”، وغالباً ما يتم تناوله خلال الشتاء.
وتواظب الكثير من العائلات على صناعة التين بنوعيه وخاصة “الهبول” خلال شهر آب عندما تنضج الثمار، وخاصة أنه تحول إلى مصدر رزق.
دبس الرمان
تعتبر صناعة دبس الرمان حرفة يتوارثها أهالي مصياف منذ القدم، وهم يبيعون منتجاتهم في المنطقة وباقي المحافظات.
وتتميز العديد من قرى ريف مصياف بانتشار أشجار الرمان بكثرة في المنطقة، وعن صناعة الدبس تقول لميا (51 عاماً) إن: “تبدأ بفرط حب الرمان ثم توضع بأواني معدنية، وبعدها يتم العصر “.
وتذكر لميا أنه في الماضي كان الأهالي يعصرن حب الرمان عبر الرحى الحجرية التراثية، ومع التطور بات الناس يعتمدون على الخلاط الكهربائي أو آلة العصر اليدوية (الخضاضة).
وبعد العصر يوضع الرمان بأطباق معدنية على النار لغليه ساعات عدة حتى يصبح لزجاً، وحالياً يعتمد الأهالي على الحطب لغلي الرمان في ظل ندرة الغاز المنزلي وارتفاع أسعاره في السوق السوداء.
تبين لميا أنه بعد غلي عصير الرمان يوضع في أطباق ليجف تحت أشعة الشمس لمدة أسبوعين تقريباً، ثم يُخزن في أوان زجاجية ويصبح جاهزاً للتناول.
مصدر للرزق
ومع تدهور الوضع الاقتصادي بشكل حاد في سوريا، اختلفت الأوضاع كثيراً حيث بات الناس يبحثون عن مصدر دخل آخر في ظل قلة الأجور وارتفاع أسعار المواد باستمرار.
هذا ما دفع رؤى التي تعمل كمدرسة لغة عربية إلى امتهان بيع تين الهبول، فقد أصبحت تنتج كميات كبيرة منه بغرض البيع.
وتبين أنها تبيع كميات في المنطقة كما ترسل إلى محافظات عدة أيضاً، مما ساعدها على تحقيق مردودٍ جيدٍ، حيث يصل سعر الكيلو إلى 15 ألف ليرة.
وتقول: “راتبي لا يكفيني حتى أمن لعائلتي ما تحتاجه وزوجي متوفي من سنوات، فكان لابد من إيجاد حل وأولاد يساعدوني قدر الإمكان”.
وتبيع رؤى منتجاتها من المنزل حيث يحضر إليها أبناء المنطقة لشراء احتياجاتهم من تين الهبول أو من يرغب بأخذ هدية لشخص ما.
وتقول: “أبيع كميات متفرقة في البيت وأجهز طلبات توصية بناء على رغبة البعض من أصناف التين المتنوعة”، ورؤى ليس الوحيدة التي امتهنت بيع التين الهبول، بل يوجد العديد من أهالي مصياف وريفها ممن قاموا بذلك ومنهم سامر (30 عاماً).
ويبين سامر أن والديه انفصلا عن بعضهم ويعيش مع أمه، وبات عليه المساعدة في مصرف البيت، لذلك لجأ إلى بيع تين الهبول ودبس الرمان.
ويقول: “أوقفت تسجيلي بالجامعة منذ فترة لأتمكن من صناعة التين ودبس الرمان مع أمي، ونبيع حالياً في مصياف ودمشق والطلب هناك أكبر “.
ويضيف “الذهاب إلى الجامعة بات مكلفاً والمصاريف تزداد يومياً، والبقاء بالمنزل والعمل في التين والرمان أصبح أفضل لي ولعائلتي”.
ويصل سعر كيلو دبس الرمان إلى قرابة 20 ألف ليرة سورية، حيث ارتفع سعره في الفترة الأخيرة خاصة مع تراجع قيمة العملة وارتفاع الأسعار.
صعوبات صناعة المنتجات التقليدية
“صناعة التين ودبس الرمان تتطلب جهداً وعملاً متواصلاً من الصباح حتى المساء.. أنا شاب وأتعب كثيراً حتى أتمكن من تأمين جزء من مصروف البيت ولكن هذه حال البلد”، بهذه الكلمات عبر سامر عن الجانب الآخر من صناعة دبس الرمان وتين الهبول، مبيناً أنه يواجه العديد من الصعوبات.
ويذكر أنه يستيقظ في الصباح الباكر لجمع الحطب من الجبال لأجل النار، لعدم توفر الغاز الذي وصل سعره إلى 170 ألف ليرة سورية، إضافة إلى تأخر رسالة الغاز المدعوم لأكثر من 100 يومٍ.
وتتشارك لميا ورؤى هذه الصعوبات دون وجود أي تسهيلات أو جهات داعمة لهذه المشاريع الصغيرة.
وتقول لميا: “نعاني من تسويق المنتج إلى خارج مصياف، وأحياناً لا تصل الكميات إلى المحافظات الأخرى بسبب الحواجز”.
أما رؤى تطالب بأن يكون هناك تصدير لبعض الدول المجاورة لسوريا نتيجة الطلب على هذه المنتجات.
وتقول: “يتواصل مع أشخاص من الأردن والعراق يريدون التين، ولكن لا يوجد إمكانية لإيصاله، والمفروض أن يكون هناك بعض الدعم لتسويق المنتج من جميع الجهات”.
ورغم ذلك تبقى هذه المأكولات الشعبية سنداً وعوناً للعائلات في ظل ظروف اقتصادية صعبة تعاني منها سوريا، حيث وصلت نسبة الفقر إلى أكثر من 90 % حسب الأمم المتحدة.
على الطرف المقابل لمنطقة باب شرقي بدمشق القديمة، يقع معمل أحمد الحلاق “أبو محمود”، الذي يعمل به بنفخ وتشكيل الزجاج اليدوي منذ عشرات السنين.
يبلغ عمر معمل “أبو محمود” تقريباً مئة وخمسين عام، وهو يعمل به مع أخيه منذ حوالي خمسين عام، في مهنة صناعة الزجاج التي ورثاها عن والدهما.
أغلق المعمل قبل عدّة أشهر بسبب نقص مادة المازوت التي تعد مادة أساسية في مهنته، يقول أبو محمود لـ”صالون سوريا”،”عملية إعمار الفرن تكلف الملايين ويجب أن يستمر بالعمل 24 ساعة، لأن الزجاج الموجود فيه يجب أن يكون على درجة حرارة عالية جداً ولا يبرد، وفي حال برد وتم إعادة صهره يتكسر ويعطل الفرن، وهذا ما حصل بالتحديد”.
بعد وعود من وزير الصناعة والأمانة السورية بتامين المازوت وإعادة تشغيل فرن الزجاج وتأهيله، مقابل تدريب حرفيين جدد على هذه المهنة، عاد العمل إلى العمل “لكن تدريب الكوادر لا يكفي دون سوق لبيع المنتج، فكل الطلبات لدينا موجودة بشكل خارجي وليست ضمن سوريا، قبل الأزمة كان هناك طلب داخلي حوالي 40 إلى 50 بالمئة اليوم الطلب قليل جداً” يقول أبو محمود، مستدركاً “في المقابل يجب أن نعطي سر هذه المهن للمتدربين الجدد بسبب الوضع الحالي، كنا في السابق لا نعطي سر المهنة، إذ كانت محصورة بعائلة القزاز، عائلة والدتنا وهذه العائلة تركت المهنة ونحن استمرينا فيها حتى أصبحت تُنسب لعائلة الحلاق”.
حرير دير ماما
“سوريا كانت توزع الحرير على دول الجوار وأوربا أيضاً، وخيط الحرير السوري مميز جداً حاز على عدة جوائز على مستوى العالم ولايشبه الحرير الصيني أو الهندي” تقول الفنانة التشكيلية عفاف النبواني المهتمة بمتابعة صناعة الحرير التي تحاول النجاة برغم كل الصعوبات.
تقول النبواني لـ”صالون سوريا”: “تُعرف منطقة دير ماما بريف حمص بغناها بشجر التوت وهو منتج رئيس لتربية دودة القز، لكن قلّ الاعتناء به، ونتيجة الحاجة للمادة بات سكان المنطقة يقطعون شجر التوت ويزرعون عوضاً عنه ليمون وزيتون، لأنه أسرع إنتاجاً”.
أجبر نقص شجر التوت المهتمين بتربية القز وإنتاج الحرير، لقطع مسافات طويلة إلى القرى المجاورة حوالي 3 كم لشرائه، فهو غذاء الدودة الرئيسي. هناك أيضاً عدة مراكز زراعية حكومية في اللاذقية، وحماة لبيع الشرانق للمربين، أبرزهم مركز “حاموش رسلان” في طرطوس المركز الرئيس الذي يوزع دودة القز، بعد تسجيل دور يستغرق أشهر للحصول على علبة من 11 غرام تُعتبر كمية كافية لإنتاج نحو 30 إلى 40 كيلو من الشرانق.
ولا تتوقف الصعوبات التي تواجها مهنة صناعة الحرير، عند تربية دودة القزّ وانتظار مراحل الشرنقة ليتم بعدها تحرير الخيط وإنتاج الحرير الطبيعي على النول اليدوي، فهناك أسباب أخرى بحسب النبواني منها، “كساد القطع التي تنتج بأسعار تتراوح بين 350 – 400 ألف ليرة سورية للقطعة الواحدة أي حوالي 100 دولار أو أقل، وبالتالي هناك صعوبة باستمرار هذه المهنة وأيضاً شراء شرانق للمرحلة التالية.
النبواني ترى أن استمرار تعامل الحكومة بهذه الطريقة مع هذه المهنة سيؤدي بالضرورة لزوالها “لأن البيوض الموجودة قليلة، وسلالة الشرنقة الذهبية موطنها سوريا وحوض العاصي، إذ باتت غير موجودة ولا يوجد استيراد، إضافةً إلى عدم وجود سلالات محصنة وقلة عدد المربين”، بحسب قولها.
النول في حلب
طلبت وزارة السياحة في السنوات السابقة من الحرفيين وأصحاب المهن اليدوية إخلاء الأسواق الأثرية في مدينة حلب لترميمها من قبل الأمانة السورية للتنمية، ومنها سوق خان الشونة. أخرج حينها علي خصيم مع ولديه، المشهورين بحرفة النول اليدوي.
في ذلك الوقت طلب خصيم من وزارة السياحة وبالتعاون مع الحرفيين بالتعهد بترميم الخان على حسابهم الشخصي بدلا من خروجهم من السوق، كون أضرار بعض المحلات بسيطة، لكن الوزارة رفضت ولم يعودوا حتى الآن، يقول خصيم لصالون سوريا: “المبيعات موجودة طبعاً ولكن خارج البلد وبصعوبة، وندرب اليوم حوالي عشرين حرفي من الجنسين للحفاظ على هذه المهنة بعد انتقالنا إلى مكان آخر”، مشيراً إلى أن الدعم الذي قدمته الجهات الحكومية للحفاظ على هذه المهنة غير كاف، وما أبقاها حتى الآن هو جهد فردي من قبل عائلة خصيم للحفاظ على هذه المهنة واستمرارها، وحرفة النول اليدوي مهنة لاتزال مستمرة منذ أكثر من 60 عام.
حماة.. الطباعة اليدوية على القماش
تُعتبر الطباعة اليدوية الحموية من الحرف التي عرفتها سوريا قبل الميلاد، وما تزال تمارس لغاية اليوم بالوسائل البدائية ذاتها، وتستخدم فيها عناصر طبيعية بالكامل، كقماش الخام القطني المحلي والألوان الأربعة “الأسود، أحمر، أزرق، أخضر،” المستخلصة من مواد نباتية منها خشب الورد وقشر الجوز والرمان.
أدّت الحرب السورية لتراجع الطلب على هذه البضاعة نتيجة توقف السياحة، الأمر الذي دفع أصحاب ما تبقى من مشاغل الطباعة التقليدية الحموية إلى هجرة حرفتهم “لعدم جدواها الاقتصادية” بحسب ما قالته الكاتبة الصحفية سعاد جروس، التي تهتم بالتعريف بهذه الحرفة من خلال مبادرة فردية أطلقتها لإنعاش المشغل الوحيد المتبقي في حماة.
تقول جروس لصالون سوريا “: للأسف لم يتبقى من أصل عشرات المشاغل التي كانت في سوريا عام 1950 إلا مشغل واحد في حماة هو مشغل “حوا” ولولا شغف صاحبه بحرفته لتوقفت أيضاً، بعد ندرة الطلب عليها منذ بداية الحرب بسبب توقف السياحة”. و يستغرق تحضير ألوان ومواد الطباعة اليدوية اكثر من شهر بطرق تعد أسرار الحرفة، والخشب المحلي الذي تحفر عليه الوحدات الزخرفية المتنوعة باليد، وأغلبها رسوم موغلة بالقدم تشير إلى الحضارات التي تعاقبت على الأرض السورية، فالحرفي الذي ورث المهنة أباً عن جد يطبع تلك الرسوم على القماش وفق تصاميم تعتمد على تكرار الوحدات الزخرفية بأسلوب يميز عمله عن غيره.
وعن مبادرتها تقول جروس “هي محاولة لتوسيع خيارات استخدام الطباعة اليدوية التقليدية التي كانت تستخدم حصراً لتزيين مفارش الطاولات والوسائد، وتمكنت المبادرة بالتعاون مع فنانين تشكيليين وخياطين تقليديين من ابتكار تصاميم ملابس ولوحات وحقائب تنسجم مع روح الطباعة اليدوية بقوالب الخشب، مستلهمة من الأزياء التراثية، وهي تمتلك قيمة مضافة كونها مصنوعة من مواد طبيعية لنكون وليفاً للبيئة والإنسان التي يعبر عنها وصف (ولفي)، أي الوليف اللطيف الذي تغنت بها أغانينا التراثية للتعبير عن الألفة كعلاقة أكثر ديمومة واستقرار من علاقة الحب والعشق”.
سوق أبهة.. “دعم شكلي فقط”
خلال السنوات السابقة عملت الأمانة السورية للتنمية على خطوة للحفاظ على هذه المهن التراثية، عبر تجديد بعض المحلات الخارجية للتكية وتسويق بعض المنتجات تحت مسمى “أبهة” ولكن بأسعار باهظة، توجهنا إلى رئيس لجنة سوق المهن اليدوية بدمشق عرفات أوطه باشي، للحديث عن هذا الموضوع وعما إذا كانت هذه الخطوة مجدية، لكنه رفض التحدث معنا بحجة أنه غير مخول للحديث عن الموضوع لحين الانتهاء من ترميم السوق، ولكن في حديث سابق لأوطه باشي العام الماضي لموقع رصيف 22، وصف تجربة “أبهة” بغير الناجحة، قائلاً: “الأمانة عملت كوسيط لا أكثر، وكانت تأخذ تعب وشغل المهن التراثية، ورأينا ما لديهم: عصير وصابون، هذا عيب. لدينا مهن تراثية هامة وعلينا دعم الحرفي، ومن الآخر أي دعم لغير الحرفي لن يصل إليه”.
وأضاف آنذاك: “وإن كانت الأمانة السورية تهدف للحفاظ على التراث السوري، بإمكانها أن تجمع أصحاب المهن في التكية الكبرى مثلاً، أي ضمن كامل المنطقة التي تحتوي قاعات أخرى غير مكتملة، وبهذه الحالة يصبح السوق جامعاً للتراث المادي وغير المادي. المادي هو مكانية التراث، وغير المادي هي المهن التراثية، من دون أن تضع الأمانة موظفين، لأننا نريد أن يكون الاهتمام للحرفيين، وأن يكون الدعم لهم، أما غير ذلك فهي تجارة باسم الحرف التراثية”.
أوطه باشي عبر عن أسفه خلال حديثه للموقع ذاته عن المبالغ الكبيرة التي صرفتها الأمانة لتنفيذ ديكور جديد للمحلات، وهو مجرد استبدال للقديم الذي كان أفضل، بينما كان بالإمكان أن توجه الأمانة تلك الأموال للحرفيين، ومن يريد أن يقدم دعماً حقيقياً عليه أن يلمس الوجع”.
لم تتوقف عينا أم أحمد عن البكاء مذ لاحت أمامها أول بارقة أمل بلقاء ابنها البكر احمد (34 عام) المسجون منذ أكثر من ست سنوات، المرأة السبعينية كادت تموت باحتشاء عضلة القلب من فرط السعادة عندما قرأ عليها ابنها الأوسط عمار (29 عام) مرسوم العفو الرئاسي عن جرائم الإرهاب، يقول عمار لـ”صالون سوريا”: “والدتي لم تنتظر حتى طلع الصبح، قبل الفجر أيقظتني أنا وأخي الأصغر عبيدة (22 عاماً) لنأخذها إلى منطقة جسر الرئيس في العاصمة دمشق، حيث سرت شائعة قوية فوراً بأنّ المفرج عنهم سيأتى بهم إلى هناك، مرّ اليوم الأول صعباً للغاية، فالانتظار يقهر الأبدان، وخاصة حال أم سبعينية تنتظر رؤية ولد طال غيابه؟، في اليوم الأول عدنا مساء ولم نظفر برؤية أخي، عاودنا الكرة في اليوم الثاني، ولكن دون نتيجة أيضاً”.
أم أحمد كانت تحمل صورة ابنها وتدور بها على الناس تسألهم عنه وإن رآه أحد بلهفة قلبها المفطور. عن اعتقال أخيه يقول عمار: “أخي في السجن بسبب تقارير كيدية لا يعلمها إلّا الله، فقد كان أحمد بحاله، ولكن من يدري، ربما رفاق السوء –إن وجدوا- هم من أضروه، العبرة أنه مسجون منذ سنوات، وكل ما نريده الآن هو رؤيته”.
يوم تلو يوم من الانتظار، مرّت وتمرّ كسنوات على قلب عائلة أم أحمد حتى اللحظة، فحتى حينه لم تلتق العائلة بغائبها، “ربما هي الإجراءات!”، يقول عبيدة الأخ الأصغر معللاً الأمر ومهوناً على قلب أمه، ولكن ما يعزيهم مجتمعين أنّهم يعلمون أنّه سيخرج في نهاية المطاف، وسيصل إليهم، ما لم يكن اليوم فغداً، وعلى ذا الأمل عينه تبني أسر كثيرة آمالها.
لا تريد أم أحمد أن يصور أحد قصتها عبر الكاميرات أو الهواتف المحمولة، تكابر على جرحها، “مثلي كثر، شاهدت بأم عيني الجموع تحت جسر الرئيس، يا رب اجمع هؤلاء الناس بأحبتهم، والله لا يوجد في الكون ما هو أصعب من فراق الأحبة”.
عائلة أم أحمد تهجرت في الحرب من منزلها في غوطة دمشق الشرقية، من دوما أولاً، لتبدأ رحلة النزوح الداخلي، من منطقة لأخرى، قبل أن يعودوا إلى منطقتهم بعيد انتهاء الحرب فيها قبل بضعة سنوات، ويرمموا منزلهم وما استطاعوا من أرواحهم، وليلّموا شظايا ما بعثر الرصاص من كياناتهم، ولتبقى عودة أحمد آخر حجر في لوحة فسيفساء هذه الأسرة السورية الكليمة، والكليمة هنا صفة تنطبق على معظم الأسر السورية، فلكل أسرة قصة مع فقيد او غائب أو قتيل أو جريح، وفوق كل ذاك جراح الفقر والقهر والحاجة.
فرحة اللقاء
بالمقابل بدت حالة أسرة أبو جابر أفضل بكثير قياسا مع غيرها، فالعائلة التقت بابنها في اليوم الثاني من الانتظار تحت جسر الرئيس وسط العاصمة دمشق، “صارت زوجتي تتلمس وجه ابني مثل المجنونة، وتقبل وجهه ويديه وصدره، لم تصدق عيناها وهو الغائب عنا منذ سبعة أعوام ونصف تقريباً”، يروي أبو جابر الرجل الستيني تفاصيل اللقاء الأول، وهو الذي لا يريد الخوض في سبب سجن ابنه، لكنّه يكتفي بالقول: “الله يلعن هذه الحرب، راح فيها زينة شبابنا، واختلط الظلم بالعدل، المهم أنّ جابر سيعود ليملأ البيت علينا، ليس فقط أنا وأمه اشتقنا إليه، بل كذلك أولاده هيا (9 أعوام) ومحمد (13 عام) وزوجته الصابرة المكافحة التي لا يمكن القول عنها إلّا أنّها بنت أصول ولم تترك بيتنا لحظنا، الحمدلله.. الحمدلله”، أما أم جابر فيبدو أنّها حتى الآن لم تصدق أن ابنها قد عاد، فمن فرط السعادة تكاد تكون لا تستطيع تركيب جمل متطابقة.
أهم مرسوم
مصدر قضائي أكد أنّ مرسوم العفو هذا هو الأهم والأشمل ليس خلال الحرب فقط، بل طوال العقود القليلة الماضية، وفي المقابل خرجت آراء عدة تطالب بشفافية التطبيق، خوفاً من تفريغ المرسوم من أهميته.
المحامي أنس الشامي أفاد بتمنيه أن تكون قد أُسقِطت الملاحقات الأمنية وخاصة التي جاءت من وراء تقارير كيدية واتهامات كاذبة، يقول: “لكننا تفاجئنا بالطريقة والأسلوب لتنفيذ مرسوم العفو وين المشكلة يا معالي وزير العدل أن تخرج أنت ومدير إدارة القضاء العسكري في ندوة متلفزة ومعكم وزير الداخلية لتفسير مضمون مرسوم العفو والإعلان عن الأرقام الحقيقية للمخلى سبيلهم”.
وكانت وزارة العدل قد الغت في وقت متأخر بأيام بعد صدور المرسوم بلاغات وإجراءات إذاعة البحث والتوقيف والمراجعة المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب بحق جميع المواطنين في الداخل والخارج ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهــابية أو ارتباطهم مع دول أخرى.
وقالت وزارة العدل في بيان: “تنفيذاً لأحكام المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022 المتضمن عفواً عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30-4-2022 تم إلغاء كل البلاغات والإجراءات (إذاعة بحث- توقيف- مراجعة) المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 وذلك بحق جميع المواطنين السوريين في الداخل والخارج ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهــابية أو ارتباطهم مع دول أخرى”.
ليبقى السؤال الأهم، فهل الغاء المراجعات يشمل تقييد الحركة وحرية السفر التي لم يشملها أي مرسوم او قانون سابق منذ بداية الحرب في سوريا، وحتى اللحظة لا يوجد إجابة على هذا السؤال الذي كبّل الكثير من السوريين.
بيدين مطليتين بطين الصلصال يضع علي، وهو صاحب ورشة فخار في دمشق، العجينة الطرية على دولاب متحرك، لتبدأ بالدوران في حركة دائرية اعتاد القيام بها بمهارة فائقة لمدة خمس وعشرون عاماً.
يتحدث الرجل الأربعيني بحسرة تعلو ملامح وجهه لـ”صالون سوريا” عن مقاومة هذه الحرفة مصير الزوال الذي ينتظرها والتحديات التي يواجهها خلال عمله، فيقول:” ورثت الحرفة أباً عن جّد، فوالدي تعملها من جدي، لكن الظروف الراهنة تحكم على هذه الحرفة بالهلاك، الكهرباء بانقطاع مستمر، ما يضطرني إلى تكبد تكاليف مادة المازوت لتشغيل مولدة الكهرباء من أجل صهر الفخار واكتسابها لونها البرتقالي الصلب، وغالبا ما تكون الأولى مفقودة بالسوق، ما يضطرني لشرائها بسعر مرتفع وبالتالي تخفيض ساعات العمل ورفع الأسعار”.
ولا تنتهي الأعباء المالية هنا فقط، بل بتكلفة التربة ومشقات نقلها وتوافرها بشروط خاصة بحسب وصفه.
أجهزت الحرب على ورشة الفخاري أبو خالد الواقعة في الغوطة الشرقية، إذ تكبد تكاليف فادحة للبدء من الصفر وفتح ورشة جديدة في دمشق، يقول لصالون سوريا:” منذ سبع سنوات دُمرت ورشتي بفعل سقوط القذائف والمعارك الطاحنة وعمليات النهب والسرقة، قضي عليها كلياً”، متابعاً:” هذه الحرفة على مشارف الموت، ما لم يتم إنقاذها، فمعظم الحرفيين تعرضت ورشهم ومعاملهم للخراب دون تعويض، بينما البعض الآخر قد هاجر إلى الخارج، هناك حيث التمويل المادي الجيد والامتيازات المغرية وتقدير الحرف اليدوية ، لم يبق لدي سوى عاملين من أصل عشرة، رحل الجميع”.
يلفت أبو خالد إلى غلاء المواد الأولية للفخار، بدءا من ثمن التراب وأجرة العمال والشحن، فسابقا كان سعر الطن الواحد 100 ألف ليرة سورية، فيما وصل سعره الآن حوالي 700 ألف، أي ارتفع ستة أضعاف.
تأخذ جمعية الحرفيين موقف الحياد من المصاعب التي يواجها أعضاؤها، باستثناء “إطلاق الوعود الرنانة” و”الاستماع لشكاوى صناع الفخار والاكتفاء بهز الرأس دون تقديم حلول ناجعة”.
قبل عامين، ذهب شيوخ الكار، وهم قلّة، إلى مقر الاتحاد العام للحرفيين، وعبروا عن مخاوفهم من انقراض المهنة إذا ما استمرت ظروف الكهرباء، وتعويض خسارتهم التي تسببت بها الحرب، وعدوا بتخصيص قرية تضم ورش لصناعة الفخار في منطقة باب شرقي في دمشق القديمة، “لكن بقيت الوعود شفهية ذهبت أدراج الرياح”.
الفخّار
يحفظ الفخار طاقة الأطعمة والمياه ويسحب الكلس والكلور الموجودين في مياه الينابيع وذلك بفعل التراب المصنوع منه والذي ينقسم إلى نوعين، الأول تراب جبلي ينتشر على أطراف الأنهار والثاني كلسي يتواجد في باطن الأرض، كما أن الطبخ بالفخار أكثر صحي ويخلو من المواد المسرطنة على خلاف الأواني الأخرى المصنوعة من الألمنيوم و النحاس والتيفال.
ورغم أن عملية صنع الفخار تبدو لأعين الزبائن سهلة وبسيطة، إلا أنها صعبة وتتطلب موهبة وجلداً كبيرين من الحرفي، كما تستغرق وقتاً طويلاً لصنعها وظهورها بشكلها النهائي الذي تظهر فيه، فهي تمر بعدة مراحل يشرحها علي:” نحضر أطنان من التراب ثم نسقيه بالمياه بهدف غربلته من الحصى والأوساخ والشوائب، ونستخلص منه مادة الغضار، بعد ذلك نقوم بطحنه وعجنه بطريقة يدوية، إيذاناً لمرحلة التخمر التي تستغرق حوالي أسبوع، ثم نضع كل قطعة على دولاب، بعد ذلك تبدأ مرحلة الطهي، نضعها في الفرن لمدة ثلاث ساعات بدرجة حرارة عالية، وكلما طهيت أكثر كانت أكثر صلابة وتماسكاً حتى تكتسب لون محمر جميل”، متابعا :” تختلف درجة الشواء ومدة الطهي حسب حجم القطعة، فالنوع البسيط كالبسكوت يتطلب درجة حرارة 800 درجة مئوية، بينما تحتاج الآواني الملبسة بالزجاج درجة حرارة أعلى قد تصل إلى 1000 درجة مئوية لمدة لا تتجاوز 9 ساعات في حال وجود الكهرباء، أما إذا انقطعت الأخيرة أو فُقدت مادة المازوت فقد نستغرق أسبوع كامل للطهي، ما يتطلب منا صبر كبير”.
وطور الحرفي صنعة الفخار التي تعلّمها من والده بجهوده الشخصية، كاستبدال الحطب بفرن كهربائي لشّي الفخار إلى جانب التزيين بالرسوم وحفر النقوش الناعمة لإضفاء لمسة جمالية على الفخار، يقول الحرفي “قديما كانت أدوات الفخار تقتصر على بضعة أدوات للمطبخ كالمقلاة وجرة المياه والكؤوس، أما الآن فأصبح كل شيء مصنوع من الفخار كالشلالات وركوات القهوة ومطمورة النقود وجميع أواني المطبخ وطاولات المنزل وإدخال أشكال وزخرفات عصرية”.
لم يشفع التاريخ الطويل والعريق لصناعة الفخار السوري الممتد إلى العصور القديمة منذ الألفية الخامسة من التهديد بالاندثار، فأقدم حرف التاريخ الذي ينسب لها تقاوم، وبدأت بلفظ أنفاسها الأخيرة، طالما بقيت الجهات المعنية مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكن، فمظاهر الإهمال والتقصير والوعود الكاذبة تنهش بهذه الحرفة لتصبح في طي النسيان ولا محاولات جدية لإنقاذها.