أفراح الأيام المعتمة في دمشق

أفراح الأيام المعتمة في دمشق

تتسع مساحة العتمة. يصير للكلمات لون الأسى، لون اسود داكن وموجع. النهارات معتمة كالليل، والليل المتسلح بقمره كئيب وموحش، لم يعد يعني القمر شيئا لأحد، يذكر بالعتمة الجاثمة في البيوت وفي القلوب وفي محركات الآلات الضرورية لاستمرار الحياة اليومية.
يبدو سؤال الفرح ترفا بلا معنى، ويبدو الاحتياج للتوازن مشروطا بالتصديق، أجل إلى أي درجة يمكن تصديق كل هذا التراجع اليومي المستمر والمتصاعد ليكرس الفقدان التام، فقدان أساسيات العيش، وكأن الحياة باتت قاب ومضة كهرباء او أدنى؟

مصالحة كهربائية
اتصال هاتفي من صديقة طال غياب التواصل معها بقرار منها، لكنها اليوم تلح في الاتصال. بعد تبادل التحيات الخجولة والأسئلة الساخطة والموحدة والساخرة، تعلن برجاء حاسم، وكأن لا أحد غيري قادرة على تلبية حاجتها الماسة والمستعصية، تقول: “أخي مسافر إلى الشام بسيارة زميله لنقل حمولة تفاح إلى سوق الهال، سأرسل لك معه أمانة وأرجو ألاّ ترديني خائبة”. قبلت فورا، ابتسمت، وتبدل موقفي وفهمي لاتصالها. لا بد أنها رشوة مصالحة طيبة من مأكولات الضيعة، لإعادة العلاقة شبه المقطوعة إلى مجاريها الدافئة، قرص شنكليش! كمشة سليق أو هندباء برية، وكانت المفاجأة! كومة ثياب بيضاء متسخة، مطلوب مني غسلها وإعادتها مع أخيها ولو مازالت مبتلة.
أذهلتني تلك المدعوة أمانة! والمرسلة كهدية تفوح منها رائحة الرجاء، لكني فرحت بوجبة الغسيل المتسخ التي أزالت ركام المكارهة القصدية، حتى لو خيبت أمالي المعقودة على نكهة ريفية محببة ومفتقدة.
أوقات توفر الكهرباء سمحت لي بتنفيذ المهمة المطلوبة، خاصة أن الأخ الودود أوصل وجبة الغسيل المتسخة قبل موعد الكهرباء بدقائق، كما أن كبريائي احتفل بإعلان الصديقة بأنني قادرة، والأهم أنني راغبة بمساعدتها وتقديم أي خدمات ممكنة رغم قرارها بالجفاء.
وأنا اصارع الوقت وحواسي ومشاعري متنقلة ما بين الساعة والغسالة، تمنيت لو يتأخر الأخ بقدر ما يسعفني الوقت لإنجاز المهمة وربما طي الملابس وتوضيبها رطبة في أكياس كبيرة ونظيفة.

ابنة ذكية
ليالي الشتاء طويلة وباردة، تثقلها العتمة فتصير وحشية، تحار العائلة الصغيرة المكونة من خمسة أفراد في كيفية تمضية أوقاتها المشحونة بالغضب والعجز، تقول جويل: “تعوا نلعب لعبة الأسماء، يوافق الجميع رغم غياب الحماسة، يوافقون من شدة الملل والانكسار، فلنلعب إذن، كي يمر الوقت لا أكثر”.
تصرخ جويل: “حرف ال ب”. تطلب اسم مدينة تبدأ بهذا الحرف، ثم اسم حيوان، وبعده اسم إنسان، ويليه اسم طعام. تضحك العائلة، تشعر جويل بالفخر. لقد حاربت العتمة باللعب، تستمر الألعاب وتتنوع، تتذكر الأم ألعاب الحارة، والنط على الحبل والقفز على الأدراج ولعبة بيت بيوت. تكتشف العائلة أن والدهم كان أمهر أولاد الحارة بلعبة الدحل، يسرد مغامراته ويضحك، يصف مهارة أصابعه بالإصابة المباشرة و شدة التحكم بالدحل ويضحك، والبنات كما أمهن مستمتعات، يعود الأب طفلا، يقول: “بس لو في كهرباء لقمنا بشراء الدحل واللعب به الآن”. يتبدل وقع الليل على أرواحهم وتصير الذاكرة حيوية ومبهجة رغم غرقها بالعتمة.

فقراء يشترون ضحكات
على الفرش الإسفنجية الرقيقة يجلس العمال المياومون، أنهوا لتوهم وجبة يومهم، قدر كبير من حساء العدس المسلوق مع وريقات بصل أخضر اقتطعوها من حوش جارهم، يبلغ الضجر أشده، تهاجمهم طلبات عائلاتهم البعيدة، أرسلوا لنا مالا لنأكل، تطوف الحسرات في الفضاء، لدى الجميع رغبة بالصراخ لكن الصمت أبلغ وأكثر سطوة.
يصرخ جابر: “مين يقاتل؟”. لا أحد يرد! “خلونا نتقاتل”. ويقبض على ذراع أيمن ويلويها، تدب الحمية في الرجال، يتصارعون ويضحكون، يضربون بعضهم بقسوة لكن بمودة، تتوقف الضحكات، تعلو وتيرة الضربات على الأجساد المتعبة، وكأنما يسددون اللكمات للقدر المر، للعتمة الخانقة، ينتبه محسن إلى أن توفيق يضربه بعنف مبالغ به، يصرخ به قائلا: “أنا محسن يا ول، أنا محسن مو الزلمة يلي أكل عليك تعبك اليوم”. تنطفئ جذوة النشاط العنيف، يصرخ بلال: “فلنوقف القتال، سنجوع من جديد ولا طعام لدينا”. يحل الصمت ويطبق على خناق الجميع، يفردون أغطيتهم الرقيقة والمتهالكة، يديرون ظهورهم لبعضهم وكأنهم هاربون من مواجهة غير معلنة ولا أحد يريدها، يتصنعون نوما يجافيهم من شدة البرد والجوع والعجز.

الاحتيال العاجز
يتحايل البشر على الفقدان، يدربون عيونهم على المزيد من العتمة، يشتري سامر مصباحا على البطارية يوضع على الرأس كي يتمكن ابنه من الدراسة، سيتقدم هذا العام للشهادة الثانوية، لا إمكانية للدراسة في غرفة الجلوس حيث تجتمع العائلة حول مصدر الدفء الوحيد والمتبدل حسب توقيت الكهرباء، في غيابها يتم تشغيل مدفأة الغاز أو مدفأة المازوت حسبما يتوفر وللضرورة القصوى، وفي حال ثبات درجات الحرارة ما فوق الخمسة عشرة درجة فلا داعي لأي نوع من التدفئة، يتجول البشر وكأنهم رجال الأسكيمو وقد ارتدوا كامل عتادهم من الألبسة لمواجهة البرد، سترات خاصة وسميكة للبيوت ، تلبس وفاء سترة زوجها لأنها مبطنة بالفرو، دافئة لكنها تعيقها عن الحركة، ويلف رامي وفادي بطنيهما بملاءة صوفية رقيقة، الإبداع مطلوب، ويسخر الإبداع من اسمه هنا، فرط التكيف يعني هروبا من الموت بردا او انفجارا من شدة العتمة والقهر.

ثوب جديد
تتلقى سما دعوة كريمة وجميلة من والدتها، تعوا تحمموا، عنا كم ليتر مازوت لمدفأة الحمام. تلبي الدعوة ولسان حالها عاجز عن الشكر، تأخذ معها كمية من الكشك وكيلو ونصف من البطاطا وبرتقال، تقول لأمها سننام عندك الليلة خوفا من المرض بعد الاستحمام، ترحب الأم بذلك، تطهو سما الكشك كوجبة ليلية يعززونها بشقف من الخبز المحمص، يتضاعف الدفء في تلك الليلة، ينام الأطفال مبتسمين، تقول الأم لابنتها: كلما توفر لي مازوت للحمام جيبي ولادك وتعي تحمموا، تشكرها سما بحرارة، لكنها تردف قائلة: مصروف المواصلات مرهق وتأمينها أصعب، أتمنى أن نقدر على تكرار المجيء! تعتذر سما عن تقصيرها تجاه أمها الوحيدة، وتعتذر الأم عن عجزها عن دعم ابنتها المسؤولة عن عائلة كاملة تستنزف كل طاقتها وقدراتها المادية والجسدية والنفسية ليستمروا بالبقاء.
في ظل كل هذا الغياب لأساسيات الحياة، يغرق الناس في حالة من الاستنزاف لقواهم وقدرتهم على التواصل والتوازن، باتت الحاجات اليومية كابوسا ضاغطا وقاهرا، ومن المؤلم أن الأطفال يعلنون وبصراحة بالغة: نريد أن نرحل إلى بلاد تتوفر فيها الكهرباء! ويتساءلون ببعض الأمل، هل ستضيف منظمة الهجرة واللاجئين بندا إضافيا لقبول طلبات اللجوء وهو انعدام الكهرباء مما يعني انعدام الحياة، فيفوزون بفرصة للعيش على حدود الإنسانية.

*سلوى زكزك دمشق 20 كانون الثاني 2022

صورة محمد تاج الدين بدمشق *

ماذا عن حصة السوري من السمك؟

ماذا عن حصة السوري من السمك؟

اعتاد مصطفى في صغره على تناول وجبة سمك أسبوعياً. كان الباعة يجلبون أنواع مختلفة طازجة إلى ريف إدلب، حيث قضى طفولته إلى أن أصبح شاباً. يقول: “أبي يحب السمك وأنا أيضاً. لم تكن الأسعار تدعو إلى القلق في تلك الفترة”.
يقيم مصطفى في دمشق منذ سنوات، واظب على عادة شراء السمك مرة كل عدة أشهر، لكن مع تضخم الأسعار في السنوات الأخيرة، بالكاد يشتري كيلوغرامين في السنة. يضيف الطالب الجامعي البالغ من العمر أربع وعشرين عاماً لـ”صالون سوريا”: “مرت سنتان دون أن أتذوق طعم السمك، لا أفكر كثيراً بنوع الطعام، المهم أن يكون رخيص الثمن”.
ارتفعت أسعار الأسماك المنتجة محلياً بأنواعها في عام 2021. في أسواق محافظة اللاذقية بلغ سعر كيلو سمك (البوري) نحو 15 ألف ل.س (أربعة دولارات أمريكية)، و(لقز حفش) بين 20 إلى 25 ألف ل.س، و(الفريدي) بين 25 و30 ألف ل.س، و(الأجاج بلدي) 30 ألف ل.س (8.5 دولار)، بينما وصل سعر مبيع بعض الأنواع، مثل: (لقز رملي) إلى 110 آلاف ل.س (31 دولاراً) للكيلو الواحد.
تضاعف سعر سمك (البلميدا) ثلاث مرات تقريباً مرتفعاً من ثلاثة آلاف ل.س إلى عشرة آلاف ل.س للكيلو الواحد، ويعدّ من الأنواع الشعبية الرائجة بين المواطنين/ات، وبخاصة في محافظات الساحل السوري لانخفاض ثمنه بالمقارنة مع الأسماك الأخرى.
وبالنسبة لأسواق دمشق يباع كيلو سمك (أجاج) بـ 34 ألف ل.س، وسمك (لقز) بسعر 27 ألف ل.س (7.7 دولار)؛ أما سمك (سلمون: ترويت) فيباع بسعر 15 ألف ل.س لكل كيلو، وسمك (المشط) بـين 12 و16 ألف ل.س. وسمك (البوري) بـ 15 ألف ل.س. وسمك (زبيدي) بـ 40 ألف ل.س (11 دولاراً أمريكياً). وتختلف الأسعار حسب نوع السمك ومصدره بحرياً أو نهرياً.
ويبلغ نصيب الفرد من الأسماك المنتجة محلياً في سورية أقل من كيلوغرام واحد سنوياً، بحسب تصريحات لمسؤولين في “الهيئة العامة للثروة السمكية”، وهي الأدنى عربياً وعالمياً قياساً بالمعدل العالمي (20 كيلو غراماً)، بينما وصل نصيب الفرد في مصر إلى 19 كيلو غراماً تقريباً، بحسب تصريح رئيس “الهيئة العامة للثروة السمكية” المصرية خالد السيد في نيسان/أبريل 2020، طبقاً لموقع الهيئة الإلكتروني.
وبحسب بيانات “المكتب المركزي للإحصاء” تراجع الإنتاج الكلي للصيد البحري والنهري في سورية من 18 ألف طن في 2007 إلى أقل من خمسة آلاف طن في 2019 (بيانات أولية).
يشتهي حسن (رب أسرة يقيم في منطقة دمر بدمشق) أحياناً شراء أي نوع من السمك، وعلى الرغم من أن سعر بعض الأنواع منخفض، لكنه لا يثق بمصدرها؛ إذ تبدو من ملمسها غير طازجة إطلاقاً، كما أن الأسماك ليست متوفرة بشكل دائم، ولها أماكن بيع محددة في مركز مدينة دمشق، مثل: باب سريجة وشارع الثورة.
يقول حسن: “إن سعر ثلاثة كيلو غرامات من الأنواع اللذيذة التي تصلح للشوي يتجاوز 100 ألف ل.س (28.5 دولار). لا يمكنني في الحقيقة تحمل كلفة وجبة تشبع عائلتي ليوم واحد فقط”.
وشملت تقلبات الأسعار اللحوم الحمراء والبيضاء معاً، حيث وصل سعر كيلو الفروج في أسواق دمشق إلى ثمانية آلاف ل.س (دولاران أمريكيان)، وسعر كيلو لحم الأغنام إلى 30 ألف ل.س (8.5 دولار)، ولحم العجل إلى 24 ألف ل.س (سبعة دولارات)، ما حرم قسماً كبيراً، وبخاصة الفئات الهشة في المجتمع السوري من البروتين الحيواني.
وتعتمد سورية في إنتاج الأسماك على ثلاثة مصادر رئيسة: أولها الصيد البحري، وثانيها الصيد الداخلي في المياه العذبة، والمصدر الثالث هو المزارع السمكية عن طريق الاستزراع السمكي. بحسب كلام مدير عام “الهيئة العامة للثروة السمكية” السابق محمد زين الدين لـصحيفة “الثورة” المحلية في 2012.
ويذكر تقرير “حالة الموارد السمكية وتربية الأحياء المائية في العالم 2020” الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو” أن الإنتاج العالمي للأسماك بلغ حوالي 179 مليون طن في عام 2018، واستعمل 156 مليون طن من المجموع الكلي للاستهلاك البشري، ما يساوي معدل إمداد سنوي بحدود 20.5 كلغ للفرد الواحد.
وتشير “الفاو” في تقريرها “حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم لعام 2018” إلى أن السمك يمثّل نحو 17 في المائة من البروتين الحيواني المستهلك بشرياً، حيث يوفر نحو 20 في المائة من البروتين الحيواني الذي يحتاجه أكثر من ثلاثة مليارات إنسان على وجه الكرة الأرضية، ويمثل السمك مصدراً مغذياً جداً، ويساعد بشكل خاص على مواجهة نقص المغذيات الدقيقة.
وتعاني الثروة السمكية في سورية من جملة تحديات أبرزها: الصيد الجائر واستخدام وسائل الصيد غير المشروعة، مثل: الصعق الكهربائي واستعمال السموم والتفجير بالديناميت. كما يواجه الصيادون ارتفاع تكاليف الإنتاج وغياب الدعم بما يمكنهم من تطوير مراكبهم وأدواتهم؛ إلى جانب جفاف المخازن المائية للمسطحات المائية، وعزوف بعض المربين عن تربية الأسماك لارتفاع التكاليف، بحسب تصريحات إعلامية سابقة لمسؤولين في الثروة السمكية وصيادين.
ومنحت “وزارة النقل” في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 أول ترخيص لإنشاء مزرعة سمكية عائمة على شاطئ جبلة بريف اللاذقية، ويمتد المشروع على مساحة 18 دونماً برية، و15 دونماً بحرية، بطاقة إنتاجية تصل إلى 400 طن سنوياً.

كيف يستحم أهل دمشق؟

كيف يستحم أهل دمشق؟

بالكاد خرجت من فمه عبارة “مسا الخير”، بينما كانت الابتسامة هاربة من وجهه. هكذا كان حال “أحمد” عندما أتى الى لقاء أصدقاء له في مقهى شعبي على أطراف دمشق، رغم أنه معروف بطبعه المرح ونكاته الظريف.
الوجوم الطاغي على وجه الطالب الجامعي، أثار الفضول لدى أصدقائه لمعرفة ما به، وما الذي قلب حاله، إذ بادروا بعد جلوسه على الكرسي مباشرة إلى توجيه الأسئلة إليه لمعرفة ما به ومنها: “شبك يا رجل؟، حدا معكر مزاجك؟، حدا زعجك ؟ رحلك شي؟، حدا من العيلة صرلوا شي؟، بدك شي؟، روّق يا زلمة. انسى، صحتك بالدنيا”.
صمت الشاب وعدم رده على الأسئلة، أثار فضول أصدقائه أكثر لمعرفة ما به، ومع إلحاحهم عليه، رد “أحمد” بالقول، “الحياة صارت كتير زفت. كتير مقرفة. يا جماعة حتى الحمّام (الاستحمام) صار بالزور. صار حلما”، ويضيف: “مي مافي، وإذ جبت مي مافي كهربا ولا مازوت ولا كاز ولا غاز، وشلون الواحد بدو يتحمّم”، ويتابع: “يا جماعة صرّلي تلت (ثلاثة) أسابيع بلا حمّام. ريحتي طلعة وصرت استحي من الناس”.
أحد الجالسين على الطاولة، بادر للتخفيف عنه بالقول، “روّق يا زلمة. كلو متلك. صحتك بالدنيا (…) بدك تنسى الحمّام صار رفاهية ممنوعة علينا. نيالك يلي عم تلحق تشرب مي، نحنا مية الشرب مو لحقانيين، وبمية يا ويلاه عم نعبّي كم قنينة”.

قائمة طويلة
“الاستحمام” الذي يبدو أنه أُضيف إلى قائمة أساسيات كثيرة خرجت من استهلاك وعادات الدمشقيين، ومنها “الإنارة الجيدة، وكأس ماء بارد في لهيب الصيف، والشعور بالدفئ في شتاء برده ينخر العظام، وطبخة محترمة، وملئ بطونهم بالطعام، ومشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني، وكوي بنطال أو قميص، وركوب تكسي ووو”. وتشير تصريحات الحكومة إلى أنها كانت تحسدهم عليها وتمنّ عليهم بها على اعتبار أنها “رفاهيات”، سبب خروجه الرئيسي هو حصول أزمة حادة في توفير المياه للمنازل عبر الشبكة الحكومية، وزياد طين معاناة الأهالي بلة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي في معظم أحياء المدينة لفترة طويلة تصل ما بين 6 – 10 ساعات (حسب تصنيف الحي وطبيعة سكانه)، ووصله لساعة يتخللها عدة فترات انقطاع، تمتد كل واحدة ما بين 5 – 10 دقائق، وذلك في بلد كانت المياه فيه قبل عام 2011 تصل إلى المنازل على مدار اليوم ، وتلبية الطلب على الكهرباء فيه عند مستوى 97 في المائة، لتنخفض حاليا إلى مستويات غير مسبوقة وتصل إلى نحو 15 في المائة، بحسب خبراء.
الحكومة التي دأبت على تحميل العقوبات الغربية مسؤولية أزمات توفر مقومات العيش الأساسية للمواطن الذي صارت حياته كلها أزمات “خبز، بنزين، مازوت، كهرباء، غاز منزلي، مياه، دواء، مواصلات، متابعة الدراسة، ثلج وووو”، أعلنت منذ فترة بعيدة عن برنامج تقنين للمياه في دمشق وريفها، بحيث تضخها إلى المنازل في أحياء العاصمة بشكل يومي لمدة أربع ساعات تختلف فترتها من حي لأخر، على حين يتحدث سكان من ريف دمشق بأن المياه لا تصل إلى منازلهم إلا يوم واحد أو يومين في الأسبوع ولمدة ساعتين أو ثلاثة، وتحل الطامة الكبرى على الأهالي إن كانت الكهرباء التي لا يرونها إلا ساعة واحدة كل يومين أو ثلاثة مقطوعة في فترة ضخ المياه.

شكوى بحرقة
“أم سمير” ربة منزل ولديها بنت وطفلان، تشكو بحرقة من عدم وصول المياه إلى منزلها في الطابق الثالث من البناء الذي تسكن فيه بأحد أحياء دمشق الجنوبية، وتقول بحسرة لـ”صالون سوريا”: “احيانا بتجي الكهربا نص ساعة لما بيكون دورنا بالمي، و(حينها) الجيران بتتسابق على تشغيل الميتورات (مضخات المياه)، لتعبئة الخزانات ونحنا بنشغل الميتور بس ما بتطلع المي لعنا لأنو ضعيفة، ومنروح نترجى هاد الجار وهادك الجار لنعبي من عندون كم بيدون للشرب والطبخ ودورة المياه”.
“المصيبة أنو مع قلة الحمام صارت الأولاد تهرش بحالها، وتحك برأسها وتنق بدها تتحمم” على حد تعبير ربة المنزل التي تضيف، “ما عندي قدرة أعبي كل يوم من الصهاريج (500 ليتر بـ5 آلاف ليرة)، وكل أسبوع أو أسبوعين ببعت واحد على بيت عمو وواحد على خالتو أسمو ساكنين بالأرضي بتجي المي عندون والكهربا أحسن شوي من عنا، وبتحمموا على الماشي، وأنا بدبر راسي كمان عند خواتي”.
الحال عند “فريدة” وهي أم لأربعة أطفال، وتعيش في حي يقع غرب العاصمة، أفضل نوعا ما، ذلك أنها تقطن في الطابق الأرضي وتتمكن “بطلوع الروح” في فترة ضخ المياه من الشبكة الرئيسية إلى المنازل من تعبئة حوالي نصف الخزان، لكنها تشكو لـ”صالون سوريا” من عدم تمكن أفراد العائلة من الاستحمام في يوم واحد وتقول، “مازوت ما عنا لنحمي الحمّام، وبنص ساعة كهربا ما بتلحق المي تسخن ودوبا تفتر فتور، وبحمّم كل يوم واحد بسطل مي، والله وكيلك طول (فترة) الحمّام الولد يصيح من البرد، وبس بدو يخلّص ويروح يلف حالوا بحرام. يعني الواحد شو بدو يعمل بعين الله”.

اربع خناقات
“أم وليد” لم تجد حرجا في الإفصاح لـ”صالون سوريا” عما يحدث في منزلها بسبب قلة المياه وصعوبة الاستحمام، وتقول “كل يوم عم تصير أكتر من 4 خناقات بالبيت والصياح بيصل للسما على دور الحمّام (الاستحمام)، بين الأولاد وبينهم وبين أبوهم، كلون بدون يتحمّموا بنفس اليوم، وأنا بقول للكل: هيك ما بيمشي الحال لا في مي تكفي ولا في كهربا ولا مازوت ولا غاز نسخن المي”، وتضيف “واحد بتحجج أنو بدو يروح على الجامعة، ووحده بقول بدها تروح لعند رفقاتها البنات، والزلمة بقول خلو شوية مي مشان الوضوء، وبالزور لحتى يهدى الوضع، ويتحمّم صاحب النصيب”.
الوضع السابق لا ينسحب على كافة السوريين، الذين تؤكد منظمات دولية وأبحاث ودراسات أن 94 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، فالنسبة المتبقية تتكون من الأغنياء القدامى و”أمراء الحرب” و”أثرياء الحرب” و”حديثي النعمة” و”المسؤولين الفاسدين”، وهؤلاء من البديهي أنهم يمتلكون مولدات كهربائية ضخمة وبعضها وضع أمام الأبنية في الشوارع لأنه لا مجال لوضعها داخل المنزل بسبب ضخامتها، وهم يمتلكون النفوذ الكافي للحصول على الوقود اللازم لتشغيلها، وبالتالي الحصول على كميات الماء التي يريدونها في ساعات الضخ وتسخين المياه من خلالها والاستحمام ببرميل وليس بسطل ماء، هذا إن لم يذهبوا إلى حمامات السوق التي تصل فيها أجرة الاستحمام للشخص الواحد ما بين 10 – 15 ألف ليرة.

* الصورة من “فرانس برس” في 16 ديسمبر

مناطق السيطرة العسكرية في سوريا

مناطق السيطرة العسكرية في سوريا

تنقسم سوريا، البالغة مساحتها 185 كلم مربع، الى ثلاث “مناطق نفوذ”

واحدة تشمل ثلثي الاراضي، تحت سيطرة الحكومة بدعم روسي وايراني

الثانية، تشكل حوالى ربع المساحة، وتحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية -العربية بدعم من التحالف الدولي بقيادة اميركا

الثالثة، تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، وتضم حوالى 10 في المئة من مساحة سوريا، اي ضعفي مساحة لبنان

الحياة اليومية في دمشق… دون كهرباء

الحياة اليومية في دمشق… دون كهرباء

أصبحت الكهرباء الشغل الشاغل للناس. تتحكم في أبسط تفاصيل حياتهم، أعمالهم، زياراتهم ومواعيد نومهم واستيقاظهم. يعيشون يومهم وفق مزاجها الذي يتفنَّن في قهرهم وتعذيبهم وهدر وقتهم وطاقاتهم.
أزمة الكهرباء الحاضرة بقوة طيلة السنوات الماضية، تفاقمت في الآونة الأخيرة بشكلٍ كبيرٍ فكانت الأسوء على الإطلاق منذ بداية الحرب، إذ أصبح متوسط ساعات التغذية الكهربائية ساعة أو ساعة ونصف في أحسن الأحوال مقابل خمس ساعات قطع قد تزيد في بعض الأحيان.

مهن شُلَّت
ورشات الخياطة والنجارة والحدادة، المعامل والحرف والورش الصناعية وغيرها الكثير والكثير من المهن والأعمال كانت ضحية الإنقطاع الطويل للكهرباء الذي أدى لشلل بعضها وتوقف بعضها الآخر عن العمل بشكل نهائي، وهو ما أثَّر سلباً على أصحابها وعلى العاملين فيها حيث تراجع إنتاجهم بشكلٍ كبيرٍ أو فقدوا مصدر رزقهم الوحيد.
النجار أبو طارق (54 عاما)، اضطرته أزمة الكهرباء للاستغناء عن ثلاثةٍ من عمال ورشة النجارة الخاصة به، ويحدثنا عن معاناته اليومية في العمل فيها: “طوال فترة العمل نحظى بساعة كهرباء في أحسن الأحوال، وهي لا تكفي للقيام بأي عمل يذكر، لذا تراجع عملنا بنسبة 70 % وبتنا نعتذر عن تلبية الكثير من الطلبات”. ويضيف : “نستعين أحيانا بمولدة كهرباء صناعية، لكنها لا تخدمنا بما يكفي وتحتاج للمازت الذي بات من الصعب تأمينه، وإن وجد في السوق السوداء فسيكلفنا الليتر منه نحو أربعة أو خمسة آلاف ليرة وهو ما يُحملنا نفقاتٍ إضافيةٍ تجعل عملنا غير مُجدٍ”.
الواقع ذاته أجبر الخياط أبو ربيع (47 عاما) على إغلاق ورشة الخياطة التي ورثها عن أبيه بعد انعدام الإنتاج وتفاقم حجم الخسائر، فقام ببيع ماكينات الخياطة وجميع محتويات الورشة التي كانت تؤمن عملاً لنحو سبعة عمال، ليتخلى بذلك عن تلك المهنة بشكل نهائي، ويفتتح دكاناً صغيراً يُجَنبه عناء الانتظار والتعب واللاجدوى.
الشاب سامر (39 عاما) صاحب مصبغة لغسل وكوي الثياب، بدوره حذا حذو أبو ربيع فأغلق المصبغة، التي أصبح العمل بها لا يعود عليه سوى بالتعب والخسائر واستياء الناس من أداء عمله وعجزه عن تلبية طلباتهم، ثم باع بعض محتوياتها ليسافر بثمنها إلى أربيل، علَّه يجد عملاً مجدياً يمكنه من عيش حياةٍ كريمة.

أزمة مياه خانقة
الإنقطاع الطويل للكهرباء أثَّر سلباً على عمل المضخات المركزية التي تضخ المياه من المصادر الرئيسية إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات وهو ما خلق أزمة كبيرة في وصول المياه إلى البيوت التي بدورها شُلّ عمل المضخات الخاصة بها، ما أجبر الكثير من الناس على نقل عشرات الغالونات من أماكن مختلفة إلى بيوتهم أو على شراء المياه من سيارات الباعة الجوالين لتعبئة خزاناتهم الفارغة، خاصة في المناطق المحيطة بالعاصمة وذات الكثافة السكانية الكبيرة كمدينة جرمانا، حيث تنتشر سيارات بيع الماء التي تمتد خراطيمها إلى خزانات الطوابق العليا وعليك أن تنتظر لساعات طويلة ليلبي الباعة حاجتك نتيجة الضغط الكبير عليهم، والذي أدى لارتفاع سعر برميل الماء بشكل كبير، وصل إلى نحو خمسة آلاف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس الذين بالكاد يتدبرون لقمة عيشهم.
ويحدثنا أبو ريان (58 عاما) أحد سكان مدينة جرمانا عن معانته مع تلك الأزمة، قائلا: ” لنحو عشرين يوماً لم تصل المياه الرئيسية إلى بيتي إلا فيما ندر، ورغم التقنين الكبير في استهلاك الماء نحتاج أسبوعياً لنحو خمسة براميل، وهي سعة خزاننا المنزلي، الذي اضطررنا خلال الأسبوعين الماضيين لتعبئته مرتين عبر شراء الماء من إحدى السيارات بتكلفة 50 ألف ليرة، وإذا ما استمر الحال على ذلك النحو فسنحتاج 100 ألف ليرة شهرياً لشراء الماء، أي ما يعادل نصف دخلي الشهري الذي أدفعه بالكامل إيجاراً للمنزل الذي أسكنه وعائلتي”.

الاستحمام والغسيل
“لكي نستحم علينا أن ننتظر ساعات طويلة وربما أياماً. لم يعد الأمر متاحاً في أي وقت، إذ بات أفراد عائلتنا يتناوبون على الاستحمام على مدار أيام الأسبوع، فساعة واحدة من الكهرباء لا تكفي لتسخين الماء في سخان الحمام، لذا نلجأ أحياناً لتسخين الماء بواسطة وعاء كبير نضعه على النار ونقنن في استهلاكه قدر الإمكان، وكثيراً ما نضطر أنا وبعض أبنائي الخمسة للذهاب إلى بيت أختي لكي نستحم هناك”. هكذا تصف أم فادي (61 عام) معاناتها التي تشبه معاناة معظم الناس الذين باتت الكهرباء تتحكم في أوقات استحمامهم بل وتحرمهم أيضاً من غسل ثيابهم، بعد أن أصبحت الغسالات شبه عاطلة عن العمل، وهو ما أجبر الكثير منهم على العودة إلى الطرق البدائية كحال أم فادي: “منذ شهرين وحتى الآن أغسل الثياب بشكل يدوي، أتذكر جدتي وألعن التطور والتكنولوجيا، فالغسالة الأوتوماتيكية تحتاج لأكثر من ساعة لتنهي غسل وجبة الثياب التي قد تبقى في داخلها لساعات طويلة وأحياناً لأكثر من يوم وهي مغمورة بالماء ومسحوق الغسيل ما قد يؤدي إلى تلفها السريع مع مرور الوقت”.
وإلى جانب ذلك تخلى معظم الناس عن كوي الثياب واستخدام المكنسة الكهربائية والخلاط وغير ذلك من الأدوات، فيما نسوا مشاهدة التلفاز الذي أصبح مجرد ديكور منزلي لا نفع له.

طبق شوربة عدس
نتيجة صعوبة توفير الغاز المنزلي يضطر كثير من الناس، لكي يطهو طعامهم، إلى استخدام الطباخ الكهربائي، ولكن الأخير بات يخذلهم في الآونة الأخيرة، لذا استغنوا عن تحضير كثيرٍ من الأطعمة التي يحتاج طهوها لوقتٍ طويل.
وتروي لنا ربة المنزل أم سعيد (47 عاما) معاناتها في تحضير طبق شوربة العدس: “وضعتُ طنجرة العدس على الطباخ الكهربائي عند الساعة الواحدة ظهراً، وهو موعد التغذية الكهربائية التي يُفترض أن تستمر لساعة ونصف، وقبل أن يسخن ماء الشوربة انقطعت الكهرباء بعد عشر دقائق من مجيئها، ثم مر الموعد دون أن تعود، فكان عليَّ انتظار موعد التغذية المسائية عند الساعة السابعة لأكمل تحضير الشوربة، لكن الكهرباء خذلتني مرة أخرى إذ لم تأتِ سوى عشرين دقيقة”. وتضيف: “بقي العدس في الطنجرة حتى الساعة الواحدة في انتظار موعد التغذية الليلية. وبعد ثلاثة عشرة ساعة من الانتظار المؤلم والتوتر نضجت الشوربة أخيراً عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل قبل أن يتكمن أطفالي الصغار، الذين ينامون باكراً، من تذوقها”.
المؤونة تغيب عن الثلاجات
حبوب البازيلاء والفول والحمص والذرة، اللحوم المتنوعة، ورق العنب، الكبب والبُرك، مشتقات الألبان، وغير ذلك من المؤونة التي تعتبر ثقافة سورية متوارثة تميز بها المطبخ السوري، والتي اعتاد الناس على تخزينها في ثلاجات بيوتهم لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم تحضير الأطعمة المتنوعة في أي وقت. تلك المؤونة لم تنجُ بدورها من لعنة الإنقطاع الطويل للكهرباء الذي أدى إلى تلف الكثير منها ليُجبر الناس على رميها في القمامة، بعد أن تعبوا في تحضيرها وأنفقوا الكثير من المال لشراءها. وتحت وطأة تلك الأزمة استغنى معظمهم عن الاعتماد على الثلاجة التي أصبحت شبه خاوية وتحولت لما يشبه الخزانة بعد عجزها عن التبريد، فباتوا يكتفون بشراء كميات قليلة من الأطعمة ليُحرموا بذلك من إحدى العادات التي لطالما كانت تُغني مطابخهم.

معاناة أخرى
يضطر كثير من طلبة الجامعات والمعاهد للذهاب إلى المكتبات والمقاهي، التي يتوفر فيها مولدة كهرباء، ليتمكنوا من الدراسة ومتابعة مشاريعهم التي تحتاج لاستخدام الكومبيوتر والدخول إلى مواقع الإنترنت، وهو ما حمَّلهم أعباءً جسدية ومادية إضافية تفوق طاقتهم. وفي الليل يُجبر بعضهم على الدراسة على ضوء الشموع أو الهواتف المحمولة في كثير من الأحيان، حالهم كحال معظم طلاب المدارس، فوسائل الإنارة البديلة التي تعمل بالشحن، لم تعد تفي بغرضها حيث ينفذ شحن البطاريات في أي لحظة.
وإلى جانب ذلك تحولت أغلب الشوارع إلى مكان للاختناق والتلوث السمعي حيث تكتظ الأرصفة بالمولدات الكهربائية التي يُشغِّلها بعض أصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية وغيرها، والتي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوس المارة ويطغى ضجيجها على أحاديثهم وتخنقهم بدخانها الذي يلوِّث الهواء بكثافته. وفي الليل تغرق معظم الشوارع وخاصة الفرعية، في ظلمة دامسة، تجعلها موحشة ومخيفة في بعض الأحيان، وتجبرك على الإستعانة بضوء هاتفك المحمول أو بضوء القداحة كي لا تتعثر أو تصطدم بشيٍ ما في طريقك.
سنوات مرّت ومازالت أزمة الكهرباء الهاجس الأول لدى الناس الذين يعانون ويتذمرون وينفعلون وهم ينتظرون فرجاً كهربائياً ما، حتى بات أحد أحلامهم أن ينعموا بقسطٍ وفيرٍ من كهرباء مستقرة لا تخذلهم في كل وقت.