


بائعات الخبز في دمشق
لا يمكن الادعاء أنّ البحث عن الفتيات، صغيرات أو كبيرات، بائعات الخبز بالأمر الصعب والمعقد. الأمر لا يتطلب إلّا جولة في السيارة على أفران العاصمة السورية دمشق، أو ببساطة يمكن تحديد خط سير الباحث عن الفتيات وقصصهنّ بالمرور على فرن باب توما، ثم “أفران ابن العميد” في برزة، فـ “فرن الشيخ السعد”، وثم إلى “الأفران الاحتياطية” في نهاية أوتوستراد المزة. وهذه الأفران ليست إلّا عينة يتطابق معها حال عشرات الأفران في العاصمة وريفها.
في النهار أو الليل، المشهد هو ذاته. لا تتغير مواعيد تواجد الباعة الغلابة، إلا بحسب الوقت الذي سيخبز فيه الفرن الخبز، وبمطلق الأحوال هذا لا يعني أنّ هذه المهنة المستجدة هي حكر على الأطفال والنساء. فالرجال، وهم كثر، ينتشرون مع النساء والأطفال على الأرصفة، في الشوارع، ونواصي الطرق، وجميعهم لا يخبئون أنفسهم، فعملهم يقتضي وقوفهم في أمكنة مكشوفة، لعرض بضاعتهم، وبضاعتهم تلك، قوت السوريين وموضع رفاهيتهم الذي لم يحرموا منه، حتى الآن، على الأقل.
مريم الخائفة
تقف مريم، وهو اسم مستعار لفتاة ستصل عامها الثامن عشر في منتصف العام الجاري بحسب ما قالته لـ “صالون سوريا” إثر محادثة قصيرة نسبية، قضتها الفتاة تتلفت حولها خائفةً. نسألها عن السبب، وتجيب باختصار يحمل ما يحمله من الخوف: “ولاد الحرام كتار!”. يبدو الجواب معقداً على بساطته، ترفض أن تشرح، تقول فقط إنّها غير مرتاحة ولا سعيدة، “ألف نعمة البيع بالنهار، بالليل بتشوف العجب، بتشوف ناس ع حقيقتن”، تستخدم مريم ذات الأجوبة المختصرة، وترفض بعد كل جواب أن توضح ما قصدته، تباغتنا بسؤال: “بدك تشتري ولا تتسلى؟”.
شرحت لها أسباب أسئلته، لم تعر أي انتباه للحديث، تبدو كمن لم يفهم الغاية من أساسها، “شوف لقلك، من كم يوم، إجا شب بالليل بسيارتو، ضل ياخد ويعطي معي ربع ساعة وما اشترى مني، بتعرف شو بدو، قلي: تروحي معي تعمليلي عشا بالبيت وبعطيك 10 آلاف، أي أنا فقيرة، وعم اشتغل غصب عني، بس أنا ماني بنت وسخة، مو يعني إذا عم بيع خبز بالشوارع إني بنت مو منيحة، لأ، أنا كلني شرف وبوزعو ع كل الدنيا، هاد واحد من كتار بيجو ليتسلوا ويقلولي روحي معنا، أي شفت قدام عيني بنات طلعوا بسيارات، شفت بنت عمرا ما وصل 15 سنة عم تبيع بالشيخ سعد طلعت مع سيارة وقفت حدها لتشتري خبز، الله أعلم وين راحت معو وشو صار بعدها، أنا أصلا ما بعرفها لأسأل عنها، وما كان فيي امنعها، أنا شو دخلني؟، أنا بدي مين يحميني”، تختم مريم حديثها: “مرة تانية بسألك بدك تشتري ولا تتركني أعرف بيع؟”.
لا يمكن تصوير ما يحصل من انتشار هؤلاء الباعة إلا بالسر، هذا بديهي، هم مضطرون وغير راضين عما يفعلونه، ولكنّها الحاجة، هذا ما أجمع عليه كثر من الباعة الذين حادثهم “صالون سوريا”، لذا كان لا بد في مكان من اللجوء للطريقة التقليدية في تصوير الأفلام التوثيقية الشائكة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيات المهنية التي تحتم تغطية أوجه الأشخاص الظاهرين، فالمهم هو توثيق الحالة، لا فضح احتياجات الناس، وهذا متفق عليه في الحد الأدنى من العمل في التحقيقات الصحفية، وعلى خلاف هذا العرف يمضي البعض غير آبهٍ بعرض الوجوه، مستغلاً حاجة هؤلاء الغلابة الذين لا يملكون تلفازاً ولا يتابعون باهتمام مواقع وصفحات الأخبار على شاشة هاتفهم الصغير، هذا إن امتلكوه أصلا، وفي الإطار وبرغم أنّه من البديهي ف”صالون سوريا” متمسكٌ باحترام خصوصية هؤلاء الناس.

سوريا المظلمة
في تمام الثانية ليلاً كانت تقف علا ذات الثلاثة عشر عاماً في “حي الشيخ سعد” الدمشقي قرب فرن الحي. تحمل بيديها أربع ربطات خبز، تعرضهنّ للبيع دفعةً واحدة، صمت مطبق في الشارع، صمتٌ يخرقه أحياناً مرور سيارات عابرة في تلك الساعة المتأخرة من ليل العاصمة التي باتت تغفو باكراً على أوجاع سكانها الذين صاروا في عام الحرب هذا ينامون جياعاً، الأمر لا يندرج في إطار المبالغة الكلامية، فأولئك الذي يلتحفون السماء ويفترشون الأرصفة، صاروا كثراً، أيضاً لحظهم لن يتطلب الكثير من البحث، الشوارع فيها ما فيها من فقر وبرد ومرض وتعب، أهل يصدق عاقل أنّ هذي البلاد ستصل يوماً تمتلئ مجامع القمامة فيها بأشخاص باحثين عن لقمة عيش؟، وبالنباشين أيضا؟ً، أولئك الذين يتسيدون جانباً خاصاً من سوريا المظلمة.
أما عن علا ذات الربطات الأربع، فلا تبدو عليها ملامح “التعتير”، تبدو الفتاة أنّها بمكان ما تنحدر من طبقة عادية الفقر، وهذا أمر آخر، فالفقر صار درجات، منه المدقع ومنه الذي لا زال يناضل أناسه لئلا يطحنهم.
صغيرةٌ علا على هذه المهمة الشاقة، هذا أول ما يتبادر للذهن، تقول ل “صالون سوريا”: “أنا عم اشتغل ببيع الخبز لأسند عيلتي، صرلي أكتر من سنة بهالشغلة، أبي عاجز، وأمي بتشتغل بشطف الدراج، وأمورنا الحمد لله أحسن من غيرنا”.
ليكسب “صالون سوريا” أطول وقت من الحوار معها، اشترى منها الخبز، رفضت أن تبيع ربطة واحدة، تصرّ أنّ البيع كل ربطتين معاً وفي كيس واحد، وبفضول البحث عن القصة خلف كل هذا، تبين أنّ الكيس فيه اثني عشر رغيفاً فقط، فيما يفترض أن يكون فيه أربعة عشر رغيفاً، وحين سؤالها، ضحكت: “كيف بدها توفي لكن إذا بدي بيعك نظامي؟”، علماً أنّ الصغيرة تقاضت مبلغ ألفي ليرة مقابل الربطتين الناقصتين، أي بربح إجمالي يساوي ألفاً وخمسمئة ليرة سورية، لذا تبدو هذه التجارة مربحة، وهذا يدلل على استمرار هؤلاء الباعة بعملهم.

التحرش المرّكب
اتفق “صالون سوريا” مع أحد الأشخاص الثقة أن يأخذ دور الشخص الذي سيعرض مشواراً على إحدى هاته الفتيات، بعد أن اجتمعت العديد من الخيوط والمؤشرات حول أنّ هذا الأمر ذاته، صار مثار سمسرة وخبرة لفتيات عدة، وفعلاً نجحت القصة من أول محاولة، توقف الشخص الذي سنسميه سامر بسيارته قرب فتاة لا تبدو عليها علامات البلوغ، تبين لاحقاً أنّ عمرها خمسة عشر عاماً.
إذن، توقف السائق قربها، حادثها من نافذة السيارة: “مرحبا، قديه عم تبيعي الخبز؟”، بهذه الطريقة بدأ الحوار ثم طال وامتد لقرابة خمس دقائق، واختصاراً للقصة، طلبت الفتاة فوق ثمن الخبز خمسة آلاف ليرة سورية لتذهب معه مشواراً في السيارة فقط، أعطاها سامر المبلغ المطلوب، لتقول له: “انطرني دقيقة وبرجع بس لخبر رفيقتي”، ورحلت الصغيرة بعكس اتجاه السيارة، ولم تعد، كان هذا متوقعاً، ف “صالون سوريا”، استمع للعديد من الروايات التي تتطابق مع ما حصل، أنّ فتيات كثر صاروا يطلبون مبالغ مقابل الذهاب مع سائق السيارة، بعد تقاضيهم المال سلفاً، منهنّ من تهرب، وأخريات يصعدن فعلاً، وغيرهنّ يزجرن المفاوض وقد يصرخن عليه.
ليسوا شحاذين
على المقلب الآخر ثمة من يبيع الخبز بثمن أكثر رحمة، وبمصداقية ونزاهة أعلى، فتيات دون السن القانوني، وأطفال صغار دون العاشرة، يمكن لحظهمّ أكثرّ من الفتيات، الطفل علي ذو الثمانية أعوام يبيع كل ربطتين ب1400 ليرة، وحين يحاول أحد الزبائن أن يترك له مبلغاً إضافياً يرفض بشدة، لوهلة يبدو هذا الطفل رجلاً كبيراً، ومثله حالات كثيرة، يكتفون بالبيع لجني لقمة عيشهم لا أكثر ولا أقل، بيد أنّ ما بين الحالتين ما بينهما، هي ظاهرة غامضة ومكشوفة في آن، بين لقمة شريفة وبين تجارة رابحة، تنقسم نفوس وأخلاق هؤلاء الباعة، إلّا أنّه بالمحصلة ثمة شيء أكبر بكثير من كل هذا، الأكبر هو الضحية، والضحية سوري، اعتاد يوماً أن يعيش عزيزا، أما اليوم فالسبل قد ضاقت، يكفي أن نقول أنّ صناعياً من حلب وتاجراً من حمص افتتحوا بسطات على الأرصفة بعد أن كانوا أصحاب معامل قبل عام 2011.
.

رغيف الخبز يحرك السويداء
اتسعت الاحتجاجات في محافظة السويداء على قرار دمشق رفع الدعم عن مواد تموينية ومحروقات، وتم قطع طرق بينها خط دمشق – السويداء في جنوب سوريا.
وشهدت عدة قرى وبلدات من المحافظة خروج الأهالي بوقفات احتجاجية، شملت قرى وبلدات في الريف الشمالي والجنوبي من المحافظة، كما تجمع محتجون في ساحة السير في مركز مدينة السويداء، وسط نداءات وشعارات مناهضة لدمشق، مع انتشار أمني عند المراكز الحكومية وتحركات لقوات حفظ النظام في المنطقة، باعتبارها مركز المحافظة وتضم العديد من المراكز الحكومية الخدمية والأفرع الأمنية وقريبة من بناء المحافظة وقيادة الشرطة. كما قطع محتجون عدداً من الطرق والساحات الرئيسية وسط مدينة السويداء على خلفية قرار دمشق الأخير برفع الدعم عن آلاف العائلات السورية.
وأكد مدير تحرير «شبكة السويداء 24» ريان معروف لـ«الشرق الأوسط» أن أعداداً كبيرة من الأهالي في السويداء خرجوا صباح يوم الأحد بوقفة احتجاجية تطالب بـ “العيش الكريم، وقطع المحتجون عدداً من الطرق الرئيسية والفرعية، وفق نظام التحكيم المروري منها أوتوستراد دمشق – السويداء، وطريق نمرة – شهبا، وطريق شقا، ومجادل، والطريق الواصل من بلدة القريّا إلى مدينة السويداء. كما تجمع محتجون أمام مقام عين الزمان، وسط مدينة السويداء، ورفعوا لافتات وشعارات منها «من أهدر المال العام هم الفاسدون ليس المواطنين»… «لا شرقية ولا غربية بدنا سوريا من دون تبعية»… «كرامة مساواة عدالة»، وسط محاولات من بعض الوجهاء ورجال الدين في الطائفة للتفاوض مع المحتجين وفتح الطريق أمام حركة المارة.

وأضاف معروف أن الحركة الاحتجاجية في السويداء «انتقلت إلى ساحة السرايا الحكومي وارتفع سقف الشعارات ليشمل رموز السلطة، وقد حافظت على سلميتها وطابعها الأهلي». وبدأت مطالب المحتجين بالمعاناة من القرارات الجائرة الأخيرة التي فجرت غضب الشارع، مشيراً إلى أن «دعم المواطن بالمواد الغذائية والمحروقات من الأساسيات وليست إنجازات، وتعكس التحركات الاحتجاجية التي شهدتها السويداء حالة الاستياء الشعبي والغضب العارم من القرارات الحكومية المتتالية، وآخرها رفع الدعم عن فئات محددة. ولم تأخذ الاحتجاجات طابع التنظيم، بل كانت في معظمها ردود فعل عشوائية من الأهالي الفقراء للتعبير عن رفضهم لقرار رفع الدعم، وخصوصاً عن مادة الخبز واستمرار تدهور الأحوال الاقتصادية والأمنية في البلاد، وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، والغلاء الفاحش الذي تشهده الأسواق بكافة مجالات الحياة».
وقالت «حركة رجال الكرامة» المعارضة، ان «إصرار صناع القرار في سوريا على سن قرارات منفصلة عن الواقع تهدف لتهجير الشعب السوري أو إماتته جوعاً، وأن صناع القرار مارسوا خرقاً واضحاً لمواد الدستور وأبسط مبادئ العقل وقوانين العدالة بعد القرارات الأخيرة التي تمس أساسيات المعيشة اليومية لمعظم فئات الشعب السوري المنهك». وأضاف: «إن لمثل هذه القرارات آثاراً سلبية خطيرة تثير الريبة من خلال دأب الحكومات المتعاقبة على إصدارها منذ اندلاع الحرب في سوريا بحجة رفد الخزينة العامة للدولة بأموال أبناء الشعب من خلال رفع قيمة الضرائب والرسوم الجمركية الخيالية ورفع أسعار المحروقات بشكل متتالي وجنوني مع تردٍ كبير في كافة القطاعات الخدمية وتغاضٍ مقصود وتستر واضح على الفساد المستشري والمتعاظم في كافة مؤسسات الدولة. وأن حالة الاحتقان التي تمر بها البلاد تُنذر بتفجّر الأوضاع كنتيجة حتمية للسياسات التي تعمل ضد مصالح الشعب السوري».
بحسب ناشطين من السويداء، لم تتدخل قوة أمنية حتى الآن في الاحتجاجات الأخيرة، وتراقب الوضع عن كثب فقط، وتدخل ضابط من النظام السوري والتقى محتجين عند وصولهم قرب قيادة الشرطة في السويداء، وسأل المحتجين عن مطالبهم، ونادى المحتجون خلال وجود الضابط أن الاحتجاجات ليست ضدهم وأنهم لا يريدون الصدام العسكري مع النظام، وأن مطالب المحتجين معيشية.

وتلقت بعض الزعامات والشخصيات الدينية اتصالات من الحكومة في دمشق والسويداء، ووعود بترتيب وتحسين الأوضاع في السويداء، وعُقد خلال الأيام الماضية منذ بدء الاحتجاجات يوم الخميس الماضي اجتماع في بناء محافظة السويداء، قال خلاله المحافظ إن مطالب السويداء قد وصلت لدمشق، وتعهد “ألا يشمل قرار رفع الدعم مادة الخبز”. وأكد على دعم مواقف أهلي السويداء ورفعها لدمشق المسؤولة عن القرارات، موضحاً أن الاحتجاجات تؤكد للحكومة واللجنة الاقتصادية المعنية أن القرار ليس في مكانه وسيؤدي لاضطرابات في الشارع.
وتوعد المحتجون في السويداء استمرار تحركهم خلال الأيام القادمة حتى تراجع الحكومة عن قرارها الأخير. واعتبر ناشطون من السويداء أن الحكومة السورية قد تنجح باحتواء الموقف في السويداء، من خلال إعادة الدعم مؤقتاً لمادة الخبز، ولكن الشارع يدرك أن الحكومة لم يعد لديها إمكانيات لتقديمه للسكان، وكلها حلول مؤقتة.
وكانت قد شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا يوم الخميس الماضي 3 فبراير (شباط) 2022 احتجاجات بعد قرار الحكومة الأخيرة، استبعدت فيه العديد من الفئات في المجتمع من الدعم الحكومي، للمواد التموينية والمحروقات، وبعد تدخل وجهاء وشخصيات دينية وسياسية في المحافظة انفضت هذه الاحتجاجات، معلنين استئنافها يوم الأحد، إن لم تتراجع الحكومة عن قراراتها الأخيرة. رغم أن الحكومة بررت قرارها بأنه بهدف وصولها إلى الشرائح الأكثر حاجة في المجتمع وتوفيرها بشكل أكثر للمستحقين الفعليين.
وأغلق حينها محتجون في بلدة القريّا والغرية بريف السويداء الغربي منافذ بيع الخبز في الأفران. كما صادروا في بعض القرى من الأفران أجهزة حساب المستحقات بحسب نظام البطاقة الذكية، وطالبوا من القائمين على الأفران بتوزيع الخبز بالسعر والطريقة القديمة. كما أقدم مجهولون على اللقاء قنابل يدوية على مراكز خدمة المواطن المسؤولة عن إصدار بطاقات الدعم الحكومي «البطاقة الذكية» للمواطنين، في بلدية شقا، وعلى مركز خدمة المواطن في مدينة شهبا، وعلى الفرن الآلي في مدينة السويداء، واقتصرت الأضرار على الماديات
نقلا عن “الشرق الأوسط”

أزمة رغيف على تخوم حقول الجزيرة
أعلنت الرئاسة التنفيذية للإدارة الذاتية بشمال شرقي سوريا تشكيل خلية أزمة بهدف وضع خطة لحل الأزمات التي تعصف بالمنطقة وعلى رأسها تأمين رغيف الخبز، وعقدت الشهر الماضي سلسلة اجتماعات مع هيئات ورؤساء التموين والمطاحن وشركات التطوير الزراعي؛ وأعلنت عن خطة لشراء 100 ألف طن من القمح من خارج مناطق نفوذها في سابقة هي الأولى منذ سنوات، في وقت عادت أزمة السكر لتطل برأسها من جديد وسط تذبذب توفر المادة واسعارها في أسواق مناطق الإدارة شمال شرقي سوريا.
وهذه الأزمات دفعت رواد مواقع التواصل الاجتماعي للتفاعل معها بعد قرار هيئة الاقتصاد بإنتاج الخبز ممزوجاً بـ 20% من دقيق الذرة أزمة حادة، ونشروا صوراً تظهر رداءة رغيف الخبز الجديد والتي أشعلت منصات “سوشيال ميديا”، التي تشير الى أن الكميات أكبر من تلك المعلنة؛ تزامنت مع مرور المنطقة بسنة ثانية من الجفاف عصفت بعاصمة سوريا الغذائية، ورفعت أسعار رغيف الخبز الواحد إلى 3 أضعاف وشهدت المخابز العامة والخاصة والحجرية وقوف طوابير طويلة للحصول على قوتهم اليومي.

يقول نقل عبد حامد المهباش رئيس المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية، إن “الادارة”، شكلت خلية أزمة لمعالجة القضايا الخدمية والمعيشية في المنطقة. وقال لـ “صالون سوريا”، أن قرار تشكيل اللجنة الفنية “يهدف لمراقبة عمل الأفران والمطاحن وكانت هذه أهم مخرجات الاجتماعات الطارئة للإدارة الخاصة بالجوانب الخدمية المتعلقة بحياة الناس”، وأقرت الإدارة بتراجع جودة الخبز ومدى توفر المادة في مراكز التوزيع والمخابز العامة والخاصة ولفت المهباش أن: “أعضاء الخلية سيعملون على مراقبة جودة الخبز وتلافي حدوث أزمات معيشية مستقبلاً”.
وبات مشهد وقوف طوابير من السكان أمام أبواب الأفران العامة والخاصة والحجرية مألوفاً في منطقة تحتوي على 80 بالمائة من المخزون الاستراتيجي لمحصول القمح، وتضاعفت سعر ربطة الخبز المكونة من 700 غرام من 700 ليرة سورية الى ألفي ليرة (تعادل 6 سنت أمريكي)، أما رغيف الخبز الحجري يباع حجم المتوسط بـ 500 ليرة اما الكبير يتراوح سعره بين 700 وألف ليرة.
وسوريا التي كانت تنتج قبل عام 2011 نحو 4 ملايين طن قمح تكفي الاحتياجات الذاتية غير أن هذه الأرقام تراجعت بعد سنوات الحرب وبلغ إنتاجها في موسم العام الفائت أقل من مليون طن، وتقدر احتياجات البلاد بنحو 2.5 مليون طن ولسد العجز الحاصل في مناطق نفوذها، قررت الإدارة الذاتية خلط 20 بالمائة من دقيق الذرة مع عجينة القمح لإنتاج رغيف الخبز، وأوضحت أمل خزيم الرئيسة المشاركة بهيئة الاقتصاد لـ “صالون سوريا”، أَن جودة الخبر تراجعت بعد إضافة دقيق الذرة الصفراء إلى طحين القمح وتعزو السبب الى نقص كميات القمح بسبب موجة الجفاف للسنة الثانية على التوالي. وتابعت: “احتياجات سكان مناطق شمال وشرق البلاد تقدَّر بـ 700 مائة ألف طن من القمح، والهيئة اشترت نحو مائتي ألف طن وكان هناك مخزون احتياطي يبلغ 200 ألف طن”، الأمر الذي دفع القائمين على الهيئة الايعاز الى المطاحن بخلط الطحين بدقيق الذرة بنسبة لا تتجاوز 20 بالمائة ولفتت قائلة: “لتفادي العجز ووقوع نقص في توفير الخبز للأهالي، لذلك قمنا بخلط 20 بالمائة من دقيق الذرة الى طحين القمح لإنتاج الخبز”.
وبحسب مسؤولي الإدارة، يقدر العجز في دقيق القمح بنحو 300 إلى 400 ألف طن لوجود أكثر من 4 ملايين نسمة في مناطق نفوذها شرقي الفرات، وانتشار مخيمات في معظم مناطقها أكبرها مخيمي الهول ورأس العين بالحسكة، وأوضحت خزيم بأن الإدارة تخسر 90 بالمائة عن كل 1 طن من القمح، “إذ يبلغ السعر الوسطي لطن القمح 350 دولارا أميركيا، يُستخرج 750 كلغ طحين و230 كلغ نخالة و20كلغ نواتج غربلة ويباع الكيلو غرام الواحد من الطحين المدعوم للأفران بستين ليرة سورية”، وأكدت أن الهيئة شكلت لجنة تفتيش من أصحاب الخبرات للإشراف بشكل مباشر على رقابة معايير مطاحن الذرة الصفراء والتأكد من نظافتها ونسبة الخلط مع الطحين، لتزيد: “وضعنا خطة إسعافيه لشراء كميات من القمح بموجب عقد مبرم بين الإدارة وجهات أخرى وقدرها مائة ألف طن، للاستغناء عن خلط الذرة بالقمح مما يساعد في تحسين جودة الخبز المدعوم”.

وللتعبير عن رفضهم لتدهور الأوضاع المعيشية والأزمات الأمنية بعد أحداث سجن غويران جنوبي مدينة الحسكة نهاية الشهر الماضي، تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير مع الأحوال السيئة التي تؤول إليها مناطق نفوذ الإدارة والتي لم يسلم منها حتى رغيف الخبز، حيث جاءت أغلب التعليقات والصور المنشورة “معارضة” لقرار الهيئة خلط دقيق الذرة بطحين القمح.
ونشر الناشط جابر جندو المتحدر المنحدر من بلدة عامودا شمالي محافظة الحسكة على صفحته بموقع “فيسبوك”: “الناس قبل 2010 كانت تقول كل خيرات الجزيرة تذهب للداخل وعدم التساوي بين المحافظات في توزيع الخيرات، لكن الإدارة عاجزة اعطاء تفسير لجودة الخبز وانقطاعه”، ونشر صوراً للخبز الجديد وأضاف قائلاً: “قلنا راح نقبل بالذرة تخلط مع الخبز بس الشباب استعجلوا وحطو محارم كمان بخبز القامشلي”.
وكانت محافظات الحسكة والرقة ودير الزور تؤمن احتياجات البلاد من طحين القمح والبذار بنسبة 90 بالمائة، وتعتبر سابقة خلال سنوات حكم سلطات الإدارة على هذه المناطق الغنية بالنفط والطاقة والغاز بعد لجؤها الى شراء القمح وتلقي المساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية في تأمين البذار لسد احتياجات سكانها، وبحسب أرقام هيئة الاقتصاد والزراعة لدى الإدارة لموسم القمح الفائت قامت بشراء نحو نصف مليون طن من القمح من المزارعين لتأمين احتياجات أبناء المنطقة، وبحسب مصادر وتقارير أخباريه فقد باعت الإدارة جزءاً من إنتاجها وقدرت الكميات بنحو 300 ألف إلى شخصيات وشركات تجارية على صلة بالحكومة السورية.
أما الإعلامي والمصور إيفان حسيب المتحدر من مدينة الحسكة، نشر صوراً لرغيف خبز على صفحته في “فايسبوك”، تظهر رداءة رغيف الخبز وبداخلها كتل من العجين وعلق عليها: “المسؤولين ما ينفوا صحة رداءة نوعية الخبز وكم منافق وانتهازي مستعد يكذب كل الشعب كرمال يثبت لأسياده بأنه ملتزم بخط سير القطيع”.

ورغم أن مناطق الإدارة تعد عاصمة سوريا الغذائية غير أن انعدام الهطولات المطرية للعام الثاني على التوالي والجفاف تسبب بتفاقم شحّ مادة الطحين المدعوم لدى مطاحنها العامة والخاصة، ودعا الخبير الاقتصادي الدكتور شوقي محمد سلطات الإدارة الذاتية إلى الامتناع عن استيراد الطحين التركي والإيراني بغية ضبط السوق وأسعار الطحين، “فالمطلوب إعداد حسابات تكلفة حقيقية لمادة الطحين وفقاً لأسعار القمح والمازوت بالمنطقة”، لافتاً الى إنه ليس من المهم توفر الموارد الاقتصادية، “بل الأهم هو إدارة هذه الموارد وفق أسس علمية صحيحة ومنظومة قوانين اقتصادية متكاملة”.
فيما سخر الناشط عكيد جولي على صفحته الزرقاء أن مكونات الخبز الجديدة بعد قرار هيئة الاقتصاد خلط الذرة بطحين القمح تكون كالتالي: “5 بالمائة طحين، و40 بالمائة ذرة صفراء، و40 بالمائة نخالة، و15 بالمائة شوائب وماء وملح، قد يتم استعاضة الطحين بالشعير في قادم الأيام”، واتفق معه الناشط زبير الشواخ من أبناء مدينة الرقة ونشر صورة للخبز الجديد على صفحته بموقع الفيسبوك وكتب تحتها: “اكتشاف لقى أثرية ولوحات موزاييك في شمال وشرق سوريا تعود لعصور مختلفة، ملاحظة 1 الصورة لبعض القطع الأثرية المستكشفة بالرقة، ملاحظة 2 هذا ليس خبزاً وشكراً”.
غير أن الصحفي جمعة عكاش المتحدر من بلدة المالكية أو (ديريك) بحسب تسميتها الكردية ويعمل مراسلاً لقناة “العربية”؛ قال على صفحته أن أغلب صور الخبز التي نشرت خلال الأيام الماضية غير صحيحة، “بعض الصفحات والاشخاص ارادت الاساءة للإدارة الذاتية، ووقع الكثيرون في فخ النشر دون التوثيق والتأكد لكن هذا ليس كل شيئ”، وأكد في منشوره أن الخبز الذي تنتجه أفران الادارة سيئ ورديء في نوعيته لدى أغلب الأفران والبلدات، ليضيف: “الادارة تخسر حوالي ألف ليرة بكل ربطة خبز تنتجه هذه الافران، لأن اغلب كميات الخبز تستخدم كعلف للمواشي والدواجن خاصة في القرى”، لحيث تباع ربطة الخبز (300 ليرة) وهي أرخص بكثير من سعر كيلو العلف الذي يبلغ 1600 ليرة.
وذكر بأن الادارة تستنزف احتياطي القمح وتخسر سمعتها لدى الناس وهي غير قادرة على تحسين نوعية الخبز رغم المحاولات لسنوات، وطرح بعض الحلول من بينها: “تزويد الافران السياحية بكميات القمح التي تخصصها للأفران العادية مقابل تخفيض ربطة الخبز السياحي لـ 500 ليرة”، حتى يصبح هذا الخبز المنافس متاحا للجميع وانتهاء عصر الخبز المشؤوم على حد تعبيره، “أو تخصيص الافران الحكومية وتسليمها للقطاع الخاص بحيث يستطيع ان يديرها ويستثمر فيها ويجددها بشروط”.
*صور كمال شيخو

دمشق…الرسم في الظلام
بتحدٍ وإصرار يحاول الرسام عمار (34 عاما) متابعة مشروعه الفني “مجموعة لوحات عن ذاكرة الحرب”، الذي بدأه قبل نحو عام، لكن ظروف الحياة اليومية التي يعيشها تمنعه من تحقيق حجم الإنجاز المطلوب. يقول: “البرد ينخر عظامي ويكاد يُجمِّد أصابعي حتى أعجز عن تحريك ريشة الألوان. الإنارة الخافتة تُشعرني بالكآبة وتمنعني من رؤية ألوان وخطوط اللوحة بوضوح. هل تصدق أن فناناً في هذا العصر يستعين بضوء الشموع أو الهاتف المحمول لكي يرى ما يرسم؟. أنتظر قدوم الكهرباء لأحظى ببعض الدفء وأعد فنجان قهوة. لا غاز في منزلي منذ أسابيع. وما زلت أنتظر صعود المياه إلى بيتي منذ عشرة أيام”.
هكذا يلخص الفنان عمار بعضاً من معاناته اليومية، التي تشبه معاناة كثير من الفنانين في سوريا، وهو الذي لم يغادر البلاد وبقي فيها لكي ينجز بعض مشاريعه الفنية المتعلقة بدمشق وتفاصيلها المليئة بالحكايات والصور، بالإضافة لمرحلة الحرب التي يحاول توثيق بعض مشاهدها وذاكرتها فنياً. ولكن ذلك كله “يحتاج إلى بيئة مناسبة تتوفر فيها، على الأقل، أبسط مقومات الحياة وشيئاً من الراحة الجسدية والنفسية”، بحسب عمار الذي يضيف: “كيف سنبدع وخيالنا محاصر بصور الوجع والحرمان والمنغصات؟. كل شيء حولي يؤذيني ويشوّش على أفكاري ليمنع ذهني من التركيز، فيما يحرمني واقعي الاقتصادي المزري من تحقيق أبسط رغباتي بما فيها زيارة البحر والطبيعة التي يحتاجها أي فنان”.
غياب مقومات الفن
“لدي كثير من الأحلام الفنية التي أتمنى تحقيقها، أريد تنمية موهبتي ومهاراتي عبر استخدام طرق وتقنيات بعض المدارس الفنية (تجريدية، سريالية، انطباعية) التي يمكنني التعبير من خلالها عن أفكاري وتصوراتي، لكن ذلك كله يحتاج لكثيرٍ من المواد والمستلزمات كبعض أنواع الألوان (زيتي، إكريليك، غواش) والقماش والأخشاب وغير ذلك، ونتيجة ارتفاع أسعارها بشكل جنوني أقف عاجزاً عن شراء أردأ أنواعها، حيث ستكلفني أبسط مجموعة ألوان نحو 300 ألف ليرة فيما ستحتاج أصغر لوحة لأكثر من مئة ألف ليرة، وأنا بالكاد أتدبر لقمة عيشي وثمن سجائري”. هكذا يصف الرسام تمام (26عام) واقعه المؤلم الذي حرمه من تنفيذ مشاريعه الفنية وأغلق الآفاق بوجهه ليكتفي باستخدام تقنية الرسم على ورق الكانسون بواسطة قلم الرصاص أو الفحم وذلك لكي يبقى على تواصل مع الفن.
ونتيجة عجزها عن استئجار مرسم، حوَّلَت الفنانة التشكيلية رغد (29 عاما)غرفتها إلى مكانٍ للرسم، حيث تقول: “رغم ضيق غرفتي، التي بالكاد تتسع للسرير والخزانة والمكتبة، أضطر للرسم فيها، حيث تحاصرني اللوحات والأخشاب ومواد الرسم الأخرى الموزعة في كل مكان حولي لتحد من نشاطي وحركتي وتؤثِّر على مزاجي النفسي والإبداعي. وحين أنام تكاد تخنقني، في كثير من الأحيان، رائحة الغراء والألوان الزيتية والمواد النفطية فأضطر لفتح النافذة ليداهمني المزيد من البرد”. وتوضح: “عملي الفني يحتاج إلى مرسمٍ واسعٍ أستطيع أن أتحرك فيه بحرية، وأُعاين ما أرسمه بدقة، وأُعلِّق لوحاتي على الجدران لكي أراها كمشهدٍ واحد، فيما يمكنني دعوة أصدقائي ليطلعوا على تجربتي، لكن ذلك بات شبه مستحيل في هذه الظروف إذ يصل إيجار أي قبوٍ عادي وصغير لنحو 200 ألف ليرة شهرياً، فيما سيحتاج أيضاً لكثير من التجهيزات والمعدات، كالإنارات البديلة وبطاريات الشحن وغير ذلك”.
من جهته، يتحدث النحات عدنان (31 عاما) عن بعض العقبات التي تواجه عمله الفني. ويقول: “انقطاع الكهرباء قتل الكثير من مشاريعي الفنية، التي تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والحفر والجلخ وغيرها، فبات عملي يحتاج لاقتناء مولدة كهرباء سيكلفني شراءها أكثر من مليون ليرة وهو مبلغ أعجز عن تدبيره”. ويضيف عدنان: “لكي أنجز بعض الأعمال الضرورية أضطر أحياناً لاستئجار مولدة بتكلفة 20 ألف ليرة في اليوم، فيما تحتاج لأكثر من ثلاثة ليترات مازوت (12ألف ليرة)، وهذا يكلفني نصف ما أجنيه من عملي”.
وإلى جانب ذلك يعاني الفنان عدنان كثيراً، كغيره من الفنانين، في توفير بعض أنواع الأخشاب التي يستخدمها في النحت، حيث غاب معظمها عن الأسواق نتيجة ظروف الحرب وتبعاتها، وتحويل كثير من الأشجار إلى حطب، هذا بالإضافة لتوقف استيراد الكثير من الأخشاب في الفترة الأخيرة، وارتفاع أسعار معظم الأنواع المتوفرة بشكلٍ جنوني.
خيارات بديلة
“يعتاش معظم الفنانون التشكيليون في العالم من مبيعات لوحاتهم وأعمالهم الفنية، لكن هذا الأمر بات من الصعب تحقيقه في بلد كسوريا، حيث تباع الأعمال – هذا إن وجدت سوقاً لها- بأسعار زهيدة تستغل معاناة الفنان الذي بات مهدداً بلقمة عيشه، وذلك في ظل انحسار أعداد المعارض الفنية وتراجع نسبة من يقتنون اللوحات والأعمال الفنية، حيث خسرت البلاد الكثير ممن كانوا يقدرون الفن ويدعمونه”.
هكذا تصف الرسامة عبير (32عاما) واقع الفن الذي أجبرها على التوجه نحو الفن التجاري الذي لا يُعبّر عن هويتها الفنية ولا تشعر نحوه بأي شغف. تقول: “أعمل أحياناً في رسم بعض اللوحات التجارية البسيطة والرائجة كالأعمال الدمشقية والمشاهد الطبيعية وبورتريهات بعض المشاهير، وذلك لكي أتمكن من جمع بعض المال لإنجاز مشروعي الفني الخاص”. ورغم ذلك “لم تعد تلك الأعمال تحقق مبيعات جيدة، بعد تردي الواقع المعيشي عند أغلب الناس، ليصبح شراءها نوعاً من الكماليات” بحسب عبير.
لواقع ذاته أجبر النحات يزن (29 عاما) على العمل في نحت بعض التحف والصحون الخشبية متنوعة الأشكال والتي يوزعها على بعض المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي، وعن سبب لجوءه لذلك العمل يقول: “أصبح الفن في هذه الظروف لا يُطعم خبزاً فيما تحتاج الأعمال الفنية الكبيرة والاحترافية لكثير من الوقت والمال وبالمقابل لا تحقق مبيعات جيدة، لذا أنا بحاجة لعمل آخر أتدبر من خلاله لقمة عيشي وأدخر منه بعض التكاليف التي تحتاجها أعمالي الفنية التي أحاول إنجازها بشق النفس”.
الرأحلام تتحطم
“ما نفع الفن إذا كنت محروماً من أبسط متطلبات الحياة العادية والبسيطة”، يقول النحات طارق (33 عاما) الذي انسحب من المشاركة بإحدى المعارض الجماعية التي أقيمت في دمشق، مضيفاً: “لم أتمكن من تحضير العمل النحتي الذي كنت سأشارك به، فهو من مادة البرونز غالية الثمن، ورغم صغر حجمه سيكلف نحو 700 ألف ليرة، لذا كان علي الإختيار بينه وبين شراء بعض المستلزمات الضرورية والملحة التي يحتاجها أي إنسان عادي”.
أنفق الفنان طارق نحو ثلثي المبلغ، الذي كان سيحتاجه عمله الفني، في شراء اسطوانة غاز منزلي (100 ألف ليرة)، خمسين ليتر مازوت للتدفئة (175 ألف)، بطارية للكومبيوتر المحمول (70 ألف) الذي شُلَّ عمله في غياب الكهرباء، بطارية صغيرة للإنارة البديلة (65 ألف ليرة)، وأُخرى للراوتر (80 ألف ليرة) لإتاحة استخدام الإنترنت عند الحاجة إليه.
من رسام يسعى لشق طريقه في عالم الفن إلى دَهَّان يطلي جدران الشقق، هذا هو حال الفنان أحمد (26عاما) الذي يوضح سبب ابتعاده عن الرسم، قائلا:” كنت بحاجة لعمل أعتاش منه فبدأت في رسم بعض الزخارف والمشاهد الطبيعية على جدران بعض المقاهي والمنتزهات، وخلال ذلك العمل تعرفت على بعض الدهانين فبدأت العمل معهم، حيث استفادوا من معرفتي في مزج الألوان واستخراج ما هو جديد ومميز منها، ثم استمر عملي هذا حتى تحول إلى ما يشبه المهنة التي أنستني مزاولتها الطويلة أنني رسام “.
يعمل أحمد لنحو ثمانية ساعاتٍ يومياً ليعود إلى البيت منهكاً وخائر القوة، لا قدرة له على التفكير في الفن، لا مزاج يحرِّضه على أي إبداع، ولا رغبة تدفعه لمسك ريشة الألوان أو حتى قلم الرصاص.
ما ذكر أعلاه قد يترك آثاراً سلبية كبيرة على مستقبل الفن التشكيلي في البلاد، فالفنانون الشباب هم من تقع على عاتقهم مسؤولية تشكيل الهوية والبصمة الفنية لهذه المرحلة من تاريخ البلاد، والتي بدورها ستكون بوصلة ومرجعاً فنياً للأجيال القادمة.

موسم الهجرة من الجنوب السوري
تشكل الهجرة مقصداً لشريحة واسعة من أبناء جنوب سوريا قبل الحرب، ولكن بعدها ارتفعت نسبة المهاجرين بشكل كبير مقارنة بالسنوات السابقة، نتيجة جملة أسباب تتعلق بالضائقة المعيشة، وقلة فرص العمل، والأزمات الأمنية والسياسية وانسداد أفق الحل للوضع العام في البلاد.
في الآونة الأخيرة هناك موجة سفر جديدة بدأت تظهر ملامحها منذ عامين. ورغم عدم وجود أرقام حكومية رسمية لأعداد المسافرين، لكن إحصائيات محلية في درعا والسويداء قالت أن كل شهر منذ الصيف الماضي يغادر حوالى 2000 شخص من السويداء ودرعا.
الاسباب
بحسب أحمد، وهو مهندس مدني في الأربعين من العمر من مدينة درعا، فان أي شاب في جنوب سوريا تتهيأ له وسائل السفر من تأجيل عن الخدمة العسكرية والمبالغ المالية، يختار السفر من سوريا سواء كان جامعيا أو أميا، لأن سوريا تعاني ضائقة اقتصادية ومعيشية وفسادا إداريا، حيث لا يحصل العامل سواء في القطاع الخاص أو العام على حقة أو يعامل حسب قدرته ومعرفته وهذا الشي منذ أكثر من عشر سنوات أي قبل الحرب في سوريا، لكن الحرب زادت وضاعفت هذه المشكلات التي تدفع الشباب للسفر.
ويضيف ان ما دفعه مؤخرا لقرار السفر والوصول إلى دولة الإمارات هو الفقر حيث أن العمل الخاص بات معدوما في درعا والمرتب الشهري الذي يتقاضاه هو مصروف اسبوع واحد فقط في أحسن الحالات. واعتبر أن البقاء في سوريا بنسبة له هو انتحار بطيء وتعب نفسي وفكري وجسدي دون جدوة أو منفعة. ويحاول أن يستغل ما بقي في عمره للعمل خارج سوريا لتحصيل دخل مادي جيد يعود بالنفع الوفير على عائلته فلديه 3 أولاد وابنته تدرس في الجامعة، يريد لهم حياه كريمة وتعليم جيد دون منغصات أو نواقص مادية بحسب تعبيره.
اما جهاد، فهو شاب في العشرينات من عمره من السويداء حصل على إجازة جامعية مؤخراً، وقرر السفر إلى أوروبا لانه لو بقي في سوريا “سيكون المستقبل مجهولا باعتبار البلد كله ومصيره مجهول”، وأنه فضل السفر إلى أوروبا لاعتبارات كثيرة ذكرها منها أن دول الخليج لم تعد تستقبل العمالة الأجنبية بدون خبرات إضافية للإجازة الجامعية وهو خريج جديد لا يملك سنوات خبرة، إضافة أن المرتبات الشهرية في دولة الامارات التي يصلها السوريون بكثرة مؤخراً، تعتبر متدنية للعمل العادي في بداية السنة الأولى أو الثانية للعمل. وذكر أن أخاه سافر إلى دولة الإمارات قبل 5 أشهر، ويعمل هناك في مطعم ومرتبه الشهري لا يتجاوز 600$ أميركي لا يكفيه إلا الاستمرار على قيد الحياة في بلد مثل الإمارات وسائل الرفاهية والحياة فيها كثيرة وجميلة، ويرى أن بمجرد وصوله إلى أوروبا يستطيع بعد تعلم اللغة أن يصبح حتى ولو عامل عادي بدون إجازة جامعية أن يكون معيل فعلي لعائلته التي تركها في سوريا تعاني ضنك العيش.
الوطن؟
“لم يعد هذا الوطن موجودا في ذهني وما تبقي منه لا اريده”، بهذه الكلمات بدأ محمد، وهو في الثلاثين من العمر، حديثه. ويقول أنه تعرض للاعتقال في عام 2013، بعد تخرجه من الجامعة بأيام في العاصمة دمشق، رغم أنه كان طالبا ومدنيا ولم يكن يزور منطقته التي خرجت في ريف درعا الغربي عن سيطرة النظام السوري في بداية عام 2013. وبعد خروجه من المعتقل والتخرج من الجامعة بات مطلوبا للالتحاق بالخدمة العسكرية. فضل البقاء في مدينته على الذهاب إلى الخدمة، وبعد عام ٢٠١٨ والتسويات حصل على تأجيل بموجب التسوية لم يؤهله للسفر فقط كان تأجيل ضمن القطر السوري لمدة 6 أشهر، لكن صدر القرار الأخير الخاص بأبناء محافظة درعا ومنحهم تأجيل عن الخدمة العسكرية والسماح لهم بالسفر.
سارع مثل الكثيرين من الشباب لاستخراج جواز سفر ووصل إلى دولة الإمارات، فهي الدولة الخليجية الوحيدة التي تقبل دخول السورين منذ 3 سنوات، وبات السفر إليها غير مكلف مقارنة مع باقي الدول. يقول: “أعمل الأن في مدرسة خاصة ومرتبه فيها يعادل 450 دولارا تقريباً تكفيني أجرة سرير في غرفة مشتركة وطعام وشراب واتصالات”، لكنه يأمل مع مرور الوقت أن يحصل على امتيازات وزيادات في مرتبه أو فرص عمل أفضل، كانت بنسبة له معدومة في سوريا، وفق ما قال، فإن مصيره لو أنه لم يسافر واستغل فرصة التأجيل الإداري الذي منح لأبناء درعا لكان مصيره بعد انتهاء فتره التأجيل الالتحاق بالخدمة العسكرية أو البقاء فارا من الذهاب إلى الخدمة.
جامعيون
قال ريان معروف مسؤول تحرير “شبكة السويداء24” لـ «صالون سوريا»: “لا ينحصر السفر في السويداء بحملة الشهادات العلمية بل يشمل كافة الشرائح. لكن نسبة كبيرة من بين المسافرين فعلاً يحملون شهادات علمية وخصوصاً الطب والهندسة، نتيجة لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. المهندسون على سبيل المثال، سافر منهم خارج البلاد أكثر من 800 مهندس من أصل 3000 مهندس مسجلين في نقابة المهندسين بالسويداء بين 2011 و2019. ومن 2021 حتى 2022 غادر حوالي 150 مهندساً. وهنا مؤشر واضح على تزايد الإقبال على السفر مؤخراً. المشكلة الأخطر تتعلق بسفر الأطباء بحثاً عن فرص عمل خارج سوريا، مما ساهم بنقص حاد في الكادر الطبي. المشافي الحكومية في السويداء باتت تعتمد على بعض الأطباء المقيمين الذين تتناقص أعدادهم إلى درجة أصبحت بعص الأقسام خالية من طبيب مقيم ويتم الاستعاضة عنه بطبيب من قسم أخر أحياناً”.
وبحسب ناشطين من مناطق جنوب سوريا في درعا والسويداء، فإن المنطقة تشهد أيضاً هجرة عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال والمشاريع في المنطقة إلى خارج البلاد، نتيجة تردي الأوضاع الأمنية في المنطقة، حيث تعرض عدد من هؤلاء لعمليات ابتزاز من قبل أشخاص مسلحين، وطلب مبالغ مالية كبيرة مقابل عدم التعرض لهم، ما دفعهم إلى الهروب، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية السيئة.