بواسطة سلوى زكزك | مايو 5, 2018 | Reports, غير مصنف
يوميات سورية
عندما تجاوز عدد العمالة السورية في الخليج وخاصة في السعودية أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات عشرات الآلاف كعمالٍ وافدين ومئات الآلاف كعائلات، بدأت العباءة السعودية تعود مع العائلات عند كل إجازةٍ صيفيةٍ لتصبح مظهراً اجتماعياً لافتاً إلى أن سادت تدريجياً وأزاحت كل ما سبقها من أنماط اللباس المحلية كالمانطو، والطقم بجاكيت طويل وتنورة طويلة “تصل لتحت الركبة بشبر” كما كانت تصفها النساء اللاتي درجن على ارتدائها. كان الطقم يومها ينتمي للحجاب “المديني”، فأي سيدةٍ محجبة وترتدي طقماً يعني أنها حكماً مدينية وليست ابنة ريفٍ أو حيٍ شعبيٍ، حيث ترتدي نساء تلك المناطق مانطو يتبدل صيفاً وشتاءً ليغطي كل ما تحته من ملابس بسيطة أو رقيقة، وغالباً ما ترتدي السيدات وخاصة المتقدمات بالعمر قمصان النوم تحت المانطو للتمتع براحة كاملة.
خلال الحرب السورية ارتدت بعض السيدات الحجاب في بعض المناطق ذات الصبغة الدينية تحت ذريعة الخوف، سيداتٌ يبدو جلياً أنهن غير محجبات أصلاً لابل يرفضنه كنمطٍ للباسهن، يبدو ذلك من طريقة ربطه، من المكياج الظاهر، من الضيق الظاهر بالتعامل مع زائرٍ جديدٍ وثقيلٍ وقسريٍ حسب توصيف بعضهن.
إلا أنّ المظهر الغالب هو تحرّر الكثير من الفتيات من حجابهن بعد الانتقال من أماكن سكنهن جراء التهجير والنزوح، فتياتٌ انقلبت أحوالهن بصورةٍ جذريةٍ وإن كان يصح القول بأنّ الانتقال كان عاصفاً ومتطرفاً لدرجةٍ لحظنا التحول من وضعية المحجبة إلى المغامرة، بأقراطٍ عديدة في الأذنين وقصة شعر صبيانية أو غريبة، بملابس ضيقة وبلا أكمام.
يبدو التغير أو الانعطاف الجذري في المضمون والشكل حالةً طبيعيةً في الحروب، حالةً مبررةً لكنها تحتاج وقتاً للقبول. السمة الأساسية في الانقلابات الجذرية في عمر المجتمعات هي حرق الوقت، أي تقبّل التغيرات بزمنِ قياسيِ يكاد أن يكون غير ملحوظ أو غير جدير بالتوقف عنده أصلاً.
***
سهى شابة بعمر الخامسة والعشرين، كانت تسكن في زملكا، لم تقتنع يوما بالحجاب، لكن أمها قدّمت لها كل التنازلات الممكنة لتقبل بالحجاب، وافقت معها على ارتداء الجينز لكن مع كنزة طويلة، ومع الوقت تحايلت سهى حتى على الكنزة الطويلة بكنزة داخلية قصيرة ومفصلة تغطيها بجاكيتٍ طويلٍ وواسعٍ.
في شوارع دمشق الآن صبايا بأحجبة ملونة ٍوصاخبةٍ، وبات للأحجبة موديلات وفي كل وقت نجد موجةً جديدةً كاسحةً تعمم موديلاً محدداً للحجاب. ثمة محال خاصة ببيع الحجاب وبإمكانك هناك الاطلاع على موديلاتٍ متعددةٍ بألبوماتٍ موجودةٍ خصيصاً لتجربي ،لتشتري، لتقرري أيهما الأنسب لوجهك ولونك، وطبعاً يدخل عامل التسويق والمبالغة في خضم عملية البيع المربحة.
في شوارع دمشق صبايا محجباتٍ وفي أقدامهن أحذية رياضية خفيفة وملونة وبعضها مذهب أو مألمس كلونٍ وليس كحجر ثمين طبعاً، أربطةٌ ملونة ٌوصاخبةٌ ولكلّ فردة حذاءٍ رباطٌ بلونٍ مختلفٍ. في شوارع دمشق فتياتٌ محجباتٌ بحواجب مصقولة بحرفة التاتو الدارجة بقوة رغم قسوة الحرب، بمكياجٍ ثقيلٍ أو خفيفٍ، لكنّ الكحل شرطٌ أساسيٌ، بخواتم معدنية كبيرة وبستراس لامع على الأنف، بزيركونة لامعة على الأسنان و بعقودٍ حجريةٍ ضخمةٍ تهتز مع خطوات الصبايا المفعمات بالحيوية والشوق للجنس الآخر.
في شوارع دمشق أيضاً نساءٌ ببزاتٍ عسكريةٍ ليلاً ونهاراً، أي لا وقت محدد لعملهن، فهنّ واقفاتٍ على الحواجز ويفتشن حقائب النساء في الأماكن العامة. مظهرٌ عسكريٌ جديدٌ شمل عامة النساء، أي أنهن لسن خريجات الكلية العسكرية للبنات، يعكس باب عملٍ جديداً انخرطت فيه النساء بصورة واضحة للعيان، نساءٌ من أهل الحي أو معروفات في الأماكن حيت يعملن.
كما أنّ موضة الملابس العسكرية أو على وجه الدقة الزي المبرقع قد غزت صناعة الملابس الجاهزة، حيث تنتشر السراويل والبيجامات والكنزات والجواكيت المبرقعة وهي مطلوبة خاصة لدى الشابات المتموضات. يحاول البعض تعميم فرضية أنّ الحجاب قد تكاثر أيضاً، لكنّ هذا التعميم غير دقيق بحسب مشاهداتي اليومية. صحيحٌ أنّ حفلات التحجيب والهدايا باتت ظاهرةً ومعلنةً وخاصة للفتيات الصغيرات لكنها قليلة، وقد تناقل السوريون مؤخراً تسجيلاً مصوراً لحفلةٍ باذخة تجاوزت كلفتها الملايين بمناسبة ارتداء ابنة رجل أعمالٍ كبير للحجاب، حفلة ارتدت فيها حتى قطع الشوكولا والحلويات الحجاب في استعراضٍ استهلاكي لا يمت للإيمان بصلة.
تخففّت بعض السوريات من ثقل المانطو في زمن الحرب لأسبابٍ مختلفة، فبعضهن تخففن منه لارتفاع أثمانه أولاً ولأنه بات علامةً فارقة توصم صاحبته بالتطرف في أمكنة بات فيها رهاب التطرف رعباً خالصاً وباتت كل محجبة أو مجلببة أو ترتدي المانطو متهمة بأنها داعشية. لم يعد ممنوعاً أن تتجرأ سيدة أو فتاة على الجلوس ملاصقة ً لرجلٍ على مقعدٍ حديديٍ جانبيٍ في السرفيس وذلك تدبيراً لأزمة النقل الخانقة، لابل قد تجلس زركاً ملاصقةً لرجل في مقعدٍ يتسع بالكاد لثلاثة ركاب لكنها تكون الرابعة وربما الخامسة أيضاً فلا ضير في ذلك.
تقول رجاء: “أصعب شيء هو انتظار المانطو ليجف على حافة الكرسي لأننا نعيش في غرفةٍ بلا شرفةٍ أو حبل غسيلٍ، وحياتنا بهدلة ولا يمكن الركون إلى المانطو كزيٍ، وحياتنا لا تؤمن أدنى شروط النظافة، وأقل مانطو بديل يتجاوز سعره العشرة آلاف ليرة وهو مبلغٌ صعب التحصيل والتوفر.”
سيداتٌ أيضاً خلعن الحجاب بقناعةِ، تقول أسماء: “لم أقتنع به يوماً واليوم بات يشكل ضغطاً على حضوري في الأماكن العامة وخاصة في العمل نظراً لأني مهندسة ومطلوب تواجدي في اجتماعات عملٍ ومراكز إشراف” وتكمل “لقد تغيّر تعامل الناس معي بعد تبدل هويتي، وكأني أصبحت امرأةً أخرى! أجل إنّ خلع الحجاب أو ارتداءه بمثابة هوية تعريفٍ جديدة فرضتها الحرب والخوف من علامات التطرف وجراء تعميمٍ ظالمٍ وموجهٍ ومقصودٍ يصنّف كل المحجبات على أساس الشكل وليس المضمون مع أن القوانين تكفل حرية الممارسات والمظاهر الدينية والإيمانية.”
على الحواجز ثمة تصنيفٌ نمطي للمرأة حسب مظهرها العام، تصنيفٌ مضللٌ لكنّه شبه معممٍ يصل لدرجة أنّ عنصر الحاجز قد يقول للمرأة السافرة بأنك “من جماعتنا!” ويا للويل من معنى هذه الكلمة ومدلولها المنافي للمواطنة والشراكة في بلدٍ واحدٍ تمزق الحرب أبناءه جميعاً بغض النظر عن الطائفة والجماعة.
على المقلب الآخر ثمة من تبالغ بالتخفف من الملابس معتبرةً هذا التخفف وكأنّه تحدٍ للمتعصب والمتطرف، تصحو هويتها ما-قبل الوطنية والمغرقة في طائفيتها لتعلن أنها باقية هنا وأنّ حضورها هكذا يقلع عين كل متطرفٍ وكل معتدٍ ومتخلفٍ! هنا الوجه الآخر للتطرف! أجل إنه تطرّف أجوف وعدائي، ثبتته قوى الهيمنة والتمييز المقصود تحت ذريعة التوصيف الشكلاني الأجوف، فكلّ محجبة داعشية وكل مجلببة قنبلة موقوتة! يا للحيف ويا للتسطيح الذي سيدفعنا بعيداً في مهاوي الشقاق والحقد.
سميرة فتاة جميلة الوجه، ممشوقة الجسد ترعى أخوتها الصغار بعد غياب أمها وأبيها، الأم تزوجت والأب مات. نزحت هي وخمسة أخوة مع جدتهم من دير الزور ويعيشون في غرفةٍ على الهيكل، وباتت مضطرة للعمل عند أحد أصحاب محال صناعة الحلوى. كان شرط الجدة هو ارتداء الحجاب وبنطال وبلوزة طويلة وفضفاضة، تبدو سميرة بزيها هذا وظهرها المنحني من شقاء العمل وقوفاً وهي تدهن قطع البريوش بالبيض. سميرة ابنة الخمسة عشر عاماً تبدو من الخلف وكأنها عجوزٌ، لدرجةٍ قد تناديها بـ”يا خالة” قبل أن ترى وجهها الطفولي البريء!
في السلم كما في الحرب اللباس هو صورة مجتمعية وليس شكلية فقط، لكن الحرب تطحن الأجساد والعقول وتصبح الألبسة مجرد أغطية من ورق، لا تحمي ولا ترد الانتهاكات، لا هوية للباس إلا بعين الحرب، حيث تصبح الحرب هي الهوية وهي الشكل والمضمون وهي اللغة الناطقة السائرة على أقدام النساء.
بواسطة Mohammad Darius | أبريل 28, 2018 | Reports, غير مصنف
الجميع يتحدث عن الحلّ السياسي، جارتي وابنة خالي وبائع الشاورما والصيدلانية، المحلّل والمغنّية ولاعب كرة القدم. عندما كانت البيوت تنهار على رؤوس قاطنيها والقذائف المتفجّرة تمزج الاسمنت البارد باللحم الحي، قالوا: الحلّ سياسي. عندما دخلت المجاميع الطائفية من كل مرتفعٍ ومنحدرٍ لتتناحر على سنتمترات مقدسةٍ أو مراقد غامضة لموتى غامضين، قالوا: الحلّ سياسي. عندما انتقل الصديق الإيراني بفيض أعلامه وشعاراته، عندما أرسل الحليف الروسي الرصين طائرات السوخوي، عندما اقتطع حصّة لجنده يقيمون فيها ملاعبهم وباراتهم، قالوا: الحل سياسيّ. عندما أطلقت أميركا صواريخها المعدودة جيداً، عندما تدخّلت إسرائيل، عندما ارتعدت، عندما دخل الذئب التركي باتفاق سرّي، عندما تأمل الكرد، عندما هُزموا، عندما اتفقت ضباع الخليج، عندما اختلفت، عندما نمنا على حرير الــ (خلصت) واستيقظنا على صوف المؤامرة، عندما أصبحنا نشتري بالدولار خضارنا المزروعة على الشرفات وعلى أسطح عارية ونبيع أطفالنا وأخوتنا بالفرنك، عندما متنا خفافاً على مذبح الحرب الأهلية قالوا: لا حلّ إلا بالسياسة.
حسناً ما هي هذه السياسة التي صدعوا رأسنا فيها؟ وما هو هذا الحلّ السياسي الذي يقتنع الجميع بجدوى تناوله ساخناً ولا يفعل شيئاً لوضعه على الطاولة؟
بل ما هو العمل السياسي لشعبٍ يخاف من التلفظ بكلمات مثل رأي وحرية تعبير؟
في مُنْتَزَعٍ من صفحات التاريخ السوري، صفحة أو صفحة ونصف تدعى الوحدة السورية المصرية، ويطيب لمؤرخي العنجهية والتعنّت القومي وضع ما قاله الرئيس السوري شكري القوتلي آنذاك للزعيم المصري عبد الناصر، موضع الفخر والتبجّح: “أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعبا يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 في المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المائة على الأقل أنهم آلهة.”
وفي مُنْتَزَعٍ آخر، غير بعيدٍ عن التاريخ الحالي، راجت تلك المقولة التي دوّخت الطيور في السماء والأسماك في البحر، المقنوصة من فيض الإيمان والمرفوعة على أنقاض الثقة بالنفس: “سوريا الله حاميها”.
إذن، لقد عرفنا ماذا تعني السياسة للحكّام، لكن لم نعرف بعد ماذا تعني للسوريين؟
اعتزل السوريون السياسة منذ أن قرّر النظام الوليد في 1963 أنها من أهم أسباب وجع الرأس وأن ممارستها تُورث أمراضا مستعصية أقلّها ألم المفاصل والسل وباقي الأمراض المرتبطة بالأقبية المعتمة والكرسي الألماني والدولاب وأنّ من الأفضل والحال كذلك أن يبتعد عنها السوريون إنقاذا لأعمارهم، ودخلت عندها القفص المحرّم وأصبحت ثالثة الأثافي.
السياسة في سوريا تعني ببساطة معاداة إسرائيل وأميركا والإيمان بأن الوحدة العربية حلّ مثالي لكوارث مثالية؛ وترديد الشعار كل صباح، الشعار الذي يعني أن لا أحد في المنزل وعلى الحبيب الإسراع لاقتناص الفرصة؛ ومعاداة الإمبريالية على المنابر والتحالف مع معطياتها سرّا، والتلويح بالاشتراكية في الأغاني وتوزيع الحصص على الشركاء المخلصين.
كان الحزبي بمرتبة عضو عامل يعتبر سياسياً، فما بالك بمن يصبح أمين شعبة حزبية. كانت قراءة الصحف الوطنية اليتيمة ومتابعة الأخبار اليومية تحيط المرء بشبهة (المعرفة) وهي تهمة جاهزة لوطن يتجهّز. كنت أعْتبر شيوعياً لأن لدي صديقات إناث، ومعارضاً لأني أخرج مع أختي إلى السوق ولا أركل قطط الشارع. هذه هي السياسة في سوريا، سياسة خلف السياسة بمئات الأميال، سياسة منتزعة من السياسة، معقمة منها، سياسة تحيي إنجازات الحكومة وتلعن أعداءها المختلفين حسب الظرف. كانت القرارات تصنع بعيداً، في كوكب آخر، في دمشق التي هي أبعد من المشتري؛ فشكّلت لنا التلفزيونات اللبنانية صدمة لغوية ثم اجتماعية فسياسية: كيف يتحدثون بملء الفم عن الحرية والطائفة والجنس، عن المظاهرات والإضرابات، كيف يعارضون الرؤساء بل ويشتمونهم والشتائم الوحيدة التي نستطيع تحمّل كلفتها هي الموجهة ضد الأهل والرب. وحتى اليوم ما زلنا بمنأى عن السياسة، متطهرين من دنسها، بالرغم من اندفاع مئات الآلاف من السوريين في حرب طاحنة وتشكيل تحالفات سياسية المخبر نفعية الجوهر، محلية وإقليمية، وانغماس الجميع حتى قحف رؤوسهم في الشأن العام إلا أنهم بعيدون عن السياسة بعد السلاحف عن سباقات (الفورمولا وان)، وأكثرهم بعداً عن السياسة هو أكثرهم تعاطياً واستخداماً لها في لهاثه اليومي.
الدين والسياسة، الثورة والسياسة، الدين والثورة
في الأحداث التي رافقت الحراك الشعبي السوري بداية 2011 بدا وكأن السوريين قد اهتدوا إلى اللعبة التي غابت عنهم قرابة أربعة عقود، وبدأوا بتحسّس مواطئ أقدامهم إيذاناً بدخولهم معتركاً كان ممنوعاً عليهم الدنوّ منه. بدا وأنهم قد فطنوا إلى طريق المصنع الذي تخرج منه مصائرهم مغلفة وتحوي مدة الصلاحية الممنوحة، لكنها أيام فحسب فصلتهم عن إعادة تسليم ما ظنّوا أنه حيواتهم ومستقبلهم، مستقبل الأولاد والأحفاد ربما، إلى الخطاب الإسلامي المتشنّج والخارج أصلاً للمفارقة-من رحم السلطة، أعادوا بيمين الزهد ما أخذوه بيمين الاعتراض، ووجدوا أنفسهم في معضلة صعبة التحليل والتركيب. كان النظام لعقود خلت يتحكّم بأرواحهم، يضع الكلام، جاهزاً على ألسنتهم، والمشاعر منجزة في أفئدتهم، فآثروا تسليم مصائرهم إلى الشيوخ وارتاحوا من عبء السياسة المقيت. فاجأتهم الحرية واحتاروا ماذا يفعلون بكلماتٍ مثل حكم محلي، حرية رأي، حقوق، مواطنة، فقاموا برميها في كثافة اللحى العفنة وارتاحوا. وكان النظام يدرك المآل الذي سيصلون إليه سريعاً، ربما كان يضحك في سرّه، إذ أنه يعرف ما الذي أنتجته معاهده لتحفيظ القرآن وتسميع الموت، يعرف ما وراء الأكمة وتحتها؛ فانتصر فوراً على مستوى الحجّة النظرية والرأي العام قبل أن يسحقهم على المستوى العسكري؛ فالمتمردون أصلاً حفروا قبورهم بآيات شيطانية وبقي على النظام أن يردمها فحسب.
وعندما بحث النظام عمن يشرح موقفه، عن سياسيين محترفين يتكلمون باسمه لم يجد؛ فاستعان بمتحذلقي الأخوة الأشقاء في لبنان ثم ببعض بقايا يساريي السبعينيات والثمانينيات ليكونوا ناطقين باسمه، لكن أولئك باللغة المتخشّبة الخارجة من مناشر الأخ الأكبر لم يستطيعوا شرح المشروح أصلاً؛ فاسْتُكمل الوقت المتبقي للعروض التلفزيونية بمطربين شعبيين وممثلين درجة عاشرة ولاعبي كرة قدم، وبقي فقط أن يأتي براقصات الملاهي الليلية ليتحدثن عن نظرية المؤامرة بشفاه البوتوكس وعلكة الشيكلتس.
سيمضي وقت قبل أن يفطن جمهور الموالاة للمأزق العميق الذي وضعوا أنفسهم فيه؛ فهم بدورهم سلّموا مصائرهم للعسكر، كان الخوف أكبر من أن ينكروه والتهديد بالذبح أعظم من أن يتغاضوا عنه؛ فسلّموا مستقبلهم ومستقبل أطفالهم للنجوم المرفوعة على الأكتاف. وأيضا ضيّعوا الفرصة التي جاءتهم لارتكاب فعل السياسة المكروه، ما أن شعروا بأنهم موضوعون في “الحسابات” حتى ارتعبوا وذهبوا إلى أقصى الاعتزال، اعتزال المستقبل وليس اعتزال مهنة الموالاة.
ربما سيتعلّم السوريون في نهاية المطاف أن لا أحد يبقى للأبد مشغولاً عن مصيره، لا أحد ينخطف إلى هذا الحد وينأى بروحه عن ترتيباتها، ربما سيقدّرون معنى الحوار والاختلاف، معنى الحقوق والواجبات. رغم أن لا شيء يوحي بذلك حتى الآن، إلا أنهم وإن تعلموها فسيكون بالثمن الأغلى في التاريخ.
بواسطة Ammar Diob | أبريل 23, 2018 | Reports, غير مصنف
انطلقت الثورة السورية، ولم تكن “الجيوش الإسلامية” قد ظهرت بعد. رافق انطلاقتها، أشكال تنظيمية لضبط حراكها المتوسع تباعاً، كالتنسيقيات، ولاحقاً المجالس المحلية، وكذلك كتائب صغيرة للجيش الحر؛ الأخيرة كانت إمّا من ضباط وجنود منشقين، أو كانت مجموعات شعبية مسلحة. تصاعد الكلام عن التيار السلفي والجهادي والمعتدل، وتنويعاته مع إطلاق أفراد بعض هذه التيارات من معتقلات النظام السوري وسجونه في حزيران 2011، ولاحقاً عبر العراق، وبوابة تركيا وقدوم آلاف الجهاديين من كل العالم.
الثورة التي امتدت في كل سورية، أخافت النظام، ولم تتمكن كل خبراته الأمنية والعسكرية، ولا سيما في ثمانينات القرن الماضي أو في لبنان، من مواجهتها؛ فكانت محاولة تلغيمها بالتنظيمات السلفية والجهادية من ناحية، واستجلاب كل الدعم الإيراني وميليشياته العربية وغير العربية، ولاحقاً التدخل العسكري الروسي في 2015.
الإسلاميون قادمون
في حزيران 2011، أطلق النظام أكثر من 1500 سلفي وجهادي، ولم تنته أكثر من أربعة أشهر، إلا وأعلنت الحركات الجهادية والسلفية عن وجودها، كجيش الإسلام وأحرار الشام ومجموعات أخرى مرتبطة بالإخوان المسلمين؛ تشكلت هذه المجموعات ولم تنخرط ضمن كتائب الجيش الحر.
يمكن أن نلاحظ هنا، أن الثورة اعتمدت، كأشكال للتعبير عنها، المظاهرات والاحتجاجات الشعبية العارمة، وبما ينظِّم هذا الحراك ويحميه من القتل. الإسلاميون على اختلاف حركاتهم، لم يشاركوا بهذا التعبير، واعتمدوا النهج العسكري والتنظيمي الحديدي، واستقدام الدعم الخارجي بكل أشكاله، وبالتالي هناك اختلاف كامل بين مشروع الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكافة السوريين، وبين مشروع الجهاديين والسلفيين في أسلمة الثورة والوصول للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية والارتباط مع التنظيمات الجهادية العالمية كحال تنظيم “داعش والنصرة”، وهناك مجموعات صغيرة لا تخرج عن التوجه ذاته، أي إسلامية.
زهران يجادل
يعتبر جيش الإسلام الأكثر “محليةً” و “سوريةً”، وقد دافع زهران علوش طويلاً عن جيشه ضد اتهامات جبهة النصرة والجولاني والبغدادي الذين قالوا عنه بأنّه وطني، ويحافظ على سايكس بيكو، بينما هم أمميّون وليس من وطن لهم! مشكلة زهران وبقية قادة جيش الإسلام، تكمن في أنهم ندّدوا بمفاهيم الديمقراطية والحرية، واعتبرها زهران علوش تعبيراً عن حكم القوي وكفراً، وأن سورية مكونة من طائفة كبيرة وهي السنة ومذاهب صغيرة ويجب محاربتها ويجب أن تنصاع للأكثرية الدينية.
أريد القول إن قادة التيارات السلفية والجهادية لم تعترف بالثورة الشعبية، ورأت ما يحدث في سورية كما رآه النظام ؛ أي إمارات سلفية وجهادية، وحرب سنية ضد “تحالف الأقليات” كما أشار في إعلامه ونقاده. التوافق السابق بين النظام والإسلاميين هو ما دفع كثيرين للاستنتاج أن النظام أخرجهم من معتقلاته لتخريب الثورة وأن الإخوان أيضاً تبنوا الرؤية ذاتها وساهموا بقسطهم في تخريبها، وهذا صحيح.
بدايات جيش الإسلام
سيكون موضوع مقالي هذا هو جيش الإسلام، وسنركز على صعوده وسقوطه في أيامنا هذه، أي نيسان 2018، تاريخ تهجيره من منطقته “دوما” التي انطلق منها عام 2011 وتوسع في كل سوريا؛ ثم مع تتالي الفشل للحركات الإسلامية والثورية قبلها، تقوقع فيها ليكون سلطة على أهل دوما فقط! ثم تمّ تهجيره منها، وبالتالي سقطت سلطته بالكامل وكل مشروعه الإسلامي الحنبلي. زعيم جيش الإسلام زهران علوش، كان طموحه أن يكون أحد أقوى زعماء سورية، ولا سيما بعد جولته كزعيمٍ مكرّس إلى كل من تركيا والسعودية ودول أخرى في 2015، ومقتله لاحقاً مع زملاء له في قيادة جيش الإسلام في 2015 بغارة روسية، وربما كان الأمر لإنهاء طموحه وطموح جيش الإسلام والداعمين له في منطقةٍ تسيّج العاصمة وفرض شروطهم على النظام وعلى السوريين.
اعتُقِل زهران علوش 2009 بسبب نشاطاته الدعوية السلفية والنشاط السياسي حينذاك، وبسبب تفاهمات أمنية بين النظام والمحيط الإقليمي وأمريكا لإنهاء هذا النشاط؛ فهو رجل دين ولديه طموح سياسي، ويفهم العالم وفقاً لهذه المرجعية، ويعمل في السياسة وفقها. والده عبد الله علوش أحد مشايخ مدينة دوما، وتتلمذ على يديه، وكذلك تتلمذ على يد أبرز رجال الدين السعوديين الوهابيين كابن باز وسواه. والد زهران، وسكان منطقة دوما، يدينون بالمذهب الحنبلي، وتعد دوما والرحيبة، من أكثر المناطق التي ينتشر فيها هذا المذهب، بينما بقية سُنّة سورية تنقسم بين الشافعية والحنفية.
في بلدات الغوطة ينتشر، كما في كل سورية، الوعي المناطقي والعائلي، ولو أضفنا المذهب الديني المختلف، فسيكون لدينا خلاف متعدد الأسباب، وهذا إشكال آخر سيتعمق تدريجياً مع تطوّر الثورة واستيلاء السلفيين والجهاديين على أغلبيَّة حراكها، وتحوله إلى حراك عسكري كامل. إشكال ثالث أن الثورة ذاتها لم تطرح رؤية وبرنامجاً وقيادة لها، فكان التعدد والفوضى في أشكالها السياسية والعسكرية والإغاثية والتعليمية ثغرةً وأزمة كبرى تدخلت من خلالها التنظيمات الإسلامية وفرضت سيطرتها التدريجية، ولا سيما مع 2013، وبالتالي أصبحت تفرض سلطة كاملة على الثورة في الغوطة وفي أغلبية مدن سورية.
الأشكال التنظيمية لجيش الإسلام
لننظر في رؤية السيد زهران، باعتباره مؤسس جيش الإسلام، وزعيمه إلى لحظة مقتله 2015. شكّل السيد زهران مع رفاقه السلفيين “سرية الإسلام” في أيلول 2011. ثم ومع اشتداد عنف النظام، وتبيّن محدودية رؤية وقوة كتائب الجيش الحر في إلحاق الهزيمة بالنظام، رغم تحريرها لأغلب مناطق سورية من سيطرته، وطرده خارجها وخارج الغوطة بنهاية 2012، وهناك الدعم الواسع لزهران إقليمياً، وانتقال كتائب إليه، شكّل “لواء الإسلام” في 2012. وحينما اشتد عوده، وانضمت إليه كتائب كثيرة “64، وبعضهم يقول 55 كتيبة ولواء”، شكّل “جيش الإسلام” 2013، وبعدها أصبح جيش الإسلام سلطة كاملة في دوما خاصةً، وأصبحت له كتائب في كل سورية تقريباً.
تتألف البنية التنظيمية لجيش زهران من 26 مكتباً إدارياً، وهي لا علاقة لها بالمجال العسكري، بل تهتم بمختلف شؤون الحياة اليومية، من صحة وتعليم وخدمات وإغاثة وسواها. وقد حلًت هذه المكاتب بالتدريج مكان المنظمات المدنية المرتبطة ببداية الثورة، وكل من رفض الانصياع تم التضييق عليه وملاحقته. إذاً جيش الإسلام، ولا سيما في دوما، فرض سيطرة على كافة الفصائل وحلّها بالقوة، وبنى شبكة أمنية واسعة، وهناك من يتكلم عن 21 فرعاً أمنياً يتبع له. أيضاً شكّل مرجعية شرعية خاصة به، ولديه ثلاثة سجون “التوبة، والباطون والكهف” وهي غير مقرّات الاعتقال. زهران علوش كرجل دين سلفي، فهو لا يمكن أن يقرّ لرجل دين آخر بالزعامة السياسية والعسكرية، فكيف للسياسيين من غير الإسلاميين؟ هذا الرجل وباعتباره ينتمي إلى عائلة كبيرة، استطاع مع بعض العائلات الدومانية الكبرى تشكيل سلطة شمولية، وفرض آلياتها على دوما بأكملها، وأجبرت الفصائل على حلِّ نفسها، ولاحقت أقوى الفصائل “كفصيل شهداء دوما” وأعدمت قائده أبو علي خبية وهو من حرّر كلَّ دوما وأخرج النظام منها. وبذلك تشكلت “دويلة زهران علوش” حيث يسود الإسلام في ربوعها.
سياسات جيش الإسلام
أراد زهران أن يفرض سلطة كاملة ليس على دوما بل وعلى كل الغوطة، وكذلك رغب أن يكون أبرز زعماء سورية، وهناك من يقول إنه حلم بأن يكون رئيساً على سورية. زهران هذا خطط لمستقبله ولفرض سيطرته منذ أن أنشأ “سرية الإسلام”، وبالتالي كل التطورات اللاحقة، من محاربته لداعش وإعدام بعض أفرادها، ثم رفض الاعتراف بالمجلس الوطني والائتلاف لاحقاً، وكذلك رفض المجلس العسكري في ريف دمشق وهيئة الأركان وسواها، وأيضاً حروبه المتتالية مع فصائل الغوطة، ولا سيما جبهة النصرة وفيلق الرحمن، خاصة في 2016.
خفت توهّج جيش الإسلام بعد مقتل زعيمه 2015، واستلام عصام البويضاني “أبو همام” زعامته. وإذا كان زهران يرفض دوراً محدوداً في السياسة المؤثرة في المعارضة، فإن قيادة جيش الإسلام الجديدة وافقت على مفاوضات جنيف والأستانة وبدأت تتدجّن ضمن التوافقات الإقليمية والدولية، ولإنقاذ أنفسها وجيشها وأن يكون لها حصص في أي نظام سياسي قادم. طموحهم الأخير هذا انبنى على أوهام ساقتها روسيا لقيادة جيش الإسلام ولحركات مسلحة كثيرة، ضمن صفقات لقاءات الأستانة خاصة وجنيف كذلك. وكذلك بسبب التقارب بين السعودية وتركيا وروسيا من ناحية أخرى، وباعتبار جيش الإسلام ممولاً من السعودية بشكل كبير. طبعاً زهران نفسه غيّر من سياساته، أي اعتراف للشعب بدوره في تقرير مستقبله، وخفف من الكلام عن الرافضة، واعتبر العلويين، بعد تكفيرهم، جزءاً من الشعب السوري، وأصبح أقرب للسياسة المناهضة لداعش ولجبهة النصرة. إذاً جيش الإسلام حركة عسكرية وسياسية ودينية براغماتية “وطنية” وليس لها أهداف أكبر من سورية كحال التنظيمات الجهادية والسلفية، وهذا ما دفع البعض ليصفه بالسلفية الشامية، أي أن حدود نشاطه هي سورية؛ ومناهضته لداعش وللنصرة تأتي في سياق الحرب على الإرهاب كما تعلنها أمريكا وروسيا. السيء أن بضاعته هذه لم تشتريها الدولتان العظميان.
اقتتال سلفيي وجهاديي الغوطة
إشكالية هذا الجيش أنّه رفض تشكيل قيادة موحدة للغوطة أو لسورية، وأراد الاستئثار بكل أشكال السلطة والحياة في مناطق سيطرته كما أوضحنا أعلاه؛ فقد سيطر عسكرياً واقتصادياً ومدنياً. عدم قدرته على تشكيل قيادة موحدة للغوطة كرّس الانقسامات المحلية القديمة، وأصبحت الغوطة قطاعات عسكرية مقسمة بين هذه الفصائل داخلياً، والنظام يحيط بها من الخارج، أي أن جيش الإسلام في دوما، وأحرار الشام في حرستا، وفيلق الرحمن في مناطق أخرى. سياسات الاستئثار أجبرت فصائل كثيرة على التوافق مع الفيلق خوفاً من الاجتثاث، واضطر الفيلق للتحالف مع جبهة فتح الشام “النصرة سابقا”. إن تكريس هذه الإقطاعات ظهر مع فشل القيادة الموحدة المُشكّل في 2014، وظهر ذلك للعلن 2015، ويشار أن فشلها كان بسبب الخلافات السعودية القطرية وانعكاس ذلك على الفصائل المدعومة من قبلها، وبالتالي الانقسام مجدداً والاقتتال، وكذلك مع فشل مجلس القضاء الموحد في 2015. في 2016 حدثت أكبر عملية اقتتال بين جيش الإسلام من ناحية وبقية فصائل الغوطة من ناحية أخرى، وراح بسببها قرابة ألف مقاتل! وحينها تقدم النظام إلى جنوب الغوطة، أي منطقة المرج، والتي توصف بسلّة الغوطة الغذائية، واحتلها بالكامل. أي أن الخلافات داخل الغوطة والاقتتال الذي فتك بأكثر مما خسرته الغوطة مجتمعة في حروبها مع النظام سمح للأخير باحتلال قسم كبير من الغوطة، وتأمين طريق المطار وإحكام السيطرة عليها وحصار أهلها.
النظام الذي ضَعفَ جيشه وتفكك وطالب بتدخل عسكري روسي 2015 عبر إيران، أعطاه جيش الإسلام والفصائل الأخرى منطقة واسعة من الغوطة هدية مجانية، وضحت بقرابة ألف مقاتل ثمناً لتلك الهدية.
انتقادات لجيش الإسلام
هناك انتقادات تُوجّه لجيش الإسلام، ونوضح هنا أنّه لم يعد يفيد الاكتفاء بتركيز النقد على دور النظام في قمع الثورة. فهناك مشكلات خاصة بالمعارضة من ناحية، وكبرى بما يخص التيار الإسلامي بكل تلويناته، وضمنها الإخوان المسلمون. جيش الإسلام هذا وغير ما ذكرنا أعلاه، هو متهم بالتخاذل عن معارك كثيرة؛ فلم يشارك بمعارك القلمون، وحتى معركة عدرا العمالية، الخاطئة كلية، اكتفى بإمداد الطعام للمقاتلين. هناك كذلك استيلاؤه على عتاد عسكري كثير كان هو مسؤولاً عن وصوله إلى الغوطة من إدلب في 2015، وهناك اتهامات بالفساد ومصادرة ملايين الدولارات لصالحه، وهي مُرسلة إلى كل فصائل الغوطة، وأيضاً يُتهم بسيطرته على أنفاق كثيرة مع النظام، واحتكاره المواد الغذائية والأدوية وسواها، وجنيه ملايين الدولارات بسببه وعلى حساب إفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم. حدثت الكثير من المظاهرات ضد نظام جيش الإسلام الشمولي، وكانت بسبب الجوع، أو مظاهرات سياسية للإفراج عن المعتقلين، أو لإيقاف الحروب الداخلية في الغوطة.
سميرة ورزان وناظم ووائل
هناك قضية خطيرة، وتخص كل ناشطي الثورة السورية، وهي اختطاف الناشطين الأربعة في دوما، رزان زيتونة وسميرة خليل وناظم حمادي ووائل حمادة، ويتهم جيش الإسلام فيها. وتعد تلك القضية من مسؤولية ذلك الجيش فهو المسيطر على دوما، ولو لم يكن مسؤولاً، فبالتأكيد هو قادر على معرفة المسؤولين عنها، وإظهار مصير الأربعة المستجيرين بدوما، والملاحقين من النظام.
تخريب الثورة وسقوط جيش الإسلام
يتحمل جيش الإسلام مسؤوليات كبيرة؛ وإذا كان النظام أراد تخريب الثورة عبر إطلاق زعماء إسلاميين من سجونه، فإن سياسات جيش الإسلام كلها لعبت دوراً في تخريب الثورة وتسهيل مهمة هزيمتها، بهزيمة كل مؤسساتها المدنية والشعبية واحتكارها لصالحه. هذا الجيش بنى سلطة شمولية وقمعية وتوازي سلطة النظام ذاته؛ فعل كما فعلت جبهة النصرة في إدلب، والبغدادي في الرقة، من إذلال وتجويع للسكان. أصحاب المشروع الإسلامي لم يتعلموا الدرس الحداثي بامتياز، أي التآلف مع العصر وإنتاج إسلام سياسي يتوافق مع الديمقراطية والأغلبية والأقلية بالمعنى السياسي، وتحييد الدين عن أن يكون مرجعية لشؤون الدنيا والاكتفاء بما يخص الروحي والإلهي.
تجربة الحركة الإسلامية السورية، بتعدديتها، وبدءاً بالإخوان المسلمين، كان فيها براغماتية كبيرة وغش للحركة السياسية السورية العلمانية، وللشعب الثائر، عبر تخريبها لكل مؤسسات الثورة وإفشالها. وبخصوص التديّن والتطييف لم يقدموا مشروعاً سياسياً موحداً بالمعنى الديني أو الطائفي، وبالتالي خرّبوا حتّى الإسلام الشعبي، وعمقوا التمايزات المحلية القديمة من مناطقية وعشائرية وعائلية ودينية، واستندوا إليها كحال جيش الإسلام وسواه.
جيش الإسلام، ورغم طموحاته الكبيرة، لعب دوراً كبيراً في تخريب الثورة، ولم يعترف بأهدافها، ولم يستطع إنجاز مشروع إسلامي، وكان سبباً في هزيمتها، وحتى هزيمة المشروع الإسلامي في سورية. الآن تخرج قياداته بسيارات دفعٍ رباعي، أي حتى وهم يغادرون مدينتهم المدمرة، يمايزون أنفسهم عن الشعب، وربما يخافون أن يُقتلوا في باصات النظام التي ينقلون فيها مع سكان دوما المهجرين.
جيش الإسلام، يمثّل حركة فاشلة منذ بدايته؛ فكل خططه القائمة على الاحتكار والأسلمة والسلطة الشمولية منافية لقيم الحرية والكرامة والعدالة. أي منافية لمفاهيم العصر والاعتراف للشعب بحقوقه ودوره في تقرير شؤونه ومستقبله. ليس جيش الإسلام وحيداً في مفارقته للعصر، فمثله كل حركات الإسلام السياسي في سورية. الأسوأ أن المعارضة ذاتها تعاني من مشكلات تشبه مشكلات الإسلاميين، وإلا فما هي شرعية تزعمها للثورة، وهي لا تمثل إلا نفسها، وهذا حديث آخر ويتطلب بحثاً آخر.
بواسطة Ghaida Al Oudat | أبريل 12, 2018 | Reports, غير مصنف
يتداول السوريون توصيف ما كان عليه حال المرأة، يروون أنها كانت فقط منجبة ومربية، ومطيعة لها فم يأكل وليس لها فم يحكي، يتجاهلون كل المهام التي قامت بها يوماً إن كانت لا توافق ما يرونه مناسباً لها، يتمنون أن تكون حالها اليوم كرواياتهم عن الأمس، ويتناسون عمداً أو عن جهل أن يذكروا ويتذكروا ما كانت عليه خاصة في المجتمعات الريفية قبل ثمانينات القرن الماضي، ربما لا أستطيع الجزم بتشابه المجتمع السوري الريفي بالمطلق، لكنني على الأقل أحمل ذاكرة من سهل حوران، من الجنوب السوري، عن بساطته وفطرته السليمة، عن نسائه ورجاله وأطفاله وتفاصيل حياتهم اليومية.
كانت الحياة في الستينات والسبعينات في حوران بسيطة كأهلها، نقية صافية كقلوبهم، حياة يجهلها جيل ما بعد حقبة الثمانينات، فيحكي عنها قصص وروايات مختلفة عن حقيقتها، ويجهل ما كانت ماهية علاقات الناس فيها، لا يدري شيئاً عن دور المرأة الأم والزوجة والأخت حينها، ولا ما كانت عليه العلاقات بين الذكور والإناث، ولا دور النساء المؤثر والفعّال في حياة الأسرة الاقتصادية والاجتماعية، حين أسمعهم أظنهم يتحدثون عن مجتمع غريب عنّي، ربما لأنهم نشأوا على علاقات وعادات وسلوكيات قد تم نقلها من مجتمعات الاغتراب الخليجية التي عمل فيها السوريون وتأثروا بها، ثقافة غريبة شوهت شكل علاقات المجتمع وغيرت عاداته وأساءت لمكانة المرأة فيه.
يرغمني ما أسمع دوماً على العودة لذاكرتي واسترجاعها لأرويها حيثما استطعت، ذاكرتي المحمّلة بالتفاصيل والكثير من الحب، أرويها كشهادة حية لطفلة عاشت في قريتها البعيدة عن مدينة درعا مسافة خمسة كيلومترات، أتحدث عمّا رأت عيني وما سمعت أذني وما سجلت ذاكرتي، عن مجتمع كادت النساء فيه أن تكن شريكات حقيقيات، يعملن يداً بيد مع الرجل، يزرعن ويحصدن كما يزرع ويحصد، يرعين الأسرة ويمسكن زمام أمورها المالية، يدلين برأيهن فيما يخص أسرهن دون خوف، وغالباً ما تتم إطاعتهن.
لهن رأيهن في البيع والشراء، الزواج والطلاق، مستقبل الأبناء والبنات، والأجمل أنهن كن يحببن ويعشن تجاربهن كأي إنسان يمارس إنسانيته دون خوف، يستمتعن بالاحتفالات، يتزوجن عن حب ويطلّقن عن إرادة، لا يسامحن على خيانة ولا يهادنّ على كرامة، للنساء صدر البيت وأمّا بوابته فبين يديهن، يستقبلن عابر السبيل والضيف ويقمن بواجب الضيافة، لا يضير امرأة وجود الرجل بالبيت من عدمه، فهي تقوم بما توجبه عادات وتقاليد الاستضافة، وتقدم ما يليق بحسن الضيافة. شاركت النساء بإقامة الأعراس مع الرجال سواسية، بدءاً من تحضير الطعام وانتهاء بالرقص الشعبي الذي كان يقوم على وجود الرجل والمرأة بالتبادل ويداً بيد، كم كانت تفتنني رقصة النساء أمام الرجال عندما يؤدين الجوفية، وهي واحدة من الدبكات الشعبية المتوارثة، تماماً كما كانت تأخذ عقلي كلماتهن التي يرددنها وراء الجنازة عندما كن يخرجن فيها مع الرجال، قبل أن يتم منعهن لاحقاً.
لم تكن تلك الممارسات الاجتماعية في طقوس الفرح والحزن عيباً، كما لم يكن حديث النساء المازح والضاحك مع الرجال عاراً. علاقاتهم طيبة وبسيطة، مبنية على فطرة إنسانية سليمة لا على قاعدة نقصان ولا على قاعدة خبث، علاقات جميلة مع الأقارب والجيران لا تضع المرأة في خانة الاتهام ولا تعرضها للّعن والرجم، ولا تُعزل عن مجتمع الرجال رعباً من سلوك منحرف لم يكن يدور بخلد أحدهم حتى الشك بوجوده. قد شهدت هذا كله في دور عديدة وأعراس كثيرة، وفي مضافات جمعتهم سوية ومصاطب صيفية سهروا معاً عليها.
في قريتي وأنا بعد طفلة صغيرة سمعت عن قصص الحب دون أن تكون وصمة عار يستهجنها ويستنكرها المجتمع، كانوا يفهمون الحياة كقرابة وصداقة وجيرة وحب، ويمارسون علاقاتهم الاجتماعية الإنسانية كما يليق ببشر أنقياء، هناك لم ألحظ فرقاً بين ذكر وأنثى، فصوتها ليس عاراً، ورأيها ليس ناقصاً، واستشارتها ليست نقصاناً في كرامة الرجل وهيبته، لعل أكثر من أفتخر بها في قريتي هي عمتي الجميلة التي كانت في 1966 ملكة جمال القمح، تزوجت بإرادة حرّة، وأنجبت وعملت يداً بيد مع زوجها لتبني مستقبل أسرتها وأبنائها، كان بيتها مضيافاً تستقبل به ( خلق الله) كما تقول، لم يمس كرامتها يوماً رجل لأنها تعتبر نفسها نداً للرجال، ولم يستنكر أحدهم طريقتها في التعامل مع الجميع بنديّة دون أن يخالجها شعور أنها أضعف أوأدنى مرتبة لأنها أنثى، عمتي جميلة الروح والعقل من يقولون عنها أخت الرجال، وأنا أقول شرف للرجال أن يكونوا إخوتها .
أما جدتي فحكاية تُروى، لا زلت أراها في الذاكرة وهي تلف السجائر وتضعها في علبة معدنية أحتفظ بها، تدخن وتصنع القهوة العربية بإتقان، كأنّي أرى وأسمع الآن، المحماس على النار تحمّص قهوتها وتنعشني رائحتها، ودقة مهباجها يطحن القهوة تُطربني موسيقاه، تجلس في مضافتها مع جدي جنباً إلى جنب، يستقبلون الأسر الصديقة والقريبة والغريبة، يتسامرون ويضحكون تحت نور “اللوكس” في زمن كانت فيه الكهرباء لم تدخل بعد إلى القرية لكن قلوب أهلها كانت كافية لتنير العالم.
كل الثقافة المجتمعية والعادات التي كانت سائدة وأنا طفلة تغيرت وتلوثت، وتم صنع بديل مشوه لها ليحل مكانها، ربما هي لعنة الغربة بحثاً عن الرزق، الغربة التي التزم فيها أبناؤنا بعادات وتقاليد المجتمعات الخليجية التي عملوا بها، فاختلط عليهم الأمر حتى ظنوا الثقافة والعادات المكتسبة أصيلة ووضعوا الثقافة والعادات الأصيلة في طي النسيان، أو ربما هي لعنة الاستبداد الذي أجبر السوري على الرحيل عن أرضه وأمعن في تجهيل من بقي ضماناً لسلطته، لعنتان تضافرتا فذهبتا بعلاقات المجتمع وشكله أدراج الرياح ليغدو مجتمعاً غريباً ومختلفاً لا يشبهنا، بدءاً من أزيائه وانتهاء بشكل العلاقات والسلوك والعادات المختلفة جذرياً.
قبل نكسة المجتمع تلك كانت المدارس مختلطة، وبقيت لسنوات دون أن يسجل فيها أي حادثة مخلة بالأخلاق وأدب التعامل، ولم يمنع الأهل بناتهن من الذهاب إليها خشية عليهن من الصبيان، لأنهم جميعاً تعودوا أن يتعاملوا بطبيعية وفطرة نقية لم يلوثها الشك والغيرة المريضة.
لم يكن من الممكن تمييز دين النساء من زيهن، فالزي الشعبي للنساء في حوران ابن المنطقة والتاريخ، العصبة التي تغطي الرأس، والشنبر الذي يغطي الرقبة، والشرش الطويل، لا يدلّون على دين يفرض الستر كما يظن البعض، إنه زيّ موغل في القِدَم تشترك فيه كل نساء حوران، وعندما بدأ بالانحسار ارتدت الصبايا أزياء وفق الموضة الدارجة حين تخلين عن زيهن الموروث، وكل ما درج لاحقاً من أزياء كانت لا تشبه تراث حوران.
ورغم كل هذا التحوّل المجتمعي والفكري، أصرّت النساء على التمسك بمكانتهن والحفاظ عليها، تمسّكن بالعمل خارج المنزل إن سنحت لهن فرصة، وشاركن في إدارة اقتصاده سوية مع الرجل، ولم يتنازلن عن حقهن بإبداء الرأي والنقاش في قضايا مهمة تخص الأسرة رغم عواقب التحدّي، لم يستسلمن بسهولة ولم يتنازلن عن مكانتهن كما كان مطلوباً منهن، ولكنهن بالتأكيد لم يستطعن الوصول لكل ما يسعين له، فلقد تغير نمط تفكير المجتمع وأصبحت القيود الموضوعة عليهن تزداد يوماً بعد يوم، وباتت معركتهن الحفاظ على ما كانت تملكه الجدّات بدلاً من الوصول لمكاسب أكثر وأكبر.
هل يعي جيل اليوم ما كانت عليه أمهاته وأخواته ما قبل عملية التحول، أم أن ذاكرته الممسوحة والمشوهة عنهن تصرّ أن المرأة منذ الأزل في مرتبة دونية ناقصة دوماً درجات عن مرتبة الرجل، هل بهذه السهولة تُمحى الذواكر ويحل بدلاً منها ذواكر مصطنعة للتاريخ تلغي ما قبلها جذرياً.
ربما هذا ما سهّل بعد أشهر قليلة من بدء الحراك تهميش النساء، فصلوهن عن الرجال في التظاهرات، حرّموا عليهن القيام بأعمال عديدة بدعوى الخوف عليهن، عزلوهن باعتبارهن عورة صوتاً وجسداً، حصروهن بأعمال نمطية قرروا أنها تليق بالنساء كضعيفات ناقصات، وضعوا لهن تقاليد لباس وفق مواصفات جديدة شديدة بحجة سترهن والستر عليهن، هددوهن بالقضاء الشرعي إن رفضن الامتثال لها، أرغموهن على التزام المنازل في حال لم تعجبهن القوانين والقواعد الجديدة، فهل يعقل أن يكون كل هذا تحت راية الحرية والكرامة والعدالة؟ أية حرية تلك التي تعيق نصف طلّابها وتشل حركتهن وتنهي فعاليتهن تحت أي مسمى كان؟
في أعياد آذار، أعياد النساء، لا ربيع للنساء المكبلات يبشرهن بالخير، ولا حرية ترتجى لمجتمع مشلول نصفه يضيّق حرياتهن في طريقه للحرية. أي حرية تلك التي تجعل من مكانة أحفاد جدتي وعمتي مكانة ضئيلة تضيق مساحتها حتى تكاد تخنقهن، وأي مستقبل لهن وقد أصبحن أقل شأناً ومكانة من جداتهن وأمهاتهن.
لعلنا نحتاج أن نغسل ذاكرتنا وذاكرة أبنائنا من الشوائب لنعي من نحن ونصحح المسار، نحن السوريات الصالحات لنكون قائدات للتغيير، السوريات اللواتي تجاوزت جداتهن وأمهاتهن محظورات تُفرض عليهن اليوم، سوريات يبنين على ماضي جداتهن وأمهاتهن المشرّف ليحققن ما لم يستطعن تحقيقه، خير خلف لخير سلف، يبنين مستقبلاً تكتمل فيه مواطنتهن وينلن حقوقهن كاملة غير منقوصة ولا مشوهة على صعيد الأسرة والمجتمع والدولة.
بواسطة Hamad Al-Mahameed | أبريل 12, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
دمشق
في ساعات الصباح الأولى، كان العشرات متجمهرين أمام إحدى الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرة الحكومة بريف العاصمة دمشق، ينتظرون على أحر من الجمر تسلم «السلة الغذائيّة» (الإعانة). لكن نبأ إطالة فترة تسليمها لشهر إضافي وقع كالصاعقة على الكثير منهم، لأن ذلك سيزيد من طين معاناتهم المعيشية “بلة” في ظل الفقر المدقع الذي باتت أغلب الأسر تعاني منه بسبب الحرب المستمرة في البلاد. ردود فعل المتجمعين على ما أفادهم به أحد موظفي الجمعية، بأن تسليم “السلة الغذائية” بات مرة واحدة كل ثلاثة أشهر بسبب العجز المالي لدى “برنامج الغذاء العالمي”، تنوعت وعسكت مدى التأثيرات السلبية التي ستترتب على كل عائلة من جراء ذلك القرار.
عوز ولطم
امراة بدت في العقد الخامس من العمر وترتدي ثوباً رثاً وحذاء ممزقاً، وبينما لم يكد الموظف إنهاء كلامه، لطمت بكفيها على خديها، وصاحت بصوت عال مع محاولات لحبس دموعها: “منين بدنا نوكل (نأكل)”، على حين بادرت أخرى تقف إلى جانبها للتخفيف عنها، وأوضحت أنها “نازحة من جنوب البلاد ولديها خمسة أطفال ولا معيل لهم بعد أن قضى زوجها خلال الحرب.”
أكثر تماسكا، كان عجوز يجلس على الرصيف بمحاذاة باب الجميعة بسبب عدم قدرته على الوقوف واكتفى بالتعليق على الأمر بترديد عبارة: “حسبي الله ونعم الوكيل… إلنا الله” لعدة مرات.
ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضروات ومختلف الحاجات المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجيا ، ووصلت الى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (الدولار الأميركي يساوي حاليا نحو ٤٥٠ ليرة)، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز ٥٠ ليرة.
وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، فالموظف الذي كان مرتبه ٣٠ ألف ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل ٦٠٠ دولار، أصبح مرتبه اليوم يساوي أقل من ٧٥ دولاراً، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حاليا إلى 800 دولار شهريا لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.
وكشفت دراسة أعدها في مايو (أيار) ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧.٤ في المئة، وفقا لمعيار البنك الدولي.
ووفق مكتب التنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، في سورية ٧.٥ مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.
من جانبه، أكد “برنامج الغذاء العالمي” مؤخرا، أن ١٣.١ مليون سوري في حاجة للمساعدات الإنسانية، وأن ٦.٥ مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي وتوقع ارتفاع هذا الرقم مع استمرار الصراع لـ١٠ ملايين شخص وهو تقريباً ضعف عدد الأشخاص المحتاجين للغذاء في العام الماضي.
ومع تردي الوضع المعيشي للسوريين، أطلقت جمعيات خيرية في السنة الثانية للحرب مشروعاً لتوزيع “سلل غذائية”، وغالباً يكون مصدر تلك السلل”برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للصليب الأحمر، وجمعيات خيرية. كما تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة أيضاً للأمم المتحدة، بتوزيع سلل غذائية على اللاجئين الفلسطينيين.
وبعد أن كان يتم توزيع السلال الغذائية مرة واحدة كل شهرين على كل عائلة، بات توزيعها منذ مطلع العام الجاري مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.
وتحتوي السلة الواحدة على مواد أساسية قابلة للتخزين ولا تحتاج إلى التبريد لضمان إمكان حفظها لأطول فترة ممكنة. وفي كل سلة، فول (٦ – ١٢ علبة) وعدس حب (٣ – ٥ كلغ) وبرغل (٢ – ٤ كلغ) وأرز (١٠ كلغ) ومعكرونة (١ – ٥ كلغ) وزيت نباتي (٥ – ٦ ليتر) وسكر (٢ – ٥ كلغ) وملح (١ كلغ) وحمص حب (٢ – ٤ كلغ) وطحين ( ٥/٧ كلغ). كما يتم أحياناً، توزيع أدوات مطبخ ومنظفات وفرش وأغطية إضافة الى السلة الغذائية.
مصدر رئيسي للعيش
في ظل تراجع الوضع المعيشي بشكل عام، باتت أغلب الأسر السورية في داخل البلاد وخصوصا النازحة تعتمد بشكل رئيس على محتويات السلة الغذائية، التي “تكاد لا تكفي لسد رمق أفردها”، بحسب ما يقول أب لأربعة أطفال، ويوضح أن مرتبه يكفي فقط لدفع بدل إيجار الشقة الشهري وثمن الخبر، ويعتبر أن إطالة فترة تسليم هذه السلة سيتسبب بمشكلة له في كيفية “تأمين معيشة” أفراد عائلته و”لو على الكفاف” في الشهر الإضافي.
وأعلنت الأمم المتحدة في ابريل (نيسان) الجاري، أنه وبحلول يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد من يتلقون مساعدات “برنامج الأغذية العالمي” ثلاثة ملايين سوري، بعد أن كان أربعة ملايين في أغسطس (أب) الماضي، وذلك بسبب نقص التمويل، من دون أن توضح إن كان هذا الرقم يشمل اللاجئين السوريين في دول الجوار أم لا.
وبحسب المنظمة يحتاج البرنامج إلى ١٥٩ مليون دولار للحفاظ على تشغيل عملياته، حتى بنسب منخفضة، إلى شهر يوليه (تموز) المقبل.
محسوبيات
تشترط الحكومة السورية على المنظمات الدولية، أن تتم عملية الإغاثة بالتنسيق معها، وتمنع أي منظمة دولية تُعنى بالإغاثة من العمل على الأراضي السورية من دون موافقتها. كما تحصر عملية تمويل المساعدات وتسليمها في جمعيات خيرية سورية مرخصة بقائمة أشرفت على وضعها وزارة الخارجية. كما تشترط أن تتم عملية توزيع المساعدات من المنظمات الدولية بالتنسيق معها، عبر “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري.”
ويتم تسجيل أسماء العائلات المحتاجة لدى مخاتير الأحياء أو مراكز التوزيع، التي غالباً ما تقوم عليها شخصيات من الأحياء ذاتها بموجب البطاقات العائلية.
وبحسب النشرات المرفقة مع “السلة الغذائية” والإعلانات الملصقة في مراكز التوزيع، فإن من يحق لهم التسجيل للحصول على “السلة الغذائية” هم العائلات النازحة، والعائلات الفقيرة جدا، والعائلات التي فقدت المعيل على أن تقدم تلك العائلات أوراق تثبت ذلك.
وتقول ربة منزل، وهي أم لثلاث فتيات، ونزحت من منزلها في ريف دمشق إلى إحدى ضواحي دمشق الآمنة: أنه “رغم أن شروط الاستحقاق تنطبق على عائلتي، فإنني لم أتمكن من التسجيل، إلا بشق النفس، بسبب المماطلة وحجج القائمين على مراكز التوزي”، في حين يؤكد أب لطفلين وعاطل عن العمل بسبب قلة فرص العمل في البلاد، أنه “لم يتمكن حتى الآن من التسجيل بسبب المحسوبيات المتبعة من المسؤولين” في المراكز ويضيف: “العملية إذلال بإذلال.”
مكافأة للموالين
والمفارقة بحسب تأكيد العديد من الأهالي، أن من يأخذون “المعونة” معظهم من أهالي الأحياء الأصليين على رغم أنهم يسكنون في بيوتهم، كما يحصل في أحياء معينة في العاصمة.
كما تشاهد سيارات فارهة أمام مراكز التوزيع يترجل منها أصحابها ويستلمون سلالاً غذائية من دون أدنى وجل أو حياء، لا بل تبدو عليهم ملامح الابتهاج بعد عملية الاستلام، على حين يمنع النظام المواد الإغاثية في شكل كامل أو جزئي عن مناطق سيطرة المعارضة.
ووفق الكثير من الأهالي، فإن مرد ذلك إلى عمليات تلاعب تحصل في عمليات التسجيل، والتي غالبا ما تجري بالتواطؤ مع المخاتير والقائمين على مراكز التوزيع، عبر تقديم الكثير من الأسر أوراقاً تثبت أن لها بيتاً في إحدى المناطق المتوتّرة وبيتاً آخر في الحي الآمن الذي تعيش فيه.
ويلاحظ أن كثيراً ممن يقفون أمام المراكز للاستلام هم من عناصر جيش النظام والأمن ومليشيا “قوات الدفاع الوطني” الموالية له رغم أنهم قاطنون في بيوتهم، وغالبا ما يعمد هؤلاء إلى عدم الوقوف على الدور لاستلام “السلة الغذائية” بل يتجاوزونه، وعلى رغم ذلك يلقون كل الترحيب من القائمين على عملية التوزيع، بينما عندما يأتي دور شخص محتاج ملتزم بدوره يتأففون ويمنون عليه وكأنهم يعطونه من مالهم الخاص.
تجارة وإقرار
وبينما تشهد مراكز التوزيع خلال أيام العمل، تجمهر العديد من التجار لشراء “السلة الغذائية” أو جزء مما تحتويه ممن يرغب، باتت شوارع الأحياء الرئيسية في العاصمة تشهد الكثير من البسطات التي تتضمن محتويات السلة الغذائية لبيعها.
وبينما يقوم الكثير من المستلمين ببيعها فورا للتجار في مؤشر على أنهم غير محتاجين، يعمد بعض المحتاجين إلى بيع جزء منها لا يرغبون به، ويشترون بثمنه مواد يرغبون بها، بينما تقوم بعض الأسر الفقيرة النازحة ممن يعمل أرباب أسرها ببيعها كاملة لتأمين بدل إيجار المنازل.
وغالباً ما تباع محتويات السلة الغذائية بأسعار أقل مما هي عليه المادة في الأسواق والمحلات التجارية. وبينما يباع سعر الليتر من الزيت النباتي الموجود ضمن السلة على بسطات الرصيف بـ٦٥٠ ليرة سورية، يباع في المحلات بـ٨٠٠ على رغم أن الاثنين من النوعية ذاتها.
وفيما يباع كيلوغرام البرغل الموجود في السلة على البسطات بمئة ليرة، يباع النوع ذاته في الأسواق بـ ٢٠٠ ليرة. ويصل سعر مجمل ما تحتويه السلة الغذائية الى ما بين ١٢ الى ١٥ آلاف ليرة سورية.
وبات الغالبية العظمى من سكان مناطق سيطرة الحكومة بدمشق يقرون باستلامهم سللاً غذائية ومواد تنظيف وأدوات مطبخ وفرشات وبطانيات، ويبررون ذلك بأن “الغالبية العظمى من السوريين باتت في حاجة إلى المساعدات في ظل الارتفاع الكبير للأسعار لعموم المواد الغذائية والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية.”
بواسطة Abdullah Al Hassan | أبريل 12, 2018 | Cost of War, News, Reports, غير مصنف
(اعتمد هذا المقال على العديد من المصادر القريبة من مجريات الأحداث الأخيرة في مدينة دوما)
انتهت أزمة المدنيين في مدينة دوما، وتوصّل طرفا القتال إلى اتفاقٍ يقضي بخروج عناصر جيش الإسلام إلى مدينة جرابلس، الخاضعة لسيطرة قوات درع الفرات، وبقاء من يرغب من المدنيين تحت شروط مشابهة لأقرانهم في مدينة حرستا والقطاع الأوسط في الغوطة الشرقية، حيث تشمل الاتفاقية تسوية أوضاع الراغبين في البقاء من خلال لجنة تسوية مع ضمان عدم الملاحقة، ويُمنَح الفارّون والمتخلفون عن خدمة العلم مدة ستة أشهر قبل سوقهم والتحاقهم. وبالنسبة لطلاب الجامعات والمدارس، يستطيعون الالتحاق بأماكن دراستهم وكلياتهم بعد تسوية وضعهم الدراسي أصولاً، وأيضاً ستدخل الشرطة العسكرية الروسية (كتيبة شيشانية) كضامنٍ لعدم دخول قوات الجيش السوري وقوات الأمن الرديفة، وتدخل لجنة من محافظة ريف دمشق لتسوية جميع القضايا المدنية بالتعاون مع لجنة مدنية محلية من مدينة دوما، ويُفتح المعبر أمام الحركة التجارية بمجرد دخول الشرطة العسكرية الروسية.
تُظهِر الشروط المتعلقة بالمدنيين بأنها شروط عادية لا تختلف كثيراً عن أي من شروط تسوية المناطق الأخرى، وبالتالي كان بالإمكان الحصول عليها دون دفع فاتورة كل هذا الدم، وخاصة إبان التصعيد الأخير في السادس من نيسان حين حصل انتكاس في المفاوضات أدى إلى تصعيدٍ عسكري شديد من طرف النظام السوري وحليفه الروسي، راح ضحيته أكثر من ١٩٠ مدنياً في مدينة دوما، مع شبهةٍ واضحة لاستخدام مادة كيميائية محرمة دولياً خلال القصف.
في الرابع من نيسان، وبعد مفاوضاتٍ مكثفة، قدّم الكولونيل الروسي ألكسندر زورين ورقةً لمدير المكتب السياسي في جيش الإسلام ”ياسر دلوان“، تم تسريبها للإعلام لاحقاً، كان أبرز بنودها تسليم سلاح ”جيش الإسلام“ الثقيل خلال ثلاثة أيام، والسلاح الخفيف خلال أسبوع، ثم بعد تسوية أوضاع عناصر جيش الإسلام يتم تشكيل شرطة مدنية في المدينة تتبع لوزارة الداخلية، وكتيبة ”جيش الإسلام“ يكون تسليحها من الجيش الروسي، ومهامها محصورة في محاربة تنظيم ”داعش“ وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتأتي لجنة من محافظة ريف دمشق لحل جميع مشاكل المدينة، ويكون الضامن لذلك دولة روسيا الاتحادية.
يبدو أن قيادة جيش الإسلام أساءت تقدير موقف المفاوِض الروسي، وظنّت بأنها تملك أوراق تفاوضية تُمكّنها من طلب المزيد، خاصة وأنه خلال جلسات التفاوض، أرسل مكتب اللواء علي مملوك (الأمن الوطني) رسائل عدة إلى قادة جيش الإسلام، في محاولة للتواصل وبحث اتفاقٍ ما بمعزل عن الجانب الروسي، فكان أن دخل نائب قائد جيش الإسلام (أبو قصي الديراني) على خط التفاوض، واجتمع مع الكولونيل زورين في مكتبه عند مدخل معبر الوافدين في الخامس من نيسان، واقترح عليه تسويةً جديدةً، تحمل في طياتها ”تشكيل لجنة مشتركة من الشرطة العسكرية الروسية وجيش الإسلام مهمتها جرد السلاح الثقيل وتثبيت أماكن تواجده والقائمين عليه، على أن يبقى في مكانه“ وأن ”يرتبط تسليم السلاح النهائي وبشكل كامل بالحل السياسي الشامل في كل سوريا“ بالإضافة إلى تشكيل شرطة مدنية من عناصر الشرطة المدنية الموجودة حالياً، على أن تتبع لوزارة الداخلية بالرواتب والقوانين، واعتماد محاكم دوما بعد أن تتبع لوزارة العدل، والمصادقة على العمليات المدنية التي تمت خلال الفترة السابقة بما يتوافق مع قوانين الدولة، وفتح المعبر بشكل حر وآمن للأشخاص والبضائع، وأيضاً ”ضمان حق جيش الإسلام في العمل السياسي المعارض، وحرية حركة سياسييه داخل وخارج سوريا“، وذلك بوجود ضمانات دولية لمنع دخول قوات النظام والأمن إلى داخل المدينة.
يبدو أن طرح ”جيش الإسلام“ الجديد أزعج الجانب الروسي، ودخول نائب قائد جيش الإسلام وكلامه المتعالي، أعطى إشارة إلى المفاوِض الروسي بأن انقلاباً ما قد حدث داخل جيش الإسلام، حتى أن وكالات الأنباء الروسية والسورية والإيرانية في صباح السادس من نيسان نقلت تأكيداً لعملية الانقلاب، وتلميحاً حول اغتيالٍ حدث لقائد جيش الإسلام ”عصام البويضاني“ في عملية الانقلاب المزعوم، وأتبع ذلك اتهامات غير صحيحة بأنّ جيش الإسلام قام بقصف ضاحية الأسد (ضاحية حرستا)، وفي حوالي الساعة الرابعة عصراً بدأ الطيران الحربي السوري بقصف مدينة دوما دون سابق إنذار، موقعاً في الربع الساعة الأولى أكثر من ٣٠ ضحية من المدنيين (يبلغ تعداد من بقي في دوما حوالي مائة ألف) الذين فاجأهم القصف بعد عشرة أيام من الهدوء. استمر الأمر بشكلٍ تصاعدي ٍمع استخدام ٍلراجمات الصواريخ والبراميل المتفجرة، أدّى إلى وقوع العشرات من الضحايا بين صفوف المدنيين. استمر القصف بدون توقف حتى اليوم التالي، في محاولة للضغط على قادة جيش الإسلام لأجل العودة إلى بنود المقترح الروسي، وكان الكولونيل زورين قد أرسل لهم عدة رسائل يحثهم فيها على العودة إلى الورقة التي قدمها سابقاً ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم ان تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، انتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أوقف التفاوض“
لم يكن هناك رد من جيش الإسلام، رغم الضغوطات التي مُورِست عليه، وفي مساء يوم السبت، ذكر مشفى ريف دمشق التخصصي، في بيان له “في تمام الساعة ٧،٤٥ دقيقة من مساء السبت، ومع القصف المستمر على الأحياء السكنية في مدينة دوما، وردت العديد من الحالات تصل إلى ٥٠٠ حالة إلى النقاط الطبّية، أغلبهم من النساء والأطفال، بأعراض زلّة تنفسية وزرقة مركزية، وخروج زبَد من الفم، وانبعاث رائحة واخزة تشبه رائحة الكلور، لوحظ لديهم حروق قرنيّة بالفحص السريري، خراخر قصبية خشنة ووزيز،“ وأكد على أنّ “المعطيات السابقة تشير إلى حالات اختناق بغاز سام.“ بعدها بعدة ساعات، اتصل قائد جيش الإسلام بالكولونيل زورين وأبلغه استعدادهم للتراجع عن مطالبهم الأخيرة، مع تسليم السلاح الثقيل فوراً، وطلب أن يكون هناك اجتماع في صباح اليوم التالي لترتيب الاتفاق وتوقيعه. على الرغم من ذلك، لم يتوقف القصف طوال الليل، وإن أصبح بوتيرة أقل، وكذلك الحال في صباح اليوم التالي، مع أن جميع رسائل جيش الإسلام كانت تؤكد بأنه يتجاوب تماماً مع شروط الجانب الروسي، ولن يغامر مرة أخرى، لكن كان واضحاً بأن المفاوِض الروسي كان يريد أن يُلقّن ”جيش الإسلام“ درساً لن ينساه، وهو الذي قال لمفاوضيهم مرةً “أنا أُمثّل دولة روسيا الاتحادية، التي أطلقت محطة فضاء منذ ٤٠ عاماً، كما أنني أستطيع أن أتحكم بعشرات الأقمار الصناعية من هنا، أنتم من تُمثّلون؟“ وبالتالي استمر القصف على المدينة دون توقف، مع تراخي واضح من الطرف الروسي لعقد الاجتماع المقرر مع مدير المكتب السياسي لجيش الإسلام حتى تمام الساعة الواحدة ظهراً، وذلك على الرغم من إلحاح جيش الإسلام لعقد هذا الاجتماع بغية وقف القصف، وترتيب اتفاق يُرضي الجانب الروسي.
أخيراً، وبعد إلحاح شديد توقف القصف، وانتهى الاجتماع بتوقيع الطرفين على اتفاقية تقضي بتسليم السلاح الثقيل فوراً، وخروج من يرغب من المقاتلين نحو جبل الزاوية في محافظة إدلب، حيث لواء صقور الشام بقيادة أبو عيسى الشيخ، الحليف السابق لجيش الإسلام، وخروج من يرغب من المدنيين نحو مدينة جرابلس.
ولكن خلال أقل من ساعتين تغيرت وجهة مقاتلي جيش الإسلام فجأة نحو مدينة جرابلس بدلاً عن جبل الزاوية، وكما يبدو بأن الحكومة التركية لم ترغب في أن تتغير تركيبة توازن الفصائل في محافظة إدلب، بعد وصول أكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من جيش الإسلام إلى هناك، وخاصةً بأنه معروف بعدائه الشديد لهيئة تحرير الشام، وبالتالي سارعت لاستضافته في مناطق درع الفرات في مدينة جرابلس، حيث يكون تحت عينها وفي عهدتها، وبالتالي من السهل التحكم بقيادته أو تغييرها كما حدث مع قادة أحرار الشام والزنكي وباقي الفصائل في الشمال السوري.
فور إعلان بنود الاتفاق، دخلت عشرات الحافلات مدينة دوما، استعداداً لنقل قادة جيش الإسلام وعناصرهم ومن يرغب من المدنيين نحو الشمال السوري، وتسلّم الجانب الروسي السلاح الثقيل مباشرة، على الرغم من قيام عناصر جيش الإسلام بحرق مدرعتين وتصويرهما بغاية التغطية على تسليم السلاح الثقيل، وحفظ القليل من ماء الوجه. كان من الواضح أن الجانب الروسي يريد الإسراع بتنفيذ بنود الاتفاق قدر المستطاع، خاصةً في ظل التطورات الجديدة على الساحة الدولية والمتعلقة بقصة (الكيماوي) الأخيرة في مدينة دوما، وتخوفه من عودة قادة جيش الإسلام عن تنفيذ الاتفاق بتحريض من جهة ما.
من ناحيةٍ أخرى، عادت قضية المختطفين للواجهة، بعد خروج العشرات من مختطفي عدرا العمالية (منذ نهاية ٢٠١٣) لدى جيش الإسلام على دفعات، مع سخط واضح من أهالي باقي المفقودين والمغيبين في الحرب السورية لعدم الكشف عن مصير باقي أبنائهم. علماً بأن القصف على مدينة دوما أدى إلى وفاة ٢٩ محتجزاً كانوا في سجن ”التوبة“ التابع لجيش الإسلام، وذلك بتاريخ ٢١ آذار ٢٠١٨، وفي سياقٍ متصل، تبقى قضية الناشطين الأربعة المختطفين من مقر إقامتهم وعملهم في مدينة دوما، رزان زيتونة وسميرة ووائل وناظم، بعيدة عن الحل، ومحفوظة في حوزة من يملك المعلومات الحقيقية من النافذين في تلكم الفصائل التي حكمت الغوطة الشرقية وأهلها ردحاً من الزمن.