بواسطة سلوى زكزك | فبراير 27, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
دمشق، سوريا
يمكن وبكل بساطة وشفافية اعتبار مشكلة النقل والمواصلات في مدينة دمشق مشكلة عميقة تُطيح بالقوة النقدية لسكان المدينة. بات لهذه المشكلة ظل ثقيل يُقيد الحركة والتنقل بدءاً من ارتفاع تكاليفها وطول مدة الوقت المهدور بانتظار وسائل النقل إلى سوئها البالغ وتردي نوعية الخدمات التي تصل إلى شروط التنفس داخلها. إنها أزمة خانقة بكل ما في الكلمة من معنى.
أم عبدو سيدة خمسينية تسكن في منطقة الديابية، جنوب شرقي دمشق، والتي تبعد عن منطقة الست زينب حوالي سبعة كيلومترات، وتعمل كمستخدمة في ضاحية مشروع دمر. لا سرافيس (باصات صغيرة) تنقل أم عبدو من مكان سكنها بعد الساعة السادسة صباحاً لأن عدد السرافيس قليلٌ جداً والمنطقة مزدحمة بالسكان الذين لا يملكون سيارة خاصة.
تستفيق أم عبدو في الرابعة صباحاً لتفوز بسرفيس ينقلها من مكان بيتها وحتى كراجات الست زينب وبعدها تستقل سرفيساً آخر حتى جسر الرئيس، ومن هناك تستقل ُسرفيساً ثالثاً نحو مشروع دمر. الراتب الشهري الذي تتقاضاه أم عبدو يبلغ نحو سبع وعشرين ألف ليرة سورية (مايعادل ٥٧ دولاراً)، أما أيام الدوام الفعلية فهي واحدٌ وعشرون يوماً في حين تبلغ الكلفة اليومية للنقل ما بين ٥٠٠-٦٠٠ ليرة سورية يومياً. لذلك بالنسبة لحياة أي شخصٍ ذي إمكانيات مادية محدودة كأم عبدو فإنّ أي يوم غيابٍ وخاصة بإجازةٍ مرضيةٍ يعتبر بمثابة توفيٍر لمواردها الشحيحة قبل أن يكون يوم راحةٍ طبيعياً تستحقه وتحتاجه بشدة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المناطق مثل الحسينية والديابية والغزلانية والبحدلية وغيرها، تعتمد بشكلٍ أساسي على الهوندايات كواسطة النقل الوحيدة. والهوندايات مكلفة جداً حيث يتقاضى السائقون مبلغ مائتي ليرة سورية عن الراكب الواحد عدا عن أنها مجهزة بمقاعد حديدية ضيقة ارتجلت على عجل لتعويض النقص الحاد في عدد الحافلات (السرافيس) على خطوط تللك المناطق. والمضحك المبكي أنّ أصحاب الهوندايات قد ارتجلوا أيضا أغلاقاً بلاستيكية وباباً للدخول منه درءاً للغبار والمطر والشمس. ولابدّ من ذكر أنّ الحواجز أجبرت السائقين على تركيب لِدات (نوع من الإضاءة التوفيرية) لإنارة صندوق الهونداي كي يتمكنوا من التعرف على وجوه الركاب وهوياتهم. صندوقٌ تحوّل الى حافلةٍ رغماً عنه، وبات يشبه غرفةً أو خيمةً وكأنه ينقص السوريين خيمة وشادر وغلق جديد مضاف إلى عتمة حياتهم التي لا تشبه الحياة.
جاد طالبٌ في كلية الهندسة المدنية ويسكن في ضاحية قدسيا التي نزح إليها مع أهله من مخيم اليرموك، ويضطر عند عودته إلى بيته مساءً إلى ركوب سرفيس من ساحة الأمويين وحتى جسر الرئيس لا لكسلٍ منه فالمسافة بين الساحة والجسر قريبة والمشي الطويل بات سلوكاً يومياً قسريًا وبالغ القبول، ولكنّ جاد مضطرٌ لحجز مكانٍ له في السرفيس المتجه نحو الضاحية مما يجبره على دفع أجرةٍ إضافية. وبالتالي يصبح ما يدفعه جاد يومياً في طبيعة الحال مائتي ليرة سورية، فكيف يتدبر أهله مصروف أبنائهم في ظل كل هذا السعير عدا عن أجرة البيت المرهقة وغير المنطقية أبداً!
ولابد من الإشارة هنا إلى أن غالبية السائقين يرفعون من أجور النقل وقد يضاعفونها بعد الساعة السادسة مساء. مثلاً تصبح أجرة سرافيس مساكن الحرس مائة ليرة بدلا من خمس وخمسين ليرة، وتصبح أجرة سرفيس ضاحية قدسيا مائة وخمسين ليرة بدلاً من خمسٍ وسبعين ليرة. أما سائقو سرافيس مهاجرين صناعة فيرفعون الأجرة إلى مائة ليرةٍ بدلاً من خمسين ليرة وهلمّ جراً، وطبعاً لكل سائقٍ تبريره والكلمة المتعارف عليها: “ إذا موعاجبك نزول!”
ثمة من يقول بأن نصف عدد السرافيس المرخصة قد خرج عن الخدمة بسبب بقائها في المناطق المهجورة كالريف الدمشقي والخاوية من سكانها الذين تركوها بملابسهم وحسب سيرًا على الأقدام. كما أنّ الكثير من الحافلات توقفت عن العمل بفعل الإصابة بالقذائف أو المصادرة أو بفعل غياب أو موت أصحابها. كما نشأت ظاهرة جديدة لسد الفراغ وهي ذات هدفٍ ربحيٍ وحسب، ألا هي ظاهرة التكسي-سرفيس.
غالبًا ما تكون التكسي-سرفيس عبارة عن سياراتٍ خاصةٍ لكنها مرتفعة الكلفة، فمثلاً تبلغ الأجرة من جسر الرئيس وحتى ساحة الرئيس في جرمانا خمسمائة ليرة للراكب، أما التكسي-سرفيس باتجاه الضاحية ومساكن الحرس ومهاجرين صناعة يتقاضى أجراً مقداره ثلاثمائة ليرة للراكب. رغم أنّ هذه الظاهرة قد عوّضت بعض الشيء عن النقص الحاد في المواصلات إلا أنها وسيلة نقل لا قدرة للجميع على الاعتماد عليها، فعدا عن الاختناق المروري الذي يحدث نتيجة توقف عددٍ كبيرٍ منها في أمكنة تضيق على المشاة فكيف بكل هؤلاء الراغبين بربحٍ سريعٍ على حساب جيوب السكان الغارقين في شظف العيش وقلة الخدمات؟
وإن بدا من اللافت إدراج عددٍ لابأس به من الباصات الكبيرة على خطوط النقل العام إلا أنّ عددها لا يكفي ومقاعدها قليلة العدد وحركتها بطيئة عدا عن أن نظام تشغيلها يخضع لأسلوب التعهيد بحسب النسبة، أي نسبة عدد البطاقات المباعة وليس وفق أجرٍ يومي أو شهري محدّد، الأمر الذي يحفّز السائقين على تكديس الركاب فوق بعضهم لتحقيق نسبة أعلى من المدخول العام، وغالبا ما تسمع عباراتٍ آمرة كـ “خود عليك وفوت عالصدر،” أو “ بَعِّد عن الباب،” أو “بَعِّد عن المراية،” أو “إنتو يللي بالنص فوتوا لجوا خلوا هالنسوان تطلع.” أصبحت هذه العبارات طقساً عاماً تسمعها في السرفيس وفي التكسي-سرفيس وعلى المواقف حتى داخل الهونداية حيث يُرتب السائق النساء على جهة والرجال على جهة ليتمكن من زيادة أعدادهم منعاً لاحتكاك جسدي ممنوع شرعاً ومرغوب به تجاريًا كمصدرٍ لربحٍ أكبر.
أما سيارات الأجرة أي التكسي النظامية فهي مشكلة موغلة في تعقيدها لارتفاع كلفتها وتملّصها من أي شكل من أشكال الرقابة، فرغم توقف عدّاداتها عن العمل بإرادة السائق، لا وجود لأية جهة رسمية تُسائل أو تُحاسب المخالفين. ونظرا ً لبعد المسافات وشدة الازدحام يضطر البعض كالنساءٍ والرجالٍ الوحيدين والمسنينّ وأولئك الذين يعانون من ظروفٍ صحية صعبة لاستعمال التكسي حصراً. أما عن أحوال السرافيس والباصات وحتى التكسي من الداخل فهي إهانة يومية بالغة مسكوتٌ عنها في مواجهة الأهم وهو الركوب بهدف الوصول وحسب. فمعظم المقاعد تبرز نوابضها الحديدية لتخز اللحم وتمزق الملابس، النوافذ مغلقة أو من النايلون السميك، بطارية السيارة ملاصقة للأقدام والدواليب ملاصقة لجذع الركاب، مقاعد حديدية ضيقة لمزيد من الركاب، بطانيات الإعانة الرمادية بدلاً من تنجيد المقاعد وتجديدها لدرجةٍ تشعر وكأنك في قبرٍ رمادي لا شيء يميزه سوى شعار المنظمة الدولية للهجرة، هجرة ترافقنا حتى النخاع داخل البلاد وخارجها.
غلاء أسعار المازوت وقلة الكمية الممنوحة للسائقين بالسعر النظامي، الأغاني الهابطة والشتائم، القذارة والروائح القاتلة نتيجة الازدحام وتراجع شروط النظافة الشخصية، توهان الركاب وأسئلتهم المتكررة عن وجهتهم وطلبهم للمساعدة في الهبوط والصعود، أطفال مكدّسون مع أمهم لتوفير ما يمكن من أجرة مقعدٍ بات الجلوس عليه بطراً وامتيازاً لا قدرة للبشر على ممارسته. إنها أزمة يومية خانقة حتى حدود المهانة، ولا شيء يشي بانفراجٍ نسبي يُزيح عن السكان مرارة الانتقال. معاركٌ يومية بأدوات غير عسكرية، لكنها مهينة وقاتلة.
مصدر صورة الهونداي: صفحة هوندايات ركن الدين والصالحية على الفايسوك
بواسطة ختام غبش | فبراير 26, 2018 | Cost of War, Culture, News, Reports, غير مصنف
ضمن ثقافة الحرب وعرفها، لم تكن سياسات إخضاع المناطق وغزوها، وجرائم التطهير العرقي يوماً بالكافية. الحرب لا ترض بما هو أقل من تدمير الهوية التاريخية، شرعنة الأفعال الشنيعة وهدم المجتمعات على رؤوس أبنائها مختزلةً كل ذاك بعاملٍ واحدٍ يقوم على اجتثاث الجذر الأساسي للشعوب وفصلها عن النسيج الأصلي الذي قامت ونبتت فيه.
فالتاريخ الآن عبارة عن كتالوغ مرصوف بتصنيفات تُبنى تبعاً لاندلاع الحروب وسطوتها. قاموسٌ ضخمٌ تتوسع صفحاته باستمرار، يمكن لنا أن نزخرفه وأن نخفف من بشاعته بتنويط الأحرف داخله بموسيقا الطائرات والمجنزرات التي فتكت بأعداد من الضحايا كافية لأن توجد بشرية تبني كوكباً جديداً، هذا القاموس علينا فتحه بين الآونة والأخرى كي نقطع دابر طريقها إلينا.
الحالة السورية لوحدها وخلال السنوات السبع الأخيرة فقط يمكنها أن تُخرج مؤلفاً ضخماً، يحوي أحداثاً يمكن معايرتها وقياس زمن حدوثها بالنانو متر، فليس هناك زمنٌ فاصل بين الحدث والآخر.
بالنسبة لهذا البحث ليس من وظيفته تحليل الأسباب التي جعلت منا شعوباً تصنع أحداثها المفجعة على مدار الساعة. إلا أنني أومن وبشكل مطلق بأن الشعوب لا تتحمل عبء كل ما يجري. “تضييع الهوية التاريخية وتشتيتها جنباً إلى جنب مع تغييب المنهجية العلمية في التعامل مع الحياة والقضايا المصيرية قاد البشر نحو العودة والاستناد إلى الميثولوجيا،”(1) كعامل أساسي يستطيع أن يجيب عن أسئلتها تجاه كل هذه الاستباحة والتهميش الحاصل بحقها. وهذا بدوره سيقودنا إلى نتائج كارثية على كافة المستويات، والتي من شأنها أن تفتك بمقدرات البلد وبتاريخه وارثه الحضاري. اليوم نحن لسنا على تخوم المجزرة، نحن الآن في جوفها، القتل والتدمير هما رواد المرحلة وسياسات التخوين والطعن بالآخر كل ما لدينا. غير آبهين بكل هذه الخسائر والجرائم الحاصلة بحقنا وبحق هويتنا البشرية بكافة تصنيفاتها. لم تنجُ الرقعة الأثرية من فصول الدمار وأعمال السرقة والنهب أيضاً، فبات لها أرشيفها الخاص الذي تطول قائمة التدنيس والتخريب المرتكب بحقها. ويبدو بأننا على موعد مع توسيع لهذه الرقعة حتى تغدو ممسدة المساحة لا يشخص منها حجر واحد.
لم يكن تدمير معبد عين دارة أول خساراتنا وللأسف لن تكون الأخيرة. فبحسب التقرير(2) الذي صدر عن (ASOR) حُدد تاريخ استهداف المعبد بتاريخ 22 كانون الثاني/ يناير (الصورة رقم(1. إلا إن الصور والفيديوهات التي شاهدناها وظهرت للعلن انتشرت بعد هذا التاريخ وبشكل أدق بعد التقرير الذي أعدّته وسيلة الاعلام الكردية (ANHA) التي نقلت الحدث من قلب الموقع المدمر في يوم 27 كانون الثاني/ يناير بعد تعرّض المعبد لغارة من قبل الطيران التركي في خضم عملية أطلق عليها “غصن الزيتون” التي بدأت في تاريخ 20 كانون الثاني/ يناير.

الصورة رقم 1: صور جوية للموقع قبل وبعد الاستهداف حيث يحدد المربع الأحمر المنطقة التي تعرضت للضرر (مصدر الصور: ASOR)
تُذكرنا هذه العملية والترويج لها بالحملات العسكرية في العصور التاريخية القديمة، حيث العمل الدؤوب لإضفاء صفة الشرعية على الحملة التي سيقوم الملك بشنها على الممالك أو المدن الأخرى. فقد لبى (90) ألف مسجدٍ طلب الدعاء لأردوغان في حملته الاخيرة في عفرين وكأننا نرى كهنة معبد إله الحرب (ننجرسو) تبارك المقتلة القادمة وتقدسها. الأهم من ذلك خاصية تأليه الملك التي لا زالت متفشية وجذورها الأولى لازالت متفرّعة وبتوسع كبير. فالتاريخ يجلب لنا الكثير من التفاصيل التي نراها اليوم وكأنها شريط يُعاد ولكن بأدوات جديدة وبنسبٍ تتناسب طرداً مع تطور وسائل القمع والقتل، وعكسياً مع الإرادة الحرة للشعوب.
بالعودة إلى عين دارة فهو موقعٌ جديد يضاف إلى قائمة المواقع التي شهدت الأيام الأخيرة مجزرة بحق الحجارة والقدسية التي وسمت المكان. أحاول في هذا المقال توثيق آثار المعبد ووصف أهميتها التي لن يتسنى للأجيال القادمة للأسف رؤية بعض أجزائه الفريدة التي دُمرت إثر الحملة العسكرية التركية على عفرين والحرب السورية التي أتت على عددٍ كبير من آثار هذه البلاد المنكوبة. كما سأحاول تسليط الضوء على الأجزاء التي تعرّضت للتدمير إثر الضربة الجوية مع التأكيد على عدم كفاية هذا التحليل دون المعاينة المباشرة من قبل آثاريين لتقييم الضرر وتوثيقه ودراسة إمكانيات الصيانة والترميم. وأختتم المقال بالتحدث قليلاً عن زيارة قصيرة للمعبد، لكنها مكثفة في الذاكرة.
موقع عين دارة
يقع في وادي عفرين، الوادي الذي ينحدر في مجراه العلوي من الشمال إلى الجنوب قادماً من دوليشا (عينتاب) ليجتاز موقع تل عين دارة ثم ينحرف نحو الغرب نحو بحيرة أنطاكية. يعتبر هذا الوادي ممراً هاماً يصل سهل أنطاكية بمنطقة عينتاب وبمنطقة حرّان عبر الفرات في البرجيك. وعلى مقربة من عين دارة تقع ممرات متعددة تتجه نحو الغرب وتؤدي إلى ممر بيلان، منفذ سوريا من جهة وإلى الإصلاحية وسنجرلي على سفوح الأمانوس من جهة أخرى، وتعتبر ذات أهمية استراتيجية كبرى حيث كانت تسمح للقادمين من أنطاكية الوصول إلى تل رفعت Arpad)) قديماً وإلى حلب دون المرور من الطريق الجنوبية التي كانت أكثر تعرضأ للهجمات. لذلك فقد جهز هذا الممر بما يحتاج إليه من منشآت دفاعية فنجد أنّ موقع الباسوطة القريب مثلاً كانت محمياً بقلعة محصنة ترجع إلى القرون الوسطى. من المرجح بأن تل عين دارة المرتفع كان محاطاً بسورٍ يرجع إلى العهود البيزنطية أو ربما الهلنستية، وأنّ سوراً كبيراً آخر كان يحميه في العهود القديمة التي سبقت ذينك العهدين(3). و يقع هذا التل على بعد (40)كم شمال-غرب حلب و(7)كم جنوب مدينة عفرين.(1) على الضفة الشرقية لنهر عفرين، أحد روافد نهر العاصي، نبعُ عفرين الذي أعطى اسمه للمكان ويبعد عنه مسافة (800) م شرقاً. تتميز هذه المنطقة الهضبيّة بوفرة مياهها وبأراضيها الخصبة التي شكلت المقومات الأساسية للبنة الاستيطان البشرية الأولى. يحتل موقع عين دارة موقعاً استراتيجياً هاماً حيث يبعد عن موقع عزازا (A-za-za) الأثري (عزاز حديثاً) مسافة (25) كم شمال شرق، وعلى مسافة (30)كم شرقاً من موقع أرفاد (Arpad)(تل رفعت حديثاً)، عاصمة مملكة “بيت أغوشي” الآرامية (4).
لم يكن الموقع معروفاً حتى اكتشاف تمثال ” الأسد البازلتي الكبير” في العام 1955، حيث تم العثور عليه مرتمياً على جانبه المنقوش في الجزء الغربي من التل (الصورة رقم 2). أسطحه تخلو من الكتابات على خلاف الأسد الذي تم اكتشافه في موقع تل أحمر (تل بارسيب قديماً). الذي كُشف لاحقاً عن تل عين دارة الأثري والذي عُدّ من التلال الكبيرة في المنطقة (5).

الصورة رقم 2 : الوضعية التي وجد عليها الأسد
(مصدر الصورة: الحوليات الاثرية السورية، علي أبو عساف).
تبلغ أبعاد التل (125) م باتجاه (شمال- جنوب) و(60) م باتجاه (شرق- غرب) وهو يقع بالقرب من النهر. بينما حددت مساحة المنطقة المنخفضة بـ (270) و(170) م وهي متاخمة للقلعة من جهتي الشمال والشرق. حُدد تاريخ استيطان المنطقة المنخفضة بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى عصر الحديد (II) ( 1200-740)ق.م, أما بالنسبة للتل فلقد حددت سوياته بسبع سويات أثرية بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى الفترة السلوقية (6).
بدأت أعمال التنقيب في الموقع بإدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق خلال الأعوام (1964-1962-1956) بإشراف فيصل الصيرفي والباحث الفرنسي موريس دونان (Maurice Dunand) (الصورة رقم 3). وبعد فترة انقطاعٍ طويلة عادت التنقيبات خلال الأعوام ( 1981- 1980-1978-1976) تحت اشراف علي أبو عساف، في حين جرى مسح المنطقة المنخفضة بين عامي 1984-1982)) من قبل فريقٍ امريكي بإشراف اليزابيث ستون وبول زيمانسكي.
تمثلت أهم الاكتشافات التي قدمها الموقع باكتشاف المعبد الذي ظهر للعلن خلال سلسة التنقيبات التي قام بها علي أبو عساف خلال الأعوام ( 1985-1980).
المعبد
يشغل المعبد الربع الشمالي من التل ممتداً باتجاه جنوب شرق – شمال غرب. دلّت الدراسات الأثرية بأن المعبد قد بني على ثلاث مراحل استمرت على مدار (550) سنة (الصورة رقم 3 ).

الصورة 3: مخطط معبد عين دارة مع مراحل بنائه الثلاث
(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).
في المرحلة الأولى تم تشيد المعبد فوق المصطبة الأكثر قدماً، وشهدت المرحلة الثانية إنشاء مصطبة المعبد الحديثة ومجسم المعبد. أما الرواق (Gallery)الذي وجد خلال أعمال التوسعة الخاصة بالمصطبة فقد أُضيف خلال المرحلة المعمارية الثالثة والأخيرة. وتشير الدلائل بأن المعبد بُني في بادئ الأمر مفتوحاً على الخارج، وهذا الطراز من العمارة يشترك بهذه الخاصية مع عمارة المعابد الإغريقية المعروفة بالبِريبتِروس((Peripteros ذات الأعمدة، لكن في المرحلة الأخيرة تم احاطة المعبد وجرى تسيجه بسورٍ خارجي.
ينتمي مخطط المعبد إلى نماذج المعابد المعروفة بـ (( Ante-temple وهي معابد ذات قاعة أمامية سابقة للمصلى، وتُعرف أيضاً بالمعبد البيت. تنتشر أمثلة مشابهة لهذا النموذج في مواقع المشرق الشمالية و بلاد الرافدين الشمالية أيضاً كتل خويرة وتل حلاوة، وإيبلا (تل مرديخ) من عصر برونز وسيط ، و إيمار، وإيكلتا (ممباقة) من عصر البرونز الحديث، وكركميش من عصر الحديد. استمر هذا الطراز المعماري كأسلوب مميز في العمارة “اللوفية ـ الآرامية” خلال عصر الحديد. يختلف نموذج معابد (Ante-temple) بشكل كبير عن نماذج المعابد الآشورية والبابلية من جهة، وعن نماذج المعابد الحثية من جهة ثانية، فهذه المعابد تتميز ببناء داخلي معقد ذو باحة مركزية وعدة غرف إضافية بجانب المصلى.
بني المعبد فوق مصطبة ذات ارتفاع (1.80) م غطيت واجهاتها بلوحات بازلتية حفرت بزخارف لأبي الهول والسباع الرابضة. يبدو بأن هذه المصطبة كانت في الأصل جزء من ساحة مقدسة واسعة تمتد باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي. رُصفت هذه الباحة بشكل متناوب بألواح البازلت والحجر الكلسي، وُجد فيها حوض حجري محفوظ بشكل جيد على بعد (14)م جنوباً من زاوية المعبد الشرقية، يُعتقد بأنه قد استُخدم للتقدمات الخاصة بالسوائل. يتم الدخول إلى مصطبة المعبد عبر مدرج حجري عرضه (11)م مؤلف من أربع إلى خمس درجات من الحجر البازلتي المزنرة بالضفائر. تُظهر الصور الحديثة للموقع والملتقطة بين 27 و 29 من شهر كانون الثاني 2018 بعد استهدافه بغارة جوية تركية، بأنّ الدرجات لاتزال قائمة في مكانها ويبدو بأنها تحتفظ بملامحها الأساسية التي وجدت عليها مع بعض التخريب والانكسارات التي لا يمكن تحديدها بشكلٍ دقيق دون معاينة مباشرة من قبل أخصائيين. بينما بيّن تحليل الصور الفضائية للموقع تعرّض الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من الواجهة للدمار، ونتج عن الاستهداف تهشم وتحطم التماثيل التي كانت تشكل واجهة المعبد في الجهات الخارجية المذكورة.
بالنسبة لمدخل المعبد فيتألف من كوة واسعة في الجهة الجنوبية الشرقية ذات دعامتين، يدل وجود قاعدتين دائرتين بازلتيتين على احتمالية وجود أعمدة خشبية بين الكوة والسقف مغطيةً بذلك الكوة. ومن هذه الكوة ننتقل إلى أجزاء المعبد الداخلية حيث القاعة السابقة لقدس الأقداس (غرفة ماقبل المصلى أو Antecella) مستطيلة الشكل وبعمق ((6.55 م. ننتقل منها إلى القاعة الرئيسة قاعة قدس الأقداس “المصلى” ( (Cella مربعة الشكل بأبعاد ( (16.70 x16.80 م (الصورة رقم 4).

الصورة رقم 4: مشهد للمعبد من الجهة الجنوبية
(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).
لقاعتان مرصوفتان بألواحٍ من الحجر الكلسي. يُشير التقرير الذي نشره مؤخراً مرقاب التراث الثقافي الصادر عن المدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية (ASOR)إلى تعرض كل من القاعة الأمامية والقاعة الرئيسة للدمار (الصورة رقم 5).

الصورة رقم 5: المعبد محدد بمربع أحمر يحدد المساحة التي تأثرت جراء الاستهداف
(مصدر الصورة تقرير ASOR – 2018).
أما العتبات فقد شكلت من كتلٍ من الحجر الكلسي، اثنتان منها غطت مدخل قاعة ما قبل قدس الأقداس، وعتبة واحدة غطت مدخل القاعة الرئيسة. حملت الأولى طبعات قدمين كبيرتين متوازيتين وأبعادها ((97×35 سم، في حين غطت الثانية طبعة لقدم اليسار وبنفس القياس تقريباً، العتبة الثالثة حملت طبعة للقدم اليمنى. تعتبر طبعات الأقدام من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. بالنسبة لهذه الطبعات في الوقت الحالي تشير المعلومات والمعاينة النظرية للصور الملتقطة للموقع إلى تعرّض هذه الأرضيات للتخريب بشكلٍ شبه كامل، يبقى ذلك غير مؤكد قبل إجراء عمليات التقييم المباشرة من قبل الاختصاصين (الصورة رقم 6).

الصورة رقم 6: درجات المعبد قبل وبعد الاستهداف بغارة جوية تركية.
(مصدر الصورة: Hawar News; January 27, 2018 وتقرير ASOR – 2018).
طبعات الأقدام
شغلت طبعات الأقدام (7) المحفورة في معبد عين دارة الباحثين كونها من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم والأمثلة عليها نادرة جداً (الصورة رقم 7). إلا أنه تم العثور على ما يأتي على ذكرها ويعود تاريخ أقدم هذه الشواهد إلى عصر البرونز حيث تم العثور في موقع تل براك الأثري* على أختام اسطوانية يعود تاريخها إلى (3300-3050) ق.م. تصور هذه الأختام “زوجاً من الأقدام العارية تلتف عليهما أفعى”. قدمت الباحثة إديث بورادا (Edith Porada) تفسيراً بأنّ دلالة التصوير تهدف إلى التنويه والتحذير من ترك القدمين من دون حذاء. في حين رجح بعض الباحثين على أنّ سلوك انتعال القدم أو خلوها من الحذاء مرتبط بالمكانة الاقتصادية والاجتماعية، ووفقاً لهذا التفسير فإن الحذاء يرمز للفروقات الطبقية وقد عثر على ما يشبه ذلك في النصوص المقدسة. وفي روايةٍ أخرى عندما واجه موسى العليقة المشتعلة ناداه صوتٌ عند محاولته الاقتراب منها “لا تدنُ إلى هنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن المكان الذي أنت قائم فيه هو أرض مقدسة” (سفر الخروج: 5:3) ويستمر الرب ويعيد طلبه. فُسر هذا الطلب من قبل رجال الدين بأن الأرض ملكٌ للرب، مكرسةٌ له، حيث أنّ ارتداء النعل على أرض معينة يعني في التقاليد العبرية الامتلاك. الضيف عندما يدخل يخلع من قدميه كرمز إلى أنه ضيف سلام. وعلى ما يبدو فإن هذه الروايات مستقاة من نصوص مدينة نوزي (يورغان تيه الواقعة جنوب شرق مدينة كركوك) حيث جاءت بعض النصوص على ذكر ظاهرة الانتعال أو عدمه وربطها بخاصية الاستحواذ والامتلاك أو التنازل.
وإذا ما وسعنا دائرة البحث خارج نطاق منطقة الشرق الأدنى القديم باتجاه ثقافات أخرى، فسنجد بأنّ معبد عين دارة لم يكن المكان الوحيد الذي احتوى هذا النوع من التصاوير. فلقد جسدت طبعات أقدام بوذا في الأحجار تاريخاً طويلاً في حياة الهند ومنطقة جنوب شرق أسيا، وظهرت بأشكال ودرجات متفاوتة في التعقيد. أكثر الأدلة قدماً تلك التي تعود إلى ( القرن الأول ق.م) القادمة من “” Tirat والمحفوظة في متحف ” Swat “. حيث تمثل طبعات نحتت بطريقة قريبة من الطبعات الواقعية التي قُدست بتقديم ممارسات السجود إليها. وفوق قمة آدم في (Samanala) في سيرلانكا طبعة قدم نادرة وهامة وذلك لدلالتها الرمزية والمشتركة ما بين أربع ديانات. فالهندوسية قدستها باعتبارها طبعة قدم شيفا (shiva) آلهة الخلق، في حين نسبها البوذيين إلى بوذا. أما مسيحيو سيرلانكا فنسبوها يجدون بها طبعة قدم القديس توما (St. Thomas) المبشر الذي أدخل المسيحية إلى سيرلانكا، بينما ينسب المسلمون طبعة القدم إلى آدم أثناء وقوفه على قمة الجبل بزمن قدره ألف سنة (كتكفير عن الذنوب).

الصورة رقم 7: العتبات الحجرية في مدخل المعبد وتظهر عليها طبعات أقدام محفورة.
(مصدر الصورة: مايكل دانتي، حزيران 2010)
المنحوتات:
كان عدد منحوتات الواجهة ست منحوتات وهي عبارة عن زوج من أشكال أبي الهول على جانبي الدرج أحدهما ملتفت نحو اليمين والآخر نحو اليسار وخلف كل واحد زوج من السباع متقابلان يلتفان كذلك يمنة ويسرى (الصورة رقم (8-9. لأبي الهول رأس فتاة وجسد أسد ذي جناحين، الشعر طويل ومرفوع نحو الخلف تبدو منه عقيصتان على جانبي العنق، المفاصل بيضوية ليس لها الشكل الحقيقي (الصورة رقم 10). تبرز هنا خاصية الايجاز الشديد في تفصيل العناصر التشريحية. يختلف أبي الهول عن الأسد في كون الأول مجنح بينما الأسد غير مجنح، ومُثل الأسد وهو يزأر. كوّنت هذه المجسمات لوحات الواجهتين الجانبيتين والواجهة الخلفية والمصطبة ومدخل الرواق وعددها (72) منحوتة. يكمن الاختلاف بأنّ منحوتات الواجهة صُورت بحجم أكبر وزيادة بأعداد المخالب لأسبابٍ ربما تتعلق بتكثيف الاحساس بالرهبة والخشوع قبل الدخول إلى المعبد (8).

الصورة رقم 8: تمثل الأسود الرابضة في واجهة المعبد وواجهة المصلى.
(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).

الصورة رقم 9: تمثل الأسود الرابضة وأبو الهول في واجهة المعبد
(مصدر الصورة: موقع Archaeology in Syria ).

الصورة رقم 10: نحت لأبي الهول.
(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).
حددت منحوتات الرواق فقط في كل من جانبيه ب( (30منحوتة لم يبق منها غير كسرٍ جاثمة فوق قواعدها أو متناثرة فوق الرواق، ويبدو أن هذا التشابه يقصد به عدم اظهار الاختلاف بشكل جلي. زين محراب المنصة بمجموعة من القطع البازلتية سماكتها أكبر من سماكة الألواح الأخرى عددها سبعة، احتوت خمس منها على عنصرٍ نقشي مشترك ُيصور إله الجبل بلحيةٍ طويلة ويرتدي تاجاً ذي قرون، في حين تنوّع مرافقيه بين مخلوقات مركبة وتجسيد الثور (الصورة رقم 11).

الصورة رقم 11: منحوتات تصور إله الجبل ومرافقيه
( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)
تمثلت درّة المنحوتات بلوحةٍ من البازلت مشوهة في بعض أجزائها، عُثر عليها في الحافة الجنوبية الغربية للجدار الواقع بين القاعة الرئيسة والقاعة الأمامية السابقة لها. يجسد النحت صورة لامرأة (تمثل عشتار) ملتفتة باتجاه اليمين، ترتدي معطفاً طويلاً ذي حزام وفتحة في جزئه السفلي. الساق اليمنى جرى تغطيتها بينما اليسرى صُورت دون غطاء إلى جانب تجسيد العضو الأنثوي الذي صور فوق الغطاء. رأسها وكتفيها (الكتف الأيمن) غير محفوظين بشكل جيد. تبرز السهام من كتفها الأيسر، الجعبة خلف ظهرها وهي تمسك سلاحاً بيدها اليمنى في حين تمسك باليسرى عصىً ظاهرها مزوق بصفوف من الدوائر والخطوط المنكسرة وداخلها مقسم إلى حقول (الصورة رقم 12). ومن المنحوتات الهامة ايضاً منحوتة تجسد رأس امرأة ترتدي تاجاً يطغى على الوجه له قرنان وعروة خماسية يزينه شريط من الورود (الصورة رقم 14).

الصورة رقم 12: منحوتة عشتار
مصدر الصورة: دراسة ميركو نوفاك نقلاً عن اورتمان، (1993)

الصورة رقم 13: نحت لرأس امرأة
( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)
تُظهر الصور الواردة من الموقع بعد استهدافه أنّ قاعدة مسلة عشتار الموجودة في صدر المعبد (في الجهة الشمالية منه) قد نجت من التدمير. لكنّ السطح الخارجي للمسلة متضرر بفعل العوامل الجوية عبر الزمن.
المواضيع الأخرى المنقوشة
بالإضافة إلى النقوش السابقة تضمنت المنحوتات النافرة تمثيلاتٍ متنوعة كضفائر زخرفية، الشجرة المقدسة، الانسان الجالس على كرسي وهو يمثل بلا ريب إلهاً يستعد لاستقبال القرابين والهبات، عملاقاً وهو يروض ثوراً إلى جانب الكثير من المواضيع. ويبدو بأنّ المعبد كان يجمع في مواضيعه النحتية والتشكيلية بين أمرين: أولهما يكمن في تكريس صفة الالوهية ورمزيتها المشتركة بين أغلب مناطق الشرق الأدنى القديم من تصوير الأسود التي رأيناها مسبقاً في ملاحم بلاد الرافدين والأناضول إلى جانب وادي النيل، وبين استنباط العديد من المواضيع الزخرفية من البيئة المحلية التي وجدت ورسخت من الطابع القدسي للمنطقة. من الأمثلة على هذه المواضيع: الإله الموجود في أنصاب عين دارة حيث جُسد كإله الشمس الذي يظهر من وراء الجبل أو على الأرجح بأنه إله الجبال. ويؤيد ذلك ما نجده في أختام بلاد الرافدين حيث نرى قرص الشمس يظهر خلف الجبال بعد أن يفتح له تابعوه باب الليل على مصراعيه الكبيرين. ويوجد ما يشبه هؤلاء الجن الذين يساعدون إله الشمس في اللوحتين المكتشفتين في تل حلف مثلاً، حيث مُثل عليهما جنيان ملتحيان بجسد ثور ويحملان قرص الشمس المجنح كما في اللوح الجميل المحفوظ في متحف حلب. أما الجنيين المجنحين هنا فلهما شكل انسان وغير ثابتين بل يتحركان ويركضان ليرافقا الشمس في حركتها. سواء تم الأخذ بتحديد الإله بأنه إله الجبال (تيشوب) الذي يقوم هو وتابعوه بمساعدة إله الشمس وهو غير ظاهر فإنه يمكننا ربط فكرة التابعين في أنصاب عين دارة وفي نصبي تل حلف جميعها بفكرة دينية .
كما تميزت هذه المنحوتات أيضاً بتشاركها مع منحوتات بوغازكوي (حاتوشا) عاصمة الإمبراطورية الحثية الواقعة في شمالي وسط الأناضول التي لا تبعد عنها كثيراً، وتمثالها من حيث أسلوب دمجها كعنصر معماري وفني بالإضافة إلى طريقة النحت بشكل نافر وهذا ما أدى إلى سهولة تفتتها وانفصال أجزائها عبر الزمن. ويُعبتر هذ الأسلوب النحتي والمعماري من الأساليب الشائعة ومن المميزات الأساسية للفن الحثي إلى جانب استدارة المخالب الذي سمح بالتأريخ رغم عدم العثور على أية كتابات في مواقع عين دارة. فقد جرى تقريب تأريخ هذه المجموعات بالمقارنة مع مكتشفات المواقع المجاورة في تل طعنات، سنجرلي، كركميش، والباب الكبير في ملاطية. ولا بد من الإشارة بأنّ اكتشاف معبد إله الطقس حدد في قلعة حلب على يد البعثة السورية -الألمانية المشتركة بين عامي (1996 -2004) قد لعب دوراً كبيراً في تحديد الفترة التي تم خلالها تشييد المعبد نظراً للتشابه الكبير من حيث المواضيع وأساليب النحت، إضافة إلى التشابه الكبير بين قاعة قدس الأقداس في عين دارة ومعبد حدد في قلعة حلب.
نهايةً لا بد من التذكير بأنّ خاصية وجود حرم كبير يقوم على مصطبة تحيط به وتتجاوز أطرافه كان نمطاً معمارياً شائعاً في معابد بلاد الرافدين وشمالي سوريا في فترة الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، وفي هذا الخصوص يمكننا العودة لدراسات عالم الآثار العراقي نائل حنون ((9. كان لهذه المصطبة في معبد عين دارة وظيفتان الأولى معمارية والثانية مبنية لتحمي الحرم وتزوده بالحراسة اللازمة عن طريق الأسود والسباع.
أخيراً أود أن أشير بأنّ أعمال التنقيب في موقع جنديرس القريب من معبد عين دارة التي كان لها الفضل بتعريفي على المعبد. كان ذاك في صيف العام 2008 خلال رحلة التنقيب بإدارة الدكتور عمار عبد الرحمن.
زيارة معبد عين دارة
مجرد زيارةٍ قصيرة للمكان كانت كفيلةَ باستباحة التفكير والسيطرة عليه من قبل تلك المجسمات والتماثيل الشاخصة التي كانت تتشبث به وتحمي ما تبقى منه. للوهلة الأولى شعرت أن وظيفة هذه المنحوتات مازالت تعطي نتائجها حتى ولو بعد ثلاثة آلاف عام.
لأول مرة أجد في نفسي رغبةّ عميقة للصلاة، فلهالة الأنصاب الضخمة وروعة المنحوتات ما يوحي بالقداسة، وذلك على الرغم من تلاشي العديد من تفاصيلها وزخارفها التي غاب أغلبها، إلى جانب أن بعض المنحوتات كانت مهشمة الرؤوس والأطراف السفلية.
بالنسبة لنا خسارة اليوم لم تكن وليدة اللحظة وإن كانت أفدحها. فعند الدخول والمرور في حرم المعبد والتمعن بالوضع الذي آل إليه آنذاك جرّاء الإهمال أدركتُ حجم الانكسار والفاجعة التي حلت بمنحوتاتٍ لا تقل شأناً عن أهالي هذه البلاد. أما كانت هذه الآثار الفريدة لتستحق أن تُحفظ وتقوم في متاحف تُقدر قيمتها؟ للأسف باتت ذاكرة هذه البلاد عرضة للاستباحة والتدمير والتجارة من كل حدبٍ وصوب. إلا أنّ هذه البلاد لا تنسى ولا تُمحى ملامحها قطعاً فمازالت تحتضن في سوياتها ما يشهد ويفوق كل هذه الأدوات البشعة والوحشية التي تسعى لاجتثاثها وسلخها عن نسيجها الأصلي.
الهوامش:
1 – اندرسن، بندكت. الجماعات المتخيلة ( تأملات في أصل القومية وانتشارها)- ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
2 – توثيق الأضرار تم بالاعتماد على الدراسات الحديثة التي قام بها المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية (ASOR) : UPDATE: Ain Dara
والتقرير الذي أعدته وكالة أنباء هوار: طائرات الاحتلال التركي دمر تل عين دارة الأثري
والتقرير الذي أعدته شبكة كوردستان 24:
WATCH: Turkish shelling destroys iconic Iron Age temple in Syrian Kurdistan
3 – الصيرفي، فيصل؛ كيريشيان، آغوب؛ ودونان، موريس: الحوليات الأثرية السورية (حفريات أثرية في عين دارة) العدد الخامس عشر 1965.
Novak, Mirko. The Temple of Ain Dara in the Context of Imperial –4
And Neo-Hittite Architecture and Art. “Temple Building and Temple cult.” Proceedings of a Conference on the Occasion of the 50th Anniversary of the Institute of Biblical Archaeology at the University of Tübingen (28 – 30 May 2010), Band 41, (41-50).
5 – الصيرفي، فيصل: الحوليات الأثرية السورية (الموسم الأول في عين دارة) العدد العاشر 1960.
6 – Oxford Encyclopedia of ancient Near East, (Ain Dara) Oxford university 1997-7 Volume 1, (38-37)
7 – لمعرفة أكبر عن الموضوع يمكن الرجوع للمقالة: The Riddle of Ishtar’s Shoes: The Religious Significance of the Footprints at ‘Ain Dara from Comparative Perspective ” THOMAS, Paul brain”.
8 – أبو عساف،علي: فنون الممالك القديمة، دار شمأل، 1993.صـ 185-181-180
9 – حنون، نائل: مهد الحضارة ” خصائص عمارة المعابد في عصر اوروك الأخير وجمدة نصر” المديرية العامة للآثار والمتاحف- العدد (9-8) صـ 26
بواسطة لامار اركندي | فبراير 26, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
القامشلي، سورية
“نَوباتُ الرّبو الحـــادّة يمكن أنْ تُهدد حياتك، هذا ماقالهُ لي طبيب الصدرية المُناوب في مشفى (الرحمة) حين أسعفني زوجي بعد منتصف الليل قبل حوالي الأسبوع وقد كنتُ في حالة يُرثى لها، وفقدتُ الأمل في البقاء على قيد الحياة.” بكلماتٍ مخنوقة بصفير سُعال مُتكرر تسرُد «بتول» ــ سيدة ثلاثينية وأم لأربع بنات ــ معاناتها من هجمات الرّبو المُزمنة بعد تركيب مُولد الكهرباء في حارتها المعروفة بــ ” الآشورية ” قبالة بيتها في مدينة (القامشلي) شمال شرقي سورية قبل خمس سنوات. وتُضيف: “كنتُ أعاني من حساسية الرّبو لكنها تحولت إلى ربو مُزمن بعد تركيب المولدة التي تنفثُ غازات سامة تخنقني إلى درجة الغثيان والإغماء أحيانـــاً.”
الحـالة باتتْ خطراً مَحتوماً على حياة سميرة ادريس المراهقة التي شُخّص مرضها بسرطان الدم، فبحسب دراسة أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت فإن استخدام مولدات الديزل لمدة تصل إلى٣ ساعات يومياً، ترفع من نسب التعرض اليومي للسرطان بنسبة ٣٣ % أمّا في المناطق التي تعمل فيها المولدات لمدة ٨ إلى ١٢ ساعة في اليوم، فيمكن للجرعات المُستنشقة من البنزوبيرين ــ مُركّبات مُسببة للسرطانات محمولة جواً ــ أنْ تُعادل ١٠ سجائر في اليوم.
سميرة واحدة من ٣٠٠ ألف شخص من سكان (القامشلي) ممّن يُعانون من الاضطرابات النفسية والصحية جراء التلوث وضجيج مولدات الديزل “عصب الطاقة” البديلة للكهرباء النظامية التي تمدّ شوارع وبيوت وأسواق المدينة بالكهرباء لثماني ساعات في اليوم، والتي تجاوز عددها ٣٨٠ مولدة بحسب إحصائية بلدية الشعب المركزية في القامشلي بعد انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه نهائي منذ عام٢٠١٢.
١٠ آلاف مُصاب بالسرطان سنوياً
يستقبل مشفى البيروني في العاصمة دمشق سنوياً سبعة آلاف إصابة جديدة بأمراض السرطان كَمُعدل وسطي حسب إحصائيات المشفى، في حين قَدرت مصادر طبية أنه في كل عام هناك نحو ١٠ آلاف إصابة جديدة في البلاد.
وهي أرقام يعتبرها دانيش إبراهيم أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة مُخيفة وهي تعادل الــ٦٠ إصابة يومياً لأسباب يُرجّح الطبيب إرتفاعها إلى سوء التغذية والأسلحة المحظورة دولياً، والمُبيدات الحشرية والكيماوية التي يعتبرها الإختصاصي إبراهيم من العوامل المؤهلة والمحرضة للإصابة بالمرض، والتي تعمل على تغيير الشفرات الوراثية التي تؤثر بدورها على انتقال الأمراض وراثياً إلى الأجيال القادمة. وأشار إلى انتشار السرطان بنسب كبيرة بين مختلف الفئات العمرية لاسيّما في منطقة الجزيرة محافظة الحسكة بسبب انتشار المولدات الكهربائية والحَرّاقات.

صورة رقم 1: الدكتور «دانيش إبراهيم» أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة.
أكثر من ٣٥٠٠ حالة جديدة سنوياً بسرطان الثدي في سورية، وحسب تقديرات بلندا عبد الرحمن طبيبة مُشرفة سابقاً في مشفى البيروني والاختصاصية في علم الأورام أنّ أكثر السرطانات النسائية الشائعة في دول العالم الثالث هي سرطان الثدي حيث إن ١ من أصل كل ٧ نساء تُصاب بسرطان الثدي. بينما ١ من كل ١٢٨ امرأة سَتُصاب بسرطان عنق الرحم. وعلى الرغم من قلّة الإصابة بسرطان عنق الرحم إلا أنّ أكثر من نصف النساء المصابات به يَمُتنَ بسببه؛ فهو أخطر من سرطان الثدي وتكون طرق الوقاية منه بإجراء لُطاخة عنق الرحم. وارتفعت مؤخراً معدلات الإصابة بالسرطان بنسب كبيرة بين السوريات لا سيما سرطان الثدي.

صورة رقم 2: الطبيبة «بلندا عبد الرحمن» المُشرفة سابقاً في مشفى (البيروني) والاختصاصية في علم الأورام.
انهيار النظام الصحي
الحرب الدائرة رحاها في سوريا لعامها الثامن تسببت بهجرة ٥٠٪ من الأطباء الاختصاصيين إلى خارج البلاد، وخلّفت أمراضاً كثيرة لاسيّما بين أنقاض المدن المدمرة. فَبسبب تلوث الطعام والمياه وحتى الهواء وتراكم أكوام القمامة الملقاة في كل مكان، وانحلال الجثث التي يصعب انتشالها من تحت الأبنية المُنهارة، عدا عن الجرب وشلل الأطفال والحصبة والتهاب الكبد الوبائي، والكوليرا، وحمّى التيفوئيد.
وتُرجّح الطبيبة «سحر جميل» أخصائية الأمراض الجلدية أسباب تزايد انتشار اللايشمانيا وغيرها من الأمراض الجلدية المُعدية إلى ظروف النزوح وتجمع أعداد كبيرة من المواطنين في أماكن محصورة وغير نظيفة (كمخيمات اللاجئين ومراكز الإيواء) واستخدامهم مرافق الخدمات المشتركة وتداعيات الحرب على البيئة. إضافةً لوجود مواد غذائية وطبية كـ اللقاحات دخلت سوريا بطرق غير شرعية وغير مراقبة طبياً ومجهولة المصدر وتاريخ الصلاحية.
أشار بيان منظمة الصحة العالمية لعام ٢٠١٧ إلى تدهور الخدمات الصحية وتأثر وصول المدنيين إليها، وكشفت إليزابيث هوف مُمثلة المنظمة في سوريا، عن أنّ أكثر من ٥٠٪ من المرافق الصحية بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية لا تعمل. وبالإضافة إلى ذلك فإن ٧٥٪ من المِهنيين في مجال الصحة، بمن فيهم المتخصصون في اختصاصات عالية مثل أطباء البَنْج والجراحين غادروا البلاد. وتؤكد هوف أن سوريا قبل الحرب كانت تتمتع بأفضل مؤشر صحة في منطقة الشرق الأوسط، وما رأيناه الآن يُوضّح أنّ تغطية عمليات التطعيم قد انخفضت من ٩٥٪ إلى أقل من ٦٠٪، وهذا يُؤثر بشكل خاص على المناطق التي يصعب الوصول إليها والمناطق المحاصرة.
الأسلحة الحارقة
تصاعدت الهجمات بالأسلحة الحارقة في سوريا بشكل كبير منذ بدأت روسيا عمليتها العسكرية المشتركة مع الحكومة السورية في٣٠ سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ ضد الفصائل المسلحة المعارضة في غوطة دمشق وإدلب وحماة وسراقب وغيرها. ولم تتوانَ الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية والمدعومة من تركيا في استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين في حيّي (الأشرفية وشيخ مقصود) في مدينة حلب وفي مدينة منبج وريفها.
وتوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقاً مُؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها.

صورة رقم 3: الصاروخ الذي ضرب بيت «فهد الناصر».
كان بيت عائلة «فهد الناصر» من قرية الدندلية في ريف مدينة منبج في مرمى القنابل الحارقة والصواريخ التي أطلقها مقاتلو درع الفرات الفصيل المسلح التابع للمعارضة السورية على قريته قبل حوالي عامين وتعرض طفله مصطفى ذو ثلاث سنوات وزوجة أخيه وأخته لحروق أدّت إلى تشوّهات خُلقية.
يُؤكد الناصر تعرض أخته وزوجة أخيه وطفله إلى حالة غثيان وسُعال شديدتين نتيجة استنشاقهم لغازات ذات روائح كريهة كما قال، إضافة لمواد سائلة انبعثت من الصاروخ الذي قُصف به منزله أدّت إلى احتراق أقدامهم وتشوّه جلدها.


صور رقم 4 و 5: تُظهر الطفل «فهد الناصر» وتشوه قدميه نتيجة المواد سائلة المنبعثة من الصاروخ الذي قُصف به منزله.
وتُوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقا مؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها، وتُشعل الأسلحة أيضاً حرائق يصعب إطفاؤها، وتُدمّر الأحياء المدنية والبنية التحتية.
منظمة هيومن رايتس ووتش سجلت استخدام ٤ أنواع من الأسلحة الحارقة في سوريا منذ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢، جميعها من نوع “زاب”، وهي قنابل حارقة.

صورة رقم 6: مادة سائلة ناتجة عن الصاروخ الحارق.
السلاح الكيماوي
خلال الحرب السورية وُثّقت عدة حالات تم خلالها استخدام السلاح الكيماوي كان أبرزها الهجوم الكيماوي الذي استهدف منطقة الغوطة (غوطة دمشق) في ٢١ آب ٢٠١٣. فقد اتّهمتْ المعارضة السورية قوات النظام بإلقاء سلاح كيماوي من غاز السّارين على منطقة الغوطة في حادثةٍ أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن١٥٠٠ شخص في زملكا وكفربطنا والمعضمية وجوبر وعربين وسقبا وحمورية وحرستا وعين ترما. كان معظم الضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال وبلغ عدد المصابين أكثر من ٦٠٠٠ حسب إحصاءات المشافي والنقاط الطبية في المنطقة. وكانت بعثة الأمم المتحدة للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكميائية في سوريا قد أجرت تحقيقاً في العام ٢٠١٣ لتقصي مزاعم استخدام الأسلحة المحظورة في ٧ من أصل ١٦ حالات: خان العسل، وسراقب، وشيخ مقصود، الغوطة، البحارية، جوبر، وأشرفية صحنايا.
واعترفتْ احدى فصائل “جيش الإسلام” التابعة للمعارضة السورية، في السابع من أبريل/نيسان ٢٠١٦، باستخدامها أسلحة محظورة خلال الإشتباكات مع وحدات حماية الشعب الكردية في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب والتي تسببت بحالات اختناق في صفوف المقاتلين والمدنيين في الحي.
كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات النظام السوري باستخدام غاز الأعصاب في ثلاث هجمات على خان شيخون، وتحدثت المنظمة في تقرير نشرته في أيار/ مايو ٢٠١٧ عن “نمط واضح وممنهج” في استخدام الأسلحة الكيماوية قد يصنف في خانة “جرائم ضد الإنسانية”.
ووفقاً لمجلة فورين بوليسي فقد استخدم الجيش الأمريكي الكيماوي رغم تعهده بعدم استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في ساحات المعارك في العراق وسوريا، إلا أنّ عدداً من المسؤولين أكّدوا أنّ الجيش الأمريكي قد أطلق آلاف القنابل التي تحتوي على هذه المادة خلال غارتين على شاحنات النفط في سوريا في مناطق كان يُسيطر عليها تنظيم داعش في أواخر سنة ٢٠١٥. وتُعتبر هذه الهجمات بمثابة أول استخدام مُؤكُد للجيش الأمريكي لليورانيوم منذ غزو العراق سنة ٢٠٠٣، عندما استُخدمت هذه المادة السامة لمرات عديدة، الأمر الذي أثار موجة غضب داخل المجتمعات المحلية التي زعمت أنّ هذه المواد السامة من شأنها أن تتسبب في أمراض سرطانية فضلاً عن جملة من التشوهات الخُلقية.
تُحذّر عبير حصّاف رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية الكردية في القامشلي من النتائج الكارثية على الصحة البشرية والحيوانية والبيئية جرّاء استخدام الأسلحة الكيماوية وتضيف: “استخدام الأسلحة المحظورة دولياً تُشكل تهديداً خطيراً على الأمن الصحي في سورية، نتيجة شيوع الأمراض السرطانية، وازدياد التشوهات الجينية التي تخلقها الأسلحة والمواد الكيميائية، ممّا يؤدي إلى تعقيد الواقع الصحي بارتفاع عدد المرضى وضرورة توفير الرعاية اللازمة لهم.”

صورة رقم 7: «عبير حصّاف» رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية (الكردية) في القامشلي.
ونوّهت حصّاف إلى أضرار استخدامها على الثروة الحيوانية والزراعية، كون الأسلحة الكيميائية تُؤدي إلى تلوث خطير في التربة والنباتات. وقد تتسبب الخضار والمحاصيل الزراعية والفاكهة المصدرة محلياً بين المحافظات والمزروعة في الأماكن التي تعرضت لتلك الأسلحة إلى خطر انتقال أضرارها إلى المدنيين الذين سيتناولون تلك المحاصيل الملوثة ممّا سَيزيد من خطورة الكارثة، وانتقال خطورتها مستقبلاً أيضاً.”
انهيار القطاع الدوائي
تتوزع معامل الأدوية بشكل رئيسي بين ثلاث محافظات هي: حلب فمعاملها تنتج حوالي ٥٥٪ من إنتاج الدواء السوري، ودمشق وريفها ٤٠٪ وحمص ٢٠٪ ، وبحسب تقديرات الصناعات الدوائية، فقد انخفض انتاج الدواء في سوريا إلى ٦٠٪ نتيجة تضرُّر العديد من المعامل.
أرجع الصيدلاني جلال مراد سبب تراجع جودة الدواء المتوافر حالياُ في سوريا إلى انخفاض جودة المواد الأولية المستوردة من الصين والهند وإيران. وأشار إلى أنّ الغياب شبه التام لرقابة المؤسسات المعنية كان سبباً في قيام مُنتجي هذه الأدوية بتخفيض النسبة الدوائية الفعالة فيها. ناهيكَ عن رَواجْ تجارة الأدوية المُهربة والمخدرات والأدوية المُهدئة والتي تحتوي على نسب عالية من المواد المخدرة، وانتشرت بعض الأصناف الدوائية عديمة الفعالية كأدوية الالتهابات وبعض المسكنات.

صورة رقم 8: الصيدلاني «جلال مراد».
وأضاف مراد إنّ انقطاع طرق النقل والمواصلات بين المحافظات تسبب بدوره بصعوبات في نقل وإيصال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى الأسواق. ناهيك عن تعامل المنظمات الصحية العالمية فقط مع السلطات المركزية السورية، وهذا بدوره انعكس سلباً على الواقع الصحي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري.
استمرار الحرب السورية منذ منتصف آذار ٢٠١١ والتي تسببت بمقتل وإصابة الآلاف وتشريد عشرات الآلاف في مخيمات النزوح واللجوء. فاق واقع الصحة في سورية النتائج الكارثية للحرب التي أنهكت كاهل السوريين منذ قرابة الثماني سنوات. هذا الواقع يُحتم على الجهات المعنية الإسراع في إجراء تقييم شامل للقطاع الصحي والرعاية الصحية في البلاد وتأمين الأدوية للمصابين بالأمراض المزمنة. يجب أن يتم هذا تقييم من خلال دراسات تشمل إلى جانب القطاع الصحي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم وضع السياسات اللازمة لتحسينها مع استكمال ترميم المشافي والمراكز الطبية المتضررة وتأمين المعدات الطبية اللازمة لعملها، وذلك بالتعاون مع منظمات الصحة العالمية.
بواسطة Rana Haj Ibrahim | فبراير 19, 2018 | News, Reports, غير مصنف
برلين
عندما تتجول في العاصمة الألمانية برلين، وخاصة بمنطقة كأوسلور، قد يصدمك العدد الكبير من الأتراك الذين جاؤوا منذ زمن بعيد إلى ألمانيا، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. لكنك قد تتفاجأ أكثر لدى سماعك حديث الألمان عن مجيء عدد كبير من الأتراك مؤخراً إلى ألمانيا هرباً من تركيا، ومن الإجراءات التي اتخذها الرئيس التركي أردوغان ضد من ساهموا في التخطيط لانقلاب ضده.
وتشير مصادر ألمانية ل”صالون سوريا” إلى أن أعداداً كبيرة من الأتراك جاؤوا إلى المدن الألمانية وخاصة برلين، عن طريق فيزا سياحية لثلاثة أشهر، وعليهم بعد هذه الفترة أن يتقدموا بطلب لجوء، بعد أن تم تسريحهم ومضايقتهم من قبل السلطات التركية. وأضافت المصادر:” أن الكثير ممن جاؤوا مؤخرا هم من الأكاديميين والصحافيين، الذين يمكن أن يجدوا فرصة عمل في ألمانيا بسهولة، في حين أن الجالية التركية السابقة عملت سابقاً في البناء وفي قطاع المطاعم.” وعبرت المصادر عن استيائها مما تفعله السلطات التركية بمواطنيها من جهة، ومن تدخل تركيا بمدينة عفرين السورية.
وأكدت المصادر أن:” منصة (الحقوق والعدالة) التركية التي تأسست عام ٢٠١٦ من قبل مدافعين عن حقوق الإنسان، وثقت إغلاق الحكومة التركية لحوالي ألف منظمة مدنية، وحوالي مائتي وسيلة إعلام، تماشياً مع قانون الطوارئ الذي أعلنته السلطات التركية منذ تموز عام ٢٠١٦ كما أعلنت المنصة أن حوالي ١٥٠ ألف تركي قد سرحوا من عملهم من قبل الحكومة، ومنهم من اعتقل بعد اتهامهم بعلاقتهم مع العسكريين مخططي الانقلاب.”
صحافية من صحيفة “سود دوتشه زيتونغ” الألمانية أوضحت ل”صالون سوريا” أن:” الصحافيين الألمان أصبحوا يخشون زيارة تركيا بعد الاعتقالات التي نفذتها السلطات ضد صحافيين أجانب”، مشيرة إلى أن “تركيا أصبحت تعتبر الآن بلداً خطراً بالنسبة للصحافيين، وبدأ فيه الصدام بين القوميات.” وأضافت أن:” ألمانيا استقبلت الكثير من الأتراك، ولا يمكنها أن تردهم خائبين، خاصة وأن الأتراك على علاقة وثيقة مع الألمان، فهناك تزاوج وعلاقات اجتماعية بين سكان البلدين منذ قديم الزمان.”
وقللت الصحافية من أهمية تزايد أعداد الأتراك الجدد في البلاد، وعدم تأثيره على صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، مؤكدة أنه “يختلف عن عدد اللاجئين السوريين واللاجئين الأفغان وغيرهم ممن تسببوا بمشاكل داخل ألمانيا.” ورأت أن، “اليمين المتطرف لن يصل بسهولة إلى السلطة.”
ولم تتردد الحكومة الألمانية بدعم من قدموا مؤخراً إليها من تركيا، حيث بادرت الحكومة الألمانية بتشغيل عدد من الأكاديميين، كما قامت بمنح الصحافي التركي الذي يقيم حالياً في ألمانيا ياوز بيدر جائزة “التميز في الصحافة” الألمانية التي تقدمها “مؤسسة جنوب شرق أوروبا” ومقرها ألمانيا.
ويعتبر بيدر أول صحفي أجنبي يفوز بهذه الجائزة، حيث تسلمها في حفل أقيم في جامعة هومبولت في برلين يوم السبت الفائت. وحضر الحفل العديد من الصحفيين من مؤسسات إعلامية ألمانية، وممثلون من بعض دول البلقان، كما حضر ممثلون عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، وأكاديميون أتراك، وممثلون عن وزارة الخارجية الألمانية.
هذا وقد شهدت العلاقات التركية الألمانية تصعيدا مؤخراً، ووصف الرئيس التركي الاتحاد الأوروبي بأنه من بقايا النازية والفاشية، وبأنه يدعم الإرهاب. فيما هددت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال انتخابات منصب المستشارية في أيلول سبتمبر الماضي بعدم انضمام تركيا كعضو بالاتحاد الأوروبي، وقالت ميركل إنه “من الواضح أن تركيا لن تنضم إلى الاتحاد”، مضيفة أنها ستتحدث “إلى قادته الآخرين حول إنهاء عملية انضمام تركيا المتعثرة.”
بواسطة Ghaida Al Oudat | فبراير 19, 2018 | Reports, غير مصنف
لم يكن ليخطر ببالي يوما أن أعيد قراءة قرار مجلس الأمن 1325 الخاص بالمرأة والقرارات اللاحقة به بعين امرأة تحيا في ظل الحرب، ولم أره بعد إعادة قراءته في نهاية ٢٠١١ كما رأيته من قبل. فأن تكون بلدك تحت ظل الحرب، يعني أن تصبح كل اهتماماتك البحثية متعلقة بما يخدم قضية البلد وعما يمكن أن يتم توظيفه والاستفادة منه بما يناسب الوضع الخاص للحرب.
كانت شؤون المرأة كلها تعنيني كامرأة تعيش في دول العالم الثالث حيث توجد أردأ القوانين بحق النساء على مستوى المجتمع الذكوري سلطةً وشعباً، بقوانينه وممارساته وأعرافه وتقاليده. ورغم حساسية تلك القضايا وأهميتها، لكن يبقى العمل عليها ممكناً، والوصول لنتائج متاحاً، ولو كان بطيئاً وبطيئاً جداً. أما تحت ظل الحرب فتتغير الأولويات لتتصدرها شؤون طارئة نتيجة تضاعف سوء وضع النساء في ظل الحرب، والإمعان في تهميشهن، وتعرضهن المضاعف للعنف.
تصبح تساؤلات عديدة هاجساً يومياً، كيف يمكن حمايتهن؟ كيف يمكن توفير احتياجاتهن الخاصة؟ ثم كيف يمكن إشراكهن في عمليات الحفاظ على الأمن وبناء السلام، ومن ثم ضمان تمثيلهن لإسماع صوتهن في عملية تسوية الصراع. كيف يمكن ضمان تواجدهن في جميع مستويات صنع القرار كشريك متساوي لمنع الصراعات وحلها وتحقيق السلام المستدام.
ليس هناك أفضل من القرار 1325 وما لحقه من قرارات للنظر في كل تلك الأولويات والبحث عن مخارج لها، والمطالبة بتطبيقها، وحسب معرفتي الخاصة فقد بدأت المنظمات الدولية والعالمية بإلقاء الضوء على القرار وضرورة إشراك النساء السوريات منذ نهاية عام ٢٠١٢. وتتالت الدعوات لتفعيله والحديث حوله من كل الاتجاهات، وترافقت بمؤتمرات ودورات تدريبية تدعو لضرورة تضمين النساء في العمل السياسي الآني والمستقبلي.
كانت كل تلك الدعوات، الحكومية تارة وغير الحكومية تارة أخرى، تطرح الموضوع وتتناوله بشكل نظري لا تخرج نتائجه عن إطار الورق المكتوب، ولا يتم تفعيل تلك النتائج على أرض الواقع بطريقة منظمة تمكن من الوصول لنتائج حقيقية وليس نظرية. وإن تم القيام بأي مشاريع مبنية عليها فلا يتجاوز تأثيرها العشرات، بتأثير آني سرعان ما يزول دون أن يبني نتائج أو ينجز خطوات باتجاه الهدف المنشود. وفي أحيان كثيرة تكون بعض النساء عاملاً معطلاً، فمنهن من كن يشاركن وهن لا يؤمن بمدى أهمية مشاركة النساء في العمل السياسي ومراكز صنع القرار، ولا في بناء السلام، ولا أهمية أن يكن شريكات متساويات ومتكافئات في جميع المراحل، بل ربما يعتبرن الرجال قوامين على النساء. ومنهن من لم تكن تطرح نسبة مشاركة في مراكز صناعة القرار بأكثر مما وهبت سلطة الديكتاتور لهن (١٢%).
كثيرات قابلتهن لم يكن يعين خطورة الوضع الذي كان يتم أحياناً إلقاء الضوء عليه؛ فيُقللن من حجم أثر الحرب الكبير على النساء والفتيات والأطفال، ويطرحن القضايا وكأن الحرب ستنتهي بين ليلة وضحاها، ويؤكدن أننا لن نحتاج للتفكير في كل القضايا التي طرحتها القرارات المتعلقة بوضع النساء في ظل الحروب بدءاً من القرار 1325 وما لحقه.
في ظل السنوات السبع الماضية، ونتيجة لآثار الحرب الواضحة على النساء السوريات جميعهن، بات من الضروري والمستعجل طرح وضع خطة عمل واضحة لتفعيل القرارات الأممية المتعلقة بالنساء، فلا يمكن الاعتماد على العمل العشوائي والمتناثر وغير المثمر. باتت الحاجة ماسة للعمل المنظم، بعدما تعرّضت النساء السوريات في كامل المجتمع لآثار النزاع بشكل مباشر، إن كان على صعيد كونهن أمهات أو أخوات أو بنات أو زوجات أو حبيبات، أو على صعيد كونهن مواطنات سوريات يحملن قضايا رئيسية يدافعن عنها وأهدافاً مهمة يسعين لها. ودون خطة عمل منظمة لن تتمكن النساء من الوصول لنتائج مرضية، إن كان فيما يخص تحسين وضعهن، أو الوصول لحقوقهن أو في إحلال السلام وحل النزاع .
تتطلب خطة العمل مشاركة كل السوريات بعيداً عن الخلافات السياسية والانتماءات الضيقة، فمن الصعب بل من المستحيل إحلال السلام دون مشاركة حقيقية لكل السوريات على امتداد مناطق سوريا للوصول إلى سلام شامل ومستدام. دونهن جميعاً ستبقى النار تحت الرماد ومن الممكن أن تشتعل من جديد مرة أخرى، إنهن الأقدر على الوصول للأسرة والتأثير في آلية تفكير أفرادها ودفعهم باتجاه العمل الجدي لإحلال الأمن والسلام في كافة المجتمع.
ورغم أن القرار 1325 لم يقدم خدمة مباشرة للسوريات، لا في خدمة النساء والفتيات في أوقات النزاع، ولا في حمايتهن من تبعات النزاع المسلح، لكنه يبقى قراراً مهماً يؤكد على الدور الهام للمرأة في بناء السلام وحفظ وتعزيز السلام والأمن، وعلى ضرورة مشاركة النساء في كل مراحل عملية السلام .
رغم سوء العمل على القرار 1325 في الوضع السوري، حتى من “الأمم المتحدة” التي حولت دور النساء من فاعلات حقيقيات، لمشاركات نخبويات غير فاعلات في شؤون السياسة، كما فشلت في فرض تبني قضايا النساء في الدستور والقانون من قبل كل أطراف النزاع. وفرغت “الأمم المتحدة للمرأة” المبادرات النسوية من مضمونها بالمطالبة بالعدالة والديمقراطية والسلام العادل، وحولت دور السوريات من حاملات قضايا رئيسية وهامة وشاملة، لحمامات سلام ولو كان هذا السلام هشاً وسطحياً ومجرد فقاعة.
عند النظر لشمولية القرار نرى بوضوح قدرته على التغيير وأهميته، وكيف يمكن استثماره لخدمة النساء آنياً ومستقبلياً، وكيف نستطيع عبره تنظيم تحالفات وشبكات نسوية ضاغطة لتنفيذه ولدعم النساء حيثما تواجدن.
كيف ستتمكنّ السوريات من العمل عليه إن لم يوحّدن جهودهن ويحرصن على تنفيذه؟ وكيف سيحملن قضايا النساء إن لم يدركن حقوق الإنسان عامة وحقوقهن خاصة ويؤمن بها؟ والأهم كيف سيتمكن من إحلال سلام عادل وشامل ومستدام إن لم تكن دولتهن دولة ديمقراطية وقانون وعدالة ومواطنة متساوية؟ كل هذا يمكن ان تطرحه خطة العمل وتلم به وتعمل عليه، وبالتالي تستطيع أن تضع خططاً وآليات للتنفيذ، ومن هنا تأتي أهميتها وضرورتها.
حول المرأة السورية والأمن والسلام:
قدمت المرأة السورية ولا تزال الكثير من التضحيات وعانت من الاضطهاد والعنف بمختلف أنواعه وأشكاله من جميع الأطراف، ولا زالت تتعرض للانتهاكات والمخاطر وتعيش تحت هيمنة الفكر الذكوري على المجتمع. وتعتبر النساء هن الضحية الأولى لانتهاكات حقوق الإنسان في الأسرة والمجتمع والدولة وأطراف الصراع المسلحة بمختلف توجهاتها الدينية والسياسية. واليوم يواجهن تحدياً مضافاً لاضطراب وضعهن الأمني والجهل بالزمن اللازم لاستقرار سورية. إنه الخوف فيما إذا استقر الوضع ولم تكن النساء قادرات بعد على الانخراط في العمل على تغيير نظرة المجتمع للنساء، ولم تشاركن على صعيد متساوي ومتكافئ في مراحل التغيير والعبور نحو الاستقرار والحفاظ على بنية المجتمع.
لهذا على السوريات أن يحظين بكل الدعم للعب دور رئيسي ومركزي في العديد من المستويات، وتبني قرار 1325 حد فاصل للوصول الى حقوق النساء وقضايا الأمن والسلام؛ فهو يفتح المجال أمامهن للإدلاء برأيهن والمشاركة بأفكارهن للضغط على صانعي القرار لتغيير سياسات العنف الدموية القائمة والقوانين التمييزية بما يحقق لهن المساواة الحقيقية والمواطنة الكاملة المتساوية. ويطالب القرار 1325 أطراف النزاع باحترام حقوق النساء ودعم مشاركتهن في مفاوضات السلام وفي مرحلة ما بعد النزاع. ويعد وثيقة قانونية بالغة الأهمية تدعو إلى زيادة نسبة تمثيل النساء في كل مستويات صنع القرار لتتمكن من المشاركة الفاعلة في آليات منع الصراعات وإدارتها وحلها.
لكن يُعتبر تطبيق القرار 1325 ودعمه التحدي الأكبر الذي تواجهه النساء السوريات في المرحلة الحالية؛ وذلك لغياب دور النساء في صنع القرار السياسي الوطني، وإقصائهن عن العمل السياسي الحقيقي. رغم أن الواقع يتطلب ضرورة وجود النساء في الساحة السياسية بشدة ليشاركن في صناعة القرار الحالي والمستقبلي، وليتمكن من المشاركة في صناعة مستقبل سوريا بما يخدم المجتمع بشكل عام، وقضاياهن بشكل خاص.
نحن اليوم بأشد الحاجة لتفعيل دور النساء الذي طالما شل حركته عوامل كوضعها في الدين ونظرته لها، وتبني المجتمع لأعراف بالية، وتسلط المجتمع الذكوري، والخوف والضعف الناتج عن عدم وجود مجموعة قوية من النساء قادرة على خلق القرار والبيئة المناسبة لإنهاء حالة التفرد والتسلط وإقصاء النساء في المجتمع.
الفرصة المناسبة مُتاحة للعمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1325 ووضع خطة عمل وفقه، والدفع باتجاه تنفيذه، وتضمينه في خطة عمل للمناصرة والدعم والمطالبة بتطبيق بنوده وتنفيذها. للبدء يلزم أولاً تكييف القرار 1325 وتطويعه للخصوصية السورية، فالقرارات الدولية عادةً تواجه بالرفض من قبل التيارات المتشددة والمجتمعات المحلية، وتُتهم بأنها مستوردة، وأنها لا تناسب الطابع الثقافي للمجتمع. وهذا الوضع قد ينتج عن الجهل بالقرار، لهذا تبدأ الخطوة الأولى بحملة توعوية بإنسانية القرار 1325، وتعامله مع النساء كشريكات في صنع السلام والأمن في بلدهن. ثم يتم الانتقال للإجراءات الجذرية والشاملة الممتدة إلى أعماق المجتمع، والتي تستوعب جميع مكوناته. ومن هنا تأتي أهمية دور المنظمات المدنية خاصة النسوية، ودور الأحزاب السياسية، والقيادات المجتمعية، بالقيام بحملات حشد ومناصرة موجهه نحو تبني سياسات عامة وبرامج خاصة لتفعيل القرار، والطلب من السلطة والمعارضة إعطاء دور حقيقي أكبر للنساء في الأوساط السياسية والاجتماعية.
يقع على المجتمع الدولي ضمان مشاركة الأمم المتحدة في البدء بتأسيس خطة عمل وطنية تمهيدية لتفعيل دور النساء والدفع باتجاه تبنيها من جميع الأطراف، تعتني بتأهيل وتمكين السوريات وتزويدهن بمهارات حل النزاع ودمجهن في صنع القرار السياسي لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.
يتبع هذه الخطوة الأممية، تمكين النساء على امتداد سوريا من وضع خطط عمل وبرامج مشتركة تراعي خصوصية كل منطقة، على أن تحظى الناشطات في هذا الشأن أولاً ببرنامج حماية تتبناه جميع الأطراف وتلتزم بتنفيذه، تحت رعاية أممية متوفرة للدعم والتنفيذ. لا تستطيع خطة العمل تجاهل ضرورة مراعاة رفع الوعي لدى العاملين في المؤسسات العسكرية، ورجال الشرطة، حول العنف القائم ضد النساء وضرورة حمايتهن. ولا يجب أن ننسى أهمية دور السياسات الإعلامية في تكريس مفاهيم المشاركة والمساواة بين المرأة والرجل ورفع سوية ثقافة المجتمع نحو تلك القضايا والعمل على تغيير المفاهيم والأعراف الدارجة.
ومن الأهمية بمكان العناية بتطوير أداء السياسيين وأصحاب صنع القرار حول المساواة بين الجنسين، وضرورة مشاركة المرأة في الحكم على صعيد الأحزاب السياسية، ومجالس الشعب، والوزارات، ومؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني. وهذا يدفع للنظر لأهمية العناية في خطة العمل برفع وعي السياسيين ورجال القضاء بحقوق المرأة، وتغيير النظرة النمطية لها، وإدماج المرأة والرجل في رسم سياسات واستراتيجيات تضمن تنفيذ خطة العمل، وضمان تعامل النظام القضائي مع قضايا النساء من منظور العدالة والمساواة ما بين الجنسين بما يتناسب مع القرارات الأممية المتعلقة بحقوق النساء. كما على خطة العمل ادراج ضرورة مراجعة المناهج التعليمية لضمان تدريس مفهوم المساواة بين الجنسين وتطبيقه في كافة المؤسسات التعليمية.
لعل هذا مجرد إضاءة على بعض ما يمكن استثماره من القرار 1325 لخدمة السوريات وقضاياهن في ظل الحرب وما بعدها، ربما تدفع الإضاءة سوريات وسوريين لمحاولة فهم أهمية هذا القرار الدولي وضرورة العمل على تنفيذه والمطالبة بتطبيقه، لنتمكن من البدء برسم الطريق نحو سلام عادل في ظل دولة عدالة ومساواة وحقوق إنسان.
نحن وحدنا قد نتمكن بالعمل والمثابرة من وضع خطة عمل للنساء السوريات وفقاً للقرار 1325 وما لحقه من قرارات، ولكننا لن نتمكن من تطبيقها دون حشد دول العالم لنيل دعمها والضغط على الأمم المتحدة للعمل معنا. هذا فيما لو كانت دول العالم والمنظمات الدولية والنسوية يملكون النية لتطبيق ودعم القرار 1325 في الوضع السوري، وإحلال الديمقراطية والسلام في سوريا، وهذا ما أشك به.
بواسطة Paula El Khoury | فبراير 8, 2018 | Reports, غير مصنف
رومان فوا جغرافي خبير بدراسات المياه، أنجز رسالته الجامعية عن “منشأة الأسد” أو مشروع الفرات كما عرف في سوريا، وما رافقه من تشييد لقرى نموذجية، وجر لمياه الفرات لتأمين حاجات السكن والزراعة، وذلك بإدارة مركزية ممسكة بإحكام من قبل نظام البعث في السلطة. امتدت دراسة الجغرافي فوا على مدى سنتين، بين عامي 2008 و 2010. قابلناه في باريس فشرح لنا أهم ما توصل إليه في هذه الدراسة. كما أتاحت لنا المقابلة الإطلالة على الوضع في سوريا عشية بدء الأحداث، من موقع متميز لمراقب خارجي أقام طوال تلك الفترة في شرق البلاد.
بولا الخوري :ما الذي أثار اهتمامك بدراسة مزارع الدولة في سوريا؟
رومان فوا: كنت أعمل على مشاريع المياه في مالي بأفريقيا، فطرح علي المشروع في العام 2007 أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في الجغرافية البيئية في السوربون بباريس. الاقتراح أتى من باحث سوري في الاقتصاد الزراعي في جامعة حلب سليم بدليسي، وهو حائز على دكتوراه من السوربون أيضاً. وكانت الفكرة تحقيق مشروع بحث مشترك مع جامعة حلب حول إيجابيات وسلبيات منشأة الأسد كنموذج للتنمية في منطقة شبه قاحلة. وإن كانت مساهمتي في المشروع تتعلق بالمرحلة الراهنة أي بعد نهاية تجربة مزارع الدولة، فسرعان ما اكتشفت أنه لفهم هذه المرحلة علي العودة إلى البداية. وهكذا قررت دراسة المزارع منذ نشأتها في الستينات، لا بل عدت مئة عام إلى الوراء، إلى بداية التحديث في سوريا في ظل عبد الحميد الثاني.
أي أنك لم تكن تعرف سوريا يوماً، لم تزرها من قبل؟
لم أكن أعرف سوريا أبداً ولهذا قررت البدء بدراسة اللغة العربية في باريس قبل ذهابي بشهرين، لأنني كنت مقتنعاً أن دراسة أي منطقة بدون معرفة لغتها أمر غير سليم لي وللدراسة وللناس الذين سأدرس تجربتهم. ومع ذلك كان من المتوقع أن يحصل أحد الشبان السوريين على منحة من أجل مساعدتي بالتواصل مع السكان، لكنه لم يحصل عليها، فاضطررت آنذاك للذهاب وحيداً. كان لا بد أن أسرع في تعلمي اللغة خاصة أنني لم أكتسب الكثير منها في فرنسا، فكنت أصرف ساعتين كل يوم قبل النوم في حفظ ٥٠ كلمة على مدى أيام الأسبوع ودون انقطاع، على أن أعيد تردادها في الصباح كاملة. لم أنجح دائماً في حفظها كلها لكن ذلك ساعدني كثيراً خاصة أنني كنت مضطراً لاستخدام العربية مع الذين لا يتقنون غيرها. وفيما ما بعد علمني السكان اللغة وخاصة المحكية.
صحيح لديك لهجة سورية عندما تتكلم بالعربية، هل تتقنها فعلاً؟
حتى أنني أستطيع الآن أن أقرأ وأفهم ما أقرأه وبإمكاني أن أكتب قليلأ. أنا مولود لأب كاثوليكي وأم يهودية عائلتها عربية “سافارديم”. حين التقيت جدتي والدة أمي بعد عودتي من سوريا فوجئت بأنها بعد خمسين عاماً من إقامتها في فرنسا ما زالت تتكلم العربية بطلاقة ورحنا نتكلمها سوية. كنا سعيدين جداً بذلك! وما زلت أتكلم العربية مع سوريين أتوا الى فرنسا بعد الحرب، وأنا أساهم في تسهيل أمورهم هنا، لأسباب لا تتعلق بابحاثي فقط بل من خلال الجمعيات التي تساعد من يأتون من هناك. هؤلاء الناس كانوا مضيافين معي. ومع العلم أنه كان لدي مسكن في جامعة حلب فإنهم رفضوا إلاّ استضافتي في منازلهم.
في دراستك تستشهد بتجارب قديمة في المنطقة وصولاً إلى مصر الفرعونية، هل تعتبر أن نظام البعث انطلق من حاجات ترشيد استثمار المياه وإلى مركزة المشاريع وإمساكها من خلال فهم تلك التجارب القديمة؟
يبرر النظام سلطته بخطاب عقلاني على الدوام، فحتى في مصر الفرعونية في ظل الإدارة المركزية لتوزيع المياه لم يكن الأمر نابعاً من الحاجة لترشيد المياه أو حسن استثمارها وتوزيعها، بل اندرج في سياق تبريرات لتأمين استمرارية السلطة، بحيث يجبر المواطن اقتصادياً وسياسياً على الامتثال لها. ففضلاً عن القمع السياسي يشكل هذا التبرير قاعدة أساسية لأي لسلطة. مع ذلك فإن مشروع مزارع الفرات في شرق سوريا، أي المنطقة الواقعة شرق حلب، يحتمل تبريرات ترشيدية كالتي قدمها النظام آنذاك: فإذا رسمنا خطاً وهمياً من الشام حتى حلب فإن كل ما يقع شرق هذا الخط، وهو يتضمن فيما يتضمن الرقة، دير الزور وتدمر كان نوعاً من المساحات الصحراوية التي لا يقطنها إلا البدو.
إذا كانت هذه المناطق قاحلة، ألم يكن المشروع مشابها لمشروع القذافي التبذيري لري الصحراء إذن؟
أولاً ليست المنطقة صحراوية قاحلة كلياً ، فكما في كل صحراء هناك واحات. مع ذلك هناك شيء مما تقولين. وهذا ما ينطبق على كل مشاريع التحديث في المنطقة. فأي سلطة جديدة تقضي على كل ما تحقق قبلها وتعلن أنها بصدد بناء “الإنسان الجديد” في محيط جديد، لتثبت بأنها أفضل من سابقاتها. وهذا ما عبر عنه خطاب السلطة البعثية آنذاك، تحت شعارات من نوع: “إنسان جديد فوق أرض جديدة” . وهو شبيه بالخطاب التحديثي الغربي بشكل عام. فالمشروع الأمثل للبعثيين في سوريا كما في مصر الناصرية وكذلك في إسرائيل هو تحقيق مزارع بإشراف الدولة، ففي إسرائيل مثلاً تم إنشاء الـ”كيبوتز”. ورغم ادعاء إسرائيل أنها تتميز عن الحكومات القومية العربية، فإن كل هذه التجارب ترتكز على أيديولوجية قومية اشتراكية، تتطور فيما بعد إلى ليبرالية، فتعزز حركة التمدين التي تبعدها عن الأرياف، مما يقضي على مشروعها التحضيري الأصلي ويزعزع سلطتها.
ولماذا كان عليك العودة مئة عام الى الوراء إذن؟
لم تكن هذه أول مرة تحاول فيها السلطة السياسية انجاز مشروع تحضيري في هذه المنطقة في العصر الحديث. ففي بدء حقبة التحديث العثمانية، مع بداية أفول الإمبراطورية وفي ظل حكم عبد الحميد الثاني بدءاً من 1880 كان يجب تحويل السكان من بدو إلى حضر، ولما كانت إحدى الغايات الأساسية لأي سياسة تحديث مركزية هي جبي الضرائب فكان على السلطة أن تحصي السكان وتعين أماكن سكنهم. هذا ما باشره عبد الحميد وكان ذلك بدايات مشاريع التحديث في سوريا، التي توجت في ظل الانتداب الفرنسي بإجراء أول مسح شامل للأراضي.
وهل كان السكان متحمسين منذ البدء لإنشاء هذه المزارع؟
في الغالب يقول الأشخاص الذين قابلتهم “لم يكن لدينا الخيار”. لم يكن ذلك إجبارياً وحسب بل عنيفاً وقد قال لي أحدهم: “كانت هذه الأرض لي وبين ليلة وضحاها اصبحت أرضاً للدولة”. تم إبلاغهم بالإخلاء عبر رسائل ودون أي إمهال أو مجال للاعتراض. ومع ذلك فقد كان موقفهم ملتبساً إذ أنهم يعبرون في الوقت نفسه عن تمتعهم بمنافع التنمية التي حملها المشروع، وقد قال لدي أحدهم: “في السابق كانت كل هذه الأرض عبارة عن صحراء، إنها جنة الآن، جنةّ!”
في أي عام حصل ذلك؟
بدأ ذلك عام 1966، والحقيقة أن بداية التفكير في المشروع تعود إلى عام 1960 في بدايات البعث، من ثم عاد حافظ الأسد وتبناه. المشروع ضخم وهو عبارة عن استصلاح مائي-زراعي لمئات آلاف الهكتارات التي جرى استغلالها من قبل القطاع العام فيما موّل كل ذلك الاتحاد السوفياتي. وقد شكل المشروع واجهة لتفاخر نظام البعث بسياسته التنموية بدءاً من الستينات في القرن الماضي.
إذن كانت أراضي المشروع شاسعة؟
عشرون الف هكتار وذلك فقط في مزرعة الدولة الذي قمت بدراستها. كان هدف المشروع في البدء استثمار 640000 هكتار، لكنه لم يتحقق في النهاية، فمجمل الأراضي التي تم ريّها من نهر الفرات بلغت 200000 الى 300000 هكتار. وهذه مساحات ضخمة. لم تستخدم كل الأراضي في المنطقة ضمن مزارع الدولة، لكن جرى بناء وحدات سكنية مع أراض زراعية على مساحات تتراوح بين 8 و 16 هكتار وزعت كل منها على قاعدة كل وحدة لعائلة واحدة. من ثم في العام 2000 تم نزع التأميم عن هذه المزارع وجرى توزيعها على العائلات الصغرى أو النواتية من خلال وحدات تمتد كل منها على ثلاثة هكتارات.
هل بإمكاننا القول بأنه أحد أهم مشاريع الدولة البعثية آنذاك؟
نظام البعث لدى وصوله إلى السلطة أمم جميع مرافق الاقتصاد، أي أن الإقتصاد كان مداراَ كلياً من قبل الدولة، وكان مشروع الفرات يمثل 20 بالمئة من استثمارات الدولة بين السبعينيات والثمانينيات، أي أنه مشروع ضخم بلا شك. شخصياً أعتبره من أكبر مشاريع الدولة السورية في ذلك الحين، ومن قابلتهم كما أصدقائي السوريين يؤكدون ذلك ويخبرونني أن مشروع الفرات كان مدرجاً في برامج التدريس.
أي أنه كان مشروعاً ذات وظيفة ايديولوجية رئيسية للنظام؟
بالتأكيد، ولأيديولوجية التحديث على وجه الخصوص. وكما ذكرت لك في ما سبق هذا ينطبق على مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية واستراليا وفرنسا، ألخ.. هناك دراسات علمية عن تخضير الصحراء في استراليا، وهناك مشروع في أريزونا، وفي أسبانيا حصل ذلك خلال حقبة فرانكو لكن قبل ذلك أيضاً. ولماذا؟ أعتقد أن فكرة الحداثة مرتبطة بالتقنية، ومن هم أرباب التقنية؟ المهندسون، وعلى ما يعمل المهندسين؟ على الرياضيات. وأفضل مجال لتطوير الرياضيات هو الحسابات المتعلقة بالمياه وهي نوع من الألعاب الفكرية الأكثر إثارة للتسلية لدى خبراء الرياضيات.
إذا نظرنا الى سياسات المياه نفهم الكثير عن سياسات التنمية في هذه الدول. ويقول محمـد فايز الباحث العربي المتخصص بالدراسات المائية في العالم العربي، والذي يعود بدراسته الى مرحلة حمورابي، إنه في الحقبة العباسية كان هناك مهندسون يعملون على شيء من دراسات التمدين ولكن بشكل رئيسي على الدراسات المائية والزراعية. إذن هذا تقليد لدى العرب منذ القدم. أما الصلة ما بين الهندسة والحداثة فهي بنظري أمر لا جدال فيه، فالتكنوقراطية هي أسلوب فرض السلطة السياسية عبر التقنيات.
صحيح فإن الدولة الحديثة تحيط نفسها بمهندسين، وكأنها بذلك توظف “جيوشها الفكرية”. في فرنسا مثلاً يلفت نظري استخدام تعبير المهندسين في جميع قطاعات الدولة المعرفية والعلمية، كالعاملين في المركز الوطني للبحوث العلمية، ما رأيك بذلك ؟
بالتأكيد حتى في الجامعة، فالمعهد الوطني للإدارة يخرج كبار موظفي الدولة، أي الخبراء الذين يهندسون الدولة ومنهم رؤساء الدولة. لكن عالمي الاجتماع العربيين ساري حنفي الذي أجرى دراسة عن المهندسين في سوريا واليزابيت لونغنيس الفرنسية المستعربة يقيمان تمييزاً بين الهندسة في فرنسا ومثيلتها في سوريا أو في ما يسمى ببلدان الجنوب بشكل عام. وتعتبر لونغنيس مثلاً أنه في فرنسا لا تعلو السياسة على التقنية أو التكنولوجيا، من هنا نجد نوعاً من العقلانية لدى السلطة في التعامل مع المعرفة التي ينتجها أرباب التكنولوجيا، مع العلم أن السياسة تخضع في الحالتين لموازين القوى. لكن في بلدان الجنوب سرعان ما يسيطر السياسي على التقني، الذي يصبح مادة لتبرير خطاب الدولة، وتستقيم الدولة كحكم بين مراكز القوى والمصالح المختلفة في الاقتصاد والمجتمع، فتتعطل بذلك عملية إنتاج المعرفة التقنية.
ألم يواجه هذا المشروع التحديثي الذي أحدث انقلاباً كاملاً في بنية المجتمع أي مقاومة من السكان الذين ينتمون إلى علاقات عائلية وقبلية تقليدية مثلاً؟
حظي حزب البعث السوري في بدايته على تأييد واسع من السكان، حتى من فئات الشباب البورجوازية التي وجدت فيه مشروعاً لتغيير المجتمع بناء لعلاقات اجتماعية حديثة، أما البعد الاجتماعي للحزب الذي عمل على توزيع عادل لخيرات البلاد أو نادى بذلك على الأقل فأمن له تأييداً لدى الفئات الشعبية.
من ناحية ثانية إذا نظرنا إلى انتماءات سكان هذه المنطقة فإنهم في غالبيتهم من القبائل أو العشائر، وهكذا حتى لو قيل إن حزب البعث السوري هو حزب طائفي ذو قاعدة علوية فهذا غير صحيح إلّا نسبياً، فهناك شبكة علاقات مبنية على قاعدة طائفية، لكن هذه المنطقة ذات الغالبية السنية كانت منطقة ذات حظوة خاصة لدى السلطة، لأنها اغتنت بفعل استثمارات الفرات الكبرى وباتت تشكل قاعدة زبائنية هامة لها. مثلاً أحد نواب هذه المنطقة، وهو النائب الذي كان صاحب أطول ولاية برلمانية في العالم، دياب الماشي، هو من هذه المنطقة وكان دائم التباهي بتأييده لعائلة الأسد وحافظ الأسد بوجه خاص. كانت هذه القبائل موالية لنظام الأسد بسبب المنافع التي كانت تحصلها وبفعل تنامي العلاقات الزبائنية في الاقتصاد والسياسة.
هل لأن النظام أو حزب البعث كان يمر عبر هذه القبائل لفرض سلطته على السكان وبالتالي كان عليه الحفاظ على سلطتها؟
صحيح. على سبيل المثال، هناك أحد مشايخ القبائل الذي قابلت، كان متزوجاً ومطلقاً ومتعدد الزوجات لخمس عشرة مرة، مما يعبر عن امتلاكه لثروة كبيرة. كان ابنه مهندساً وأحد كوادر مشروع الفرات فضلاً عن كونه نائباً، فيما تمتلك عائلته غالبية المحال التجارية في المدينة، أي كل الصيدليات والمطاعم وأغلب المساكن المعروضة للإيجار.
أميز في دراستي بين ثلاثة مصادر للسلطة حول مشروع الفرات متمايزة ومتراصفة في آن: المصدر القبلي للسلطة من خلال السلالة العائلية، مصدر سلطة الدولة من خلال الموقع الاجتماعي والعلمي، مهندسون وإداريون، والمصدر الأخير هو رأس المال من خلال الملكية، وهذا المصدر تعزز بوجه خاص بعد عام 2000 إثر تصفية مزارع الدولة وتخصيص الأراضي والعديد من النشاطات الاقتصادية. منهم من يمتلك مصدراً واحداً كمحام ومهندس فيما آخر يراكم المصادر الثلاثة للسلطة. أما الأجور فقد لعبت أيضاً دوراً في التمايزات الاجتماعية وفي علاقات البنية الاجتماعية بالسلطة. حددت الأجور حسب التراتبية في إدارة المنشأة ومن الأعلى الى الأسفل: المدير وسبعة أقسام لكل مشروع: قسم الري، قسم الآلات، قسم آلة الضخ، وقسم التخطيط، وغيرها، وتقسيم مناطقي، مدير المزرعة ومسؤولو القطاعات والموظفون والعمال. وبذلك تشبه منشأة الأسد أي مؤسسة رأسمالية حديثة.
هل كان مشروعاً عقلانياً للدولة لاستيعاب اليد العاملة المتعلمة ومكافحة البطالة المحتملة؟
بالتأكيد، وذلك من داخل المنطقة ومن خارجها، فهناك أشخاص أتوا من إدلب وهي منطقة جبلية تنقسم بين أراض قاحلة من جهة ومستنقعات من جهة أخرى وحيث أغلب السكان بلا عمل. في نهاية المشروع وتوقف الدولة عن تمويله، عاد الأشخاص الكبار في السن إلى إدلب، أما أولادهم الذين ولدوا هناك فلم يريدوا مغادرة المزارع، فإدلب لا تعني لهم شيئاً.
جرى جمع السكان من المناطق المجاورة لملء القرى النموذجية بالسكان إذن؟
الكثير ممن تم إسكناهم في المزارع هم أشخاص هامشيون. منهم من أتى من إدلب مثلاً التي كان الخارجون على القانون يلجأون إليها في السابق لوعورتها. ومن هناك أتى الكثيرون للعمل في المشروع وللإقامة فيما بعد. لقد أتى سكان المناطق المجاورة من تلقاء أنفسهم. لكي أن تتخيلي أن هؤلاء الناس الفقراء والعاطلين عن العمل يجري في صبيحة أحد الأيام توزيع مناشير عليهم تدعوهم للمشاركة في مشروع تنموي وإنتاجي في الجوار. ولإعطائك فكرة عن سرعة تطور المشروع وديناميته: كان عدد السكان ستة الآف عام 1970 فبلغ ستين ألفاً عام 2004، ففضلاً عن التكاثر السكاني الطبيعي هناك غالبية سكانية قدمت من الخارج وبينهم عدد من الأكراد أيضاً.
كيف يمكننا النظر في هذه الإشكالية من ناحية التحولات الاجتماعية والجيلية على امتداد المرحلة الطويلة من مشروع الفرات؟
لقد تم الانتقال من مجتمع قبلي قائم على السلالة إلى مجتمع حديث قائم على الموقع الاجتماعي- المهني: المهندس، المدير التقني، العامل المتخصص، العامل غير المتخصص، وهؤلاء الأخيرون كثرت بينهم نسبة النساء. كان هناك تمييز جنسي فعلي حتى أنه لم توجد مهندسات في المشروع. هذا الأمر لا ينطبق على عموم سوريا بل خاص بهذه المنطقة. لكن لا شك أن مزارع الفرات غيًرت المجتمع بشكل جذري أيضاً، فالنساء الآن يعملن كمعلمات ومحاسبات وموظفات دولة، والفتيات يذهبن إلى المدارس وإلى الجامعة في حلب التي تبعد مسافة ثمانين كيلومتراً، وهذا ما يعبّر عن مسار طويل بالتأكيد. وأحد مؤشرات التغيير الهامة هو نسبة محو الأمية في سوريا التي باتت الأعلى بين البلدان العربية على امتداد هذه المرحلة.
ومع ذلك لم تستفد النساء بشكل جذري من هذه التحولات؟
بقي هناك نوع من التقسيم الجنسي للعمل، ومواقع النساء المهنية بقيت بين الأقل أجراً. الرجل يقود آلات الحراثة ويقوم بأعمال النقل والري، أما المرأة فتقوم بالقطاف والتنظيف والتوضيب. أي أن هناك تمييزاً بين العمل وقوفاً أو انحناءً وهذا الأخير أجره أقل، وهذا التمييز ليس من عندي بل يستخدمه الأشخاص الذين قابلتهم. لكن من المهم الإشارة إلى أنه بالرغم من كل من قيل وكتب دولياً بأن هذه المنطقة المحيطة بحلب تؤيد تنظيم الدولة الاسلامية وأنهم اصوليون لأن أكثرية السكان من السنة، فهذا غير صحيح. وشخصياً يحزنني هذا الكلام. في إحدى المرات كنت مع بعض الشبان في ساحة القرية، فمرت سيدة محجبة من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، فوجئوا بها وقالوا هذه السيدة ليست من هنا، وأنا أيضاً فوجئت لأنني لم أر يوماً نساء يرتدين الحجاب الكامل هناك. دخلت بيوتاً فيها نساء وإن كنت أنا محترماً لتقاليدهم، فهم أصلاً لم يحملوا أي أفكار مسبقة عني كرجل غريب وكانوا سعيدين بوجودي.أثناء إقامتي كانت النساء ترتدي الحجاب بحرية واجمالاً للحشمة أو لحاجات العمل، ولدى العائلة التي استضافتني كانت بعض النساء تخلع أحياناً حجابها لكي أخذ لهن صوراً مع العلم أنهن كن يطلبن مني حفظها لديهن، ولم يثر ذلك يوماً حفيظة الرجال.
وهل أنشئت مدارس تعليم تقني وإعداد مهني احترافي لمواكبة حاجات المشروع من اليد العاملة المتخصصة على جميع المستويات؟
أنشئ معهد للزراعة مع برامج دراسية متخصصة، ومع ذلك كان السيرورة تدريجية فأوائل المهندسين قدموا من المناطق الأخرى كالشام وحلب، أي من الفئات الطبقية العليا في المجتمع التي كانت متحمسة للمشروع كما أشرت أعلاه. وقد تحمس هؤلاء جداً لمشروع الفرات وتبنوه على عكس سكان المنطقة الذين رفضوه في البداية لا بل تخوفوا منه، والحال أنه تمت مصادرة أراضيهم وأتى من يقول لهم من الخارج إن نمط حياتكم متخلف ويجب أن تتغيروا على هذه الشاكلة أو تلك، وكان ذلك عنيفاً بالفعل. فالدستور السوري في ظل البعث الموجود في السلطة منذ عام 1963 يقوم على اعتبار البنى القبلية كنوع من الإقطاعية التي يجب استئصالها من أجل ان يسود بين الشعب الشعور بالاتنماء إلى القومية العربية لا غير. لقد لقي هذا الخطاب بالمقابل تأييداً من الشباب البرجوازي المؤيد للحداثة.
لكن حصلت مع ذلك مساومات مع وجهاء القبائل؟
في البداية لم يتم ذلك في مزارع الدولة، لكن شيئاً فشيئاً وبسبب المنطق الجامد لمقاربة المشروع، أي العمل على تطبيق المشروع بحرفية ما خطط له، وبمقاربة عقلانية جامدة يستحيل تطبيقها في الواقع، بدأت المساومات. هذا ما فهمته من بعض الذين قابلتهم، والذين أقروا بأنه تم توظيفهم لأنهم ينتمون لقبيلة أو أخرى.
وماذا عن التحولات الاجتماعية الأخرى التي لاحظتها؟
هناك تحولات ثقافية اجتماعية مهمة، فالسكان ينظرون عموماً إلى حياتهم بأنها أفضل بكثير من السابق، على الأقل بسبب التسهيلات الحياتية اليومية كإقتنائهم للتكنولوجيا المنزلية. لقد أجريت مئة مقابلة مع السكان، بينهم الكبار في السن الذين كانوا بين الخامسة عشرة والعشرين من عمرهم في بداية المشروع، كلهم يتفقون على الترحيب بهذه التحولات. والأصغر سناً قالوا لي: “قبل الري لم يكن هناك شيء هنا، كانت المنطقة عبارة عن صحراء”، حتى أن أحد الشباب قال لي مرة إنه قبل المشروع لم يكن أحد يسكن هنا، وتطلب مني الأمر وقتاً لإقناعه بأنه كان يوجد سكان في هذه المنطقة من قبل، فمزرعة مسكنة التي عملت عليها مثلاً أنشئت على أنقاض قرية. أي أنهم استبطنوا فكرة الحداثة إلى حد الاقتناع بأن كل شيء هناك قام من عدم.
وهل أدى توزيع المساكن على قاعدة لكل عائلة مسكن مستقل إلى تغيرات أجتماعية؛ ربما على تعزيز نمط العائلة النواتية داخل البنية القبلية التي تعتمد العائلة الممتدة؟
في الواقع يتعايش النمطان حتى يومنا هذا، ففي القرى القديمة التي تم إدراجها في المزارع يبقى نمط العائلة الممتدة قائماً أي سكن الأجداد والأبوان والأحفاد في منزل واحد. أما في المساكن المستحدثة أو القرى النموذجية كما جرت تسميتها، فنجد عائلات نواتية صغرى ومختلطة الأصول أي أن العديد منها أتى من قرى مجاورة مختلفة. وهنا تبدو مظاهر التحول الثقافي الذي أتحدث عنه، فأكثر هؤلاء قالوا لي “أفضل العيش هنا وليس في قريتي الأصلية حيث لي أقارب، لأنني حر أو حرة هنا”. فهم ليسوا ملزمين بالواجبات الاجتماعية والزيارات العائلية، كما أن لا أحد يراقب أو ينتقد سلوكهم ونمط حياتهم. إذن هناك رغبة بإقامة مجتمع جديد والانتماء اليه، وهذا أحد الطموحات الأساسية للمشروع التي نجحت جزئياً.
وبرغم ذلك وصل مشروع التحديث البعثي بأكمله الى مأزق، كيف تفسر ذلك؟
في أي مشروع تحديثي يجري استثمار الكثير من الموارد المالية والايدلوجية والطبيعية ضمن سياسة لإضفاء الشرعية على الدولة، وشيئاً فشيئاً تنضب الموارد وتنمو ظواهر الزبائنية، اي أن هناك من يستفيدون من إنجازات المشروع الحداثي على حساب الآخرين ويعتاشون على الموارد المحققة. يضاف إلى ذلك نهاية الاتحاد السوفياتي الذي موّل هذه المشاريع في سوريا. ومن ثم هناك تراجع للزراعة بشكل جذري، وإذ كان الرئيس حافظ الأسد يقوم بكل زيارته الرسمية الخارجية في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي برفقة وزير الزراعة، فقد توقف عن اصطحابه بعد هذا التاريخ كدليل على هذا التحول. في هذا النمط من الاقتصاد يجري تنظيم القلة لصالح بعض النافذين في السلطة وعبر ذلك ينمو الفساد كالسرطان فيقتل الاقتصاد.
فكان لا بد ان تحدث الانتفاضات في سوريا إذن عام 2011؟
استطيع التحدث فقط عن المنطقة التي أعرفها، ففي حين امتدت حركة احتجاجات واسعة على نطاق واسع من سوريا بدءاً من آذار/ مارس 2011 فإن الاحتجاجات في المناطق الواقعة في نطاق منشأة الأسد كانت قليلة، وربما أمكن تفسير ذلك ولو بصورة جزئية بالسياسات الزراعية خلال الأربعين سنة الماضية. وقد بلغت الاستثمارات أحجاماً خيالية في هذه المنطقة مما جعلها أقل فقراً من المناطق الأخرى وساهم في عدم عدائها الشديد للنظام.
بالاعتماد على مركز الخرائط السوري الذي نشاً أثناء الحرب، الذي يضم إحصائيين واختصاصيين في أنظمة المعلوماتية الجغرافية ويقدم نفسه على أنه مستقل عن أي طرف سياسي، استطعت وضع خرائط للتحركات المناهضة للنظام في السنوات الأولى للانتفاضة السورية بالتقاطع مع الانتماء الجغرافي، وبخاصة في مناطق مزارع الدولة فتبين لي أن سكان هذه المناطق، وهم من الطائفة السنية، كانوا حياديين ما لم يكونوا متعاطفين علناً مع النظام، فضلاً عن شهادات حصلت عليها من سوريين لجأوا إلى فرنسا وأكدوا لي أن هؤلاء السكان كانوا أيضاً شديدي العداء لتنظيم الدولة الاسلامية.
أنا أعتبر أنه إذا لم ينجح طموح التحديث التحريري والعقلاني في ظل البعث بخلق أفراد خاضعين كلياً للدولة، فإنه بالمقابل لم يولّد مواطنين في قطيعة تامة مع النظام على مستوى البلد ككل. لكنني أعتبر أيضاً أنه لو اندلعت التحركات بعد خمس سنوات من تاريخ وقوعها لكان هؤلاء السكان قد شاركوا بها أيضاً، لأن كل المنافع التي حققوها من النظام تكون قد استنفدت آنذاك. وهنا يكمن مأزق هذه السياسات وانسداد أفقها التاريخي.
باريس، كانون الأول/ديسمبر 2017
ملاحظة: أجريت بولا الخوري المقابلة مع الجغرافي فوا بالفرنسية وترجمتها إلى العربية.
للمزيد حول الدراسة والخرائط، بإمكانكم زيارة الموقعين التاليين، بالفرنسية والإنكليزية:
http://bit.ly/2CUeOf6
http://bit.ly/2BooSIG
نشر هذا المقال بنائا على شراكة مع جدلية.