قصة قريتين

قصة قريتين

قبل أي شيء في الحرب يتجمد الإحساس بالزمان والمكان معاً وتضأل المساحة التي يقف عليها المرء حتى تكاد تختفي. الطرقات المألوفة للعين المجردة بين المدن والقرى ستتبدد وتصبح رهينة الخيال، فتلك السهوب والبيوت والمنحدرات المترامية  ستختفي تحت وطأة الخوف والهلع وفقدان الأمان. المسافة التي كنت تقطعها برفة العين صارت تحتاج لأيام وربما أسابيع وسنوات طويلة، أو ربما لن تراها بعد ذلك أبداً. غرق كل شيء في الجحيم السوري، والمدن الكبرى أخذت نصيبها من الانقسام الاجتماعي الكبير والدمار والصور الملتقطة مروعة جداً بحيث يخال المرء أن الذي يحدث لا علاقة له بالواقع، فقط محض خيال مبني في سيناريو فيلم رعب. مدن وقرى مترامية الأطراف كأنها تقيم أعمدتها على أرض كواكب بعيدة .

في أتون طاحونة هذا الصراع الذي بدأ في نقطة وانتهى في مجرة حسابات الدول ومصالحها وصراعاتها، بينما الكائن والمواطن البسيط الذي كان يصرخ في الشوارع للحرية انتهى به الأمر يصرخ لرغيف الخبز. بقي الريف المحيط بالمدن مرهوناً بشكل كبير للتحولات المفاجئة التي قد تحدث في أي لحظة. دفعت الأثمان الكبيرة مقدماً دماً وتشريداً وسجوناً جاهزة والخريطة التي درسناها على مقاعد الدراسة وحفظنا سهولها وجبالها وأنهارها ستختفي وتصبح مجرد ذكرى. مناطق كثيرة في الريف البعيد والقريب واجه الأهالي فيها أقدارهم لوحدهم عزلاً في عراء مرسوم بالدم والهلع والجوع.

في محاولة لتسليط الضوء على بعض هذا الريف المسكوت عنه وعن عذابات سكانه، ولجذب الأنظار إلى ما آلت إليه الأمور فيه بعيداً عن الخطاب الرسمي لأي طرف من الأطراف المتصارعة، فثمة من يدفع الثمن عنهم جميعاً، والذي يتدفأ في الفنادق وغيرها ويصرخ وراء الميكروفون، ليس كمن يقف في البرد كالحطبة التالفة في مهب الريح.

ع. الداغستاني من دير فول وسمير تسي من بئر عجم حاولا أن يحكيا عن قريتيهما، و بعضاً من التراجيديا التي عايشاها دون نقصان باليوم والساعة والدقيقة والثانية. ليست فانتازيا أو حكايات للتسلية المبرحة. إنها قصص الموت السوري اليومي وهي رواية الجرحى والمفقودين والمظلومين والهاربين من العسف والقذائف الطائشة والموت الحتمي. قريتان طحنتهما الرحى السورية الهائلة فيما يحاول شاهدان أن يسردا ما شاهداه وشهدا عليه وكيف كان عليهما أن يتركا كل شيء وراءهما ويغذان الخطى باتجاه المجهول الذي لا يعرفان عنه شيئاً.

دير فول: الموت البطيء

سمير أباظة مجنون القرية يختصر كل التفاصيل الكثيرة التي يمكن سردها هنا. سمير الذي كان يدور في أحياء وشوارع دير فول، يحمل لافتة صغيرة يمشي وهو يصرخ: “حرية، حرية” سيجدونه مسجى فيما بعد على ناصية شارع من الشوارع بعد يوم قصف شديد وفي جسده أكثر من رصاصة وآثار شظايا بادية عليه.

تقع دير فول في ريف حمص الشمالي وهي قرية صغيرة سكانها من الأقلية الداغستانية وتضم أيضاً بعض التركمان والبدو. عدد سكانها لا يتجاوز ال ٦٠٠٠ نسمة. منهم البعثي والشيوعي والمستقل. لم تسلم القرية من الطيران الحربي وانتقام داعش والنصرة وتحولت إلى مسرح عمليات عبثي اضطر فيه الأهالي إلى مغادرتها نحو القرى المجاورة مثل عين النسر والمشرفة والسلمية والمخرم الفوقاني. انتفضت القرية وتعرضت لمضايقات أمنية وملاحقة أبنائها.

قال لي: “أنا في السويد الآن لكنني دائماً حين أنام أجد نفسي في الحلم على أحد حواجز النظام.” على الطريق الرئيسية من جهة ساقية الري باتجاه قرية عسيلة ومنذ نيف من الزمن تم غرس أشجار سرو سُرقت فيما بعد وبيعت في أكياس نايلون وصل فيه سعر كيلو الحطب إلى ٣٠٠ ليرة سورية. حتى شجر الزيتون المثمر والذي يقدر عمره بحوالي ٢٥ سنة تم تحطيبه وبيعه في الأسواق . كانت عملية التصحير ممنهجة. وهكذا انكشفت الأرض لمرمى المدافع والرشاشات والصواريخ. والذي بقي من أهل القرية سينامون تحت الأرض خوفاً من القصف .والمصدر الغذائي الرئيسي كان البرية.

دخلت داعش إلى القرية بعد انقطاع عام للكهرباء عبر حواجز النظام وارتكبت مجازر بحق الشيوعيين والبعثيين في القرية ثم تم فرض النقاب والجلباب على النساء. كما أنها انسحبت من القرية انسحاباً ملغزاً أيضاً. استطاعت بعض الكتائب الصغيرة هناك وبعض كتائب الجيش الحر وقسم من وجوه القرية وكبارها بإدارة شؤونها من ماء وكهرباء ومحاولة تأمين بعض المواد الغذائية الأساسية عبر المساعدات. بالنسبة للمياه ومصادرها فهي جوفية، لأستخراجها نحتاج إلى مولدات كهربائية، هنا كانت تتم رشوة الحواجز حتى تصل الكهرباء لبضع ساعات قليلة ومن ثم يتم استجرارها. هذا بالنسبة للآبار التي يملكها الأهالي، لكن هنالك بئر مياه للبلدية تتم الإستفادة منها في حال كانت الكهرباء موصولة أيضاً.

لم يشفع الجذر الداغستاني للقرية ولا وجود أكثر من ٤٠ ضابطاً من شبانها في الجيش النظامي حتى في ظل التسويات. بقي الذي بقي فيها يواجه مصيره لوحده، والمساعدات التي تصل لاتذكر وكانت تحدث في إطار الدعاية الإعلامية وتبييض الوجه لا أكثر. قصفت دير فول بالصواريخ والقنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية.

وصل سعر بيضة الدجاج إلى ٩٠ ليرة سورية وربطة الخبز ٣٠٠ ليرة وجرة الغاز ٤٠٠٠ ليرة وتنكة زيت الزيتون٣٠٠٠٠ ليرة ومع انحدار قيمة الليرة السورية لم يجد السكان ما يسد رمقهم. حتى الفرن الوحيد الذي كان يؤمن للأهالي بعض الخبز سيُقتل صاحبه في ظروف غامضة. والدواء ممنوع منعاً باتاً تداوله أو دخوله وبالتحديد أدوية الجروح والالتهابات، ومن يتم القبض عليه وفي حوزته أي كمية مهما كانت قليلة سيُعدم على الفور ميدانياً. القصف لم يتوقف والجثث ستراها مرمية في الطرقات أينما اتجهت. تم تهجير ثلاثة أرباع القرية فانتشروا في المدن والبلاد القريبة والبعيدة منهم من رحل إلى سلمية وحماه وتركيا والأردن وألمانيا والسويد. التهجير كان محكماً وعاماً. والذين خرجوا لم يكن لديهم أي فكرة إلى أين هم ذاهبون. تُركت القرية إلى قدرها ومصيرها. في يوم من الأيام وبعد قصف شديد تهجّرنا مع الأغنام والأبقار والكلاب، حتى أن ابني لمح الكلب المعروف في القرية والملقب بكاسر في قرية مجاورة يقف تحت شجرة تين ضخمة وحيداً، ويتابع قائلاً: “انظر أبي حتى كاسر هاجر أيضاً.”

في بيت تسكنه امرأة مسنة تم قصفه رأت المرأة الشمس تلمع في مرآة جيرانها. في يوم آخر تم قصف بناية يقطنها صديق لي. هذا البيت إن كنت أتذكر شيئاً منه أنه طيلة ثلاثين عاماً كانت تتكوم أمامه تلال الرمل والنبكة والإسمنت والنحاتة وقطع البلوك والبلاط ولا شيء غير ذلك، كل هذه السنين وهو يبني بيت العمر كما يقولون. في النهاية سيسقط صاروخ عليه، بينما عائلته كانت خارج البيت للصدفة، وكان صديقي يقف على سلّم العلية الحديد. دُمّر البيت بأكمله بينما سلّم الحديد الذي يقف عليه صديقي سيبقى سليماً وينجو، وهو يقيم الآن في تركيا بعيداً عن البيت وعن دير فول.

بئر عجم : البيت الذي تركناه وراءنا

في بئر عجم القرية الشركسية الهادئة في هضبة الجولان والتي لا يزيد عدد المقيمين فيها عن ٤٠٠ نسمة، احتلتها اسرائيل سنة ١٩٦٧ ثم تم استعادتها ضمن الاتفاقيات التي جرت تلك الفترة مع سوريا تحت مظلة الرعاية الدولية. سمير تسي الذي ترك كل شيء في دمشق وبنى بيتاً كبيراً مع أرض مساحتها لا يستهان بها غرسها بكل أنواع الأشجار المثمرة والزيتون وليبدأ حياة جديدة مع عائلته، يشتغلون في الأرض وتربية المواشي والدجاج والزراعة صيفية كانت او شتوية. مثابة حلم لا يضاهيه شيء هذا البيت أو جنة صغيرة لبقية العمر الذي بقي. على الماسينجر ومن فرنسا حيث انتهى به المطاف الآن يخبرني عن الذي حدث وعن تلك اللحظات التي بدأت فيها الأشياء تتغير، فلغاية شهر آب ٢٠١٢، على حد تعبيره، لم يكن هنالك أي حراك شعبي كون المنطقة عدد سكانها قليل جداً، لذلك لم يكن هنالك أي تواجد عسكري أو أمني يذكر. كان شباب القرية يذهبون إلى العاصمة للمشاركة بالمظاهرات فمنهم من اعتقل ومنهم من يعود آخر النهار. اختلفت إيقاعات الحياة رويداً رويداً حتى دخول المرحلة المسلحة التي امتدت ووصلت إلى جباتا الخشب التي سيطر عليها الجيش الحر وطرد منها كل رموز النظام، ثم وصلوا إلى قرى مثل مسحرة، أم باطنة، العجرف، ثم أعداد من تجمعات نازحي  ببيلا والسيدة زينب وخان الشيح التحقوا بالجيش الحر الذي سيدخل بعدها إلى قرية رويحينة بنهاية شهر أيلول ٢٠١٢ لبضع ساعات ثم ينسحب منها. اما التواجد العسكري للجيش النظامي في هذه المنطقة فكان ضمن المسموح فيه على أساس اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل. منطقة فصل القوات عرضها ١٠ كم وطولها ٧٠ كم ممنوع فيها تواجد أي مظهر عسكري سوري، وكانت تحت إشراف قوات الآندوف الأممية.

انسحب عناصر الجيش الحر من رويحينة بدون سابق إنذار ولم يتركوا أي أثر وراءهم، وفيما بعد أصبحت تظهر بعض علامات لوجودهم في الأحراش الواقعة غرب قرية بئر عجم على خط تماس وقف إطلاق النار مع إسرائيل، أعدادهم لم تكن معروفة لكنهم لم يتجاوزوا الخمسين فرداً، الإمدادات اللوجيستية كانت تأتيهم من دمشق ومن القرى الواقعة على طريق دمشق – القنيطرة وكانت تمر عبر حواجز المخابرات بكل سلاسة. أحد المطاعم في دمشق كان يرسل في سيارة مغلقة وجبات أطعمة وسندويتشات هامبرغر وبيبسي وسلطة وصهريج بنزين كلها كانت تمر عبر الحواجز التابعة للجيش السوري.

هنالك برج خاص بمديرية زراعة القنيطرة لمراقبة الأحراش من قبل موظفين تابعين للمديرية الذين لاحظوا بعض الأشياء والأمور التي لم يكن يشاهدونها من قبل مثل ( عظام خرفان، بقايا سندويش، علب كولا…إلخ)، وصل الخبر للمفرزة العسكرية الموجودة بقرية بريقة فأتى ثلاثة عناصر صف ضباط واتخذوا موقعاً  لهم على طريق مقبرة بئر عجم وبدؤوا باطلاق النار باتجاه البرج، علماً أن المسافة ١٥٠٠م ومدى البندقية المجدي فقط ٥٠٠ م، ولم يكونوا على أية حال يشاهدون أهدافاً. بعد ساعتين ستنتهي الذخيرة فيذهب العناصر لمقابلة الأهالي أمام المسجد وبعض الدكاكين يخبرونهم بأن مهمتهم انتهت والآن جاء دورهم، أي سكان القرية، بأن لايستقبلوا أياً من عناصر الجيش الحر إذا نزلوا من الأحراش إلى القرية. لم تمض أيام حتى أتى الجيش الحر إلى القرية القديمة واستولى عليها ثم القرية الجديدة كذلك الأمر ومبنى البلدية وهكذا تمددوا حتى وصلوا إلى طريق بريقة حتى اقتربت المسافة بينهم وبين مفرزة المخابرات السورية بما لا يتعدى المئة متراً. استولوا كذلك على مقسم الهاتف في بئرعجم فانقطعت الاتصالات واعتمدوا إعدادية الشهيد نزار حاج حسن مقر لهم. بعد ٢٤ ساعة بدأت قذائف الهاون تنهمر على القرية بشكل متقطع، وفي الليل كان اللواء ٦١ يرمي القنابل المضيئة أما ضربات المدفعية فكانت تأتي من اللواء ٩٠، كل هذه القذائف كانت ترمى بشكل عشوائي على منازل المدنيين هناك. الفرصة الوحيدة المتوفرة لهروب العائلات ونزوحها من القرية كانت حين يتوقف القصف. في أحد الأيام اتصل بي ضابط برتبة عقيد ولا أدري من أين أتى برقم موبايلي وبدأ يسألني عن أعدادهم ومواقعهم ونوع أسلحتهم. قلت له: نحن لا نعرف أين هم، نتسمر في بيوتنا ولا ندري ماالذي يحدث في الخارج والقذائف تنهمر علينا. قال لي: “يجب أن تتحملوا القصف حتى يتم تصحيح الهدف.” أعاد الإتصال بي مرة ثانية وكرر نفس الأسئلة . خلال يومين سيشتد القصف ويصبح كثيفاً ومتلاحقاً.

في أحد أيام الجمعة ٢-١١-٢٠١٢ أصبح القصف خفيفاً لمدة ساعة، فطلبت من جاري الكوسوفي، يحمل جنسية سورية، ويملك سيارتين، أن يأخذ زوجتي وابنتي إلى دمشق مع أفراد عائلته وبعض الجيران أيضاً. كانتا آخر سيارتين تغادران المنطقة. بعد ذلك لم يستطع أحد أن يغادر. بعد ذهابهم بحوالى نصف ساعة حاولت الذهاب مشياً إلى قرية رويحينة  التي تبعد ٢ كم وكانت تحت سيطرة النظام كي أشتري خبزاً ودخاناً لكن القصف اشتد وصار كثيفاً فعدت فوراً إلى البيت وتم إغلاق الطريق. ومن يومها تغيرت نوعية القصف من هاونات إلى مدفعية ودبابات. في قرية زبيدة الغربية شرق بئر عجم بحوالي مسافة كيلو متر واحد تتواجد سرية دبابات تقصف بلا هوادة، إلى القصف المدفعي (الهاوزر بعيد المدى) من قمة تل الحارّة إلى جميع أنواع القذائف منها الانشطاري والعنقودي والفسفوري. استمر الحال على ما هو عليه. وضعنا كمدنيين حدث ولا حرج: لاماء ولا كهرباء ولا طعام أو خبز، كنا نأكل العشب وأوراق الشجر.

يوم الإثنين ٥-١١-٢٠١٢ اتصل ابني بي حوالي الساعة التاسعة صباحاً من قدسيا وأخبرني أن ما يزيد عن ٥٠ شاباً شركسياً “في طريقهم إلى القرية لإخراجكم منها.” قلتُ له أن الوضع صعب للغاية ومن المستحيل دخولهم المنطقة، فهي على خط النار والقصف لا يتوقف. لكنهم أتوا من كودنة – بريقة وهي طريق فرعية. اجتمعوا مع قائد اللواء ٦١ وكان متواجداً أيضاً ضابط نمساوي رفيع المستوى من قوات الآندوف على آخر حاجز عسكري بقرية بريقة وجرت المفاوضات أن يسمح لهم بالدخول وإخراج ما يقارب ٣٠٠ فرد متوزعين في ملاجئ يلفها ظلام دامس. اتصل ابني بي مرة ثانية وقال لي “إن الجيش سمح لنا بالدخول ونحن في الطريق إليكم.” كررتُ انزعاجي ورفضي للفكرة بسبب القصف المتواصل وإن الليل اقترب. قال لي، “سيتوقف القصف الآن. ثم انقطع الاتصال بيني وبينه فجأة، واعتقدتُ أنه عاد إلى دمشق هو والذين معه ولم أدر ما الذي حدث بعد ذلك.

في صباح اليوم التالي ٦-١١-٢٠١٢ أتى إلى منزلي رجل من أهل القرية وكان معي إثنان من أبناء الجيران وصديق لي لواء متقاعد. ملامح الرجل لم تكن على مايرام، بدأتُ السؤال عن أحواله وأحوال عائلته، لكنه ظل متردداً وعلامات القلق والحزن بادية على وجهه: “ابنك ينال راح”، قال هذه العبارة وصمت. لم يخطر على بالي أنه يتحدث عن ابني للوهلة الأولى، لأنني اعتقدت أنه عاد إلى دمشق بعد إلحاحي عليه بالعودة. استطرد الزائر، “ابنك ينال استشهد الساعة ٣:٤٠ عصراً يوم ٥-١١-٢٠١٢. بعد ذلك اتصل بي الضابط العقيد وقال لي: “قتلنا ابنك، وبتعرف الوطن بدّو تضحيات” وكان قصده أن العصابات الإرهابية تقتل المدنيين. السيارات التي حاولت الدخول إلى بئر عجم عادت إلى قرية بريقة. وفي هذه الأثناء كان طاقم محطة الإخبارية التلفزيونية متواجداً هناك حين أتى الشاب الذي كان يقود السيارة التي أقلت ابني وثيابه مغطاة بالدم. أجبروا الشاب على تغيير ملابسه وأجروا مقابلة تلفزيونية معه تحت تهديد السلاح والضرب ثم أرغموه على القول أن العصابات الإرهابية قتلت ابني. مع العلم أن ابني جلس في المقعد الذي من جهة شرق الطريق، وشرق الطريق بين بريقة وبئر عجم تحت سيطرة الجيش النظامي. من هنا علمت أن الجيش هو الذي أطلق النارعلى ابني.

أخذوا جثته إلى مسجد قرية كودنة وتمت تسجيته هناك، بينما أنا محاصر حصاراً تاماً مع أهالي القرية. اتصلت بزوج ابنتي وسألته عن الجثة، جثة ابني. فقال لي أنه تم أخذ الجثة من قبل مديرية الصحة إلى مستشفى ممدوح أباظة في مدينة البعث. اتصلت بأخي وسألته: لماذا لم يتم دفن الجثة؟ فقال لي إنهم “لا يسلمون الجثة بسبب اختلاف الكنية.”

سألت أحد الموظفين بمحافظة القنيطرة وهو صديق لي أن يساعدني في هذا الأمر، فقال “تعالوا وخذوا الجثة.” اتصلت بأخي وطلبت منه أن يذهب ويستلم الجثة. ذهب أخي مع مجموعة من الشباب في قدسيا إلى مستشفى ممدوح أباظة واستلموا الجثة. ثم قال لي صديق ابني أنه حين النزول إلى قدسيا سيضعون الجثة في براد الجثث بجامع الجادات بقدسيا. رفضتُ ذلك مع إصراري أن يتم الدفن في نفس اليوم. قال لي، “بإمكاننا انتظارك حتى تخرج من الحصار وسيكون باستطاعتك رؤيته وحضور الجنازة والعزاء.” قلت، أنا لا أعرف متى أخرج من هذا الحصار، دعوا أمه وأخواته يرونه ثم ادفنوه اليوم.

يوم الخميس ٨-١١-٢٠١٢ اشتد القصف صباحاً بشكل هستيري حتى الواحدة ظهراً ثم توقف فجأة ولم نر بعدها سوى سرايا من مشاة الجيش النظامي تأتي من شرق القرية ثم تتغلغل فيها بدون أن يطلق الجيش الحر أي طلقة باتجاههم وكان تعدادهم يقارب ال٨٠٠ عسكرياً، اعتقدنا كمدنيين أن اتفاقاً حصل بين الطرفين على عودة الجيش النظامي إلى القرية ويكون بعدها بمقدورنا مغادرتها . كانت أوهامنا هي التي تحدثنا بذلك، إنه اليأس وقد أطبق على رقابنا.

استولوا على القرية ودخل قائد الحملة مبنى البلدية يعلن الانتصار والتطهير. بعد ذلك سمعنا الرصاص يلعلع في السماء وبدأ العساكر يهربون وإذ بالجيش الحر يقوم بهجوم معاكس وقائد الحملة داخل مبنى البلدية لا يدري ما الذي يجري في الخارج إلى أن داهم بعض العناصر مبنى البلدية، فحاول الهرب إلى الجامع الذي بمقابل مبنى البلدية ثم صعد إلى المنارة وقذف بنفسه منها ومات. حين أتى الليل حاولنا الدخول مع مجموعة من المدنيين إلى ملجأ تحت أحد البيوت ثم صعدت أنا وشاب إلى البيت بحثاً عن الماء. كدنا نموت من العطش والجوع وكان الظلام دامساً ولم يكن باستطاعتنا إشعال قداحة لأن المكان سيتم قصفه على الفور. وبينما أنا على هذه الحالة وقعت يدي على كتف آدمية دافئة بعض الشيء، وإذ بعسكري متكور على نفسه يحمل بندقية ومعه ١٢ آخرين، هم بقايا المجموعة التي انسحبت ولا يعرفون أين يذهبون. طلبوا ماء وطعاماً. سألته، “أين طعامك وماؤك؟” نزلتُ إلى الملجأ وأخبرت من معي أن في البيت ١٣ عسكرياً هاربين.

اليوم التالي ٩-١١-٢٠١٢ السادسة صباحاً وقفت على باب الملجأ فرأيت مجموعات من الجيش الحر يبحثون بين البيوت عن الهاربين، وإن عرفَ العساكر المختبئون في البيت بالأمر سنتحول إلى دروع بشرية بين الطرفين فقلت للذين معي أن نهرب إلى البرية فخرجنا رجالاً ونساءً باتجاه قرية زبيدة، وفي طريقنا قبل مغادرة الحارة قابلتنا قوة من الجيش الحر وسألنا أحدهم “إلى أين أنتم ذاهبون؟” فقلت له، نحن لا نريد أن نبقى أكثر من ذلك، سنترك كل شيء هنا. في هذه اللحظات أتى عنصر من الجيش الحر راكضاً من جهة الملجأ الذي كنا فيه وأخبر قائد القوة بوجود عساكر في البيت الذي غادرناه فتركونا إلى سبيلنا وهجموا على البيت الذي يتواجد فيه العسكر. مشينا باتجاه البرية وكان الضباب كثيفاً ساعدنا على ألا يكتشفنا أحد  لكن ذلك لم يمنع الدوشكات من أن تقصف باتجاهنا لكننا لم نصب بأذى. صادفنا في الطريق حقل ألغام عبرناه ووصلنا إلى قرية زبيدة الغربية، استقبلنا أهالي القرية ثم انقسمت مجموعتنا إلى قسمين نساء ورجالاً. في الصباح تناولنا الإفطار وشحنّا الموبايلات وأخبرنا أهالينا في دمشق أننا خرجنا. بعد ذلك بدأت بقية الملاجىء التي في بئر عجم تخرج.

في ١٠-١١-٢٠١٢ خرج جميع المتبقين في القرية ولم يبق أحد هناك. بعد ذلك أخذني أحد الشباب إلى مدينة البعث التي تقع في الطريق قبل مدينة القنيطرة. كنت قد أخبرت ابنتي أنني خرجت من بئر عجم وعن مكان تواجدي. جاري الكوسوفي الذي أصبح يقيم في مدينة صحنايا عرف من زوجتي أنني في مدينة البعث فأتى بسيارته من صحنايا وأخذني إلى قدسيا حيث منزل أحد أقربائي. كان عزاء ابني منتهياً، فطلبت من أحد أصدقائه أن يأخذني إلى المقبرة لأرى قبره، فقال لي “إلى يوم غد.” لم أعرف لماذا إلى يوم غد. في اليوم التالي أخذني بالسيارة إلى المقبرة وأسرّ لي بعد ذلك أنه حصل لي على موافقة لرؤية القبر من مسافة ١٥ متراً فقط، وهذا ما حدث. ولم أستطع بعدها رؤية القبر لأنني لم أحصل على موافقة. بعدها بوقت قصير غادرت سوريا أنا وعائلتي إلى الأردن في ٢٦-١١-٢٠١٢. بقينا في عمان إلى تاريخ ٢٠-١٢-٢٠١٦ ثم غادرنا إلى فرنسا. علمت بعدها أن كتائب لجبهة النصرة تسيطر على القرية.

من حديث على الموبايل

-آخر مرة خرجت فيها من البيت في طريقي إلى بيت صديقي الكوسوفي، سمعتُ دوياً هائلاً، وإذ بقذيفتين ضربتا بيتي. ومن يومها لم أعد إليه. لم يبق لا سقف ولا حيطان ولا أبواب.

-مرة وقعت قذيفة على بئر عجم وكان هنالك ثلاثة شبان يدخنون أما باب أحد البيوت. صاروا قطعاً صغيرة لملمناها ووضعناها في أكياس نايلون.

٧-١١-٢٠١٢

في قرية بئر عجم خمسة ملاجئ فقط تنعدم فيها أي خدمات، لا ماء ولا كهرباء أو حمامات، بمساحة ١٠٠ متر مربع للملجأ الواحد. في أحدها انحشر عدد كبير من الأهالي مع بطانياتهم وبعض الفرش الإسفنجية وما تبقى من مؤن البيت. صدف وجود امرأة حامل في آخر أيامها بدأت تشكو آلام الطلق ووقعت على الأرض دون أن يكون هنالك أي مادة إسعافية أو حتى طبيب بين الموجودين. صرخت إحدى النساء الحاضرات وأقنعت المرأة التي على الأرض بأن لها تجارب كثيرة في التوليد، وعلى الفور تضامن الجميع ووضعوا ساترا من البطانيات وتمت عملية الولادة على أكمل وجه. كتم الجميع أنفاسهم خوفاً من طارىء ما قد يحدث حتى سمعوا بكاء المولود الجديد، وبعد يومين سنحت الفرصة للجميع بالخروج والتوجه مشياً على الأقدام إلى قرية زبيدة الغربية وسط الضباب والصقيع. الآن الرضيع وأمه ووالده في النمسا، والمرأة التي قامت بالتوليد في ألمانيا.

بني هذا النص على شهادة حية لكل من عامر الداغستاني من قرية دير فول وسمير تسي من بير عجم، وكلاهما قريتان سوريتان هُجر سكانهما بشكل كامل في سياق الحرب السورية. وينشر موقع صالون سوريا هذه المادة في سياق مشروع لكتابة قصص تروي ما جرى للقرى والمدن السورية منذ ٢٠١١ حتى الآن.

الكوتا والسوريات

الكوتا والسوريات

رغم أن المرأة السورية حصلت على  حق الانتخاب في عام 1949، وبحلول العام 2012 وصلت نسبة عدد المقاعد البرلمانية النسائية 12 بالمئة، ورغم أنها شغلت منصب نائبة رئيس ووزيرة ونائبة وزير ومديرة عامة، وأن نسبة العاملات بحلول ٢٠٠٩ بلغت ١٦ بالمئة من حجم القوى العاملة حسب مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء، إلّا أن هذا لم يحررها من عبء ما يحتويه القانون وقانون الأحوال الشخصية من تمييز ضدها مقابل دستور كان نظرياً يعترف بها كمواطنة متساوية، ولكن عند وضع القوانين تعرضت لشتى أنواع انتهاك حقوقها ومعاملتها كمواطن من الدرجة الثانية.  

ورغم ما تشدقت به السلطة السورية لسنوات طويلة حول دعمها للنساء وتصدير صورة للخارج مزينة بالنساء الفاعلات في المجتمع واستغلال مشاركاتهن في مراكز صنع القرار وسيلة لتجميل السلطة والدعاية لها؛ فإنّ وضع النساء السوريات في القانون السوري وقانون الأحوال الشخصية خاصةً كان مزرياً ولا يرقى لمفهوم المشاركة المتساوية. فضلاً عن ذلك فإن نساء السلطة في مراكز صنع القرار والهيئات العامة كنّ في غالب الأحيان وسيلةً بيد السلطة صانع القرار الحقيقي التي تُمرر وتُملي إرادتها عبر ممثلاتها دون اعتراضٍ منهن على هذا حتى لو كانت النتيجة مزيداً من انتهاك حقوق النساء.

ولم تقم السلطة على التوازي مع عملها لتلميع وضع المرأة صورياً بالعمل على تطوير وتمكين السوريات ليتمكنّ من فهم وإدراك حقوقهن وتثقيفهن حول مضامينها وحثهن على العمل لتغيير واقعهن وكل ما يتعارض مع حقوقهن من قوانين وأعراف وعادات مجتمعية، فهي كانت تحابي السلطة الدينية وتتجنب الوقوع في صدام معها. وبالعكس أتاحت لها مزيد من الامتيازات تمكنت السلطة الدينية عبرها من تكريس التمييز ضد المرأة وانتهاك حقوقها. وأتاحت للسلطة الدينية فسحة غير قليلة تؤثر فيها في قاعدة المجتمع وتدفع باتجاه ممارسة عادات وتقاليد وأعراف كان المجتمع السوري في طور قبول تغييرها جذرياً كزواج القاصر ووجوب تعليم الفتيات. ولعبت السلطة الدينية دوراً كبيراً في الإمعان بتجهيل المجتمع وأنتجت ردّة دينية لم تقف بوجهها السلطة السياسية لأنها تناسبها في إحكام القيد حول المجتمع وتمكّنها من إدارته بالتساوي مع رجال الدين نتيجة تأثيرهم المتزايد على المجتمع ويتم عبرها تغييب المنطق والعقل وحقوق الإنسان. هذا الوضع جعل الطرفين متكاملين في تحقيق أهدافهما ببقاء حال السوريين على ما هو عليه بل وأسوأ يوماً بعد يوم تحل الثقافة الدينية بديلاً عن الثقافة السياسية والاجتماعية التي من الممكن أن تقضي على السلطتين معاً.

اليوم وبعد سبع سنوات من حراكٍ سوري بشّر في بداياته بالتغيير لا زالت السلطتان المعارضتان السياسية والدينية على المقلب الآخر تقوم بنفس أدوار السلطة السورية والسلطة الدينية التابعة لها. ففي حين تستخدم السلطة السياسية المعارضة تواجد النساء فيها لتجميل صورتها تماماً كما فعلت السلطة السياسية الحاكمة في سوريا وفي حين تطالب نساء المعارضة السورية بكوتا 30 بالمئة لتمثيلهن فيها تجدهن يلعبن نفس دور النساء المُعينات من السلطة الحاكمة  والمنتخبات شكلياً ويصبحن في تلك التشكيلات تابعات لكل ما يتم تبنيه من سلطة المعارضة السياسية (وجزء كبير منها ذا مرجعية دينية قامت بالمزج بين نوعي السلطة السياسية والدينية) ويحابينها ويتجنبن ذكر شكل الدولة المرتجاة لتحقيق الديمقراطية والمواطنة المتساوية إرضاءً لها. كما يتجنبن ذكر تعارض حقوق الإنسان عامة والنساء خاصة مع التشريعات الدينية والتي استُمد منها قانون الأحوال الشخصية التي اتسمت أغلب مواده بالتمييز ضد النساء، وفي أحيان كثيرة تشارك نساء في قضايا عناوينها نسوية لكنهن لا يؤمنّ بحقوق النساء. كما تشارك نسويات من باب نيل الرضا أو الإيهام بقدرتهن على تقبّل الآخر المختلف من خلال العمل مع مجموعات دينية تكرّس الانتماء الديني أو الانتماء لحزب ديني ولا يمكن أن تكون يوماً مناصرةً لقضايا النساء خارج أيديولوجيتها أو ثقافتها المجتمعيّة.

فهل القضية مجرد تحديد كوتا ستكون نساء المقدمة هن المستفيدات منها في المرحلة الانتقالية وما بعدها، أم أن الكوتا هي خطوة أولى لتفعيل دور كل السوريات على اختلاف ثقافاتهن وأوضاعهن الاجتماعية في مناطقهن ومجتمعاتهن المحليّة وضمان تواجدهن في مراكز صنع القرار؟ هل الكوتا مطلب نخبوي لنخبة أم هي مطلب حق لنساء شعب بأكمله تم تغييبهن خلال سنوات طويلة وانتهاك حقوقهن؟

إن مشاركة النساء في التفاوض ولجان وضع الدستور ستنتج فقط إنتاجاً نظرياً شبيهاً بإنتاج الدستور السوري فيما يخص المواطنة المتساوية للنساء والتي بقيت حبراً على ورق مقابل مواد قانون لم يتوافق فيها مع الدستور ومقابل قانون أحوال شخصية انتهك بشكل مباشر حقوق النساء.

إذاً وماذا بعد جندرة الدستور على الورق؟ وماذا بعد تجاهل حقيقي للعمل الجدي مع النساء السوريات وعلى قضايا المرأة السورية؟

إن العمل على قضايا النساء ومساواتهن وتمكينهن من مراكز صنع القرار وتحسين وضعهن لا يمكن أن يتم بشكل عمودي فقط إن لم يترافق مع العمل بشكل أفقي على القاعدة، فهو عمل من المفترض أن يكون عاماً وشاملاً لكل النساء السوريات.

سبع سنوات لم تتمكن المنظمات النسوية تحديداً (وليس النسائية التي هي فعلياً جمعيات خيرية) من بناء قواعد نسائية جماهيرية ولو صغيرة من السوريات؛ ولم ترفع ثقافة السوريات حول وضعهن في القانون وما هي حقوقهن المعترف فيها دولياً وماهية مفهوم النسوية. وربما لا أبالغ لو قلت إن هناك من ناشطاتها من لا يملكن تلك الثقافة، فما المجدي لو أن الكوتا كانت 30 أو 50 بالمئة ان لم تكن السوريات مؤمنات بحقوقهن ويفهمنها ويتبنينها ويطالبن بها ويدافعن عنها ويحملنها؟ ستكون نتائج أي أنتخاب ممكن إجراءه وعلى جميع الأصعدة نتائج مخيّبة لأن النساء طالما هن بهذا الحال لن يكون صوتهن إلا صوتاً عاكساً لصوت الذكور الذين يحكمون مجتمعاتهن؛ وبالتالي سيكنّ وصوتهن مجرد أداة لتكريس انتهاك حقوق النساء والعودة بهن إلى الخلف بدلاً من المسير نحو تحسين وتطوير وضعهن.

إن العمل النسوي وفق ما يجري حالياً يحتاج للخوض بتجاربه وطرحه جدياً لفهم آلية عمله المخيبة للآمال. لكن يمكننا القول وقبل الخوض في تفاصيل سقطاته أنه بالشكل الحالي عمل نخبوي يتجاهل القاعدة، وستحصد السوريات لسنوات طويلة نتائج هذا التجاهل. وعند أول تجربة انتخابية قادمة أو التصويت على بنود دستورية أو مشاريع قوانين في السنوات المقبلة سنرى أنّ الحصيلة ضعيفة بأحسن الأحوال إن لم تؤدي إلى التراجع عن المكاسب الحالية.

إن التركيز على الشكل العامودي للإنجازات يُنتج إنجازات نظرية ومكاسب نظرية للنساء ولن تتحول هذه الإنجازات إلى نتائج فعلية على أرض الواقع وستفقد كل قيمتها عند البدء بإعادة البناء. يجب أن تدرك المنظمات الدولية التي تُعنى بشأن النساء أن العمل بشكله الحالي لا يمكنه أن يبني مستقبلاً مشرّفاً للسوريات ولا أن يطوّر ويحسّن وضعهن. لذا فإن هذه المنظمات مطالبة بالعمل مع المنظمات السورية الشريكة لها ومراقبة عملها وجدواه وحقيقته وتحويله من عمل يُستثمر فقط لتبرير التمويل دون أن يكون حقيقياً ومؤثراً إلى عمل يمكّن السوريات من التطوّر المعرفي والثقافي ويؤهلهن للمشاركة الإيجابية في نصرة قضاياهن.

لغز  تلاشي عناصر ‘داعش’ و ‘خفافيش الليل’ تلاحقهم

لغز تلاشي عناصر ‘داعش’ و ‘خفافيش الليل’ تلاحقهم

دمشق

حلق عناصر “داعش” ذقونهم وحمل بعضهم بطاقات شخصية مزورة وغادروا مناطق سيطرة التنظيم في اتجاهات متعددة بعد تقدم قوات الحكومة السورية و”قوات سورية الديمقراطية” الكردية – العربية وسط وشمال شرقي سورية واختفى الاف منهم واصبح السؤال: اين اختفى عناصر “داعش؟”

تغيب الارقام الحقيقة حول اعداد عناصر التنظيم ومناصريهم، وهناك تقديرات بان عددهم يصل الى عشرات الاف  ما مكنهم من بسط سيطرتهم على اكثر من نصف سورية منتصف عام 2015 .

ونقل موقع أميركي عن وثيقة صادرة عن أحد أكبر اجهزة المخابرات في الشرق الاوسط في شهر شباط (فبراير) عام ٢٠١٥  أن تنظيم “داعش” يمتلك “جيشا يقدر عدده بنحو ١٨٠ ألف مقاتل، كما أنهم يعملون بقوة على تأسيس تحالف مستدام من المسلحين المتطرفين.” وبحسب الوثيقة، فإن “تعداد الجيش الداعشي يقدر بـ٦ أضعاف توقعات وكالة المخابرات المركزية الأميركية ( سي آي إيه ) والتي توقعت أن جيش داعش يتكون من 20 ألف مقاتل.”

أمير “داعشي” من ابناء محافظة الرقة شمال شرقي سورية، التي أعلنت عاصمة التنظيم، قدر اعداد عناصرهم في “ولاية الرقة” المتداخلة مع ريف حلب الشرقي وريفي دير الزور والحسكة بأكثر من ٢٠ الف عنصر ينتشرون في محافظة الرقة. وينقل احد ابناء محافظة الرقة عن علي موسى الشواخ “ابو لقمان” وهو “والي الرقة”، أن “اعداد عناصر التنظيم في محافظة الرقة تتراوح بين ١٥و٢٥ الف، لكن هذه الارقام متغيرة باعتبار ان التنظيم خاض حروبا في عدة جبهات في ريف حلب وحماة وحمص مع قوات الحكومة السورية وفصائل المعارضة وتعد الرقة منطقة عبور لعناصر التنظيم.”

ويضيف ابن مدينة الرقة الذي طلب عدم الكشف عن اسمه نقلاً عن “ابو لقمان”: “لدينا عدة معسكرات للتدريب وتخرج منها الاف وهؤلاء فقط من الانصار (السوريين) ناهيك عن المهاجرين (الاجانب) الذين لا اعلم كم هو عددهم.”

ويقدر ابن مدينة الرقة الذي غادرها منتصف شهر نيسان (ابريل) الماضي بعد تقدم “قوات سورية الديمقراطية” وسيطرتها على اغلب اراضي المحافظة “عدد مقاتلي داعش داخل الرقة بانه لا يتجاوز ١٥٠٠ مقاتل وتم نقل اغلب قادة التنظيم وعائلاتهم الى محافظة دير الزور.” ويؤكد ابن مدينة الرقة الذي امضى حوالي ستة اشهر يعيش في ريف الرقة الشمالي ان “الكثير من عناصر التنظيم بل حتى قياديين منهم شاهدتهم يتنقلون ويعيشون في ريف الرقة الشمالي، بعد تسوية اوضاعهم مع قوات سورية الديمقراطية.”

وأصبحت مناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” شمال شرقي سورية هي المساحة الاوسع التي اختفى وسطها عناصر تنظيم “داعش” ممن غادروا مناطق التنظيم في محافظتي الرقة ودير الزور والحسكة وريفي حلب وحمص، واصبح الشمال السوري مقراً او جسر عبور الى ريف حلب الشمالي ومنه الى تركيا للانتقال اوروبا وغيرها.

ونفى قيادي في “قوات سورية الديمقراطية” وجود اتفاق مع عناصر تنظيم “داعش” عند بدء العمليات العسكرية لتحرير محافظتي الرقة ودير الزور. واعلنت “قوات سورية الديمقراطية” انها ستنظر بوضع كل من يسلم نفسه لقواتها و “بالفعل هناك المئات من عناصر التنظيم ممن سلموا انفسهم وتم التحقيق معهم ومن لم يثبت عليه انه ارتكب جرائم اخلي سبيله بعد فترة التحقيق.” وأوضح القيادي ان “بعض عناصر داعش لم يتم التحقيق معهم بل اطلق سراحهم فوراً وذلك لتعاونهم مع قواتنا اثناء وجودهم مع داعش من خلال تقديم المعلومات لنا.”

ويضيف القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه: ” قبل اعلان السيطرة على مدينة الرقة في شهر تشرين أول (اكتوبر) الماضي تدخل شيوخ ووجهاء من محافظة الرقة لخروج مسلحي التنظيم والعفو عنهم، لكن البعض لا يزال يتم التحقيق معهم في المقرات الامنية في مدينة الطبقة وسيطلق سراحهم لاحقاً وكذلك من تم اعتقالهم من قبلنا خلال المعارك او بعدها.”

يؤكد عبد اللطيف الحمد، الصحافي في شبكة “فرات بوست” المتخصصة في نقل أخبار المناطق الشرقية من سورية أن “عملية تهريب وهروب عناصر داعش من المناطق التي يسيطرون عليها خلال الأشهر القليلة الماضية، بدأت عندما فتحت قوات سوريا الديمقراطية طريق تهريب عناصر التنظيم وأسرهم إلى مناطقها عبر بادية أبو خشب (٧٠ كلم شمال غربي مدينة دير الزور)، والتي تبعد نحو ١٧ كلم عن نهر الفرات  وعمدت هذه القوات إلى تنسيب بعض مقاتلي التنظيم من الجنسية السورية، بهدف سد النقص العددي الذي تعانيه، إضافة إلى زيادة عدد المكون العربي داخلها، والذي يخضع لقيادتها العسكرية الكردية، بل وعمدت إلى منح بعضهم نفوذاً على المقاتلين العرب داخل “قوات سورية الديمقراطية” ومن بينهم القيادي المعروف باسم أبو خولة والذي عين رئيس مجلس دير الزور العسكري التابع لقوات سورية الديمقراطية.”

اما من طلب مغادرة الشمال السوري، فكانت وجهتم داخل الاراضي السورية او الى تركيا: “بقية المقاتلين المحليين الذين وصلوا إلى أراضي سيطرة قوات سورية الديمقراطية، فقد خرج أغلبهم مع المقاتلين الأجانب من التنظيم إلى تركيا عبر أراضي خاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال السوري، ومنهم من توجه إلى مناطق سيطرة داعش أو فصائل مؤيدة له في ريف حماة أو الجنوب السوري مرورا بمناطق سيطرة قوات النظام.”

وحول مصير المقاتلين الاجانب، يقول الحمد: “الطريق الذين اتبعوه للعودة إلى دولهم كان عبر دفع مبالغ مالية كبيرة تصل الى ١٠٠ الف دولار اميركي للعنصر الداعشي ويتم ذلك عبر المتعاملين مع قوات سورية الديمقراطية الذي بدوره يضمن وصوله إلى أشخاص آخرين في الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا، ومنها إلى تركيا، ومن ثم يتم سفرهم بجوازات سفر مزورة أعدت لهم مسبقاً إلى الدولة التي ينتمي إليها كل واحد.”

ويكشف الصحافي في “فرات بوست”: “ان بعض عناصر وقادة التنظيم، اختاروا طريق الوصول إلى كردستان العراق منفذاً للوصول إلى مناطق أخرى من العالم، ولعل من أبرزهم غسان الرحال، المعروف باسم عبد الرحمن التونسي الذي اعلن التنظيم جائزة مالية كبيرة على من يدل مكانه، وسط معلومات تفيد بأنه عميل استخبارات خارجية  وبين الاسماء التي اختفت في شمال سورية القيادي في تنظيم داعش اسامة بن عثمان الملقب أبو زينب التونسي والذي ارتكب جرائم حرب ضد المدنيين في الرقة دير الزور وقبل خروجه وعناصر داعش من مدينة الرقة في صفقة نقل مقاتلي داعش من مدينة الرقة الى دير الزور ثم انتقل الى الشمال السوري واحتفى برفقة زوجته السورية وابنته زينب ويحمل بطاقة شخصية لشقيق زوجته.”

بعض قادة تنظيم الدولة تمكنوا من الخروج من مناطق سيطرته من خلال استعادتهم وسحبهم بواسطة طائرات التحالف التي نفذت اكثر من ٢٠ عملية انزال في مناطق التنظيم في شرق سورية وتحديداً في ريف دير الزور بحسب مصادر، في وقت نفاه هذه المعلومات مسؤولون غربيون. أما من تبقى منهم داخل مناطق خاضعة لـ “داعش”، فقد “اختاروا البادية، والمناطق غير المأهولة بالسكان مركزاً لاختبائهم، وخاصة على الحدود السورية – العراقية الممتدة على مسافات شاسعة، وتشمل ضمنها أراض تتبع إدارياً لمحافظتي دير الزور والحسكة واراضي في بادية الميادين في ريف دير الزور الشرقي .”

الصحافي صهيب الجابر من محافظة دير الزور يقول: “الجميع يسأل إلى أين توجه مقاتلو تنظيم داعش الإرهابي؟ بعدما تقلص نفوذهم في المنطقة الشرقية من سورية وخسروا غالبية مناطق نفوذهم.” ويؤكد جابر أن “قوات سورية الديمقراطية صدّرت أكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من داعش من جنسيات متعددة باتجاه الشمال السوري ليتوافد خلال تلك الفترة العديد من نواب رؤساء الدول والقادة العسكريين والامنيين الأجانب الموجودين في سورية لاسترداد هؤلاء المقاتلين وعوائلهم إلى بلدانهم الأوروبية، بينهم نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي زياد سبسبي الذي اعاد عائلات مقاتلين روس من وحدات حماية الشعب الكردي عبر مطار القامشلي” شمال شرقي سورية.

ويضيف الجابر: “ما لا يعرفه كثيرين أيضاً، أن هؤلاء المقاتلين من داعش عرضوا على قوات التحالف وقوات سورية الديمقراطية الخروج من مدينة الرقة من دون قتال. وكان هذا قبل بداية المعركة التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ودمرت خلالها أكثر من ٨٠ في المئة من المدينة وقتل من مدنيوها أكثر من١٨٠٠ شخص، إلا أن قوات التحالف رفضت خروجهم حينها تحت ذريعة القضاء على التنظيم الإرهابي.”

علاوة على الأسماء العديدة لمقاتلي وقادة داعش ممكن التحقوا بصفوف “قوات سورية الديمقراطية” خلال الشهرين الماضيين وعلى امتداد فترة النزاع، ومنهم أحمد الخبيل “ابو خولة” الذي يشغل منصب قائد “المجلس العسكري لدير الزور” والأخوين أحمد ومحمد عبيد العمر اللذان ارتكبا العديد من المجازر عندما كانا بصفوف “داعش” ومنها مجزرة الشعيطات، علاوة على العديد من القادة الذين سهلت “قوات سورية الديمقراطية” مرورهم باتجاه الشمال السوري بعد دفع مبالغ طائلة، ومنهم يوسف المرهون أمير منطقة القائم العراقية والكثيرين غيره.

خفافيش الليل

مسؤول في المكتب الامني لمدينة جرابلس التابع للمعارضة السورية، أكد القاء القبض على العشرات من عناصر تنظيم “داعش” خلال محاولتهم المرور الى ريف حلب الشرقي. ويضيف المسؤول الامني: “لدينا بعض الاسماء والمعلومات من كتائب الجيش الحر في محافظة دير الزور تضم اسماء القياديين في تنظيم داعش ولدى مرور هؤلاء في حواجز مناطق درع الفرات يتم الغاء القبض عليهم ويتواجد عناصر من كتائب المنطقة الشرقية في بعض حواجز جرابلس للتعرف على عناصر داعش الذين يصل بعضهم بوثائق مزورة او بدون وثائق وقد تم القاء القبض على العشرات منهم واعترف البعض منهم بدفع مبالغ مالية كبيرة لعناصر قوات سورية الديمقراطية  لتأمين وصولهم وعائلاتهم الى مناطق درع الفرات للتوجه منها الى تركيا.”

وفي شهر كانون اول (ديسمبر) الماضي اعدمت مجموعة تطلق على نفسها اسم “خفافيش الليل” في مدينتي جرابلس والباب بريف حلب الشرقي عدداً من عناصر تنظيم “داعش”، متورطين بقتل مدنيين في المدينتين خلال فترة سيطرة التنظيم على المنطقة اعوام ٢٠١٤-٢٠١٦. ومجموعة “خفافيش الليل” أعلنت في منشورات وزعت في مدينتي جرابلس والباب انهما يتبعون لـ “الجيش السوري الحر سيصفون أي عنصر من تنظيم الدولة متورط بدماء المدنيين، أو من اعتدى على الجيش الحر.”

ولم تكتفي ملاحقة عناصر “داعش” داخل الاراضي السورية بل تم ملاحقتهم في تركيا من قبل مجموعة من عناصر “الجيش الحر.” ويقول مصدر موثق مقرب من المجموعة: “جميع عناصر المجموعة هم من كتائب الجيش الحر في محافظات الرقة ودير الزور وريف حلب يقوم هؤلاء بملاحقة والبحث عن عناصر داعش الذين وصلوا الى تركيا ويعرف هؤلاء بـقناص داعش  وتم القاء القبض على عشرات من عناصر التنظيم في مدن جنوب تركيا ومنها شانلي اورفا وغازي عنتاب وحتى في ريف تركيا الجنوبي  بينهم قياديون كبار سوريون وعراقيون واجانب .”

تشظيات

تشظيات

* 1*

اختفى فجأة البحارة الثلاثة الوحيدون، من مركب مهاجرين غير شرعيين، مكتظ بأكثر من 300 شخص، بعد مغادرته السواحل الليبية بحوالي الساعة. يبدو أنهم فروا بقارب صغير مجهز بمحرك، في غفلة من المهاجرين على المركب، وتركوهم في عرض البحر لمصير مجهول، بعد أن دفعوا أجراً عالياً من أجل التوجه بهم إلى سواحل إيطاليا. وسيتوه المركب العتيق، المثقل بركابه، في عرض البحر على غير هدى، في غياب البحارة المرشدين، ولا أحد فيه سوى مهاجرين، لا يدرون ماذا يفعلون، سوى الاتصال بالمجهول عبر الهواتف المحمولة.

كان البحارة الثلاثة جزءاً من شبكة تهريب كبيرة، في أعلى درجات الاحتيال والابتزاز، واستطاع المعلم الكبيرأن يكسب ثقة المسافرين المهاجرين بخبث شديد، فهو لم يقبض أجور السفر العالية الاستثنائية منهم، إلا عند تأكدهم من وجود المركب، وفي لحظة صعودهم إليه. وكان قد وعدهم باقتصارهم على مجموعات من السوريين والفلسطينيين والعراقيين، الهاربين من حروب مناطقهم عبر مصر، وبإنزالهم على الشواطئ الإيطالية مباشرة، بعد رحلة قصيرة، وبوجود ستر نجاة وكميات من طعام ومياه كافية للجميع. لكن سيفاجأ المسافرون بصعود أعداد كبيرة متتالية من الإفريقيين، تجاوزوا بها طاقة المركب بأضعاف. وعندما حاولوا الاعتراض، كانت الأمور قد مضت سريعاً، بحيث وجدوا أنفسهم في عرض البحر، مع ثلاثة من البحارة، الذين ادعوا بعدم معرفتهم بما يحدث، وبأنهم مجرد مهاجرين مثلهم، لكنهم ما لبثوا أن اختفوا تاركين المركب في عرض البحر. وزاد من سوء الوضع الازدحام الشديد على ظهره، مما جعل المسافرين، المختلفين بلغاتهم وجنسياتهم، يتدافعون ويتنازعون على مساحات للجلوس، تُقاس بالسنتيمترات، واكتشافهم متأخرين بعدم وجود ستر نجاة أو أي طعام أو مياه.

حاول بعض الركاب إطلاق نداءات استغاثة عبر هواتفهم المحمولة، إلا أنها كانت دون جدوى، ولم يشاهدوا طوال الوقت أي سفينة شحن عابرة تمر من قربهم، كي تنقذهم. وسرعان ما نفذ في اليوم الأول معظم الطعام والمياه، الذي كان يحمله مصادفة بعض المسافرين، الموعودين بالوصول إلى الشاطئ الإيطالي خلال بضع ساعات. وفي اليوم الثاني، أخذت علائم التعب والجوع والعطش تظهر على الجميع، وتشكلت عصابات صغيرة، أخذت تستولي بالقوة على بقايا الطعام والمياه. في اليوم الثالث، استسلم الجميع لقدرهم، وأخذوا ينهارون الواحد تلو الأخر، وأصيب بعضهم بالإغماء نتيجة الإنهاك والجوع والعطش، دون وجود إمكانية لتقديم أي مساعدة لهم.

كانت حنان من بين المسافرين على المركب، واختارت مع رضيعتها شهد، البالغة من العمر تسعة أشهر، مكاناً في قاعه، بالقرب من المحرك، إذ كان منظر البحر، الذي تركبه لأول مرة، يصيبها بالرهبة والدوار، فيما كان زوجها عمر يتحرك بين القاع والسطح، مستطلعاً الأوضاع باستمرار. لكنها أخذت تشعر بحاجة مستمرة للإقياء، بسبب استنشاقها في القاع خليطاً مقززاً عطناً من روائح الديزل والعفونة القديمة والبول، الذي يفرغه جحيم المسافرين المزدحمين حولها، والضاجين بجنون، فيما لم تنفك صغيرتها عن البكاء، وإبداء علائم الاختناق، مما دفع زوجها عمر الفلسطيني إلى إخراجهما إلى سطح المركب، وبصعوبة وجد لهما مكاناً صغيراً هناك. تقول حنان لعمر، وقد تركت صغيرتها تتلقى الهواء الحار، المثقل بالرطوبة الشمس القاسية ودوار البحر هنا أرحم بكثير من الازدحام المجنون، والروائح العطنة في القاع.” يبتسم عمر لها ابتسامة مرة، ويقول اصبري، بضع ساعات فقط، ونصل إلى إيطاليا، وننتهي من هذه المحنة.”

في نهاية اليوم الأول، انتهت الكمية القليلة من الطعام والمياه لدى حنان وعمر، بما فيها المخصصة للرضيعة شهد، إذ لم يتوقعا أن الأمور ستتطور إلى هذه الأحوال من الضياع، وشعرت حنان أن الحليب يجف في صدرها، وبخاصة مع جوعها وعطشها المستمر. في اليوم الثاني، أخذ عمر يستجدي بعض المياه، وأي طعام يمكن هرسه للصغيرة. وبالطبع، لم يكن لأحد أن يستغني عن طعامه ومياهه بسهولة في هذه الظروف، مما اضطره أن يشتري الجرعات وفتات الطعام، باليورو والدولار، فالنقود لم تعد تعني شيئاً أمام المجهول المرعب، المخيم على الأجواء. في اليوم الثالث، انتهى الطعام والمياه لدى جميع المسافرين على ظهر المركب، احتمل الأب والأم التعب والجوع بعض الشيء، لكن الطفلة الرضيعة شهد توقفت عن البكاء، وأخذت تصيبها حالات غشيان، مما اضطر والدتها أن تعطيها جرعات صغيرة من ماء البحر، رغم معرفتها بملوحته القاتلة، وهي تنظر إلى الآفاق المسدودة في كل الاتجاهات، مثل كل المسافرين في المركب، الذي كانت تتقاذفه الأمواج، بعد انتهاء الوقود فيه، على أمل أن تلوح لهم سفينة عابرة تنقذهم.

* 2 *

تحب حنان بيت والدها، الذي ولدت وعاشت فيه، وهو بالأحرى بيت جدها أبو حمود، زوج خالتي، ذلك البيت الريفي القديم الواسع، الواقع في أحد أحياء البلدة القديمة، الذي مازال يقيم فيه عم وعمتان لها، إلى جانب أهلها. وعندما غادرته بسبب زواجها، تأقلمت بصعوبة مع الشقة الحديثة المرفهة، التي انتقلت إليها في مخيم اليرموك، لكن الحنين إلى ذكرياتها القديمة فيه كان يدفعها لزيارة أهلها أسبوعياً.

 كان يتم الوصول إلى بيت الجد عبر حارة واسعة، تتوزع على جوانبها البيوت الريفية القديمة، المبنية من الحجر والطين، ببواباتها الخشبية العالية، ومصاطبها الطينية عند مداخلها لقضاء الأمسيات الصيفية عليها مع الجيران. وكان بيت الجد واحداً من هذه البيوت القديمة، حيث تنتصب عند مدخله بوابة خشبية عالية، مزينة بزخرفات شرقية، وحدوة حصان معلقة عليها، تيمناً بعودة الغياب المسافرين بعيداً، وطبعات أيدي قديمة، ملوثة بذبائح الأضحيات للحفاظ عليه من الأرواح الشريرة. ويتوسط البوابة باب صغير، ينتهي في الأعلى بقوس، عُلقت عليه قبضة معدنية، على شكل يد تقبض على طابة، يقرع بواسطتها الضيف للإعلان عن قدومه، وما أن يأتيه صوت من الداخل مُرحباً شد الحبلة وادخل، حتى يشد المزلاج الداخلي المربوط بحبلة معقودة الطرف في الخارج، ويدلف إلى البيت عبر ممر مسقوف. أما البوابة الكبيرة، فقد كانت تُفتح بالكامل قديماً عند إدخال المحاصيل الزراعية المحملة على الحمير والبغال إلى مستودعاتها في الداخل. ومع أن هذه العادة انتهت بتغير الزمان والأحوال، لكن البوابة الكبيرة بقيت منتصبة ذكرى لتلك الأيام، لا يُستخدم منها إلا الباب الصغير، الذي يتوسطها، من أجل الدخول.

تتوسط بيت الجد أبو حمودفسحة كبيرة واسعة، شبه مستطيلة، هي فناء البيت، تحيط بها الغرف، المتوزعة على جوانبها، بأبوابها، ونوافذها الخشبية، التي يغطيها شبك المناخل الناعم لدرء الحشرات، وبمصاطب صغيرة للجلوس أمامها، تُفرد عليها الحصائر والبسط والمخدات للتمدد عند العصريات. وتنتشر على الجوانب أحواض زهور، ياسمين معرش على الجدران، والجوري والنرجس والأقحوان والزنبق والقرنفل والشكرية والمنثور، تُشعل أجواء البيت بكرنفالات ألوان، تُدهش الأبصار، وبمويجات عبق، تُسكر الأرواح. وفي أحد الأطراف، تنهض شجيرات برتقال، وليمون، ونارنج، وعرائش تمتد أغصانها عالياً فوق صقالة خشبية لتغطي الفناء كله، فتمنحه في الصيف الظلال، وهي تتثاقل بعناقيد العنب الزيني والحلواني. وفي طرف الباحة، تنهض بئر يحميها جدار دائري، يعلوه دولاب بمقابض، يتدلى منه جنزير، كي يرفع دلواً جلدياً أسود من عمقها، عند نضح الماء.

لم يتغير شكل بيت الجد كثيراً بعد وفاته، سوى تحويل الفناء من أرضية متربة إلى باحة إسمنتية، بأحواض ذات أطراف حجرية، واستبدال صقائل العرائش الخشبية بمعدنية، وتم رفع دعامات إسمنتية في أطراف الغرف من أجل التوسع ببناء غرف طابق ثاني، أخذ يستقل بها الأبناء المتزوجون مع عائلاتهم، فتم الاستغناء عن المدحلة الحجرية البيضاء القديمة، التي كان يتم بواسطتها دحل السطح الترابي القديم في أيام المطر، ورُكنت كذكرى في أحد جوانب الفناء، وأُغلق البئر، عندما وصلت التمديدات المائية إلى البيوت. لكن البوابة الكبيرة بقيت شاهداً على صمودها عبر الزمن، كما بقيت المطرقة المعدنية، التي تم الاستغناء عن استخدامها بوجود جرس كهربائي.

ليست فقط حنان هي التي تشعر بحنين إلى بيت الجد أبو حمود، الذي قضت فيه طفولتها ويفاعتها، بل وتتفجر فيه ذكريات طفولتي المبثوثة في جنباته، أنا أيضاً، قبل ولادتها بثلاثين عاماُ من عمرها، تتصاعد منها روائح لفافات الزيت والزعتر بالخبز الرقيق الساخن، الذي كانت تخبزه خالتي أم حمودفي تنور الحارة. وقد شهدتُ فيه أعراس معظم أولاد خالتي، الذين بلغ عددهم ثلاثة عشر ابناً وابنة، عندما كان يحضر الأقارب والجيران إليه دون دعوة، ويرقص الشباب والصبايا معاً حتى مطلع الفجر على إيقاع الدربكة والأغاني الشعبية. وأذكر ذات عرس في ستينيات القرن الماضي، كيف نهض جار من وهو عسكري من الساحل، مستأجر غرفة في الحارة، ورقص ببذلته العسكرية رقصة رجال حلوة مع زوجته الصغيرة الخجولة، وأتبعها برقصة مقلداً فيها النساء، وسط حماس المصفقين، فملأ العرس بالبهجة والحبور. وأتذكر أن ابنة خالتي الكبيرة فاطمة الحلوة، أول معلمة في البلدة، تتخرج من معهد خاص لإعداد المدرسين، استقلت بشخصيتها، وقد أصبح لها راتب شهري من الدولة، فاشترت للبيت واحداً من أوائل أجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود، تضعه صيفاً في الفناء، وشتاء في الغرفة الكبيرة، وأخذ عندئذ الأقارب والجيران والمعارف يزحفون إلى بيت خالتي في الأمسيات لمشاهدة مسلسلات المحطة الوحيدة للتلفزيون السوري، وببعض التحايل على اللاقط المرتفع على السطح،  محطة التلفزيون اللبناني.

* 3  *

عندما فك العسكر الحصار عن البلدة، وانسحبت المدرعات منها، سمح الحاجز العسكري للأهالي المنتظرين عند مدخلها الرئيسي بالعبور إليها، وقد هبط المساء. ووصلت حنان إلى حارة أهلها مع والدة زوجها وأخته بواسطة سيارة عابرة، بدا سائقها حزيناً، زائغ النظرات، وبقي صامتاً طوال الطريق، وقد هالها منظر الشوارع شبه الفارغة من الناس، والمحلات التجارية المغلقة، وأكياس النايلون يتلاعب بها الهواء. كان أخوها الكبير مصعب ينتظرها عند مدخل الحارة، فشعرت بالاضطراب لرؤيته ممتقع الوجه، وهو يتناول الطفلة المتعبة منها، وسرعان ما لمحت تصاعد الدخان من الحارة، فسارعت إلى سؤال أخيها بلوعة ماذا حدث؟ هل أهلي جميعهم بخير؟.”

يرد عليها جميعهم بخير، لا تقلقي

عاودت السؤال، وهي تسرع إلى البيت ووالدي ووالدتي وأخي الصغير، وعمي وعماتي؟ بخير؟ لماذا أنت ممتقع الوجه؟.”

قلت لك جميعهم بخير، كانت لدينا حملة مداهمة شديدة اليوم، خربوا بيتنا قليلاً.”

ماذا يعني قليلاً؟ وهذا الدخان، من أين يتصاعد؟.”

من بيت جارنا أبو خيرو، ألقى العسكر متفجرة في البئر، الذي يسقون حديقتهم منه، انفجرت في قعره بصوت عميق مكتوم، لكن الأرض اهتزت حوله كزلزال، وردمه التراب. قالوا إن فيه أنفاقاً تقود إلى خارج البلدة، يتسلل منها الإرهابيونمع أسلحتهم. ثم أحضروا بلدوزراً، وهدموا البيت الجميل، وأشعلوا النيران في أخشابه القديمة الجميلة، أمام أعين الوالد والوالدة والبنات المرعوبين، اللذين كانوا يصرخون باكين، ولم يسمحوا بحضور سيارة إطفاء البلدية. قال الضابط المتغطرس، الذي أعطى الأمر بهدمه وإحراقه، أن أولاد أبو خيرو إرهابيون، يحملون السلاح ضد الدولة. وبعد ذهاب العسكر، قمنا نحن والجيران بإطفاء النيران حتى لا تمتد إلى البيوت المجاورة، وبالكاد استطعنا إنقاذ بعض الأثاث.”

لم أسمع بحياتي بأنفاق في آبار حارتنا، فهي لا تكاد تتسع لنضح المياه بالدلاء، من أين للعسكر هذه المخيلة؟ وأولاد أبو خيرو، أين هم؟.”

التجؤوا إلى الحقول، هرباً من الاعتقال العشوائي، صحيح أنهم كانوا يقودون المظاهرات بالهتافات، إلا أنهم لم يحملوا السلاح أبداً. تعرفينهم كم هم شرسون، هم أبناء الحقول والريح، لا يرضون بأن يهينهم أحد، فكيف بإحراق بيت ذكرياتهم، سيحملون السلاح الآن، بعد أن كانوا يرفضون ذلك، وسيغتالون بالتأكيد المخبرين السريينفي حاراتنا القديمة، هؤلاء الذين جاؤوا بلاء للناس…… وهدم العسكر الكثير من البيوت في الأحياء القديمة حولنا، بدعوى أنها فارغة من أهاليها الإرهابيين، الذين هربوا من المداهمات والاعتقالات، كلها بيوت قديمة جميلة، مثل بيتنا، يا خسارة.”

مرت حنان أمام بيت أبو خيرو، الذي أصر أولاده على الحفاظ على بنائه من الحجر والطين بالترميم المستمر، وبنوا إلى جانبه، في فسحة الحديقة الواسعة، غرفاً إسمنتية، لكنهم لم يستغنوا عن الغرف القديمة. تحسرت حنان، وهي تشاهد البيت القديم الآن دون سقف، وقد تهدمت جدرانه، وسقطت عوارضه الخشبية المحترقة على أثاث الغرف، وانهال معها التراب والحجارة، واتشح كل شيء بسواد الدخان. امتلأ في أحد الزوايا سرير بأكوام من الأنقاض، ظهر من طرفها شرشف أبيض، أصبح الآن مسوداً ومغبراً، وانكشفت رفوف كتبية في جدار لم يسقط بكامله، فيها بقية صحون قديمة مكسرة، ومزهرية، مازالت فيها ورود جوري زهرية اللون، إنما ذابلة، وزحف ناربيج نارجيلة من تحت الركام، فيما تلاعب النسيمات أوراق دفاتر مدرسية، تمزقت الكلمات عليها. وفي غرفة المؤونة، تناثرت الخوابي الفخارية المحطمة، وانساحت محتوياتها من العدس والبرغل والكشك على الأرض، واختلطت بالتراب. وبين الأنقاض، تناثرت هنا وهناك حطام خزانة، فيها بعض ألعاب أطفال، وطاولة طعام عليها كسرات خبز وصحن فارغ وكؤوس شاي مغبرة، وبقايا ملابس محترقة، تم استخدامها لإذكاء النار. وعلى بقايا جدار، مازالت صورة أبو خيرو، وأم خيروبالأسود والأبيض، ذكرى يوم الزفاف، وإلى جانبها صورة البلدة، وفي خلفيتها جبل الشيخمكللاً رأسه بثلج الشتاء.

قالت لها والدتها الحزينة، وهو تعانقها، والدموع تبلل وجهها قلبوا الأثاث رأساً على عقب في بيتنا، وهم يصرخون أين السلاح؟“.

قال أخوها مصعب دخل عسكر إلى غرفة الجلوس، وفتشوا بلامبالاة، فقط لأن شبيحاًكان يرافقهم، وعندما خرجوا منها، ربّت أحدهم بهدوء على كتفي، وهمس متمتماً عليك بالصبر، فعلى الأغلب يعاني أهلي مثلكم في قرانا.”

قالت العمة قلبوا أصص زهور الفناء، التي أعتني بها دائماً.”

يردف الأب المريض بحسرة لكن الشبيحةهم الحقيرون، لم يكونوا يفتشون، بل كانوا يخربون بحقد، وهم يقلبون الأثاث، فيما حمل أحدهم دفتراً، وأخذ يُسجل بدقة عدد الغرف، وعدد المقيمين في البيت، ومن  الغائب منهم، وفعلوا هذا في كل البيوت. غريب، كأنهم سيقتسمون بيوتنا، ونحن مازلنا فيها.”

يتصل عمر بحنان على الهاتف المحمول في هذه اللحظات، قائلاً ” “مخيم اليرموكأصبح مغلقاً بالكامل، لا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه، الجيد أنك خرجت مع أهلي. سقطت قذيفة على بنايتنا في المخيم، فاشتعلت النيران في الشقق، ومن بينها شقتنا. هل تستطيع والدتي وأختي البقاء عند أهلك لبضعة أيام؟ لن أغادر الآن المستشفى، لدينا ضغط عمليات جراحية خطيرة، امتلأت الأروقة بمدنيين مصابين بشظايا قذائف هاون، تسقط بجنون على دمشق.”

بعد عدة أيام يتصل عمر بحنان ستقيم والدتي وأختي مع أخي في شقته بـمشروع دمر، الوضع هناك آمن. لم يعد من الممكن الاستمرار في الحياة هنا، بكل هذا الجنون، وأبلغني أصدقاء أنني كفلسطيني مطلوب لخدمة الاحتياط في جيش التحرير الفلسطيني.” لذلك، سنهاجر إلى ألمانيا عبر مصر، فليبيا، ومنها عبر البحر إلى أوروبا. أنا طبيب جراح، وأنت مهندسة معمارية، لم يبق لنا شيء هنا، وسنجد عملاً كريماً وأماناً هناك، جهزي نفسك أنت وشهد، وودعي أهلك.”

في يوم خروج حنان للمرة الأخيرة من بيت جدها، نظرت طويلاً إلى ورود الفناء، والمدحلة الحجرية المركونة جانباً، والبوابة الكبيرة، وحدوة الحصان، وبكت بصمت. تذكرت أنها عندما خرجت من مخيم اليرموك، لم تستطع أن تلقي نظرة أخيرة على شقتها، تركت هناك ذكريات سنتين من زواجها، وتحسرت بتنهيدة طويلة، وتمنت لو استطاعت فقط إنقاذ ألبومات الصور, كي تحمل معها شيئاً مادياً من ذكريات روحها. وفي أثناء مرورها في الحارة، توقفت طويلاً أمام بيت أبو خيروالمهدم، كان الوالدان العجوزان يجلسان على مصطبة البيت، يستمتعان بشمس الصباح، ويشربان الشاي، فهما لن يغادرانه إلى أي مكان.

* 4  *

يمر اليوم الثالث، وسفينة المهاجرين غير الشرعيين مازالت تائهة في البحر، دون بحارة، دون وقود، تتلاعب بها الأمواج، وقد بلغ الجوع والعطش أشدهما لدى ركابها، بعد نفاذ الطعام والمياه لديهم منذ اليوم الثاني، ولم يبق شيء منهما لسرقته من قبل أفراد العصابات المتشكلة على ظهرها، واستسلم الجميع لقدرهم، ناهبون ومنهوبون، في تلك اللحظات الضيقة بين الحياة والموت. وازدادت حالات الإغماء، دون وجود إمكانية لإنقاذ المصابين، سوى غسل وجوههم بمياه البحر المالحة. وفي هذه الأثناء، كانت مياه البحر قد أخذت تتسرب ببطء إلى قاع المركب، من شقوق الأخشاب البالية المهترئة في طرفه الأيمن، ولم يكن بالمستطاع فعل شيء، سوى انتظار الغرق، إلا إذا ظهرت سفينة تنقذ ركابه في اللحظات الأخيرة.

كانت حنان تجلس في ظل صاري السفينة، ورضيعتها شهد في حضنها، تتحايل بظله على الشمس، تعيش هلوسات الجوع والعطش والإنهاك، ولم تعد تدرك شيئاً مما  يحدث حولها، وقد تحجرت الدموع في عينيها. كانت قد تركت أحد ثدييها مرخياً في العراء، قرب وجه شهد، التي لم تعد تلتقطه، في شبه غياب عن الحياة، وقد ازرقت شفتاها الرقيقتان، وتقشرتا، بعد أن سقاها والدها عمر بعضاً من مياه البحر، عله يمد في عمرها قليلاً. أما هو، فقد استسلم للقدر، بعد محاولات شراء فاشلة لقطرات مياه، ولقيمات طعام، بأغلى الأسعار، إذ نفذ كل شيء من على ظهر السفينة، حتى مع مجموعات العصابات. لقد دفع الكثير من المال، كي يؤمن سفراً أمناً ومريحاً لعائلته، هارباً من الموت في البلاد، لكن لم يتوقع بكل خبرته في الحياة أن يقع ضحية مهربين بدرجة عالية من الاحتيال، فيقع من جديد بين براثن الموت.

وفجأة، عند عصر اليوم الثالث، أطلق أحد الركاب بصوت مخنوق كلاماً غير مفهوم عن سفينة تلوح في الأفق، لم يلتف إليه أحد ممن حوله بالعيون نصف المغمضة، المستسلمة لتأرجحات وهدهدات الموت على الأمواج. صرخ أثنان، ثلاثة، إنها سفينة، فحدث هرج ومرج بين شبه الموتى على ظهر المركب، وانتقل بينهم بمويجات همهمات، ونهض أولئك ممن يستطيعون الوقوف، غير مصدقين، وأخذوا يلوحون بالأيدي والملابس. تساءل عمر، هل تم أخيراً التقاط  نداء استغاثة من أحد الهواتف المحمولة للركاب، أم أنها سفينة مارة بالصدفةلا يهم، فهي  قادمة لإنقاذنا، وقد تنجو حنان وشهد، اللتان شارفتا على الهلاك، هذا إذا لم تكن شهد قد لفظت الأنفاس.

كانت سفينة شحن مالطية، تمضي في خط سيرها الاعتيادي، عندما لاحظ بحارتها من بعيد الوضع المتأزم لمركب يتأرجح بين الأمواج. عاين قبطانها الوضع بمنظاره، وشاهد مركباً خشبياً متهالكاً، محشواً بالناس نصف الأموات، وعرف أنه يقل مهاجرين غير شرعيين، مرميين في البحر من قبل عصابات التهريب. توجه بالسفينة نحوهم لإنقاذهم، متوقعاً حدوث كارثة في أي حركة مفاجئة غير طبيعية منهم على ظهر مركبهم، فأمسك مكبر صوت، طالباً منهم باللغة الإنكليزية الهدوء وعدم الحركة، لكن من كان في تلك اللحظات يفهمه، أو حتى يسمعه. وحدث ما توقع القبطان، فما أن عرف الركاب الثلاثمائة أن السفينة المنقذة قادمة إليهم، حتى تدافعوا متجهين بكتلتهم كلها إلى طرف المركب المتهالك المقابل لها، دون أن يدركوا بأنه أخذ يميل شيئاً فشيئاً مع ثقلهم المفاجئ. وسرعان ما انقلب المركب على جانبه في لحظات، وأفرغ بدفعة واحدة معظم حمولته من البشر في مياه البحر، فتبعثروا هنا وهناك بين الأمواج، التي أخذت تصعد بهم وتهبط، وتذهب بهم بعيداً، وهم يخبطون بأيديهم ضربات عشوائية مجنونة يائسة، إذ تبين أن معظمهم لا يعرف السباحة، ولا أحد لديه سترة نجاة. في حين حاول البعض في لحظة الانقلاب التعلق بأي عارضة يتمسك بها، فيتأرجح جسده قليلاً في الهواء، ثم لا يلبث أن تخذله قواه، ويسقط في المياه. واستطاع بعض المتأرجحين تسلق الظهر المنقلب للمركب، لكن ما الفائدة، وقد أخذ يغوص ببطء في المياه.

لم تقوَ حنان، شبه فاقدة الوعي، على الحراك، والناس يتدافعون حولها، ثم مروا من فوقها، غير آبهين بها. وبدلاً من أن تنهض، أو تبحث عن شيء تتمسك به، تشبثت أكثر برضيعتها شهد، تشدها إلى صدرها، وألصقت ظهرها إلى الصاري أكثر حتى لا يأخذها الزحام. ولم تدر إلا والمركب أخذ يميل بها، وإذا بها تتدحرج على سطحه مع كتل من الناس، وتسقط  فجأة لتصطدم بالمياه، التي أعادتها إلى بعض من وعيها، فزادها هذا من تمسكها بطفلتها. حدث هذا في ثوان غريبة سريعة، دون أن تدرك ما حدث لها، فإذا بها في مياه البحر، الذي تخاف حتى من مرآه، فأصابها جنون غريب، وأخذت تنادي زوجها باكية.

أما عمر، الذي استطاع في اللحظة الأخيرة التمسك مصادفة بحلقة حديدية، في لحظة الانقلاب، فقد بقي معلقاً في الهواء، يحاول التسلق إلى طرف المركب، كي يعلوه، ليعي نفسه فجأة، ويدرك أن زوجته وطفلته سقطتا في المياه. بحث عنهما بعينيه بين الجموع المتخبطة اليائسة في المياه، وقد بلغ به الهلع أشده، فلم يستطع أن يشاهدهما، لكنه أحس بمكانهما بقلبه، فقفز إلى المياه وراءهما كالمجنون، وأندفع يسبح نحوهما. كان عمر قد مر بدورة قاسية من التدريب العسكري، في أثناء خدمته الإلزامية في جيش التحرير الفلسطيني، جعلت مهاراته في السباحة تزداد، لكن كان ذلك في حوض سباحة مريح، وأحياناً في بحيرة صغيرة، إنما ليس في بحر متلاطم الأمواج، وفي حالة من الهلع والارتباك. وسرعان ما وجد زوجته في وضع يائس، وهي تصارع الأمواج بيدها اليمنى، فيما تشد باليسرى رضيعتها إلى صدرها. كانت تحاول أن تطفو بصعوبة، إنما كان يعرف أن مهاراتها في العوم لم تكن تتجاوز القفز في مسبح صالة الجلاءفي دمشق، حيث كانت تقضي أيام العطل صيفاً معه، وأنها كانت تفضل البقاء معظم الوقت مسترخية في الظلال، بدلاً من السباحة، إذ لم تتوقع أنها ستواجه البحر ذات اليوم في حياتها الأمنة.

صدمت الكارثة السريعة بحارة السفينة المُنقذة، الذين لم يتوقعوا أنها ستصل إلى هذه الدرجة من السوء، وهم يشاهدون من بعيد المركب المتهالك ينقلب بركابه اليائسين في الماء، دون أن تنفع تنبيهاتهم لهم بالهدوء. وما أن وصلوا إلى مكان الكارثة حتى رموا بكل ما لديهم من سترات نجاة للغارقين، واتبعوها بقوارب إنقاذ مطاطية فارغة، ثم نزل بعضاً منهم في قوارب ذات محرك، وأخذوا يصارعون بكل قواهم لإنقاذ ما يستطيعون من الأحياء، يسابقون الزمن ضد الأمواج، التي كانت تبعثرهم في كل الاتجاهات، ثم ما تلبث أن تبتلعهم، ولم يعودوا يميزون الأحياء من الأموات.

وفيما كان عمر يسبح باتجاه زوجته وطفلته، تعلق به أحد الغرقى اليائسين، الذين لا يعرفون السباحة، وأخذ يعيق حركة يديه وقدميه، ويشده معه نحو الأعماق. وبصعوبة تخلص من الغريق اليائس، وشهد بعينيه كيف ابتلعه البحر أمام عينيه، دون أن يستطيع فعل أي شيء له. اقترب من زوجته، التي تكاد تستسلم للموت، وهي تشد إلى صدرها الطفلة، التي شعر أنها فقدت الحياة، ولاحظ أن وجودها يمنع حنان من السباحة بكلتا يديها، وستغرقها إن لم تفلتها. كان بحاجة، هو وحنان، إلى ما تبقى من طاقتهما المتداعية للصمود في وجه الأمواج، التي أخذت تلقي بهم بعيداً عن القوارب المنقذة.

صرخ عمر بحنان اتركي شهد، دعيها، ذهبت إلى رحمة الله، واسبحي أنت بكلتا يديك“.

لكن حنان ازدادت تشبثاً بشهد، وتمتمت لا ، إنها حية، لن أفلتها.”

يصرخ من جديد يائساً إنها ميتة منذ أن كانت على ظهر المركب، لا فائدة يا حنان، ستغرقين معها.”

لا ترد حنان، تضعف حركة يدها اليمنى، التي تطفو بها، وقد بلغ الإنهاك بها درجة جعلها تفقد قواها بالكامل، وغابت عن الوعي. أقترب عمر من خلفها، أمسك بها بيده اليسرى من سترتها عند رقبتها، وحاول أن يطفو بيده اليمنى. نظر حوله، فشاهد من بعيد قارب بحارة يحاول إنقاذ الأحياء، صرخ منادياً، لم يخرج صوت من فمه. تذكر أنه كان ينبغي شراء سترات نجاة، وصفارة بحر لمثل هذه الحالات، لكن المعلموعده بأن كل احتياجات النجاة موجودة على المركب، وما هي إلا بضع ساعات، ويصل إلى شواطئ إيطاليا. وما أن حاول عمر التلويح بيديه لبحارة القارب حتى أفلتت يده حنان، وأخذت تغوص، فلحق بها من جديد ليمسك بها، وينتشلها، ويحاول أن يطفو بها. وعاد من جديد يلوح بيده إلى القارب، الذي أخذ يبتعد عنهم، فتفلت حنان منه. ومع أنه استنزف آخر قواه بالكامل، إلا أن صوتاً خرج من حلقه يائساً، وأطلق صرخته الأخيرة.

* 5  *

لماذا كل ما حولي أزرق، صاف، جميل، شفاف، أرى عبره كل الأشياء، آه، أنا أغطس في ماء أزرق صاف، غريب، وأتنفسه مثل سمكة، وابنتي شهد الرائعة أيضاً تتنفسه مثل سمكة. تبتسم شهد، وهي تمضي معي في نزهة تحت الماء، مسرورة لأنها أصبحت سمكة، مثل تلك، التي كانت تراقبها في الوعاء الزجاجي على طاولة في غرفتها، وأنا أيضاً أصبحت سمكة. ربما أنا وشهد تحولنا إلى حوريات بحر، ونعيش في عالم بحري، مثل اللواتي كانت تقرأ لي عمتي قصصهن في كتاب أطفال ملون، عندما كنت صغيرة. ستكون الحياة حلوة هنا، في عالم دون حرائق وانفجارات، والركض هرباً منها في الطرقات، الماء يطفئها، الماء حياة. لماذا نسيت أن أحضر معي من شقتي في المخيم ألبوم صور زواجنا، وصور شهد، وهي تطلق أولى الضحكات، وتحبو، وتغمز بعينيها. عندما تكبر هنا في عالم الماء، كيف ستتذكر طفولتها، مع أنه كان هناك متسع للألبومات في صندوق الشاحنة الفارغة، التي أقلتني إلى بيت جدي. ربما أحضرتها، قبل أن تحترق شقتنا، إلى بيت أهلي، وأنقذتها من بين جميع الأشياء، التي ستحترق بقذيفة. آه، تذكرت، أحضرتها إلى بيت جدي، لكني نسيتها في حضن والدتي. كنا نجلس معاً في الفناء، أنا ووالدتي ووالدي وأخواي، تحت ظلال العريشة، يغمرنا أريج الياسمين، المعرش على جدار بيت جدي، وكنا نتفرج على صور الألبومات. وكان هناك ماء أزرق شفاف يغمرنا، ونحن نتفرج عليها، ماء يغمر فناء بيت جدي، ويعلوه بأمتار، يتجاوز أسطح غرف الطابق الثاني، وكنا نحن جميعاً نتنفس الماء، مثل الأسماك، ونبتسم في الماء لشهد، وهي تقلب الألبومات معنا، وهي تتنقل بيننا. منذ متى أصبحت شهد تمشي، يسرقني الزمن، دون أن أدري. شهد تفتح الباب الخارجي في بيت جدي، تشد المزلاج المربوط بحبلة إلى الخارج، متى أعاد أبي تركيبه مع أنه وضع جرساً كهربائياً. شهد تتطاول إلى مطرقة الباب تتلهى بها، وعندما أفتحه لها، تركض ضاحكة أمامي في الحارة. إلى أين تذهبين يا شهد؟ وألحقها، أسمع صوت عرس في الجوار، إيقاع دربكة، وأكفاً تصفق، وأصوت غناء، تصدر جميعها من بيت الجد أبو خيرو“. أقترب من البيت، الشباب أبناؤه يتزوجون اليوم دفعة واحدة، هو عرسهم، ويرقصون فرحين في قلب النار مع عرائسهم الحلوات، لكن بين جدران مهدمة، متشحة بالأحمر، وقد علقوا بنادقهم عليها. غريب من هدم لهم الدار الحلوة، وأحرق خشبها المزين بالزخارف الملونة، النار تحرق الأخشاب الحلوة، كي يرقصوا حولها. لكن لماذا لا تنطفئ النار، والماء يغمر كل البيت، أزرق، صافي، شفاف، ألسنة النيران تتراقص في عالم من الماء، والجد أبو خيرووالجدة أم خيروتركا العرس، وراحا يشربان القهوة على المصطبة الطينية أمام البيت، يشربان قهوة في عالم الماء، وأنا أشم رائحة القهوة. لماذا يا عمر تشدني، أنت عدت متعباً من المشفى، تقول لي إنك تريد شرب القهوة معي، تعال أنت واشربها معي هنا، أنا وشهد مسرورتان في عالم الماء، نحن الآن حوريات بحر، وشجرة ياسمين تعرش حولنا في الماء، وأريجها يفوح في الماء. لماذا تصر أن تشدني لعندك إلى الأعلى؟ دائماً أنت صعب المراس، لا أستطيع أن أقنعك بآرائي إلا بصعوبة، لماذا تشدني يا عمر، أنا مسترخية هنا، وأرغب أن أنام طويلاً، مسرورة هنا، أنا وشهد، وسننام، لماذا توترنا، وتشدنا إلى الأعلى، تشدنا نحو الهواء، أنت تعرف أننا أصبحنا نختنق في الهواء، لا نحب الهواء، نختنق فيه.

أين أنت يا شهد، أين أنت يا عمر، لماذا كل ما حولي أبيض، سرير أبيض، شراشف بيض، غمامات بيضاء في الغرفة، همسات بيض، وأشباح بيض تتحرك حولي، كل شيء أبيض، يغمرني الأبيض، أتنفس الأبيض بدلاً من الماء. لا أفهم ماذا حدث، متى غادرت عالم الماء الأزرق الشفاف، وانتقلت إلى عالم أبيض، أتنفس فيه هواء، هواء أبيض. أين أنت يا شهد، لماذا أنت تبكين يا صغيرتي، أسمع صوتك بوضوح غريب، هناك يدان تقتربان بك مني، يدان بيضاوان، أفتح ذراعي، وأتلقاك على صدري، لماذا تبكين يا شهد، يا حبيبتي، كأنك تبحثين عن ثديي. أنت دافئة شهد، تتنفسين، وتمتصين حلمة ثديي، أنت حية يا شهد، الله يسامحك يا عمر، كيف تقول لي أنها ذهبت إلى رحمة الله، شهد حية يا عمر.

نجوت أنت وابنتك بأعجوبة، وزوجك حي أيضاً، أنتم في مستشفى، في مالطا، أنتم محظوظون، فقد غرق معظم المسافرين في مركبكم، الذي انقلب في البحر، والقليل منهم من نجاتقول ممرضة لحنان بلغة إنكليزية، وبلهجة ودودة.

**نص بُني على شهادات حية حول المآسي التي تعرض لها السوريون الذين حاولوا الهرب في قوارب الموت إلى أوربا، وقد تمت صياغتها أدبياً، وستكون الأساس لرواية جديدة يعمل عليها المؤلف.
بوادر مواجهة عسكرية بين دمشق والأكراد

بوادر مواجهة عسكرية بين دمشق والأكراد

الحسكة

ظهرت في الأيام الاخيرة بوادر مواجهة عسكرية بين دمشق والاكراد شرق سوريا. اذ سجل استنفار أمني في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية، بعد اتهامها بـ«الخيانة» من قبل الرئيس بشار الأسد واعتبار نائب وزير الخارجية فيصل المقداد هذه القوات مشابهة لـ«داعش»، في وقت بدأ النظام السوري إعادة فتح قنوات مع قادة عشائر شرق سوريا لمواجهة محتملة مع الأكراد الذين سعوا لوساطة من موسكو.

وكثفت الشرطة الكردية (آسايش) و«وحدات حماية الشعب» الكردي دورياتها في مدن منبج وتل أبيض ورأس العين والدرباسية والقامشلي والقحطانية والحسكة دورياتها وعززت نقاطها بعناصر إضافية خوفاً من تحرك أبناء العشائر العربية الذين يرفضون هيمنة الأكراد على مناطقهم بإشارة من النظام.

وقال مصدر في محافظة الحسكة: «تصريح الأسد لم يصف الأكراد بالخيانة، بل وصف كل من يعمل تحت المظلة الأميركية بالخيانة وهذا الأمر ينطبق على الأكراد والعرب والمسيحيين والتركمان باعتبارهم مشاركين في قوات سوريا الديمقراطية التي تعمل تحت المظلمة الأميركية». وأضاف: «رد فعل الأكراد على تصريحات الأسد كان قاسيا ولا يقل عن تصريحه فقد وصفوه بالخيانة باعتباره فتح أبواب سوريا أمام كل الإرهابيين. وغياب أي رد فعل من جميع المكونات الأخرى، يشير إلى أن وحدات الحماية الكردية وباقي الفصائل الكردية المشاركة معها تعمل تحت المظلة الأميركية وهم من ينسقون ويتواصلون مع الأميركيين لأنهم بصراحة لا يثقون بالعرب وغيرهم من قوات سوريا الديمقراطية التنسيق فقط مع الوحدات الكردية، وهذا ما أكده الناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية طلال سلو بعد انشقاقه منتصف الشهر الجاري».

واتهمت «قوات سوريا الديمقراطية» في بيان الأسد بـ«الخيانة». وقالت: «الأسد وما تبقى من نظام حكمه، هم آخر من يحق لهم الحديث عن الخيانة وتجلياتها، بما أن هذا النظام هو المسؤول مباشرة عن فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام جحافل الإرهاب الأجنبي التي جاءت من كل أصقاع الأرض، كما أنه هو بالذات الذي أطلق كلَّ الإرهابيين من سجونه ليوغلوا في دماء السوريين بمختلف تشعباتهم». وأضافت: «النظام الذي ما زال يراهن على الفتنة الطائفية والعرقية ويتخندق وَفْق هذه المعطيات، هو ذاته أحد تعاريف الخيانة التي إن لم يتصدَّ لها السوريون ستؤدي بالبلاد إلى التقسيم، وهو ما لن تسمح به قواتنا بأي شكل من الأشكال». وكان وزير الخارجية السوري وليد المعلم قال إن «إقامة نظام إدارة ذاتية للأكراد في سوريا أمر قابل للتفاوض والحوار في حال إنشائها في إطار حدود الدولة».

ووصف المجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة التابع للإدارة الذاتية في بيان تصريحات الأسد بأنها «كانت متوحشة بمثابة إعلان حرب جديدة على كل مناطقنا المحررة التي لم يميز بين مكوناتها، وكأنه بمعنى من المعاني يريد إعادة إنتاج الماضي الأسود القاتم لكل مكونات شعبنا العربية والكردية والسريانية والشيشانية والتركمانية وغيرها عبر اتهامها بالخيانة والتبعية. لا يحق لمن كان السبب في تدمير البلاد والعباد وملأ هذا الوطن بميليشيات الموت المرتزقة من كل أصقاع العالم أن يتهم القوى التي حاربت الإرهاب وحافظت على أمن واستقرار المنطقة بالخيانة».

ورد المقداد على موقف الأكراد ووصف «قوات سوريا الديمقراطية» بأنها «داعش» جديد في الشمال الشرقي من سوريا. وقال أمس: «هناك داعش آخر قد يسمى قسد، ويحاول الأميركيون دعمها ضد إرادة الشعب السوري». وأضاف: «هي في خدمة أميركا وخدمة المخططات الغربية ضد شعب سوريا وضد الدولة السورية»، معتبراً أنه «من يعمل على تفتيت الدولة السورية، ويضع شروط على إعادة دمج المناطق السورية ببعضها ليس بسوري ولا يمكن الوثوق به».

النظام السوري الذي ما زال يستند إلى قواعد له في شمال شرقي سوريا من عرب وأكراد وتركمان ومسيحيين وغيرهم، باشر ومنذ عدة أشهر إلى التواصل مع شيوخ عشائر العربية والتركمانية والكردية وغيرهم بعد اتخاذ الكثير منهم مواقف ضد النظام بسبب تصرفاته وخاصة في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة والتي سيطر عليها تنظيم داعش. وكانت طائراته لا تفرق بين عناصر التنظيم والمدنيين، بل كانت تستهدف المدنيين أكثر وإشارات استفهام حول معارك وهمية بين عناصر التنظيم وقوات النظام التي سيطرة على مواقع عسكرية كان من الصعب السيطرة عليها لولا وجود تفاهمات وجر الثورة السورية إلى التطرف وخلق تنظيمات متطرفة شمال شرقي سوريا، بحسب نشطاء معارضين. وقال أحدهم: «شواهد كثيرة على تحالف النظام مع مسلحي داعش والذي سلم لهم محافظة الرقة وريف دير الزور الشرقي والغربي ونصف محافظة الحسكة».

وكان النظام وجد ضالته في ضغط «الوحدات» على العرب شمال وشرق سوريا ونظرة بعض عناصر إلى العرب للعودة إلى فتح قنوات التواصل مع شيوخ العشائر عبر أقاربهم ومعارفهم في دمشق وبعض المحافظات السورية الأخرى، ووجد الشيوخ عودة التواصل مع النظام فرصة لتخلصهم من «الوحدات» وقيادتها التي تتبع لجبل قنديل مقر حزب العمال الكردستاني وممارساتهم ضد العرب في تلك المناطق وصلت إلى حد المواجهات في مدينة منبج منتصف الشهر الماضي عندما فرضوا التجنيد الإجباري. وقال أحد الشيوخ: «إذا فرض على أبنائنا التجنيد سنرسلهم للخدمة في الجيش السوري الذي سيعود إلى المنطقة عاجلاً وليس آجلاً ولن نرسل أبناءنا للخدمة العسكرية وتقديم التحية لعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني».

تواصل النظام مع شيوخ العشائر لم يقتصر على الداخل، فقد أعاد النظام الشيخ نواف راغب البشير شيخ قبيلة البكارة واحدة من أكبر العشائر العربية في شمال وشرق سوريا من صفوف المعارضة إلى دمشق، وأظهره بأنه داعم للنظام عبر مساندة فصيل لواء «محمد الباقر» المكون من أبناء البكارة ونشر صورا له مع قادة الفصيل في مدينة دير الزور إلى جانب العميد عصام زهر الدين الذي قتل منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وقال أحد أبناء العشيرة: «إيران هي من أعادت الشيخ نواف البشير من تركيا وهو يقيم في حي كفر سوسة بدمشق تحت حراسة إيرانية. ولم يسمح له لقاء أي مسؤول سوري، بل هو شخص منبوذ بالنسبة لهم بل وقصة إعادته استغلت فقط إعلامياً فقط».

تحالف «الوحدات» الكردية مع النظام السوري بني في البداية على مواجهة كل حراك شعبي في مناطق شرق سوريا، واعتبر عدد من المسؤولين السوريين في تصريحات لهم أن «الوحدات الكردية هي جزء من القوى الوطنية». لكن هذا الوصف تلاشى بعد هجوم تنظيم داعش على مدينة الحسكة بتاريخ 25 يونيو (حزيران) 2015، حيث امتنعت «الوحدات» عن المشاركة لصد الهجوم على المدينة لأكثر من 20 يوماً من بدء الهجوم. ووعد قائد «الوحدات» الكردية الملقب بـ«لوند حسكة» بأن يشارك في صد هجوم «داعش» بعد مقابلة محافظة الحسكة السابق محمد زعال العلي، وقد وعد حسكة أن «تكون الوحدات الكردية إلى جانب الجيش والقوات الرديفة له في صد الهجوم»، بحسب مصدر. وأضاف: «قرار الوحدات الكردية ليس بيدهم هناك من يوجههم وهذه مشكلة بالنسبة لتعامل الحكومة السورية معهم، والتي ترفض لقاء أي مسؤول كردي ليس سوريا».

وتابع: «بعد هجوم داعش كانت قيادة الوحدات تنتظر سقوط مدينة الحسكة بيد تنظيم داعش وتقوم باستعادتها من تنظيم داعش وبذلك تفرض سيطرتها عليها بحكم الأمر الواقع، إلا أن صمود الجيش والقوات التي قاتلت معه أضاع الفرصة منهم، ودخلوا لتثبيت نقاط كان الجيش استعادها وبسطوا سيطرتهم عليها».

هذه السيطرة أوجدت حالة من الشك بين الحلفاء ضد تنظيم داعش، بل وصلت إلى حالة المواجهات عندما بدأت «الوحدات» تفرض سيطرتها على أغلب أحياء مدينة الحسكة والسيطرة على مقارها الحكومية وما كان من الصدام بد. وقال قائد إحدى المجموعات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش النظامي: «مع تمادي عناصر الوحدات الكردية في التعرض لنقاط الجيش والقوى الأمنية والرديفة لهم كان لا بد من المواجهة مع القوات الكردية، وهذا ما حصل وتدخل سلاح الجو في قصف مقرات الوحدات والآسايش في مدينة الحسكة بداية شهر أغسطس (آب) عام 2016، وعندها أدرك قادة الوحدات أن الحكومة السورية لن تسمح بسيطرتهم على محافظة الحسكة، وكل ما يقومون به هو تحت السيطرة بالنسبة للحكومة السورية».

وتعول الحكومة السورية في تواصلها مع شيوخ العشائر ووجهاء مناطق شمال وشرق سوريا على العنصر العربي، الذي يشكل نحو 70 في المائة من «الوحدات» الكردية، بحسب تصريحات قياداتها التي تنظر إلى هؤلاء كـ«مرتزقة»، كما يقول الشيخ محمد الفارس شيخ عشيرة طي في سوريا. وأضاف: «الوحدات تنظر إلى عناصرها العرب كمرتزقة وهم وقود أي معركة يدخلها الأكراد». وتابع: «عندما يكون الأمر يتعلق بالوطن سيكون العرب وكل شرفاء محافظة الحسكة وكل سوريا يدا واحدة ضد أي مشروع انفصالي أو غيره».

العائدون إلى الرقة ينفضون الغبار عن مدينتهم… الغريبة

العائدون إلى الرقة ينفضون الغبار عن مدينتهم… الغريبة

“يجهز علي الحمد (42 سنة) وزوجته أميرة أغراضهما القليلة المتناثرة في خيمتهما بمخيم عين عيسى الواقع على بعد 50 كيلومتراً، شمال غربي مدينة الرقة. العائلة الصغيرة المؤلفة من أب وأم وثلاث بنات قررت أخيراً العودة إلى منزلها في حي المشلب، بعد سماعهم نبأ السماح بعودة المدنيين بُعيد تنظيفه من الألغام.

رافقت صحيفة «الشرق الأوسط» رحلة عائلة علي. وأثناء نقل الحقائب إلى السيارة الخاصة التي أقلتهم إلى الرقة، كانت دقات قلوبهم تسبقهم إلى طريق العودة، تاركين وراءهم ذكريات النزوح القاسية في المخيم الذي قضوا فيه قرابة ستة أشهر بانتظار هذه اللحظة، وينقل علي مشاعره المختلطة بالقول: «شعور فرح ممزوج بالخوف، قطعنا رحلنا طويلة حتى هربنا من نيران الحرب، أما اليوم أخشى أن تكون تلك النيران طالت منزلي».

في الطريق، وعندما وصلوا إلى مدخل الرقة الشرقي، أوقفتهم نقطة تفتيش تابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ودققت في الأسماء والهويات ليسمح لهم بعدها بالعبور إلى حي المشلب الذي يُعتبر علي واحداً من سكانه، ويضيف: «سمعنا أن سكان الأحياء المسموح لهم بالعودة هم المشلب والطيار والجزرة، أما باقي المناطق يُمنع دخولها لأن فرق نزع الألغام لم تنتهِ بعدُ من عملها».

في الطريق بدت أطراف الرقة أقل تضرراً. المعارك التي استمرت نحو أربعة أشهر بين يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) العام الحالي، تركزت في مركز المدينة، أما حي المشلب الواقع في الجهة الشرقية للرقة كان من بين أول الأحياء التي تحررت من قبضة تنظيم «داعش»، على يد «قوات سوريا الديمقراطية»، بدعم وغطاء جوي من طيران التحالف الدولي بقيادة أميركا، الأمر الذي بعث تفاؤلاً عند علي وزوجته.

في مدخل الحي ارتسمت علامات الراحة على وجوههم، بعد مشاهدة كثير من المنازل والمحال التجارية التي سلمت من القصف ولم تتعرض للدمار، وكان عدد صغير من الأطفال يتراكضون في ساحة الحي، يمشي بجوارهم عدد من المدنيين الذين انشغلوا بتفقد ممتلكاتهم.

وصلت العائلة إلى المنزل وعند إدخال المفتاح في قفل الباب لم تصدق المشهد، فقد نجا المنزل من القصف، والشارع لم يتضرر كثيراً، ويصف علي لحظات فرحه قائلاً: «الحمد لله البيت على حاله، زجاج الشباك والأبواب تعرض للكسر جراء ضغط الانفجارات، لكن كل شيء على ما يرام»، فيما نقلت زوجته أميرة أنها لا تعطي فرحتها لأحد، وقالت ودموع الفرح تنهمر من عينيها: «كان حلماً أن نرجع للبيت، وإنّ شاء الله كل أهالي الرقة يرجعون بسلام وأمان».

طمأنينة وأمان!

عاد المئات من المدنيين إلى أحياء الرقة بعد الانتهاء من عمليات نزع الألغام وتمشيط المنازل والمحال التجارية، ليكونوا أول دفعة من السكان العائدين إلى المدينة، وبحسب مجلس الرقة المدني يُقدر عدد العائدين بنحو 4 آلاف شخص غالبيتهم من المشلب.

وعلى غرار علي، ينتظر النازحون في مخيم عين عيسى أن يتمكنوا من العودة إلى مدينتهم في أقرب وقت ممكن، وأكد جلال العياف مدير مخيم عين عيسى، أنّ «عشرات من نازحي الرقة يعودون يومياً إلى مناطقهم، بالأخص المناطق الواقعة في محيط الرقة والمزارع المجاورة».

وتمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم قوات عربية وكردية ومسيحية في 17 أكتوبر، من طرد عناصر تنظيم «داعش» المتشدد من الرقة إلى بادية الفرات والمناطق الحدودية مع العراق.

وعبر كثير من أبناء حي المشلب عن فرحة مشوبة بالحذر، لأن إعادة الاستقرار والأمن إلى المناطق التي تخرج عن سيطرة «داعش» ونشر الطمأنينة والسلام بين الأهالي، تتوقف إلى حد بعيد على انضباط قوات الأمن الداخلي من جهة، ومدى قدرتها على الدفاع عن هذه المناطق من جهة ثانية، إلى جانب وجود إدارة مدنية تحظى بقبول أبنائها.

وتسلم مجلس الرقة المدني وجهاز الأمن الداخلي، في 20 من الشهر الحالي، إدارة المشلب إلى جانب حي الجزرة والطيار رسمياً من «قوات سوريا الديمقراطية»، ولدى لقائها مع صحيفة «الشرق الأوسط»، قالت المهندسة ليلى مصطفى رئيسة المجلس، إنّ «القوات ومنذ إعلان تحرير الرقة الشهر الماضي من التنظيم الإرهابي، تعهدت بتسليمها لمجلس الرقة المدني، وسوف تتحمل قوات الأمن الداخلي مسؤولية الحفاظ على الأمن العام وإعادة الطمأنينة بين الأهالي».

وبحسب رئيسة المجلس، «قامت لجنة الخدمات بأولى أعمالها في حي المشلب والجزرة والطيار، من خلال تنظيف وإزالة السواتر الترابية ورفع الأنقاض والقمامة المتراكمة في الشوارع ليتم نقلها إلى خارج المدينة في مكان مخصص لها».

وتتوقع ليلى مصطفى أن يتطلب تنظيف الرقة وإعادة إعمارها جهوداً ضخمة، وشهوراً عدة قبل أن تعود الحياة الطبيعية إلى شوارعها.

بدوره، أشار عمر علوش رئيس لجنة العلاقات في مجلس الرقة المدني، إلى أن المجلس يعمل خلال الفترة المقبلة على إعادة هيكليته من خلال تشكيل مجلسين: مجلس تشريعي وثانٍ تنفيذي لإدارة الرقة، وأوضح: «منذ بداية تشكيل المجلس بشهر أبريل (نيسان) الماضي، ورد في البيان التأسيسي أنه ستتم إعادة هيكلة المجلس بعد تحرير الرقة، لأن القسم الأكبر من أهالي المدينة لم يشاركوا في التأسيس كونها كانت محتلة من قبل تنظيم داعش المتطرف».

مهمات وتحديات

قدم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إلى مجلس الرقة المدني آليات ثقيلة على أربع دفعات بلغ عددها حتى اليوم نحو 50 سيارة وصهريجاً لنقل مياه الشرب، بهدف بدء العمل داخل شوارع الرقة وإزالة أكوام الركام من جميع أحياء المدينة وتنظيفها، الأمر الذي سيُسهِم في تسريع عودة الأهالي إلى منازلهم.

ويشرح المحامي إبراهيم الحسن رئيس لجنة إعادة الإعمار في مجلس الرقة، عمل اللجنة، وأنها نقوم حالياً بتأهيل البنية التحتية من شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، ويقول: «عندما يتم الانتهاء من هذه الأحياء الثلاثة سيتم نقل جميع الآليات إلى مركز المدينة لتنظيف الشوارع التي انتهت فيها عمليات إزالة الألغام ليصار إلى عودة المدنيين إليها». وتقوم خطة المجلس المدني على فتح الشوارع الرئيسية وعددها 23 شارعاً، ثم الانتقال إلى المداخل الخارجية وعددها 10، ولقد حددت لجنة الخدامات مكبين لتجميع الركام والأنقاض، مكبّاً في المدخل الشرقي والثاني في الجهة الغربية، وكانت قبل الحرب مخصصة لرمي النفايات والقمامة، وحددت الخطة جدول زمنيي مدته 45 يوماً للانتهاء من فتح الشوارع، بينما أردف إبراهيم الحسن بالقول: «بتصوري الشخصي سنحتاج إلى 3 أشهر كحد أدنى حتى تفتح الشوارع والمداخل الرئيسية ليتمكن الأهالي من العودة إلى منازلهم».

ويعم الدمار مدينة الرقة بالكامل، ما يجعل من الصعب التعرف على معالمها، لكن من الممكن تحديد بعض الأماكن من خلال لافتة تشير إلى عيادة طبيب، أو بقايا قماش وآلات حياكة في متجر.

وتغيب المياه عن الرقة منذ أشهر عدة، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الآبار للاستخدام قبل بدء الهجوم الأخير على المدينة في يونيو الماضي، ويشرح المهندس ياسر الخلف من لجنة المياه، أنّ الورش الفنية قامت بإصلاح المضخة الجنوبية لإعادة المياه إلى قرية الحمرات وحي المشلب، وقال: «حالياً ستعمل شبكة المياه في الأحياء الثلاثة من 5 إلى 6 ساعات يومياً، وخلال الأيام سنستمر في إصلاح الخطوط المكسورة»، منوهاً بوجود كثير من الخطوط المتضررة داخل المدينة.

أما لجنة الأفران والمطاحن التابعة لمجلس المدني قامت بتشغيل ثلاثة أفران آلية: فرن السباهية وفرن حاوي الهوى وفرن المشلب، وتنتج يومياً نحو عشرة آلاف ربطة خبز توزع مجاناً على الأحياء التي عاد إليها سكانها ومخيمات النازحين.

ولفت صبري محمد رئيس لجنة الأفران أنّ هذه الأفران تستهلك نحو 70 طناً من مادة الطحين. وقال: «تم اتخاذ عدة خطوات لتلبية حاجات الأهالي ريثما يتم تأهيل الأفران المركزية في المدينة»، وشدد على أنّ مجلس الرقة يدعم مادة الخبز ويتحمل جميع النفقات المالية، مشيراً: «يتم توزيعها عن طريق مندوبي الحي الذين تم اختيارهم من قبل المجالس المحلية التي تشكلت فور عودة المدنيين».

رعب وذكريات

في ساحة دوار النعيم وسط الرقة، علقت شاشة تلفاز سوداء اللون يقابلها مجموعة من المقاعد في مشهدٍ أشبه بدور السينما. بحسب أهالي المنطقة كانت هذه الشاشة تعرض نوعاً مختلفاً من الأفلام ليس كوميدية أو درامية، بل كانت تعرض مشاهد لقطع الرؤوس وجز الرقاب ومقاطع دعائية خاصة بتنظيم داعش المتطرف.

وعلى مسافة قريبة من الشاشة، يبدو أن التنظيم قد حول غرفة صغيرة إلى نقطة إعلامية، ونقل عدداً من سكان دوار النعيم أنه كان يقف مقاتل من التنظيم في شباك التذاكر ويقوم بتوزيع حافظات الذاكرة (فلاشات) بالمجان، المفاجأة الصادمة أنها كانت تحوي إصدارات التنظيم الأكثر دموية، وبحسب هؤلاء السكان كان كثير من الشبان «الفضوليين» في مقتبل العمر يتوافدون لأخذها والتفرج على محتواها.

ومنذ سيطرته على مدينة الرقة في شهر يناير (كانون الثاني) 2014، بعد معارك عنيفة مع مقاتلي المعارضة الذين كانوا قد استولوا عليها من النظام في شهر مارس (آذار) 2013، عمد تنظيم داعش إلى بثّ الشعور بالرعب من خلال نشر صور وأفلام مروعة، مثل مشاهد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً بشهر فبراير (شباط) 2015، وتعليق رؤوس جثث عشرات الجنود السوريين – أشباه عراة – الذين أُسِروا في مطار الطبقة العسكري في يوليو (تموز) 2014، وتصفية عشرات المواطنين الأجانب من صحافيين وعاملين في منظمات إغاثة.

يروي منصور (45 سنة) وهو من سكان حي النعيم، ويعمل اليوم حارساً في المنطقة، أنه كان شاهداً على بداية سيطرة التنظيم على مسقط رأسه، ليقول: «مشهد الدبابة العسكرية التي دخلت دوار النعيم وقامت باستعراض عسكري لن أنساه مهما حييت، يوم ذاك كنت واقفاً على شرفة منزلي المطل على الساحة، لأشاهد بعدها أبشع جرائم التنظيم من قطع الرؤوس والأيدي والأحكام القاسية التي كان ينفذها».

ويضيف أنّ مسلحي التنظيم أصبحوا أكثر عدوانيةً في تعاملهم مع السكان المحليين، حيث توقفوا في مرحلة ما عن إرسال الجرافات والشاحنات لإزالة حطام المباني المهدمة، وإنقاذ حياة المدنيين المطمورين تحت الركام بحجة القتال، لكنهم كانوا يخشون من قصف الطيران. بيد أنّ الملعب البلدي في الرقة، الذي يقع في مركز المدينة، تحول لأحد أبرز معالم التنظيم رعباً، بعدما اتخذه سجناً لتنفيذ أحكامه وعقوباته المشددة على كل من يعارضه أو مقاتليه الذين كانوا يخالفون قوانينه وتشريعاته.

وافتتح الملعب سنة 2006، وكان مخصصاً لمباريات وتدريبات نادي الشباب في الدوري السوري، وبعد سيطرة «داعش» على الرقة تعددت أسماؤه، إذ كان يسمى بـ«الملعب الأسود»، في إشارة إلى الحقبة السوداء التي مارسها متطرفي التنظيم، كما كان يطلق عليه (النقطة الأمنية رقم 11)، ويرجح عدد من سكان المنطقة إلى وجود 10 نقاط سرية ثانية كانت مخصصة للاحتجاز آنذاك، وبني عناصر التنظيم سجن كبير تحت الملعب، قسموه إلى مهاجع ومنفردات واخترعوا أبشع وسائل التعذيب.

شهادة ناجٍ من قبضة «داعش»

تُعدّ مرحلة الاستقبال داخل سجون «داعش» هي الأسوأ على الإطلاق حسب شهادات ناجي منها، حيث يقف المعتقل معصوب العينين ومكبّل اليدين أياماً قد تصل إلى أسابيع دون ماء أو طعام إلا في أوقات الصلاة.

يروي المحامي فيصل (38 سنة) الذي سُجِن مدة شهرين في الملعب الأسود، صيف عام 2015، أنه تردد في إحدى المرات على مقهى إنترنت لإجراء مكالمة مع قريب له لاجئ في إحدى الدول الأوروبية، سرعان ما دخلت دورية تابعة لـ«جهاز الحسبة»، والأخيرة كانت معروفة بالشرطة المحلية لدى التنظيم، واقتادوه إلى السجن بتهمة التخابر مع جهات معادية للتنظيم.

يقول فيصل: «أساليب التعذيب لدى (داعش) تبدأ بالضرب المبرح دونما شفقة، حتى إنهم كانوا يستخدمون وسيلة (البلنكو) وهي عبارة عن قطعة حديد مخصصة عادةً لحمل محركات السيارات، لكن في السجن كان لها استخدام آخر حيث يرفع السجين من يديه المكبلتين ليفقد توازنه ويبقى في هذه الحالة لساعات حتى يفقد وعيه».

وبعد طرد عناصر تنظيم داعش من مدينة الرقة قبل شهر، تمكن المحامي من دخول سجن الملعب الأسود، ويصف مشاعره المشوشة: «عندما أدخلوني إلى قبو الملعب، غالبتني روائح الموت والصوت الوحيد المسموع كان آهات المعذبين وصراخ السجانين، المحقق آنذاك قال لي: لماذا لا أعلم إن الاتصال الخارجي ممنوع؟! وهذه كانت تهمتي».

وقال ع. ع، وهو قيادي «داعشي» ينحدر من دولة المغرب وكان يشغل أمير الحدود في التنظيم، ومسجون حالياً لدى قوات سوريا الديمقراطية، في حديث سابق مع صحيفة «الشرق الأوسط»، إنّ التنظيم «كان يسجن عناصره الذي يرتكبون المخالفات، أو ممن لا ينفذون أوامر قادتهم العسكريين، أما بالنسبة للإعدامات الميدانية كانت تتم بشكل شبه يومي، كما اشتهر بوسائل التعذيب الشديدة كوضع السجين في أقفاص لأيام أو ربطه من يديه لساعات».

ولا تزال كثير من كتابات التنظيم منتشرة على جدران المنازل والمرافق العامة في الرقة، لتذكير أبنائها بحقبة سوداء قضوها في ظل «خلافتهم الإسلامية» كما زعموا، فكانت العبارات المكتوبة تحاول تعزيز مفهوم «داعش» في نفوس الأطفال والمراهقين عن طريق عبارات تبشرهم بالجنة، وتوهمهم بوعود كاذبة، وتحذر النساء بضرورة التقيد باللباس الشرعي، وتحض الشباب والرجال على «الجهاد» والالتحاق بصفوف التنظيم.

تغيّر معالم الرقة

بدت آثار الدمار وحدها طاغيةً على شوارع وأزقة الرقة التي أصبحت مكسوة بالحطام، إلا أن الجرافات شقّت طريقها وسط تلك الشوارع، في حين لا توجد أي علامات لحياة داخل المدينة، سوى تجول بعض المقاتلين العسكريين من «قوات سوريا الديمقراطية»، وقد كانوا يتناوبون على حراستها، أما الأصوات الوحيدة التي كانت تُسمَع فهي أصوات انفجار العبوات التي تفككها فرق إزالة الألغام.

وباتت الرقة مدينة خاوية على عروشها، لم يتبقَّ منها سوى الأطلال وآثار الدمار، إذ إن الخراب يحيط بها من كل جانب، بدءاً من سور بغداد الذي ظلّ شاهداً على سنوات حكم التنظيم المتشدد مروراً بمتحف الرقة الذي قام عناصر «داعش» بسرقة محتوياته بالكامل دون الاكتراث بالقيمة التاريخية الخاصة بمقتنياته، بالإضافة إلى ساحة الساعة التي باتت مدمرة بالكامل بعدما شهدت أولى الإعدامات الميدانية المريعة من قبل عناصر التنظيم بداية حكمه. أما «سوق الرقة القديم» و«السوق المسقوف» الذي كان يعج بالمحال التجارية وأهم العلامات التجارية الخاصة ببيع العباءات وأطقم الجلسات العربية، فقد دُمِّر تماماً وأصبح ركاماً بعد نهب محتوياته.

ويروي محمود (50 سنة) الذي كان يعمل سائق سيارة أجرة، كيف كانت الرقة سابقاً قبل العام 2011، فعندما كانت تدخل سيارته إلى «السوق القديم» تستغرق رحلته الشاقة ساعة لاجتيازه، أما اليوم يبدوا أن معالم المكان تغّيرت عليه، ولا تشبه مدينته التي كان يعرفها سابقاً.

تمكن محمود بعدها من الدخول وتفقد منزله الكائن في شارع الفردوس بعد حصوله على موافقة من «قوات سوريا الديمقراطية» الذي تمنع قاطنيه من العودة لانتشار الألغام والمفخخات المتفجرة.

وأنهى محمود حديثه بالقول: «طريق (السوق القديم) لم تعد كما كانت في البال، فالمشهد اليوم أشبه بمدينة أشباح، من الصعوبة التعرف على المحال ومعالم المكان الذي كان يضج بالحياة، أما اليوم باتت شاهداً على شدة المعارك داخل أزقة وحواري الرقة».”