سوريا بعد عقد… بلاد تنزف بلا حدود

سوريا بعد عقد… بلاد تنزف بلا حدود

مر عقد على بدء الاحتجاجات السلمية في سوريا، ضمن موجات «الربيع العربي». يختلف السوريون على موعد الذكرى، كما يختلفون حول أمور كثيرة أخرى. وخلال السنوات العشر الماضية، تغيرت أمور كثيرة في الجغرافيا والعسكرة والنسيج الاجتماعي، وفي السياسة. ربما شيء وحيد لم يتغير كثيراً، ألا وهو المعاناة.

يتجادل السوريون حول الكثير من الأمور، وتفرقهم قضايا ومسائل، لكنهم جميعاً يشعرون بأنهم في مأزق، داخل البلاد وخارجها، مع أو ضد، عمل سلمي أو عنفي، في مناطق الحكومة أو خارجها. وبصرف النظر عن اللغة و«الداعم»، فهناك جامع واحد: المعاناة. قد تختلف درجاتها، لكن من الصعب العثور على شخص لم يتأثر بشكل مباشر في السنوات العشر المنصرمة. الاستثناء الوحيد هو فئة، قلة قليلة، استفادت في مكان وخسرت في أمكنة، استفادت في الجغرافيا وخسرت التاريخ، أو كسبت الجغرافيا وخسرت المستقبل.

تطوي سوريا اليوم عشر سنوات وتبدأ سنة جديدة. إنها مناسبة للعودة إلى جذور الأزمة ومراجعة ما حصل بالعقد الأخير مع محاولة لاستشراف السنوات المقبلة.

– كيف بدأت؟

موجات «الربيع العربي»، بدأت شرارتها في نهاية 2010 في تونس وشمال أفريقيا. تأخر وصولها إلى سوريا. بدأت تجمعاتها بوقفات احتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، لدعم الانتفاضات الأخرى، في «تحدٍ حذرٍ» للسلطات المقيمة في البلاد منذ عقود. كانت الهتافات تخاطب تونس وطرابلس والقاهرة، لكنها كانت «تتحدث» مع دمشق. همّ النشطاء كان نقل الشرارة إلى البلاد. ويقول الحقوقي مازن درويش لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، إن السؤال كان: «من هو البوعزيزي السوري؟»، في إشارة إلى البائع التونسي المتجوِّل الذي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، وشكّل ذلك شرارة انتفاضة تونس.

وفي اعتقاده أن الشرارة كانت على جدران مدرسة في درعا جنوب البلاد، كُتب عليها: «أجاك الدور يا دكتور»، في إشارة إلى الرئيس بشار الأسد، ومصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي. واعتقل فُتيان من درعا وتعرضوا للتعذيب؛ ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. خرجوا في درعا، وتظاهر آخرون في سوق الحريقة وسط دمشق في 17 فبراير (شباط). لكن اليوم الذي خرجت فيه المظاهرات في شكل متزامن هو 15 مارس (آذار) 2011، ما اعتبره كثيرون تاريخ «بدء الانتفاضة السورية».

كُسر جدار الخوف، وتحطم الصمت، واتسعت المظاهرات. تصاعدت مطالبها بسبب العنف والدعم الخارجي، من شعارات محلية مطلبية، إلى لافتات سياسة تطالب بـ«إسقاط النظام». وبلغت المظاهرات ذروتها في يوليو (تموز) 2011 بمسيرة ضخمة في حماة، وقف فيها سفراء، بينهم السفير الأميركي روبرت فورد. وتركت زيارته إلى المدينة يومها، انطباعاً بأن حلفاء المظاهرات يؤيدون شعاراتها ويدعمون «إسقاط النظام». وجاء تصريح الرئيس باراك أوباما في أغسطس (آب) 2011 عن «تنحّي الأسد» ليعزز هذا الانطباع الخاطئ.
– كيف تحولت إلى العسكرة؟

تراكمت مجموعة من الأسباب للانتقال إلى العسكرة. بداية، واجهت قوات الحكومة وأجهزة الأمن المظاهرات بالعنف والسلاح و«البراميل» والقصف والحصار واتهامات بـ«مندسين» بالقيام بذلك. وتحدث كثيرون عن إطلاق آلاف المعتقلين من المتطرفين كانوا في سجون السلطات، عدد كبير منهم قاتل الأميركيين في العراق بعد 2003، واستغلوا تجاربهم التنظيمية والقتالية في التوسع في الأرض. وهذا الأمر وضع الغرب بين خيارين: النظام أو «داعش».

في المقابل، تشكلت كتلة «مجموعة أصدقاء سوريا» التي دعمت المعارضة، بدءاً من المنشقين عن الجيش، الذي شكلوا «الجيش السوري الحر». كما كان لافتاً أثر الانقسام بين الدول الداعمة للمعارضة ووجود اتجاهات مختلفة فيها. ودعمت «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) في نهاية 2012 برنامجاً سرياً لدعم المعارضة انطلاقا من الأردن وتركيا.

وخفت صوت المحتجين سلمياً، في وقت ذهب الدعم الخارجي إلى لاعبين آخرين، داعمين في معظمهم للنزاع المسلح. وفي 2012، حذر أوباما الأسد من استعمال الأسلحة الكيماوية، وقال إنها «خط أحمر». ويقول خبراء ومسؤولون غربيون، إنه عندما تجاوز النظام هذا الخط بعد عام، عبر هجوم كيماوي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق في أغسطس 2013، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون.

بالنسبة لكثيرين، كان تلك نقطة فارقة. كانت الفصائل المعارضة قد تمكنت من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري، الذي أضعفته أيضاً الانشقاقات. في المقابل، ساهم التدخل المبكر لإيران وميليشياتها و«حزب الله» في لجم تقدم المعارضة. لكنّ توصل روسيا وأميركا إلى اتفاق بنزع السلاح الكيماوي في سبتمبر (أيلول) 2013 وعدم استعمال القوة، أصاب المعارضين وحلفاءهم بالإحباط. والتطور الأهم هنا هو بدء تمدد تنظيم «داعش» والفصائل المتطرقة في البلاد، بحيث زادت سيطرتها على نصف مساحة سوريا.

– متى ولماذا تدخلت أميركا وروسيا؟

أمام تقدم «داعش» في سوريا والعراق في 2014، شكلت أميركا تحالفاً دولياً للقتال ضد هذا التنظيم، يضم حالياً نحو 80 دولة ومنظمة. وحددت أميركا هدفها بمحاربة «داعش»، وقلّصت دعمها للمعارضة في قتال قوات الحكومة. وفي بداية 2014، تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا. وكان هذا أيضاً منعطفاً؛ إذ إنه بدأ الربط بين أوكرانيا وسوريا. وقتذاك، لم تمارس روسيا أي ضغط على الوفد الحكومي السوري في مفاوضات برعاية أممية لتطبيق «بيان جنيف» الصادر في يونيو (حزيران) والقاضي بتشكيل «هيئة حكم انتقالية».

وإذ واصل حلفاء المعارضة دعمها عسكرياً ومالياً، بحيث تراجعت مناطق الحكومة إلى حدود 15 في المائة في ربيع 2015، بعد خسارة جنوب درعا ومناطق إدلب، وجد الرئيس بوتين فرصة سانحة سارع لاستغلالها، وتمثلت في التدخل العسكري المباشر. هذا التدخل جاء بعد رجاء من قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في صيف 2015 إلى الكرملين، للإسراع في التدخل و«إنقاذ الحليف السوري». والصفقة كانت كالآتي: روسيا في الجو، إيران على الأرض. والهدف: إنقاذ النظام – الحليف دون غوص روسيا في «المستنقع السوري»، كما حصل للاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

التدخل الروسي الحاسم في سبتمبر 2015، غيّر المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو 85 في المائة من مساحة سوريا، تشمل مدناً رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى مشارف دمشق. وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات موالية لطهران، على رأسها «حزب الله»، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية، متبعة سياسة «الأرض المحروقة» لاستعادة المناطق التي خسرتها.

– لماذا توغلت تركيا؟

قال الأسد في فبراير 2016، إن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال «سواءً أكانت لدينا القدرة أو لم تكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول إن هناك جزءاً سنتخلّى عنه».

في نهاية 2016، بدأت الكفة تميل لصالح النظام؛ إذ استعاد الأحياء الشرقية من حلب. وتكرر هذا المشهد بـ«استسلام» مناطق معارضة أخرى جنوب البلاد ووسطها، بموجب اتفاقات تسوية تضمنت إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين إلى محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، حيث يقيم قرابة ثلاثة ملايين نسمة حالياً، نصفهم نازحون تقريباً، في ظروف صعبة، تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً).

لكن هذه الاستعادة للأراضي، أدخلت البلاد في مرحلة جديدة، وهي تأسيس «مناطق النفوذ». وفي مايو (أيار) 2017، أسست روسيا مساراً جديداً مع تركيا وإيران يتمثل بـ«عملية آستانة». وكان الهدف، عسكرياً، التوصل إلى اتفاقات «خفض التصعيد» في درعا وغوطة دمشق وحمص وإدلب. عملياً، أدى هذا إلى مقايضات بين المناطق: مقابل استعادة شرق حلب، دخلت فصائل موالية لتركيا إلى شمال حلب، وشكلت «درع الفرات». ومقابل استعادة الغوطة وحمص، دخلت فصائل موالية لتركيا، في عملية «غصن الزيتون»، إلى عفرين، شمال حلب، في بداية 2018.

وأمام الدعم الأميركي لأكراد سوريا في قتال «داعش» شرق الفرات، خفضت تركيا سقف توقعاتها للعودة إلى المصالح الاستراتيجية، وهي منع كيان كردي على حدودها الجنوبية. فـ«درع الفرات» قطعت الطريق أمام تواصل كيان كردي من شرق الفرات إلى غربه، و«غصن الزيتون» قطع أوصال إقليم كردي محتمل. وتكرر هذا المشهد أيضاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، عندما تدخلت تركيا شرق الفرات وقلصت مساحة مناطق كانت تسيطر عليها «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من أميركا.

إضافة إلى التوغل التركي ضد الأكراد، اتسع القلق الإقليمي من النفوذ الإيراني في سوريا. وبدأت إسرائيل بشن غارات على «مواقع إيران» لمنع تموضعها في سوريا، كما أن أميركا وروسيا والأردن توصلت في منتصف 2018 إلى «صفقة الجنوب» التي تضمنت إبعاد إيران وميليشياتها عن الجولان والأردن، وعودة قوات الحكومة السورية إلى ريفي درعا والقنيطرة.

– كيف تأسست «مناطق النفوذ»؟

استقرت المعارك والمقايضات على ثلاث مناطق: منطقة للحكومة بدعم روسي – إيراني، وتشكل نحو 65 في المائة من سوريا، وتضم معظم المدن والناس، ومنطقة للأكراد بدعم أميركي وتشكل 23 في المائة من البلاد، وتضم معظم ثروات البلاد الاستراتيجية، وأخيراً منطقة لفصائل للمعارضة تدعمها تركيا وتسيطر على ما تبقى من البلاد، وهي تتاخم القاعدتين الروسيتين في طرطوس واللاذقية غرب البلاد، وقاعدة للنظام السوري.

وبعد جولة معارك في بداية العام الماضي، توصل الرئيسان بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان إلى هدنة في إدلب، في 5 مارس 2020، واستغل الجيش التركي ذلك ونشر نحو 15 ألف جندي وآلاف الآليات وعشرات النقاط والقواعد العسكرية في شمال غربي سوريا.

لأول مرة منذ 2011، لم تتحرك خطوط التماس لأكثر من سنة، أي منذ بداية مارس 2020. ويبدو احتمال شنّ قوات الحكومة هجوماً، لطالما هدّدت به، مستبعداً في الوقت الحاضر. ويقول محللون، إنّ من شأن أي هجوم جديد أن يضع القوتين العسكريتين، أي روسيا وتركيا، في صدام مباشر، في وقت تقوم بينهما علاقات استراتيجية أوسع من إدلب.

وفي هذه «المناطق الثلاث»، هناك الكثير من المقاتلين والقواعد العسكرية ومئات نقاط المراقبة تحت مظلتين جويتين أميركية شرقاً وروسية غرباً، بحث جاز القول بوجود خمسة جيوش في البقعة السورية، وهي الأميركي، والروسي، والإيراني، والتركي، والإسرائيلي.

أيضاً، تقاسمت هذه الأطراف السيطرة على الحدود والمعابر. وقال الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش، إنّ القوات الحكومية «تسيطر على 15 في المائة فقط من حدود سوريا». ويستنتج أن «الحدود هي رمز السيادة بامتياز، وبطاقة أداء النظام لا تزال فارغة تقريباً على تلك الجبهة». وتسيطر القوات التركية والأميركية والكردية والمجموعات المدعومة من طهران، بحكم الأمر الواقع، على ما تبقى من الحدود.

-الى أين؟

عليه، باتت البلاد بشكل غير رسمي مقسمة رسمياً إلى مناطق نفوذ متعددة، وتسيطر قوى متناحرة بشكل أحادي على معظم حدودها. وما على السوريين، الذين تتعمق جروحهم وتتفاقم معاناتهم إلا انتظار الفرج القادم من الآخرين وتفاهماتهم وصفقاتهم. وصدق قول أحدهم في دمشق «انتهت الحرب، بمعنى توقف القتال والمعارك، لكن جراحنا ما زالت تنزف».

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

لم تكن فاطمة كردي ابنة الأحد عشر ربيعاً تعلم أن هناك على الجانب الآخر من وطنها، أطفالاً يواصلون دراستهم في غرف صفية نظيفة، ويتمتعون بالدفء، دون أن يتسلل البرد إلى عظامهم، ويحظون برعاية أسرهم ومجتمعاتهم، فهي لم  تدرك، حتى الآن ماذا يعني أنها تركت المدرسة في سن صغيرة وهي التي ولدت قبل عام واحد من عمر أزمتنا السورية. تحدثنا معها، وكانت أجوبتها بسيطة وعفوية، فتكلمت عن القصف المتواصل الذي طال مناطقها، وأن صوت الطائرة، بات جزءاً أصيلاً  ضمن مخيلتها، لا يحمل معه غير صفة الدمار والتشرد. وتسرد فاطمة ذكرياتها بحرقة وألم طفولي، وكيف نزحت مع أسرتها لأكثر من مكان، حتى استقرت  في أحد مخيمات أريحا شمال سوريا، وتؤكد بكلماتها المتناثرة بأن توقفها عن الدراسة في الصف الثالث الابتدائي (كما أخوتها الثلاثة الآخرين) لم يكن بإرادتها، بل بسبب الظروف القاسية التي أحاطت بها، فاضطرت مع أخوتها بأن تلتحق بسوق العمل في سن مبكرة، لتساعد  والدها. فعملت عند أصحاب الأراضي الزراعية في المنطقة التي تقطن بها، ورغم ابتعادها عن جو الدراسة، ما يزال لدى فاطمة حلم بامتلاك حقيبة مدرسية ودفتر وألوان، لكي تواصل دراستها كأقرانها ممن هم بعمرها. لكن يبدو أن الكارثة التي ألمت بسوريا، صنعت أطفالاً مشردين مسلوبي الحقوق والإرادة ، يعانون مرارة الحرمان والقهر.

إن الأرقام التي ترشح عن منظمات دولية وإقليمية ومحلية، لظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس أو التلاميذ غير الملتحقين بالمدرسة أساساً، تدعو للقلق، وتعطي صورة قاتمة لمستقبل هذه الشريحة الهامة ضمن المجتمع السوري. ووفق إحصائية صدرت عن منظمة اليونسف لعام 2019 تخص الجانب التعليمي للأطفال من هم في سن التعليم، فقد قدرت المنظمة الدولية  عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدرسة بأكثر من 2.4 مليون طفل، منهم 40 في المائة تقريباً من الفتيات، وهذه الأرقام لم تبق على حالها، بل ارتفعت، نتيجة تأثير جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم تعطّل التعليم في سوريا، بينما تغيب عن الأطفال القادرين على الالتحاق بالمدارس، المرافق الرئيسية، كانعدام شبكات الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة والتهوية. كما لا يقتصر التعليم على المدارس المنشأة، بل ظاهرة التعليم في الخيام باتت منتشرة بكثرة في مناطق المخيمات بعد الدمار الهائل الذي لحق بالمنشآت المدرسية، نتيجة الحرب السورية الدائرة منذ أكثر من عشرة أعوام.

وفي تحقيقنا الاستقصائي ستتمحور عينة البحث على منطقة الشمال الغربي السوري (إدلب وريفها) وتسليط الضوء على واقع ظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس في هذه المناطق، بعيداً عن المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري التابعة إداريا لمحافظة إدلب، حيث تعيش منطقة الشمال الغربي السوري ظروفاً صعبة من حيث غياب الناحية الأمنية والوضع المعيشي الصعب، الذي يعتبر  ضاغطاً على الكثير من الأسر التي عمدت على الامتناع عن إرسال أبنائها إلى المدارس وتشغيلهم في العديد من المهن وأبرزها العمل في الأرض، ما أدى إلى تعميق ظاهرة العمالة المبكرة للأطفال. وأيضاً لا ننسى أن مشكلة الزواج المبكر للفتيات من الأسباب الرئيسية للتسرب المدرسي، إلا أن جوهر المشكلة في هذه الظاهرة يبقى في الوضع الأمني والعمليات العسكرية الواقعة ضمن هذا القطاع الجغرافي، واستمرار القصف من قبل النظام السوري والقوات الروسية، ما أدى إلى تخوّف الكثير من الأهالي وامتناعهم عن إرسال أبنائهم للمدارس، علاوة على الظروف المناخية السيئة في فصل الشتاء والتي فرضت أيضاً إيقاعها على مشكلة التسرب.

النطاق الجغرافي للتحقيق

تعمل مديرية تربية إدلب (غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري) على مساحة جغرافية تتضمن مركز المحافظة وريفها إضافة إلى بعض المناطق في ريف حلب الشمالي ويوجد عدة تجمعات ونقاط تعليمية حيث المناطق التي تغطيها تعليميا المديرية هي مجمّعات: حارم، جسر الشغور، الدانه، المخيمات بأكملها، أريحا، إدلب، ومجمع معرة مصرين. وتكمن أهمية معالجة قضية التسرب المدرسي للتلاميذ السوريين وخاصة في (إدلب وريفها) في أنها تسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية خطيرة، ناتجة عن فقدان التعليم لشريحة اجتماعية هامة داخل المجتمع السوري وهي واحدة من أخطر الكوارث، لأن انهيار التعليم وغياب الحلول الاستراتيجية للقطاع التعليمي، لتدارك هذه الكارثة التي تشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة، سيضع مصير جيل كامل في المجهول.

تساؤلات مشروعة

إن أي معالجة لظاهرة داخل المجتمع، لا بد أن يسبقها مجموعة من التساؤلات قبل الخوض في تفاصيلها وتشعباتها من أجل تقديم إجابات معمقة لفهم المشكلة المطروحة:

  • ما الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة تسرب تلاميذ المدارس؟
  • هل الظاهرة تقتصر على مناطق إدلب وريفها الخارجة عن سيطرة النظام السوري، أم تمتد على كامل الجغرافية السورية؟
  • ما الآثار التي يمكن أن يتركها غياب التعليم عن شريحة كبيرة من أطفال سوريا؟
  • أين دور المنظمات الدولية والمحلية في توفير الدعم لشريحة هامة من المجتمع السوري؟
  • هل توجد استراتيجية تعليمية شاملة، لإعادة تأهيل الطلاب الذين فاتهم قطار التعليم، سواء التعليم التقليدي أو التعليم المهني الفني ؟
  • متى يتحرك المجتمع الدولي، ويعي حجم الكارثة التي يعيشها أطفال سوريا في ظل مستقبل غير واضح المعالم؟

أرقام مُحبطة

قبل عام وفي شهرشباط\فبراير من العام 2020 أقرت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور أمام مجلس الأمن في حديثها عن وضع الأطفال في سوريا أن الحرب السورية سلبت فرصة التعليم بوحشية بالنسبة لـ 280 ألف طفل في الشمال الغربي السوري، وهناك حوالي 180 مدرسة لا تصلح للعمل نتيجة تدميرها أو تعرضها للضرر أو استخدامها كملاجئ. بالمقابل فإن الأرقام المحبطة التي أرسلها لنا فريق (منسقو استجابة سوريا) عن الواقع التعليمي في المناطق التي تشمل محافظة إدلب وريفها، وهي حديثة وصادرة خلال العام الجاري 2021 توضح حجم كارثة قطاع التعليم في هذه المناطق، حيث تتضمن الإحصائيات بحسب فريق منسقي استجابة سوريا مجموعة من النقاط حول عدد التلاميذ والمدارس والكادر التعليمي كما تبين الوثيقة أدناه.

وثيقة من “منسقو استجابة سوريا” توضح وضع التعليم في محافظة إدلب وريفها

ويقول الدكتور المهندس محمد حلاج مدير (منسقو استجابة سوريا) : “إن التعليم في ادلب بشكل عام يعاني من مشاكل كثيرة، حيث لا يوجد استقرار بشكل كامل فيما يتعلق بالتلاميذ ولدينا نقص كبير بوجود الكوادر التعليمية، علاوة على الدمار الكبير للمدارس حيث الكثير منها متضرر جزئياً، وهذا كان له أثر سلبي على ارتياد التلاميذ  للمدارس. وبالنسبة للمخيمات فإن الوضع التعليمي أشد سوءاً ويكون مرتبطاً بالكوارث الطبيعية التي تحدث بالمخيمات نتيجة انقطاع الطرقات أثناء الأمطار. كما أن المخيمات لا يوجد فيها مدارس كافية، مما يساهم في كثافة أعداد الطلبة ضمن الغرفة الصفية الواحدة.”

216 ألف تلميذ متسرب

الأرقام التي حصلنا عليها من مديرية التربية في محافظة إدلب -التابعة للحكومة السورية المؤقتة- لعدد التلاميذ المتسربين في المناطق الجغرافية التي تغطيها التربية قد تكون مختلفة قليلاً مقارنة مع الأرقام السابقة التي تم استعراضها من قبل منسقو استجابة سوريا”، ويمكن تبرير ذلك أنه لا يوجد مركز إحصائي متخصص في سبر الأرقام الحقيقية، كما أن المعطيات المتغيرة على الأرض في تلك المناطق وعدم الاستقرار نتيجة الظروف الأمنية المضطربة، لا تساعد في الوصول إلى رقم دقيق.

وفي حديث مع الأستاذ محمود الباشا رئيس دائرة التعليم الأساسي في مديرية التربية بإدلب أوضح أن عدد الأطفال المتسربين في المنطقة التي تشرف عليها مديرية التربية في إدلب حسب إحصائية العام الحالي 2021 يبلغ حوالي 216 ألف طفل متسرب. طبعاً هؤلاء الأطفال مسجلون في المدارس لكنهم انقطعوا عن الدوام، بينما الأطفال غير المسجلين في النفوس أو المدارس، فأعدادهم قد يتجاوز الأعداد المعلن عنها بالأساس. بينما الصعوبات التي تواجه الطلاب في هذه المنطقة هو النقص في عدد المدارس والتجهيزات، مما يسبب ضغطاً كبيراً  على المدارس في منطقة المخيمات والدانة، ويوجد في الفصل الدراسي الواحد أكثر من 50 طالباً.

 ويرجع الباشا أسباب التسرب لمجموعة من الأسباب أبرزها أن أهالي الأطفال يقومون بتشغيل أبنائهم بورشات للعمل من أجل مساعدتهم، كما أن الأطفال الذي يعيشون ضمن الخيم المتفرقة وهي بعيدة عن التجمعات ولا يمكن الوصول إليهم بسبب وعورة المنطقة، ولا تساعدهم على إيصال التعليم لهم، فمن المستحيل تفريغ معلم لتدريس طفل أو طفلين في هذه الخيم، فمديرية التربية تعمل على كل تجمع يوجد فيه حوالي 60 تلميذاً، ويوضع له خيمة تعليمية حيث تكفل منظمة إغاثية هذه الخيمة، الذي يدرس فيها مدرس اسمه معلم قائد أو جوال وممكن أن توفر المديرية مدرسة من الخيام إذا كان عدد التلاميذ يفوق 100 تلميذ وتكفلها منظمة تطوعية.  والمنهاج الذي تدرسه مديرية التربية الحرة يتوافق مع منهاج السوريين، مع اختلاف طفيف في بعض المواد المتعلقة بالتربية القومية، وتتكفل طباعة الكتب مؤسسة  قطر الخيرية.

المزيد من القصص الإنسانية المؤلمة

قصة عائلة عليوي من  معرة مصرين تشبه الكثير من قصص حرمان الأطفال من التعليم،   فهذه العائلة التي لديها ثمانية أطفال خارج المدرسة، وبأعمار تبدأ من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، تخبرنا عنهم أم عبادة عليوي التي تقطن مع أبيها ووالدتها في إحدى المدارس في ظل الظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها العائلة أسوة بالكثير من العائلات في المنطقة، الأمر الذي ساهم في عدم ارتياد أولاد أخيها الخمسة  للمدرسة، والانتقال للعمل مع والدهم، كما أن  أختها التي لديها ثلاثة أولاد ليسوا أحسن حالاً من أولاد أخيها، فجميعهم  لم يتم تسجيلهم بالمدرسة، ويعيشون على  المساعدات التي تأتيهم من المنظمات الدولية أو ما يتبرع به أصحاب الخير.

بينما أبو إبراهيم بكري من منطقة جسر الشغور لديه ولدان خارج المدرسة، فيبرر عدم ارتياد أولاده للمدرسة بمجموعة أسباب وأولها الوضع المعاشي الصعب، مما يضطره لأخذهم للعمل في الحقل، كما أن المسافة ما بين منزله والمدرسة تتجاوز 600 متر، وفي فصل الشتاء يكون قطع هذه المسافة صعباً، وكثيراً ما يعلق الدوام في مـدارس المخيمات، فهذه الأسباب يعتبرها غير مشجعة لإرسال أبنائه إلى المدرسة.

هجرة المدرسين

إن هذه الحالات التي تم استعراضها ليست سوى غيض من فيض، فنسبة  التسرب المدرسي، في الشمال السوري عالية جداً، ويقول المدرس السابق محمد الحسين الذي ترك مهنة التدريس منذ أكثر من عام وكان يدرس ضمن مديرية التربية والتعليم في إدلب: “إن نسبة تسرب الطلاب في محافظة إدلب وريفها والمناطق المجاورة تتجاوز 35%، أي ما يزيد عن 240  ألف طالب خارج العملية التعليمية، علماً أن عدد طلاب محافظة إدلب بلغ العام الماضي بحدود 414 ألف طالب من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية.” أما عن أسباب التسرب فيرجعها الحسين إلى أسباب عديدة وأبرزها الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وخاصة عمليات القصف والتدمير التي طالت المدارس والمنشآت التعليمية المختلفة في المناطق الشمالية. كما أن المدارس المدمرة رافقها عدم استقرار في العملية التعليمية وخوف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس إضافة إلى قلة الكوادر التعليمية المؤهلة بسبب الهجرة والتشرد وعدم وجود الدعم المادي لهم وهذا عامل رئيسي. كما أن الكثير من المدرسين فصلوا من عملهم، وظلوا بدون رواتب لعدم دعمهم من المنظمات التعليمية، حيث اضطروا للذهاب إلى أعمال حرة من أجل تأمين لقمة العيش لأسرهم.

تهديد استقرار المنطقة

وفي هذه النقطة  يؤكد الدكتور فايز نايف القنطار أستاذ سابق في جامعة دمشق في كلية التربية  أن أول ضحايا هذه الحرب الإجرامية المستمرة هم الأطفال. ويتساءل القنطار كيف يمكن أن يعيش في القرن 21 هذا الجيل الذي حرم من التعليم وهو أبسط حقوق الطفل وهذا الخطر لا يشمل سوريا فقط بل يهدد أمن واستقرار المنطقة. ويحذر أن هؤلاء الأطفال المتسربين يمكن أن يصبحوا مرتعاً خصباً للتطرف والاستقطاب من قبل المنظمات الإرهابية؛ فالطفل الذي يترك المدرسة سيكون عرضة للاستغلال، وعرضة للعمل المبكر وعرضة لكل أشكال الإذلال والاهانة وسيكون الطفل مضّطرباً وغير متوازن ويعيش مهمشاً.

غرف صفية بدون أسقف

بينت نتائج تقرير أعدته وحدة إدارة المعلومات IMU (في وحدة تنسيق الدعم ACU) خلال عام 2019  لتقييم التعليم المشترك الخاص بالأطفال خارج المدرسة JENA في شمال غرب سوريا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أن 66% (1.130.299 طفلاً) من الأطفال في شمال غرب سوريا ملتحقون بالمدارس؛ فيما كان 34% (582.239 طفلاً) منهم خارج المدرسة (متسربون من المدارس). كما رصد التقرير ظروف المخيمات الصعبة حيث تنقطع الطرقات في فصل الشـتاء في فتـرات هطـول الأمطار ممـا يجعـل وصول الطلاب إلى المدارس صعبـاً. وتشـير المعلومات أن ضمن مـدارس مخيمات الشـمال السـوري غـرف اسـمنتية مسـقوفة بلـوح توتيـاء (صفائح معدنيـة)؛ كما تواجدت مدارس مكونة من غرف اسـمنتية بدون أسـقف ويتم تغطيتهـا بعوازل مطريـة فقط؛ إذاً من خلال ما تقدم في معطيات التقرير، نجد أن البنية التحتية للمدارس في مناطق الشمال الغربي السوري لا تحقق المعايير الحقيقية في توفير بيئة تعليمية مناسبة للدراسة.

جيل في مهب المجهول

وبما أن البيئة التعليمية غير متوفرة في تلك المناطق، فإن للتسرب المدرسي آثاراً سلبية نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة على المجتمع. وتفشي هذه الظاهرة في سوريا، يثير قلق منظمات المجتمع الدولي، لما سوف تتركه من آثار كارثية ليس على المتسرب فقط بل على المجتمع ككل. فالتسرب يزيد من معدل البطالة وانتشار الجهل والفقر وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لذلك يرى الدكتور طلال عبد المعطي المصطفى أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً والباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة خلال حديثنا معه بأن كارثة التعليم هي واحدة من أخطر الكوارث التي ضربت المجتمع السوري، فانهيار التعليم الكمي والنوعي، وانخفاض عدد الكادر التدريسي المؤهل، وانعدام حوافز العملية التعليمية وضبابية أهدافها، بالإضافة إلى فقدان التمدرس الذي يشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة حاليا، سيضع مصير جيل كامل في مهب المجهول، ويضع مصير وطن ممزق أمام المزيد من الأزمات والانقسامات المقبلة.

 ويصف المصطفى كارثة التعليم بالكارثة المزدوجة بمساريها الفردي والمجتمعي، وهي من الكوارث التي تترك آثاراً مديدة وتمتد إلى أجيال لاحقة لما يترتب عنها من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المديين القصير والمتوسط، وربما على المدى الطويل أيضاً، لذلك  فردم الفجوة الحاصلة في التعليم هي من أولى المهمات لإعادة البناء البشري والمادي، وهي الاستثمار الحقيقي الأمثل القادر على ردم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق قاعدة صلبة يمكنها المساهمة الفعالة في عملية التعافي وإعادة البناء، وقهر العجز للوصول إلى حالة التنمية المستدامة.

تحديات

نحن أمام قضية خطيرة، قضية الأطفال المتسربين وجيل تم تجهيله بأكمله، وعلى ما يبدو أن هذا الأمر مقصود ومسيس بعد مرور10  أعوام على الأزمة السورية، فالأطفال الذين عاشوا الحرب بتفاصيلها وتركوا التعليم سيكونون لاحقاً عرضة للانحراف في ظل الفوضى الموجودة والسلاح المنفلت. ومن المؤكد أن الآثار التي ستنتج عن شريحة الأطفال غير المتعلمين ستكون كارثية وخطيرة وسيشكلون عالة على المجتمع في حالة عدم حصولهم على إعادة التأهيل والتدريب لهذه الفئة المتسربة من المدارس في مرحلة معينة وبالتحديد في مرحلة استمرار الحرب وتعطيل الحل السياسي، لذلك هذه الشريحة المغيبة إذا استمر الوضع على حاله سيرسخ لديها الميل إلى العدوانية والعنف الزائد، في ظل فقدان كامل للرعاية الأسرية اللازمة في هذا السن المبكر، أضف إلى غياب دور المنظمات الدولية، وعدم  تخصيص شبكة ضمان اجتماعي خاصة بالأسر للحد من استغلال أطفالهم لغرض الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم وشخصيتهم. أما في حال حصول الحل السياسي وبالتالي السلام، فمن المفترض أن يكون هناك إعادة بناء في سورية على كافة الصعد ومنها الصعيد التعليمي والتأهيلي، وبهذه الحالة وبحكم العمر المتقدم لهؤلاء المتسربين من الضروري أن يخضعوا لدورات تعليمية مكثفة للكبار وتأهيل مهني حتى لا يكونوا ضمن الفئة المهمشة في المجتمع.

سوريون في بلاد “المسبار”: بين الأمل والألم

سوريون في بلاد “المسبار”: بين الأمل والألم

لم يكن حدث وصول المسبار الإماراتي إلى المريخ حدثاً عادياً في تاريخ دولة الإمارات، ولم يكن هذا الحدث بطبيعة الحال ليمرُّ على الشارع العربي دون أن يشهد مداً وجزراً وآراء متباينة تصل حد العراك الالكتروني أحياناً. الأمر ليس غريباً، فالمشهدية ذاتها تتكرر مراراً تحت مسميات مختلفة، ذلك أنّ الشارع ذاته منقسم على نفسه لدرجة بات قادراً معها على تسخيف أي إنجاز، إذا ما استثنينا أنّ “الشيف بوراك” تمكن من لمّ الصف خلفه. أما فيما يتعلق بالدين والعرق والسياسة والجنس والتكنولوجيا وسواهم فتخضع هذه المواضيع لأخذ ورد ينتهي غالباً بالتكفير والتهديد بإراقة الدماء، ولا يحتاج الكثيرون إلى ذرائع منطقية، فالفتاوى جاهزة وفضفاضة على قاعدة أنّ المقصلة تتسع لجميع الرؤوس.

بالطبع حضرت سوريا على ساحة الرأي حول هذا الحدث، لينقسم الشارع هذه المرة إلى قسمين، قسم بارك لدولة الإمارات وقياداتها وقدم أخلص الأمنيات بدوام تفوقها؛ وقسمٌ راح يسخف الإنجاز ويتندر حوله متذرعاً أنّ كل ما في الإنجاز هو أجنبي باستثناء أرض إطلاق المسبار فكانت عربية. ولم يستطع البعض ممن أبدى رأيه ألّا يغلب السياسة على الحدث، وهنا كان انقسامٌ آخر، فسوريون مدحوا الإنجاز لمجرد مدح دولة افتتحت سفارتها في عاصمتهم وأعادت تمثيلها القنصلي كأول دولة خليجية تكسر العزلة الدبلوماسية حيال دمشق، وقسمٌ آخر رفض الإنجاز على قاعدة أنّ الإمارات عينها كانت ركيزةً سابقة في الحلف الخليجي ضد دمشق، وبين الاثنين برز رأيٌّ آخر تبنته بعض المعارضة على قاعدة أنّ انفتاح الإمارات نحو دمشق يمثل طعنةً لهم.

إذن، لم يستطع السوري بعد هذه السنوات أن يقول رأياً يتبناه بالقناعة المجردة والخالية من العواطف، إذ نجح مرةً جديدة في خلق صراعٍ دون مبرر أو جدوى، فلا هذه الآراء أغنت الإمارات، ولا أنقصت من شأن إنجازها، بيد أنّه اتضح بالدلائل المتتالية أنّ الشارع السوري يبحث عن الخلاف ولو اضطر لخلقه من تحت أظفاره.

الجميع يريد الإمارات

في الظل وخلف الكواليس وفي العلن أيضاً يسعى كثيرون، الفئة الشابة بالعموم، للحصول على فيزا تخولهم الذهاب إلى الإمارات، وغالباً رحيلٌ بلا عودة، نيةٌ تقرأها بين سطور الناس وتدويناتهم، تحديداً أولئك الذين حولوا الحدث إلى كوميديا سوداء، كوميديا من النوع الذي يقارن بين امتلاك الإمارات لإنجاز المسبار، وامتلاك السوريين لإنجاز البطاقة الذكية والطوابير الممتدة والقهر المقيم في يومياتهم.

المقاربة غير عادلة، فتفاوت الفرق الحضاري عززته عشر سنوات من الحرب في سوريا، الحرب التي دمرت أحياء وقرى، وقضت على الواقع الاقتصادي، ومزقت الأسر، وأنجبت الفقر، وكرست السواد، وفعلت ما فعلته في النفوس، قياساً ببلد استند على حاضره ليحجز دوره كخامس دولة حول العالم تصل إلى المريخ، وحقيقةً هي وصلت إلى المريخ بغض النظرعن أنّ عمرها عشرات السنين وعمر دمشق آلاف السنين، هذا تندرٌ آخر نشره سوريون على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.

الهالة الكبرى

يتخيل كل سوري يسعى للسفر إلى الإمارات بأنّ فرصاً من ذهب تنتظره هناك، وهذا ما حصل مع لمياء منصورة (سورية مقيمة في الإمارات)، حيث تخبرنا أنها قصدت دبي طمعاً بفرصة عمل ذات دخل مرتفع تقلب الموازين في حياتها قياساً بأي مفصل من مفاصل بلدها الأم، وعن تجربتها تقول: “سافرت إلى دبي بحثاً عن مستقبل أفضل، مستقبل مضمون، ولكنني اصطدمت بآلية التدرج الوظيفي المرهقة، لم يكن هذا ما اعتقدت، كان علي أن اجتهد أكثر مما تخيلت، وأن اكتسب خبرة كبيرة”.

عملت لمياء في وظيفة بشركة مقاولات، ولكنها بدأت تكتشف شيئاً فشيئاً أن الحلم الذي رسمته بدأ يخبو بريقه: “لكي أتدرج وأصل إلى مناصب عليا لا يجب أن أكون سوريّة، السوري لم يعد ورقة جوكر في الإمارات، لتحصل على مناصب كبيرة في شركات مهمة يجب عليك أن تكون من حملة الجنسية الأمريكية أو الأوروبية، الوضع تغير عما كان عليه قبل حربنا”.

لا يبدو الأمر أفضل عند فاتح (اسم مستعار – سوري مقيم في الإمارات) حيث يشارك: “لا أريد الحديث عن أي شيء يتعلق بمجيئي إلى الإمارات، لست مرتاحاً، لا أريد أن أتحدث عن الأمر، ولكن باختصار، ذهلت بالعمران والحياة وخذلت في كل ما عدا ذلك”.

البلد الذهبي

أما عبير العلي (سورية مقيمة في الإمارات) فقد سحرها الجو الإماراتي، وتعبر عن ذلك بندمها عن كل لحظة لم تقصد فيها دبي. تُلخص عبير وجودها الذي لم يمض عليه سوى عامٌ واحد بأنّ ما تراه هناك لا يصدق: “تشعر أنك إنسان، وبأنك للتو انتقلت إلى كوكب جديد، هنا تنبهر تماماً، كل شيء مختلف، النظافة، القانون، التنظيم، النظام العام، كل شخص معني بنفسه فقط”.

سرعان ما وجدت عبير فرصة عمل في متجر معروف للألبسة وبراتب عالٍ وتقول بتفاؤل: “أنت وصاحب العمل واحد، حقيقة أنت والجميع واحد، لا تمييز ولا تفرقة، الكل هنا إنسان له الحق بالحياة، هنا أنت حر من كل القيود والمشاكل والصراعات، هذا البلد يحتوينا ويحتوي غيرنا، والهدف يكمن في كله بالعمل لأجل الحياة”.

سفرٌ لدفع البدل

سوريون آخرون سافروا إلى الإمارات لأهداف أخرى بينها قضاء مدة تخولهم دفع بدل الخدمة العسكرية وفق ما تم إقراره من قانون الخدمة الإلزامية، هكذا فعل أحمد بركة (سوري مقيم في الإمارات)، حيث يقول:”جئت إلى الإمارات ووجدتُ عملاً بدخل جيد وكل ذلك بهدف جني مبلغ من المال لأدفع بدل خدمة العسكرية الإلزامية”. وحول سفره يقول: “قدمت أوراقي في أحد مكاتب السفر المعتمدة في سوريا، ثم سافرت إلى الإمارات، في الفترة الأولى تعذبتُ كثيراً حتى تعرفت على الجو واعتدت البلد، وعملت في معمل للشوكولا بينما كنت قد سجلت دورات لتقوية لغتي الإنكليزية، اللغة الأجنبية مطلوبة هنا في كل شيء تقريباً. الآن أعمل في فندق، وأعتقد أنني بعد دفعي للبدل، سأظلّ هنا في الإمارات، المستقبل هنا أفضل وأكثر إشراقاً”.

فقدان الكرامة والمستقبل المأمول

تروي سما إبراهيم (سورية مقيمة في الإمارات منذ أشهر) تجربتها بكثير من المرارة؛ فتفكيرها لا يزال متعلقاً ببلدها الأم، ولكنها رغم ذلك لا تفوت فرصة للمقارنة بين البلدين. وتعتبر سما أنّ سوريا قد استنزفت طاقتها وتفكيرها وحتى مستقبلها: “لم أكن أنوي بأي شكل أن أترك البلد، حتى أني كنت أحقد على من يفكر بهذه الطريقة، ولكنني أصبت بخيبة أمل، وصلنا لمرحلة كدنا نشحذ، ننام على أسعار ونستيقظ على أخرى، مقومات الحياة باتت معدومة، ويمكن القول حرفياً أنني ما عدت أحس بكرامتي”.

تقول سما أنها غادرت حين أحست بالعجز، وضياع المستقبل، وأنّ مصير شباب البلد يتجه نحو المجهول: “بإمكاني أن استخدم كل الكلمات القاسية لوصف مشاعري، من الغضب واليأس والقهر لاضطراري أن أترك بلدي، وثم أجد أنّ كل ما ينقصني هو هنا”.

تؤكد سما أنّ فرص العمل في الإمارات باتت قليلة جداً، سيما مع وجود نظام للترحيل في ظل الظروف القائمة، إذ يتوجب على الشخص إثبات نفسه والارتباط بعقد عمل واضح وصريح، وعن طريقة سفرها، وتقول: “العامل الذي ساعدني كثيراً هو أنني فتاة، لأنّ حصول الفتيات على فيزا أسهل من حصول الشبان عليها بكثير، عانيت في البداية من الغلاء في كل شيء هنا، ولكنني بدأت أتأقلم”.

ويبقى المشترك بين سوري سافر إلى الإمارات، وآخر ينتظر فرصةً للسفر، وثالثٍ متمسك بالبقاء، إيمانهم بأنّ سوريا ما عادت تشبه نفسها، وبأنّ حرب الاقتصاد والجوع أقسى من حرب العسكر والسلاح، وبين الحربين بلادٌ ممزقة ومصير مجهول يعصف بها وبحياة أولادها.

الفقر يدفع النساء لبيع شعرهن في سوريا

الفقر يدفع النساء لبيع شعرهن في سوريا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا”المعاناة اليومية في سوريا

تعد السنة الأخيرة من أسوأ الأعوام اقتصادياً التي مرت على سوريا خلال سنوات الحرب مما زاد من تأزم الوضع المعيشي لمعظم الأسر، ووصول نسبة الفقر إلى 90 في المائة مع انعدام فرص تحسين دخل الأسرة والارتفاع الفاحش في الأسعار. أدى هذا الوضع إلى لجوء الكثير من النساء إلى بيع  شعرهن أو  شعر بناتهن بسبب الحاجة المادية لتغطية نفقات الاحتياجات الأساسية من توفير المازوت للتدفئة أو مستلزمات المدارس أو بسبب الحاجة لتأمين دواء وعلاج أو حتى لتوفير الطعام.

فاطمة أم  لثلاث فتيات، واحدة منهن من ذوي الاحتياجات الخاصة وتحتاج إلى علاج ودواء بشكل مستمر؛ أجبرتها الظروف الاقتصادية السيئة إلى بيع شعر ابنتها البالغة من العمر 10 سنوات. وتقول السيدة الثلاثينية: “اضطررت لقصه وبيعه لأحضر الطعام والدواء لها ولأخواتها، وبسبب اضطراري للمال قبلت بيعه بثمن بخس رغم أنه كثيف وطبيعي منسدل لأسفل ظهرها، في البداية لم تقبل المسؤولة في مركز الحلاقة والتجميل شراءه بسبب العروض الكثيرة التي تأتيها من قبل النساء لبيع شعرهن، وعندما رأته وافقت على شرائه ولكن بمبلغ زهيد.” وتضيف بحرقة: “لو كان في حقيبتي ثمن ربطة خبز لما قمت ببيعه حينها.”

قبل عامين كانت تجارة الشعر الطبيعي في سوريا تقتصر على البيع والشراء في صالونات الحلاقة والتجميل وبشكل محدود. أما في الفترة الأخيرة مع  تزايد عروض بيع الشعر بشكل كبير، أصبح هناك من يعمل في بيع وشراء الشعر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حسب “هادي” الذي يملك صالون للحلاقة النسائية في المزة والذي أضاف: “خلال السنة الأخيرة زاد بيع الشعر بشكل كبير، سابقاً كان يعرض علي شراء الشعر قرابة السبع مرات في الشهر، أما خلال السنة الأخيرة  فقد  بلغت عروض البيع نحو 50 مرة شهرياً من مختلف المحافظات عبر الصفحة الرسمية للمركز.”

ويشير “هادي”  أنه في بداية العام الدراسي ومع تزايد المصاريف بالنسبة للعائلات السورية تزامناً مع الظروف الاقتصادية المنهارة في البلاد، تزايد  بشكل ملفت عدد النساء اللواتي يعرضن شعر بناتهن للبيع، ومعظمهن كان يبيع شعر ابنته ليشتري لها المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها. ويشارك “هادي”  إحدى القصص الإنسانية التي صادفته: “في بداية العام الدراسي زارتني سيدة تطلب قص شعر ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات لبيعه. عندما بدأت في القص، بدأت الفتاة بالبكاء وقالت لوالدتها أنها سوف تشتري بكل المبلغ أغراض المدرسة، لتبدأ السيدة بالتحدث عن ظروفها المادية وحاجتها للمال وعدم وجود معيل مع الارتفاع الفاحش بالأسعار مما اضطرها لبيع كل أغراض منزلها وما تملك”.

يُباع الشعر الطبيعي بالغرام، ويختلف سعر الشراء حسب نوع الشعر، ويتراوح سعر الغرام من 200 إلى 400  ليرة شراء من صاحبة الشعر، و يباع أيضاً بالغرام من 3000 إلى 3500  ليرة سورية ( 1 دولار). أقل وصلة شعر يبلغ سعرها في السوق 700 ألف ليرة سورية (230 دولاراً) وقد تصل للمليون ليرة (330 دولاراً) في الصالونات التي تقع في الأحياء الراقية.

تشتري الوصلة من صاحبة الشعر بين 70 – 100 ألفاً وتباع بين 700 ألف إلى المليون حسب وزنها وطولها، والطلب الكبير يكون على شعر الأطفال لأنه يكون كثيفاً وغزيراً ويكون طبيعياً غير معرض لصبغ أو حرارة السيشوار، وعلى أساس ذلك يقدر نوع الشعر كنخب أول أو ثاني أو ثالث.

كان يعتمد في سوريا في صنع وصلات الشعر أو الباروكات على الشعر المستورد من الهند والبرازيل الذي يخضع لمعالجة ويقوى ويصبح صالحاً لمدة سبع سنوات؛ بينما الشعر المحلي لا يخضع لمعالجات مما يجعل استمراريته لا تتجاوز السنتين في حال تم الاعتناء به. وبسبب الظروف الراهنة وصعوبة استيراد الشعر من الخارج، وحتى في حال الاستيراد فبعد الجمركة يصبح ثمن وصلات الشعر مرتفعاً جداً مما يقلل الطلب عليها. لذلك ومع انتشار ظاهرة بيع الشعر أصبح الإقبال على الشعر المحلي أكبر حسب أحد العاملين في تجارة الشعر الطبيعي مع الإشارة إلى نوعية الشعر السوري الممتازة وانخفاض سعره مقارنة بالمستورد.

مع ازدهار تجارة الشعر الطبيعي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المجموعات والصفحات العامة لعروض البيع والشراء، تحوي منشورات بيع الشعر الطبيعي وأغلبهم  لفتيات صغيرات ترفق مع صورة لشعر الفتاة قبل قصه ويطلب تسعيره، مع إرفاق عبارات مثل “جاهز للقص عند طلب الزبونة” أو تنشر صور لضفائر شعرهن مقصوصة  لإيجاد السعر الأفضل. تقول سناء (40 عاماً) والمقيمة في جرمانا في ريف دمشق، والتي عرضت شعر ابنتها للبيع مع إرفاق صورة لضفائر شعرها الذهبي الطويل: “عرضت شعر ابنتي للبيع لأجمع لها المبلغ اللازم لإجراء عمل جراحي في العين اليمنى ولم أكن أرغب بقبول المساعدات المادية من أحد، لتبدأ التعليقات السلبية والشتم من بعض الناس دون الالتفات لسبب وراء ذلك”.

يدير هذه المجموعات أشخاص يعملون كصلة وصل بين البائع والشاري، وجد هؤلاء مهنة جديدة تدر عليهم  دخلاً إضافياً. فمثلاً (هدى “22 عاماً” التي تدرس في كلية الهندسة المقيمة  في منطقة “دف الشوك” في ريف دمشق) أنشأت مجموعة على الفيسبوك تشتري من خلالها الشعر الطبيعي  وتبيعه، وجدت من خلالها مردوداً مادياً يساعدها على تغطية نفقاتها الجامعية، وتشرح الشابة: “بعد شراء الشعر والاتفاق على المبلغ، نقوم بمعالجة الشعر وحبكه ليصبح جاهزاً لنقوم ببيعه.”

تشير الشابة إلى أن انتشار بيع الشعر الطبيعي سبب ارتفاع السعر التي تحصل عليه صاحبة الشعر عما قبل السنتين الماضيتين، لأن النساء أصبحن يعرفن أن الشعر يباع بالغرام بينما قبل ذلك كانت السيدة تبيع شعرها بالجدولة كاملة بمبلغ معين، فأصبح سعر وصلات الشعر مغرياً نوعاً ما للنساء اللواتي يعانين من ضائقة مالية.

السلطة والزعامات التقليدية في السويداء

السلطة والزعامات التقليدية في السويداء

أعادت الحادثة الأخيرة التي حصلت مع الشيخ حكمت الهجري في السويداء طرح العديد من الأسئلة عن دور الزعامات الدينية (متمثلة بمشيخة العقل) في السويداء ومدى تأثيرهم في المجتمع، وكذلك عن طبيعة علاقتهم بالسلطة الحاكمة وفروعها الأمنية. وكان الشيخ حكمت الهجري قد تعرض لإساءة وكلام بذيء من رئيس فرع الأمن العسكري في المنطقة الجنوبية عندما اتصل به الشيخ للتوسط والإفراج عن معتقل لدى الأجهزة الأمنية في محاولة لاحتواء الخلاف وحل المشكلة وخصوصاً بعد أن قام أقارب الموقوف بقطع الطريق واحتجاز بعض العساكر والضباط  للضغط على الأجهزة الأمنية والإفراج عن قريبهم. لم تكن حادثة التوقيف التعسفي بالجديدة وكذلك الأمر بالنسبة لرد فعل أقارب الموقوف، فكثيراً ما تكررت هذه الحادثة في السنوات الماضية نتيجة لحالة الفوضى والانفلات الأمني التي تشهدها المحافظة، لكن الجديد في القصة هو الإساءة المباشرة التي وجهها رئيس فرع الأمن العسكري للشيخ الهجري ضارباً بعرض الحائط مكانة الشيخ الاجتماعية والدينية وما يمكن أن ينتج عن ذلك من ردود فعل لدى مجتمع السويداء، في مشهد يذكرنا بما حصل في درعا ببداية 2011 عندما أهان “عاطف نجيب” وجهاء درعا في حادثة تُعد سبباً مباشراً لاندلاع الاحتجاجات يومها.

انتشر الخبر بسرعة في المدينة، وبدأت ردود الفعل الغاضبة تظهر علناً من خلال تجمع بعض الحشود في قرية قنوات أمام منزل الشيخ الهجري والمطالبة برد الاعتبار له، بالإضافة لحالة الاستنكار الكبيرة التي شهدتها المدينة رافضة ما حدث ومطالبة بمحاسبة رئيس الفرع وإقالته من منصبه والاعتذار الرسمي من الشيخ مهددين بتصعيد الموقف. بالإضافة لقيام بعض الأشخاص بتمزيق صور الرئيس في بعض الشوارع والساحات كرد فعل أولي على ما حدث.

بدورها أدركت السلطة في دمشق خطورة الموقف وخصوصاً بعد أن اجتمع في مضافة الشيخ الكثير من وجهاء المدينة وقادة الفصائل المحلية مطالبين بعدم السكوت عن الإهانة، بالإضافة لاستغلالهم الفرصة للحديث عن مسؤولية السلطة عن تردي الأوضاع المعيشية والخدمية في المدينة وحالة الانفلات الأمني الكبيرة التي تشهدها السويداء. وكانت واضحة حالة الاحتقان والاستياء الكبيرة التي وصل إليها المجتمع، فما كان من السلطة إلا أن بعثت بوفود رسمية لمنزل الشيخ الهجري كان على رأسها المحافظ وقائد الشرطة وأمين فرع حزب البعث في المدينة لامتصاص غضب الشارع وحل المشكلة والاعتذار له.

ولاحتواء المشكلة قامت الأجهزة الأمنية بالإفراج عن المعتقل الذي حدثت المشكلة بسببه. وسرت أنباء غير مؤكدة عن اتصال رئيس الجمهورية بالشيخ للاطمئنان عليه والتأكيد على اللحمة الوطنية في موقف اعتبره البعض اعتذاراً رسمياً من أعلى هرم السلطة. كما انتشرت إشاعات عن إقالة العميد لؤي العلي من منصبه لكنها لم تؤكد أو تنفى حتى الآن، ونتيجة لذلك أصدر الشيخ الهجري بياناً أكد فيه على انتهاء المشكلة وحلها وشكر فيه من وقف بجانبه من أبناء المدينة.

فعلت الحادثة فعلها في مجتمع السويداء، وأثارت موجة ردود متباينة حولها سواء من خلال المواقف الصريحة أو حتى على مواقع التواصل الاجتماعي. وأدت إلى طرح الكثير من الأسئلة عن دور رجال الدين والزعامات التقليدية وعلاقتهم بالسلطة الحاكمة.

بعض الآراء كانت حادةً جداً وغاضبة من رد فعل الشيخ على الموضوع، فبحسب رأي مجدي (موسيقي وفنان تشكيلي، 53 عاماً) فقد اعتبر أنها “لا ترقى أولاً إلى موقف الناس الداعم له وثانياً أظهرت الشيخ بموقف الضعيف الذي يبحث عن رد اعتبار له من ضابط في الجيش متناسياً حجم مركزه ومكانته الاجتماعية”. ويضيف مجدي موضحاً بأن الموقف برمته عار على الشيخ وعلى كافة الهيئة الدينية في المدينة: “فالكرامة لا تتجزأ أبداً ولا يمكن اختصارها بإهانة لفظية من ضابط أحمق، وكأن ما يجري في عموم المدينة من فلتان أمني وفقر وانتشار الجريمة والجوع وغيرها من المشاكل لا تعنيهم ولا تعني كراماتهم بشيء، الأجدى أن يكون الموقف لحفظ كرامة الناس التي هُدرت في طوابير الذل والجوع لا أن تختزل بموقف شخصي كهذا”. ويتابع قائلاً: “لذا يبدو من الواضح جدا أن موقف الشيخ الهجري ليس إلا محاولة لرد الاعتبار وأن تضخيم الحدث كان مقصوداً لتأديب الضابط المسيء، وهذا ما يفسر تراجعه السريع عن موقفه ودعوة الناس للملمة الموضوع بعد أن حصل على حقه على حسب قوله”.

 إلا أن هناك من يرى الأمر من زاوية مختلفة تماماً، ويعتقد هؤلاء أن الموقف برمته كان مدبراً ومقصوداً من قبل الجهات الأمنية التي افتعلت كل القصة كبالون اختبار لمعرفة ردود أفعال الناس في السويداء ومدى تماسكهم. يخبرنا (عامر36 عاماً) وهو أحد الشيوخ الشباب المقربين من الهيئة الدينية العليا: “الشيخ الهجري هو أكثر الشخصيات الدينية قرباً من السلطة، وما حدث كان لتسليط الضوء عليه أكثر وكسب تعاطف الناس معه لتقوية مكانته ودوره في السويداء، وأن الموقف ليس إلا استعراضاً مقصوداً لقوة ونفوذ الشيخ الهجري الذي يعتبر نفسه شيخ العقل الأول  للطائفة الدرزية، وتكريسه كواجهة أساسية على حساب باقي الزعامات الدينية والتقليدية ولا سيما بعد أن تكشفت العديد من الخلافات داخل المؤسسة الدينية ذاتها في أكثر من ملف وقضية كالموقف من حركة رجال الكرامة مثلاً وقضية توزيع المساعدات الخارجية التي جاءت من دروز لبنان وفلسطين وغيرها من القضايا التي عمقت الخلاف والتنافس بين الزعامات الدينية.” ويضيف أن السلطة قد: “تقصدت أن تظهر ضعيفة وخاضعة على غير العادة في محاولة لتخفيف الاحتقان المتزايد في شارع السويداء اتجاهها وتفريغه في قضية الشيخ الهجري، وهذا ما دفع الحكومة أيضاً لطرح تسوية للمتخلفين والفارين من الخدمة العسكرية في المحافظة، والتي كان من أهم شروطها التعهد بعدم التظاهر ضد الدولة في ذات الوقت التي تحاول فيه تهدئة الأوضاع قبل الانتخابات الرئاسية في الصيف القادم”.

يحكم العلاقة بين الزعامات الدينية التقليدية وبين السلطة الحاكمة العديد من البروتوكولات المحددة والواضحة، ولطالما عبر الناس عن ذلك بوصفهم الشيخ بأنه قوي وذو حضور مميز أو إنه ضعيف لا قيمة له ولا موقف. وغالباً ما كانت تبنى هذه التقييمات على مدى قرب الشيخ من السلطة أو من الناس فالشيخ القوي هو من يقف مع أهله ومجتمعه بوجه استبداد السلطة الحاكمة والعكس صحيح، لذا لا يزال المجتمع يحتفظ بذاكرته الجمعية لقصص ومواقف الزعامات الدينية والتقليدية فيما مضى ويتغنى ببطولاتها وشجاعتها. وهو بالضبط ما يفسر حالة النكوص الكبيرة التي تحدث للمجتمع في الأزمات التي تلم به مطالبة شيوخ العقل بأخذ دورهم في المجتمع وخاصة عندما لا يوجد بديل لهم من الشخصيات المدنية أو السياسية.

حاول شيوخ العقل في السويداء بناء موقف محايد ووسطي مابين المجتمع من جهة والسلطة من جهة أخرى وخصوصاً خلال سنوات الحرب الماضية وما رافقها من تعقيدات كثيرة في موقف السويداء ابتداءً من مشكلة المتخلفين عن الخدمة العسكرية وانتهاءً بالمشكلات الأمنية والاقتصادية الحادة التي تعيشها المدينة اليوم. فلطالما عرف عن المؤسسة الدينية سياسة مسك العصا من الوسط ومحاولة الحفاظ على استقرار الأوضاع في المدينة ما أمكن وتجنب الصدام المباشر مع السلطة، ولكن يبقى السؤال الأهم إلى أي مدى نجحوا بتحقيق ذلك فعلاً!

 أخيراً لا بد من القول أن كثيراً من الناس في السويداء قد أصيبت بالإحباط جراء ما أفضى إليه الحل النهائي للمشكلة في الوقت الذي كان الجميع يعول على الموقف ويلتف حول الزعامات الدينية كمحاولة ولو يائسة لتغيير الحالة المزرية التي وصلت لها المدينة لكن على ما يبدو إن للشيخ حكمت حسابات أخرى شخصية وضيقة وبعيدة عن هموم الناس.

“لم يتبقَّ شيءٌ للبيع غيرُ كليتي”

“لم يتبقَّ شيءٌ للبيع غيرُ كليتي”

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

صار مألوفاً في الآونة الأخيرة أن تكثر في شوارع دمشق المكتظة بالمارة ملصقات على الجدران تحوي إعلاناتٍ من قبيل “مريض يحتاج متبرعاً بكلية زمرة دم A+”، مع وضع أرقام هواتف علنية للتواصل، أو إعلاناتٍ لمواطنين يبدون استعدادهم للتبرع بأعضائهم. هذه الوفرة في الإعلانات تتجاوز الحاجة الطبيعية للتبرع بالكلى لتصل إلى مستوىً آخر يتعلق برواج تجارة الأعضاء في سوريا.

بعد سنواتٍ من الحرب، بات معظم السوريين يصارعون من أجل البقاء بعد دمار اقتصاد بلادهم والتدهور المتسارع للأوضاع المعيشية يوماً بعد يوم، حيث لاتتناسب الأجور والرواتب مع المصاريف، مما اضطرهم إلى ضبطٍ صارمٍ للنفقات. وقد حصلت انزياحات كبيرة للطبقة الوسطى باتجاه خانة الفقر، فبات أكثر من 93 بالمئة من السوريين في حالة فقر وحرمان ومايقارب 60 بالمئة يعيشون في حالة فقر مدقع، وفقاً لتقرير الأمن الغذائي في سوريا لعام 2019 والذي أنجزه “المركز السوري لبحوث السياسات” بالتعاون مع “الجامعة الأمريكية في بيروت”؛ كما يواجه نحو 700 ألف طفل سوري خطر الجوع بناءً على أحدث تقريرفي العام المنصرم لمنظمة “أنقذوا الأطفال”. وقد أصبحت الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص، تحتاج إلى 732 ألف ليرة شهرياً لتغطية حاجيات الاستهلاك الأساسية، وفقاً للمكتب المركزي للإحصاء في نهاية عام 2020 لتتضاعف بنسبة 192% خلال العام ذاته.

 ومع تردي الخدمات الصحية والطبية، اضطر العديد  من الفقراء إلى بيع ممتلكاتهم بتأمين تكاليف العلاج؛ يقول الدكتور فراس الضمان، الطبيب المقيم في مدينة السلمية: “هذا قهر كبير! تمَّ  استدعائي  إسعافياً إلى  منزل  أحد  المرضى، وهو  موظف  متقاعد، المفاجأة  المؤلمة  أنَّ  الغرفة  التي  يستلقي  فيها  المريض  كانت  لا تحتوي  سوى  حصير  قديمة  وحيدة مع  كرسي  بلاستيكي وطربيزة  صغيرة  قديمة؛ هم  كل  الأثاث  الموجود  في  غرفة  الاستقبال  التي  يعيش  فيها  المريض  وعائلته؟! الموظفون السوريون  يبيعون  أثاث  بيوتهم  كي  يحتفظوا  بكراماتهم في الوقت الذي  يبيع  فيه  المسؤولون  السوريون  كراماتهم  لِيحتفظوا  بأثاث  بيوتهم  و مكاتبهم ؟!”

لكن بعد الأثاث، ماذا يتبقى للبيع من أجل التداوي وإكمال حياة سُدَّت كل سبل الخلاص فيها! هل أصبح قدر السوري أن يأكل من لحمه ودمه؟ هذا هو حال  زوجين  سوريين عرضا كليتيهما للبيع في أواخر عام 2020، وفقاً لصحيفة البعث الرسمية، قبل أن يتم حذف التحقيق بعد أيام من نشره. وبحسب التقرير فإنّ تجارة الأعضاء باتت رائجة جداً في البلاد نتيجة الفقر وغياب الرقابة، وذكرت الصحيفة أنّ عاملاً مياوماً  تعرّض منزله للدمار نتيجة المعارك في حرستا بريف دمشق، ثم انتقل مع عائلته إلى منزل للإيجار، واضطر لبيع كليته بمبلغ 30 مليون ليرة سورية، ليجري عملية قلب مفتوح لابنه، وتسديد الديون المتراكمة عليه؛ وسرعان ما قامت زوجته بدورها بعرض كليتها للبيع بالمبلغ ذاته لتتمكن العائلة من شراء منزل صغير وسيارة  يعمل عليها الزوج.

بالإضافة إلى الإعلانات الطرقية، تتيح منصات التواصل الاجتماعي إمكانية بيع وشراء الأعضاء البشرية؛ علا ابراهيم وغسان ابراهيم من درعا، والدان للطفلتين، شهد وآية، المصابتين بفقدان حاستي السمع والنطق، وتحتاجان لزراعة حلزون في الأذن، بكلفة 40 مليون ليرة سورية لكل طفلة، ولم يجدا مساعدة من الجمعيات الخيرية، ما دفعهما لعرض كليتيهما للبيع على مجموعات الفيسبوك المتخصصة بالبيع والشراء. يقول والد الطفلتين غسان: “عندما تعيش مع طفلتيك وتنظر إلى الأطفال من حولك وهم بحالة صحية جيدة، تقول في نفسك ماذا أريد من نفسي، أنا عشت عمري لأمنحهن الحياة ولتعيشا حياة سليمة وطبيعية مثل أي طفل سليم.”

تتيح الصفحات الخاصة على الفيس بوك الفرصة للمحتاجين والمهتمين بيع الأعضاء البشرية؛ لتحتل دمشق وبعدها ريف طرطوس المرتبة الأولى من حيث نسبة المعلنين عن بيع الكلى من خلال هذه الصفحات خلال النصف الأول من العام المنصرم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام،  في حين تنتشرإعلانات بيع مشابهة على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بمناطق الشمال السوري حيث يعرض من خلالها الشبان عضواً أو أكثر من أجزاء أجسامهم لقاء مبلغ مالي بسيط.

إحدى الصفحات تحمل إسم “إعلانات بيع الأعضاء_البشرية”، كان آخر تحديث لها في نيسان الماضي أبلغت فيه متابعيها أن العرض فاق الطلب، لكن عروض بيع الكلى استمرّت في التعليقات، وتراوحت أعمار العارضين بين 25 و47 عاماً، ونسبة العروض من قبل الذكور تفوق مثيلاتها من قبل الإناث.

كتب شخصٌ يُدعى “جمال” يبلغ من العمر 34 سنةً، أنه يريد بيع كليته أو حتى كبده، مؤكداً أن صحته ممتازة وبحسب الصفحات المخصصة بتجارة الأعضاء البشرية على الفيسبوك، يتراوح سعر الكلية الواحدة بين 60 – 70 ألف دولار خارج سوريا (نحو 175 مليون ليرة سورية) وهذا السعر بحسب تسعيرات شهر شباط الماضي، أي أنه من المرجح بأنه قد ارتفع كثيراً، بينما يتراوح السعر داخل سوريا، بين 10 آلاف و20 ألف دولار وفق سعر الصرف (30 – 60 مليون ليرة فقط) بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، أي 3000 ليرة لكل دولار.

لايقتصر هذا التفاوت في السعر على استغلال حاجة سوريي الداخل بل يمتد ليطال  اللاجئين في دول الجوار؛ حيث  نشرت  قناة (سي بي إس) الأمريكية  مؤخراً تقريراً مصوراً، التقت خلاله عدداً من اللاجئين السوريين الذين تعرّضوا لعمليات نصب واحتيال بعد بيع أعضائهم لشبكات الإتجار بالأعضاء مقابل مبالغ لم يتم دفع سوى نصفها. في فيلمها المعنون بـ (بيع الأعضاء للبقاء على قيد الحياة) أجرت القناة الأمريكية تحقيقاً شمل منشوراتٍ على الفيسبوك تعرض أموالاً للاجئين مقابل الكلى والأكباد، مشيرة إلى أن التحقيقات قادت إلى اكتشاف قصص مأساوية عن عمليات بيع الأعضاء يديرها سماسرة أتراك وأن شبكات الإتجار بالأعضاء لا تزال تعمل على نطاق واسع وتتاجر بمعاناة اللاجئين السوريين الذين يعيشون في ظروف سيئة ويتعرضون للاستغلال. فيما أشارت هيئة الإذاعة البريطانية  (البي بي سي) في تحقيقٍ آخرٍ إلى أن الأطباء يجرون العمليات الجراحية في منازل مستأجرة تم تحويلها إلى عياداتٍ مؤقتة.  ولم يكن لبنان بعيداً عن هذه “التجارة الرائجة”، فمنذ عام 2013  نشرت مجلة “ديرشبيغل” الألمانية  تقريراً عن قيام مجموعات مختصة بإقناع الكثيرمن اللاجئين السوريين ببيع أعضائهم مقابل مبالغ زهيدة جداً، ووصل ثمن “الكلية” -على سبيل المثال- إلى سبعة آلاف دولار أمريكي فقط، وغالباً ما كان اللاجئون يقومون ببيع أعضائهم من أجل شراء بعض مستلزمات الحياة اليومية.

يعاقب القانون السوري تجارة الأعضاء بالحكم بالسجن والأشغال الشاقة وبدفع غرامات مالية، في حين أن التبرع بالأعضاء مجاناً متاح، كما أنّ زرع الكلى ضمن المشافي الخاصة ممنوع، بينما يُسمح به في المشافي الحكومية وسط إجراءاتٍ مشددةٍ تتعلق بتحليل الأنسجة وموافقة لجنة خاصة وقاضٍ شرعي؛ لكن الفساد المستشري في مفاصل الدولة يتيح لتجار الأعضاء البشرية تسهيل المعاملات، تحت غطاء التبرع الذي يتيحه القانون.

تجارة بيع الأعضاء البشرية، وخاصة الكلى، ليست جديدة، لكن الحكومة تصمت عنها؛ وهي وإن صرحت في إعلامها، نظراً لأن حجم الظاهرة أقوى من نفيها، فإنها تلقي المسؤولية على دول تقول إن هدفها التآمر على النظام الحاكم بكل الوسائل. فقد كان آخر حديث رسمي عن تجارة الأعضاء في سوريا عام 2015 عندما كشفت وزارة الداخلية، عن ضبط حالات تجارة بالكلى على الصعيد الداخلي والخارجي، وأن سوريا أصبحت من دول المنشأ بجرائم الاتجار بالأشخاص، بعدما كانت من دول العبور، حسب تصريح معاون وزير الداخلية حسان معروف. ومنذ بداية 2015 حتى نيسان 2016، تم توثيق أكثر من 18 ألف حالة اتجار بالأعضاء البشرية في سوريا بحسب رئيس قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق حسين نوفل، و أشار نوفل إلى أن عدد حالات الإتجار بالأشخاص، التي تم ضبطها في العام 2014، بلغت نحو ألف حالة، معظمها لشبكات تعمل خارج البلاد، وتتواصل مع سوريين في الداخل. وفي منتصف عام 2015 أعلن نقيب أطباء سوريا،عبد القادر الحسن، عن فصل خمسة أطباء وإحالتهم إلى التأديب لتورطهم في تجارة أعضاء البشر.

كما كشفت صحيفة ديليميل  البريطانية عن اعتماد تنظيم داعش في سوريا والعراق على الاتجار بالأعضاء البشرية لتمويل نشاطاته، كما قام التنظيم بتجنيد أطباء أجانب لاستئصال الأعضاء الداخلية، ليس فقط من جثث مقاتليها، وإنما أيضًا من الرهائن الأحياء ومن بينهم أطفال، ووفقاً للصحيفة يتم تهريب الأعضاء إلى بلدان مجاورة من بينها تركيا قبل أن تباع لأوروبا وغيرها، لدرجه أن هناك أكثر من 13 ألف فرنسي ينتظرون متبرعين، فالقرنية بفرنسا تباع بـ 1170 يورو وأما القلب 1050 والكلية 2500 يورو.

 وغالباً ما يتم تهريب الكلى عبر الحدود، كما يتم تهريب القرنيات أو غيرها، أو يقوم هؤلاء بالاتفاق مع زبائن عرب لزرع الكلية ضمن سوريا، وهي مسموحة لكن دفع الرسوم يكون بالقطع الأجنبي، إلا أن هذه العمليات توقفت نتيجة إجراءات كورونا، ولذلك يتم البيع لمتلقي محلي وبسعر منخفض لا يلبي طموح المتبرعين.

بينما اختار البعض الموت الرحيم لإنهاء حالة الذل والتشرد بدلاً من الموت البطيء، تبدو خيارات السوريين حالياً متراوحةً بين قعر الفقر وقعر القبر. وتكثر القصص اليومية المشابهة لقصة رجلٍ مقيم في حي جنوب الثكنة في مدينة حماه، حيث أقدم على محاولة حرق نفسه وزوجته وأولاده بجرة غاز قبل أن يتدخل بعض الشبان وينقذوه؛ باعت هذه العائلة كل ما تملك لبناء غرفة على سطح أحد الأبنية ليعيشوا فيها، لكن تم هدمها على أنها مخالفة بناء. لا تمتلك الحكومة السورية حلولاً اقتصادية لمأساة الشعب الذي تحكمه، وهي لا تأبه للمواطن السوري إن باع أعضاءه أو حرق نفسه، وتصمت راضية عن هذه الحلول طالما لا تمس بقاءها في السلطة، تاركة السوريين، الذين كانت سبباً في أزمتهم، ريشة في مهب  الريح ؟