نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

لماذا نتذكر نازك العابد اليوم، ربما لأنها كانت من أكثر الشخصيات تأثيراً في بدايات القرن الماضي، ومن أبرز النساء في الفضاء العمومي السوري وأكثرهن جذرية في مواقفها من قضايا مصيرية في بدايات القرن كموقفها من حقوق المرأة إن كان بمناصرة حقها في التصويت والانتخاب أو بالتعليم واقتحام سوق العمل أو بقضية السفور والحجاب، ومن الحقوق الوطنية كالمطالبة بالاستقلال وبناء الدولة أو موقفها من الانتداب الفرنسي والبريطاني والحركة الصهيونية وقضية فلسطين.

ربما لم تكن نازك العابد استثناءً بين بنات جيلها من طبقة النخبة الأرستقراطية المتعلمة رغم فرادتها المشهود لها، كانت نجمة يشحذُ تألقها عملها الدؤوب الناجم عن هواجسها الإنسانية والوطنية ووعيها بحاجات وطنها في تلك المرحلة التاريخية، وإحساسها العميق بالواجب تجاه بنات جنسها ومجتمعها، وربما أحد وجوه فرادتها أنها جمعت بين الأصالة والحداثة، إذ جمعت في شخصيتها خلاصة خصائص الشخصية العربية الشرقية المتنورة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخصائص الشخصية المنفتحة على الغرب بوعي متحفز، دون انبهار، والمراقبة لكل ما يُنتج به في تلك الفترة من فلسفة وعلوم وتقدم فكري وطب، والمستأنسة بأفكار وقصص كبار الشخصيات الغربية وخاصة النساء، والراصدة المتحفزة للحركة النسائية العالمية و لحركة النساء العاملات في كافة بلدان العالم المتقدم، والمستفيدة مع أبناء جيلها من فترة التنظيمات العثمانية، وهي الفترة التي حدثت فيها الإصلاحات التي مهدت للحداثة في البلدان الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية، ومنها سوريا بحدودها الطبيعية القديمة.

شخصية نازك السياسية 

وعلى الجانب السياسي يلاحظ من يطلع على كتابات نازك أنها كانت في قلب الأحداث التاريخية أولاً بحكم أنها ابنة عائلة سياسية بامتياز فمعظم أفراد عائلتها انخرطوا في العمل السياسي تاريخياً إلى جانب عملهم بالتجارة، وبحكم أن العائلة كانت مقربة من الباب العالي العثماني لفترات زمنية ثم لحق بها الضيم من نفي وتضييق بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، كتبت نازك العابد مقالاً تصف فيه حفل تأبينه الذي تصادف أثناء وجودها في إسطنبول في فترة نفي العائلة في أزمير. وكانت لاتزال في مقتبل الشباب “تركتُ أزمير مع والدتي وقد كانت منفى عائلتنا برخصة جاء بها علينا طلعت باشا وسرنا إلى الأستانة لقضاء بضعة أسابيع فصادف وصولنا في أيام عبد الحميد الأخيرة فتسنى لي أن أشهد حفلة الدفن التي لم تشهد أهالي الأستانة السابقون والمعاصرون على زعمهم حفلة مثلها فكأن الاتحاديين شاؤا أن يكفروا عن إساءتهم لهذا الرجل فعوضوا عليه وهو ميت بكل الإكرام الذي سلبوه منه وهو حي إذ تقدم المركب البوليس ثم الجند النظامي ….”[1] ثم تصف نازك العرض العسكري الذي رافق جثمان السلطان المخلوع عن عرشه. 

السياسة كانت جزءاً لا يتجزأ من عالمها وعملها ونشاطها التنويري، إن كان في جانبها النسوي حيث كانت من أوائل المطالبين بحق المرأة في التصويت والانتخاب والمدافعة بقلمها وتنظيمها للنساء العاملات، كما كانت من النساء القائدات والقادرات على تجييش الشارع وقيادته في مظاهرات نوعية للإفراج عن المعتقلين، كما حدث عندما اعتقلت سلطة الانتداب الفرنسي الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه، بعد رحيل لجنة كراين 1922 وكانت قد ظهرت العابد سافرة بدون حجاب أمام الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين، الذي جاء للوقوف على حال الشعب السوري تحت أولى سنوات الانتداب الفرنسي وكان أن قادت مظاهرة نسائية كبيرة على أبواب قلعة دمشق مع سبعين سيدة على رأسهن السيدة سارة مؤيد العظم زوجة الشهبندر مع أرامل شهداء 6 أيار ترفض فيها الانتداب الفرنسي وتطالب بتحرير المعتقلين[2]. نفيت ثلاث مرات بسبب عملها السياسي مرة من قبل السلطات العثمانية ومرتين من قبل سلطات الانتداب الفرنسي.

وثانياً بحكم اختلاطها ومشاركتها معظم أبناء جيلها من النخبة الفكرية والاجتماعية في زمنها من رجال ونساء تقدميين حالمين بإنشاء دولة سورية مستقلة ذات تشريعات حديثة خاصةً من عاد منهم من الدراسة في الغرب عاقداً العزم على خدمة وطنه. وستقوم نازك بتوظيف كل ما اجتمع لها من مكانة اجتماعية ونفوذ ومعرفة وجرأة في خدمة بلادها وأهدافها، حتى آخر عام في حياتها.

نضالها الفكري 

علِمت نازك باكراً أن كلمتها ذات تأثير فعال في الشأن العام، وكانت ذات شخصية كاريزمية قيادية قامت بإلقاء الخطب في مناسبات عديدة وأعيد نشر بعضها في المجلات والصحف وقتها، إذ اشتهرت بقوة شخصيتها وفصاحتها وقوة تأثيرها، ما جعلهم يلقبونها ببيروت بنازك بك بدل نازك خانم[3]. فكانت الكلمة واللغة إحدى وسائل النضال الفعال الذي خاضته إن كان على الصعيد الاجتماعي الداخلي الإصلاحي أو الوطني “إذن الشيء المهم بالنسبة للغة هو الخطاب التواصلي فما دام فعل الخطاب “يتضمن أيضاً انجاز فعل أو دعوة إليه، إذ ليس هناك كلام من أجل الكلام فاللغة هي نفسها أداة لممارسة أفعال ويصبح الخطاب قابلاً للتحقق، فالبعد اللغوي للنظرية التواصلية يكمن في توضيح الجانب الاجتماعي التواصلي للغة، فهو يرى فيها مجالاً للتواصل الاجتماعي الفعلي بين الأفراد”[4].

كانت نازك تقوم ببناء خطاباتها بشكل مدروس ومؤثر، تعرف كيف تصل بحجتها إلى قلب المتلقي وعقله في آن واحد، لذلك كانت ذات حظوة بين أفراد جيلها وحتى لدى الملك فيصل الأول وزوجته. 

وحتى المسؤولين الأجانب إذ كانت تجيد خمس لغات العربية والتركية والألمانية والإنكليزية والفرنسية. 

موقفها من فلسطين

وربما من أشهر خطاباتها، الخطاب الذي يوضح أنها تحمل فكراً عروبياً حيث يمكننا أن نستنتج ذلك من مقالها المنشور في مجلة العرفان، ويذكر نسيم نصر في مقاله “نازك العابد بيهم” في مجلة الأديب عدد2 ص16/تاريخ 1961 أن هذا الخطاب ألقته نازك عندما وجهت لها الدعوة لحضور المؤتمر النسائي العربي في القاهرة سنة 1938 برئاسة هدى شعراوي، حيث دعيت نازك إليه ممثلة عن بيروت. يتضح في هذا الخطاب وعيها وترقبها للوضع في فلسطين آنذاك وتتبعها لكل المجريات السياسية ومتابعتها لكل التصريحات التي يقوم بها المسؤولون الاسرائيليون والمسؤولون الغربيون من جهة والعرب الفلسطينيون من جهة أخرى، كالمفتي الأكبر الشيخ أمين الحسيني والمطران حجار وما أدلوا به أمام لجنة بيل، واطلاعها على عمل اللجان المهتمة بالوضع في فلسطين ونلاحظ تمييزها بين الصهيونية وبين اليهودية، واطلاعها الملفت على تاريخ اليهود وحوادثهم، وتنبأها بما سيُحدثه زرع دولة إسرائيل في قلب الدول العربية وآثاره المستقبلية على المنطقة وخاصة على مصر، وضررها من الناحية الاقتصادية، لقد كانت سيدة ذات حدس قوي وذكاء استثنائي، نقتطف من خطابها ما يلي وكانت تعلق على حوادث العنف المنظم التي حدثت في فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وعلى رد فعل الفلسطينيين عليها: “أجل نتألم وإن كان القتيل صهيونياً، مع علم منا أن الصهيوني يريد إجلاءنا عن ديارنا ويريدها.. له دون غيره، وأن يطلق عليها “أرض إسرائيل” وأن يقيم بها حكومة يهودية لغتها عبرانية وثقافتها إسرائيلية لا نقول هذا جزافاً، بل إن لجنة بيل الملكية لخصت مطالبيهم في تقريرها الذي رفعته بالسنة الفائتة لجلالة الملك فجاء في جملة اقتراحاتهم أن لا تتخذ أية إجراءات لمنع اليهود من أن يصبحوا أكثرية ومتى تم ذلك يجب أن لا تمنع فلسطين من أن تصبح يهودية.” وقد أجمل الدكتور وايزمن هذه المطامع فقال أمام اللجنة “نريد أن تصبح فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية!” 

“إن هؤلاء الناس إذا تمكنوا من فلسطين، قضوا بما لديهم من دهاء ومال وعلم على العروبة وأمانيها والعروبة لا تزال يانعة والتاريخ ما يزال طافحاً في الأمثلة على دهائهم وإن ينسَ العرب فلا ينسون سياسة التفريق التي انتهبوها في المدينة بين الأوس والخزرج سياسة حكمتهم برقابهم حتى أنقذهم الإسلام.

“سيداتي،

لسنا نناضل عن كل هذا فحسب، بل إننا نكافح في سبيل الحياة والحياة في هذا العصر. حريتها واستقلالها ونعيمها ورخاؤها كل ذلك يتوقف على الثروة. وأي نجاح اقتصادي ننتظر إذا قامت دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية. وكأني بمصر، وقد وصلت إلى أعلى ذروة من ذرى الدور الصناعي وأخذت تلج في الدور الزراعي الصناعي، وأوشكت أن تدخل في الدور الثالث وهو الصناعي التجاري كأني بها أشد الأمصار تعرضاً للخطر الصهيوني. أجل فإن مشاريع مصر العظيمة وسياسة طلعت باشا الحميدة توشك هذه كلها أن تصطدم بمشاريع تستند إلى رساميل أعظم وسياسة تتوكأ على دهاء أشد إذا استتب للصهيونيين الأمر بفلسطين قوا على اقتصاديات مصر وأعادوا الدور الذي مثلوه عهد الخديوي إسماعيل. سيداتي إذا استعرضنا كل هذا أدركنا لماذا اختار شباب فلسطين وكهول فلسطين ونساء فلسطين الموت للحياة”[5].

المجلات التي كتبت بها

كتبت نازك العابد معبرة عن أفكارها الريادية، إن كان حول تحرير المرأة وحقوقها أو حول القضايا الوطنية والاجتماعية، في أهم المجلات والجرائد المعروفة في عصرها: ومنها مجلة العروس[6]، ومجلة الحارس[7]، ومجلة العرفان اللبنانية[8]، ومجلة لسان العرب[9]، كتبت أيضاً في مجلة الأديب اللبنانية[10]، بالإضافة إلى مجلتها نور الفيحاء[11]. لم تنصرف نازك للكتابة الإبداعية بل سخّرت كل ملكاتها الفكرية للقضايا الاجتماعية الإصلاحية والسياسية، وكان أسلوبها جزلاً ومباشراً ولغتها سلسة وواضحة. صبت اهتمامها على المقالات والخطابات بالدرجة الأولى. 

مجلة نور الفيحاء

لم تكن نازك الشخص الأول الذي يصدر مجلة أو جريدة من عائلتها فقد سبقها إلى ذلك عمها أحمد عزت ابن هولو باشا، وهو والد الرئيس محمد علي العابد وكان من مشاهير الساسة في عهد انهيار السلطنة العثمانية فقد قام بإصدار جريدة أسبوعية باللغة العربية والتركية سماها جريدة “دمشق” وكان ذلك في عام 1878م، ويقال إنه أول من أدخل الكهرباء إلى دمشق وأمر ببناء السكة الحديدية زمن التنظيمات العثمانية.

 صدرت مجلة نور الفيحاء عن جمعية نور الفيحاء، وهي مجلة نسائية، أخلاقية، أدبية، صدر منها ثمانية أعداد فقط، وقد توقفت عن الصدور بعد دخول الانتداب الفرنسي إلى دمشق بوقت قصير حيث أغلقت بسبب مناهضة نازك العابد وأعضاء جمعيتها لسلطة الانتداب. صدر العدد الأول منها في كانون الثاني 1920، وصدر العدد السادس الذي بين أيدينا سنة 1338 للهجرة في 15 حزيران سنة 1920. وللأسف فُقِدت معظم أعدادها، هذا العدد الوحيد الموجود في دمشق على حد علمنا، بينما عُرِضت ثلاثة أعداد أخرى نادرة في مكتبة جامعة هارفارد[12].

كانت تقدم مقالها الأول بعنوان شهيرات النساء وغالباً تأتي بشخصية نسائية عربية معروفة ومهمة ولها تأثير في المجتمع المحيط بها، في هذا العدد كانت الشخصية المحتفى بها السيدة زينب، ثم تنتقل لشخصية من شهيرات النساء الغربيات، وفي هذا العدد احتفت بملكة روسيا، في المقال الذي يليه تقدم المجلة مقال بعنوان (أنقذوها فهي دليل الحياة) تتحدث فيه عن المرأة ودورها، ثم يليه مقال (ديانا حامية المرأة)، وتتحدث فيه عن الإلهة الرومانية ديانا حامية الفتاة، ثم يأتي مقال بعنوان (شقاء الزوجين) ص،182 ثم مقال بعنوان (رد افتراء) وتتحدث فيه المجلة مدافعة عن المرأة الشرقية، ثم مقال (مصنع إحياء الأشغال اليدوية) ص185، ثم يليه مقال بعنوان (النساء العاملات) 187، وهو مقال يدل إلى أي درجة كانت نازك والناشطات في المجلة مطلعات على ما يدور حولهن في العالم، إذ أوردت المجلة احصائيات محددة حول عدد النساء العاملات في أوروبا و(ألمانيا وفرنسا) وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد النساء العاملات في المصانع والمخازن والسكك الحديدية والبنوك والبيوت. ثم هناك مقال ص188حول الآداب اليابانية، وليس المقصود هنا الأدب بمفهومه المعروف بل سلوك الشخصية اليابانية المتأدب، ثم هناك مقال بعنوان (الغبار! الغبار!) وهو حول الاهتمام بالصحة العمومية وتطالب فيه المجلة من المجالس البلدية تعميم النشرات الطبية وما يجب نبذه من العوائد المضرة ولا سيما في زمن الأوبئة وكان في هذه الأثناء انتشر في سوريا وباآن شديدا الفتك، هما النزلة الاسبانيولية والحصبة. 

ثم هناك مقال حول حفظ صحة المنزل والطب المنزلي، أسباب الأمراض وسير المرض وأدواره للدكتور حكمة المرادي. باختصار عنيت المجلة بكل ما يخص المرأة والعائلة والبلاد والعالم. وكانت تحاول أن تكون جسرا بين ما يدور في العالم من حولها وبين النساء في سوريا في ذلك الزمن، إذ كان من الملفت رصدها لتطورات وضع المرأة في بلدان العالم المتقدم، ومحاولة نقل عادات وتقاليد الشعوب الأخرى عبر صفحات مجلتها المنفتحة على كل ما يدور حولها.

نضالها على صعيد تمكين المرأة 

لعبت نازك بحكم مكانتها الاجتماعية دورا بارزاً بتأسيس العديد من الجمعيات التي ساهمت في خلق مجتمع أهلي متكاتف، ومنها جمعية نور الفيحاء في دمشق وفيها مدرسة لرعاية بنات شهداء الثورة العربية ومعمل أشغال يدوية ساعد في تمكين عدد من النساء من امتلاك مهن يعشن منها ويخترقن سوق العمل الذي كان حكرا على الرجال، وجمعية النجمة الحمراء التي أصبحت الهلال الأحمر السوري، وجمعية يقظة المرأة الشامية سنة 1927 مع عادلة بيهم الجزائري وريما كرد علي[13]، والعديد من الجمعيات في بيروت بعد انتقالها إليها بعد زواجها:

يقول نسيم نصر عن نشاطها في لبنان في مقاله “نازك العابد بيهم”: انتقلت إلى بيروت تقرن جهدها النسوي بجهد رجل من قادة التفكير الاجتماعي والتاريخي، بعد أن جمعهما رباط الزواج الشريف. ورجلها هذا هو المؤرخ الأديب محمد جميل بيهم. 

وفي لبنان سارت نازك مع الطليعة النسوية تسهم بنصيب بارز في مختلف نشاطات المرأة التقدمية، فأنشأت سنة 1933 نقابة المرأة العاملة في بيروت، وهي أول نقابة للعاملات والكاسبات. ومن أقوالها في هذا الشأن: ” ان تطور الحياة العالمية في العصر الحاضر، وتفاقم المزاحمة على أسباب العيش قضيا على المرأة، هذا المخلوق اللطيف أن ينزل إلى الكفاح في ساحة الكسب لمنازلة الرجال منازلة لم يتأهب لها من قبل فكانت صدمة في الناحيتين الصحية والأخلاقية.

ومن دواعي الأسف أننا نحن الشرقيين، ولئن كنا حريصين على الاحتفاظ بالجنس اللطيف من مميزات لا مناص لنا من مجاراة الغرب فيها فإننا نأخذ كل تقاليده وحضارته، لذلك أصبح من الواجب تنسيق أعمال نسائنا العاملات والكاسبات تنسيقاً يفضي إلى دفع كل ضرر عنهن. وهذا ما أرادته نقابة المرأة العاملة، فإنها تحاول أن توفق بين التخلص من الأزمة الاقتصادية وبين عواقب إقبال النساء على العمل”[14].

وكانت قد أسست مع زوجها في لبنان بالإضافة إلى جمعية عصبة المرأة العاملة، جمعية مكافحة البغاء 1933 الذي حاولت سلطات الانتداب تنظيمه ونشره، وجمعية أخوان الثقافة، وجمعية تعنى بالأمهات وكانت أول من يحتفي بهن ويحدد يوم لعيد الأم، وجمعية تعنى باللاجئ الفلسطيني بعد نكبة 1948.

القناعة حوض ماء راكد

نازك المرأة المقاتلة للكسل والخمول والطموحة التي لا تهدأ تقول في مقال بعنوان “القناعة دواء إن زاد أضر” في مجلة العرفان تتحدث فيه عن زيارتها لاحدى المدارس وتصف فيه درساً سمعته من إحدى المدرسات حول موضوع (القناعة كنز لا يفنى) وقد بالغت المدرسة في الإعلاء من قيمة القناعة على حساب الطموح، ما أزعج السيدة نازك وقتها، نقتطع من مقالها ما يلي: 

“روح التمرد المتأصلة في نفسي أنقذتني بعد مغادرة المدرسة من بلاغة المعلمة، لاسيما أني كنت طالما أنكرت القناعة وكنزها، وكتبت مرة انتقدها، فعن لي أن أتصفح ما دونت خلال سن الشباب في هذا الموضوع، فإذا بي أقول: “كثيراً ما أجتهد للوصول إلى نقطة أنشدها وأظن أني بوصولي إليها ألامس السعادة الحقيقية، ولكني لما أدرك هذه النقطة التي كانت نفسي تطمح إليها أشعر بأن أحلامي لم تتحقق، وافتقد القناعة فلا أجدها بل أحبو للحصول على أوفر مما حصلت وأفضل”[15].

يقولون إن السعادة الحقيقية في القناعة، وأنا لا أشاطرهم هذا الاعتقاد بل القناعة عندي هي كحوض ماء راكد إذا لم يتجدد حيناً بعد آخر فسدت عناصر الماء فيه فأصبح كريه الطعم والمنظر والرائحة تمجه النفوس” تميز نازك بوضوح بين القناعة السلبية وما تسميه الارتضاء وتقصد به الرضى عن الذات بعد بذل الجهد. وتبجل من موضوع ارتقاء السلم الاجتماعي عن طريق الكفاح والطموح والعصامية.

نازك المزارعة 

كانت نازك قد “درست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية[16]، و تذكر في مقالها “المرأة في الحياة الزراعية” وهو حديث كانت قد ألقته في اجتماع أقامته جمعية “إخوان الثقافة” في بيروت، وتتحدث فيه عن مزاولتها للزراعة لمدة عشرين عاماً بعد أن جعلت والدها يقدم لها قطعة أرض في الغوطة تزرعها وتعتني بها، بعد جدال مع عائلتها التي اعتبرت أن جهودها ستذهب سدى لأن هذه الأرض سبخة وغير قابلة للزراعة لكن نازك المقاتلة العنيدة لم تأبه لكلام العائلة واستخلصت لنفسها قطعة أرض قامت بإصلاحها بنفسها بمساعدة الفلاحين و تتحدث في المقال عن الزراعة وتطلب من النساء تقدير هذه المهنة وعن وجوب تأهيل الفلاح كما في أوروبا ليقدم أفضل النتائج: تقول “أشعر منذ الصغر بميل قوي إلى مزاولة الأعمال المجدية، ولما أتيح لي أن أرفع صوتي في المجتمع كان أول ما يخطر لي إذا وقفت خطيبة أو كتبت مقالاً موضوع العمل وما يجب أن يكون موقف المرأة منه. وما أمعنت التفكير في رقي بلادي إلا وثبت عندي أن السبيل إلى ذاك يكون بتأمين اقتصادياتها وتحرير شؤونها الحيوية ثم ما تدبرت أمر المرأة ومصيرها إلا وتأكد لدي أنها عبثاً تطلب مساواتها وتحررها عبثاً تتوخى بلوغها، مرتبة الشقيق إذا بقيت عالة عليه في حياتها.” وكانت نازك من أوائل من انتبهوا لمشكلة هجرة الشباب من الريف إلى المدينة وما سيخلفه ذلك من مشكلات مستقبلية، وتقول في الخطاب نفسه:” وأما ترك القرية ومغادرتها إلى المدينة للتحري عن العمل فهذا عارض أو علة اجتماعية يشكو الغرب منه ويوجس خفية من مغبته كل من الشرق والغرب. وما دامت المرأة العربية قد بدأت تفكر في العمل المجدي شئنا أم أبينا مراعاة للحياة الاقتصادية ومجاراة لروح العصر فأرى المجال متسعاً أمامي لأن أناديها بلغة الحب والحنان فأدعوها إلى الحقل، إلى الزراعة إلى الأرض”[17]. وكانت تربطها علاقة طيبة بالفلاحين إذ شاركتهم الزراعة واهتمت بفتيات يتيمات في الغوطة وأيضاً قاتلت معهم سلطات الانتداب في الثورة السورية.

نازك ومحاربة الطائفية 

لقد وعيت نازك لخطر الطائفية[18] ولا بد أن إدراكها هذا له علاقة باطلاعها ومعرفتها بالأحداث الطائفية الدموية التي حدثت في دمشق عام 1860، قبل ولادتها بسنوات قليلة وهزت المجتمع الدمشقي بعنف، خاصة أن عائلتها أجارت المسيحيين وقتها “وأثناء حوادث 1860، آجار عمر آغا وولده هولو باشا المسيحيين، وتقديراً لصنيعهما هذا قلدهما القنصل الروسي في دمشق وسام القديس ستانيسلاس”[19] وربما شاركت بالمناقشات الحادة التي حدثت حول حقوق الأقليات في المؤتمر السوري العام الذي عقد في 1919 – 1920 ومناقشات دين الدولة الوليدة التي خرجت من رحم الدولة العثمانية المنهارة والتي تتلمس النور، وبما أن نازك كانت تنحاز (لمدنية) الدولة كعدد لا بأس به من أفراد النخبة السورية المتنورة والعائدة من الغرب كعبد الرحمن الشهبندر الذي عُرِف بعلمانيته، ولمعرفتها أن مدنية الدولة ستسمح للمرأة بنيل حقوقها وبالانخراط في قضايا المجتمع بشكل حقيقي وفعال، إذ أنها كانت تدرك صعوبة هذا الأمر بعد أكثر من خلاف مع رجالات الدين الدمشقيين، لذلك نجد أكثر من إشارة لموقفها من الطائفية إن كان في مجلتها نور الفيحاء، حيث طرحت سؤال للرأي العام، ومن المفيد هنا عرض السؤال والاجابات التي تلقتها المجلة عليه وكان من ضمن من أجاب على السؤال هي ووالدتها السيدة فريدة الجلاد:

ما هي أنجع الوسائط لإماتة الطائفية في بلادنا؟

توحيد برامج المدارس والسير بالتعليم على خطة واحدة، (صبحية تنير)

أحسن الوسائط لإماتة الضغائن الطائفية هو الاعتقاد المتين في الشرائع الدينية لأن كل منها تحرض على احترام جميع الأديان (والدة نازك)

أحسن الوسائط توارد الشبان والشيوخ وكثرة الاجتماعات فيما بينهم وأن يتبادلوا الزيارات والولائم وأن لا تنزوي كل طائفة بمحلة خاصة بها (ع.س)

فصل التقاليد الدينية عن المصالح الدنيوية لأننا نرى أن زيداً يتحامل على عمرو ويحقد عليه بداعي الدين وإذا محضنا سبب الحقد نجده دنيوياً. 

أن نؤلف جمعية من كل الطوائف تبذل جهدها لتقوية دعائم الاتفاق (ث)

الجواب: العلم، العلم (م.ع)

التعارف والتوادد والتحابب والاعتقاد بأن الأديان وجدت لتهذيب العواطف البشرية وتثقيف الأفكار وخدمة الإنسانية التي ترى الضغائن بين الطوائف أنانية مجردة (نازك)”[20]

نلاحظ أيضاً اهتمام نازك بتنوع منابت وخلفيات السيدات اللواتي انضمّمن إلى جمعياتها ويتضح ذلك من خلال إحدى خطاباتها أمام عصبة المرأة العاملة التي أسستها في بيروت عام 1933، نورد ذلك الاقتباس من خطابها من مقال نسيم نصر في مجلة الأديب:

“وهذه النقابة التي تفاخر بأنها تألفت من كل الطوائف، ومن الطبقة الراقية المتعلمة تغتبط لأنها جمعت بين الفئة الممتازة من صاحبات المهن الحرة من طبيبات وصيدليات وقابلات وممرضات وكيماويات وصحفيات فضلاً عن الأستاذات والأديبات، وهي ترى من واجبها إثارة وطنية الأمة لترويج المصنوعات الوطنية”[21].

نسبها 

ولدت نازك العابد عام 1887من أسرة دمشقية عريقة إذ ينحدر آل العابد من عشيرة الموالي المشارفة. وهي قبيلة عربية صرفة تنتسب إلى قبيلة بني إبراهيم من بني مالك من جهينة، وقد استوطن جدهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق حوالي 1700. عمل أفراد الأسرة بتجارة الحبوب والمواشي، وأصبح لهم نفوذ واسع في حي الميدان، والدها مصطفى باشا العابد، من أعيان دمشق تولى متصرفية الكرك، وولاية الموصل في أواخر العهد العثماني[22]، ووالدتها السيدة فريدة الجلاد وهي من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي وكانت نازك تقوم بطرح الأسئلة عليها مع مجموعة من الأشخاص المتنورين في مجلتها نور الفيحاء. وتذكر ليندا شيلشر[23]. “يسلم مؤرخ الأسرة في يومنا هذا بما أجمعت عليه المصادر في القرن التاسع عشر من أن آل العابد يتحدرون من عشيرة الموالي. وأن جدهم محمد الذي استوطن الميدان عام 1700/1701، كان ابن قانص العابد أحد أمراء عرب المشارفة (المتفرعين عن الموالي) الذين ينتهون بنسبهم إلى بكر بن وائل. وكان أول من برز في دمشق من رجال هذا البيت عمر آغا العابد، وقد لمع اسمه إبان الحكم المصري. أما ولده هولو آغا (جد نازك) (1824/25-1895/1896) فبدأ عمله الوظيفي الذي اتسم بالنجاح في عهد التنظيمات معيناً قائمقام في سهل البقاع.

تربيتها وتعليمها: 

“درست اللغتين الألمانية والفرنسية على يد مدرسين خصوصيين، قبل أن تلتحق بمدرسة أمريكية خاصة في سوق ساروجا، كانت تملكها وتديرها سيدة أمريكية تُدعى “ميس أثينبرغ”[24]. نُفيت إلى أزمير مع سائر أفراد أسرتها سنة 1915، ودرست الزراعة في كلية ربورت الأميركية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. كان والدها رجلاً متحرراً في تربية أولاده، وقد أرسل شقيقها هولو إلى جامعة كامبريدج البريطانية، وشقيقتها ثريا إلى مدرسة الراهبات، قبل أن تتزوج الوجيه حمدي أكريبوز. ونظراً لتحرر بنات ثريا العابد في سلوكهنّ ولباسهنّ، صاروا مثالاً للتحرر في المجتمع الدمشقي، وصارت عبارة “بنات أكريبوز” تُطلق على أي مجموعة سيدات يعشن في جو متحرر ورفاهية كبيرة.”، درست نازك أيضاً أصول الإسعاف والتمريض، ومارسته في معالجة الجرحى في معركة ميسلون وفي الثورة السورية.

زواجها من نصير المرأة 

لم تتسرع نازك العابد في موضوع زواجها أبداً بل كانت عواطفها خاضعة لعقلها وإدراكها المتطور عن بنات جيلها، وكانت تتصرف كما تفكر تماماً، إذ طالما طالبت الرجال أن يختاروا شريكات حقيقيات، والنساء أن تطالبن بحقوقهن، في مقالاتها وخطاباتها، لذلك كانت تبحث عن شريك حقيقي في النضال من أجل ما تؤمن به من قيم وقضايا إنسانية ووطنية وعلى رأسها قضية المرأة لذلك تأخرت في موضوع الزواج حتى عام 1929 إذ اختارت العلامة والمؤرخ البيروتي محمد جميل بيهم (1887-1978) ليكون زوجها، وكانت قد تعرفت عليه في جلسة المؤتمر السوري الأول في عام 1920 في دمشق، وهو من أهم المناصرين لحقوق المرأة، نقتطف من مقال “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” ما يوضح دوره وأهميته في ذلك “من الأهمية بمكان القول، إن الحركة النسائية في بيروت المحروسة شهدت مؤيدين لها من رواد النهضة الفكرية والسياسية، ويأتي في مقدمتهم العلاّمة المؤرخ محمد جميل بيهم (1887-1978)؛ فمنذ عام 1919 طلبت منه الأميرة نجلاء أبي اللمع – صاحبة مجلة الفجر – الكتابة عن نشاط المرأة، فكتب مقالاً بعنوان «مؤتمر النساء في بيروت». كما كان يومذاك أحد المشاركين في المؤتمر النسائي الذي عقد في الجامعة الأميركية في بيروت تأييداً للمرأة. وفي عام 1922 شارك في حفل تكريم الأديبة مي زيادة، وبات محمد جميل بيهم نصيراً لقضايا المرأة في بيروت المحروسة ولبنان والعالم العربي. لذلك، حرص على نشر آرائه وتأييده لقضايا المرأة من خلال المحاضرات والندوات، ففي عام 1928 ألقى محاضرة مهمة في طرابلس عن تحرير المرأة. وفي عام 1929 اجتمع بمندوبة مؤسسة روكفلر السيدة روس وود سمول باعتباره نصيراً للمرأة، وكان هدفها من هذا الاجتماع الاطلاع على الحالة الاجتماعية للمرأة في المشرق العربي. وفي عام 1929 سافر إلى أوروبا بصحبة زوجته السيدة نازك العابد لنشر الدعاية للنهضة النسائية اللبنانية والعربية، وذلك بالتنسيق مع رائدات العمل النسائي في لبنان وسورية. وحرص محمد جميل بيهم الإسهام في رفع مكانة المرأة أينما كانت، لذلك، أسس عام 1933 «جمعية مكافحة البغاء» منتقداً سلطات الانتداب الفرنسي التي شجعت على آفة البغاء في لبنان بواسطة التشريعات والقوانين التي كانت تصدرها.
وما هي إلا سنوات حتى أصبح محمد جميل بيهم وقضايا المرأة توأمان لا ينفصلان، لهذا، لم يكتفِ بإلقاء المحاضرات والندوات واللقاءات الصحافية، بل أصدر عدة كتب حول المرأة وقضاياها وتاريخها منها:
1- كتاب المرأة في التاريخ والشرائع.
2 – كتاب المرأة في التمدن الحديث.
3 – كتاب فتاة الشرق في حضارة الغرب.
4 – كتاب المرأة في حضارة العرب، والعرب في تاريخ المرأة.
5 – كتاب شاهد عيان يسد فراغاً في التاريخ.
لقد استمر محمد جميل بيهم حتى وفاته عام 1978 يدافع عن المرأة وحقوقها وحقها في التعلم والتعبير والمساواة، ورفض التمييز العنصري والوظيفي، ورفض العنف الأسري، ورفض انتهاك كرامتها، وحقها في الطبابة، وفي السياسة وفي العدالة الاجتماعية”[25].

موتها 

توفيت نازك العابد عام 1959 عن عمر ناهز 72عاماً في لبنان، لكن جثمانها نقل إلى مدافن عائلتها، رغم أن معظم المعلومات على الإنترنت تشير إلى أنها دفنت في مقبرة الآس في الميدان، لكن عندما ذهبت إلى منطقة الميدان وبحثت عنها لم يعرف أحد من أهل الميدان مقبرة الآس، لكن عندما سألتهم عن نازك العابد أخبروني أنها في مقبرة آل العابد عند بوابة الميدان، وعندما وصلت الى هناك وجدت مدافن آل العابد أو مدافن هولو باشا العابد تحتضن ضريح نازك مع عدد من أضرحة عائلتها في مدفن خاص مسور.

نقش على لوح ضريحها ما يلي: ” يا رحيم العباد، هذا ضريح المرحومة نازك خانم بنت المرحوم مصطفى باشا العابد رائدة النهضة النسائية بدمشق، عاشت مكافحة تخدم مجتمعها بإخلاص، مناضلة لرفعة قومها والإنسانية، أسست المدارس والنوادي والجمعيات الخيرية، ونادت باستقلال العرب. ولدت في دمشق سنة 1316هـ وتوفيت في 14 صفر سنة 1379 هـ الموافق 20 آب 1959 م[26].

لم تنجب نازك العابد أطفالاً، لكنها قامت بتبني طفلة يتيمة ربتها ودرّستها في الجامعة الأمريكية في بيروت، لكن لم يُستدل عليها حتى اليوم.

نازك الملهمة

يحمل اسم نازك بأصليه الفارسي والتركي معنيين مختلفين من جهة الرقة والرهافة ومن جهة أخرى الصلابة والحدة، المرأة الرقيقة كحد الرمح، وهما سمتا شخصية نازك العابد المرأة الجميلة والمثقفة والعاملة الصلبة الجادة في مسعاها لتحقيق أهدافها، لقد كانت منارة لبنات جيلها.

كانت نازك العابد ملهمة للكثيرين من أبناء وطنها والعالم، حتى أن بعض الآباء سموا بناتهن تيمناً بها مثل والد الشاعرة العراقية نازك الملائكة رائدة الحداثة الشعرية، أيضاً ألهمت سيرتها وكفاحها الكثيرين ومنهم الكاتبة البريطانية الرحالة المغامرة روزيتا فوربز، في روايتها المعنونة:

“Quest:The Story of Anne” وصدرت بعد عامين من معركة ميسلون[27].

لقبت نازك بعدة ألقاب منها ما لقبتها به الصحافة الغربية جان دارك العرب أو الشرق، وسيف دمشق، والوردة الدمشقية وغيرها، كُرِمت من قبل الملك فيصل ومنحها لقب جنرال فخري لدورها في معركة ميسلون الخالدة وحازت على رتبة نقيب في الجيش السوري، وكانت أول امرأة سورية تتصور بالزي العسكري دون حجاب، حازت على عدة أوسمة، وسام الشفقة من السلطنة العثمانية، ووسام الاستحقاق من الدولة اللبنانية، ولقب جنرال فخري من الملك فيصل، فكانت أول امرأة تدخل الجيش السوري.

هوامش:

[1]: مجلة العروس عنوان المقال “حول مآتم عبد الحميد” للآنسة نازك كريمة مصطفى باشا العابد.

[2]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022 -ص 79-80-81.

[3]: المصدر نفسه.

[4]: مجلة الحوار الثقافي العدد 2-2021 بحث جرادي سكينة ونورية سوالمية “دور الفضاء العمومي في تشكيل التواصل الاجتماعي”.

[5]: مجلة العرفان العدد 8-9 تاريخ الإصدار 1939 الصفحات 771-772-773-774 عنوان المقال “في سبيل فلسطين” وهو الخطاب الذي ألقته السيدة نازك العابد بيهم. في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة برئاسة هدى شعراوي عام 1938 بحسب نسيم نصر، مجلة الأديب.

[6]: مجلة العروس 1910-1926 لصاحبتها ماري عجمي، وهي مجلة نسائية علمية، أدبية، صحية، فكاهية.

[7]: مجلة الحارس كانت تصدر من حيفا مجلة دينية مسيحية تؤكد على الأبعاد الأخلاقية عبر نشر أعمال أدبية منقولة غالباً عن الإنكليزية، وكانت كنيسة حيفا هي الهيئة التي أصدرت المجلة. ولكن صاحب الامتياز هو سامي أبو حمد وقد شارك رجل الدين الأجنبي ل ويتمان صاحب امتياز مجلة مصباح الحق الصادرة بين السنتين 1938-1940 في هيئة تحرير المجلة.

[8]: مجلة العرفان اللبنانية 1909-1936 مجلة علمية، أدبية، أخلاقية، اجتماعية، أسسها الشيخ أحمد عارف الزين.

[9]: مجلة لسان العرب 1918-1919 صحيفة يومية صدرت من دمشق خلال عهد الملك فيصل الأول وكان رئيس تحريرها خير الدين الزركلي.

[10]: مجلة الأديب صدرت في لبنان 1942-1983 مجلة شهرية كان رئيس تحرير ألبير أديب.

[11]: مجلة الفيحاء هي المجلة التي أصدرتها نازك العابد عن جمعيتها نور الفيحاء، صدر العدد الأول في كانون الثاني عام 1920، صدر منها ثمانية أعداد فقط.

[12]: سامي مبيض مقال في رصيف 22 “بعد 100 عام على غيابها …مجلة نور الفيحاء الدمشقية في جامعة هارفارد 4-2-2022.

[13]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022.

[14]: مجلة الأديب العدد 2-1961 صفحة 16.

[15]: مجلة العرفان اللبنانية العدد 4-1946 الصفحات 359-360-361.

[16]: كلية روبرت الأمريكية، هي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. سامي مبيض “طريق الحداثة مر من دمشق ” صفحة 73.

[17]: مقال نازك “المرأة في الحياة الزراعية” مجلة الأديب العدد 6 تاريخ الإصدار 1 يونيو 1943.

[18]: ما يقال له فتنة 1860- وما سمي شعبياً “طوشة النصارى” حيث قتل خلال سبعة أيام أكثر من خمسة آلاف مسيحياً في منطقة باب توما وبعض حارات القيمرية، سامي مبيض “نكبة النصارى” دار الريس الطبعة الأولى 2020.

[19]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” ترجمة عمرو ودينا الملاح صفحة 187.

[20]: مجلة نور الفيحاء العدد 6 – 1920.

[21]: مجلة الأديب نسيم نصر العدد 2-1961.

[22]: موقع التاريخ السوري المعاصر.

[23]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع” ص 186-187-188.

[24]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق” دار الريس 2022 ص73.

[25]: مقال بعنوان “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” 2013.

[26]: زيارة خاصة قمت بها لمدافن العائلة في حي الميدان.

[27]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق”.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

الذكاء الاصطناعي وحدوده: حوار مع الخبير والباحث السوري فراس محمد

تعود صداقتي مع المهندس والباحث السوري في مجال الذكاء الاصطناعي والمتخصص في التكنولوجيا المبتكرة فراس محمد إلى أيام الطفولة، حيث كانت عائلتي وعائلته تسكنان في بيتين متقابلين في سوريا يفصل بينهما شارع كان مداراً لقصص ومشاكل تلقي ضوءاً على مرحلة مفصلية. جمعتنا الطفولة، ثم فرقتنا الظروف والانشغالات واجتمعنا مرة أخرى بعد مرور سنين كثيرة في كاليفورنيا حين كان فراس مدعواً إلى وادي السيليكون إلى طاولة مستديرة مع ٤ خبراء عالميين لمناقشة وتوصيف مستقبل حلول الذكاء الاصطناعي بالنسبة لصناعة أنصاف النواقل والدارات المتكاملة. أثناء هذه الزيارة حدث لقاء معه بعد انقطاع طويل، وتجددت النقاشات حول الأوضاع السياسية العامة في سوريا، وحول تخصصه واهتمامه نظرياً وتطبيقياً بالذكاء الاصطناعي. وبما أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ يغزو الإعلام وصار حديث الساعة في المدة الأخيرة، ارتأينا أن نجري في ”صالون سوريا“ حواراً مع المهندس والباحث والمُخْترع الذي سُجل له اختراعان في مجال الذكاء الصناعي فراس محمد، لإلقاء الضوء على نشاطه العلمي وعلى المصطلح نفسه وما الذي يجري على الصعيد العلمي في هذا المجال.
فراس محمد رائد سلسلة من المشاريع ويمتلك خبرة تجاوزت خمسة وعشرين عاماً في أشباه الموصلات وأتمتة التصميم الإلكتروني (إي دي إي). فاز في ٢٠٠٥ بالجائزة الوطنية الفرنسية في التقنيات الإبداعية ما دفعه إلى تأسيس شركة إنفينيسكيل إس. إي، وخدم كرئيس ومدير تنفيذي لها إلى أن استحوذت عليها سيلفاكو في ٢٠١٥ وشغل منصب المدير العام لشركة “سيلفاكو فرانس” Silvaco France ونائب الرئيس للبحث والتطوير المتقدم حتى بداية عام ٢٠٢٣.
بدأ عمله المهني في مينتور جرافيكز Mentor Graphics مع فريق محاكاة سبايس، حيث أشرف على بيئة النمذجة والتحسين في عام ٢٠٠٠، وتولى إدارة تطوير تقنية التصميم بمساعدة الحاسوب CAD في شركة ميمسكاب إس إي MEMSCAP SA وهي شركة مقرها فرنسا وتعمل في مجال توفير الحلول القائمة على الأنظمة الكهروميكانيكية الدقيقة.
كان المهندس فراس محمد من بين أوائل من أدخلوا الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلات إلى أتمتمة التصميم الإلكتروني في ١٩٩٣. وكان رئيساً مشاركاً في إس آي تو للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلات Si2 AI/ML، وهي مجموعة مصالح خاصة.
ألف وشارك في تأليف عشرات الأبحاث العلمية، ويحمل براءتي اختراع في تحسين تعلم الآلات من أجل حلول أتمتمة التصميم الإلكتروني. حصل على شهادة مهندس في علوم الحاسوب وعلى الدكتوراه في الإلكترونيات الدقيقة من المعهد العالي الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا في غرونبل، فرنسا. التقيناه في كاليفورنيا، حيث كانت بداية هذا الحوار.

صالون سوريا: من أين جاء مصطلح الذكاء الاصطناعي وكيف بدأ دخوله إلى عالمنا؟

فراس محمد: قبل الحديث عن مصطلح الذكاء الاصطناعي، أحبّ أن أذكّر بالخوارزمي العظيم الذي يُنْسب إليه علم الخوارزميات، ذلك أنه كتب أول خوارزمية بالعربية في ٨٣٠ م. وبالعودة إلى الذكاء الاصطناعي يمكن القول إنه بدأ مع آلان تورينغ وآلته الشهيرة التي اخترعها في ١٩٥٠. وفي ١٩٥٦، أطلق ماكارتي مصطلح الذكاء الاصطناعي وعرفه على أنه علم جعل الآلات ذكية. ثم في ١٩٥٩، أطلق لي صامويل مصطلح تعلم الآلات والذي يُعد جزءاً من الذكاء الاصطناعي.

ص.س: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز الذكاء البشري؟ متى يمكننا القول إن الذكاء الاصطناعي أعلى من الذكاء البشري؟

ف.م: بالنسبة للسؤال أراه مشروعا جداً، في رأيي إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتجاوز الإنسان في جميع الأعمال التي تتطلب قدرات حسابية عالية. يجب أن يذكرك هذا الأمر باختراع الآلة الحاسبة وتفوقها على البشر في سرعة ودقة العمليات الحسابية. إن الذكاء الاصطناعي خليط من برامج يطورها الإنسان وتجارب يعطيها له كي يجعل هذا البرنامج ذا قدرات استنتاجية. إن الذكاء الاصطناعي يبقى محدوداً ضمن نطاق ما نؤهله له من قدرات رياضية وتجارب. يمكن أن نتخيل أن الذكاء الاصطناعي يقوم بتطوير برامج وإجراء تجارب جديدة وبالتالي يحسن نفسه كالإنسان لكن تبقى هناك أسئلة مهمة: هل وصل إلى مرحلة يضاهي فيها ذكاء الإنسان؟ بالتأكيد لا.  هل وصل لمرحلة الإبداع؟ لا. هل يمكن أن نقارنه بالموهبة؟ لا..

كما قلتُ سابقاً، يعتمد الذكاء الاصطناعي على توابع رياضية ونماذج وبنى محددة وكذلك على المعطيات والتجارب التي تتوفر له. إن أي نقص أو خلل في هذه المكونات سيؤثر بالتأكيد على نجاحه. يخرج ذكاء الإنسان عن هذا النموذج ويتجاوزه بشكل يكون أحيانا غير واضح. إن الكثير من ذكائنا حسي تتخفى فيه الرياضيات ومعادلاتها وتوابعها وبناها ويظهر عوضاً عنها قدرات حسية تستطيع اتخاذ قرارات صائبة في ظروف شديدة التعقيد.

ص.س: كيف بدأ اهتمامك بهذا الموضوع، وما هو تخصصك الأساسي فيه؟

ف.م: في الحقيقة بدأ اهتمامي الفعلي بعد مجيئي إلى فرنسا من أجل تحضير رسالة الدكتوراه. كنت أبحث عن مواضيع جديدة بعيدة عن مواضيع المعلوماتية الكلاسيكية. وفعلا وقعت على موضوع مميز هو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في فحص وتشخيص الأعطال في الدارات الإلكترونية وكان هذا سنة ١٩٩٣. بعد التخرج تابعت العمل في شركات تكنولوجية وكانت دائما تقنيات الذكاء الاصطناعي أدواتي المعتمدة.

في الحقيقة، كان مساراً طويلاً لإدخال وتطبيق تقنيات الذكاء في تطوير وتحسين تصميم وتصنيع الدارات المتكاملة.

ص.س: كما تعلم إن البلدان العربية تعيش في إطار الاستهلاك في عصر التكنولوجيا والتقدم، وهي طرف فيه له وجود من ناحية الاستهلاك لا من ناحية الإبداع، ورغم ذلك نجد بلداناً كثيرة تهتم بهذا الموضوع، كيف يمكن أن يخدم الذكاء الاصطناعي في بلدان تعتمد آليات السيطرة والإكراه والضبط وتوجيه الذكاء لخدمة السلطة؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي سيطيل من عمر البنى القمعية في المجتمع العربي؟

ف.م: للأسف، كما كانت أجهزة الأمن سبّاقة إلى اعتماد الأتمتة قبل الجامعات والمدارس والمشافي وكل مؤسسات الدولة الأخرى، ستكون سباقة في استخدام الذكاء الاصطناعي للأهداف نفسها.

بالتأكيد، توفر تقنيات الذكاء قدرة هائلة على تحليل الصور والأصوات والنصوص وبالتالي إمكانية متابعة الأفراد، وتمييز توجهاتهم، وتقييد حرياتهم وقمعهم. ويجب ألا يفوتنا التذكير أن استخدام هذه التقنيات لا يقتصر فقط على الدول الاستبدادية، نحن نشهد تقييداً للحريات في بعض الدول الديموقراطية أيضا وأوضح مثال على ذلك هو انتشار كاميرات المراقبة في الشوارع ومراقبة الأفراد ورصد تحركاتهم عن طريق تقنية التعرف على الوجوه.

أخشى أن يكون جوابي على سؤالك هو بنعم.

ص.س: نسمع الكثير عن الذكاء الاصطناعي، ولكننا نفتقر للرأي العلمي، برأيك إلى أين وصل هذا الذكاء؟ ما المجالات الأساسية التي يمكن أن يُستخدم فيها؟

ف.م: شهد الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية منذ بداية عام ٢٠٠٠ أعادت الثقة به وفتحت مجال الاستثمارات الضخمة والانفتاح على تطبيقاته الهائلة. معالجة الصور، معالجة النصوص، معالجة الأصوات، الترجمة التلقائية للغات هي من أكثر التقنيات المعروفة والناجحة، تطبيقاتها متعددة تشمل التعرف على الوجوه والأشكال وترجمة النصوص بطريقة ذكية والتعرف على الكلام وتنفيذ الأوامر والطلبات ولقد أصبحت هذه التطبيقات كلاسيكية ومستخدمة في حياتنا اليومية.

وأتاح التقدم في هذه التقنيات الإمكانية للتقدم في مجال العربات ذاتية القيادة أرضاً أو جواً والتقدم في درونات (الطائرات المسيرة) وروبوتات الخدمة وغيرها …

هذه التطبيقات تُعد محسوسة وسهلة الإدراك نسبياً. هناك تقنيات متقدمة جداً، ولكن تطبيقاتها أقل إدراكاً وهي نمذجة المعطيات والتي أتاحت النمذجة الرياضية لظواهر طبيعية وبالتالي تحسين الأداء، أو الإنتاجية، أو الفعالية أو الحصول على توقعات دقيقة. مثلا، تحسين أداء شركة أو تنظيم مشفى …. طبعاً، سمعنا جميعاً عن البدء بتطوير أدوية جديدة أو توقع تغييرات في البورصة.

مؤخراً، صار بمقدور شات جي بي تي التي نقلت مولدات البحث إلى مستويات جديدة ذكية فهم النصوص وإعادة تشكيلها. وقد يكون من المهم أن تجرب بنفسك هذه الأدوات وتطلب منها تأليف أشعار أو قصص. يمكنك أن تدربها على بعض من قصائدك وتطلب منها أن تؤلف شعراً على نمطها، وإنتاج فيديوهات، وابتكار ألعاب.

ص.س: ما هي المجالات الأساسية التي يمكن أن يفيدنا فيها الذكاء الاصطناعي كعرب إذا توفرت بيئة علمية حقيقية له على الصعد كافة؟ 

ف.م: إذا لم ينتبه الأفراد والمؤسسات والمنظمات أو الحكومات إلى المستوى الذي وصل إليه الذكاء الاصطناعي والفائدة التي يمكن أن تُجنى منه في كافة المجالات فسيجدون أنفسهم متأخرين جداً عن اللحاق بركب الآخرين. بدأ أثر الذكاء الاصطناعي يظهر في جميع المجالات الصناعية، والتكنولوجية والإدارية والثقافية والتعليمية، والخدمية والترفيهية وغيرها. 

بالنسبة للدول العربية ومثيلاتها يمكن أن تكون الفائدة أكبر وتساعد في تسريع تطورها (وهو ما أسميه ركوب الموجة) وذلك بسبب الهوة التكنولوجية العميقة التي تفصلها عن الدول المتقدمة.

ص.س: ثمة معلومات توجه الذكاء الاصطناعي بطريقة أو بأخرى؟ في بلدان تتسم بالثقافة الأصولية الغيبية وبالسياسة الاستبدادية وبحجب المعلومات، والتعتيم على الحقائق، هل تلعب طبيعة ”الزاد المعلوماتي” ، إذا صحت التسمية، دوراً في توجيه الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي قد يكون بطريقة ما أصولياً؟ ألا يحتاج إلى بيئة حرة وتتسم بدقة المعلومات ومواكبة العصر؟

ف.م: سؤال مهم جداً. إن الذكاء الاصطناعي كالذكاء الطبيعي يعتمد على المعطيات التي نوفرها له. فكما هو الحال بالنسبة للتلاعب بالمعلومات من أجل التحكم بقرار الإنسان أو توجهاته فكذلك هو الأمر بالنسبة للذكاء الاصطناعي. إن تحريف المعطيات أو التلاعب بها سيجعل ببساطة من إمكانات هذا الذكاء محدودة أو خاطئة. 

أعتقد أن الفكرة واضحة، إن دقة المعلومات وشموليتها، أقصد قدرتها على تغطية الفضاء المطلوب دراسته وكميتها عامل مهم في كفاءة الذكاء الاصطناعي. إدخال مفهوم الحرية في هذا السؤال أراه رائعاً. في الحقيقة، يمكنني أن أربط كفاءة وقدرة الذكاء الاصطناعي بالحرية التي نعطيها له. قدرته الإبداعية ستكون مرتبطة بشكل مباشر بالفضاء الذي سنبنيه فيه.

ص.س: يتجلى الذكاء الصناعي في صناعة الروبوتات، وهناك بعض العلماء وكان بينهم ستيفن هوكينغ خافوا من احتمال أن يتمرد الروبوت على صانعه، ومن أن يقتله في بعض الحالات وأن يعيث دماراً في الكون، ما دقة طروحات كهذه؟

ف.م: لست من أنصار هذه النظريات. أعتقد أننا نستطيع التحكم بالروبوت وتحركاته. طبعا من السهل أن نعلّم الروبوت التمرد أو أن يصبح قاتلًا. الروبوتات المقاتلة أصبحت جزءاً من تسليح الجيوش اليوم، ولكن قدرتها على تعلم التمرد والقتل لا يمكن أن تنجح إلا إذا قمنا بإعدادها لذلك. 

لنفكر في شيء من الخيال العلمي، إن تعريف الذكاء الاصطناعي يفترض أن يتعلم البرنامج تلقائياً وبالتالي فوضعه في بيئة مشوبة بالتجارب المنحرفة يفترض أيضاً أن تجعله قادراً على الانحراف. ومع ذلك أعتقد أننا نستطيع الحد من كل ذلك وتوجيهه بالاتجاه الذي نريده.

ص.س: ما هي العقبات التي تعرقل عملك في هذا المجال عربياً؟

ف.م: للأسف لم ندخل بعد بشكل حقيقي في مجال نشر الذكاء الاصطناعي وتعميمه في الدول العربية حتى نتكلم عن العراقيل بشكل موضوعي، ورغم ذلك أوضحت تجاربي المحدودة مؤخراً أن هناك عقبة كبيرة وأساسية هي الحصول على المعطيات والتي هي، وكما ذكرتُ سابقاً، عماد بناء الذكاء الاصطناعي. فقد وقعنا على حالات لم تكن المعطيات متوفرة فيها، أو متوفرة ولكنها و لسبب أو لآخر لا يمكن مشاركتها، أو متوفرة ويمكن مشاركتها ولكنها ليست جاهزة، أقصد أنها غير كاملة أو غير كافية. 

من المعروف أن بلداننا ما تزال متأخرة في مجال تنظيم وحفظ المعطيات وهذا يتطلب مرة أخرى معالجة قانونية وإدارية وتنظيمية وأعتقد أن هذه المعالجة هي طريق دخولنا إلى عالم الذكاء الاصطناعي هذا إذا افترضنا الإرادة الحقيقية لذلك.

ص.س: أطلقتَ مرة في سوريا مشروعاً صغيراً على المستوى المحلي لا علاقة له بالمؤسسات الرسمية، ماذا كانت حدود الحرية المتاحة لك كي تنطلق في هذا المجال، في ظل غياب المؤسسات العلمية والأكاديمية القادرة على احتضان مشاريع مستقبلية كهذه؟

ف.م: بدأت بإنشاء معهد خاص لتعليم الذكاء الاصطناعي في سورية. أعتقد أنه كان أول معهد متخصص في هذا المجال. وضعت له قواعد صارمة كي يكون تجربة علمية حقيقية بعيداً عن أي أهداف تجارية أو توظيف سياسي. كنت مقتنعا أنه بالرغم من الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد فسيكون هناك الكثيرون من المتعطشين لإطلاق تجارب من هذا النوع. والتجربة أثبتت نجاحها بشكل كبير. هذا المشروع العلمي فتح لنا آفاقاً كبيرة من ناحية إقامة مشاريع بحث علمي متقدمة تقارع مشاريع أعمال أقوم بها في فرنسا ودول أخرى.  وفي الحقيقة بدأت هذا المشروع مدركاً بشكل كامل للصعوبات والمعوقات التي يمكن أن يواجهها، سواء كانت إدارية، علمية أو غيرها وبالتالي كل ما نحققه نراه إيجابياً ويعطينا دافعاً للاستمرار. نحاول التواصل مع المؤسسات العلمية المختلفة لإنشاء وتوسيع المنظومة والتواصل مع مؤسسات أخرى للحصول على معطيات واقعية يمكن استخدامها في مسائل محلية. يجب أن أعترف أن نجاحنا هنا مازال محدوداً، ولكن هذا لن يجعلنا نتوقف أو نتراجع.

ص.س: أين تنشط عربياً في هذا المجال، وما الذي تقوم به بالضبط؟

ف.م: أحاول توسيع الدائرة والنشاط خارجياً. طبعاً من البديهي أن أنشط في فرنسا بحكم وجودي فيها ولكنني اتجهتُ عربياً واكتشفت أن دول الخليج العربي تبنت مشاريع وخططاً كبيرة في هذا المجال. حتى الآن، استطعت التواصل مع السعودية والإمارات والحقيقة إن البداية مشجعة جدا وتدعو للتفاؤل.

 شهوَةُ القِصَاصِ من ليبيدو حزينٍ

 شهوَةُ القِصَاصِ من ليبيدو حزينٍ

يعودُ الوحشُ إلى ما يظُنُّ أنَّها ذاتُهُ،

فتَزِيغُ بينَ يديْهِ الدَّلالاتُ،

وتَسِيلُ عطراً مُلتبِساً بالنَّارِ.

يُلقِي التُّهَمَ على خِداعِ الطَّريقِ المُنمَّقِ الأنيقِ

على تَمويهِ العابِرَينَ في باطِنِ ساعاتٍ ذهبيَّةٍ

وعلى وُعودِ التَّلويحاتِ البعيدَةِ الغامِضَةِ.

يعودُ، كي يَستأنِفَ الأسئلَةَ

فتُحاصِرُهُ ظلالُهُ المُبعثرَةُ

بأجوبَةٍ قد تُرْجَأُ

إذا صدقَتِ المَرايا معَ نُسْغِ الأشجارِ، لا معَ أغصانِها..

(وهذا ما لا يحدُثُ إلّا بتبادُلِ الحقيقَةِ والمَجازِ للخِياناتِ باستمرارٍ).

طريقُ الوحشِ مَرشوشَةٌ بماءِ زهرِ اللِّيبيدو الحزينِ.

ما أرادَهُ اللِّيبيدو منذُ نُعومَةِ الأُغنياتِ

هوَ تعريةُ الوحشِ تحتَ مِقصلَةِ الحُرِّيَّةِ

لا ترويضَ الخُطَى بوُصولٍ مُستحيلٍ.

/  كأنْ تُنظِّفَ المَسَامَ المقلوبَةَ

خَناجِرَ في نقْيِ العِظَامِ

منَ التَّلوُّثِ السَّمعيِّ والبصَريِّ

على امتدادِ أرصفَةٍ ثكلى على الجانبيْن

لكنَّ للعالَمِ مَداخِلُهُ التي لا يعرِفُها هوَ نفسُهُ  /

بينَ الولادَةِ والموتِ

اللِّيبيدو ليسَ سُلَّمَاً للعُلُوِّ

ولا مُنطاداً للتَّرفيهِ

ولا حتَّى ذرَّاتِ هواءٍ مائلٍ.

ثمَّةَ قفلٌ بلا مفاتيحَ في حمَّالَةِ أثداءِ مُشعوِذَةٍ

يُقالُ إنَّها تُقيمُ معَ الأفاعي الصَّريحَةِ جدَّاً

في وادٍ مَجهولٍ..!!

الغابَةُ، كذلكَ، لها اقتراحاتُها

لفصْلِ الوحشِ عن وهمِ اللِّيبيدو الأثيرِ

لمَحْوِ رغبَةِ الأنا

بأنْ تُرفرِفَ ذاتاً

تحتَ غُيومٍ شاعِرَةٍ

أو فوقَ بحرٍ هرَبَ خارِجَ حُفرَتِهِ.

: الغابَةُ غيرُ المَوجودَةِ أصلاً…….

أقصَى ما يحلُمُ بهِ الوحشُ

أنْ يقتُلَ اللِّيبيدو

ويُذوِّبَ جثَّةَ الفراغِ بالأسيدِ

ثُمَّ أنْ يقذِفَهُ الطَّريقُ رُجوعاً

إلى أوَّلِهِ/ آخِرِهِ.

سلاماً أيُّها الرَّحَّالَةُ

في هَوادِجَ من سَرابٍ.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

الشحرور الذي غرّد خارج السرب

الشحرور الذي غرّد خارج السرب

ولد محمد شحرور في دمشق عام- ١٩٣٨ لعائلة متوسطة الحال. كان والده صباغاً وتلميذاً عند الشيخ الألباني، أتم تعليمه الثانوي في دمشق وحاز على الثانوية العامة عام 1958، وسافر بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي لإكمال دراسته في الهندسة المدنية. تخرج بدرجة دبلوم عام ١٩٦٤ من جامعة موسكو، ثم عاد لدمشق ليُعين فيها معيداً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق حتى عام ١٩٦٨. أوفد إلى جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير عام ١٩٦٩ والدكتوراه في الهندسة المدنية- اختصاص ميكانيك تربة وأساسات عام ١٩٧٢، عُيّن في نفس العام مدرساً في كلية الهندسة المدنية جامعة دمشق لمادة ميكانيك التربة ثم أستاذاً مساعداً. افتتح مكتباً استشارياً لممارسة المهنة كاستشاري عام ١٩٧٣، واستمر يمارس عمله كاستشاري حتى سنوات حياته الأخيرة. قدم وشارك في العديد من الاستشارات الفنية لكثير من المنشآت الهامة في سوريا وله عدة كتب في مجال اختصاصه تعتبر مراجع هامة لميكانيك التربة والأساسات. توفي في ٢١-١٢-٢٠١٩ في أبو ظبي الإمارات العربية المتحدة.

لحظتان فارقتان أثرتا في مجرى حياته:

اللغة: فقد أثار انتباهه إتقانه للغة الروسية وفهمها فهماً تاما بوقتٍ لا يتجاوز العام، بينما لغته الأم، اللغة العربية لم يستطع فهمها. فقد كان يقرأ القرآن دون أن يشعر أنه فهمه فهماً دقيقاً.

 الماركسية: فعلى الرغم من كون الماركسيين ملحدين إلا أنه وجد عندهم منطقاً متماسكاً ومع أنه غير مطابق للواقع حسبما رأى  إلا أنه عجز عن الرد عليهم من خلال ثقافته ذلك الوقت.

يضاف إلى ذلك ما آلت إليه حال العرب بعد هزيمة عام ١٩٦٧  والآراء التي ظهرت في أسبابها، فشيخُ جامع يقول هزمنا لأن النساء كاسياتٌ عاريات، وعلماني يرجع الهزيمة لصيام شهر رمضان، الأمر الذي جعله يدرك وجود خلل في نتاج العقل العربي سواء كان إلحادياً أو دينياً.

فكان أن بدأ في دراسة التنزيل الحكيم (على حد تعبيره) بعد عودته من موسكو وهو في إيرلندا بعد حرب عام ١٩٦٧ وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، وقد توصل إلى نتائج جديدة مغايرة لما هو سائد في التراث العربي الإسلامي.

يصنف عمله بأنه محاولة شاملة للتوفيق بين دين الإسلام والفلسفة الحديثة، على ضوء التطورات العلمية والنظرة العقلانية في العلوم الطبيعية. فهو يرى أنه لا يوجد فرق بين ما جاء في القرآن الكريم وبين الفلسفة. وتنحصر بفئة الراسخين في العلم مهمة تأويل القرآن طبقاً لما توصل إليه البرهان العلمي. ودعا إلى فلسفة إسلامية معاصرة، تعتمد المعرفة العقلية التي تنطلق من المحسوسات. وينطلق من أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي وأن المعرفة الحقيقية ليست مجرد صور ذهنية بل تقابلها أشياء في الواقع الخارجي وهذا عين الحقيقة وهو بهذا على عكس الفلاسفة المثاليين القائلين إن المعرفة الإنسانية ماهي إلا استعادة أفكار موجودة مسبقاً.

كما يتبنى النظرية العلمية القائلة: إن ظهور الكون المادي كان نتيجة انفجار هائل، أدى إلى تغير طبيعة المادة. ويرى أن انفجاراً هائلاً آخر مماثلاً للأول سيؤدي حتماً لهلاك هذا الكون وتغيير طبيعة المادة فيه ليحل مكانه كون مادي آخر، وهو يعني بذلك أن الكون لا ينشأ من عدم (مع تأكيده أنه لا قديم إلا الله)، بل من مادة أخرى. وأن هذا الكون سيزول ليحل مكانه كون آخر من مادة مغايرة، وهذا ما ندعوه (الحياة الآخرة).

ركّز الدكتور شحرور في مشروعه الإصلاحي على المشكلة الجوهرية التي واجهت الفكر الإسلامي، وهي أن تعريفنا التراثي للإسلام هو الذي أوقع كل المتناقضات التي نعيشها في حياتنا، وجعلنا قاصرين عن مخاطبة العالم على أساس تصالحي وتعددي. فأعاد تعريف كلاً من المسلمين والمؤمنين، وهو بهذا يريد أن يجعل خطاب الإسلام عالمياً يتسع لغير المسلمين، وذلك بتوسيعه لتعريف المسلم ليشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، وهذا التعريف يشمل غالبية سكان الأرض. بينما المؤمن من آمن بالله والرسالة المحمدية.

تابع شحرور مشروعه النقدي التحديثي للفكر الإسلامي، مضيفاً لبنة جديدة إلى المنهج الذي سعى من خلاله إلى إظهار عالمية الإسلام وإنسانيته بوصفه رسالة رحمانية، لا علاقة طاغوتية، فقد قدم مفهوماً معاصراً للحاكمية الإلهية التي وصفها أنها تمثل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم، والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانية، ويتجسد من خلال الانقياد الطوعي للحاكمية الإلهية، ويرى أن هذا الولاء هو الرادع لكل من تسول له نفسه ممارسة الطغيان وسلب الناس حرياتهم.

وبذلك يمكن القول إن شحرور عمل على إعادة تأسيس فهم ديني معاصر لا يتعارض مع ما توصلت إليه المعارف الإنسانية، باستعمال أرضية معرفية متطورة لفهم نصوص التنزيل الحكيم، وإعادة تأسيس فقه إسلامي معاصر يقدم رؤية مغايرة لعملية التشريع التي تتماشى مع التطور المعرفي لأي مجتمع، معتمداً التأويل ومسلطاً الضوء على مرتكزات التفكير الديني. ومن أهم هذه المرتكزات التي تناولها في فهمه الجديد للإسلام: 

أولاً: الإيمانيات

يرى د. شحرور أن آيات التنزيل الحكيم عبارة عن نصٍ إيماني وليست دليلاً علمياً، وعلى أتباع الرسالة المحمدية المؤمنين بالتنزيل الحكيم أن يوردوا الدليل العلمي والمنطقي على مصداقيتها، وفي ذلك تتمثل مهمتهم الأساسية، علماً أن كل الإنسانية تعمل على ذلك علمت ذلك أم لم تعلم. إن التاريخ الإنساني ككل في مسيرته العلمية والتشريعية والاجتماعية، هو صاحب الحق في الكشف عن مصداقية التنزيل الحكيم، وليس شرطاً أن ترد مصداقيته على لسان صحابي أو فقيه أو تابعي بل قد ترد على كل لسان يقرأ النصوص  قراءةً واعيةً ممنهجة.

إن الوجود المادي وقوانينه هما كلمات الله، وأبجدية هذه الكلمات هي علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا والفضاء، وهذا الوجود مكتفٍ ذاتياً ولا يحتاج إلى شيء من خارجه لفهمه، وهو عادل في ذاته.

بما أن التنزيل الحكيم هو كلام الله، فوجب بالضرورة أن يكون مكتفياً ذاتياً، وهو كالوجود لا يحتاج شيء من خارجه لفهمه، لذا فإن مفاتيح فهمه ليست من خارجه بل هي بالضرورة من داخله، وانطلاقاً من أن أبجدية كلام الله هي فهم المصطلحات وفهم هذه المصطلحات يعتمد على تطبيق منهج معرفي في التعامل مع نصوص التنزيل الحكيم، وما دامت المعرفة أسيرة أدواتها فإن التنزيل الحكيم مطلق في ذاته، لكنه نسبي لقارئه لأن نسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها لدى الإنسان، وهذا ما أطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه ومن هنا نفهم لماذا كان النبي ممتنعاً عن شرح الكتاب إلا في الشعائر فقط

الأساس في الحياة هو الإباحة، لذا فإن الله هو صاحب الحق الوحيد في التحريم فقط، وأن المحرمات أغلقت في كتاب الله وحُصرت في ١٤ محرماً وبالتالي تصبح كل فتاوى التحريم لا قيمة لها، وكل ما عدا الله ابتداءً من الرسل انتهاءً بالهيئات التشريعية تنحصر مهمّته في الأمر والنهي فقط لأن كلاً من الأمر والنهي ظرفي زماني مكاني، والتحريم شمولي أبدي، لذا فإن الرسول لا يحلل ولا يحرم إنما يأمر وينهى. وكل نواهيه ظرفية لأنها عبارة عن اجتهادات، وهي قابلة للنسخ لأنها اجتهادات ظرفية إنسانية وليست وحياً.

إن محمداً قد جاء نبياً مجتهداً غير معصوم في مقام النبوة، وجاء مبلغاً ورسولاً معصوماً في مقام الرسالة. وهنا يفرق بين نوعين من السنّة:

1- السنّة الرسولية؛ وفيها توجد المحرمات ال14 لأن مهمة الرسول فيها تمثلت في تبليغ ما أوحي إليه من ربه فقط.

2- أما السنة النبوية فكانت مناط اجتهاده من مقام النبوة كقائد أعلى للمجتمع وبالتالي جاءت على شكل أوامر ونواهي ظرفية لزمانه. وعلى هذا الأساس فإن طاعته في حالتيه كرسول مُبلَّغ وكنبي مجتهد إنما جاءت لمقام الرسالة لأنّ الطاعة تكون للقانون لا للقوة.

ثانياً: اللغويات

النظام اللغوي لم ينشأ مكتملاً مرة واحدة بل نشأ واكتمل تدريجياً بشكل موازٍ لنشأة التفكير الإنساني واكتماله، وقد ركز الدكتور شحرور على التلازم بين اللغة والتفكير ووظيفة الاتصال منذ بداية نشأة الكلام الإنساني، وانطلق من أن اللغة الإنسانية كانت منطوقة في نشأتها الأولى، وأنكر ظاهرة الترادف العربية.

ثالثاً: الترتيل

الترتيل عنده هو رتب أو نظم الموضوعات الواحدة الواردة في آيات مختلفة من القرآن في نسق واحد كي يسهل فهمها. من هذا الفهم الجديد لترتيل القرآن جمع جميع الآيات التي وردت فيها لفظة (القرآن) والآيات التي وردت فيها لفظة (الكتاب) واستنطقها، فظهر حينئذ بجلاء الفرق بينهما. إن الكتاب عنده ينقسم الى ثلاثة أقسام من حيث الآيات ويصنفها على النحو التالي:

١-الآيات المحكمات التي تمثل رسالة النبي وقد أطلق عليها مصطلح (أم الكتاب) وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ماعدا العبادات والأخلاق والحدود.

٢- الآيات المتشابهات التي أطلق عليها  مصطلح (القرآن والسبع المثاني) القابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وهي الآيات العقيدة.

٣-آيات لا محكمات ولا متشابهات وقد أطلق عليها مصطلح (تفصيل الكتاب).

ويبين لنا أن هناك فرقاً جوهرياً بين الكتاب والقرآن والفرقان والذكر؛ فالقرآن والسبع المثاني هما الآيات المتشابهات ويخضعان للتأويل على مر العصور والدهور، لأن التشابه هو ثبات النص وحركة المحتوى. القرآن فرق بين الحق والباطل أي أعطى قوانين الوجود أما الكتاب فعبارة عن تشريع، والذكر هو تحول القرآن إلى صيغة لغوية منطوقة بلسان عربي، وهذه الصيغة التي يذكر بها القرآن. الفرقان هو التقوى الاجتماعية، وهو الأخلاق المشتركة في الأديان السماوية الثلاثة لذا فرقها الله لوحدها وسماها الفرقان.

رابعاً: فهم الفرق بين الإنزال والتنزيل

يشرح الدكتور شحرور الفرق بين مصطلحي الإنزال والتنزيل في التنزيل الحكيم ويقول إن الفرق بينهما يعتبر أحد أهم المفاتيح الرئيسة لدراسة الكتاب بشقيه: النبوة والرسالة وله علاقة كبيرة بمبادئ التأويل.

إن النبي شرح الإنزال بقوله: (أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة).

 ؤيرى أن التنزيل: هو عملية نقل موضوعي خارج الوعي الإنساني.

والإنزال: هو عملية نقل المادة المنقولة خارج الوعي الإنساني، من غير المدرك إلى المدرك، أي دخلت في مجال المعرفة الإنسانية. ويكون هذا في حال وجود إنزال وتنزيل لشيء واحد مثل القرآن.

ويتابع فيقول: حتى يكون هناك حالة إنزال منفصلة عن التنزيل في القرآن، يجب أن يكون للقرآن وجود قبل ذلك. وهنا يظهر السؤال عن ماهية هذا الوجود وبأي صورة هو موجود؟ ويجيب شحرور على ذلك بأن القرآن هو كلام الله وكلام الله هو عين الموجودات ونواميسها العامة، والله مطلق وكلامه مطلق، فالقرآن موجود في لوحٍ محفوظٍ وفي إمامٍ مبين هو من علم الله، وعلم الله أعلى أنواع علوم التجريد، وفي حين أن أعلى أنواع علوم التجريد هو الرياضيات. يعني ذلك أن علم الله بالموجودات علم كمي بحت. وهذا القرآن الموجود في لوح محفوظ غير قابل للإدراك الحسي والتأويل، فعندما أراد الله إعطاء القرآن للناس حوله إلى صيغة قابلة للإدراك الإنساني النسبي، أي حصلت عملية تغيير في صيرورته، وهذا التغيير عُبر عنه في اللسان العربي في فعل (جعل)، إذ قال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). وقال أيضاً: (إنَّا أَنْزَلناهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ). والإنزال هنا نقل غير المدرك إلى المدرك، أي كان القرآن غير مدرك (غير مشهر) فأصبح مدركاً. والتنزيل حصل عن طريق جبريل إلى النبي وهو الذي تم على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. ففي القرآن تلازم الجعل والإنزال وحصلا دفعة واحدة، وافترق فيه التنزيل حيث جاء في ثلاثة وعشرين سنة.

أما فيما يخص أم الكتاب التي هي الحدود والعبادات والمواعظ والوصايا والتعليمات، وتفصيل الكتاب فيس لهما علاقة باللوح المحفوظ أي ليست من القرآن وإنما من الكتاب. ولو كانت في اللوح المحفوظ لكان الصوم من كلام الله وأصبح من ظواهر الطبيعة، لأن كلام الله نافذ وظواهر الطبيعة حقيقية موضوعية صارمة. ولصام الناس في رمضان شاؤوا أم أبوا. وكذلك مواضيع أم الكتاب.

إن هذه الفروق التي تطرق لها الدكتور شحرور بالغة الأهمية وهي من أكثر الأمور خطورة وتعقيداً في العقيدة الإسلامية، إضافة لعدم التفريق بين الرسالة والنبوة وبين الكتاب والقرآن جعل المسلمين أناساً متحجرين ضيقي الأفق، وضاع العقل نهائياً وضاع مفهوم القضاء والقدر والحرية الإنسانية ومفهوم الثواب والعقاب. واعتبر كل ما كتب في الأدبيات الإسلامية دون إظهار هذه الفرق ضرباً من العبث واللف والدوران.

خامساً: عدم الوقوع في التعضية

 التعضية هي قسمة ما لا يقسم، والتعضية في القرآن تعني أن الآية القرآنية قد تحمل فكرة متكاملة وحدها أو فقرة من موضوع كامل، وبعد الترتيل مثل آيات خلق الكون، ونظرية المعرفة الإنسانية فإن جمع كل مواضيعها يخرج الموضوع الكلي كاملاً.

سادساً: فهم أسرار مواقع النجوم

مواقع النجوم؛ هي الفواصل التي بين الآيات، هي من مفاتيح فهم القرآن وفهم آيات الكتاب كله، حيث جاءت مواقع النجوم بين آيات الكتاب كله وبالتالي كل آية تحمل فكرة متكاملة. وبهذه الطريقة يتضح المعنى ويزول العجب إذا فهمنا مبدأ الفكرة المتكاملة.

سادساً: قاعدة تقاطع المعلومات

و التي تقتضي انتفاء أي تناقض بين آيات الكتاب كله في التعليمات والتشريعات.


ويقدم شحرور فيما سبق تطبيق عملي لنظريته المعاصرة لعملية الاجتهاد في نصوص التنزيل الحكيم انطلاقاً من نسخ اجتهادات الإنسانية السابقة، وإعادة الاجتهاد فيه بروح معاصرة، بعيداً عن القراءة التراثية الأحادية، التي أوقفت التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة، وجعلت من الثقافة الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الدول المتطورة الأخرى. وكمثال عن هذا نورد ما قدمه من رؤية للمرأة متكئاً على منهجه التأويلي :

 يرى شحرور أن الله ساوى بين الذكر والأنثى على المستوى الإنساني العاقل، وعلى المستوى البشري الفيزيولوجي، وخاطب المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات دون أفضلية لأحد الطرفين، وفي حين تم تكريس المرأة في الوعي الجمعي كمتاع وموضع شهوة، نرى التنزيل الحكيم يعبر بمنتهى الرقي عن العلاقة بين الرجل والمرأة،  فالزواج علاقة متبادلة من المودة والرحمة، وهو ميثاق غليظ تأخذه المرأة من الرجل أمام الله فلا ينقضه ولا يجمع بين زوجة وأخرى وإنما استبدال. والتعددية الزوجية التي تعتبر مأخذاً على الإسلام من قِبل مناهضيه لها شروطها، ولا تصح إلا بحالة الزواج من أرملة لديها أيتام، والهدف رعايتهم والقدرة على إعالتهم. وأما عن القوامة فهو يرى أن المجتمع الذكوري يأخذ بآية القوامة ويترك التأسي بالرسول، حيث كانت القوامة لزوجته خديجة، من حيث أفضليتها المادية.

وبما أن الزواج ميثاق غليظ، فإن فكه بيد الطرفين، وليس أحدهما فقط، وعبر التنزيل الحكيم عن ذلك بدقة، فإن أراد الرجل الطلاق فعليه التزام المعروف، وكما يحق للرجل يحق للمرأة، أما الاختراع المسمى (بيت الطاعة) فلا وجود له إلا في محاكمنا الشرعية. وما حدده الله للرجل والمرأة من لباس هو الحد الأدنى لما يجب تغطيته، ولم يفرض لباساً معيناً بشكلٍ أو لون. وما أمر به نساء النبي والمؤمنين المعاصرين له، هو لبس ما يكف الأذى عنهن، سواء الأذى الطبيعي أو الاجتماعي دون أن يترتب على ذلك ثواب أو عقاب. والإسلام في القرن السابع لم يحرر المرأة لكنه وضع حجر الأساس لذلك، تماشياً مع طبيعة المجتمع دون قفزات لا يمكن احتمالها، فأعطاها الحق السياسي منذ أول يوم للدعوة، وسمح للمرأة أن تقاتل وتهاجر وتناضل ولم يقل لها التزمي بيتك. فالنبي أقام دولته وفقاً لما يتناسب مع مجتمعه، فجرى اعتبار اجتهاداته ضمن تقييد الحلال وإطلاقه ديناً صالحاً لكل زمان ومكان. دون الأخذ بعين الاعتبار أنها اجتهادات ظرفية.

وينوه شحرور إلى أنه إذا كنا ندعو لدولة تحترم مواطنيها، علينا أولاً إعطاء المرأة حقوقها، ابتداءً من كونها مواطنة يحق لها ما يحق للرجل تماماً، ويجب عليها ما يجب عليه، انتهاءً بحقها في الحكم كمثيلاتها في العالم المتحضر.

رحل الشحرور مخلفاً إرثاً معرفياً غنياً ومن أهم مؤلفاته:

1-(الكتاب والقرآن- قراءة معاصرة)، عام 1990

2- (الدولة والمجتمع)، عام 1994

3- (الإسلام والإيمان- منظومة القيم)، عام 1996

4-(نحو أصول جديدة لفقه الإسلامي)، عام 2000

5-(تجفيف منابع الإرهاب)، عام 2008

6-(السنة الرسولية والسنة النبوية- رؤية جديدة)، عام 2012

وأجرى عدد من اللقاءات المتلفزة نذكر منها:

لقاء ضمن برنامج (روافد) على قناة العربية عام 2010

لقاء صمن برنامج (ضيف ومسيرة) على قناة فرانس24 عام 2016

برنامج (النبأ العظيم) على قناة روتانا خليجية عام 2017

برنامج (لعلهم يعقلون) على قناتي روتانا خليجية وأبو ظبي عام 2018

برنامج (التفكير والتغيير) وبرنامج (رؤية معاصرة) على مواقع التواصل الاجتماعي.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

 “مؤسس الطرب، صناجة الغناء العربي، أمير الطرب، العندليب، بلبل الشرق، عرَّاب الطرب السوري، كروان سورية، قلعة حلب الثانية، ملك الطرب الأصيل، زرياب حلب، أيقونة الطرب”. تلك بعضٌ من الألقاب الكثيرة التي لُقِّب بها الفنان السوري الكبير صباح فخري، الذي شَكَّل بفنه هويةً سوريةً جامعة لكل السوريين، على اختلاف ذائقتهم وثقافتهم وتوجهاتهم الفكرية، وكان من أكثر الشخصيات الفنية العربية تأثيراً في الجمهور العربي، ومن الفنانين القلائل الذي دخل صوته إلى بيوت أغلب الناس، فهو الحارس المُخلص لتراثهم الغنائي الأصيل، والذي أعاد إحياء كنوزه ونوادره وقدمه لهم بشكل معاصر، أغنى روحه وأصالته، مضيفاً لمساته الفنية البديعة، التي ساهمت في إيصاله إلى العالمية.

ولد صباح الدين أبو قوس (الاسم الحقيقي لصباح فخري) في مدينة حلب عام 1933 لأبوين مُنشدين، يُجيدان ويعشقان فنون الغناء الصوفي والطربي، فاعتاد، منذ طفولته المبكرة، حضور جلسات الإنشاد وتربى على سماع أنغام وإيقاعات الأناشيد الصوفية والأذكار والموشحات، التي حرَّضت عنده موهبة الغناء وساهمت في صقلها وتنميتها، فبدأ يغني في الموالد والأفراح والمآتم في العقد الأول من عمره، كما ساعدته إمكانيات صوته الشجي المطواع أن يعمل كمؤذِّنٍ في بعض الجوامع، كجامع الروضة، فكان أصغر مؤذنٍ يدخل جامعاً.  

وخلال دراسته الابتدائية تعلم أسس ومبادئ اللغة وعلم البيان والتجويد، وهو ما أكسبه مهارة فائقة في لفظ ونُطق الحروف، ساهمت في دعم موهبته الغنائية. كما برزت حينها موهبته الفريدة في الحفظ، حيث تمكن من حفظ القرآن الكريم وبعض دواوين كبار الشعراء، هذا إلى جانب الكثير من الأغاني والقدود والمواويل.

بدأ دراسته الموسيقية في المعهد العربي للموسيقى في حلب، حيث تتلمذ على يد كبار شيوخ الفن، كالشيخ عمر البطش وعلي الدرويش ومجدي العقيلي، فتعلم دراسة فن الموشحات والأدوار والقصائد الغنائية، والمقامات والإيقاعات العربية ورقص السماح، إلى جانب تعلمه الصولفيج الموسيقي والعزف على آلة العود. وخلال فترة دراسته في المعهد شارك في الكثير من الحفلات الغنائية وجلسات الإنشاد بصحبة شيوخ الطرب في الزوايا والتكايا، وقبل أن يبلغ الثالثة عشرة من عمره  وجد نفسه يُغني أمام رئيس الجمهورية شكري القوتلي، خلال حضوره لإحدى الحفلات في حلب عام  1946، فكان ذلك الحدث محطة مفصلية في حياته. ثم  جاء لقاؤه بعازف الكمان الشهير سامي الشوا ليُشكل منعطفاً هاماً في مسيرته الفنية، وذلك بعد أن أعجب الشوا بموهبته النادرة وطبيعة صوته الساحرة، فصار يصطحبه معه ليُغَني  في حفلاته الفنية في عددٍ من المدن السورية. وخلال زيارتهما لدمشق التقيا بالزعيم الوطني فخري البارودي، مؤسس المعهد الموسيقي الشرقي، الذي سعى من خلاله لإعادة الاعتبار للموسيقى العربية، فشكل ذلك اللقاء نقطة تحول في حياة الطفل صباح الدين أبو قوس، حيث كان حينها يُفكر بالسفر إلى مصر، برفقة الشوا، لاستكمال دراسته الموسيقية هناك، كحال معظم مطربي ذلك الزمن، لكن الزعيم البارودي، الذي تمسك بموهبة الطفل وآمن بقدراته الصوتية، أثناه عن تلك الفكرة وأقنعه بالبقاء في دمشق وإتمام دراسته الموسيقية الأكاديمية في المعهد، ثم تبناه فنياً، فخصص له مرتباً شهرياً خلال فترة دراسته، ودَعَمه ليقدم بعض الأعمال الغنائية في إذاعة دمشق، فازدادت شهرته وقدم أولى حفلاته في القصر الرئاسي في دمشق عام 1948، وقد حضرها الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بيك. ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه الفني صباح  فخري، نسبة إلى عرَّابه فخري البارودي الذي كان له بمثابة الأب الروحي.        

مدرسة غنائية متفردة وشاملة

خلال مسيرته الفنية لم يَحصر قدراته الصوتية في لونٍ غنائيٍ واحد، كحال كثير من الفنانين، بل اختار جميع الألوان والقوالب الغنائية العربية، كالموشح والدور والقد والقصيدة  والموال، وقد ساعدته عذوبة حنجرته وقدراته الصوتية الاستثنائية وبراعة نُطقه  لحروف اللغة العربية على غناء أصعب الأعمال وإضفاء قيمة جمالية كبيرة عليها، فقدم مدرسة غنائية متفردة وشاملة تناسب جميع الأذواق. ورغم اختلاف جذور أغانيه وتاريخها الزمني، وتنوعها بين الفصحى والعامية واللحن السلسل والمعقد، إلا أنها قُدمت بالحرفية الغنائية والروح  الطربية ذاتها،  فهو لم يكن يسعى لإطراب جمهوره وحسب بل كان يُطرب نفسه بنفسه، فينتقل، خلال وقوفه على المسرح، من غناء القد إلى الطقطوقة ثم الموشح فالدور والموال، في انتقالٍ سلسٍ، يُبقي الجمهور في جوٍ واحدٍ من التفاعل والنشوة.

ولم يكتف صباح فخري بتقديم التراث الحلبي أو السوري فقط، بل نَهل من كنوز التراث العربي الأصيل على اختلاف جذوره وتنوعه الجغرافي، فأعاد إحياء أهم وأجمل الأعمال الغنائية لعظماء الفن، وقدمها للناس بأفضل أداءٍ فنيٍ ممكن، فأغنى بها مكتبة الموسيقى العربية، وجعل كبار المطربين  يتهافتون على غنائها اقتداءً به. فإلى جانب القدود الحلبية  التي اشتهر بها وحَفظها جمهوره الواسع عن ظهر قلب، غنى فخري  أبرز موشحات رائد المسرح العربي وعبقري فن الموشحات أبو خليل القباني, ومن بينها: موشح يا غصن نقا ، يا من لعبت به شمول ، ما احتيالي ، كللي يا سحب  و ما لعيني أبصرت . هذا بالإضافة لبعض أغانيه الشهيرة كأغنية يا طيرة طيري يا حمامة  ، يا مال الشام  ، صيد العصاري ، يا مسعد الصبحية  وعالهيلا الهيلا .  

ومن أعمال كبير الوشاحين السوريين الشيخ الحلبي عمر البطش، غنى صباح فخري عيون الموشحات ومنها: موشح يمر عجباً ، في الروض أنا شفت الجميل ، قلت لما غاب عني ، هذي المنازل ، سُبحان من صورك ، قم يا نديمي ، مُنيتي من رُمتُ قربه ، يا ذا القوام ، و داعي الهوى . وإلى جانب ذلك غنى موشح أيها الساقي ،  لو كنت تدري  و أنت سلطان الملاح  للملحن الكبير مجدي العقلي، والعمل الغنائي التراثي الفريد فاصل إسق العطاش  للمؤلف محمد المنجبي الحلبي، والأغنية الطربية الشهيرة ابعتلي جواب  للملحن بكري الكردي، والتي أصبحت من أشهر وأجمل أيقونات الطرب العربي الأصيل.  

كما أضاء صباح فخري على أهم وأبرز مؤلفات كبار الملحنين المصريين، التي تعود لنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث غنى من موشحات فنان الشعب سيد درويش: موشح يا شادي الألحان ، مُنيتي عَزَّ اصطباري ، صِحتُ وجداً ،  يا بهجة الروح ، زارني المحبوب ، حبي دعاني للوصال ، يا تُرى بعد البعاد ، نَبه النُدمان  و اجمعوا بالقرب شملي . وبالإضافة للموشحات غنى لدرويش أيضاً أغنية زوروني كل سنة مرة  ، طلعت يا محلى نورها ، و سيبوني يا ناس ، ودور  أنا عشقت  ودور ضيعت مستقبل حياتي ، الذي يُعد فخري أفضل من قدمه، بوضع لمساته الغنائية الساحرة، المتمثلة في تنويع طبقات الصوت، والتلوين في العُرَب الغنائية والتفريد في الآهات. وإلى جانب سيد درويش غنى فخري للملحن الكبير زكريا أحمد  دور إمتى الهوى ، ودور يا اللي تشكي من الهوى ، اللذان غنتهما أم كلثوم، فيما غنى للملحن الكبير محمد عثمان موشح ملا الكاسات  و أتاني زماني بما أرتضي ، ودور أصل الغرام نظرة  و ياما إنت وحشني يا قلبي

و قد ساهم فخري أيضاً في إحياء ونشر الكثير من الموشحات القديمة، التي يُنسب بعضها للفلكلور لعدم التأكد من صحة مؤلفها الأصلي، فأعاد توزيعها وغنائها بطريقته الخاصة التي أشبعتها غنى وجمالاً وساهمت في إيصالها إلى فئات كبيرة من الجمهور، ومن بينها: موشح أحن شوقاً ، جادك الغيث ،  بدت من الخدر ،  إملا لي الأقداح صِرفاً ، يا صاحِ الصبر ، حَيَّرَ الأفكار بدري ،  فيك كل ما أرى حَسن  ، أهوى قمراً ، غُضِّي جفونك يا عيون النرجس  و العناية صُدف .

ملحن عبقري

وإلى جانب براعته وعظمته في الغناء بَرَع صباح فخري في التلحين، فَلحَّن لنفسه أكثر من 25 عملاً، بين أغنية وموال وقصيدة، من كلمات كبار الشعراء. وقد تميزت ألحانه بطابعها الطربي الأصيل وتنوعها الغني والمُبتكر، الذي يُبرز روح وسحر المقامات الموسيقية العربية، وروعة الانتقال الذكي والرشيق بين مقامٍ وآخر، لذا تحول بعضها إلى مواد تعليمية ووسائل إيضاح لدارسي علم المقامات وفنون الأداء الصوتي في كثيرٍ من المعاهد، ليس السورية فحسب وإنما العربية، وقد زاد من عبقرية ألحانه أنه قدمها بأدائه الصوتي الرخيم، الذي يبقى محافظاً على بريقه ونقائه سواء غنى في أعلى الدرجات الموسيقية أو أدناها. ومن أبرز القصائد التي لحنها: قُل للمليحة  للشاعر الأموي مسكين الدرامي، نعم سرى طيف من أهوى  للشاعر العباسي البُصيري، حبيبي على الدنيا إذا غبت وحشةٌ  للشاعر الأيوبي بهاء الدين زهير، جاءت معذبتي  للشاعر والفيلسوف الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب، أقبلت كالبدر  لأبي فراس الحمداني، يا من يرى أدمعي  لأحمد شوقي، انتهينا  لعبد العزيز خوجة،   أترع الكاس  لبدر الدين حامد، سمراء  لفؤاد اليازجي، و سلو فؤادي  لمحمد الهلالي.

وبالإضافة لتلك القصائد لحن وغنى الكثير من القصائد الفلكلورية الفصيحة والعامية، ومنها: بيضاء لا كدرٌ يشوب صفاءها ، يا حادي العيس ، أشوف جمال القمر ، من عيسهم ، يا لائمي بالهوى العُذري ،  يا سايقين النوق   و خمرة الحب  التي تعتبر من أشهر وأهم الأغاني الطربية الحديثة التي عشقها الجمهور العربي وغناها كبار المطربين.  

فنان متعدد   

وبالإضافة لمسيرته الغنائية الحافلة بالعطاء، بَرزت قدراته الفنية في التلفزيون والسينما، فوظَّف فنون الصوت والغناء في خدمة الأعمال التي شارك فيها، كالمسلسل التلفزيوني الوثائقي نغم الأمس الذي قدمه مع الفنان رفيق سبيعي والفنانة صباح الجزائري عام 1978، ووثَّق من خلاله نحو 160 عملاً غنائياً تراثياً، بين موشح وموال ودور وقد. كما شارك مع الفنانة وردة الجزائرية في مسلسل الوادي الكبير  عام 1974، وقدم فيه أكثر من عشرين عملاً غنائياً من ألحان كبار الملحنين السوريين، كمحمد محسن وعزيز غنام وعدنان أبو الشامات وأمين الخياط. هذا بالإضافة إلى السلسلة الوثائقية التلفزيونية الدينية أسماء الله الحسنى ، التي قدمها عام 1996 مع الفنانة منى واصف والفنانين عبد الرحمن آل رشي وزيناتي قدسية، والمسلسل الإذاعي “زرياب”، و فيلم الصعاليك الذي شارك فيه مع الفنان دريد لحام ونهاد قلعي ومريم فخر الدين عام 1965.

بعض إنجازاته الفنية

غنى صباح فخري على أكبر وأهم وأعرق مسارح الوطن العربي، وكان له الحضور البارز في أغلب مهرجانات الدول العربية وفعالياتها الثقافية، ومن بينها: مهرجانات بيت الدين وعنجر وعالية في لبنان، جرش وشبيب والفحيص في الأردن، قرطاج، سوسة، حلق الواد، الحمامات، صفاقس، والقيروان في تونس، ومهرجان الربيع في مدينة الموصل العراقية، وفاس في المغرب، والقرين في الكويت. هذا إلى جانب كونه من أكثر الفنانين العرب حضوراً على المسارح العالمية، خاصة في أوروبا وأمريكا، ومن أشهرها قاعة بيتهوفن في مدينة بون في ألمانيا، وقاعة نوبل للآداب في السويد، وقاعة قصر المؤتمرات ومعهد العالم العربي في باريس.

 وخلال مسيرته الفنية مُنح الكثير من الجوائز وشهادات التقدير العالمية. ومن أشهر إنجازاته دخول اسمه في كتاب موسوعة غينس للأرقام القياسية، بعد أن غنى لمدة عشر ساعات متواصلة، خلال إحدى حفلاته في العاصمة الفنزويلية كراكاس عام 1968، كما ورد اسمه في موسوعة مايكروسوفت “Encarta” بصفته واحداً من أهم رموز الغناء العربي الأصيل.

وفي أمريكا حصل على شهادة تقدير من محافظ مدينة لاس فيغاس مع مفتاح المدينة تقديراً لجهوده الفنية في إحياء وإغناء الحركة الفنية العربية، كما قُلد مفتاح مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان، ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع منحه شهادة تقديرية. فيما أقامت له جامعة كاليفورنيا حفل تكريم مُنح من خلاله شهادة تقدير لمساهمته في إحياء التراث العربي. وفي السويد حصل على شهادة تقدير في قاعة نوبل للآداب لإحيائه الطرب العربي الأصيل.

عربياً، قدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “”ALECSO الجائزة التقديرية مع درع المنظمة، ونال وسام تونس الثقافي، الذي قلده إياه رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة عام 1975. وفي عُمان قلده السلطان قابوس وسام التكريم في عام 2000، كما منحته دولة الإمارات العربية جائزة الغناء العربي باعتباره أحد أهم رواد الغناء العربي الأصيل.

وفي مصر كرمته وزارة السياحة بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، تقديراً لجهوده الفنية، كما كرمه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية ومُنح أكثر من كتاب شكرٍ لمساهمته، عبر سنوات، في إحياء أهم المهرجانات في مسرحي دار الأوبرا والجمهورية في القاهرة، ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية. وإلى جانب ذلك أقيمت له عام 1997 جمعية فنية حملت اسمه، وضمت محبيه ومريديه، فكانت أول جمعية رسمية تقام لفنان غير مصري.

 وخلال مشاركته في مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة في المغرب، قدم له رئيس جمعية فاس سايس وهي عضو في المنظمة العالمية لرسل السلام، التابعة لهيئة الأمم المتحدة شهادة تقدير وشكر، ومَنحه العضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان، كما مَنحه محافظ المدينة شهادة شكرٍ وتقدير، مع العضوية الفخرية لمجلس المدينة وقلده مفتاح المدينة. 

توفي صباح فخري في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021، عن عمر ناهز 88 عاماً، أمضاه محافظاً على قيم الفن الأصيل في زمن انتشار معايير الفن الاستهلاكي والرديء. وبقي طيلة حياته، وبعد وفاته، مرجعاً وقدوة وأمثولة لكثير من الفنانين الذين صاروا من مُريديه، ومازالوا يجاهدون ويسعون  إلى تقليده والتأثر به، بوصفه مدرسة فنية خالدة، فهو الذي قال عنه الموسيقار عبد الوهاب عندما التقاه لأول مرة :”مثلك بلغ القمة ولا يوجد ما أعطيك إياه”. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

أحمد برقاوي والطَّريقُ الفلسفيُّ المُستحيل

أحمد برقاوي والطَّريقُ الفلسفيُّ المُستحيل

      تكمنُ مأساة أحمد برقاوي، بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً، في أنّه يتحرّك فوق أرضٍ تنهار تحته من كلِّ جانب، فهو صاحب تجربة فلسفيّة عميقة لها أبعادها الشخصيّة والأكاديمية والثقافيّة؛ لكنَّ هذه التّجربة لم تكن مُقْنِعة له على الإطلاق. إذ إنَّ فكره يتأسَّسُ رؤيويّاً ورؤياويّاً في آن على حدْسٍ أو استبصارٍ عميق لحقيقة “الأنا”. وهذا “الأنا” ليس نموذجاً يُختزلُ فيه النّوع الإنسانيّ، كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان الأعلى عند نيتشه، أو الأنا المتعالي عند هوسِّرل أو الدازاين عند هيدغر وإلى ما هنالك.

    إنَّ الأنا الذي يكتشفهُ برقاوي في أعماقه هو أنا جريح، وعوضاً عن أن يرتقَ هذا الجرحَ يسعى جاهداً من أجل أن يزيده اتِّساعاً؛ لأنّه يريدُ من أناه أن يزداد نزيفاً كي يزداد تطهُّراً؛ لذلك يتحوَّل موقفه من فلسفة تؤكِّد الأنا في مواجهة العالم توكيداً فارغاً، إلى فلسفة خلاصيّة ترمي إلى تقويض كلّ ما يُسهم في تكوين هذا الأنا؛ ذلك أنَّ برقاوي يصدر عن معرفة كاشفة، بالتُّراث، الذي كوَّن وعي الإنسان العربيّ المعاصر، فهو يفهمُ ما أفضى إليه هذا التُّراث من تعيُّنات معرفيّة للثقافة العربيّة، قدّمت أنماطاً من تفكير العرب بعامَّة وكثير من مثقَّفيهم بخاصّة، تنبجس ينابيعُها من القرون الأولى من الهجرة، وتلاقحت هذه الأنماطُ أنفسها مع صدى حداثة وتكنولوجيا الحضارة الغربيّة، فجاءت النتيجة، وهي المُتَفقِّه الحداثويّ التكنولوجيّ، أي الإنسان العربيّ الراهن، الذي هو ضحيّة تراث ينزعه من لحظته الراهنة ليرمي به في غياهب التاريخ، وحداثة–تكنولوجيّة غربيّة تُملي عليه كيفيّة غزو الفضاء وتفتيت الذّرة واستباق المستقبل.

     ولقد استطاع برقاوي أن يُدرك عُمق المأساة، فأناه ممزّق بين النكوص إلى تراث لم تَعُدْ تُجدي مقولاته والطُّفور إلى حداثة –تكنولوجيّة غربيّة ليس ابن جِلدتها؛ بل هو دخيل عليها. ومن هنا لم يقتنع بتأسيس نظرة جديدة إلى العالم تنبثق من نقد التُّراث على طريقة أدونيس والجابري وأركون وغيرهم؛ كما رفض رفضاً قاطعاً أن يُطبِّق المناهج الفلسفيّة الغربيّة على الثقافة العربيّة على طريقة وجوديّة عبد الرحمن بدويّ أو وضعيّة زكي نجيب محمود أو شخصانية عبد العزيز الحبابي وغيرهم. ولئن كان برقاوي الشَّاب شغوفاً بالماركسيّة في بدايات حياته الثقافيّة؛ إلا أنّه أخذ على الماركسيين العرب كافّة وفي مُقَدّمتهم صادق جلال العظم –كما تُفصح عن ذلك كتاباته المتعدّدة-أنّهم كانوا معنيين بنقد تفسير الظواهر، ولم تكن الظواهر أنفسها موضوعاً لتفكيرهم في أيّ وقت.

     كانت نقطة البَدْء الفلسفيّ عند برقاوي هي الأنا العربيّ المنكسر أو المهزوم، هذا الأنا الذي هو –في حقيقته الأصليّة-يُشبه كومة من الرُّكام خلّفتها عصور استبداديّة سابقة، وأنظمة سياسيّة معاصرة واحديّة-قمعيّة، واستسلام شبه كامل أمام الغرب الأمريكيّ-الإسرائيليّ، ودعوات سلفيّة جهاديّة ليقتل النّاس أنفسهم بأنفسهم، وانهيارات اقتصاديّة تُذَكِّر بأزمنة الطّواعين والمجاعات.

      كان لا بدّ بالنسبة إلى برقاوي، وهو لا يجد أيّ أرض صالحة لتأسيس بنائه الفلسفيّ أن يُشيِّدَ هذا البناء على أنا هو نفسه، لقد كانت صرخته الفلسفيّة مدويّة، فكتابه “الأنا” لا يقول فيه أكثر من كلمة بسيطة وعفويّة يستخدمها كل واحد منّا يوميّاً، وهي “أنا”.

    لقد أراد بتوكيده لأناه وحدَه الإنباه إلى ما هو مُهمل ومَنْسيّ ومنبوذ على المستوى الثقافيّ العربيّ، وهو هنا لا يريد الرجوع إلى الأنا من أجل تكريسه بطريقة نرجسيّة خالية من المعنى؛ بل يريد الرجوع، لأنّه لا يمكن الركون إلى أيّ شيء سوى هذا الأنا المنكسر.

      أراد برقاوي أن يضع هذا الأنا عينه في مواجهة النُّخبة العربية، دينيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، ليقلب لهذه النُّخبة ظهرَ المِجَنّ، او بالأحرى ليكشف عُرْيها وتهافتها وأجنحتها الكاذبة، فهذه النُّخبة دفعت بالإنسان العربيّ المعاصر إلى “قعرِ الحضيضِ الأوضعِ”، فقتلته وسجنته وشرّدته وهجّرته ومزّقته على جميع المستويات؛ لذلك لفظة النُّخبة هي هنا -في حقيقتها-ذات مدلول مُغاير لمعناها القاموسيّ، فهي لا يمكن أن تدلّ إلا على الرَّعاع الذين ساقوا البلاد والعِباد إلى الهلاك.

     ينبثق شُعاع ساطع من أنا برقاويّ، شُعاع يُريد من هذا الأنا المُنكسِر أن يتحوّل إلى ذات، فجاء كتابه “أنطولوجيا الذّات” إكمالاً بارعاً لكتابه “الأنا”؛ ذلك أنّه يَنْشُد إحداث نُقلة في وعي الإنسان العربيّ من أجل أن يستحيل من أنا إلى ذات.

      نفهم من كتابه “أنطولوجيا الذَّات” أو علم وجود الذَّات، أنّه استخدم الأنطولوجيا ontology وهي علم الوجود بما هو موجود، من أجل غايات واضحة بالنسبة إليه، فهو لا يهيب بهذا المصطلح ذي الأصل اليوناني، من أجل أن يستعين به، من أجل كشف معنى وجود الذّات الإنسانيّة؛ بل أُرجِّح أنّه استخدم هذا المُصطلح ليزيد المأساة عُمقاً، فتاريخ الأنطولوجيا الغربيّة بدءاً من برمنيدس (نحو 540 ق.م-480 ق.م) وصولاً إلى مارتن هيدغر (1889 م-1976 م)، وهو تاريخ محاولات الكشف عن حقيقة الوجود. إذ الأنطولوجيا هي العلم المَعني بتقديم إجابة عن السؤال الفلسفيّ الأكثر جوهريّة وهو: لماذا كان ها هنا وجود ولم يكن بالأحرى عدم؟ وجاءت الأجوبة عن هذا السؤال من قِبَلِ الفلاسفة الغربيين متنوِّعة ومتباعدة ومتناقضة إلى أقصى حدّ؛ لكنَّ برقاوي لم يخض في كتابه سجالاً مع تاريخ الفلسفة الغربيّة، إذ إنّه في ذلك لَمِنَ الزَّاهدين؛ لأنّه يعرف معرفة تامّة أن تاريخ الفلسفة الغربيّة مُغلق على نفسه، وغير قابل لإعادة النَّظر، لا لأنّه حَسَمَ مشكلة حقيقة الوجود؛ بل لأنّه تاريخ بلغ نهايته، فاكتمل، وأيّ نقاش فلسفيّ يأتي في مساره، هو نقاش خارج سياقه الحضاريّ. وهنا على وجه التحديد تأتي أهميّة برقاوي فهو لا يريد في “أنطولوجيا الذَّات” أن ينكشف معنى الوجود في ذاته، كما أراد هيدغر أن ينكشف معنى الوجود في مقولة الدازاين؛ ذلك أنَّ برقاوي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بتبيان أنَّ الوجود الحقيقيّ هو وجود الذَّات، وهدفه من وراء ذلك هو تقويض الوجودات الأخرى كافّةً التي تُريد العودة بهذه الذَّات إلى حالة الأنا المُنكسر، وحتى الفلسفة الغربيّة نفسها تنضاف إلى الأسباب التي أدّت إلى تغييب الذَّات الفلسفيّة العربيّة، هذه الأسباب التي يُمكن إرجاعها إلى انهيار حضاريّ تامّ على جميع المستويات، إلا أنَّ السبب الرئيس هو الأنظمة السُّلطويّة الغاشمة التي تسعى إلى تفريغ الذَّات من مضمونها الأنطولوجيّ البرقاويّ من أجل حشوها بالقشّ، لتحويل الإنسان إلى دُمية.

     أراد برقاوي وضع أنطولوجيا الذَّات من أجل مواجهة أيديولوجيا السُلطة القائمة على تكريس الدُّمى، هذه الدُّمى التي تتكلّم حينما يأذن السُّلطان، وتخرس حينما يأمر السُّلطان، وتفتك ببعضها بعضاً مرضاةً للسُّلطان. وقسْ على ذلك في كلّ شيء، تحديداً في العلاقة مع الغرب الأوروبيّ، فهذه الدُّمى أنفسها تُكَفِّر الغربيين؛ لكنها تتقمَّص حضارتهم، وتلعنهم غير أنّها تدين لهم بكلّ أسباب الحياة المدينيّة، ولذلك فتح برقاويّ أبواب الكينونة الموصدة في وجه الإنسان العربيّ من أجل أن يُحقِّق له نُقلة نوعيّة في نظرته إلى نفسه، نُقلة تحوِّلهُ من أنا منكسر إلى ذات.

    تحضر في شخصيّة أحمد برقاويّ المعاناة الوجوديّة للإنسان الفلسطينيّ، أي تحضر فيه روح الصُّعود إلى الينابيع، إنّه صعود لا يتوقّف، من أجل استعادة الذّات، أعني الذَّات المجذوذة الصِّلة بأرضها؛ ولكن لا ترمز الأرض في فكر برقاوي إلى أرض مُعيّنة، بل ترمز إلى كلّ أرض سليبة في جميع المعاني.

    إنَّ أنطولوجيا الذَّات في فكر برقاوي هي أنطولوجيا الأرض، فالذَّاتُ أرضاً والأرضُ ذاتاً، هي جدليّة حائرة في حنينها الكيانيّ العنيف إلى نداء الأعماق، ومن شدةّ شغف أحمد برقاوي بهذا النّداء، أصبح يصيح مثل الحلاج:

طلبتُ المُستَقرَّ بكلِّ أرضٍ        فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”