“العمل مهم جداً، وعلى الصعيد الدرامي جيد للغاية، استمتعت به فعلاً، ثم هل يعقل أن يكتب سامر رضوان عملاً يخلو من رسائل ومضامين عميقة! هناك ملاحظات لا شك، لكنّ هذا العمل دخل المحظور، وبالمناسبة أصرح لأصدقائي هنا في دمشق بشكل طبيعي أني تابعت العمل (ابتسم أيها الجنرال)، ولكن حين أصرح للإعلام ربما يجب أن استخدم اسماً مستعاراً.” يضحك المهندس جمال في نهاية حديثه، مؤكداً مجدداً أنّ الأمر لا يستحق كل هذا الإخفاء والتستر، واصفاً الأمر بأنّه ليس اتجاراً بالمخدرات، وما هو إلّا محض عمل درامي، ولكن من نوع خاص للغاية، على حد تعبيره، عمل يخرق المحظور ويؤسس لفن جديد غير مسبوق.
وفي معرض حديثه يقول: “أليست بداية كل حلقة تقول إنّ جميع شخصيات المسلسل وأحداثه من وحي خيال الكاتب! وإنّ أي تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة! لذلك علينا ألّا نحمل الأمر أكثر من حجمه، ولكن المشكلة في أولئك الذي نخزتهم مسلة المواقف والمبادئ والقضايا والشعارات، فراحوا يعيبون علينا مشاهدته، مبتعدين أكثر نحو تخويننا في مرات”.
وحول ذلك يروي جمال موقفاً حصل بينه وبين زميله في العمل: “كنا نتحدث في المكتب بشكل طبيعي عن أعمال رمضان هذا العام، وفي سياق الحديث أبديت إعجابي بالعمل وإسقاطاته (الرهيبة)، فما كان من أحد زملائي إلّا أن انتفض واصفاً العمل بالكاذب والرجعي والمؤامراتي والمكائدي متهماً إيايّ ببيع القضية ودم الشهداء. حقيقةً لم أفهم المقاربة، ما علاقة الدماء والقضية بعمل درامي تشويقي ليس توثيقياً وغير مألوف على المستوى العربي!”. ويوضح جمال أنه بهدوء امتص غضب زميله خشيةً أن يكون من أولئك الذين يكتبون تقاريرَ أمنية وقال له: “رويدك، العمل كلّه خيالي، لا شيء فيه حقيقي، نتابعه لنتسلى فقط، ولنشاهد عن قرب كواليس المؤسسات العليا كما صورها خيال الكاتب. وبعد ذلك صرت أكثر حذراً حين أحدث أحداً بما أتابعه من مسلسلات رمضانية، تخيل، حتى المسلسلات صارت تخضع لميزان القضية، ونحن كما تعلم، قضايانا في هذا الشرق أكبر من تعداد سكانه”.
بورتريه
مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” عمل سوري من إنتاج شركة ميتافورا وإخراج عروة محمد وتأليف سامر رضوان صاحب التجارب البارزة في الدراما السورية، وعلى رأسها أعمال مثل دقيقة صمت ولعنة الطين والولادة من الخاصرة، وكلّها أعمال أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع السوري حين عُرضت. والمسلسل من بطولة نخبة من الممثلين السوريين المقيمين في الخارج، ومنهم: مكسيم خليل، عبد الحكيم قطيفان، غطفان غنوم، ريم علي، عزة البحرة، مازن الناطور، سوسن أرشيد.
المسلسل الذي اصطلح سوريو الداخل على تسميته “هداك المسلسل” كنوع من المواربة في مكان، والتندر في مكان آخر، يتناول قصة عائلة تحكم بلداً افتراضياً اسمه “الفرات”. وفي تلك العائلة يخوض رئيس البلاد وأخوه الضابط صراعاً عنيفاً في محاولة كلٍّ منهما أن يحوز السيطرة الكاملة على البلد الذي يتم تقديمه في كثير من المشاهد كمزرعة شخصية لتلك الأسرة التي تكون كل شخصياتها مستعدة لإحراقها في سبيل انتزاع السيطرة التامة عليها.
عرض العمل على شاشتي العربي الجديد، وتلفزيون سوريا “المعارض”، في حين أحجمت معظم القنوات عن شراء حقوق بثه بحسب مصادر خاصة لـ “صالون سوريا” رغم عرض الجهة المنتجة العمل على أكثر من جهة، ليظل التلفزيون العربي الذي يبث من قطر ممسكاً بزمام مبادرة العرض الأول متمسكاً بموقفه من حتمية العرض.
وإبان عرض العمل، صرح زيد العظم (محامٍ سوري معارض مقيم في فرنسا وعضو في حزب النهضة الفرنسي الذي يرأسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون) أنّه جرى تحريف المسلسل بعد أن خرج كنص من يد المؤلف، وبحسب العظم فإنّ النص الذي شاهده الناس على الشاشة ليس النص الأصلي، بل هو نسخة معدلة وملطفة.
ويؤكد العظم وفق معلوماته أنّ العمل الأولي سمى الجمهورية موضع النقاش الدرامي بدولة “العرين” وليس دولة “الفرات”، ورئيس الجمهورية “بشر” وليس “فرات”.
حرب المحاور
وبالعودة لـ “هداك المسلسل” فتكفي كتابة كلمة “هداك” على محرك البحث الشهير “غوغل” حتى تنهال النتائج المتتالية عن “ابتسم أيها الجنرال”، فالعمل باسمه الجديد سرعان ما صار بلغة السوشال ميديا “تريند”.
الأمر لم يتوقف عند حدود رغبة المشاهد وقناعته بما يرى، فانبرت منابر لتشرح للمشاهد ما عليه التفكير به خلال مشاهدته للعمل، أحد التلفزيونات قال في تقرير له إنّ شوارع دمشق خلال شهر رمضان تفرغ من المارة في الساعة العاشرة مساء لأنّ الجميع يذهبون لمنازلهم لمشاهدة المسلسل، وحقيقة هذه الرؤية الشمولية غير منطقية، فمن المعلوم أن لا كهرباء في البلاد أصلاً، والعمل بطبيعة الحال متاح على يوتيوب دون حقوق ملكية، ويمكن مشاهدته في أي وقت، ويكمل التلفزيون في أحد تقاريره أنّ العائلات السورية في الداخل تجتمع بعد الحلقة لتناقش مضامينها.
ومن جهة أخرى، نشرت إحدى الصحف اللبنانية المعروفة مقالة نالت فيه من العمل واصفةً ما يقدمه بالأحداث البطيئة والخطاب السياسي الساذج مكيلةً له مختلف ما هو معروف من الاتهامات الذي تستهدفه كعمل مقللةً من شأنه حتى كادت تساويه ككل بتلك اللوحات البسيطة التي يعرضها الفيس بوك لمتابعيه بغرض التسلية ليس إلّا.
أنا أشاهده
يُبدي خريج إدارة الأعمال عبد الناصر استغرابه من كثر الأخذ والرد حول مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” ويشرح موقفه: “لماذا عليّ أن أخفي مشاهدتي للعمل؟، أليس من فيه سوريون؟، أليس لهذه الحرب مواقيت ستنتهي بها ونتصالح جميعا مع تبويسة شوارب، علينا أن نتغاضى كثيراً، ثم هل تعتقد أنّ أجهزة المخابرات لا تتابعه؟، يا سيدي، المخابرات ليست كلها كما تسوقه الروايات المتواترة، ففيها ما فيها من أناس عاديين، ولست في معرض الدفاع عن أحد، أنا لست مهتماً أصلاً، ولكنّه عمل درامي وكفى، وقالوا ألف مرة إنّه محض خيال، ماذا عليهم أن يفعلوا أكثر؟”
وحين سألنا الحقوقي فايز عيتوني إن كان شاهد “هداك المسلسل”، ضحك مطولاً وأجاب: “تماماً، هو هداك المسلسل، كدنا ننسى اسمه الأصلي، وفي اسمه الجديد تندر كبير وسخرية من الواقع الذي نعيشه ومقاربة كوميدية سوداء لحالنا”. ويكمل: “لنكن واضحين، في مكان ما هذا عن العمل متنفس جيد، ففيه ما فيه من خرق لخطوط حمراء في سوريا، ولدى العرب عامةً، خطوط لم يحدث أن خرقت، فما من عمل تناول كواليس صراع عائلة تحكم بلداً عربياً، فالعمل بحد ذاته جديد ويكتسب أهميته من جرأة الطرح، بمعزل عن موقفنا السياسي، وبالمناسبة أنا لا أتفق مع ذلك الخط السياسي، ولكنّ شيئاً من الفضول جعلني أشاهد كل حلقاته”.
هرطقة
من وجهة نظر الشاب منتصر زايد فإنّ العمل “هرطقة” قائلاً: “هل نختفي وراء إصبعنا؟، العمل واضح لمن هو موجه، وواضح من هم المستهدفون، حتى لو ظلّ صناعه يقولون لمئة عام إنّه عمل خيالي، الاستهداف لسوريا ومؤسساتها وصمودها وشعبها واضح، وتسميته بـ (هداك المسلسل) لن تمحو عنه عار نهشه في جسد البلد”.
أما بالنسبة لعمار متيناوي الطالب في كلية الصيدلة فإنّ العمل واضح الأهداف والرسائل، يقول: “العمل مليء بالإسقاطات، ولكن انظر من حولنا، في الشارع والسوشال ميديا، الناس بجرأة تقول إنّها تشاهده، هذه الحرب كسرت الكثير من الخطوط الحمراء، وقد لا أكون معجباً بكمية الإسقاطات تلك، ولكنّه عمل ينبغي مشاهدته لأسباب عدة، ولكن ما يجعلني أقلق هو أنّ النوايا فيه بالتأكيد ليست مثالية، وهذا بحدّ ذاته مشكلة، ولكنّه بالمحصلة يبقى (هداك المسلسل) الذي لا أحد يريد قول اسمه”.
الكوميديا السوداء
شبان آخرون التقاهم “صالون سوريا” أبدوا امتعاضهم من العمل متهمين إياه بذر الرماد في العيون وتقديم صورة مبالغ بها عن الحال في بلادهم. في مقابل كثر يتابعونه ويهتمون به. وفي موقف الطرفين هذا انقسام آخر يضاف ليوميات السوريين المشبعة بالانقسام، ولكنّه هذه المرة في البيئة الحاضنة للسلطة نفسها. وفعلاً نسبة مشاهدة العمل مرتفعة، ومردّ ذلك عوامل كثيرة، الإعجاب بالمضمون إحداها، والفضول كذلك، وحتى القهر والعدمية ساهما في رفع نسبة المشاهدة، فالناس في هذه الظروف ناقمةٌ على الهواء الذي حولها، فأمام الجوع المقيم في البطون، تسقط الكثير من المعادلات، ويظلّ الحديث عن مشاهدة “هداك المسلسل” مشروعاً ولكن بالطريقة السورية، الطريقة التي تقارب الوجع بالكوميديا السوداء.
ظلّ الجنرال (مكسيم خليل) عابساً حتى آخر مشهد في المسلسل حين قتل شريك نضاله بالسم، تاركاً الباب موارباً على جملة من الاحتمالات المفتوحة التي تركت للسوريين هامشاً غير مسبوق بالتصور والإسقاط والاستدلال، فهل كانت تلك فعلاً رواية عن عائلة حكمت بلداً عربياً؟، هل كانت رواية عن رئيس حالي أم رئيس سابق؟، هل بابتسامة الجنرال تلك تنفس السوريون واستعادوا شيئاً من خفايا الماضي التي كانوا يتهامسون حولها سراً خلال عقود! والأهم –بحسب كثر- كيف لم تحجب السلطة في سوريا العمل عبر المنصات التي كانت تنقله؟، هل ما حصل هو شيء من تلك السياسة التي سمحت للماغوط يوماً أن يقول على لسان دريد لحام ما كان يشكل أكثر تابوهات السياسة إيلاماً للسلطة فداء (للتنفيس) عن شعب غاضب!
على امتداد عقود شغل الأستاذ أنطون مقدسي وظيفة هامة في وزارة الثقافة السورية، كمدير للتأليف والترجمة، حتى جاز القول إنه طبع الوزارة بطابعه الشخصي والثقافي خلال فترة وجوده.
في سنواته الأخيرة، وفي طريقه إلى عمله اليومي في وزارة الثقافة الواقعة في حي الروضة الدمشقي، كان يمكن للمهتمين بالثقافة أن يلحظوا هذا الرجل المحني الظهر، الضئيل الذي يشبه أباطرة أو كبار كتاب اليابان، مثل يوكوشيما أو كاواباوتا، يسير بخطوات بطيئة، وكأنه يخشى أن يتعثر، وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على محياه وهو يستقبل ضيوفه، وإذا أطال الزائر أو تمادى في الثرثرة فسرعان ما تختفي الابتسامة ليُظهر وجهاً صارماً له مهابة عظمى.
إنه “الأستاذ” في ذهابه وغدوه الذي يحمل إرثاً معرفياً شاملاً، ويلم بمعارف شتى، إنه الفيلسوف الذي يفكر فلسفياً دون أن يترك خلفه كتباً فلسفية، رجل الثقافة الكبير الذي قصده الكتاب والمترجمون والشعراء والنقاد والفنانون التشكيليون من كافة الأجيال والمناطق، من المدن والأرياف.
ولد أنطون مقدسي في بلدة يبرود الصغيرة من قرى القلمون في محافظة ريف دمشق، في قرية قديمة عثر فيها المنقبون على آثار لإنسان الكهوف تعود إلى العصر الحجري. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في بلدته ودرس الفلسفة فترة قصيرة بين عامي 1933و 1934 في جامعة دمشق ثم سافر إلى باريس وحصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من جامعة مونبيلييه، ثم حصل على إجازة في الحقوق وأخرى في العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت وكانت تابعة لجامعة ليون الفرنسية في ذلك الوقت. وبعد عودته إلى سورية عمل مدرساً للفلسفة في ثانويات حمص وحماه وحلب ودمشق منذ عام 1940 وعمل مدرساً أيضاً لعلم النفس والتربية، ثم مدرساً للفلسفة اليونانية في جامعة دمشق على مدى عشرين عاماً، وعمل مدرساً للفلسفة السياسية في المعهد العالي للعلوم السياسية أربع سنوات.
كان أنطون مقدسي أستاذاً ومربياً شارك في وضع المناهج التعليمية وكانت له بصمته في ذلك، وعلى صعيد الجامعة كان أستاذا في تدريس الفلسفة تخرج على يديه، أهم أساتذة الفلسفة، وتعد الفترة التي كان يدرس فيها في جامعة دمشق إلى جانب رفاقه هي المرحلة الذهبية للتعليم الجامعي فهو من جيل الأساتذة الذهبيين: عبد الكريم اليافي، وعادل العوا، وجميل صليبا، وحافظ الجمالي، وسامي الدروبي، وبديع الكسم.
أثناء عمله الدؤوب في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، كان يدير فريقاً من خيرة المثقفين والمؤلفين والمترجمين والخبراء الذين أوصلوا الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة السورية إلى كل العواصم العربية على أنه كتاب يعتدُّ به، تأليفاً وترجمة.
وعلى الرغم من عمله مديراً للتأليف والترجمة والنشر منذ عام 1965 حتى عام 2000م، وكانت أهم وأنشط جهة للنشر في سورية، وموقعة البارز في اتحاد الكتاب العرب، وعلاقاته الواسعة مع مؤسسات وشخصيات ثقافية عربية وعالمية إلا أنه لم يطبع كتاباً، وله عشرات المقالات الهامة، ومقدمات طويلة وهامة لبعض الكتب إلا أنه لم يجمع مقالاته بين دفتي كتاب في حياته، وكل مقال أو مقدمه كتبها الأستاذ مقدسي تعادل كتاباً في موضوعها، وهذا أمر محير، جعل بعض الصحفيين اللبنانيين يشبهونه بسقراط الذي لم يعرف له كتاب ألفه في حياته، و لا أحد يستطيع إنكار مكانة سقراط في تاريخ الفلسفة وكذلك لا أحد يستطيع إنكار تأثير وحضور الأستاذ أنطون في الثقافة العربية المعاصرة.
على الصعيد السياسي، ربما قلة يعرفون أن أنطون مقدسي كان قريباً جداً من السياسي السوري أكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي، ويقال إنه وضع النظام الداخلي لهذا الحزب وبرنامجه السياسي، وكان له دور في اندماج الحزب العربي الاشتراكي مع حزب البعث وصياغة وثيقة الاندماج عام 1953 ليصير اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم سورية منذ عام 1963. ولم يسعَ أنطون مقدسي ليكون له أي امتيازات أو منصب سياسي، وحافظ على مكانته كمفكر قومي اشتراكي مستقل وصاحب عقل نقدي طيلة حياته. كان يمتلك ثقافة موسوعية شاملة، وتؤكد كتاباته واهتماماته على ذلك، فله مقالات في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأدب والفن التشكيلي والنقد الأدبي وفن الشعر وأنماط السرد، وكل مجالات الثقافة، وفي الدين واللاهوت والتحليل النفسي ونظريات علم الاجتماع والتربية والفكر الماركسي والوضعي، وكان فاعلاً في كل مراحل حياته وكل أدواره التي تمثلها وعمل بها، وليست هذه من المبالغات بل كانت واقعاً لمسه معاصروه وعايشوه معه عن قرب. إنه من الموسوعيين العرب بعمق، وبانحياز واضح نحو الحداثة وبعدها النقدي. وكان في سنواته الأخيرة حين ينكب على عمله ينحو إلى الصمت والنفور من الثرثرة المعتادة في أوساط المثقفين، ولم يعرف عنه حب الزيارات ومجالسة المثقفين في المقاهي أو النوادي، كان أشبه بكاهن تنويري، ومن المؤكد أنه على الرغم من اشتراكيته ونشره للفكر العلماني كان مؤمناً بعمق أيضاً وهذا ما أشار إليه صديقه الأب الياس زحلاوي، وقد اشتركا معاً في إصدار كتاب مشترك ديني المحتوى والشكل بعنوان” الصوفانية” عام 1982.
ولأنه رجل فكر منخرط بقضايا أمته، ويعرف دور المثقف النقدي في إصلاح المجتمع كان مؤمناً بالإصلاح السياسي لبلده سورية حتى رحيله، وكان قد وجه رسالة مفتوحة إلى القيادة السورية على صفحات جريدة السفير اللبنانية نشرت عام 2000عبَّر فيها عن رؤيته وأمله في تحقيق إصلاحات جوهرية. كما وقع مع مثقفين سوريين بيانين من أجل الإصلاح، وهما ما عرف ببيان الـ99 مثقفاً ثم بيان الـ1000 مثقف اللذين طالبا في الإسراع بالإصلاح وإطلاق الحريات السياسية وإلغاء قانون الطوارئ، قبل الانفجار السوري الكبير بحوالي عقد من الزمن.
هوامش
نشر أنطون مقدسي مقالاته في كبريات الصحف والمجلات العربية، ومن أشهر مقالاته في الأدب:
١- قضايا الأدب وضرورة إنتاجه، نشرت عام 1972 من / 90/ صفحة في سلسلة الدراسات الأدبية، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية.
٢- مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا، من 50 صفحة نشرت في مجلة الموقف الأدبي السورية عدد /12/ نيسان 1973.
٣- وطن ألفه الكلام، مجلة المعرفة السورية عدد /147/ أيار 1974.
٤- الحداثة والأدب، الموجود من حيث هو نص: رؤياه وإبداعه /20/ صفحة الموقف الأدبي عدد /9/ 1975.
٥- مقاربات في الحداثة، مجلة مواقف عدد 35 ربيع 1979في 60 صفحة.
٦- كما أعدَّ مقدسي عدداً من مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق العدد 286 عام 1985 بعنوان” أدونيس في باريس“.
أهم مقالاته في الفلسفة:
١-من الوجود إلى الوجودية، نشر في مجلة المعرفة عدد 85 عام 1969.
٢- لينين والفلسفة المادية المعرفة عدد 99 أيار عام 1970.
٣- في البدء كان المعنى، مجلة المعرفة عدد 113، تموز 1971.
٤-الفلسفة تبحث، مقدمة لكتاب عن الفلسفة لـ: إبراهيم الفاضل صادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 1979.
٥- العقل وغير العقل، عقلانية في موقع البحث، مجلة الوحدة عدد 55 عام 1988.
٦- من المنطق إلى الميتافيزيقيا، مجلة المعرفة عدد 334 عام 1991.
٧- ما هي الماركسية؟ قراءات الياس مرقص في أسفار الماركسية اللينينية، مجلة المعرفة
٨- الفلسفة تحاور الأدب، المعرفة عدد 350 تشرين الثاني 1992.
٩- أهم مقالات أنطون مقدسي في الاقتصاد:
١٠- الفن الحديث عام1976
١١- ديالكتيك للاقتصاد ومنهجه لدى كارل ماركس، مجلة المعرفة عدد 112 عام 1971.
مقالاته في الفكر العربي المعاصر:
١- في الطريق إلى اللسان، بحث في زكي الأرسوزي واللغة نشرت في الموقف الأدبي عدد 3و4 عام 1972 ومقدمة للأعمال الكاملة للأرسوزي.
٢- الحصري يُعرّف الأمة، المعرفة عدد 204 عام 1970.
٣- صدقي إسماعيل مفكرا، مع تأملات في الفكر والأدب، المعرفة عدد 164 عام 1984
الرواية والأصل، مراجعة وتقديم لكتاب: رواية الأصول وأصول الرواية تأليف مارت روبير ترجمة : وجيه أسعد.
مقالته في الفن التشكيلي:
١- العقلي واللامعقول من بودلير ؟إلى الفن الحديث، الموقف الأدبي.
٢- الفن والإنسان والياس الزيات، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.
٣- ساعات مع الفاتح، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.
٤-ذلكم هو الإنسان، عن الفنان مروان قصاب باشي، الحياة التشكيلية.
أن تكونوا مع الأطفال، عن رسوم الأطفال اللبنانيين، نشرت في الموقف الأدبي عدد 4 عام 1974.
مقالاته في القضايا العربية:
١- حرب الخليج، اختراق الجسد العربي.
٢- المثقف العربي والديموقراطية، مجلة المعرفة عدد 1139 عام1979.
٣- الديموقراطية في مواجهة العنف، الموقف الأدبي عدد 211 عام 1988.
يذكر أنه ترجم عن الفرنسية رواية مكسيم غوركي” مأساة جليزنوفا” صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1981
وبعد رحيله بعام جمع الأستاذ علي القيم مقالات أنطون مقدسي في كتاب بعنوان ” الأستاذ” ضم أهم مقالاته المنشورة بين 1968و 1992 إعداد وتقديم د. علي القيّم – وزارة الثقافة عام 2006 .
كما جمعت له محاضرات في الفلسفة تحت عنوان: ” الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية” تقديم المفكر السوري أحمد حيدر مراجعة الدكتور علي القيم صادر عام 2008م
إن قراءة مقالات أنطون مقدسي تعد متعة معرفية وأسلوبية، ومقالاته كلها طويلة بمنزلة كتاب شامل، يلحظ القارئ فيها الوضوح والدقة في الوصف والعمق في التحليل والاستنتاج، وهو يكتب كما يتحدث، إنه أشبه بأكاديمية فكرية، تشع منها الأفكار، مؤمناً حتى العظم بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي، منقطعاً إلى الثقافة، يطل من خلالها نحو العالم ونحو الإنسان العربي المعاصر بشكل خاص. وكان متشبعاً بالفلسفة اليونانية والأوروبية ولديه اهتمام لا يستكين بالآداب والفنون وبفلسفة اللغة.
حصل الأستاذ أنطون مقدسي على بعض الجوائز:
جائزة الأمير كلاوس 2001م
جائزة تكريمية من وزارة الثقافة السورية 2002
جائزة تكريمية من وزارة الثقافة الفرنسية عام 2003/ تقديراً لنشره الثقافة والآداب.
“الحياة والموت وجهان أبديان للعبث”، بهذه التداعيات للأفكار الملتبسة يدخلنا هوشنك أوسي في تفاصيل روايته الثالثة “الأفغاني –سماوات قلقة” الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية لعام2021 إلى أجواء مكابدات بطله ذي الحيوات الممتدة في التاريخ، وهو الملقب بالأفغاني على الرغم أنه لم يثبت على انتماء محدد لبلد أو مكان، فكل صديق اقترب منه أو صاحَبه يجزم بانتمائه إلى بلده وإلى مكان يخص من جاوره، وما يعنيه ذلك من المعرفة العميقة والحميمة بصفاته وتاريخه، في مشابهة مع فكرة رواية بول أوستر “4321” بالمصائر المتعددة للشخصية الواحدة.
الرجل الاستثناء الذي يتجول بين العصور، هذه الشخصية المتنوعة بمنعرجاتها الفكرية والموشحة بالشعر والرومانسية في القصائد المتروكة بعهدة كل صديق وكل منها بلغة مختلفة ما يؤكد عمق انتمائها الذي يدعيه في مخاتلة من الكاتب الذي يكاد في كل رواية لحياة منها أن يقنعنا بها ليراوغنا في الحكاية الثانية فما أن نقارب على الاقتناع حتى يقوض فهمنا التالي للشخصية التي خلقها ببراعة في مرويات من شهده وعاشره قبيل مصرعه.
هذا النسج لشخصيات متعددة تتوالد من شخصية واحدة فيما بقي في ذهن من عاصروه، الشخصية الإشكالية التي استطاعت أن تحوز على ثقة واهتمام كل من التقاه على الرغم أن الراوي لم يقابلها إلا خلال فترة بسيطة في معسكر اللجوء في جزيرة خيوس اليونانية التي جمعت أطيافاً بشرية من كافة أنحاء البسيطة، ليتم جمع كل هذه المعلومات من خلالهم بعد موت هذه الشخصية ورغم الشكوك التي تحيط بهذه النهاية ولكن الكاتب أدار دفة العمل لما يغاير المنحى البوليسي في البحث عن القاتل وجعله في معرفة القتيل من خلال معارفه، فالأول منها يعتقد ومتأكد من أنه مصري من عشاق عبد الحليم حافظ والمقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومن الذين شهدوا حرب مصر مع إسرائيل وله رأي يظهر فيه تخاذل السادات.
الشخصية الثانية للأفغاني يفترضه فلسطينيًا هجر من أرضه و كبر وسط المأساة وعانى من نكبات متتالية؛ تهجير 1967؛ ومن ثم أيلول الأسود في الأردن؛ وبعدها شارك بحرب1982 بلبنان؛ وانتقل مع المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس ومنها إلى لندن وبعدها رجع يتنقل بين العواصم خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو ليترقى في المناصب الأمنية وبعدها استقال محاولًا الرجوع إلى حياته وتجارة الأقمشة ومعاودة القراءة بعد أن يئس من السياسة، لأن بداية انتمائه الحزبي كانت مشحونة بالأوهام عن أعداء الثورة الواجب تصفيتهم، الأمر الذي خلق مناخ الاحتراب بين الفصائل الفلسطينية، ما جعله يكره ذاته إضافة لرأيه في قضية محمود درويش وناجي العلي بمن يخسر كل شيء ومن يفوز بكل شيء، وقد كان قد قرر أن يفجر قنبلة وأن يعترف بأنه أحد المتورطين باغتيال ناجي العلي لكنه اغتيل دون ذلك.
الشخصية الثالثة للأفغاني يفترضه أفغانيًا يعاني من تبعات ومخازي الاحتلال الأميركي وفجور جنوده وتعنت طالبان.
الشخصية الرابعة جزائري ابن يهودي تربطه علاقات مع قيادات الثورة الجزائرية والسلطات الفرنسية معًا الأمر الذي جعله في مرمى تهديدات المتطرفين أيام العشرية السوداء التي عصفت ببلد المليون شهيد.
الشخصية الخامسة تونسي أبوه شيوعي معارض للحبيب بورقيبة وقضى بالسجن ردحًا من الزمن ما اضطر الابن لترك المدرسة وإعالة أمه وإخوته بغياب أبيه
الشخصية السادسة إيراني جده من حزب تودة غدر بهم ستالين وأطلق يد الشاه في قمع جمهوريتي المهاباد الكردية وأذربيجان الإيرانية.
الشخصية السابعة كردي والده متورط بالصراعات الكردية الإيرانية والعراقية ووصية والده له بعد انتحاره هي الابتعاد عن السياسة فمن دخل مستنقع السياسة لن يخرج منه نظيف العقل والروح والضمير واليدين، وهو في كل هذه الشخصيات ثمة من يستهدفه ويفكر في تصفيته، ودائمًا ثمة قصيدة بلغة ما تؤكد انتماءه للشخصية التي لبسها عندما يتطور الحدث كبؤرة تتسع باستمرار للإيغال في تفاصيل شخصيات تتفرع من شخصية واحدة.
هذا التكنيك في السرد المتشظي تجاه قضايا عدة افترضتها الشخصيات المتناسلة التي نسجها ببراعة وهذا التنوع الذي خلقه في الحيوات العابرة للزمن والمتوزعة بانتماءات عدة من هوية مصرية وكردية وإيرانية وفلسطينية وسواها عاد وضيقها في الجزء الثاني من العمل بحصره استحضار الأحداث في موقعة النهروان وخلاف علي بن أبي طالب مع الخوارج.
مامن شيء حرج وشديد الحساسية مثل طرح الخلافات التاريخية ذات الفحوى الديني على بساط البحث والسجال سواء في المجال الفكري أو السردي أو النقدي، ولا ينفي ذلك الحاجة الماسة إلى رفع صفة التقديس عن كل القضايا ومناقشتها بمنطق العقل والعصر الذي لا ينتظر صحوتنا، وخاصة في ظل سعي محموم لذوي الرايات السوداء في التأليب والتكفير وتوزيع الجنة والنار وفق أهوائهم باعتبارهم قابضين على عنق الحقيقة.
بعد مرور كل هذا الزمن يطل الكاتب على الأحداث ليعيد تقييمها ورؤيتها بمنطق عقلي والاحتكام لضرورات عصرية بعيدًا عن نزاعات الطوائف والاصطفاف العاطفي. فقد عارض الخوارج عليًا لقبوله بتحكيم كل من عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وهم ليسوا أصحاب ثقة ويتوقع منهم الغدر، كما عارضوا حصر الخلافة في قريش بين بني هاشم وبني أمية كونها لا تؤسس لشورى حقيقية، كما تأييدهم لضرورة وتطبيق حكم الله لما فيه نص صريح وهو قتال الفئة الباغية في تخيل الكاتب للحوار بين الفريقين ومستشهدًا بأحكام جلد الزاني وقطع يد السارق التي فيها نص واضح.
ولكن إن وافقنا على ماذهبوا إليه في البداية فالجزء الثاني من كلام الخوارج ذو النفس الراديكالي معطل للعقل في الاحتكام للنص دون سواه فعندما حلل عمر بن الخطاب إيقاف حكم قطع يد السارق في سنة المجاعة وإلغاء حق المؤلفة قلوبهم في المغانم والكلأ بعد أن قوي عضد الدولة في قراءة معاصرة للنص المقدس بتحكيم العقل وقراءة الواقع، فقد عرف عن الخوارج أنهم كانوا ميالين للعنف والتكفير والأخذ بالنص دون هوادة وربما كانت فكرة علي بن أبي طالب حقن دماء المسلمين فمن قال إن علي كان لينتصر على معاوية لو حاربه، وابن أبي سفيان معروف بثرائه ودهائه، في أي حرب هناك احتساب لاستشراف النصر أو الخسارة وهنا دور القادة في استقراء الوقائع، ربما سارع علي لحرب الخوارج لأنه وثق من إمكانية انتصاره عليهم وربما الأفكار المتقدمة لم ينضج ظرفها التاريخي بعد، ونحن عندما نطرح شخصية ما على بساط البحث من غير الوارد أن نشيطن جهة ونضع الأخرى بجهة الملائكة ضمن العوامل المتقلبة المنتجة لفكر الجماعات والدول. فالخوارج كانوا متشددين في حضِّهم الثوري على أئمّة الجور، وفي استحلالهم لدماء مخالفيهم، والدعوةِ إلى العدالة الاجتماعية والمساواة ولكنهم رغم ذلك انزلقوا إلى العنف والدماء أو جروا إليه ويظهر ذلك في الانشقاقات المتكررة في جماعاتهم.
المثال الذي أورده الكاتب على لسان الخوارج حول آية الرجم كمثال على الاحتكام للنص، في نص مشكوك بنسخه إذ هناك من يقول إن عمر بن الخطاب أضافها إلى القرآن بعد أن نسخت (ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وفي الموطأ والسنن الكبرى وغيرها من كتب الحديث نسخ آية الرجم لفظًا لا حكمًا أي: أنها بعد النسخ لم تعد من الآيات القرآنية، وبقي حكم الرجم الذي دلت عليه. قال السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن أن آية الرجم مما نسخ لفظها وبقي حكمها.) بالإضافة إلى أن فرقة من الخوارج والمعتزلة أنكروا حد الرجم فمن التناقض إدراج مثال ضمن حجاج المتحاورين في أمر مشكوك فيه بالأصل، وربما كان من الأفضل لو استخدم نصًا مختلفًا للبرهان والحوار الذي يتوه القارئ بين مرجعيته التاريخية وحقيقة وجوده وبين خيال الكاتب في استنطاقه لكلام الشخصيات التي يوردها، وبالعموم كمسألة فكرية الاحتكام إلى نص لزمن ما قد يعني قوة بالفكر ربما يفحم طرفًا في وقت ما، ولكن بزمننا أي احتكام لنص باعتباره الحقيقة المطلقة قد نعتبرها نوعاً من الانتقاص من القدرات العقلية للكائن المفكر.
ربما لو أبقى الكاتب الحوارية ضمن رموز لشخصيات روائية لتجنب المباشرة في طرح الحوار المتخيل بين الخوارج وعلي بن أبي طالب مما يجعل لكل ذي رأي الإدلاء بدلوه حول مصداقية الحوار والتوجه الفكري والمسألة الشائكة الذي لم يستطع الزمن المديد الذي يفصلنا عن هذه المشكلة رأب الصدع بازدياد تمترس كل وارث لفكر في موقعه وتناسل الضغائن والأحقاد.
تظهر المباشرة في طرح الأفكار في أكثر من جانب ففي الاستطراد الاستشهادي ((تشابه الخطاب الثوري الشيوعي مع الخطاب الجهادي الإسلامي)) تشابه ارنستو تشي جيفارا مع المجاهد الإسلامي في نصرة المظلومين ومناهضة الاستعمار وأيضًا الاستنتاج “أن التاريخ يكتبه المنتصرون لو انتصر هتلر أو ستالين أو لتغيرت كتابة التاريخ وفق منطقهم”، لا يترك أوسي هذا الاستنتاج للقارئ ليترك له مساحة من القبول والاختلاف فيما يذهب إليه، كما أن المباشرة ظهرت في هذا الطرح للمماحكات الفكرية بين الخوارج وأنصار علي بن أبي طالب التي أخذت أكثر من شكل بالإضافة إلى إتباع قالب مكرر في السرد بشكل كبير كوجود أوراق في صندوق بعد مضي زمن عليه لتعاد قراءته مشكلة الجزء الأكبر من جسد العمل سبق أن فعله يوسف زيدان في “عزازيل” وآلان بادو في “عبدة الشيطان” وواسيني الأعرج في “ليالي ايزيس كوبيا” وغيرهم.
تختلط الشخصيات التاريخية بالشخصيات الروائية فهو يستنطق الأولى ويؤلف حججًا وبراهين على لسان الأخرى في حشد هائل منها، تتوزع بين الصحابة معاصري أيام الخلافة إلى عبد الله عزام والتنظيمات الجهادية التي يحتاج الخوض فيها إلى كتب وملفات واسعة تعج بالتفاصيل والتواريخ باحتشاد لا يجد القارئ صبرًا على الإلمام بكل هذا التاريخ، ولكن أهم ما فيها رفع صفة القداسة عن الأشخاص ومناقشة الأحداث بمنطق العقل الذي نتفق فيه أو نختلف.
ولكن ما يجعلنا نتعاطف مع العمل أن الكاتب ينتصر لفئة مهزومة عبر التاريخ لم يبق لها مريدون ولكنها تحمل بذور حرية العقل إلى حد ما، فنحن نحتاج لمساحة الحرية التي تسمح لنا بمراجعة تاريخنا كله بمنطق العقل والبرهان الفكري لا التكفير والإلغاء، وإلا سنظل نؤجج الخلافات والتحزبات الطائفية والمذهبية إلى ماشاء الله وحتى لا تقوم لنا قائمة بعد اليوم.
أكرم حمزة فنان تشكيلي سوري من مواليد السويداء 1963. درس الفن وتخرج من كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق. عمل مخرجاً صحفياً ومصمماً إعلانياً، ومصمماً للفضاء المسرحي. عمل أيضا في مسرح Pakhuis Hoorn في تنفيذ الإضاءة والصوت لسنة ونصف. أقام عدة ورشات عمل فن تشكيلي والعديد من دورات الفنون.عضو لجان تحكيم العديد من المسابقات الفنية والمسرحية. نال العديد من الجوائز الأولى في التصميم والسينوغرافيا، وصمم ونفذ العديد من مهرجانات الفن والمسرح والثقافة. عرض و شارك في عدد من المعارض والتظاهرات الثقافية في عدة مدن أوروبية، وكتب ونشر في عدة صحف في الفن التشكيلي والغناء الملتزم. أقام نصباً فنياً في مدينة هورن لمنظمة هولندية تُعنى بشؤون البيئة من النفايات البلاستيكية، النصب بارتفاع ثلاثة أمتار وبناه من المخلفات البلاستيكية وكان حامله قضيباً معدنياً مجوفاً. عضو منظمة أطباء بلا حدود العالمية، عضو منظمة آفاز العالمية، وعضو متطوع في جمعية مساعدة مرضى الزهايمر الهولندية. مقيم حاليا في مدينة هورن.
صالون سوريا: متى رسمتَ هذه اللوحة، ما الشرارة الأولى التي كشفت الطريق إليها، هل هناك فكرة أو إيحاء أو تأثير معين دفعك إلى رسمها؟
أكرم حمزة: لقد اشتغلتُ على الوجه البشري في المراحل الأولى من عمري، أي منذ طفولتي، وكانت الدراسة الجامعية وما بعدها المؤثر الحقيقي لهذا التوجه الذي تكرس بعدد من التجارب اللاحقة تعددت فيها الأساليب والتقنيات، وكان تتويجا لها ارتحالي عن بلدي لأعود الي جذوري التشكيليية وأعاود دراسة الوجه وإنجاز العديد من التجارب وكم من الأعمال على مدار سنة كاملة لتبزغ اللوحة- السلسلة مع مجموعة أعمال تجولتُ بها في عدة معارض فردية وجماعية في أوروبا ( بلجيكا: مول و بروكسل، ألمانيا: بريمن وبون، هولندا: أمستردام، إيندهوفن، أوس، ستيدبروك، ميدبليك، هورن). كانت تلك الأعمال تُعنى بالوجه البشري وضمنياً بالانفعالات الإنسانية والبشرية، ونفذت تلك الأعمال بداية الشهر السادس من عام 2016 ونفذت اللوحة أعلاه في الشهر الثامن من العام نفسه، واللوحة التالية هي أول لوحة من تلك المجموعة.
هذه هي كانت البداية والمحرض بعد استتباب مقومات الأسلوبية من ناحية التقنية-المهارة، وضمناً تماهيها مع الموضوع الذي أعمل عليه، فالشرارة عندي ليست المحرض الخارجي على الأقل من خلال بحثي الدائب في تلك الفترة عما أستطيعه، والعمل اليومي وإنجاز العديد من الأعمال التي تحاكي وتتقاطع في بعض منها تجارب أخرى.
واقتنت هذا العمل الأول السيدة الباحثة دومنيك فان لير المختصة في تاريخ الفن و رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تصدر في أمستردام.
ص.س: ما موضوع هذه اللوحة، وما العوالم التي تشير إليها وما الذي تحاول إيصاله فنياً فيها؟
أكرم حمزة: هي جزء من سلسلة بعنوان تحولات العواء أستلهم فيها مأساة الإنسان في رحيله وحيداً مع كامل أحزانه وآلامه الجسدية والنفسية خصوصاً ما يجري الآن من تكالب السواد والليل في منطقتنا والعالم.
هي صرخة عواء من قعر الألم. حتى ما يسمى بالحيوان كان وسيظل أكثر التصاقا بالوجع وفي التعبير عنه، وحيداً في ألمه، وحيداً في صمته، وحيداً في ليل عوائه.
ومن خلال الوجه الذي يندمح فيه الحيوان والإنسان، والتركيز على الحس التعبيري بالعينين وعضلات الوجه، أختصر الوجه بما ذكرته، مبقياً على الشحنة التعبيرية بوجود الخط الانفعالي المستمر على مساحة من بياض تتلوث بالقليل من تونات الوجه.
وبالنسبة للوحة تلك سميتها نظراً لتميزها حالات تسعوية، لما فيها لعب على الكلام من حالات والحال (الوجد الصوفي) والتسعوية، الرقم تسعة والتعاسة كقلب الأحرف، والمهم هو كيف تشاهد وما تشاهده يبقى هو الفيصل والحكم. والتالي بعض من وجوه اللوحة.
ص. س: ما الذي تشكله هذه اللوحة في مسيرتك الفنية؟
أكرم حمزة: بهذه المجموعة وضمنها هذه اللوحة أستطيع القول أنني أنجزت شيئا ما وإضافة في مسار الفن التشكيلي ضمن مجال اللوحة المحمولة، لجدة طرحها تقنياً وأسلوبياً.
ص.س: كيف تختلف هذه اللوحة عن لوحاتك السابقة؟
أكرم حمزة: كما ذكرت سابقا هذا العمل لا يختلف من الناحية التقنية لأنه تطوير وتصعيد للتجارب التي قمت بها سابقا فالمزاوجة بين الغرافيك والرسم، الدراسات الخطية (الإسكتش السريع، الكروكي) مع الإكرليك على اللوحة القماشية المحمولة، هذا من ناحية، ومن ناحية الأسلوب زاوجت بين اللوحة السطح أي إلغاء المنظور الهوائي والبعد الثالث في فراغ اللوحة وأبقيت على التجسيم في الوجه عن طريق الخط الغرافيكي المستمر.
(اسكتش بقلم الرصاص 2016 ، وفيه يظهر نفس طريقة العمل في وجوه اللوحة، لكنه هنا أكثر تحرراً).
ص. س: ما الأدوات المستخدمة في اللوحة وكم استغرق إنجازها؟
أكرم حمزة: اللوحة جزء من مشروع وسلسلة تحولات العواء. مواد التنفيذ قلم حبر جاف أسود والدهانات الإكريلية والديكور الرمادي، على القماش المجهز بالأساس للرسم. قياس العمل كواجهة 100×100 سم . نفذ العمل في صالة J.A.J.A إيندهوفن هولندا عام 2016 مع مجموعة سلسلة التحولات واستغرق إنجازها أسبوعاً. في هذه الفترة من النصف الثاني من العام 2016 حيث كنت متفرغا للعمل في هذا المشروع الذي تجاوزت لوحاته الأربعين لوحة، وقد قسمت اللوحة إلى 9 مربعات متساوية يفصل بينها شريط رمادي مزرق وتشكل 9 حالات لوجوه شبه أمامية وشبه آدمية بشرية ونحن نعلم رمزية العدد تسعة في المثيولوجيا وعلم الأعداد وحساب الجمل، والوجوه كلها رُسمت بالخط الغرافيكي المتتابع والانفعالي بواسطة قلم الحبر الجاف الأسود مما كان مزواجة أولى للاسكتش الغرافيكي مع اللوحة القماشية وخلفيات الوجوه جميعاً بمادة الإكرليك التي غلبت عليها الألوان القاتمة والسطوح المتناغمة، وبعض السطوح كانت أقل دسامة وشفافية وتعتمد اللمسة السريعة والقصيرة المتقطعة. أما الحامل فهو القماش المجهز بالأساس القليل الامتصاص ومشدود على إطار خشبي.
(دراسة وجهية 2016 بنفس الطريقة والإسلوب، لكن فقط بقلم الرصاص B6 )
ص.س: هل كانت آراء النقاد والمشاهدين مطابقة لما ترمي إليه في هذه اللوحة؟
أكرم حمزة: تناولت الصحافة عامة كثيراً التجربة نظرا للدعوات التي وُجهت لعرضها في العديد من الأمكنة ومدن الشمال الهولندي وفي كل الصالات التي عُرضت فيها هذه اللوحة مع مجموعة أخرى من الأعمال، كانت تثير الإهتمام لما فيها من غرابة و جدة. وكانت تجري نقاشات حول المجموعة ككل، وكانت اللوحة تحظى بالتأمل والوقوف مطولاً أمامها، وكثير من الأشخاص والمجموعات يعودون إليها وهذا ما جرى في المعرض الأخير حيث اقتنيت اللوحة، وكذلك أبدت اهتمامها السيدة الناقدة المختصة بتاريخ الفن دومنيك فان لير رئيسة تحرير مجلة تابلو الفنية التي تنشر في أمستردام واقتنت عملاً من نفس هذه المجموعة عام 2018 . ولا أعتقد أنها كانت بعيدة عن رؤيتي العامة للمجموعة، لأن من طبع الفن عامة أنك تستطيع ان تحلله وتفككه أو تستمتع به من خلال رؤياك أنت، وهذا ما يضفي على الفن عموماً طابع حرية التلقي، فالرسائل الموجهة تصل بالمشاهدة، والمشاهد هو الذي يحدد من أين وكيفية المشاهدة، وصحيح أن الفنان المتمكن من أدواته المعرفية والتقنية يستطيع أن يوجه المشاهد ويجعله يتفاعل مع ما يريد سواء بمتعة المشاهدة الجمالية أو المعرفية التي أعتقد أن لا انفصال بينهما إلا لضرورات الشرح والتعريف.
يمضي أدونيس وقته في خدمة القصيدة واللوحة (الرقيم) والشذرة والتحليل العميق والفكر النقدي التفكيكي، لا يتوقف عند السطح بل يتغلغل إلى أعمق داعياً إلى نسف البنى الثقافية السائدة من جذورها، وعن بكرة أبيها، بغية الانطلاق من أرضية هذا الهدم الإيجابي الخلاق نحو لحظة بناء حقيقية لمستقبل يمكّن من وضع الأقدام على خشبة مسرح العالم الحديث. ويدرك أدونيس جيداً أن عناصر الرؤيا لا تكتمل إلا عبر تكريس يقارب العبادة للإبداع الشعري والفكري. ومايجعل النص الشعري الأدونيسي المتجاوز للقصيدة في شكلها السائد والموروث عصياً على القولبة والإلغاء والنسيان هو أن لغته مجبولة بالتاريخ ومنبثقة من التراث بأصواته المغايرة والمتغايرة والمبدعة والمُهمَّشة التي لم يُعترف بشرعيتها الفنية، ومَنحَ الشاعرُ أصواتها في ديوانه ذي الشكل الفني الجديد والمختلف، ”الكتاب“ فضاء لحضور جديد وصَهرَها في خصوصية صوته الشعري وتفرده. يمزج نصه في تضاعيفه أصوات القدماء والمعاصرين العابرين لحدود الثقافات والخارجين على تعريفها للوجود مع استكشاف لا يتوقف لطبقات الواقع وإيقاعات اللحظة، ولهذا يأتي شعره كالألماس الذي يتشكل مما يشبه انفجارات بركانية في أعماق الكوكب الأرضي. وعلاوة على أن التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية ينبض في النص الأدونيسي، فإن ما يبقيه حياً وحيوياً هو قدرة الشاعر على أن يظل متحولاً وباحثاً ومتسائلاً ومانحاً على المستوى العميق، فأي كرم أروع من أن تمنح قراءك قصيدة تتحقق فيها شروط الإبداع تنقلهم من سياق يتسم بالتكرار والنمطية والمهادنة ومحاكاة القدماء إلى فضاء جمالي يشير إلى الطريق نحو أفق الأسئلة، وأي خدمة أنبل من أن تقدم كتاباً فكرياً يغير النظرة إلى التراث ويخلخل تعريفاً متوارثاً للوجود تم الاتكاء عليه طويلاً، فاتحاً باب التساؤل والتجريب تحت شعار ”للحرية، والإبداع، والتغيير“، الذي تبنته ”مواقف“، وهي مجلة أسسها أدونيس في ١٩٦٨، وكانت في قلب الانقلابات الثقافية العمودية البيروتية.
في هذا الإهاب زار أدونيس المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة أثارت جدلاً قيلَ إن السياسة حاولت أن تجني ثمارها وتجيّرها لصالحها بعد أن قامت بحراسة المشهد ورعايته دون السماح لأجهزة الرقابة، أو أية جهة بالتدخل لتعكير صفوه، غير أن ما جعل الزيارة تخترق السياسة وفن إخراج المناسبات لخدمة مآربها وتنجح بقوة وتكتسب صفة شعرية وثقافية أصيلة، هو أن أدونيس سافر مراراً من قبل إلى هذه الأرض المحورية عن طريق دواوينه وكتبه الفكرية ومقالاته الصحفية وحواراته المتلفزة والإذاعية الكثيرة، ما ضمن له جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين في المملكة الذين رأوا في تجربته الشعرية والفكرية فسحة أملٍ للحداثة والتحرر في سياق تُطْبق فيه الرؤية السلفية الموروثة على خناق الوجود، فضلاً عن أن المؤسسات الثقافية التي دعته أبدت استقلالية جديرة بالاحترام.
نجحت الزيارة أيضاً لأن المطلعين في المملكة يعرفون أدونيس وقيمته الإبداعية بعد أن سبقته كتبه إليها، وهم أبناء أرض كانت ينبوعاً للشعر العربي الكلاسيكي ومهداً للنبوة، ينبوعاً لا يكف عن الانبجاس والتدفق. ولقد قال أدونيس في المملكة ما يقوله في أي مكان، إلا أن قوله له فيها اكتسب أهمية رمزية كبيرة، فهنا يتقاطع التراث مع الحداثة ويتحول، أو يبقى أسير الرؤية الماضوية ويتجمد، وهنا يتوضح صوت الشاعر سياقياً، ويتجسد حضوره الشعري والفكري المستند إلى مخزون شعري هائل أنجبه حوض هذه الأرض المباركة. وأن تكون أناك الشعرية والفكرية امتداداً تحويلياً، تم عبر الانفتاح على التجارب الكبرى في العالم، لأرقى وأهم الإبداعات الشعرية في هذا المخزون الإبداعي فإن هذا منح الشاعر زخماً هائلاً وقوة حضور تجلّيا في وقوف أدونيس على المنبر في سن الثالثة والتسعين كأنه في أوج شبابه حين كان المحرك الجبار لقطار الحداثة في ”شعر“ و“مواقف“ على السكك الوعرة للثقافة العربية.
حاولت مقالات صحفية كثيرة أن تربط الزيارة بالتوجهات السياسية الجديدة في المملكة التي تسعى قيادتها الشابة الحالية إلى تحييد القوى السلفية التي تتحكم بمفاصل الحياة، ولا شك أن انفتاحاً كهذا تُرفع له القبعة، ويشير إلى أن الأجيال الجديدة في هذه البلاد ملت من إكراهات الرقابة وضغوطها على الفكر والحياة الحرة والتي كانت تقليداً تشترك فيه معظم الدول العربية سواء التي رفعت شعارات العلمانية أو التي حرست الفكر المحافظ، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب حين قال إن الدول العربية سجون متلاصقة.
ويجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن السعودية التي دعت أدونيس ليست المملكة السياسية وحسب بقدر ما هي المملكة الفكرية والشعرية والفنية، فهذه الأرض، والتي هي في الأساس أرض النبوات والشعر والتصوف، أنتجت وما تزال شعراء ومفكرين وفنانين مبدعين ضاقت عليهم نواحي الآفاق المتاحة فقرروا توسيعها، أو أن قوة الثقافة تمكنت من أن توصل رسالتها فكانت ثمراتها الأولى دعوة أدونيس.
ألقت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية الأضواء على خشبة مسرح احتجبت عقوداً خلف ستار الرقابة والنظرة الدينية التي وقعت في شباك الموروث وبقيت على حالها دون تغيير، وأغلقت الأبواب والنوافذ في وجه أية قراءات جديدة للنص الديني. وانكشفت أثناء هذه الزيارة أرض جديدة مضاءة بقوة رغبة الخروج من عباءة الماضي وضرورتها.
كانت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية بمثابة زيارة كاشفة ومضيئة، بمعنى أنها أوضحت الانقسام في الخريطة الثقافية، فهناك من هاجمها انطلاقاً من نظرة ضيقة وبلغة اتهامية لا تُحسب داخل حدود الثقافة بالمعنى الفكري والإبداعي الحقيقي، وثمة من نظر إليها كزيارة قابلة للتوظيف السياسي من ناحية أن بعض الصحفيين والمسؤولين الثقافيين في السعودية قاسوا بها مدى التحول في ظل التوجه السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، أي أن الزيارة كشفت أن ولي العهد انتصر في حربه على الظلاميين وشرطة الشرف والرقابة الدينية والممارسات الوهابية وجلب ما منعته وحرمته سلطة الثابت إلى القلب الذي يتوضع فيه الحجر الأسود للفكر السلفي. وهناك من اعتبر الزيارة انتصاراً للشعر والفكر ناجماً عن تحول وانفتاح يتدفق نهره في صحراء الجزيرة العربية، ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم ما يجري من تحولات مهمة داخل المملكة العربية السعودية، ويجب أن ننظر إلى الزيارة على أنها لفتة كريمة ومبادرة توضح تقدير السياسي لأهمية الفنون والآداب ولضرورة بناء السياسة على الثقافة، الأساس الذي تفتقر إليه السياسات في معظم الدول العربية.
أدونيس يعي هذه المسألة جيداً، ويعرف أن الصحافة دوماً تتحرك ضمن خطوط مدروسة وتوظف أي شيء، إلا أن الإعلام الاجتماعي غير الخاضع لرقابة الأنظمة بيّن أن محبي أدونيس والأفق الذي تفتحه كتاباته الشعرية والفكرية كثر. وكان الاحتفاء بأدونيس وحضوره وشعره نسائم ثقافية منعشة، ودليلاً على أن المؤسسات العربية يمكن أن تتجدد وتنهض إذا حالفها الحظ بقيادات شابة تمتلك نظرة سياسية أكثر عمقاً مستندة إلى رؤية ثقافية.
لقد هدرت الدول العربية، المنتجة منها للنفط، والأخرى المنتجة لخطابات وشعارات الوحدة والنضال والتحرير، الكثير من مالها على القمع والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي وتمويل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والنخب الفاسدة، وتدمير البلدان لحماية الكراسي وحقن الأنظمة المتداعية، أما السياسات التي بُنيت على الثروة النفطية وحراستها فقد ولّدت تبعية سياسية واقتصادية دارت وما تزال في فلك القوى الكبرى من خلال تصنيع الأخطار والتجييش العسكري والاقتصادي والإيديولوجي على هذه الخطوط، وربما آن الأوان للخروج من نير هذه السياسات ومن التبعية للغرب لإنقاذ ما تبقى من الثروة وصرفها لبناء دولة مؤسسات حقيقية نستطيع أن ننطلق منها نحو مستقبل إنقاذي عربي، ونأمل أن تكون زيارة أدونيس خطوة على هذا الطريق.
أريكا هيلتون شاعرة وفنانة تشكيلية أميركية من أصول سورية ولبنانية، هاجرت عائلتها إلى تركياوولدتْ في مرسين، ثم هاجرت مع أمها حين كانت في سن السادسة إلى الولايات المتحدة الأمريكيةحيث استقرت نهائياً. نشرت في كثير من المجلات والصحف المرموقة مثل أوشن جيوغرافيك ماجازين،شيكاغو تربيون، توركواز ماجازين، أوثوريتي ماجازين ومجلات أخرى، وكانت مديرة سابقة لمركزالشعر في شيكاغو. يصدر ديوانها الأول في العربية قريباً. هذا الحوار أجري باللغة الإنكليزية معالشاعرة المقيمة في شيكاغو وتُرجم إلى العربية.
أسامة إسبر: أنت من أصل سوري ولبناني وتركي، وبعد ذلك أصبحت مواطنة أمريكية. كيف تؤثر قصتك كمهاجرة في تجربتك كشاعرة وفنانة تشكيلية؟
أريكا هيلتون: ولدتُ في تركيا لأبوين أحدهما سوري والآخر لبناني. كان أبي من أنطاكيا، وأمي من مرسين. في طفولتي كان جميع أفراد أسرتي يتحدثون التركية والعربية والفرنسية. وبعد أن انتقلنا إلى الولايات المتحدة لم أكن أنطق كلمة واحدة بالإنجليزية. لا أستطيع تذكر الوقت بين اللغات. في أحد الأيام بدأت أتحدث كما لو أنني كنت دوماً أتحدث الإنجليزية فحسب. وكما يحدث، نترك أحياناً شيئاً ما خلفنا حين نصل إلى شيء آخر، في هذه الحالة، كانت الخسارة هي خسارة اللغة العربية. ولأنني ولدتُ في تركيا كانت أمي تتحدث التركية معظم الوقت في البيت، وغالباً ما كانت مختلطة بالعربية، ولهذا ما يزال لدي فهم أولي حين أسمع كلمات معينة. لكن قدرتي على التفاعل مع العربية اختفت لأن رغبتي كانت شديدة للتفاهم مع أطفال آخرين، أردت أن أصبح أمريكية مثلهم وكنت أتضايق حين تنطق أمي باللغات التي وُلدتُ في جوها. أخيراً، أعتقد أنني وجدت نفسي ضائعة في عالمي الخاص أبحث دوماً عن جذوري. وهكذا وجدت نفسي أحاول أن أبتكر حقائقي.
أإ– ما الذي قدح لديك الشرارة الأولى لكتابة قصيدة؟
أ. هـ: أحببت دوماً المكتبات. في أوقات فراغي (قبل الإنترنت) كنت أذهب إلى المكتبات في معظم الأحيان وأسير في الممرات باحثة عن كتب يمكن أن تغريني. عثرت في إحدى المرات على كتاب ورقي صغير يدعى ”أركيولوجيا الروح“. أحببت الملمس المخملي لغلافه، والعنوان بالطبع. وهكذا اشتريته من دون أن تكون لدي فكرة عن محتواه. وجدت نفسي مأخوذة بمعنى الكلمات. داخل الصفحات، اكتشفتُ ريلكه وشعر جلال الدين الرومي وبابلو نيرودا وخاصة قصيدته التي سحرتني ويقول فيها: ثدياك كافيان لقلبي وجناحاي لحريتك. ما كان غافياً في روحك سيصعد من فمي إلى السماء…“. وهكذا بدأ ظمأي للرمزية الغنائية للكلمات التي تربط بين العوالم. بعد بضع سنوات، سجلت في مشغل يدعى ”كيف تعيش حياة أسطورية شعرية“، وكان المدرّس هو مؤلف الكتاب الذي أثر بي كثيراً، فيل كوسينيو. كانت ضربة حظ.
٣– تنحدرين من سلالة من الشعراء في شجرة نسبك العائلية. علمتُ أن ابن عربي هو أحدهم. ثمة خط من الشعراء الذين كتبوا في العربية يمتد الآن إلى الإنجليزية. كيف تتواصلين في شعرك مع هذا الخط؟
أ. هـ: هذا مدهش حقاً. حين كنتُ صغيرة لم أكن أعرف أنني أنحدر من أسماء مهمة كهذه في تاريخ الشعر والفلسفة. كان أبواي مطلّقين حين جئت إلى هذه الدنيا. تزوجت أمي شخصاً آخر وأحضرتني إلى أمريكا في سن السادسة. التقيتُ بوالدي للمرة الأولى بعد أن بلغت الأربعين من العمر. في ذلك الوقت كان لدي ولدان وكنت منخرطة بقوة في عالم الفن والشعر. والمدهش أن ابني البكر جيم أراد أن يصبح شاعراً وفي النهاية نال شهادة الماجستير في الفلسفة. أظن أن هذا يجري في دم العائلة. حين التقيت بأبي لأول مرة كانت تجربة سريالية. طلبتُ منه أن يحدثني عن العائلة التي لم ألتق بها أبداً فروى لي قصصاً كثيرة لكنه قدم لي في النهاية الهدية الأعظم وهي نسخة من خريطة النسب الخاصة بعائلتنا والتي حُفظت لقرون. لم أعتقد أن قائمة كهذه يمكن أن توجد ولم أكن أعرف أي شيء عن معظم الأسماء إلى أن أطلعت عليها أساتذتي الذين تعرفوا على محي الدين بن عربي وحاتم الطائي وامرئ القيس، وأسماء أخرى لم أسمع بها من قبل.
كان هذا سحرياً بطريقة ما. للحظة تشعر أنك تائه في عالم ضائع، كاليتيم الذي لا ينتمي إلى أي مكان، إلى أي عائلة، إلى أي ثقافة أو أي وطن. تعرف أنك مختلف، لكنك لا تفهم لماذا وكيف ومن أنت. ثم في تلك اللحظة السحرية تعرف من كان حياً في دمك، ثم تبدأ بفهم لماذا وكيف كما لو أن السماء تنفتح وضوء السماوات يُمْطر عليك ولا تعود تشعر بأنك وحيد. تمتلك الآن إحساساً بالانتماء. تبدأ بفهم لماذا أنت مركّب هكذا، ولماذا تفكر بالطريقة التي تفكر بها.
بوسعي القول إن الاطلاع على أسلاف كهؤلاء شهادة على قوة الحياة، فحين أقرأ شعر ابن عربي يبدو متقاطعاً مع شعر كتبته عن السماء والأرض، عن النجوم والتواشج مع الكون، عن الحب والضوء وكل ما هو موجود. والآن بعد أن عرفتُ من أين أنحدر يبدو من الطبيعي القول إنني عثرت أخيراً على جذوري، كما لو أن الضوء ظهر في نهاية النفق كي يضيء طريقي.
أ.إ: كفنانة تشكيلية وشاعرة كيف تعرّفين العلاقة بين الشعر والفن؟
أ.هـ: لا أظن أن هناك حدوداً فاصلة بين الفن والشعر. إنهما توسيع لحواسنا الخمس. يسألني الناس كثيراً كيف يمكن أن يفعل الإنسان أكثر من شيء واحد، وأن يكون أكثر من شيء واحد. بالنسبة لي، سيكون من المستحيل أن أكون بخلاف ذلك. أذكر أحبَّ الفنانين إلى قلبي وذائقتي في التاريخ ليورنادو دافينشي. كان مهندساً وعالم نبات وبالمصادفة صار رساماً. كل شيء مترابط.
أ.إ: أحد كتبك الشعرية سيصدر بالعربية قريباً. ستعودين إلى لغتك الأصلية المنسية لكن عبر الترجمة، ما الذي يعنيه هذا لك؟
أ.هـ: ثمة مفارقة عذبة في هذا. بصرف النظر عن المكان الذي نذهب إليه وعن المسافة، تعلمت أننا لا نستطيع أن نهرب مما يشكلنا. طلبتُ من الكون أن يساعدني في العثور على جذوري، وها أنذا هنا، أعود إلى البدء. إن لغتي الأصلية، ثقافتي الأصلية جذبتني كما يجذب نداء حوريات البحر. ليس هناك ما هو أفضل من هذا.
أ.إ: كرئيسة سابقة لمركز الشعر في شيكاغو ما الأنشطة التي قمت برعايتها، ما المميز في تلك التجربة؟
أ.هـ: كان عملي في منظمة تُعنى بفن الشعر وتروج له تجربة تكوينية بالنسبة لي. التقيت بأكثر الشعراء شهرة في العالم، وقمتُ بتسهيل ورشات الشعر واستمديت الإلهام من أفكار الآخرين وتجاربهم.
أ. إ: كراعية للفنون ما الذي يجعلك تختارين فناناً أو مصوراً لعرض أعماله؟
أ.هـ: بالنسبة لي الفن تمثيل بصري لجوهر الفنان وأفضّل أن أعمل مع فنانين يحدثون فرقاً بطريقة ما في العالم. أقدم فنانين يدعمون القضايا الإنسانية، مثل تأمين التمويل وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على محيطاتنا وبيئتنا، وفنانين يساعدون في تأمين التمويل لأبحاث الأطفال المصابين بالسرطان ورفع الوعي بالأخطار التي تهدد أنواع الحيوانات ووضعنا الإنساني. كما قال أرسطو: ”إن هدف الفن ليس تمثيل المظهر الخارجي للأشياء بل دلالتها الباطنية“.
أ.إ: برأيك ما الذي يجعل قصيدة قصيدة بالمعنى الإبداعي الحقيقي؟ وكي أوسع هذا السؤال: ما الذين ترينه في لوحة إبداعية؟
أ.هـ: إن قصيدة أو لوحة إبداعية يمكن أن تكون أي شيء يلامس عاطفة في قلب وذهن المرء. قد تكون بسيطة ككلمة واحدة أو ضربة ريشة. إن القصيدة قصة مقطرة في بضع كلمات بينما اللوحة تمثيل بصري لقصة. وهذا متشابه إلى حد ما. كما قال الفنان مارسيل دوشامب: ”إذا دعوتُ هذا فناً فهو فن“.
أ.إ: هل تؤمنين بالقوة التحويلية للفن والشعر؟ كيف يقوم الشعر أو الفن بتغييرنا من الداخل؟
أ. هـ ـ: نعم أؤمن بها، ذلك أنه عبر الألفيات تعلم الناس عن أنفسهم وتاريخهم عن طريق قوة الفنون البصرية، وقوة الصوت. منذ التقاليد الشفهية التي تحولت إلى كلمة مكتوبة، ومنذ رسوم الكهوف إلى النهضة وحتى الأزمنة الحديثة، بحثنا عن معنى وهدف الحياة على الأرض. من دون فن لن يكون لدينا تاريخ. وثمة حاجة لدى البشر كي يصقلوا إحساسهم بالمكان في العالم، كي يتوحدوا مع الأرض والنجوم ومعنى وجودنا. نحن كبشر مستكشفون، لا يرضينا أن نكون موجودين فحسب بل نسعى، نبحث ونوسع حدودنا كي نتغلب على مخاوفنا، كي نحقق أحلامنا، ونذهب إلى حيث قيل لنا إننا يجب ألا نذهب. إن جمال كونك إنساناً هو أن تواصل البحث، أن تسافر إلى أراض بعيدة، أحياناً جسدياً وفي الغالب من خلال أذهان وتجارب الفنانين. نحب رحلات القلب.
أ.إ: حين تفكرين بجذورك، من منظور شعري وفني، ما الذي يتولد في ذهنك؟
أ.هـ: أفكر بزهر البرتقال والبحار التي بزرقة الياقوت، بعطر الياسمين، وببشر يتقاسمون الطعام، بعشاق يسيرون على الشاطئ، بالهيام والقوة وبأشجار الزيتون وخطوطها على الجبال، وبأشجار التين على طول الطريق وأشجار النخيل، برائحة الخبز من التنانير في الجبال وصوت الأذان والحرارة الحارقة لصيف البحر الأبيض المتوسط، النسيم في الجبال حيث بيت عمتي بوروده التي تتسلق إلى شرفة الطابق الثاني، أفكر أيضاً بأشجار الدراق في الصيف، وبساتين الليمون والبرتقال، وبالشمس تشرق على صوت المدينة المستيقظ، وهذا محزن ومفرح في آن، ويتضمن دوماً متعة قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء الذين يتقاسمون الطعام معاً. هذه هي ذكريات أرضي.
مختارات من شعر أريكا هيلتون
اللحظة الأخّاذة
The Magical Instant
-I-
وحدثَ أن بُعثْتُ حيةً
في تلك اللحظة الأخّاذة.
تسارعتْ دقاتُ قلبي
واخترقَ صدري حنينٌ هاجع
كنيزكٍ يندفع نحو الشمس.
وكما اشتهى بجماليون جالاتيا
جذبتْ نظرتُكَ المتوقدة النَفَس
إلى كون متعددٍ في الفضاء
وطوتْ نسيج الزمن
قبل أن يكون هناك
أي مفهوم للسماء…
وفيما كنتَ تُسرع عائداً عبْر الألفيات
بدت عناصرك كمعادلة
كنتُ أحاول حلها،
كقداسة سيميائية،
أشعلتْ لسانَيْ لهبٍ توأمين
يسعيان إلى مرآتهما في الضباب.
كيف حدث أن عشنا
فيما نصف حياتنا
يتدفق في اتجاه آخر؟
وأي جبالٍ من الحقيقة
تعلو صامتة في عناقك؟
-II-
أنا مكتبةٌ تزخر بالأفكار
لكن من يكتب بالضوء
هو أنتَ.
في أحد الأيام،
تزحلق كبير الملائكة جبريل
نازلاً على درابزين بيتي
فسألتهُ في دهشة:
لماذا ولدتُ في عالم كهذا،
مترع بالأسى والألم واليأس البشري؟
فزمّ شفتيه
وكان جوابه الصمت
فيما بدأت الكتب تتدفق
من فتحة في صدري
وظهرت معرفة ثرّة.
-III-
انفتح رتاجُ بوابة قديمة
وانكشف عالمٌ جديد
ينقّب عن جذوره.
آهٍ أيها القلب،
أنشدْ لي أشعارك
عن أول صوتٍ
عن أول ضوء كشف النور
فقد أبان التأمل المزهر للسماء
قبة متألقة كألماسة،
تنفث مزاميرها المقدسة في جلدي.
-IV-
حين أسبح في مضيق البوسفور
على أية يابسة أنزل؟
صارت ذراعاك جناحين
تطوقان تيارات المحيط.
لكن أي نهر حملك بعيداً
إلى ظلال نومي؟
كُنتَ الأفق الأزرق
لخيالي.
ولو كان بوسعي الرجوع،
لزحفتُ إلى صنجات قلبك
ورتّلتُ أنشودةً لمدك العالي.
-V-
هالتُكَ الذهبية امتزجت بهالتي
كعطر أزهار البرتقال
الفوّاح في الربيع.
انبعث انسجامنا العميق
من أرض ولادتنا.
دمك دمي.
وقفتك الطويلة،
تعكس ألق الوجود،
وأنا أخطو في الحياة
بين السماء والأرض
وكلي توقٌ
لأغتسل بشعاع أنفاسك.
ملاكٌ يتحدث إلى شيطان
Angel Speaks to a Demon
حسناً، تريدُ أن تختبرني.
تظنُّ أنني لن أقوى على الصمود،
أنك أشدّ بأساً مني،
وأنك سيّاف أمهر.
حسناً، ربما أنت كذلك
ربما ليس بإمكاني أن أستخدم نصلاً
بدقة مماثلة
أو أن أُحْدث الجرح نفسه.
فأنت تثير خوفاً يقطع الأنفاس
في عالم أحلامي.
في صحوةٍ أريد أن أكون
وليس في نومك المرتعش
حيث أخشى فكرةَ السقوط
خارج سماء امتلائي وانعتاقي
حيث أعيش.
إذا كنت تريد دمي خذْهُ
فأنا لا أحتاجه كي يخفق قلبي
لديّ طريقة مختلفة
ليس لكَ أن تعرفها
لأنك شيطان
والشياطين تجهل هذي الأمور.
لو عرفتَ ستذهب إلى
أول طبيب وتطلب منه قائلاً:
”أيها الطبيب، هبْني وجهاً جديداً
بعينين مفتوحتين
كي أستطيع أن أرى هذه الأشياء
التي تقول بأني لا أعرفها“.
”لماذا أشربُ دمها وأبصقه
كما لو أن غضارتها مدفونة في حلم؟“
”مثل ذي اللحية الزرقاء
التهمتُ مائة زوجة
ومع ذلك لساني ما يزال جافاً
وما من دم يروي ظمأي“.
ما زال عليّ أن أكتشف معجم الضوء
أم هو الحب؟
”ما الحب يا طبيب؟
ما هو وجه الحب؟“
وسيُجيب الطبيب:
”أيها الشيطان،
أستطيع أن أمنحك وجهاً جديداً
لكن لا يمكنني أن أمنحك عينين لتشعر
فأنت تلتهم ما تخافه.
إن ما يجفف لسانك
ويدفعك للجنون
ويسلبكَ روحَك
ويرميها في النسيان
هو الخوف،
فأنصت
أنصت إلى قلبها
وستلمح العديد من الوجوه
وستسمع أغنيتها الحزينة
حين يتوقف حبيبها عن العزف على نايِه
في غرفة أسرارها المخملية.
إذا اقتربتَ
واقتربت أكثر
يمكنك تذوق فخذيها
اللذين يقطران بلآلئ من زهر البرتقال
على لسانك
إلى أن تُنعّم نصلك
فيغدو ريشةً من نار حرارتها المستعرة
أشدّ من أن يحتويها عالم خوفك.
باختصار، يا صديقي الشيطان:
كفّ عن التربصّ في ظلامك
حدّق في مرآة عينيها
ستلمح نهراً
يسكب ضوءاً في ذلك المكان
لا يمكن إلا لقلبٍ من ياقوت أن يحمله.
(أجرى الحوار بالإنجليزية وترجمه إلى العربية مع القصائد: أسامة إسبر)