بواسطة Yazan el-Haj | أبريل 1, 2021 | Culture, غير مصنف
«أتجنّبُ جلسات تحضير الأرواح، لأنّها تُقلِقني، وأفضِّل أن يتحدّث الموتى إليّ عبر صفحات مطبوعة». كذا كان رأي هارلد بلوم عام 2002، إلا أنّه لم يُبدِ القلق ذاته حين اقترب موعد رحيله عام 2019. لا أظنُّ أنّه بات أقلّ تشكُّكًا، بقدر ما بات أكثر غرقًا في الحنين، في الذكريات، في ترقُّب لحظة الموت، في محاولة تجربة اللقاء قبل اللقاء، في مسامرة الموتى قبل أن نصبح نحن موتى كيلا نتعثّر في ارتباكنا حين نلقاهم. يلفتني الآن أنّ أكثر ما يؤلمني عند قراءة بلوم تناولُه للموت، أكان تجربةً شخصيّة أم تجربة قراءة. وكأنّنا سنخفّف وقع الموت حين نشرِّحه، سنفهمه أكثر حين نناقشه. أعترف أنّي أخفق دومًا في فهم هذا الدرس الأخير. أنا تلميذ ميؤوس منه في كلّ ما يتعلّق بالموت وبالفجائع. أتلقّى الفاجعة كلَّ مرة كما لو كنتُ لن أتلقّى غيرها، وأُجفِل من تلقّي نبأ الموت كما لو كان ذلك الميت الذي عرفتُه آخرَ سكّان الأرض. لستُ من البكّائين عمومًا، وإنْ كنتُ أتمنّى لو كنتُ منهم. أو ربّما كنتُ أتحايل على البكاء في محاولات عبثيّة لقراءة الفاجعة بعينٍ هادئةٍ ترى الموت دائرةً لانهائيّة، هاويةً لا قرار لها، دوّامةً تمزج ضحاياها بحيث تصبح الفجائع الإغريقيّة سومريّةً، والسوريّة مصريّةً أو صينيّة. أقرأ الموت لأنّي لا أتقن شيئًا آخر غير القراءة. أتماهى في دور التّلميذ أمام أساتذة كثيرين لم يعرفني أحدهم يومًا، مع أنّهم أفضل أساتذتي لأنّهم صنعوا ذاكرتي. ولعلّي أتلقّى الفاجعة كما لو كانت فاجعة شخصيّة، لأنّها شخصيّة حقًا: أتفجّع على ما فقدتُ من ذاكرتي. هذا هو الأمر ببساطة. ببساطة؟ نعم، ببساطة، كما هي بساطة إدراك أنّ الفواجع عَوْدٌ أبديٌّ لا سبيل إلى الفرار منه. ولكنّنا ننسى، فنُفجَع من جديد.
حين قرأتُ عبارة بلوم، ابتسمتُ لأنّي أنا أيضًا أفضِّل ترك مسافة بيني وبين الموتى، بل حتّى بيني وبين الأحياء. ابتسمتُ لأنّ عزلتي كانت مُؤثَّثةً بالذاكرة، ذاكرة أساتذة أحياء كثيرين وموتى أقل. ابتسمتُ لأنّ بلوم كان في الثانية والسبعين حين نطقها، إذ من «الطبيعيّ» أن تقتصر المسامرات على الصفحات المطبوعة، من «الطبيعيّ» أن تكون الذاكرة ذاكرة موتى فقط. غير أنّ تلك العبارة باتت تطعنني أكثر فأكثر حين بتُّ أدرك أنّ ذاكرتي أنا أيضًا أوشكت على أن تستحيل ذاكرة موتى. فرغت جعبة ذاكرة المراهقة والصبا تقريبًا، مع أنّ المُفترَض (مُفترَض؟) أن توشك على النّفاد بعد عقدين مثلًا على الأقل. لم أدرك إلا متأخّرًا أنّ الفواجع باتت أكثر من معدّلها المُفترَض (المُفترَض مرة أخرى!) الذي يُتيح للبشر التقاط أنفاسهم ولملمة ذاكرتهم قبل الفاجعة اللاحقة، فاستعدتُ العبارة ليصبح بلوم مرةً أخرى دليلي إلى قراءة فواجعي اللاحقة. كان هارلد بلوم صوتًا وبات صدى، كان نبيل فاروق آخر مرساة تربطني بمراهقتي وبات زعيقَ صافرة الباخرة التي مضت، كان حاتم علي حارس ذاكرة صباي، فأمسى هو أيضًا ذاكرةً بلا حارس. لم أكن محتاجًا إلى العبارات الصادحة التي كانت تشدِّد على أنّ حاتم رحل باكرًا كي أدرك أنّه قد رحل باكرًا حقًا. أدركَتْها ذاكرتي مباشرةً، لأنّها انكشفت أمام الصقيع. لم يكن حاتم علي أستاذًا من أساتذتي بقدر ما كان آخر أسوار الحياة التي كنتُ فيها، وباتت الآن حُطامًا كحطام البلاد التي كنّا نظنّ بسذاجة مؤلمة أنّها لنا، فأيقظنا رحيل حاتم على الحقيقة. لم يعد لدينا حتّى أطلال نبكي عليها، ولذا ربّما كانت الناس تبكي حاتم علي الذي كان آخر أطلال البلاد التي كانت. أحسد (وأحقد على) من تناول موته بحياديّة، بل وتذكَّرَ وجوب الموضوعيّة فأشهرَ مشرط النّقد ليُشرِّح أعماله، غير مدرك أنّه كان يُشرِّح جراحنا وذاكرتنا وبلادنا وأحلامنا. لم ينتظر «نقّاد الغفلة» أن يجفّ ترابه، أو أن يلامس جسده التراب حتّى، بل سارعوا إلى تنبيه غفلتنا المُخجِلة بأنّ تلك الجراح لم تكن مضبوطةً بدقّة، بأنّ همس ذاكرتنا لم يكن مدوزنًا، بأنّ صراخ لوعة الفقد لم يكن متقنًا، ولا بدّ من إعادة إخراج المشهد الذي كان ينزف ألمًا على مخرجه. فلنقرأ معنى تلك الجراح أولًا، ولنتأمّل سبب تحوّل فاجعة عموميّة إلى فاجعة شخصيّة، ولكنْ إنْ كان لا بدّ من القراءة الموضوعيّة، فلنحاول!
بحرٌ من السَّواد لا ألوان فيه إلا أزرق الكمامات. كمامات تكبح الموت، أو هذا ما يُفترَض بها أن تفعل. أزرق يكسر ظلمة الموت، أو هذا ما يُفترَض به أن يفعل. نعشٌ يرقص على الأكفّ. لا يرقص النّعش في الجنازات السوريّة إلا إذا كان الميت عريسًا أو يوشك على الزّفاف، أو شهيدًا قضى في معركة من المعارك. لم تعد هذه البلاد بلاد أعراس، إلا أنّها باتت مُتخَمةً بالشّهداء وبالمعارك. لم يكن الميت عريسًا أو شهيدًا، إنْ التزمنا بصرامة التّعريفات. لمَ جنازة الزّفاف هذه إذن؟ لا ينقصها إلا نثر حبّات الأرزّ، ولكنّه الآن شحيحٌ في بلاد البطاقة الذكيّة لذا استُبدِل بالدّموع. زغاريد كما في جنازة أيّ عريس أو شهيد، ولكنْ لا رصاص أيضًا مع أنّه أكثر سلعة متوافرة في بلاد الموت. شُيِّع حاتم علي في نعشٍ لا يحمل إلا آيات منقوشة. لا رايات تخنقه، ولا بزّات عسكر وأشباه عسكر يحصون الأنفاس. مات، كما عاش، خفيًا، حاضرًا، بسيطًا، مُركَّبًا، يشبه الجميع، ولا يشبهه أحد. ثمّة صرخة تنادي: «يكتّر خيرك يا حاتم!» ما الخير الذي فعله هذا الرجل كي ينال جنازة أنبياء في زمن لا أنبياء فيه؟ لا تفسير ربّما إلا بأنّه يشبه صورة عتيقةً منسيّةً لهذه البلاد، وكان موتُه الكفَّ التي نفضتْ الغبار عنها. كان حاتم علي مولعًا بمزج الحقيقة والخيال، بمزج المُتخيَّل بالوثائقيّ. أشهر مثالين هما مشهدا التّهجير في «التّغريبة الفلسطينيّة»، ومشهد المظاهرة في «العرّاب»، حين مزج زمنين، وصوتين، وعالمين. غير أنّه ما عاد بحاجة إلى ذلك الدمج والمزج في مشهده الأخير حين انتفضَ المُتخيَّلُ ونسفَ الواقعيّ تمامًا. ما كان لأحدٍ أن يحلم بجنازةٍ كهذه بعد سنوات الصمت. جنازة تشبه المظاهرة في كل شيء ما عدا كونها مظاهرة. لا نجد شريطًا كاملًا للجنازة، بل مقاطع متفرّقة صوَّرَتْها كاميرات متفاوتة الجودة، معظمها مهتزّ ككاميرا مسلسل «أحلام كبيرة» التي كانت تبدو مثل فردٍ آخر من أفراد العائلة يوثّق تفاصيلها اليوميّة الصغيرة. مقاطع متفرّقة شبه مسرَّبة في ظل غياب الإعلام وانحيازاته. وكان كلُّ ما علينا إعادةُ لصق تلك المشاهد كي نحاول – عبثًا – تأمُّل الجنازة وملاحقتها بأكملها. ندرك لاحقًا أنّ الأمر مستحيل، فالمونتاج غائب هنا لأنّ هذه الجنازة محكومة بالنّقصان، أو لعلّها محكومة بالحلم، حلم أن يكملها كلُّ مَنْ حضرها ومن لم يحضرها على هواه. كان المشهدُ الختاميّ في «أحلام كبيرة» مُفجِعًا إذ أكَّدَ لنا ما لم نكن نجرؤ على تأكيده: دم الإخوة قد يصبح ماءً، أو ما هو أسوأ؛ إلا أنّ جنازة مخرج ذلك المشهد أعادت المصطلحات التي كنّا نظنّها قد انقرضت في عشر السّنوات السوريّة العجاف. بات الجميع (حسنًا، معظمهم) إخوة وهو يشيّعون حلمهم الذي اختُطِفَ بغتةً. لا نعرف أهل الميت لأنّ الجميع كانوا أهله. كان كلُّ مَنْ في الجنازة، ومَنْ راقبها من الأرصفة، ومَنْ شاهدها مُقطَّعةً، أخًا أو ابنًا أو صديقًا أو تلميذًا لهذا الراحل الذي لا يعرف معظمنا. وكانت كلُّ امرأةٍ أمًا أو أختًا لهذه الشّريد الذي مات وحيدًا في محطّة ترانزيت بين منفى البلاد وبلاد المنفى.
ما الذي فعله هذا الرجل بنا؟ لكلٍّ منّا إجاباته وذكرياته، ولكنْ أظنّ أنّ إجابتي: التقط لنا هذا الرجل صورةً قبل الانهيار، وثَّق أحلامنا قبل الحريق، خلق لنا ذاكرةً موازيةً قبل زعيق الحرب والموت. أميل شخصيًا إلى مسلسلاته الاجتماعيّة المعاصرة أكثر من مسلسلاته التاريخيّة، غير أنّي انتبهتُ بعد موته إلى أنّه كان يلتقط دومًا مشهدًا أوحد أيًا يكن زمنه، وإنْ بقيتُ ميّالًا إلى مسلسلاته المعاصرة، وإلى «أحلام كبيرة» تحديدًا. كان حاتم علي يعدّ نفسه محظوظًا لأنّه تعاوَنَ مع كتّاب سيناريو جيّدين، وكنتُ أتساءل دومًا عن سرّ رفضه كتابة سيناريو يخصّه بدلًا من الاعتماد على الآخرين. لم يكن غريبًا عن مشهد الكتابة، إذ تذكّرْتُه قبل فترة حين كتبتُ عن كتّاب القصة القصيرة السوريّين، وقد كان يُبشِّر أن يكون من أهمّهم إلا أنّه هَجَر القصة إلى التلفزيون. أدركتُ لاحقًا أنّه كان يدوِّن أفكاره داخل سيناريوهات الآخرين حين يضبط الكاميرا على الالتقاطة التي يظنُّ (أو ربّما ما أظنّه أنا) محور العمل كلّه. لا أعني الإشارة إلى ضعف، أو إلى تفاوت، أو إلى هنات إخراجيّة، بل أعني التآمر مع كاميرته كي تُدوِّن ما لم يُدوِّنه بنفسه، ومخاتلة الكاتب من دون نسف أفكاره. في مسلسل «الفصول الأربعة» كان السيناريو مقسومًا بالتّساوي تقريبًا بين العائلات الخمس، إلا أنّ الكاميرا كانت أحنَّ حين تنتقل إلى بيت الأب/الجد كريم وإلى بين الصّهر نجيب. ليس لي أن أُنكر أنّ سِحر كلٍّ من خالد تاجا وبسّام كوسا يسرق محور أيّ مشهد يكونان فيه، إلا أنّ الأمر أكبر من براعة ممثّل. ثمّة كاميرا تحنُّ إلى مَنْ يشبهها أكثر. لسنا مثل مالك بك الجوربار، ولن نصبح يومًا أثرياء مثله ربّما، ولسنا (أو ربّما لم نكن) مثل برهوم البائس حياةً وشِعرًا. كنّا مثل نجيب، أو لعلّ الأدقّ أنّه كان مثلنا في حربه اليوميّة للبقاء في برزخ الطبقة الوسطى التي لن تتقن الصعود إلى طبقات أعلى، ولكنّها تحاول في الوقت ذاته تحاشي الانزلاق إلى جحيم الطبقات الأفقر. ترك حاتم علي لغيره من المخرجين تصوير العشوائيّات التي ستلتهم المدينة، واكتفى بالإيماء إليها، وواصلَ بذكاء توثيق هموم الطبقة الوسطى وأحلامها قبل الانهيار الكبير. كان يسعى، أو ربّما يتوق لو تحوَّل نجيب إلى كريم بعد عقدين مثلًا، إلا أنّه أدركَ أنّ هذا الزمن سيرحل برحيل أبنائه ليبدأ زمنٌ آخر أقسى سيدمّر آخر صور العائلة في «أحلام كبيرة»، الذي عُرِضَ بعد عدة سنوات، وكان البطلُ – للمفارقة – بسّام كوسا نفسه، غير أنّ الشّروخ التي كانت كاميرا «الفصول الأربعة» قد استشعرتْ ظهورَها قبل انفجارها باتت الآن واضحة تمام الوضوح، حيث تفكَّكَتْ العائلة تمامًا بالرغم من وجود الصّخرتين الدائمتين: الأب والأم، حيث يبرع حاتم علي في تصوير علاقتهما المُركَّبة دومًا، أكان هذا في «الفصول الأربعة» أم «أحلام كبيرة» أم «التغريبة الفلسطينيّة».
لعلّ قائلًا يقول إنّ هذه رؤية مشتركة بين الكاتب والمخرج، أو ربّما لم يكن المخرج إلا مُنفِّذًا ببّغائيًا لسيناريو جاهز. طيب، ماذا عن «صلاح الدين» أو «الزير سالم»؟ ترك حاتم علي لوليد سيف حريّةً شبه مطلقة في تصوير صلاح الدين كما يشاء، ولكنّه واصلَ لعبته الأثيرة في تهريب لقطاته. لستُ أوَّلَ من يشير إلى جمال المشاهد التي تجمع الخليفة العاضد (تيم حسن) وصلاح الدين (جمال سليمان) التي كانت مناقضةً، أو متباينةً على الأقل، مع صورة صلاح الدين السائدة في المسلسل وفي التاريخ على السواء. كان وليد سيف يسعى إلى تبيان صورة البطل الذي سيحقّق أحلام الأمّة في تحرير بيت المقدس: البطل العصاميّ الذي يشبُّ ليحطّم جميع الحواجز التي تفصل بينه وبين حلمه، بيد أنّ كاميرا المخرج كانت تلتقط الصورة الخفيّة للبطل، الصورة الأخرى التي يتخلّى فيها البطل عن ثياب الراهب والجنديّ والقائد ليصبح سميرًا ذكيًا للخليفة الداهية الذي ضاعفتْ براعة تيم حسن من دهائه ونظرات عينيه الثاقبة. كانت جلسات الحوار ولعب الشطرنج أجمل مشاهد المسلسل، ولم يُخفِ حاتم علي ولعه بالمواقف الفاصلة التي تكشف الشّروخ، فوضع بطليه أمام امتحان مؤلم: الصداقة أم المصلحة العامة؟ هل أتخلّى عن الصديق أم عن أحلام الأمة؟ ما الذي سيؤثّر على الأمة لو تأخَّر الفتح المُنتَظر عدة أيام أو أسابيع قبل أن يموت الخليفة المريض. لم تكتفِ الكاميرا بتوثيق ما يحدث أمامها بل سعى حاتم علي بذكائه اللمّاح إلى تصوير بواطن البطلين. ليس الاختيار بين الصديق وبين الأمة المحور الوحيد لهذا الامتحان القاسي، بل ثمّة صراع داخليّ أقسى التقطته الكاميرا في الأعين: ثمّة صديق يترقَّب، بل يتعجَّل، موت صديقه كي يتحرّر من عبء التخلّي ومن عبء الضّغوط التي يُمطره بها القادة المحاربون الذين لا يكترثون لهذه السّفاسف الصغيرة. البلاد أهمّ من العلاقات الصغيرة النّافلة، ولكنّ الأعين لها حساباتها المُفجِعة. عاودَ حاتم علي تركيزه الشّغوف بمصائر العائلة، وإنْ كانت مقتصرةً هنا على صديقين. على أنّه كان قد قدَّمها بوضوح أشدّ في «الزير سالم»، حين بدا المسلسل مسلسلين. سيناريو ممدوح عدوان منشغلٌ بمسألة السُّلطة والمعارضة والطغيان والثأر، فيما كاميرا حاتم علي مشغولة بتوثيق الشّروخ التي ستحطّم بيت همّام بن مرّة الذي كان الساحة الفعليّة لحرب البسوس. العائلة مرةً أخرى، الأعين مرةً أخرى: عينا ضباع (نجاح العبد الله) المشظّاة بين رثاء الأخ الذي قُتِل وبين رثاء الأخ الذي يبتغي الثأر وبين رثاء الزوج الذي لا بدّ أن يكون في الطرف الآخر؛ وعينا همّام المنقسم بين العائلة وبين الصديق. ألمحَ عدوان بسرعة إلى جلسات السَّمر بين مهلهل وهمّام التي كانت تؤرّخ لآخر لحظات الصداقة التي ستتفتّت مع شروق الشّمس، إلا أنّ الكاميرا لاحقتْ تلك الشّروخ إلى نهاياتها. كان مشهد مقتل كليب قاسيًا، ومشهد تفجُّع الحارث بن عباد الذي أُرغِم على الدخول في حربٍ ينفر منها مؤلمًا، إلا أنّ الفاجعة الفعليّة كانت في عيني ضباع في جميع المشاهد التي تبعت حادثة القتل الأولى. كان الشَّرخُ الذي أبعد الأخت عن أخاها والصديق عن صديقه بدايةَ الفاجعة التي ستُفتِّت العائلة كليًا حين ينحاز كلُّ ابنٍ من ابنَيْ ضباع وهمّام إلى الجيش الذي يراه الأحقَّ بالنُّصرة. كان انقسام ذلك البيت التاريخيّ البعيد، وتقاتل الأخوين، إلماحًا أول للانقسام الذي سيمزّق عائلة أخرى بعد قرون، عائلة الأب والعمّ في «أحلام كبيرة»، ويواصل تمزيقه لعائلة الجيل الثاني من الإخوة الأعداء.
يرى كثيرون أنّ حاتم علي أفضل مخرج سوريّ على الإطلاق، ولكنّي أظنّ أنّه حُكمٌ لم يكن حاتم نفسه سيقبل به، وكان سيشير إلى هيثم حقّي، بالرغم من أنّ حقّي اعتزل الإخراج تقريبًا بعد هجرته. كان حاتم أذكى تلاميذ هيثم حقّي، ولم يُخفِ تأثّره به. جميع السّمات التي تُميِّز حاتم علي ورثها عن المعلّم الكبير: ذكاء الكاميرا، المغامرة في منح وجوه جديدة أدوارًا مهمّة، والعمل بدأب على مشروع واضح يكون بصمةً للمخرج أيًا يكن كاتب السيناريو. لا يتّسع المجال إلى مقارنةٍ تفصيليّة بينهما، ولكنْ لعلّ بوسعنا القول إنّ حاتم علي أكملَ مشروع هيثم حقّي، محافظًا على بصمةٍ خاصة به. لم يكن حقّي منبع التأثير الوحيد في مسيرة حاتم علي، إذ سبقه الراحل علاء الدين كوكش الذي رحل عن دنيانا قبل فترة وجيزة، من دون أن ننتبه إلى أنّ الموت بدأ يختطف حرّاس ذاكرتنا تباعًا. رحل كوكش وحيدًا في مأوى للعجزة، ورحل حاتم علي وحيدًا في غرفة فندق بعد أن كان قد قرَّر الهجرة إلى بلاد تحترم حقوق مواطنيها وتمنح حياةً مريحةً في الشيخوخة. هرب كوكش من الدنيا وأمضى سنوات في عزلة شيخوخته، فيما كان علي يمنّي النّفس بشيخوخة رغيدة بعد عقدين أو ثلاثة، غير أنّ الأقدار لها حساباتها المُفجِعة. ربّما كان العقدان اللذان بخلت بهما الأيام على حاتم علي سيشهدان ولادة عملٍ يُصوِّر التغريبة السوريّة التي كان علي يرى محقًا أنّ الوقت ما يزال مبكّرًا على تنفيذها. قد ينفّذها مخرج آخر، وقد تبقى أسيرة الأحلام الكبيرة التي باتت الجعبة الوحيدة لناس هذه البلاد الذين تلاشت حياتهم وذكرياتهم ولم يبق لهم إلا الأحلام. على الأرجح أنّ مشهد جنازة علي سيكون أحد مشاهد تلك التّغريبة؛ رحيل مُدوِّن الأحلام، وحارس الذاكرة، ومُوثِّق الشّروخ التي قصمت ظهر هذه البلاد التي تلفظ أبناءها تباعًا.
مشهد أخير (1)
في أحد مشاهد مسلسل «ذكريات الزمن القادم»، نرى خالدة (ضحى الدبس) وهي تركض في شوارع الشام المزدحمة بحثًا عن أمّها المصابة بالزهايمر. كانت الأم (ثناء دبسي) قد خرجت من البيت بحثًا عن أطياف الماضي التي لم تكن تتعامل معها كأطياف بل بوصفها واقعًا، فيما كانت الابنة تُمشِّط الشوارع بلهفة وجنون بحثًا عن الأم التي كانت حارسة الحاضر والمستقبل، بينما الكاميرا ترصد صرخات خالدة الملتاعة من أعلى كعين إله محايد، وتُورِّط الناس في الشوارع، على غفلة منهم، في البحث عن أطياف الماضي والحاضر والمستقبل. المسلسل من إخراج هيثم حقّي.
مشهد أخير (2)
في إحدى صور جنازة حاتم علي، نرى منى واصف مذهولةً متفجّعةً، مثل أمٍّ أضاعت أطياف الماضي والحاضر والمستقبل، وهرعت إلى شوارع المدينة بحثًا عنها. الكاميرا تواجه العينين اللتين تبدوان مرآةً مُفجِعةً لخواء المدينة التي تبدَّدت جميع أطيافها، بينما منى واصف مثل هيكابي التي فقدت زوجها وأبناءها وبناتها وأحفادها في حرب طروادة، وثمّة دخان لامرئيّ يومئ إلى الحرائق التي نهشت البلاد. هذا المشهد بلا مُخرِج.
المشهد الأول مرآة معاكسة للمشهد الثاني، وكلاهما يخلوان من حضور حاتم علي. حاتم علي الغائب الأكبر في جنازته. هو يبتسم الآن. لعلّه هو الوحيد الذي يعرف مكان تلك الأطياف، ويزجي وقته في مسامرتهم بعد أن نجح في تصوير مشهده الأخير.
بواسطة سلوى زكزك | مارس 15, 2021 | Culture, غير مصنف
*تتناول هذه المادة مشاهدات وذكريات الكاتبة عن مقهى الحجاز قبل البدء بهدم هذا الصرح التاريخي في دمشق بداية الشهر الحالي.
يشغل مقهى الحجاز مكاناً مميزاً وكأنه عقدة الربط ما بين سوريا كلها، لدرجة تدعونا للاقتناع بأن كل ما حوله من أماكن عامة، رسمية وخاصة، قد صممت من أجله، من أجل شحنه بأعداد متجددة من البشر، بقصص لا تخفض صوتك حين تتلوها،عقدة الربط ليست مجرد بقعة محددة من الجغرافيا تتوسط المسافات، بل هي إيحاء عارم بأنك في مكانك، لا بل إن المكان ملك لك وأنت سيده وصاحبه.
يتحول مقهى الحجاز إلى ما يتفق على تسميته بالطاحون، التي تخلط قمح الجميع بماء الحياة اليومية أملاً بالحصول على غلال مجزية، كل الدروب تؤدي إليه. وكل الأجساد تدب السير نحو هذه الملاذ الآمن بصخب وأنفاس الأعداد الكبيرة والمتنافرة من البشر، حين يكتظ المكان بالغرباء عن المدينة، تصير الغربة تفصيلاً طبيعياً. تقول لنفسك: كلنا غرباء هنا، وكأنك تقول كلنا متشابهون هنا، الغربة تجمعنا.
مقابل المقهى وزارتا الزراعة والإسكان ومؤسسة الاتصالات، وعلى امتداده القصر العدلي، ساحة المرجة، شارع خالد بن الوليد، زقاق أو شارع رامي، الإطفائية وسوق البالة وسوق الحميدية. إذن كل الدروب تؤدي الى مقهى الحجاز، وكل الدروب تبدأ منه.
يتفق المراجعون مع محاميهم على مواعيد في مقهى الحجاز، يرتبون تفاصيل الدعاوى المطلوبة، يقابلون وسطاء لإتمام معاملة الحصول على عقد آجار لأرض مستملكة أو من أملاك الدولة، ينتظرون وصول طرد بريدي أو اتصال قد تأخر.
فقط هنا يمكنك المغادرة بعد أن منحت قدميك حصة من الراحة وبعد أن تقبلت راضياً مذعناً تأخر صاحب الموعد المزعوم دون أن تدفع ليرة واحدة.
يقابل الأصدقاء المفلسون بعضهم فيه، هنا فقط يمكنك أن تنتظر ساعة كاملة دون أن تطلب مشروباً، بذريعة أنك تنتظر صديقاً أو قريباً.
يتحول النادل في مقهى الحجاز إلى مرشد سياحي وقد يدلك على محام بارع أو معقب معاملات حاذق، وقد يدلك على عنوان فندق رخيص للإيجار.
في رحاب المكان، وأنت تمضي إلى عنوان ما في مدينتك التي تدعي أن تعرفها جيداً، تسمع صوتا يناديك مباشرة باسمك! هنا في مقهى الحجاز تتحول وأنت سائر إلى وجهتك إلى نقطة مكشوفة، لمن يجلس في عليائه على إحدى مناضد المقهى، ولو أنك لا تولي أي اهتمام برواد المقهى، تتحول مناضد المقهى إلى منصة عالية، شرفة مرتفعة تسمح للجالسين هناك بالإشراف على المشهد العام للمدينة. كل رواد المقهى منشغلون في متابعة حركة السائرين، من يجلس يراك ويناديك وكأنه في بيته، وكأنك مدعو الى بيته، لا تملك ترف الاعتذار. مقهى الحجاز هو المواعيد الدافئة غير المرتبة مسبقاً، المواعيد المقررة على عجل وبكامل اللهفة، لن يضيرك التلاعب بنصف ساعة من الوقت تقضيها مع صديق كان ينتظر عبورك، لتجددا تصاريف الصداقة المؤجلة.
مقهى الحجاز هوالمكان الأول الذي تعرفت فيه إلى سيدة بلباس فولكلوري مميز تجلس إلى أحد كراسي المقهى بثقة عارمة. هي المرة الأولى التي أتعرف إلى آثار الحبر الأزرق موشوماً على ذقون النساء وأيديهن. المرة الأولى التي أتعرف فيها على امرأة تدخن وباكيت الدخان والقداحة مركونة في عبّها المنفلت على راحته دونما حمالة صدر. على كراسيه تعرفنا إلى لهجات دافئة، حزينة ومليئة بالأسئلة.
على كراسي المقهى تسمح لنفسك ببناء قصة لا تعرفها أصلاً، لكنك ترى شابة تبكي أو امرأة تشتم وتسعل وهي تنفث التنباك الأصلي من فمها، على مناضده تشتم القهوة الرخيصة وضيق ذات اليد والأحلام المطعونة، ترجع ظهرك إلى المسند الخشبي لكراسي الخيزران التراثية وقد تفوز بشرف كتابة سطرين أو أكثر، سترميهما لاحقاً لأنك تأكدت من سذاجة موهبتك الروائية، قد تعجب بمقطع خططته من قصة لم ولن تكتمل، قد تدقق مادتك الصحفية الأولى والأخيرة، وقد لا تفعل شيئاً إلا تمزيق الورق.
على جدرانه الخارجية يقف باعة متجولون، ملابس عتيقة، ديارة أطفال رخيصة، وكأنما ينبغي على كل خارج أو داخل إلى المقهى أن يشتري غرضاً يحتاجه، المفاصلة سهلة، والباعة كرماء، لكن على الجميع أن يشتروا ليثبتوا حضورهم في المكان، فأنت في مركز العالم، أنت في الشام الموعودة، وكل غرض منها مكسب وهدية ثمينة، ذرة مفرطة، حفارات كوسا وسكاكين هندسية لتقطيع الجزر والخيار والبطاطا.
باعة المحابس المعدنية الرخيصة، وتذكارات الحب الخشبية سيئة التنفيذ، وباعة حافظات الهوية الشخصية العادية والكريستال وحافظات شهادة السواقة وجواز السفر.
أنا في مقهى الحجاز! العنوان الأكثر إيجازاً والعصي عن أن تضيعه، الجميع سيدلك عليه، وعندما يسأل المتصل على الجهة الثانية من الخط السيدة المتصلة: (وين المقهى)؟ فتجيب بزهو وثقة:(بالشام يا ول)! وتردف: (معقول ما تعرف الشام)؟
اعتاد السوريون والسوريات على التفريط بذاكرة الأمكنة، ليس طواعية ولكن بحكم قوة الأمر الواقع، تحولوا منذ أيام الحرب الأولى ليسكنوا الحدائق العامة، في حديقة شارع الثورة أعداد غفيرة من النساء تفترش المقاعد الحجرية، حضّرن أنفسهن جيداً لمواجهة العراء بحرامات صوفية كبيرة، ذات يوم ستظن أن المكان معرض للأغطية الصوفية، إنهن مرافقات لأحفادهن المرضى أو أبناء أو أزواج يراجعون العاصمة من أجل فرصة للعلاج. هنا في نفس الحديقة وعلى أنقاض قذرة صنع أحدهم كافتيريا لبيع الشاي والقهوة، لا حوض لغسل الكؤوس مجرد وعاء بلاستيكي أو بدونه، حيث تغسل الكؤوس على عجل وبماء بلا صابون.
أرى المشهد بكل وضوح الآن، سيتحول رواد مقهى الحجاز إلى هذه المساحة الخربة، القذرة، يستبدلون الوطن المؤقت، الشام التي يعرفونها أو التي ظنوا أنهم ينتمون إليها بأماكن تتنكر للعابرين وتخنقهم في مجاهل الإهمال والغربة المتجددة.
لن يناديني أحد بإسمي وأنا أعبر من قرب ما كان اسمه مقهى الحجاز، نغرق في خنق الذاكرة ولن أستمتع بلعبة التخفي التي تمارسها القداحة في عب السيدة صاحبة اللهجة المحببة وعبارة كيفك يمه.
يفقد السوريون والسوريات فضاءهم، سيتم بناء فندق خمس نجوم هنا، قد لا نجد ممراً بعد اليوم، وستصبح التفاصيل شبحاً باهتاً للذاكرة التي تجف وتجف حتى تبلغ اليباس، وأتساءل عن سر هذا التنافر الذي سيملأ المكان، من سيسكن أو يشغل هذا الفندق سيكون غريباً أيضاً عنه وعنا.
لن نألف الوجوه الغريبة الجديدة، ولن نكون معاً في ذات المكان، تغرق الأمكنة في حالة القسوة العامة، حالة التنافر العاطفي والامتلاء بالإهمال والغربة.
كل المراكز والأماكن التي تناغمت مع مقهى الحجاز ستفتقد معنى وجودها هنا، سيقول مراجعو القصر العدلي: لم يعد لنا مكان نجلس فيه وننتظر، تضيق مساحة الشراكة، الشام بات غريبة وموحشة، نعم! لم نعد نعرف الشام ولا تعرفنا، هي حقيقة تفرض نفسها كل يوم والشام تتنكر لنا وبقوة الأمر الواقع أيضاً.
بواسطة أسامة إسبر | مارس 7, 2021 | Culture, غير مصنف
نعتَ شاعرُنا العربي الكبير المتنبي الموتَ بالغدر، واعتبره أيضاً ضرباً من القتل، في بيته الشهير الذي يقول فيه:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَه
تَيقَّنْتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
وهو فعلاً نوع من القتل حين يستهدفُ شخصيات فكرية وإبداعية لم تتوقف يوماً عن العمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل باذلة من أجل ذلك الغالي والرخيص، ومفضلة حياة المنفى على حياة الذل والخضوع. وإذا لم يمتلك المرء إيماناً دينياً من نوع ما سيبدو له الوجود لعبة ومسرحاً عبثياً لموت متواصل، فيما الحياة الحرة الكريمة، حياة الحقوق والمواطنة والاختيار، حياة التغيير والتجدد شبه منعدمة، والسبب في ذلك طبيعة النظام الاستبدادي السائد، وطبيعة جزء كبير من الفكر السياسي المعارض السائد والاثنان لا يكفان في منطقتنا عن الصدور عن بنية واحدة، أو بحسب الفكرة الألتوسيرية، عن البنية الإيديولوجية والتي يحدث فيها تواطؤ مريب: أي تتواطأ العائلة والمدرسة والإعلام والمسجد والنقابات والأحزاب التوفيقية والقوانين والمنظومات والعادات والتقاليد والأجهزة القمعية بمختلف أنواعها في تشكيلها، وبالتالي تسهم في ولادة الإنسان الممتثل والخاضع والخائف من التغيير والقابل للواقع السائد بكل إكراهاته، وهكذا يخرج الحاكم وكثير من معارضيه من المنظومة نفسها. إلا أن هذا يجب ألا يكون مدعاة للتشاؤم والسوداوية وموت الأمل، بل يجب أن نكون كما قال المسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس محكومين بالأمل، وإذا كانت البنية تتحكم وتُنتج وتفرض نظرة الإنسان إلى الوجود والثقافة التي تحد من خياراته، وتدعوه للامتثال إلا أن وعيه لذاته وتمرده عليها، وبالتالي تمرده على البنية – الرحم يؤدي إلى ولادة ذاته المغايرة كإنسان حر رافض لذاته كنتاج للبنية، وبالتالي ولادته وانبعاثه من ذاته القديمة الموروثة في ذات جديدة، ذات الإنسان الرافض للواقع السائد والمنادي بتغييره. هذه الولادة الجديدة للذات السورية المغايرة حقّقها وجسّدها حسان عباس، الذي توفي أمس إثر صراع مع مرض عضال، مات لكنه وُلد في الفكر المتحول والذي لا يموت والذي هو وحده القادر على إنقاذ سوريا من الموت. فقد رفض أن يكون نتاج البنية التقليدية التي تصنع الإنسان الممتثل المهادن والقابل للأمر الواقع، وقرر أن يكون ذاتاً جديدة تنادي بالتغيير، وبالتالي كان صوت ذاته الجديدة والتي وضعتْهُ على المسار الفكري الصحيح، مسار نقد الأوضاع السائدة وتأصّلها في الثقافة الموروثة، وحين حدثت الانتفاضة السورية أعلن على الفور وقوفه مع خطها المدني لكنه لم يهادن الخطوط الأخرى التي التهمتها وحافظ على موقفه النقدي مشدداً على دور الكتاب والتربية والتعليم والإبداع الفكري والأدبي والفني الموسيقي والسينمائي والعمل الثقافي الدؤوب القائم على البحث المعرفي في خلق ثقافة تنويرية بديلة هي التي ستنقذ المنطقة من التهاوي المتواصل في ظلام الاستبداد والفكر الأصولي.
كانت معرفتي بحسان عباس جيدة جداً، وحين كان في المعهد الفرنسي، وجه لي دعوة مع بعض الشعراء الشباب الآخرين لإحياء أمسية شعرية ونقاش مفتوح مع الحضور، كانت هذه أول أمسية شعرية لي في دمشق، وبالتالي أن تكون الدعوة موجهة من حسان عباس فهذا يعني أن هناك سبباً وراءها والسبب هو أنه كان يؤمن بالعمل الثقافي والإبداعي وبضرورة دعم المواهب الشابة ووضعها في سياق ثقافي مختلف في وقت كانت فيه المراكز الثقافية الرسمية (باستثناء بعض المراكز التي لعبتْ فيها المبادرات الشخصية دوراً لافتاً) لا تعبر عن نبض الإبداع السوري، لا يعني هذا أن المعهد الفرنسي يجب أن يكون بديلاً، بل أنه قد يكون بديلاً مهماً حين تكون فيه قامة مهمة كقامة حسان عباس، تفهم ألاعيب القوة وتعرف كيف تفتح منافذ الاستقلالية والخصوصية. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كان حسان عباس شعلة ثقافية حية استطاعت أن تؤسس لجو ثقافي بديل في وقت كانت فيه روح الشباب تبحث عن منافذ لها خارج التدجين الثقافي العام الذي سُلط عليه سيف الرقابة.
لم يكن حسان عباس في أيامه الأخيرة متفائلاً كما كان في ٢٠١١، لكنه حين رأى أن الحل الأمني سلك طرقاً شرسة وعنيفة أدت إلى وأد النزعة المدنية وتحويلها إلى تيار ديني متطرف، وبعد أن تحولت الصرخة المدنية إلى خطبة دينية، وانفتح باب العسكرة على مصراعيه، ووُلد التطرف الديني ودخل مالُ النفط الخليجي على الخط واشتُريت الذمم واستُلبت الإرادات، وأُفْسدت النفوس وتفككت الدولة وفقدت أراضيها وتجسدت في ميلشيات وتجسدت المعارضة في جماعات أصولية يقودها أشخاص على صلة بالقاعدة، وصار الحلفاء أصحاب القرار في البلد، لم ير حسان عباس المستقبل مشرقاً ومضيئاً، وتحدث في حوار أجراه معه منذ مدة قصيرة ”معهد حرمون للدراسات المعاصرة” عن ”مشهد عبثي“، ولم ير أية صورة مشرقة وردية لمستقبل سوريا القريب، وكان الشيء الوحيد الذي تخيله صورة كارثية تعكس بلداً ممزقاً دولته فاشلة وسيادته مُنتهكة ومجتمعه متصدّع طائفياً واقتصاده منهار ويواصل انهياره. غير أن حسان عباس لم يكن من النوع المتشائم وهذه ميزة المثقف العضوي التغييري المحب لشعبه، لهذا نوه في الحوار نفسه أن الصورة العبثية التي يتحدث عنها هي صورة سورية في المستقبل القريب، وليست سورية المستقبل، التي يجب أن يعمل السوريون الحقيقيون على أن تُعمَّر من جديد، وبإرادة سورية مستقلة، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. ولهذا كان حسان عباس يرى منذ البداية، أي منذ بداية كتاباته حول الشأن السوري أن العمل الثقافي التنويري هو الجوهر الأساس في كل شيء، إذ لا يمكنك أن تغيّر مجتمعاً إذا لم تُغير رؤيته للعالم والحياة، إذا لم تُفْهمهُ أنه ما يزال تحت المجتمع، وأن عليه أن يكون مجتمعاً بالمعنى الحقيقي والمدني للكلمة. وكي تغير هذه الرؤية عليك أن تكون مخلصاً للمبدأ الفلسفي اليوناني: اعرفْ نفسك، و أن تفكر بكيفية ولادة ذوات جديدة، ذوات قادرة على أن تتمرد على نفسها كنتاج للبنية اللاشعورية، ذوات لا يمكن أن تعاود المنظومات القديمة إنتاج نفسها من خلالها وبالتالي هي ذوات تنويرية تمتلك رؤية جديدة للتغيير، تتمرد على نفسها وتتحرر وتُجسِّد أخلاق الحقيقة ومقاومة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، ولا مستقبل لسوريا إلا بتحطيم هذه البنية والتي صارت في منطقتنا، نبع الاستبداد والتطرف سواء أكان يرتدي بدلة العلمانية أم عباءة دينية.
قضى حسان عباس لكن آراءه لن تموت وهي التي أبدعتها ذات حقيقية مغايرة أنجبت نفسها في سياق البحث عن الحقيقة وفي تجسيدها للصوت المقاوم لكل أشكال الاستبداد والتخلف، وهي دوماً ستشكل زوادة لكل مُنْجبٍ لنفسهِ وصاقلٍ لها، ولكل رحالة على دروب التغيير السياسي، ولكل باحث عن الحقيقة خارج المسرح الإيديولوجي المليء بالأكاذيب والتشويهات، مسرح العبث السوري حيث الخريطة نفسها تبدو كما لو أن خطوطها تتحرك بشكل سريالي أو تدور كدواليب اليانصيب فلا نعرف على ماذا سيتوقف الرقم أو إذا كان سيتوقف في المستقبل القريب.
قضى حسان عباس من ورم خبيث غير أنه لم يكن رقماً عابراً، كان صوتاً منقذاً ومداوياً، هذا الصوت الحر الذي، في سيمفونية إبداعية وحرة مع أصوات سورية أخرى حرة مُنقذة، سيظل يعمل على مداواة الجسد السوري من ورم الاستبداد والتطرف.
بواسطة Ghassan Nasser | فبراير 26, 2021 | Culture, غير مصنف
أصدرت منصّة “شركاء” الإلكترونية، مؤخراً كتاباً احتفاءً وتكريماً بشخص ومنجز الباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عباس، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديميّة برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.
الكتاب الموسوم بـ «حسّان عباس بعيون معاصرة» جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري البارز فايز سارة. وهو يحتوي بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة. كما احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات المختارة لصاحب «الموسيقى التقليدية في سوريا» (منظمة “يونسكو”، باريس 2018)، تناولت الأحوال السورية في السنوات العشر العجاف، مع ملحق عن نشاطات المحتفى به ومسارات حياته الذاخرة بالعطاء.
الدكتور حسّان عباس يُجيب سائله: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، بالقول: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
تمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
ومما جاء في مقدّمة الكتاب التي كتبها الأستاذ فايز سارة، “إنّ روح هذا الكتاب، بطابعه التكريمي وبالمشاركين فيه الذين كتبوا مقالات، خصّصت له، وتنشر فيه حصراً، يستحقّ أن تكتب له مقدّمة مختلفة، مقدّمة تتحدّث عن الفكرة أولاً، فكرة هذا النوع من الكتب، قبل أن تتناول المثال أو تجسيدها العملي في الكتاب الذي صار بين أيدينا.” وتابع: “تعود فكرة الكتابة عن شخصيات في النخبة السورية عندي، ولاسيّما الثقافية منها إلى ما أحاط بالنخبة من تدمير وانتهاك وتهميش متعمّد من جانب نظام البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963، وهو أمر تمّت متابعته وتكريسه في عهد الأسدين الأب والابن اللذين أمعنا في عملية تهميش النخبة السورية وانتهاكها إلى حدِّ التدمير، فيما ركزا من جانب آخر كل الأضواء على شخصيتيهما، وأحاطا نفسيهما بشخصيات، لا تملك من مواصفات النخبة وقدراتها إلّا القليل، لكنّها مشبعة بروح التزلف والتصفيق للدكتاتور وكيل المديح لجنون العظمة فيه، وكان وضع النخبة في المجال الثقافي والإعلامي بين أسوأ الأمثلة في تعبيرات ما أصاب النخبة، وكان الأشدّ وضوحاً في النماذج، التي تولت إدارة المؤسّسات الثقافية والإعلامية وخاصّة في اتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد الصحافيّين والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وقد تحوّلت جميعها إلى مؤسّسات وهيئات لا هدف لها سوى خدمة النظام، وتمجيد الدكتاتور فيه، والإشادة بما قام، ويقوم به حتى لو كان مصنفاً في عداد الارتكابات والجرائم المعلنة”.
عقود من العمل في خدمة سورية والسوريين..
سارة، الذي شارك في الكتاب بتحرير مقالة أيضاً، بعنوان «عن زمن استبداد ودم ورجل يسعى إلى ربيع»، بيّن في المقدّمة أنّ د. حسّان عباس ينتمي إلى نخبة السوريين، “التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام وممارساته، وعملت قدر ما استطاعت، أن تقوم بما رأت أنّ عليها القيام به، فجهدت وحاولت بكل الطرق والأساليب مستغلة كل ما أمكن من ظروف وطاقات لخلق وقائع جديدة، تتراكم باتجاه التغيير بجوانبه المختلفة.”وأضاف: “جَهِدنا في محتويات هذا الكتاب، أن نقدّم صورة عنه في مساره الحياتي من تكوينه المعرفي إلى العملي، مروراً بنشاطاته المتعدّدة، وصولاً إلى ما يمثّله من خلاصات في الجهد الذي قدّمه خدمة لسورية وللسوريين على مدار ثلاثة عقود ونيّف، بدأت في المكان الرئيس لدراسته في باريس، وتصاعدت في دمشق المدينة التي اختار العودة إليها والعمل فيها، وتواصلت في بيروت، التي لجأ إليها بعد أن أصبح من المحال البقاء في دمشق، وصار من رابع المستحيلات، أن يتابع عمله فيها. واستكمالًا لتكريم د. عباس، رأيت أنّ إعادة نشر بعض كتاباته في هذا الكتاب احتفال به، وتكريم له. إذ أننا نحتفي بأفكاره وآرائه في إطار إجمالي سيرته، وهكذا فإنّ تزيين الكتاب ببعض ما كتبه من مقالات، يقع في دائرة جُهدنا، آملاً أنّي اخترت نصوصاً، قاربت أو طرحت الأهم في آرائه ومواقفه.”
المساهمون في الفصل الأول من الكتاب إلى جانب محرّره، مجموعة من النخبة السورية من الشعراء والكتّاب والكاتبات هم (حسبما وردت أسماؤهم في الكتاب): فرج البيرقدار، وائل السواح، سمة عبد ربه، علي الكردي، ميشيل كيلو، عمر الجباعي، مزن مرشد، إبراهيم اليوسف، وبدر الدين عرودكي.
فيما خُصّص الفصل الثاني لكتابات د. حسّان عباس في الحال السوري، ومن عناوين المقالات المنشورة: («جدران الوهم»، «حرّاس الذاكرة»، «تحوّلات في ثقافة الخوف»، «المجتمع المدني المقبل»، «صناعة التفاؤل»، «المواطنة أمام امتحان الوباء»، و«سوريا لا أمّ لها»).
ونجد في نهاية الكتاب فصلٌ بعنوان «مسارات حسّان عباس في دروب الحياة»، وآخر عنوانه «روابط من نشاطات حسّان عباس ومقابلات معه وكتاباته». إضافة إلى الهوامش والتعليقات.
من مآثر رجل بحجم وطن..
في حوار لي معه تمّت الإشارة إليه في الكتاب (نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في 3 أيلول/ سبتمبر 2020)، يرى صاحب «سورية، رؤية من السماء»؛ أنّ “الثورة السورية مثّلت برأيي أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سوريا الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت غالبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقيّة وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعيّة لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث”. مؤكّداً أنّه “سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دوراً ليس ضئيلاً فيما وصل البلد إليه لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنّما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء”.
ونقرأ من مقالة الشاعر السوري فرج البيرقدار، المقيم في السويد، والمعنونة بـ«بشارة الحرّيّة»؛ “حسّان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت. كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها. ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، ولكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساسًا، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية”.
ومن الشهادات اللافتة عن رجل نبيل بحجم وطن، ما كتبه المعارض البارز الكاتب ميشيل كيلو، المقيم في فرنسا، والتي جاءت بعنوان «مأثرة حسّان عباس»، والتي أشار فيها كاتبها إلى أنّه “بانطلاق الدكتور عباس من الحرّيّة كخصيصة يتعرف الإنسان بها، فإنّه كان من المحتم أن يؤسّس دولة المجتمع المدني على المواطنة، ليتساوى أمامها السوريون في كل ما يتّصل بحقوقهم وواجباتهم، وبتعين الشأن العامّ والحقل السياسي بهم، وتعينهم به كضامن لحرّيّاتهم، فقد جانبه القهري أو أقلع عن استخدامه ضدّهم، لأنّه لم يعد يرى فيهم رعايا/أعداء. قال حسّان عباس بالمواطنة كحلقة رئيسة، كرّس جهوده لتحقيقها، فكان من المحتم أيضًا أن ينصب اهتمامه على بناء ونشر الوعي بها لدى عامّة السوريين. لهذه الغاية، أسّس (رابطة المواطنة)، وجعل شعارها “المساواة والمسؤولية والمشاركة”، بما هي تجليات حتمية للحرّيّة: أساس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة لسورية”. يضيف كيلو: “قدّم عباس للرابطة تعريفاً يقول: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنّها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العامّ وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. أما هدفها فهو: “المشاركة الفاعلة والواعية لأيّ شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة””.
عباس مفكّراً ومنظّراً في زمن الاستبداد..
من مواسم رحلة عطاء د. حسّان عباس إسهامه في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، إضافة إلى مؤلّفاته وتنظيراته الفكرية ومنها ما أشار إليه الشاعر والروائي السوري الكردي إبراهيم يوسف، المقيم في ألمانيا، الذي كتب تحت عنوان «د. حسّان عباس ونظرية الرأرأة.. أثر آلة الاستبداد بين العاهة والتشخيص»، والذي رأى فيه أنّ الثورة السورية “استطاعت أن تحوّل معارفنا النظرية التي طالما تعاملنا معها على أسس معرفية، إلى واقع معيش، فيما يخصّ الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، والعنف، بمعنى أنّها أزالت المسافة الكامنة بين النظرية والتطبيق، إذ إنّ ما ظللنا نتناوله عبر ما يصلنا من أوعية معرفية أو ثقافية، في العقود الأكثر ظلامية، التي مرّت ولما تزل تخيم في أبشع صورها، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وإنتاجه أعلى نمطاً للاستبداد والطغيان، إذ سعت آلة النظام إلى كمِّ الأفواه، ومواجهة أيّ رأي مختلف، أو أيّ موقف لا يندرج في خدمة النظام على أنّه معاد، وتمّت تربية -جيش- من العيون والمخبرين الذين انحصرت مهمتهم في مراقبة سلوك الناس، وحركاتهم، وسكناتهم، وأقوالهم، بل محاسبة كثيرين على مبدأ المظنّة، ما رسّخ بنيان هذه الآلة الرّهيبة التي راحت تحاسب بعضهم حتى على رؤية في منام”.
يحلّل اليوسف في سياق مقالته استنباط الدكتور عباس لمصطلح «الرأرأة» الذي جاء على ذكره في مقالة له عنوانها «الرأرأة السورية» (نشرت في صحيفة “المدن” الإلكترونية اللبنانية، في 17/10/2013)، فيقول: “ينطلق د. حسّان عباس في استنباطه لمصطلح «الرأرأة» من أحد أمراض البصر، إذ يرى أنّ للرأرأة نفسها أربعين حالة، بحسب التشخيص الطبي، إلّا أنّه لا يستغرق طويلاً في حدود هذا المرض العيني، العياني، بل يتّخذه معبراً إلى مرض آخر، فإذا كانت الرأرأة (في لغة الطب) عبارة عن “عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية” إلّا أنّه يمضي إلى رأرأة أخرى، أشدّ فتكاً، لا تكتفي بهذه الحالة السريرية العابرة التي يمكن علاجها لدى طبيب العيون، لأنّ هناك رأرأة أخرى يقشعرُّ لها بدن المرء وهي “كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميّزهم عن سائر البشر. وتتميّز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجّه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيّز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”. إنّنا هنا، أمام حالة رعب يكاد يكون فريداً من نوعه. رعب يتحكم بلغة الناس، وحديثهم، إذ ثمّة ما هو ممنوع عليهم التكلم به، أو تناوله، أو الحديث عنه، إلّا في إطار المديح الملفق، بدءاً من اسم الدكتاتور الأول، وانتهاء باسم أصغر شرطي، ضمن دائرة متكاملة، يشكّل جميعها آلة الاستبداد”. يتابع اليوسف: “إذا كان د. حسّان عباس، قد رأى، أنّ للرأرأة أربعين حالة، قد يعاني المصاب بإحداها، أو أكثر من حالة رؤية وهمية أو نحوها، فإنّه ليشخص الحالة الحادية والأربعين التي لم يذكرها أحد قبله، ولم يتناولها حتى علم -طب العيون- وتكاد لا تشبه حالة أحد من المصابين بمرض الرأرأة سوى حالة من هو في ظل وطأة حكم ربيب آلة القهر -السفاح السوري، طبيب العيون- (في إشارة إلى بشار الأسد)، الذي لا تتجاوز تجربته الثقافية حتى مع اختصاصه الألفباء التي وضعها -الكحّالة- البدائي، قبل قرون، في التراث، ولعله لا يفقه “ما الرأرأة” أصلاً! هذه الحالة الإحدى والأربعون ولدت في ظل حكم باطش أسّسه الحزب الحاكم، وكان ذروة نتاجه -حالة النظام الحاكم- الذي أسّس لحالة طغيان دفع ثمنها السوريون جميعهم -موالاةً اضطرارية بسبب مصالحها أو انتهازيّتها أو جبنها- من جهة-، ومعارضة مشرذمة منقسمة على ذاتها بسبب اقتصاديات الحرب، وتمويلات سفك الدم، من جهة أخرى. هذه النظرية، وإن بدت جدُّ بسيطة في طرحها، إلّا أنّها تُقدّم صورة -طبق الأصل- عن حالة السوري المقموع، رصدها الكاتب بلغة أدبية، تتمايز عن لغة الكاتب الصحفي، كما أنّها تقدم ما هو فكري بلغة لا تصعب على مستسيغ لغة الصحافة، وفي هذا ما يميّز لغة كاتبنا التي يمكن تناولها في مبحث خاصّ”.
بواسطة Yazan el-Haj | فبراير 25, 2021 | Culture, غير مصنف
يتحدّث فرويد عن دافع الحياة (سمّاه «إيروس» تيمّنًا باسم إله الجنس الإغريقيّ)، وعن دافع الموت (سمّاه مريدو فرويد «ثناتوس» تيمّنًا باسم إله الموت الإغريقيّ). ولكنّ إيروس ليس دافعًا للحياة تمامًا، بل هو أقرب إلى دافعٍ للحب الذي يؤسِّس بدوره للتّناسل الذي يضاعف الحياة؛ وليس ثناتوس دافعًا للموت في ذاته، بقدر ما هو دافعٌ مُبهَمٌ إلى العنف والتّدمير اللذين يؤسّسان بدورهما للزّوال أو الإبادة التي تُرسِّخ الموت. كانت المفارقة الفرويديّة الصاعقة هي أنّ هذين الدافعين متلازمان بالرغم من تناقضهما، وبأنّ تلازمهما وتضادّهما هما اللذان يجعلان البشريّ بشريًا، أو ربّما كانت جدليّة التّلازم والتّضاد هي ما تجعل البشريّ بشريًا محكومًا بدافعٍ مزدوج للحياة وللموت، للحب وللموت، للحب في الموت، وللموت في الحب. لعلّ كلام فرويد ردٌّ أو تطوير متأخّر على طرح الفيلسوف الإغريقيّ قبل-السقراطيّ إنباذوكليس الذي يُضيف إلى العناصر الأربعة الأساسيّة (التراب، الماء، الهواء، النار) المُكوِّنة للكون قوَّتَيْن أساسيّتين هما: الحب (أو الوئام) والصّراع (أو النّفور). يكون الكون حين تتآلف هذه العناصر (كلّها أو بعضها) بنسبٍ دقيقة، ويكون الفساد حين تتنافر تلك العناصر، وتكون تغيّرات الكون (والبشر) تبعًا لاختلاف نسب تآلفات هذه العناصر أو تنافراتها. تمثَّل تطوير فرويد في دمج قوَّتَيْ التآلف والتّنافر دمجًا لا انفصام فيه، بحيث بات الموت وجهًا آخر للحب أو الحياة، لا نهايةً لهما. بل ربّما كان الموت – بمعنى من المعاني – شرطًا أساسيًا لاكتمال الحب. هذا ما يقوله فرويد، أو بالأحرى هذا ما فهمتُه من كلامه المعقَّد. لم يفهم أحدٌ فرويد، ولعلّ الوحيدين الذين فهموه هم الذين لم يقرؤوه. ما من مكان لليقين حين نحاول تأويل كلامه، بالرغم من أنّه يكتب بيقين إلهيّ. ليس لنا إلا «ربما»، و«لعلّ»، و«أحسَبُ»، و«أظن»، ومثيلاتها حين نحاول استثمار نظريّاته تطبيقًا. وكذا الأمر بالنّسبة إلى صديقنا إنباذوكليس الذي كان وما زال موضعًا لجدالات لا تنتهي بين الشرّاح والمفسّرين. لعلّ مكمن عدم فهم كلام فرويد يعود إلى أنّه يناقش متاهةً معقدةً لا سبيل إلى فهمها، وهي النّفس البشريّة. أو ربّما كان سببُ انتفاء اليقين أنّ فرويد (والفلاسفة قبل-السقراطيّين عمومًا) يكتب أدبًا لا علمًا، مع أنّه يقدّم طروحاته بوصفها علمًا. يصطفل فرويد! هو يكتب أدبًا حتّى لو أنكر، وحتّى لو (بالأحرى، بالرغم من أنّنا) لم نفهم كلامه. الأدب لا يُفهَم بل يُحَس، يُتذوَّق. ولذا كان الانتشار الأكبر لطروحات فرويد والإغريق في الأدب، حيث حلبة صراعات النّفس البشريّة، وحيث يتجاور الوئام والتّنافر، وحيث يتّحد الحب والموت.
اتّحاد الحب والموت في الأدب؟ روميو وجوليت حتمًا. قصّتهما أشهر قصة حب في تاريخ الأدب، ويعرفها حتّى مَنْ لم يقرأ مسرحيّة شيكسپير. سنخسر كثيرًا لو لم نقرأ المسرحيّة، ولكنْ لن أعاود اليوم تشديدي على الهوس الحميد بشيكسپير، ولنمرّ مرورًا سريعًا على القصة. لعلّ سر شعبيّتها الجارفة هي موت عاشقين قبل أن يبلغا النّهاية السعيدة، ولعلّ شعبيّتها هي أنّهما لم يبلغا تلك النّهاية. لا شعبيّة ولا لذّة ربّما للقصص السعيدة. إنّنا مخلوقون للّوعة ولملاحقة الفجائع، وكأنّه ضربٌ من ضروب التّطهّر الذي لا بدّ منه كي نتحرّر من فائض الأسى. ولكن لعلّ سر الشعبيّة يكمن أكثر في كون العاشقين فتيّين، طفلين لو طبّقنا معايير زمننا اليوم، ولذا كان الموت أقسى لأنّ الموت ليس للأطفال، وليس للأطفال العشّاق بطبيعة الحال. ولكنّه لهم كما «يبشّرنا» شيكسپير، وقافلةٌ طويلةٌ من الكتّاب. على أنّ التطهّر لن يكون إلا تنفيسًا عابرًا حين نقرأ القصة بوصفها قصة حب فقط. لا يكون الموت إلا حين تنتهي الحلول كلّها، ولعلّ أسانا يتضاعف على العاشقين الصغيرين لأنّهما عبثا بالموت كما لا ينبغي لهما أن يفعلا، فاختطفهما الموت بعد نهاية اللعبة، وبقي كلُّ ما عداه. بقيت الحياة كلّها، حياةٌ ضيّقة في بلادٍ ضيّقة في عالمٍ ضيّق في كونٍ ضيّق. بمعنى ما، بقيت الحياة التي تشبه الموت، والتي تُمهِّد للموت، والتي تُغلِق المنافذ الأخرى كلّها باستثناء تلك المفضية إلى الموت. ليست قصة موت حبّ وحسب، بل قصة موت بلاد، إذ ما معنى البلاد التي تقتل أطفالها لأنّهم أرادوا الحب؟ سيكبر الأطفال ويُقتَلون لأسباب كثيرة في البلاد ذاتها، ولكنْ ستبقى اللوعة أكبر حين يكون القتل بسبب الحب، لأنّه أكبر الخطايا السماويّة والأرضيّة على السواء. قد يبدو الكلام غريبًا، ولكنْ فلنتأمّل مصائر الحب عبر العصور مع تقلُّب الديانات والحضارات والهمجيّات. هو الثابت الوحيد في المعادلة المتغيّرة. هل نبدأ بآدم وحوّاء؟ لعلّها ليست قصة حب بدقّة، ولكنّها قصة إيروس نموذجيّة: الجنس الذي يُفضي إلى العقوبة. الشعراء؟ كلّهم رجيمون في مجتمعات العادة السريّة، ولا يُحتَفى بهم إلا بعد موتهم، كي يصبحوا دليلًا آخر على «الزمان الجميل» الذي مضى. حتّى الشعراء «العفيفون» لم ينجوا من الملاحقة والإقصاء، ولن ينجوا حتّى لو عاشوا اليوم إذ ستُرفَع عليهم دعاوى «قذف أعراض»، وسيُحجَر عليهم. ليس إيروس إلهًا للجنس فقط كما ظنَّ الإغريق، بل هو إله للحب كلّه، جنسيًا كان أم عفيفًا؛ إنْ افترضنا وجود حب عفيف. لعلّ قائلًا يقول إنّ الدنيا قد تغيّرت، وذاك زمان ضيق الأديان لا اتّساع الحضارة وجموحها، قبل عودة التعصّب اليوم، ثمّ يمصمص شفتيه تحسّرًا على العقود الماضية التي كانت أكثر تحرّرًا. أين زمن السينما الحرّة، والشوارع الحرّة، والأدب الحرّ، وسبعينيّات وثمانينيّات وتسعينيّات التحرّر؟ أو، ربما، يا لجمال البلاد الحرة التي يُحتفى فيها بالحب بلا قيود وبلا تحفّظات. نعم، الحب الحر جميل ويستحق الاحتفاء، ولكن بشرط أن يكون بعيدًا، أن يكون خارج نطاق المنظومة التي تحكم حياتي التي أتفنّن في فرض حدودها وقيودها. نضع لايكًا باطمئنان على أيّة قصة حب بعيدة، ولكنْ ماذا لو كانت داخل حدودي؟ ماذا لو كان المحبوب من طائفة أخرى، أو دين آخر، أو عِرْق آخر أو لون آخر؟ ماذا عن المثليّة؟ ماذا عن المساكنة بلا زواج؟ سنبدأ حينها في ابتكار تعريفات جديدة للحب تُفضي كلّها إلى نتيجةٍ بسيطة واحدة: الحب هو ما أُعرِّفه أنا، أنا وحدي، حبًا؛ وكلُّ ما عداه هرطقات أُهلِّل لها حين تبقى بعيدة، أو حين تُدفَن. ولعلّ أعظم فنوننا البشريّة هي المراثي، واللطم، والتحسّر على ما فات. فلنبدأ من السبعينيّات إذن، ولنر كيف كان الحب ملاحقًا وملعونًا حتّى في سنوات ذلك العقد المتحرّر، ولنر أيضًا أنّ درس شيكسپير وفرويد درسٌ أزليّ لم ندرك مغزاه بعد: لا منجى للحب إلا بالموت، أو فيه.
بعد ذهاب سَكْرة الانتصار في حرب أكتوبر 1973، جاءت فَكْرة الحياة بعد الانتصار في مصر السادات. كان لا بدّ للسادات من تحطيم كلّ إرث جمال عبد الناصر، ولذا بدأ عمليّة «الانفتاح». لا، لم يكن انفتاحًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل انفتاحًا اقتصاديًا سيُمهِّد لظهور الطبقة التي ستبلغ مجدها في تسعينيّات حسني مبارك، وإنْ كانت قد بدأت إرهاصاتها الأولى في زمن السادات؛ طبقة مُحدَثي النّعمة (أو «القطط السِّمان» كما راجت التسمية في الصحافة المصرية) الذين أثْرَوا بعد انفتاح مصر أمام المشاريع الخليجيّة ورفع القيود الاقتصاديّة التي كانت تمثّل صمّام الأمان في وجود طبقة وسطى ستبدأ بالتّلاشي سنة إثر أخرى. شرعتْ الهوّة الطبقيّة بالاتّساع وبدأ طوفان ردود الفعل الاقتصاديّة من نظريّات تُهلِّل وأخرى تُعارِض. ولكنْ بعيدًا من ضجيج السياسة والاقتصاد، كانت هناك عينٌ حاذقة تراقب بصمت، من طاولة مقهى شهدت مراقبات وتأمّلات لا حصر لها طوال قرابة نصف قرن. كان نجيب محفوظ، ابن السابعة والستّين آنذاك، صامتًا مراقبًا كعادته عام 1978، حين بدأت أطياف قصة جديدة تراوده. كانت قصة مباغتة حتّى لمتابعي مسيرة محفوظ القصصيّة الدؤوبين، وهم قلّة قليلة بالمقارنة مع متابعي الروايات الذين كانوا ما يزالون، وقتذاك، يواصلون إعادة قراءة الحرافيش التي أصدرها الأستاذ قبل عام. لم يكن محفوظ ابنًا للقصة القصيرة، ولم يكتبها كتابةً جديّةً إلا في الستينيّات، ولكنّه عوَّض تأخّره ذاك بسلسلة عظيمة من المجموعات التي بدأت بـ دنيا الله (1965)، وبدتْ وكأنّها انتهت بـ الجريمة (1973)، حين عاودَ محفوظ غوصه في روايات متلاحقة كالرصاص في السبعينيّات. ولكنّ الأستاذ كان يتأمّل ويهيّئ رصاصته الجديدة في القصة هذه المرة: قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي نشرها في مجموعة بالعنوان ذاته عام 1979، التي واصلَ فيها حفره في جنس القصة الطويلة التي نوّع فيها لاحقًا ليكتب نوڨيلات لا تقل أهميّة وجمالًا عن رواياته الأطول. لم تكن قصة شيخوخة، إذ سيترك تلك التأملات الرهيفة لعقدَيْ الثّمانينيّات والتّسعينيّات. كانت قصة عن شاب يصغر محفوظ آنذاك بأربعين عامًا. لعل هذا لا يشكّل مفاجأة كبيرة إذ يمكن أن نتوقّع أيّ موضوع من محفوظ غزير الإنتاج، متنوِّعه، حتى لو كانت قصة تٌشرِّح بدقّة متناهية عالم الشّباب الذي غادره محفوظ قبل عقود. هي قصة عن شاب يعاني أزمة جنسيّة. مرةً أخرى، ليس هذا بمستغرب عن محفوظ الذي سبق أن كتب رواية السراب التي كان فرويد سيرقص لها طربًا لو عاش وقرأها.
اللافت في حكاية علي عبد الستّار بطل قصة «الحب فوق هضبة الهرم» أنّها تبدأ بافتتاحيّة صاعقة: «أريد امرأة، أيّ امرأة. … الجنس أصبح محور حياتي وهدفها. انقلب وحشًا ذا مخالب وأنياب. قوّة مطارِدة مهدِّدة»، لا تشبه أيّة افتتاحيّة من افتتاحيّات محفوظ التي تميل في الغالب إلى البدء بتوصيف عموميّ للسماء أو الشمس أو المكان، من دون استثناء الافتتاحيّة الأشهر في رواية ميرامار: «الإسكندريّة أخيرًا. الإسكندريّة قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع». يفتتح محفوظ القصة برمينا مباشرةً في الحدث، ويواصل نبشه لعالم الشخصيّة الداخليّ في مقطع كامل، قبل أن يعود بنا إلى عالمه المألوف في المقطع الثاني حين يقدّم الشخصيّة مرةً أخرى تقديمًا محفوظيًا تقليديًا. يبحث علي عبد الستار عن امرأة ليُطفئ رغبته الجنسيّة المستعرة التي لم يروِها يومًا، وقد بلغ السادسة والعشرين. شابٌّ مصريّ عاديٌّ، شاء له عبث الأقدار أن يولد مع ثورة 52، ويعي الحياة مع هزيمة 67، ويشبَّ في زمن انفتاح السادات. على أنّ ذلك الانفتاح لن يشمله لأنّه مجرد موظف صغير زائد عن الحاجة، فرد من جيل سيتضاعف في العقود التالية ليشكّلوا جيش البطالة المُقنَّعة التي اجتاحت نظام البيروقراطيّة العتيد. يجد عليّ سلوانه في التّجوال في الشوارع. هنا بالذات نلتقط براعة محفوظ، وهو المشّاء العظيم، في التقاط نبض الشارع المصريّ في السبعينيّات، بعينِ الشّباب وحكمة الشيوخ وحنكة الحكّائين الكبار. عليّ مرآة لذلك الشارع، أو ربّما كان الشارع مرآة لعليّ. شيخوخة قبل الأوان، وتوتّر نَزِق ينفجر مع أبسط استفزاز، لأنّ ذلك الشارع وسكّانه محكومون بالكبت على اختلاف وجوهه: كبت سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، من دون استثناء الكبت الجنسيّ الذي سيتضاعف مع تلاحُق مشاهد العري في الأفلام التجاريّة التي بدأت تكتسح السينما، ومع تعاظم مظاهر الثراء الفاحش الذي بدأ يترسّخ. شارعٌ كهذا لا يليق إلا ببلاد تقوم مقام صالة ترانزيت يولد فيها المرء ويعيش لهدف أوحد: السفر إلى الخارج للعمل في أيّة مهنة، باختصاصه أو بغير اختصاصه. السفر الذي يعني الهرب من الجحيم، الهرب من مستنقع الرتابة الخانقة المترافقة مع الفقر والبؤس والحرمان، ومع أقنعة الطبقة الوسطى، الأقنعة التي بدأت تبلى وتتفتّت شيئًا فشيئًا، قبل الانزلاق إلى هاوية الطبقة المسحوقة التي ستشمل الجميع. دوّامة ستلتهم البلاد كلّها، ولن ينجو منها إلا الأثرياء الذين يمتلكون مفاتيح تنفيس الكبت. أما جيل علي عبد الستّار فسيعيشون على العادة السرية، لا في الجنس وحسب (إذ يحتاج هو أيضًا إلى أموال، أكان جنسًا شرعيًا أم غير شرعيّ)، بل في كلّ تفاصيل الحياة. كان يمكن لجيل أسبق أن يُفرِغ كبته في السياسة، حيث الزعيق والشجارات والدّسائس، ولكنْ ما الحل لدى جيل يُدرك أنّ السياسة باتت تعني طريقًا أوحد: الاعتقال؟ ليس له إلا الشارع كي يُنفِّس كبته فيه، من دون إدراك أنّ هذا التّنفيس سيُفضي إلى تضاعف الكبت قبل الانفجار.
تنقلب حياة عليّ حين يرى رجاء، وهي زميلة جديدة ستشاركه البطالة المقنّعة والأحلام المجهضة والكبت. كانت رجاء في البداية الموضوع الذي تكثَّف فيه كبت عليّ كلّه، إذ بدت تجسيدًا لكلّ النّساء، وطيفًا واضحًا يبرز من داخل العماء الذي كان يطوِّقه في لحظات الاستثارة. ولكنّها ستصبح الحبيبة والشريكة الحقّة في دنيا الجنون تلك. يُمهِّد محفوظ لظهور رجاء بعبارة يردّدها عليّ بتكرار في المقاطع المتلاحقة: «ما هذه البهجة المنعشة؟». تبدو العبارة مثل لازمةٍ موسيقيّة تضبط إيقاع السّرد وإيقاع مشاعر عليّ وإيقاع علاقة الحب مع رجاء في آن. تغيب اللازمة حين تعرّضت تجربة الحب لانتكاسة مبكّرة، وما لبثت أن عادت حين عاد الوصال، من دون أن يتخلّى عليّ (ومحفوظ) عن هوايته الأثيرة في مراقبة الشارع واستشعار نبضه الخفيّ، حين يتلمّس عليّ تفاوت السرعة بين إيقاع الحياة البطيء في الشارع، وإيقاع الأيام التي تنهب الزمن بسرعةٍ خارقة، مضاعِفةً نسبة الضغط والكبت الذي بدأ يولِّد انفجاراته التي دوَّنها محفوظ بعينه التي لا تخيب: «في تلك الأيام تابعتُ بإعجاب مغامرات الإرهابيّين في الصحف. إنّهم ينفجرون في أركان البلد معلنين عن نبض جنين ينمو في رحم الغيب». وضع محفوظ إصبعه بذكاء على التيّار الذي سينحت الدّمغة الأكبر على أيام العقدين اللاحقين اللذين بدآ باغتيال السادات، قبل أن تلحقه عمليّات اغتيال كثيرة طوال عقدين تقريبًا. لم يكن الغيب غيبًا إذن، بل كانت النتائج شديدة الوضوح والفجاجة، بالرغم من أنّ عينَيْ زرقاء اليمامة المحفوظيَّتَيْن لم تُدركا أنّ جحافل تلك الأشجار الغامضة المرعبة ستنسف الجميع، أكانوا من أنصارها كالسادات أو من مراقبيها الصامتين مثل محفوظ نفسه، وربّما كان عليّ سيصبح من ضحاياها لاحقًا. لا يضع محفوظ نهايةً بعيدةً لقصة عليّ، بل يركّز على أواخر عقد السبعينيّات، وعلى السنة التي شهدت علاقة الحب. سنة كأيّة «سنة نجيبيّة» أخرى، لا صيف فيها، إلا حين يشهد انتكاسة الحب كما كان يشهد التوقّف الموقّت عن الكتابة بسبب الحساسيّة التي تَحكُم حياة محفوظ. تبدأ بوادر قصة الحب شتاءً، ثم تتفتّح ربيعًا، قبل أن تنقطع صيفًا، ومن ثمّ تُعاوِد مسارها الدافئ القديم في الخريف الذي سيُنهي الحكاية، أو ربما سيُنهي هذا الفصل من الحكاية التي لم تنته فصولها إلى اليوم.
ربّما كان محفوظ يريد التهرّب من الرقابة، أو تخفيف وطأة القصة، حين جعل البطلين يسعيان إلى تتويجٍ شرعيّ لقصة حبّهما عبر الزواج. غير أنّ هذا التّفصيل ليس مهمًا في ثنائيّة البلاد والحب، لأنّ النّتيجة هي ذاتها: ستبقى البلاد تلاحق الحبّ وكأنه طاعون لا بدّ من وأده. هذا ما نجده صراحةً على لسان الشرطيّ الحارس لهضبة الهرم حين يرى بوادر حبٍّ بين شاب وفتاة: «متزوّج أو غير متزوّج، لا يهمّ». يهرب العاشقان اللذان تزوّجا سرًا إلى الهرم كي يختلسا لحظاتٍ شحيحةً من الحب، بعد أن لاحقتهما سياط الأعين في الشوارع وفي الفنادق. ثمّة من يجرؤ على الحب وعلى الجنون، ولذا كان لا بدّ من إرهاقهما في ملاحقةٍ لاهثةٍ إلى أن يعودا مواطنين صالحين مكبوتين، أو يهاجرا إلى دنيا أخرى تلاحقهما بحدودٍ وقيودٍ جديدة، أو يهربا إلى الموت. يلتقط محفوظ المفارقة اللاذعة حين يومئ إلى أنّ المكان الوحيد الذي يمكن لك فيه اختلاس الحب هو منطقة الأهرامات التي ما هي إلا مقبرةً؛ نعم، مقبرة ملوك، ولكنّها مقبرة أخرى في نهاية المطاف. وكأنّ التّلاحم بين الإيروس والثّناتوس يصل إلى أقصى درجاته في تلك اللقاءات السريعة المختلسة التي لا شاهد فيها إلا الأشباح: أشباح الملوك الموتى، وأشباح العشّاق الآخرين الهاربين من جحيم البلاد. لا يفكّر عليّ أو رجاء بهذه المفارقة لأنّ كلًا منهما منشغلٌ بأفكاره الخاصة: يبتهج عليّ لأنّ الجنيه الذي تقاضاه الشرطيّ، حارس الموت وخفير الحب، «أرخص من الفندق بما لا يقاس»؛ أما رجاء فتذوب من العار الذي تدرك أنّه سيحكم حياتهما إلى حين موتهما أو هربهما من دوّامة الموت-في-الحياة تلك. تتضاعف سذاجة عليّ حين يحاول التّخفيف عن رجاء والاعتذار لها وطمأنتها بأنّ كلّ ما يحدث هنا والآن استثنائيّ وموقّت، وسيكون محض ذكرى مضحكة يومًا، غير عارفٍ بأنّ أطياف الموت لا تتقن اللعب، ولا تكترث للدعابات وللذكريات. ستتعاظم دفقة الموت في العقود اللاحقة، حين ستجري تفاصيل الحياة كلّها داخل مملكة الموت. لن تكون الأهرامات-القبور مكان الحب الوحيد، بل ستصبح المقابرُ الحقيقيّةُ مأوى (ومثوى) لآلاف الناس (سكّان المقابر) الذين لم يظفروا بتذكرة سفر إلى الخارج، أو بعقد عمل في مؤسسات الانفتاح الاقتصاديّ. ستكون المقابر مكانًا دائمًا لسكنهم في دستوبيا واقعيّة، لم يكن ليتخيّلها حتّى محفوظ.
يُنهي محفوظ قصة «الحب في هضبة الهرم» بعبارةٍ ثاقبة تلخّص مسار ديالكتيك الإيروس والثناتوس، ومصائر الحب في بلاد الضيق: «وأطلّت علينا القرون من فوق الهرم وهي تضرب كفًا بكف»، حيث ازدواج المعنى في كلمة «القرون» التي تعني تعاقب الأيام، وتعني في الوقت ذاته إيماءةً إلى الدّياثة التي تمارسها أيام التاريخ الصامتة، وهي تراقب انسحاق العشّاق والحب في رحى البلاد التي تطحن أبناءها. ليس محفوظ وحده من التقط توازي الحب والموت، وليست السبعينيّات وحدها هي الأيام التي شهدت مطاردة الحب في شوارع البلاد المكبوتة. ثمة عملان بديعان آخران تناولا الفكرة ذاتها، بمعالجتين مختلفتين، في الثمانينيّات والتسعينيّات، وهما: قصة «المقبرة» لإبراهيم صموئيل، ومسرحيّة «بلاد أضيق من الحب» لسعد الله ونّوس. ولكنّهما سيكونان محور المقالة القادمة.
ملاحظة: وردت فكرة المعنى المزدوج لكلمة «القرون» في تعليق للكاتب المصريّ ياسر عبد اللطيف في تويتر.
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.
بواسطة أسامة إسبر | فبراير 24, 2021 | Culture, Poetry, غير مصنف
هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.
تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية
ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.
لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها
أسمعُ في الأنباء عن آخرين
يرتجفون من البرد في الخيام.
صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً
بل مجرّد صوت هارب من صداه
يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني
يسير معي كأنه صديقي الوحيد.
سأتشبث به وأمنعه من الرحيل
نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر
لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة
لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة
ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم
لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.
والقصائد والروايات المكممة
أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم
أو أننا مررنا ولم نر شيئاً
أو أننا على الطريق نسير لوحدنا
والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها
كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره
كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.
أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني
للدروب حين تتحوّل إلى جداول
وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية
وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض
ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،
كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟
ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس
وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟
حين جَلستُ في مقعد الطائرة
وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط
شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.
لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق
أو بأنني سأخرج من باب المطار
إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط
من أين أتى وإلى أين سيذهب.
تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.
في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني
وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،
طفلها الذي يكبر في حدائق البياض
ثم يذوب أحياناً من الشوق.
لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا
بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.
قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص
قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً
ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.
وكانت أصابعي مسترخية في دفء
وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه
غداً، حين يصل صوتي في البريد
وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى
سينكمشُ مرتعداً من الخوف،
لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد
وأنه قادر على قلب الموازين.
تثمل الريح
-١-
تَثْمل الريح
أعرفُ ذلك من صوتها
حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً
ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.
تلهثُ الريح
كما لو أن دروبها وعرة.
-٢-
في الأحلام
تهب الريح فوق دروب موحشة.
في الخريف
تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.
-٣-
لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا
أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.
لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا
على طرقات الريح.
-٤-
وحده الجسد
يعرف أن يقرأ الريح.