بواسطة Ghassan Nasser | فبراير 26, 2021 | Culture, غير مصنف
أصدرت منصّة “شركاء” الإلكترونية، مؤخراً كتاباً احتفاءً وتكريماً بشخص ومنجز الباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عباس، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديميّة برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.
الكتاب الموسوم بـ «حسّان عباس بعيون معاصرة» جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري البارز فايز سارة. وهو يحتوي بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة. كما احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات المختارة لصاحب «الموسيقى التقليدية في سوريا» (منظمة “يونسكو”، باريس 2018)، تناولت الأحوال السورية في السنوات العشر العجاف، مع ملحق عن نشاطات المحتفى به ومسارات حياته الذاخرة بالعطاء.
الدكتور حسّان عباس يُجيب سائله: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، بالقول: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
تمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
ومما جاء في مقدّمة الكتاب التي كتبها الأستاذ فايز سارة، “إنّ روح هذا الكتاب، بطابعه التكريمي وبالمشاركين فيه الذين كتبوا مقالات، خصّصت له، وتنشر فيه حصراً، يستحقّ أن تكتب له مقدّمة مختلفة، مقدّمة تتحدّث عن الفكرة أولاً، فكرة هذا النوع من الكتب، قبل أن تتناول المثال أو تجسيدها العملي في الكتاب الذي صار بين أيدينا.” وتابع: “تعود فكرة الكتابة عن شخصيات في النخبة السورية عندي، ولاسيّما الثقافية منها إلى ما أحاط بالنخبة من تدمير وانتهاك وتهميش متعمّد من جانب نظام البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963، وهو أمر تمّت متابعته وتكريسه في عهد الأسدين الأب والابن اللذين أمعنا في عملية تهميش النخبة السورية وانتهاكها إلى حدِّ التدمير، فيما ركزا من جانب آخر كل الأضواء على شخصيتيهما، وأحاطا نفسيهما بشخصيات، لا تملك من مواصفات النخبة وقدراتها إلّا القليل، لكنّها مشبعة بروح التزلف والتصفيق للدكتاتور وكيل المديح لجنون العظمة فيه، وكان وضع النخبة في المجال الثقافي والإعلامي بين أسوأ الأمثلة في تعبيرات ما أصاب النخبة، وكان الأشدّ وضوحاً في النماذج، التي تولت إدارة المؤسّسات الثقافية والإعلامية وخاصّة في اتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد الصحافيّين والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وقد تحوّلت جميعها إلى مؤسّسات وهيئات لا هدف لها سوى خدمة النظام، وتمجيد الدكتاتور فيه، والإشادة بما قام، ويقوم به حتى لو كان مصنفاً في عداد الارتكابات والجرائم المعلنة”.
عقود من العمل في خدمة سورية والسوريين..
سارة، الذي شارك في الكتاب بتحرير مقالة أيضاً، بعنوان «عن زمن استبداد ودم ورجل يسعى إلى ربيع»، بيّن في المقدّمة أنّ د. حسّان عباس ينتمي إلى نخبة السوريين، “التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام وممارساته، وعملت قدر ما استطاعت، أن تقوم بما رأت أنّ عليها القيام به، فجهدت وحاولت بكل الطرق والأساليب مستغلة كل ما أمكن من ظروف وطاقات لخلق وقائع جديدة، تتراكم باتجاه التغيير بجوانبه المختلفة.”وأضاف: “جَهِدنا في محتويات هذا الكتاب، أن نقدّم صورة عنه في مساره الحياتي من تكوينه المعرفي إلى العملي، مروراً بنشاطاته المتعدّدة، وصولاً إلى ما يمثّله من خلاصات في الجهد الذي قدّمه خدمة لسورية وللسوريين على مدار ثلاثة عقود ونيّف، بدأت في المكان الرئيس لدراسته في باريس، وتصاعدت في دمشق المدينة التي اختار العودة إليها والعمل فيها، وتواصلت في بيروت، التي لجأ إليها بعد أن أصبح من المحال البقاء في دمشق، وصار من رابع المستحيلات، أن يتابع عمله فيها. واستكمالًا لتكريم د. عباس، رأيت أنّ إعادة نشر بعض كتاباته في هذا الكتاب احتفال به، وتكريم له. إذ أننا نحتفي بأفكاره وآرائه في إطار إجمالي سيرته، وهكذا فإنّ تزيين الكتاب ببعض ما كتبه من مقالات، يقع في دائرة جُهدنا، آملاً أنّي اخترت نصوصاً، قاربت أو طرحت الأهم في آرائه ومواقفه.”
المساهمون في الفصل الأول من الكتاب إلى جانب محرّره، مجموعة من النخبة السورية من الشعراء والكتّاب والكاتبات هم (حسبما وردت أسماؤهم في الكتاب): فرج البيرقدار، وائل السواح، سمة عبد ربه، علي الكردي، ميشيل كيلو، عمر الجباعي، مزن مرشد، إبراهيم اليوسف، وبدر الدين عرودكي.
فيما خُصّص الفصل الثاني لكتابات د. حسّان عباس في الحال السوري، ومن عناوين المقالات المنشورة: («جدران الوهم»، «حرّاس الذاكرة»، «تحوّلات في ثقافة الخوف»، «المجتمع المدني المقبل»، «صناعة التفاؤل»، «المواطنة أمام امتحان الوباء»، و«سوريا لا أمّ لها»).
ونجد في نهاية الكتاب فصلٌ بعنوان «مسارات حسّان عباس في دروب الحياة»، وآخر عنوانه «روابط من نشاطات حسّان عباس ومقابلات معه وكتاباته». إضافة إلى الهوامش والتعليقات.
من مآثر رجل بحجم وطن..
في حوار لي معه تمّت الإشارة إليه في الكتاب (نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في 3 أيلول/ سبتمبر 2020)، يرى صاحب «سورية، رؤية من السماء»؛ أنّ “الثورة السورية مثّلت برأيي أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سوريا الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت غالبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقيّة وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعيّة لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث”. مؤكّداً أنّه “سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دوراً ليس ضئيلاً فيما وصل البلد إليه لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنّما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء”.
ونقرأ من مقالة الشاعر السوري فرج البيرقدار، المقيم في السويد، والمعنونة بـ«بشارة الحرّيّة»؛ “حسّان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت. كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها. ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، ولكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساسًا، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية”.
ومن الشهادات اللافتة عن رجل نبيل بحجم وطن، ما كتبه المعارض البارز الكاتب ميشيل كيلو، المقيم في فرنسا، والتي جاءت بعنوان «مأثرة حسّان عباس»، والتي أشار فيها كاتبها إلى أنّه “بانطلاق الدكتور عباس من الحرّيّة كخصيصة يتعرف الإنسان بها، فإنّه كان من المحتم أن يؤسّس دولة المجتمع المدني على المواطنة، ليتساوى أمامها السوريون في كل ما يتّصل بحقوقهم وواجباتهم، وبتعين الشأن العامّ والحقل السياسي بهم، وتعينهم به كضامن لحرّيّاتهم، فقد جانبه القهري أو أقلع عن استخدامه ضدّهم، لأنّه لم يعد يرى فيهم رعايا/أعداء. قال حسّان عباس بالمواطنة كحلقة رئيسة، كرّس جهوده لتحقيقها، فكان من المحتم أيضًا أن ينصب اهتمامه على بناء ونشر الوعي بها لدى عامّة السوريين. لهذه الغاية، أسّس (رابطة المواطنة)، وجعل شعارها “المساواة والمسؤولية والمشاركة”، بما هي تجليات حتمية للحرّيّة: أساس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة لسورية”. يضيف كيلو: “قدّم عباس للرابطة تعريفاً يقول: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنّها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العامّ وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. أما هدفها فهو: “المشاركة الفاعلة والواعية لأيّ شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة””.
عباس مفكّراً ومنظّراً في زمن الاستبداد..
من مواسم رحلة عطاء د. حسّان عباس إسهامه في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، إضافة إلى مؤلّفاته وتنظيراته الفكرية ومنها ما أشار إليه الشاعر والروائي السوري الكردي إبراهيم يوسف، المقيم في ألمانيا، الذي كتب تحت عنوان «د. حسّان عباس ونظرية الرأرأة.. أثر آلة الاستبداد بين العاهة والتشخيص»، والذي رأى فيه أنّ الثورة السورية “استطاعت أن تحوّل معارفنا النظرية التي طالما تعاملنا معها على أسس معرفية، إلى واقع معيش، فيما يخصّ الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، والعنف، بمعنى أنّها أزالت المسافة الكامنة بين النظرية والتطبيق، إذ إنّ ما ظللنا نتناوله عبر ما يصلنا من أوعية معرفية أو ثقافية، في العقود الأكثر ظلامية، التي مرّت ولما تزل تخيم في أبشع صورها، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وإنتاجه أعلى نمطاً للاستبداد والطغيان، إذ سعت آلة النظام إلى كمِّ الأفواه، ومواجهة أيّ رأي مختلف، أو أيّ موقف لا يندرج في خدمة النظام على أنّه معاد، وتمّت تربية -جيش- من العيون والمخبرين الذين انحصرت مهمتهم في مراقبة سلوك الناس، وحركاتهم، وسكناتهم، وأقوالهم، بل محاسبة كثيرين على مبدأ المظنّة، ما رسّخ بنيان هذه الآلة الرّهيبة التي راحت تحاسب بعضهم حتى على رؤية في منام”.
يحلّل اليوسف في سياق مقالته استنباط الدكتور عباس لمصطلح «الرأرأة» الذي جاء على ذكره في مقالة له عنوانها «الرأرأة السورية» (نشرت في صحيفة “المدن” الإلكترونية اللبنانية، في 17/10/2013)، فيقول: “ينطلق د. حسّان عباس في استنباطه لمصطلح «الرأرأة» من أحد أمراض البصر، إذ يرى أنّ للرأرأة نفسها أربعين حالة، بحسب التشخيص الطبي، إلّا أنّه لا يستغرق طويلاً في حدود هذا المرض العيني، العياني، بل يتّخذه معبراً إلى مرض آخر، فإذا كانت الرأرأة (في لغة الطب) عبارة عن “عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية” إلّا أنّه يمضي إلى رأرأة أخرى، أشدّ فتكاً، لا تكتفي بهذه الحالة السريرية العابرة التي يمكن علاجها لدى طبيب العيون، لأنّ هناك رأرأة أخرى يقشعرُّ لها بدن المرء وهي “كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميّزهم عن سائر البشر. وتتميّز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجّه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيّز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”. إنّنا هنا، أمام حالة رعب يكاد يكون فريداً من نوعه. رعب يتحكم بلغة الناس، وحديثهم، إذ ثمّة ما هو ممنوع عليهم التكلم به، أو تناوله، أو الحديث عنه، إلّا في إطار المديح الملفق، بدءاً من اسم الدكتاتور الأول، وانتهاء باسم أصغر شرطي، ضمن دائرة متكاملة، يشكّل جميعها آلة الاستبداد”. يتابع اليوسف: “إذا كان د. حسّان عباس، قد رأى، أنّ للرأرأة أربعين حالة، قد يعاني المصاب بإحداها، أو أكثر من حالة رؤية وهمية أو نحوها، فإنّه ليشخص الحالة الحادية والأربعين التي لم يذكرها أحد قبله، ولم يتناولها حتى علم -طب العيون- وتكاد لا تشبه حالة أحد من المصابين بمرض الرأرأة سوى حالة من هو في ظل وطأة حكم ربيب آلة القهر -السفاح السوري، طبيب العيون- (في إشارة إلى بشار الأسد)، الذي لا تتجاوز تجربته الثقافية حتى مع اختصاصه الألفباء التي وضعها -الكحّالة- البدائي، قبل قرون، في التراث، ولعله لا يفقه “ما الرأرأة” أصلاً! هذه الحالة الإحدى والأربعون ولدت في ظل حكم باطش أسّسه الحزب الحاكم، وكان ذروة نتاجه -حالة النظام الحاكم- الذي أسّس لحالة طغيان دفع ثمنها السوريون جميعهم -موالاةً اضطرارية بسبب مصالحها أو انتهازيّتها أو جبنها- من جهة-، ومعارضة مشرذمة منقسمة على ذاتها بسبب اقتصاديات الحرب، وتمويلات سفك الدم، من جهة أخرى. هذه النظرية، وإن بدت جدُّ بسيطة في طرحها، إلّا أنّها تُقدّم صورة -طبق الأصل- عن حالة السوري المقموع، رصدها الكاتب بلغة أدبية، تتمايز عن لغة الكاتب الصحفي، كما أنّها تقدم ما هو فكري بلغة لا تصعب على مستسيغ لغة الصحافة، وفي هذا ما يميّز لغة كاتبنا التي يمكن تناولها في مبحث خاصّ”.
بواسطة أسامة إسبر | فبراير 24, 2021 | Culture, Poetry, غير مصنف
هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.
تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية
ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.
لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها
أسمعُ في الأنباء عن آخرين
يرتجفون من البرد في الخيام.
صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً
بل مجرّد صوت هارب من صداه
يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني
يسير معي كأنه صديقي الوحيد.
سأتشبث به وأمنعه من الرحيل
نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر
لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة
لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة
ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم
لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.
والقصائد والروايات المكممة
أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم
أو أننا مررنا ولم نر شيئاً
أو أننا على الطريق نسير لوحدنا
والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها
كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره
كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.
أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني
للدروب حين تتحوّل إلى جداول
وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية
وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض
ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،
كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟
ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس
وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟
حين جَلستُ في مقعد الطائرة
وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط
شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.
لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق
أو بأنني سأخرج من باب المطار
إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط
من أين أتى وإلى أين سيذهب.
تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.
في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني
وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،
طفلها الذي يكبر في حدائق البياض
ثم يذوب أحياناً من الشوق.
لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا
بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.
قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص
قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً
ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.
وكانت أصابعي مسترخية في دفء
وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه
غداً، حين يصل صوتي في البريد
وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى
سينكمشُ مرتعداً من الخوف،
لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد
وأنه قادر على قلب الموازين.
تثمل الريح
-١-
تَثْمل الريح
أعرفُ ذلك من صوتها
حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً
ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.
تلهثُ الريح
كما لو أن دروبها وعرة.
-٢-
في الأحلام
تهب الريح فوق دروب موحشة.
في الخريف
تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.
-٣-
لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا
أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.
لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا
على طرقات الريح.
-٤-
وحده الجسد
يعرف أن يقرأ الريح.
بواسطة ناظم مهنا | فبراير 18, 2021 | Culture, غير مصنف
هو هو.. هي هي.. ها ها..
ما أروع الدولة حين تمزح يا “زد” وتحاول أن تكون خفيفة الظل، تتخيل الدولة نفسها في أوقات العبث حكماً في ملعب كرة، وتظهر هوساً في رفع الكرت الأحمر، وأنت لا يحق لك إلا أن تبتسم، أو تتذمر على طريقتك، ولكن احذر التمادي يا زد. أنت يا زد رفع في وجهك هذا الكرت، مزيلاً على طلب من طلباتك القليلة، وعلينا أن نعترف لك بأنك لم تكن لجوجاً في يوم من الأيام، هكذا مع التوقيع بالحبر الأخضر: /مع عدم الموافقة.
توقفْ يا زد هنا،لا تدخلْ في نفق التداعيات والتفاصيل، ولا تجعل ضغط الدم عندك يرتفع.
قد تكون الدولة التي يمكن أن نرمز لها بالحرف ” دال” أو “ضاد” من الضد، في غاية المرح، حين تخطّ هذه الجملة الجاهزة، وتهزّها في وجهك البريء، أو تخطَّها بأناة على الطلب الذي يترك فيه مساحة من البياض يتريَّض عليها فرسان الدولة بأقلامهم الفخمة، المذهبة، بياض يترك للضرورات ولراحة نفس الدولة. أنت يا زد مع أصدقائك لا تصدقون، أن الدولة يمكن أن تعبث، ولا ترون فيها إلا الوجه الصارم المتجهم، أليست الدولة كائناً حياً، يتدرَّج في النمو؟ وبعض الدول تطول فيها مراحل النمو حتى لتبدو ثابتة، من الصبا إلى المراهقة إلى الشيخوخة، هذا ما يمكن أن نستوحيه من ابن خلدون. وإذا مارسنا المزاح نفسه، وأطلقنا التداعيات على هواها، وتذكرنا المراحل الثلاث لنمو الطفل عند فرويد، وأسقطنا ذلك على الدولة، سنجد أنَّها تجمع المراحل معا مع إضافة صفة واحدة، فهي فموية ضاحكة، وشرجية مكتَّمة، وقضيبية منتصبة، ويمكن أن نعكس هذه الصفات.
في لحظات الجد، يمكن أن يسقط حرف الجر (مع) عن العبارة وتغدو: (عدم الموافقة) مجردة من الخفض والجر، وهنا جدية أكثر، وربَّما تعبير عن غضب أو سأم، وفيها حسم لا رجعة فيه ولا رخاوة. إذا جزَّأنا العبارة الأخيرة، وتوقفنا عند طرفها الأول “عدم” الخالي من أي بعد فلسفي، المجرد أيضاً من التعريف، والمضاف إلى المعرف، وما أدراك ما العدم ومشتقاته، عليك في هذه الحالة يا زد أن تفكر بالفرار أو بالهرب أو بالدخول في غابة لا نهاية لها. أما الطرف الثاني، المضاف، هو مهم في المعنى ولكنه جزء متراخ مثل جلد امرأة عجوز، أو مترهل مثل أذرع الأخطبوط النائم. الدولة أحياناً، يشبهها البلاغيون المتحذلقون بالأخطبوط المتربّص بالفريسة، يستيقظ عندما تقترب منه الفريسة، وتتحول أذرعه الرخوة إلى مخالب فولاذية. الرخاوة هنا استدراج. يتم جمع طرفي العبارة من قبل فرسان الدولة لتكون: عدم الموافقة، وتحتها التوقيع، وهو خط حاد ينتهي بقبضة تشبه سيفاَ يمانياً، تحته نقطة، خطَّه فارس غاشم، رمى لك بهذا السيف في أسفل الصفحة، على اليسار منها. قد لا تعرف أنت وغيرك هذا الفارس، ولم ترَ وجهه من قبل، لكنها إشارة رمزية تختزن القوة الصريحة والخفية للدولة. لا أعرف إذا ما كانت النقطة ضرورية، وعلى الأغلب هي ضرورية أكثر مما نُخمّن، قد تُقرأ على أنها نقطة النهاية أو الانتهاء، لا شيء بعدها، وإذا أحسنَّا الظن، نقدر أنَّها تعني عودة إلى أول السطر أو إلى أفق الاحتمالات، وهذا من باب الظَّن الطيب. كلمة ” انتهى” أكثر توافقاً مع الحالة من البداية، إذ، لا مكان لبداية جديدة.. إنه حكم قطعي، أنت يا زد مرفوض، ربَّما لو لم يكن اسمك زد لكان الأمر مختلفاً، عليك أن تكتفي بما أنت فيه، فالهواء الذي تتنفسه حتى الآن يمكن أن تقطعه الدولة عنك، وأن تقطع أنفاسك لو أرادت، الدولة لها الحق بكلِّ شيء، لها الماء والهواء والتراب والنار، وما فوق وما تحت الأرض، ولها جلدك وعظمك، روحك وأوردتك، كلّها.. عليك يازد، أن تشكر الدولة، هي أم ثانية، تريد الحفاظ على أولادها، مهما كبروا، هم صبيان مراهقون، يعبثون ويلعبون في حدائق الأرض!
أنت ساخط ومتبرّم على الأب والأم، والدولة ليس لها الوقت الكافي لتنشغل بك، عرفت ذلك أم لم تعرف. اسمك، مثلاً، غير مكتمل، غير ثلاثي، وهذا ليس ذنبك وحدك، بل خطيئة والديك، أو خطيئة الكاتب الذي اختار لك هذا الاسم المسوخي، حكموا عليك منذ الولادة باسم ناقص، لا يركب على الميزان الصرفي، وغير قابل بأي شكل أن يتحول على وزن فاعل أو فعل، لا مكان للطموح هنا، محكوم عليك بالنقصان في اللفظ والمعنى، وهذه لعنة اللعنات ياسيد زد. لكن، من غير المحسوم، أن اسمك زد كان منذ الولادة، فهذا غير مستخدم في الأسماء، وغير مستساغ، على الأرجح هو اختلاق أدبي محض، وأنت لا تستطيع أن تتأكد من هذا، لأن ذاكرتك بدأت في هذه اللحظة التي وجدت نفسك فيها على الورقة. إذا نظرت إلى النصف الملآن من الكأس، أنت لست مجرد حرفين صوتيين، بل ستة أحرف صوتية مجتمعة، لا تخلو من المعنى، إنها: (زال+ دال) هذا ليس أمراً مستصغراً، خلف هذه الخدعة البيضاء دراية وعمق فقهي، لا تؤول المفردات ولا تغص في تقصي النوايا، خذ ظاهر اللفظ، وتمتع بالإيحاءات الإيجابية لكلمة (مواطن) يعني أن لك وطناً، وأنت واحد من أفراد، يُسمَّون مواطنين، لست وحيداً، أو مقطوعاً، أو منفياً في خرائط العدم، أنت قابل للجمع، جزء من كلٍّ، والكل يتكوَّن من هذه الأجزاء المجموعة..
وكما تقول الكتب والأحلام والشرائع: للمواطن حقوق وعليه واجبات..
لا تعتقد يازد أنك نكرة، تعادل صفراً في مقياس القوة والحضور، كنت جندياً منذوراً للدفاع عن الحياض، وأنت تدفع الضرائب والرسوم المالية على أكمل وجه، تمنحك الدولة شهادة تأدية الخدمة، وهذه وثيقة شرف.
الفواتير تمنح إشعارات ممهورة بالختم الرسمي عليها اسمك كاملاً مع اسم الأب والأم والكنية. لولا هذه الحيثيات التي تبدو غير مهمة، لما كنت تعرف من أنت، ومن هو أبوك.. كنت ستكون لقيطاً بلا انتماء. أنت تنتمي إلى أرومة ضرائبية، بدليل هذه الفواتير الممهورة بالأختام الرسمية. تمنحك الدولة بطاقة شخصية، لا تكن جاحداً وتعتقد أنها لاتعني كثيراً، بطاقة عليها اسمك، واسم أبيك وأمك وكنيتك ومكان وتاريخ الولادة، والأهم من هذا كله، عليها رقمك الوطني.
كان زد يحاور نفسه، على الرغم من أنه يكره الحذلقات، لكن لا بد من أن يكون الإنسان الجديد مرتاباً أو ذا ريبة. زد يتفاعل مع كل جديد بإيجابية ووعي، ليس لأنه يكره العالم القديم، بل لأنه يحبُّ أن ينظر إلى الأمام لا إلى الخلف، كان قد قرأ مسرحية جون أوزبورن” انظر إلى الوراء بغضب” كان يرددها مع رفاقه في الجامعة والمقهى، كـ(مانشيت) في ميديا الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. ليس زد جاهلاً أو بسيطاً، بل هو حاذق في التهكم، قرأ كتباً، ولا يزال يقرأ في الخفاء!
قال زد في نفسه، مهم جداً أن يكون الإنسان مواطناً، وجزءاً من الآخرين، له وطن وله معارف، جزء من كل. كان في غاية الانشراح، منذ الصباح حين خاطبه موظف النفوس بعبارة: يا (مواطن) إذن، أنت يازد مواطن! هل كنت تدرك ذلك؟ هذا الموظف الذي يمثل السلطة الرسمية أطلق عليك هذه الصفة الساطعة كضوء الشمس، كان الموظف لطيفاً، أملسا مثل أفعى بلا أنياب، لم يقل (مواطن) مجردة، بل مقترنة بحرف النداء المنعش: ( يا أخي المواطن) ربما كانت جدية ومن القلب، لكن لا تخلو من احتمالات التهكم! لاتفكر بالتهكم، الأحسن أن نتلقى بعض الكلمات بحيادية.
لكن سرعان ما تعكَّر مزاج زد بعد الظهر، بسبب انقطاع الكهرباء، وحرارة الطقس المرتفعة، وعاد ليفكر بمدلول كلمة مواطن على لسان الموظف، وصب فيها دفقاً من الريبة، اعتقد زد أن الموظف يقصد من الكلمة عكس معناها النبيل، إنه يريد أن يقول: أنت لا شيء، ليس لك إسم، عليك أن تبلع ريقك وتقبل الصفات التي يطلقونها عليك، لا يحق لك أن تتبادل معهم إنتاج الصفات، هذه لها مرجعياتها ومصادرها، وطريقة إنتاجها، أنت تتلقى، ولا يحق لك أن تنتج هذه الصفات وتصدرها، هذا النوع من الإنتاج اللغوي، حق حصري، تحتكره البيروقراطية، بكل قوتها الممركزة، المكثفة، وما فيها من فائض القوة. أنت يازد لا تشكل شيئاً في نظام الكلمات والأشياء، حتى لا تستحق أن تكون رقماً، أنت لامرئي في عالم الـ: (نحن) أنت من إقليم الـ: (هُمْ) أنت هو .. هو، هي.. هي، ها .. ها…
– من أنت، هل أنت عبداً في نظام العبودية؟
– لا، هيهات!
-هل أنت خصم؟
-لا
-هل أنت قابل للتأهيل؟هل أنت نقطة في خلاء؟
-لا، النقطة كبيرة الأهمية في عالم اليوم.
-لست حرفاً، ولا فاصلة، ولا نقطة، ماذا تكون؟
لا جواب، فالجواب اعتراف، سيكون إشعاراً آخر، بعدم الموافقة، هذا الحكم الأبدي المبرم، الذي أطلقه عليك الوجود الحاضر بقوُّة.
في مزحة أخرى استثنائية، استطاع زد أن ينتزع انزياحاً طريفاً على عبارة: “عدم الموافقة” فيما يشبه لعبة القط والفأر، حصل على ابتكار معابثة فكاهية مع الدولة، قدم له موظف كبير تعبيراً جديداً على طلب توظيف، من باب الحق في العمل الشريف والكريم، إنها عبارة: ” موافق أصولاً” ويالها من عبارة شكلت عزاء تراجيدياً للمواطن زد، الذي اكتشف بعد مرور أيام من المرارة والخيبة، أنها تحمل الشيء ونقيضه، الموافقة وإبطال الموافقة! كانت خالية من مفردة العدم، الصعبة، خالية من السلب، فيها أريحية محمودة، على الرغم من أنها لا تفضي إلى شيء، لكنها لا تخلو من مستوى ضئيل من الأمل، وهذا يدعو إلى السعادة،إمكانية أن تُطور الدولة آلية إنتاج العبارات بعد مراس طويل في هذا المجال.
(موافق أصولاً) إيجاب منفوخ مثل بالون ملوّن، لكنْ، اللعنة تكمن هنا، في الكلمة الثانية، المخادعة (أصولاً) وقد نسفت الإيجاب في الكلمة الأولى، إنه صراع نفي، ونفي النفي، تجيد أجهزة الدولة ابتكاره ببراعة ألسنية، تحويل الإيجاب إلى عدم، والجدوى إلى اللاجدوى. إنها دوامة من العبث بالكلمات، تجلب الخيبة والعدمية، بعد الشعور المتكرر بالخسران، ستكون دائما خاسراً يا زد في هذه الحلبة، حتى لايبقى فيك أي شعور بالذات!
في تفسيرات البيروقراطية المقيتة، على لسان مدرائها أو مديريها المحنكين، ابتسامة هزء مع هزِّ الرأس، والمدير يضع سبابته على فرج الجملة العذراء( موافق أصولاً) المتراخية في سرير بياض الورقة، ويقول: للأسف لا يوجد عندنا شواغر الآن. هكذا إذن، عليك أن تتأكد يا زد أو تستنتج تعريفاً خاصاً بك، إن الدولة تساوي عبارة عدم الموافقة أو مشتقاتها التي تؤدي إلى النتيجة ذاتها! هذا بعد اختبارات من المراقبة والعقاب، يا سيد فوكو. إذا كان المدير ثرثاراً يُحبُّ التفسير، سيشرح بدهاء كلمة السر هذه، ويكشف لك كم كنت مغفلاً عندما اعتقدت أنك حصلت على الموافقة أو الوصول إلى الذروة، ويقول لك: لا يوجد اعتماد مالي. ما يذكرك يا زد بـ:إرم ذات العماد، ويقول: عندنا فائض وظيفي. وأنت يا زد لن تقبل أن تُرمى فوق هذا الفائض أو تحته، أو أن تكون غائطاً! هل لا حظ ذلك سيبويه؟
هذه لغة ما بعد سيبويه يا زد، لغة عصر انحطاط الجديد!
الكاتب، الذي اختلقك يا زد، يتواطأ مع القارئ، ويقولان لك:
لا تدع الكآبة تغزوك، انظر إلى النصف الملآن من الكأس، واجعل هذه الكلمات والأشياء أضحوكة، أو أضحوكات، على وزن أمثولة أو أمثولات أو زقزقات أو فعلالات. قهقه إذا استطعت، وأنت ترى أسراب الغربان تعبر سماء المدينة.
ابتسمْ باشتهاء وأنت تعبر أمام الجميلات اليقظات، انظرْ كم هنَّ كثيرات.. وقل كما قال شاعر الرصيف والحرمان: “جميلة عيون النساء في باب توما..” واشتهِ ما طاب لك، وعربد في الحدائق وفي الحجرات، واقرأ ما يكتبه المجانين على الحيطان، واسمع تفاهات الشاشة الصغيرة، وامض إلى حيث تشاء. ولكن، ابتسم بعمق، وأنت ترى عصافير الصباح، وأطفال المدارس والروضات، وهم يغذون السير نحو أناشيد الأفق..
غرّدْ مع العصافير، وانشد مع التلاميذ نشيد الصباح، بصوت جهوري أو بصوت سري، فأنت يا زد أكثر من حرفين، أنت رهط من الأصوات والحروف والمشاعر، أيُّها المواطن اللغوي.
بواسطة Mohamad Alaaedin Abdul Moula | سبتمبر 29, 2020 | Culture, Poetry, غير مصنف
- ثنائيّاتٌ غيرُ منتهية
سأهدأُ حين تمرّين كالعاصفةْ
وأعصفُ عند انسدالِ السّماءِ على كتفيكِ…
وأكتبُ بالماءِ فوق الزجاجِ: أحبّكِ،
ثمّ أرى الماءَ نهراً على الطاولةْ.
سأدفَعُ في النّهرِ جسمَ المساء
ألوّحُ للفجرِ كن دافئاً كشفاهِ حبيبي
إذا احتاجَ هذا النّسيمُ إلى وردةٍ سأدلّ عليكِ
وإنْ ملّ من صوته وترٌ سأدلّ عليكِ كذلكْ.
أنا الآن تحتَ جناحيْكِ مستسلمٌ للرّحيلِ إليكِ
ومهما تغبْ نجمةٌ عن معلّمها ستعودُ إليه…
وأنتِ مجرّةُ دهشةْ
أدورُ بفضلِكِ في أفقٍ يتجدّدُ من ذاتهِ…
هنا عند منعطفِ الحلْمِ أعطفُ قلبي على قدحٍ يتوهّجُ باسمكِ،
لا ليلَ يغفل عن سحرِ اسمكِ…
…حتى النهايةِ سوفَ أهدهدُ من وطأةِ الكيمياءِ
لأنّ الصّباحَ الّذي شقّني قمرينِ؛ أتى منكِ…
…لا بدّ من لغةٍ للنوافذِ حين تودّعُ ضوضاءها
ولا قلبَ يخسرُ أكثرَ ممّا خسرتُ.
ولكنّني أتمشّى على طُرُقاتٍ منَ الكلماتِ الشّريدةِ،
يتبعني ظلّكِ المريميُّ كنذرٍ قديمْ.
أردّدُ بيني وبيني نشيداً عن الخمرةِ السّرْمَديّةِ،
هلْ كنتِ تشتغلينَ إلهةَ كرْمٍ على طَرَف السّفحِ أسفلَ وادي الوجود؟
لأنّكِ أكثرُ من صورةٍ ومجازٍ وأجْملُ منْ استعارةْ
أُبعثرُ قلبي على قدميكِ ولا أتردّدُ أن أنحني لأحسّ علوَّ السّماء.
هي السّاعةُ الآنَ خمرٌ كثيرٌ تمامَ القدحْ
وصوتُ العقاربِ رخُّ المياهِ على النافذةْ.
ستمطرُ فيما يلي من شهورٍ يدايَ
لأنّكِ تحتشدينَ أمامَ الكتابةِ ملتفّةً باللغاتِ القديمةِ والقادمةْ.
علوتُ قليلاً لأن جباليَ يرعى عليها صنوبركِ الخالدُ
علوتُ لأنّكِ واحدتي في رحيلي، ولكن أنا؛ هل أنا واحدُ؟
24/3/2009
- لا النّافية للموت!
لا دليلَ على سعةِ الأرضِ إلاّ وجودكِ فيها
والّذي خسرتْه إناثُ القرنفلِ من لمعةِ النّهدِ
أكمَلَه صدركِ البضّ…
لا شاعرٌ قبليَ اختلّ إيقاعُهُ فتوازنَ في شفتيكِ
وأمعنَ في الخطأ النّحويّ ليضبطَ معجمهُ في لسانكِ
ما من دليلٍ على حسنِ شعري
سوى أنّ ظَهركِ أبلى بلاءً رهيفاً
بإعطاءِ سفحِ الخيالِ مجازاً جديداً…
لا دليلَ على أملٍ غير ليلٍ تسلّى
بعدّ النّجومِ على ساعديْكِ…
لا دليلَ على مطلعِ الفجرِ إلاّ اندلاعُ البلابلِ
من كتفيكِ…
لا دليلَ على صحّةِ القلبِ غيرُ اعتلالي بحبّكِ…
لا صوت نبعٍ إذا غابَ ظلّكِ
ما من دليلِ على سهري في الموشّحِ
إلا بقيّةُ أندلسٍ تحتَ عينيّ من أثرِ العنبِ
لا دليلَ على الذّهبِ
غير فركِ يدينا لأيقونةِ النّارِ ما بيننا
لتسيلَ على جانبينا خواتمَ من لهبِ
لا دليلَ على فضّةِ الحلْمِ غيرُ شروعِ القمرْ
بالولادةِ فوقَ سريركِ هذا المطرّزِ بالسّحبِ
لا دليلَ على أنّني مشبعٌ بالحنينِ سوى أنّني
أثقبُ النّايَ ثقباً جديداً
وينزفَ فيكِ مزيجاً من الانتظارْ
لا دليلَ عليّ سواكِ
أؤجّلُ تشييعَ كلّ الورودِ
إلى أن يجفّ الحليبُ
وينقطعَ العطرُ من نسلهِ
ويغادرَ قلبي محطّاته دون أي قطارْ
لا دليلَ على أنّني قد أموتُ بحبّكِ
غير انتهاءِ الحوارْ.
17/5/2009
- بعض من شبق الحياة
ولديّ من شبق الحياةِ فيوضُ مجنونٍ يجنُّ
ويكرهُ الأنقاض والأطلال والقصفَ الدّنيءَ
على كؤوس الماء أو أقداح خمر العارفينْ
وأحبّ ” زوربا ” في صعودِ بروقهِ الزّرقاء في أقمار موسيقى تنيرُ كوامنَ العشّاقِ وهو يدقّ أرضَ الرّوحِ يوقظُ كلّ جنّيّاتِ شهوته يرقّصهنّ حول القمح قربَ الجمر حولَ عواصفِ الفرحِ المبينْ
وأحبّ ” داليدا ” التي هزمت كثيراً لسعةَ الأفعى وظلّت تنشرُ الكلماتِ بين سطوحِ مصرَ كأنّها فلاّحةٌ مصريَّةٌ من عهدِ “يوسفَ” وهو يقلبُ في الكنانةِ قبرها يُحْيي عظامَ الحالمينْ
وأحبُّ رقصتها المشعَّةَ بالزهورِ
وبحّةَ الأعماق في روحٍ تعذّبها وتسحقُ حلمها الطّاغي
إلى أن أمهلتها الريح ثانيةً
فقالت لن أكون سوى مرايا للحنينْ
وأحبُّ أفلامَ البحار
وعالم الحيوان
أسئلةَ الصخور على الجبال
أحبُّ تحليق الطّيورِ مع الصباحِ
أحبُّ أشجار الأكاسيا في هضاب الّنورِ
أسماءَ البنفسج في الأغاني
وأحبُّ كَـوْنيَ عاشقاً متأخّراً لأطاردَ الغزلانَ في أبد الزّمانِ
وأحبّ أنّي عالمٌ تالٍ لأوّله القديمِ
وأنّني وشمُ الوجودِ على المكانِ
وأحبّ أنّي لفظةٌ خضراءُ في السّهلِ المعدِّ لمهرجانِ القطنِ في أرض الشآمِ
وأنّني في ذاتِ يومٍ سوف أدخلُ روحَ مولاي الحصانِ.
6 تشرين أول 2012
- ينابيع
تأخّرت البنتُ على النبع.
حين أفاقتْ، وجدتْـه قربها في السرير
جلس الشاعر قرب النبع،
فلم يميّـز الآخرون بينهما
البنت التي ذهبت تعبّىء جرّتها من النّبع،
أخطأت، فنسيت الجـرّةَ ممتلئةً، وحملت النبع على كتفها.
الجميع يغسل يديه بماء النيع:
من تلطّخت يداه بالدماء، ومن تضمّختْ يداه برحيق النهدين
والنّبع في نزوله من عليائه،
يسقي في طريقه حـتّى الأعشابَ الضّـارة!
مع أن النبع واقف في مكانه ثابتاً،
لكنه لا يتقدم إلاّ إلى الأمام…
- ما قصتك مع النبع؟
- منذ عرفتُكِ أصبحتُ خبيراً بعلم الينابيع.
- كابوس
أفاق الكابوسُ عليَّ
كنت أركبُ حبالاً مائيّةً
أدلي رجليَّ في الفراغ
أدحرجُ عن أصابعي نجوماً حجريَّةً
ربما هبطتْ من سنديانةٍ على بابِ الكهف المجاور
العصافيرُ لم تهربْ منّي مع أنّ شكلي غيرُ معروفِ الانتماء
رأسي صورةٌ عن أبي الهول إلاَّ قليلاً
صدري مغارةٌ صغيرةٌ تخرجُ منها الأعاصيرُ
يدايَ سؤالان ساقطانِ في اللاَّجدوى
قدمايَ سروتانِ متأهّبتان للشّجارِ مع الهواء
وحتى الآن لا أعرفُ لماذا أصرَّت الفراشةُ أن تتحوّلَ إلى تمثالِ شمعٍ يفتحُ فمَه ويبدأ بابتلاعي
ولا أدري أينَ كنتُ الآن لوْ لمْ يستفقِ الكابوسُ عليَّ
19 آب 2011
- يا جدّتي … إنها حرب
عمّـا قليلٍ سوف أسحبُ جثَّتي من شارع الذكرى لأستعصي على النّسيان
أنقرُ حبّةَ القمح الأخيرة في جِـرابِ الجدّة الأولى
أقبّلُ رأسها لتطيلَ في سردِ الحكايةْ
وأقول: لطفاً جـدَّتي لا تأخذيني للنهايةْ
سأضيعُ مثل قطيع خـرفانٍ على دربِ الذئابْ
إنْ لمْ تضيفي للكلامِ رقائقَ الحلوى
بنكهةِ نجمةٍ عذراء…
ماذا يفعلُ الأيتامُ في هذا الفراغِ سوى مواصلةِ الحنينِ
إلى أبٍ عيناهُ تلتهمانِ مائدةَ الضبابْ؟
يا جـدّتي … هي جـثّتي مستهلكةْ
لكنّها قد تُـصْلحُ الميزانَ عندَ المعركةْ.
11 نيسان 2012
- يومُ الأموات
- في يومِ الأمواتِ وقفتُ أمام السّاحرة
حملتْ بيدها باقةً من النّبات مغسولاً بالماء
رفعتُ يديَّ في الرّياح
دارت الساحرة حولي ترشّ عليَّ ماء النبات
تطيّرُ البخورَ في بيوتِ جسدي الصغيرة
تقرأُ تعاويذَ لاأحد يفهمها إلا هيَ
وروحي التي أفلتتْ مني طائرةً بعيداً عالياً
حتى بلغتْ أعلى طيرٍ يختبىءُ في قمَّة الكاتدرائية…
***
- في يومِ الأمواتِ حملتُ روحي في حقيبةٍ غيرِ مرئيّة
كانت أطياف الجنازاتِ تتراءى لي في ذاكرتي
هناك في ليل مدينتي صرخات الجماجم المكسرّة
عظام تتدحرجُ على منعطفات الدمّ
بينما عيني ترى هنا مهرجانَ الألوان في لحظة استحضار الأرواح المكسيكية القديمة
أقنعةٌ لا نهاية لها
على الأرض ارتسمت أشكالُ قبورٍ
يا للدهشة
يا لموسيقى السّحر
قبورٌ مرسومةٌ بالورود؟
هل تسمحين أيتها الأرواحُ أن أغفو قليلاً إلى جانبكِ؟
أنتِ يا حارسة القبور
أيّ فرحٍ تدافعين عنه ؟
أيّ فقيدٍ تفرحين بالنّيابة عنه؟
أيّ بكاءٍ سرّيّ خلفَ هذه الورود
ها قد لمحتُ دموعاً معطّرةً من عين الوردة
وردةُ الموتى تختصرً آلافَ الجنازات في وادي المكسيكِ
وردةٌ واحدةٌ
لكنّها صيفٌ كاملٌ يبشّرُ بالشّمس
- بيت الرّوح / بيتُ الوجود
سقطتْ على منزل روحي عواصفُ اقتلعت حجارة الصوّان من أبراجها
مثلما أوقعتْ أوراق الشجر من أحلامها
وهكذا بقيتْ روحي بلا منزلٍ
كيف أبني لها حصناً يحميها من قطعانِ الرّعب ؟
أين الحجرُ الحنون؟ / الرّملُ الشمسيُّ؟ / الخشبُ المعجونُ برائحةِ الورد؟
سألتُ الشجرةَ والكهنةَ والقديسين
صوتهم في الريح قال لي:
اترك روحكَ تسافر في طرقات الغابات والسفوح الخطيرة
عليكَ أن تقطع سبع صحراوات وثماني هضاب
وفجأةً تهبّ عليكَ ريحٌ شرسةٌ تحملُ حجارةً من الصوان
تدخلُ روحكَ لقاء الموت تطيرُ تحطُّ متعبةً ممزّقةَ الأجنحة قليلةَ القوى
لكن عليها أن تكمل
بعد أن تصرعَ قوةَ الرّيح / وتردّ عنها الصوّان ذا الشّرر
هكذا كُتبَ في شعائرِ الآلهةِ
تذهب بعدها إلى شواطئ نهر المياهِ التّسعة
ثمّة كلبٌ أحمر تصعد عليه روحكَ لتجتاز النهرَ
وبعد أن تصل الشاطئ قل لها أن تغرز سهماً في حلْقِ الكلبِ
يموتُ وتفرح روحكَ
هناك الكون كلُّه بيت للروح
النجوم سقفٌ
الفراشاتُ نهاراتُ رّقصٍ
النّسيمُ الصَّباحيُّ أجراسُ ذرة كريمة
صلّ للمشرق والمغربِ
كلْ من ثمر المانجو فرحاً
اعصر سلال الجوافة
اسقِ حتّى قطيعَ الذّكريات
اغسلْ بماء الشمسِ قلبكَ
اتّحدْ مع أجزاء الوجود.
الوجودُ حصنُ الرّوح القوي
الوجودُ عطرٌ لوردة الرّوح.
19 نيسان 2012