بواسطة Motaz al-Hinawy | أبريل 26, 2020 | Culture, غير مصنف
آلاف المشاهد تزدحم في ذاكرتي لأصدقاء وأبناء غادروا على عجلٍ دون أن يلتفتوا خلفهم وكأنّ رحلة هروبهم لم تكن إلا لعبة غميضة قصيرة الأمد يلعبونها في زوايا المكان لكنها طالت وامتدت بعيداً إلى أماكن الشتات في كافة أصقاع الأرض. سأروي يوماً قصص الشوق المعلّق على محاجر الأمهات في انتظار أبناءٍ لن يعودوا، أبناءٍ دفنتهم الحرب وغابوا في شقوق الأرض وآخرون غيبهم سراب الطريق الطويل في غربةٍ لا نهاية لها. “لن أتأخر في غيبتي” هكذا أخبروا أحبتهم ظناُ منهم أنّ العودة قريبة، كانوا في لحظتها على ثقةٍ بأنّه رغم كل هذا الرعب والدمار الذي خلفته سنوات الحرب السورية الطويلة لابدّ وأن يحظوا بلحظة وداعٍ أخيرة حرموا منها جميعاً، فكل الحروب تنتهي عاجلاً أم آجلاً. أما اليوم فلم يبق لهم سوى الانتظار، وحده الشتات كان بانتظارهم وحدهم.
كنتُ واحداً ممن غادروا هذه البلاد وعدتُ إليها بعد أن كاد يخنقني الحنين. أقف اليوم عند عتبة بيت جدي مستعيداً ذاكرة طفولة ضبابية كالحلم، وكما في تلك الأيام، أجلس عند موقد النار وألفّ أصابعي بخيوط الصوف السميكة، تلك التي كانت تستخدمها جدتي لتصنع منها فتيلاً لضوء قنديلها، وأتذكرها اليوم كما لو أنّ ما حدث لم ينته بعد. أسترجع صوتها وهي تنادي على عمي كي لا يسافر بعيداً، لتبقى بعدها تردّد بمرارة “لم يعد مجيد يا بني، يبدو أن الشموع التي أضأتها له لم تنفع، آه لو يعود سأشعل له أصابعي إن عاد.”
ألفّ أصابعي الآن وأنا أستعيد مشهد جدتي وهي تحكي لي حكايات الغابات والأنبياء بينما كان مغزل الصوف يدورُ في يدها، أنا الطفل الذي ظنّ وقتها أنها تغزل الخيطان وتخبئها لتلفها ذات يوم على أصابعها وتوقدها احتفاءً بعودة ابنها، لذلك كنت أكرهُ صوف الخراف كثيراً وأبكي كلما رأيت شيئاً يشبهها. لم أرد شيئاً يذكرني بخيوط الصوف حتى لحية جدي البيضاء والطويلة كانت تشعرني بالفزع والخوف، وكم كنت أخاف النار أيضاً، النار التي لا تعني لي سوى احتراق أصابع جدتي، وكي أحميها خطرت ببالي فكرةٌ صغيرة وهي ألّا أدعها تُشعل النار لوحدها أبداً، ومن حينها لا أذكر إن مرّ يومٌ دون أن أكون حارس النار في بيتها، حارساً يحمل أعواد الثقاب بجيبه الصغيرة ويفتح دفتر ذاكرته ليشهد على نارٍ لن تنطفئ بعدها.
في صباحات تلك الأيام البعيدة كنتُ أستيقظ على صوت باب الغرفة الخشبي وهي تشرعه لندى الصباح ورائحة الحبق المزروع في زوايا المكان، ليبدأ يومي بإشعال التنور في الغرفة الصغيرة في قبو البيت، فجدتي كانت تحرص على أن تُعدّ خبزها بنفسها مع فجر كل صباحٍ. كنتُ أرقبها وهي تعارك وعاء العجين ملثمة بشالها الأبيض كما لو أنها كانت فارساً يخوض معركةً عنيفةً، بينما كنتُ أجلس بالقرب منها لأدفع ببقايا القش وأوراق البلوط تحت نار الموقد كي لا تخمد. لا يمكن أن أنسى مشهد الضوء المتسلل من الشباك الصغير في أعلى الغرفة الحجرية وهو يمتزج بدخان الموقد ورائحة الخبز مشكلاً فضاءً ممتداً لخيال طفل أدهشته ألاعيب الضوء والدخان، وكالجنية في الحكايا كنت أخالها تحاكي أحداً ما أو ترقص معه وهي تلوّح بكلتا يديها بأرغفة الخبز وكأنهما جناحا حمامة، ضاربة أكفها تارة على خشبة أمامها وتارة أخرى على صاج الخبز بجانبها، كم كنت سعيداً وأنا أسترق النظر محدّقاً بأصابعها الصغيرة لأتأكد أنها بخير.
كنتُ أحرصُ على إبقاء النار متقدة ًفي بيتها كل يوم خوفاً من أن تُشعل أصابعها في غفلةٍ مني، فأدورُ حول نار الغسيل ونار الطبخ ونار الشتاء كفراشةٍ تحتفي باللهيب لأشعلها بدلاً عنها. من خوفي على أصابعها أخذت على عاتقي حتى إشعال البخور في ليالي الصيف الحارة لطرد الحشرات من غرفتها، “لن أدعها تمس النار” كنت أهمس في داخلي وأردد “أنا حارس النار …أنا حارس النار”.
لا أتذكر إن مرّ يومٌ في طفولتي دون نارٍ، لكني فزعت ذات يوم عندما انتبهت أن خيوط الصوف تملأ البيت، خيوط طرزتها على شبابيك غرفتها وعلى أطراف السرير، شالات خبأتها في رفوف خزانتها، معطف جدي، إطار الصورة المعلقة لعمي مجيد، بساط الغرفة المصبوغ بالأحمر، وسادة نومها، وحتى مقابض الأبواب ومعطفي الدافئ، وحدها أصابعها كانت عارية من خيوط الصوف، لم أنتبه في غفلة دهشتي أنها ربطت جديلتها أيضاً بعقد صوفيّ مطرز يتدلى على أكتافها وعنقها ويمتد حتى أسفل ظهرها.
في آخر أيامها وقبل أن تتيبس عظام مفاصلها رأيتها تمسك صندوقاً صغيراً وتنزل به القبو عبر الدرج، وما إن شممت رائحة الدخان تنبعث من غرفة التنور حتى هُرعت صوبها لأجدها جالسةً بجانب الموقد وقد فتحت الصندوق وبدأت بإحراق كتبٍ ودفاتر كانت كل ما بقي لها من رائحة ولدها الغائب. وقفتُ متجمداً عند الباب فاللحظة التي كنت أخافها دائما قد أتت، كان الصمت رهيباً في الغرفة والدخان الكثيف المنبعث من الموقد قد حوّل المكان لمسرحٍ كبيرٍ مفتوح على كل المشاهد والأسئلة، وحدهما عيناي كانتا مسمّرتين على يديها في انتظارٍ وخوفٍ أوقف الهواء في حنجرتي، لم أدر كم من الوقت مرّ حينها وكل ما أذكره بعد ذلك أنها وبعد أن خمدت النار ضمتني إلى صدرها وأطلقت أصوات حنجرتها المكبوتة منذ زمن لنحيبٍ طويل.
جدتي التي أضرمت النار في طفولتي ذات يوم، قالت لي وهي على فراش الموت هامسة في أذني: “عندما أموت قُصّ ضفيرتي الملفوفة بعقد الصوف وأشعلها عندما يعود مجيد.”
بواسطة مازن عرفة | أبريل 17, 2020 | Culture, غير مصنف
“دم على المئذنة”… ساحرة، وبقدر ما هي ساحرة هي قاسية، وبقدر ما هي قاسية هي حزينة… تكثف أوجاع الروح في بلاد منسية من التاريخ، مرمية في فيضانات الدم، حيث الموتى أرقام ليست للتأريخ… مرمية في مهب غبار أسود، يمضي بلا ذاكرة… لكن مهلاً، جان دوست يوقف زمن المجزرة هنا، يكثفه، بدهشة الألم، يعتصر القلب، فيلتقط الحنين الذي تختزنه ذاكرة الضحايا، كل باسمه، وهم يعومون في بحر الدماء… فلتهدأ الضحايا، لن ننساكم، ولن ننسى قاتلكم؛ ديكتاتوريات عسكرية بميليشياتها المتوحشة، حيث ينتعل القاتل في رأسه البوط المدمى بالضحايا، ويفكر به… عمائم دينية بتلونات العماء التاريخي واللطميات، وسيوفها السادية القروسطية تقطر دماً… أنظمة عنصرية فاشية، تدعي “الديمقراطية” تحقد على “الآخر” برؤى مجازر تاريخية، لا يمكن أن تتنصل منها، إلى حد إنكار وجوده التاريخي بمقتلة مستمرة… بنظام دولي، يسلع الناس لرائحة نفطه وتجارب أسلحته العابرة للقارات والألم… وفوق ذلك تنظيمات تدعي أنها “ثورية”، مزقت الإنسان جسداً وروحاً. جان دوست يفضح التاريخ المخزي للبلاد، ويؤصل لذاكرة الموتى ـ الأحياء في قلوبنا، ويجعلها عابرة للتاريخ، والآلام، كي لا ننسى المجزرة، ومن ارتكب المجزرة، ومن قاد المجزرة… كي لا ننسى من صرخ ذات مرة “حرية”، فتلاحقنا صرخته صدى مستمراً في الروح، ونعيدها وراءه في حاضرنا؛ “حرية، وسع المدى، بلا حدود، ندى القلب، بوصلة الأمل”.
يوثق جان دوست ذاكرة المجزرة، الغارقة أصولها في التاريخ، والمستمرة، بيد الأخوةـ الأعداء، وبيد الأعداء ـ الأعداء، فلا تتلمس رفيق درب سوى الموت. يوثق ذاكرة البلاد، منذ نهاية الاحتلال الفرنسي، مروراً بكل الأنظمة القمعية ـ الفاشية والطائفية العنصرية، التي تتوالى في المنطقة، وصولاً إلى لحظة صرخة “الربيع العربي”، الموؤدة بتكالب الجميع عليها، خوفاً من “فتنة الحرية”… هنا، تسير أحداث الرواية على حافة هاوية، بين خوف الانزلاق إلى الدعاية السياسية المباشرة الفجة، وبين تأصيل “الحكاية” للتاريخ وللمستقبل. هنا، يتحرك جان دوست بمهارة روائية على هذه الحافة، فلا يسقط في الهاوية، وإنما يمضي، فيفتح الفضاءات للذاكرة، فلا تعدو البلاد قطعة القلب فقط، وإنما كل البلاد المقهورة أيضاً.
وفي السير على حافة الهاوية، يلجأ جان دوست إلى تقنية بارعة، فيقدم سيرة للأحداث المختزنة في ذاكرة “طلقة دوشكا”، التي ستقتل سعد، المشارك في “ربيع الحرية”، ذات مظاهرة في شمال حرائق البلاد، في “عامودا”… ذاكرة الطلقة منذ خروجها من مصنعها الروسي، بلمسة آلينا الروسية، العاملة في مصنع السلاح، دون إدراك حملها للموت، ووصولها كإمدادات للموت في سوريا، ليتلقفها مقاتلو “حزب العمال الكردستاني” في إحدى قواعدهم في البقاع، كأدوات للنظام السوري في مساوماته مع تركيا، وسفرها مع مقاتلي هذا الحزب إلى الشمال، لتُخزن في أحد كهوف الجبال، حيث ستشهد نهاية مأساوية لعلاقة حب محرمة، بين مقاتل ومقاتلة من الحزب، كسروا حاجز المحرمات لديه، وفي النهاية تستقر الطلقة منتشية في جسد سعد، منطلقة من رشاش دوشكا الأخوة ـ الأعداء، “الأشاوس”، أدوات النظام السوري في قمع “انتفاضة الحرية” في الشمال الكردي… حكاية الطلقة، وليست “الوردة” أو “الكتاب”، على سبيل المثال، برمزيتها المختزنة للموت الغادر، هي أسلوب أدبي أخاذ، أنقذ العمل ببساطة من فخ المباشرة السياسية، وفي الوقت نفسه فتح أفقاً لتلمس علاقة إنسانية مقموعة.
لكن قوة الرواية ومهارة جان دوست تتبديان، ليس في النجاة من الانزلاق إلى المباشرة السياسية، التي كانت تهددها في كل صفحة ـ للتعبير عما تختزنه روح الكاتب ضد الأنظمة السياسية، وإنما في أفق الرواية الأسطوري، الذي ينطلق من حادثة مأساوية صغيرة، يؤسطرها الكاتب انطلاقاً من زمن محدد، فيكسره إلى زمن مطلق، ويجعل “الحكاية” عالمية بإنسانيتها، تخترق الأزمنة والأمكنة. يكتب حادثة “الدم الذي يسيل من المئذنة” بنوع من “الواقعية السحرية”، التي انطلقت ذات زمن من أمريكا اللاتينية. لكن”الواقعية السحرية” لدى جان دوست تتأصل بموروث المنطقة، وبحكايات المنطقة؛ “المئذنة” برمزيتها الإسلامية كـ”إصبع الرب”. هذا الرب، الذي لا يملك قوة ولا تأثيراً أمام سيل المجازر التي تحدث في البلاد، حتى في مئذنته التي تدعو الناس باسمه للخضوع له بطقوس غيبية… إله عاجز منزوي في خيالات وأوهام المستضعفين، لا يستطيع أن يفعل شيئاً أمام قسوة قناصين من “الأشاوس”، يعتلونها “ليقتلوا المؤمنين”. وفي رمزية الدم المسال من كواتها، إشارة إلى عجز هذا الإله أمام كل من يرفع السيف باسمه ليقتل بوحشية سادية، بمن فيهم المؤمنون به. هي رمزية تكاتف “الأشاوس”، الأخوة ـ الأعداء الكرد، عملاء النظام الديكتاتوري، مع “داعش” النظام القروسطي… فالوحشية واحدة. تنطلق برمزيتها من هنا، من المئذنة. وكأن جان دوست يلخص تاريخ المنطقة؛ تكاتف الأنظمة السياسية الديكتاتورية مع الأنظمة الدينية ـ وهل هناك نظام آخر في منطقتنا!!! ـ، يتكاتف التعذيب السادي الوحشي في المعتقلات مع التعذيب الوحشي للسيف الإسلامي ـ بما يتجاوز “داعش” إلى مثيلات عديدة لها ـ. من هنا نجح جان دوست ببناء “واقعيته السحرية” ـ الأسطورية بانفتاحها الإنساني وكسرها حدود الزمان والمكان. صحيح أن حادثة إطلاق النار من المئذنة كانت واقعية وحقيقية، إلا أن جان دوست التقطها من بين سلسلة الحوادث التي يذكرها في الرواية، ليبني عليها رمزية أسطوريته الناجحة بإسقاطاته الرمزية…. “المئذنة ـ الدم”، “الإله العاجزـ وحشية الإنسان”، “سادية الديكتاتور ـ وحشية الإسلامي”… وهذه الرمزيات ستتكرر في صفحات عديدة من الرواية، تعبيراً عن موقف ورؤية للعالم، إزاء ما يحدث في البلاد، وحتى في كامل المنطقة الواقعة في قلب حرائق لا تنتهي.
لكن حتى تنجح رمزية “واقعيته السحرية” كانت بحاجة إلى هلوسات شاعر، أقرب إلى الجنون بمظهره ولباسه ـ “التيشيرت الأحمر” ـ، كي ينطق “الحكمة” و”الرؤيا”، وهو يعيش جنون الحدث، ويرى الدم كيف يسيل من كوى المئذنة، ويتحول إلى سيل. ويتلقف هلوساته روائي عاجز في لحظات العنف هذه إلا عن المراقبة والتسجيل في الذاكرة، لكنه يختزن الحزن في قلبه ليفجره كتابة في اللحظة المناسبة، فتوثق شهادته “الحكاية” للتاريخ؛ “لن ننسى…”. والروائي صالح، بتأصيله للحكاية، يتحول إلى شاهد على المجزرة، وعلى المجازر، التي نالت الشعب الكردي عبر تاريخه.
في لعبة روائية متقنة نعرف منذ البداية أن الروائي صالح هو جان دوست نفسه، مما يعطي العمل شحنة توثيقية عالية، بوجود المؤلف ـ المراقب في قلب الحدث. لذلك، ومنذ البداية، يتداخل مع أحداث الرواية نوع من الأوتوبيوغرافياـ السيرة الذاتية للمؤلف، وبالأحرى لعائلة المؤلف، ابتداءً من الجد، مروراً بالأب والأم، وصولاً إلى المؤلف، وانتهاء بلحظة هجرته من البلاد إلى الغرب. لذلك، وبتقنية روائية مبدعة، تشبه المونتاج السينمائي، تتناوب الفصول بين حكاية العائلة، وبين حدث المجزرة. لكنهما ليسا حدثان منفصلين، وإنما متشابكان، يقودان إلى ذروة واحدة هي مجزرة المئذنة، على الرغم من أسبقية حدث العائلة في الماضي على حدث المجزرة في الحاضر. ينمو الحدثان معا، فكل تقدم في حكاية العائلة يشرح لنا لماذا وكيف حدثت المجزرة. وحكاية العائلة ليست هي حكاية شخصية لأفراد بقدر ما هي حكاية شعب، لم تضع أرضه فقط على طرفي خط حديدي يقسم البلاد بين تركيا وسوريا، بل ضاعت أرضه بين أربع دول، لا تعترف بوجوده التاريخي، ولا بهويته الإنسانية والثقافية ـ الأنتربولوجية. لكن الحكاية الشخصية للعائلة ـ الشعب هنا تتحدى العوائق بين هذه الدول، وتحتفظ بالهوية ذاكرة للشعب؛ تتحدى قمع الذاكرة الديكتاتورية، تتحدى قمع العقليات الإسلامية القادمة من نفط الخليج، تتحدى الخراب الإنساني، الذي حملته التنظيمات الكردية، المسماة “ثورية”، في تشويه جوهر الإنسان…وهكذا، تقود “حكاية” العائلة إلى “حكاية” المجزرة. وستتشابه “حكاية العائلة” مع “حكاية الطلقة”، حيث سيتم من خلالهما ذكر وثائقية أحداث تاريخية، دون الانزلاق إلى المباشرة السياسية. وبهاتين الحكايتين يتم توثيق جانب مهم من تاريخ البلاد بشكل روائي متميز.
وبدلاً من ضمير “المتكلم ـ أنا”، الذي يسكب الكثير من المشاعر الذاتية والشخصية على الحدث في أي رواية، فإن الحدث ـ المجزرة يحتاج إلى مراقب خارجي أقرب إلى الموضوعية. وبدلاً من آلام المشاعر لدى “الأنا” ـ وإن لم تختف نهائياً ـ فإن الحدث نفسه هو اللاعب الأساسي، هو البطل في الرواية.
يلتقط المؤلف الحدث بمهارة، ويحوله إلى مادة درامية، تثير المشاعر الإنسانية في ذروتها… وهي الهدف الإنساني الأخير في الرواية، فليس المهم هو التوثيق، بل هو تحويل الحدث إلى ذاكرة حية؛ “لن ننسى..”، ومن ثم إلى رد فعل قوي برفض الظلم، مع تحديد أطرافه بوضوح. في هذا السياق تبدو حكاية العاشقين، العضوين في حزب العمال الكردستاني، مأساوية إلى درجة الذهول. فالمفترض في مثل هذه الأحزاب “الثورية” أن تقوم بتحرير الأرض والإنسان، لا أن تمنع علاقات الحب، كشكل من العلاقات الإنسانية، بانتظار بناء الدولة الكردية، وهو ما لن يحصل حالياً أبداً في ظل الظروف الدولية القائمة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحب هو حاجة إنسانية عليا، وبدونه لا يكون الإنسان إنساناً. ورغم أن كثيراً من الروائيين الكرد عالجوا هذه الحكاية في موضوعاتهم، إلا أن جان دوست يكثف “الواقع” المؤلم في حادثة الكهف، بحيث تنفجر المشاعر الحزينة إلى ذروتها. فالفتاة روجين الحامل، تنتحر بإطلاق رصاص بندقيتها على نفسها لكي تنقذ فتاها العشريني جودي. وبدلاً من إعدام الفتى بعد انكشاف أمره بطلقات تنهي حياته بسرعة، يقرر المسؤول الحزبي حبسه حياً في المغارة، وإغلاقها عليه بصخرة كبيرة حتى الموت. يقوم المؤلف بوصف تفاصيل الموت بطريقة مؤلمة، بحيث يشعر القارئ أنه هو المحبوس في المغارة وأن العقوبة نالته، فيصل التعاطف مع الفتى البريء إلى ذروته، والحقد على المسؤول الحزبي ونظامه “الثوري” إلى أوسع مدى، بطريقة مؤلمة، كي تصل الحقيقة إلى الجميع؛ و”لن ننسى…”. وبالطريقة نفسها يقدم حادثة احتراق الأطفال البشعة في السينما، في أقسى تراجيديتها، ليس فقط مع فيلم مصري سخيف، مليء بالرعب، أجبر الأطفال على حضوره رسمياً، مقابل قروش تؤخذ منهم لدعم “الثورة الجزائرية”. وتبلغ التراجيديا ذروتها في لحظة الحريق، عندما تشتعل الشاشة والجدران، وكأنها جزء من الفيلم، فيما أهالي الأطفال في الخارج، يلعبون الداما ويشربون الشاي.
كل الحوادث في الرواية رموز وإسقاطات، فالغراب برمزية التشاؤم، وهو يحط على مئذنة الجامع في تشرين، ينعق ولا يغادر مكانه، يرمز إلى حركة تشرين، التي أوصلت الديكتاتور إلى سدة الحكم، وخيمت على البلاد كابوس مجازر. ومع هذا الغراب جفت الينابيع وانقطع المطر، واختفى الكثيرون في سجون الدولة.
لكن ذروة الموت تحدث في المظاهرة السلمية ضد النظام السوري، حيث يتساقط المتظاهرون العزل واحداً تلو الآخر، فوق بعضهم البعض، تحت طلقات رشاشات الدوشكا. يسقط حتى من يقترب لينقذ صديقاً، تسقط قصة الحب الجميلة بين فتى وصبية، تسقط طفلة تحت عجلات سيارة برشاش دوشكا، تنقض على المتظاهرين.. يسقط كل شيء إنساني. هي الحقيقة، يقدمها جان دوست، ليس هناك بين المتظاهرين بطل “سوبرمان”، على طريقة الأفلام الأمريكية، هم أناس بسطاء، يكتبون رسائل حب، يدخنون، يشعرون بإنسانيتهم، ولا علاقة لهم بالسلاح والحروب، وهم سلميون، خرجوا بعفوية يطلبون “الحرية”، وتقف بوجههم ميليشيات شرسة وحشية، رباها النظام لمثل هذه المواقف. يتلقى المتظاهرون نيران رشاشات الدوشكا، ليس بقصد تفريقهم، وإنما بقصد قتل أكبر عدد منهم… وبهذا يتحول جان دوست إلى مؤرخ روائيً للثورة السورية السلمية ـ قبل أن تتشوه بالإسلاميين، لأن مثل حادثة القمع الدموي في هذه المظاهرة حدثت في جميع البلدات السورية، لا فرق إن كانت بلدات عربية أو كردية… وحادثة القمع الدموي للمظاهرة هي التي ستقود إلى حادثة المئذنة في اليوم التالي، حيث ستتكثف كل رمزية الرواية.
جان دوست روائي متمكن، تتماسك البنية الروائية لديه منذ البداية حتى النهاية، وهي نقطة مهمة تُحسب له، يمضي نحو هدفه بوضوح، دون أن يفقد بوصلته نحو موضوعه، ويبقى بعيداً عن الاستعراضية، والبوليسية، والمباشرة، وعن الفجوات، التي تخلخل الرواية، كانقطاعات، أو إضافات غير منطقية، فكسر حدة الرواية التقليدية. يكتب بلغة متينة، وإن كان غياب الفاصلة، كعلامة تنقيط، متعب أحياناً لإيصال الفكرة في جمله الطويلة. وهو في الوقت نفسه يمتع القارئ بتفاصيل صغيرة حميمية، مشبعة بالإنسانية: حكاية المرآة، التي تعكس وجه الحبيبة، ورمزية السنونوتين، حكاية البوصلة والمخبر، البناؤون المسيحيون ومنبر المسجد، موجبات الغسل، شتائم وتعليقات الشاعر..
في النهاية، يقدم جان دوست فصلاً صغيراً شديد الأهمية، عن هندسة الخراب، فبالإضافة للنظام يذكر دولاً وميليشيات بعينها، إيران وروسيا وتركيا، ساهمت في هندسة الخراب.. وهو يؤكد أن الثورة السورية أصيلة بسلميتها، ومن شوهها هم الإسلاميون، صنيعة النظام. وكما يؤكد أن لا فرق بين وحشية الطرف الكردي، المتعاون مع النظام، والداعشي، صنيعة النظام، وإن اختلفا في الأزياء والشعار.
صحيح أن جان دوست وثق في روايته كثيراً من الأسماء، الذين قتلتهم “الأشاوس الأكراد”، إلا أن هؤلاء كانوا رموزاً لما يقارب المليون قتيل في المجزرة السورية. وصحيح أن العاطفة الإنسانية، والموقف من الديكتاتوريات والأنظمة الدينية والتنظيمات الثورية، غلبت الناحية السياسية في بعض الصفحات، وهذا طبيعي، فهو ابن المنطقة وابن المرحلة المأساوية المستمرة، إلا أن “دم على المئذنة”.. هي رواية للذاكرة والتاريخ، رواية عن أوجاع أرواحنا المتشظية.
بواسطة أكرم قطريب | أبريل 10, 2020 | Culture, غير مصنف
أصوات
أصوات تأتي من النافذة على مهل
أصوات تأتي من خشب الباب
من الماء
من لحم الهواء
من الساعة التي على الحائط
مثل أفريقيا التي تزأر في الليل
مثل الغزلان التي تتفسخ تحت عين النسر
مثل العري الذي يتركه أنين الخشب
مثل قفل الباب الذي يرى كل شيء.
مثل المفتاح الذي في يدكِ
مثل الطوفان الذي يترك وراءه الوحل
يغرق كل شيء فيك
ويبقى البيت مثل عربات الغجر
.على ظهر الجبل
كتابُ العمى
جسدكِ ينتظرُ الطرواديين
.أن يوقفوا هذه الحرب
،جسدكِ خزانةُ كتبٍ مرصوفة بعناية شديد
.ألمسُهُ فيقع كتاب ” العمى ” لساراماغو عن الرف
أتأمل ساقيكِ المرفوعتين
،فتنزل طيورٌ جريحة من الصفحات
،ويعرقُ الكرسي
،ودفةُ الباب
.والرجلُ الوحيد الذي بقربكِ
كأس كونياك يصدع الرأس
تمام الساعة الثانية عشرة
أتأمل تلك الندبة على جلدكِ الشاحب
:ونحن نمشي وسط منهاتن
.لقطة من فيلم
.في بار ” الحصان الأبيض ” صورة لديلان توماس مأخوذة من جريدة
،أجلس ُ في هذا المكان لا لتعمد ارتكاب أخطاء
فقط أتأمل البحيرة المرسومة على الجدار
.والحدقة السوداء للعصفور الذي يصدأ
.هنا أرى الحياة على حقيقتها مع خلفية موسيقية
بكلمات قليلة يمكنك أن تصف الشوارع الخالية
.وحشرجات الوحيدين آخر الليل
.الوحشة هي تلك البقعة الرطبة على طرف القميص
***
الحنين
،”أحاول التخلص من كل ذلك الهراء الذي اسمه ” الحنين
.مع ذلك يقفز فجأة كالصرصار من تحت السرير
***
انتحار فرانسيسكو أوذيل
أقرأ في الجريدة عن انتحار شاعر من نيكاراغوا
،اسمه فرانسيس أوذيل
هل تصدقين
،أن حياة الآخرين جحيم
.ربما نراها في كلام قليل
رأس السنة 2011
ترك وراءه قصائدَ كثيرةً
،كانت تنظر إليه وهو يترنح على باب غرفته
.بحبل قصير مشدود على عنقه
لم يرتجف
.ولم يتكلم
بواسطة Ghassan Nasser | أبريل 8, 2020 | Culture, غير مصنف
ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعة من الأبحاث والدراسات التي عنيت بالأحداث التي يموج بها المشهد السياسي والعسكري في سوريا والشرق الأوسط، ويرصد المتابع لما نشر من هذه الأبحاث والدراسات في كتب إلى أيّ مدى أرقت الأزمة السورية المشتعلة منذ منتصف آذار (مارس) 2011 السياسيين والمفكرين والباحثين والكتّاب، بما آلت إليه من مأساة ومعاناة إنسانية لم يشهد العصر الحديث مثيلًا لها من حيث حجم الدمار الذي لحق بالجغرافية السورية وعدد الضحايا من قتلى ومعتقلين ونازحين ولاجئين منتشرين في أصقاع المعمورة.
كتاب «سوريا بين الحرب ومخاض السلام» للباحثين السوريين جمال قارصلي وطلال جاسم، الذي سنعرض في هذه المقالة أبرز ما جاء فيه، هو واحد من هذه البحوث والدراسات، التي تتميز بالرصانة والجدّية والموضوعية.
الكتاب الصادر مؤخرًا عن منشورات “مركز الآن” (Now Culture)، جاء بنسخته العربية في 304 صفحات من القطع المتوسط، كما صدر ملخصًا لأبرز ما جاء فيه باللغتين الإنكليزية والألمانية. وفيه يشير المؤلفان قارصلي وجاسم، إلى أنّ عملهما كناية عن مقترح للحل السلمي في سوريا، حيث نقرأ في المقدّمة التي حرّراها: “جاءت فكرة الكتاب من واجبنا تجاه بلادنا حيث تعقد سبل الحلّ للصراع في سوريا كمحاولة لإثارة النقاش بين السوريين للمبادرة في استعادة قرارهم الوطني ورسم خارطة طريق للخروج من هذه المأساة”. لافتين إلى تحوّلات المأساة السورية خلال السنوات الثماني الأخيرة، “لعل أهمها خروج القرار الوطني من أيدي السوريين وتدمير كل الأطر الوطنية بين مكوّناته وقوى الصراع الداخلية فيه، لصالح لاعبين إقليميين ودوليين”. في إشارة إلى الروس والإيرانيين والأتراك، واللاعب الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية.
- خارطة طريق لإقامة دولة المواطنة..
مما جاء في مقدّمة الكتاب، “أصدرنا هذا الكتاب بعد عمل دام أكثر من ست سنوات تخللته الكثير من المشاركات واللقاءات والمناقشات والمؤتمرات مع مفكرين وناشطين دوليين وسوريين منحدرين من قوميات وأديان وطوائف مختلفة”.
يضيف المؤلفان: “هذا الكتاب يضع وفق الممكن والمتاح خططًا مدروسة قابلة للتطبيق انطلاقًا من فهم وبحث عميق للوضع العام في سوريا من أجل إعادة بناء الدولة السورية، التي طالما حلم بها الكثير من السوريين، دولة الحرية والكرامة والديمقراطية، حيث أنّنا نعتبر بأنّ قوة الدولة ومؤسساتها هي الضامن الوحيد لكل الحقوق والتفاهمات والاتفاقات المبرمة بين كل فئات ومكوّنات المجتمع من أجل وضع أسس متينة لدولة المواطنة والعدالة والمساواة”.
من الأطروحات التي يقدّمها قارصلي وجاسم بين دفتي الكتاب، الذي يتضمن عددًا من الأبحاث والدراسات العلمية والعملية، رسم خارطة طريق للخروج من المأساة السورية، والحلّ -وفقًا لرؤيتهما- يأتي عبر تسويات بين مصالح السوريين الوطنية ومصالح اللاعبين الدوليين، تضمن إقامة دولة المواطنة والقانون، من خلال الوصول إلى توافقات شاملة وجامعة في مؤتمر وطني عام يشكّل الخطوة الأولى لمخرج مقبول من هذه الكارثة التي حلت بالسوريين عامة. آخذين بعين الاعتبار التوازنات الدولية والإقليمية، ومحدّدين أهم التطمينات التي يجب أن يقدّمها السوريون إلى الدول الفاعلة الساعية إلى تسوية عادلة شاملة، بعد تفاقم الوضع الإنساني في سوريا.
يقول المؤلفان: إنّ “ما دعانا لهذا الطرح هو تحوّل الساحة السورية إلى ملعب دولي تتصارع فيه وعليه الكثير من القوى الدولية والإقليمية لتصفية حساباتها، وأصبح السوريون مثل بيادق صغيرة ومرتزقة في وطنهم، تتحكم بهم هذه الدول بشكل مباشر أو عبر منظمات غريبة عن المجتمع السوري في منهجية الفكر والعمل”. وأشار المؤلفان إلى أنّ “هذه الحالة أنتجت طبقة واسعة من المقهورين السوريين، الذين لا يريدون الخوض في غمار صراع لا مصلحة لهم فيه، ووجدوا أنفسهم في خضم معارك لا تعنيهم وليسوا طرفًا فيها، وأنّ هذا الصراع يهدد أمنهم وأمن عائلاتهم وأموالهم وأملاكهم. وهذا كان السبب أو الدافع الأكبر والأهم الذي حرّض الكثير من السوريين على أخذ قرار ترك بلدهم، خوفًا على حياتهم أو قيمهم ومبادئهم”.
مقترحات الحلّ من منظور قارصلي وجاسم، تمر بمراحل ثلاث: تحضيرية، ثمّ انتقالية، وصولًا للمرحلة الدائمة.
المرحلة التحضيرية تبدأ عقب انتهاء المؤتمر الوطني العام، وتدوم لمدة عامين، مع وجوب “العمل فيها على إزالة التوتر بين أطياف وشرائح المجتمع السوري وعلى تنمية روح الثقة والتسامح والتصالح بين الأفراد والمكوّنات”.
فيما تدوم المرحلة الانتقالية أربع سنوات، يتم العمل فيها على تثبيت السلام ووضع الأسس المتينة لمرحلة دائمة تكون عبر حكم سياسي ناضج يشعر في ظلّه كلّ السوريين بالأمان والاطمئنان والعدالة والمساواة، “بعد إقرار وتثبيت استقلالية القضاء وفصل السلطات، ورسم الدوائر الانتخابية في كل المناطق السورية”.
أمّا المرحلة الدائمة فهي مرحلة تعزيز الثقة بين السوريين لتبدأ الهوية الوطنية السورية بالتشكّل، وهو الشرط الأساسي للانتقال إلى الانتخاب عن طريق القوائم والنسبية وفقًا للقواعد الانتخابية وقوانين الانتخابات العصرية التي تؤسّس لبناء الدولة على مفهوم الأغلبية السياسية، وفقًا للفاعلية والكفاءة، “وهذا سيكون أساسًا لتداول السلطة بشكل ديمقراطي، ووفقًا لمبدأ دستوري لا يقصي أحداً، مع ضمانات بعدم إنتاج نظام ديكتاتوري أو إقصائي حتى لو كان من خلال صناديق الاقتراع”.
قارصلي وجاسم، أشارا في متن كتابهما أنّهما اطّلعا خلال فترة اشتغالهما على هذه الدراسة على أشكال ونماذج الحكم في الدول التي لديها تجارب في معالجة مشاكل التنوّع القومي والديني، وهو ما أوصلهما إلى نتيجة مفادها أنّ “أكثر حلّ مناسب للحالة السورية هو أن يكون نظام الحكم برلمانيًا ديمقراطيًا مع الاعتماد على اللامركزية الإدارية الموسعة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، مع منحها صلاحيات واسعة في أغلب المجالات والتي قد تفوق الصلاحيات الممنوحة في الأنظمة الفيدرالية، وهنا نذكر المثال الفرنسي في اللامركزية الإدارية. في كلا الحالتين نرى بأنّ تطبيق مبدأ البرلمان المركزي المعروف في كل التجارب الديمقراطية، برلمانًا مركزيًا آخر يشبه في تركيبته برلمان الولايات الألماني الذي يسمى بالـ(بوندسرات)، والذي يمكننا أن نطلق عليه اسم البرلمان المركزي”.
ليوضحا لنا بعد ذلك مهام البرلمان المركزي، والتي حدّداها بثلاث نقاط أوّلها: يتداول (أي البرلمان المركزي) كل القوانين التي تمس صلاحيات المحافظات.
ثانيًا: يهتم بتقنين علاقات المحافظات ببعضها البعض وبالحكومة المركزية.
أمّا النقطة الثالثة فهي: أن يكون أعضاء هذا البرلمان أعضاءٌ في حكومات المحافظات، ويتم انتداب هؤلاء الأعضاء من قبل حكوماتهم إلى هذا البرلمان لإعطاء المحافظات إمكانية المشاركة في سنِّ القوانين التي تمس شؤونها الداخلية والمشاركة في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية العليا إلى جانب البرلمان المركزي.
يطرح المؤلفان أنّ يقوم هذان البرلمانان بدور تشريعي، وفي المرحلة الدائمة ينتخب المجلسان مع أعضاء المحكمة الدستورية العليا، رئيس الدولة أيضًا، على أن يطلق على المجلسين معًا اسم “الكونغرس” كما هو في النظام الأمريكي، مبينين أنّ عدد ممثلي كلّ محافظة أو منطقة سيكون متناسبًا مع عدد سكانها.
- إدانة المنظومة الأممية وقصور مجلس الأمن..
من النقاط البارزة في الكتاب، توجيه دعوة إلى القيادة الألمانية للدفع نحو إيجاد حلٍّ في سوريا، كونها تحوّلت إلى طرف بعد احتضانها لعدد كبير من اللاجئين، بالإضافة إلى دورها الفاعل في القارة الأوروبية، وقدرتها على الضغط على روسيا وإيران وعلى الدول الإقليمية التي فقدت الحيادية وغلبت مصالحها في التعاطي مع القضية السورية، ومناوراتها الواضحة على سلسلة مؤتمرات جنيف ومخرجاتها.
في طيات الكتاب، يكشف المؤلفان عن إدانتهما للمنظومة الأممية، خاصّة مجلس الأمن وقصوره في تحمل مسؤوليته مع تفاقم الوضع الإنساني في البلاد، ما أدى الى فشل محاولات السوريين وكياناتهم السياسية المختلفة عن بناء تصور وطني لإنهاء الصراع.
خصّص المؤلفان جمال قارصلي، النائب السابق بالبرلمان الألماني، وطلال جاسم، فصلًا كاملًا في الكتاب لدراسة وضع اللاجئين والمهجرين والنازحين السوريين، بعدما ازدادت حدّة الصراع ودخلت المنطقة بأكملها في نفق مظلم، ولم يعد يستطيع حتى الخبراء رؤية النور في آخره، حيث كان اتّخاذ قرار الهجرة إلى البلاد العربية المجاورة أو إلى البلدان الأوروبية والإسكندنافية البعيدة أمرًا لا مفر منه بالنسبة للكثير من السوريين.
وبحسب قارصلي وجاسم، فإنّ كلّ ما حدث في السنوات الثماني السابقة، “ساهم في تآكل الوطنية السورية وانعدام الثقة المتبادل وعدم فهم مخاوف الآخر وأخذها بعين الاعتبار مما جعل روح الوحدة، والبحث عن الخلاص الجماعي في مهب الريح، وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام السعي للخلاص الفردي هروبًا من المأساة والذي هو من فطرة الإنسان. وما زاد الوضع حدّة وسوء هو ما قامت به بعض المجموعات في اللعب بعواطف الناس وتأجيج مشاعر القومية والمذهبية والطائفية وحتى المناطقية لديهم من أجل تحقيق أهداف وأجندات خارجية”.
يؤكّد المؤلفان في سياق تناولهما للقضية السورية واستشراف آفاق حلٍّ ينهي الصراع الداخلي، على أنّ تحميل أيّ دولة من دول العالم مسؤولية ما يحصل في سوريا لن يجدي نفعًا، وأنّه “على السوريين أن يكونوا بقدر مسؤوليتهم لأنّه بات واضحًا بأنّ العالم لم يعد ينظر إلى السوريين كضحايا بقدر ما ينظر إليهم كمصدر للقلق”.
وأنّه “يجب أن يعلم السوريون بأنّ الخطوة الأولى لبناء الوطن تكمن برؤيتهم وتقييمهم للسوري الآخر بأنّه سوري في الدرجة الأولى وبعد ذلك وبمسافة طويلة تأتي الاعتبارات الأخرى مثل الدين والمذهب والقومية”.
المؤلفان يبحثان في كتابهما واحدة من أهم قضايا ما بعد إنهاء الصراع في سوريا، ألا وهي قضية إعادة الإعمار التي تُعدُّ الأبرز بعدما دمرت الحرب في السنوات الماضية أكثر من ثلثي الجغرافية السورية.
قارصلي وجاسم بينا في هذا السياق، أنهما “في هذا الكتاب نلقي نظرة واسعة على إعادة الإعمار، فكما هو معلوم، عندما تنتهي الحروب المدمرة، تاركة خلفها الكثير من الخراب والجروح الغائرة في ضمائر ونفوس البشر، تبدو للوهلة الأولى أنّه لا توجد فرصة للبدء في إعادة بناء أيّ شيء كان، ولكن الأمم العريقة سرعان ما تنبعث من جديد من تحت الركام لتبدأ بحقبة جديدة، ساعية إلى مستقبل أفضل، متجاوزة كل مآسيها، ومتحاشية كل أسباب ما حلّ بها من خراب ودمار”. وأردفا: “الأمم الحية تسعى من خلال مفكريها وخبرائها وعلمائها إلى وضع خطط صحيحة ودراسات بناءة من أجل مستقبل جديد متجاوزة لماضيها الأليم. أوّل ما يجب بناؤه في المجتمع هو الإنسان، فلذا قمنا بتحليل لما هو موجود ولما يمكن أن نحشده من طاقات بشرية ومادية لإعادة النهوض مرة أخرى”. مؤكّدين أنّه علينا “أن نعي أنّ تجارب الأمم في إعادة البناء تشير بوضوح إلى أنّنا كسوريين سنتحمل كل أعباء إعادة بناء وطننا وسندفع تكاليفه وربّما لبعض الدول التي دمرت بلدنا، وستظلّ هذه الدول تملي علينا ما تريده لسنين طويلة، ورغم ذلك لا بدَّ من وضع الخطط الصحيحة وبشكل ممنهج وواعي من أجل إنهاء هذه التدخلات”.
طرحٌ وتنظير كثير قدّمه المؤلفان في كتابهما ليس فقط في قضية إعادة الإعمار وإنّما في مسائل كثيرة أبرزها كيف يمكن الخلاص من نظام الحكم الاستبدادي الذي خرجت المظاهرات الشعبية العارمة مطالبة برحيله منذ الهتافات الأولى في منتصف آذار (مارس) 2011، ولكن دون تحديد كيف يمكن أن تترجم هذه الأطروحات الفضفاضة على أرض الواقع كأفعال تصل بالسوريين إلى بر الأمان وتعيدهم لديارهم بعد هذه التغريبة الطويلة وتشظي البلاد التي تعاني اليوم من احتلالات عسكرية متعدّدة ووجود ميليشيات شيعية تابعة لنظام الملالي في طهران وأصحاب الرايات السوداء من الجهاديين السنة، ما ساهم بشكل كبير في تأجيج الصراع بين الأخوة وتدمير المزيد من العمران، كل هذا في ظلّ قوى معارضة متهالكة تعاني من التشتت في المواقف الإيديولوجية، فضلًا عن تعدّد الداعمين العرب والإقليميين والغربيين وتنوّع أهدافهم.
المؤلفان أشارا في الصفحات الأولى من الكتاب أنّ هذه الدراسة انطلقت مما وصفاه بـ “واقع أليم آلت إليه الأوضاع في سوريا، وإدراكًا منا بأنّ الأمور خرجت من يد السوريين معارضة وحكمة وشعبًا، وباتت حتى الاتّفاقات الصغيرة يديرها الكبار”.
كما أكّدا على اعتمادهما “مبدأ الحياد العلمي في الطروحات العلمية والعملية”، التي قدّماها بين دفتي كتابهما، غير أنّه يمكننا القول إنّهما لا يملكان “عصا سحرية” لإيجاد حلول لكلّ تشعبات القضية السورية، وهو ما يلفتان إليه النظر عند إشارتهما أنّ “ما ورد في هذا الكتاب من أفكار ورؤى هي وجهات نظر مطروحة للنقاش، نعرضها على المعنيين والمختصين وعلى الشعب السوري كأفراد ومؤسّسات ومكوّنات من أجل إنضاجها وإغنائها، آملين أن تسهم في فتح باب للحلّ وتمنح بلدنا فرصة لانبعاث جديد من تحت ركام الحرب والخراب، مؤمنين بأنّ ذلك لن يكون إلّا بعمل جماعي مبني على أسس عادلة وعلمية تحقق الحدّ الأدنى من الأمن والأمان لجميع السوريين”.
بواسطة Furat Esbir | أبريل 4, 2020 | Culture, غير مصنف
ثَمرة ٌ ناضجةٌ
امرأةٌ
بقلبٍ مفتوحٍ
وعينٍ واسعةٍ
،تهزُّ شجرة الروح
:يسقطُ كلُّ شيء أمامها
الحياةُ
العينُ
القلبُ
.الروح
بنظرةٍ طويلةٍ
وابتسامةٍ عميقةٍ
،تُودِّعُ الحياة
تُوَدِّعُ ما رأتْ
.وما سترى
بنظرةٍ عميقةٍ
وابتسامةٍ طويلةٍ
ترى كلَّ ما كانَ
.وما سيكون
ليستْ عرافةً
كانت حدساً
.يضيء
كانت
.ثمرةً ناضجةً
:فهمتْ كلَّ شيء قبل السقوط
عَجْزَ الانسان في أن يكونَ أو لا يكونُ
.عجزَ الطائر في أن يطيرَ أو لا يطير
،يا حياةً
يا تعباً تُتَرْجِمَهُ الصُّورُ
امرأة بقلبٍ مفتوحٍ
وعينٍ واسعةٍ
.رأتْ الحياة صوراً مرسومةً على وجهها
كلما مرَّ أمل اصطدتهُ
ٍمثل شجرةٍ ميتة
مثل موجةٍ تضرب الشاطئ
مثل غريبةٍ
لا أرى الطفولةَ
ولا ملامحَها
ولا أمراضَها
لا أتذكّر لقاحَ الجُدري
َّولا السل
ولا الحصبةَ
.ولا أيامَ الفِطام
َيائسةٌ مثل ثدي امرأة لم تعرفْ الرضاع
مثل أرملةٍ تنتظُر غبارَ الربيع
.كلما مرَّ أمل اصطدتهُ
كالضوء، لا أفهمُ سرَّ انكساري
أنا الطالعةُ من رَحِمِ الأرضِ
بدعائي أشقُّ السماء
في سطوعٍ أعلو
.وفي عتمةٍ أغفو
منحتُ الحديقةَ خُضْرتَها
والأشجارَ
،أولادي
.وَرثوا أقوى عظامي
في تصاعدٍ خفيفٍ أقطعُ المسافةَ
،متصالحةً مع نفسي
يتراءى لي
.لكنّني كالضوءِ لا أفهمُ سرَّ انكساري
.أحتاجُ سفراً طويلاً كي أعبرَ المتاهةَ
.من حرير الكلام أرسمُ ألواني
:أسألكَ أيها البحر الصامتُ
لماذا رمتْ أمي ثيابي؟
،لماذا لم تترك سوى صبيةٍ في قلبها يلعبون
حفاة إلا من حبِّها؟
صادقتُ الضياءَ حتى انفجرتْ عيني
صادقتُ البحار فأخذني الموجُ
صادقتُ الصحراء فابتعلني رمْلُها
.صادقتُ البعد فخاطبني: أنت أبعدُ مني
عاريات
يا شجَرةَ الصَّفْصَافِ لماذا تَشْهَقين؟
سألتْها المرأةُ التي تنامُ تحتها
أعاريةٌ أنتِ مثلي بلا أوراق؟
ضحكت الأرض من تحتهما
،وتكوّرت
.سبحان نسائي، خَلَقْتَهُنَّ عارياتٍ
عاشقةً كنت
.هبطتُ من القُرَى أجرُّ أحلامي
غيمةٌ مرَّتْ فوق رأسي المجنون
.وأوحت لأقدامي بالهرب
عاشقةً كنتُ
أرسمُ أحلامي بقَشٍّ
بلا حبرٍ
.ولا قلم
أغيّرُ وجهي مثلَ أوراق الشَّجر
ٍ من خريفٍ إلى ربيع
.إلى مطرٍ
أغيّرُ وجهي
مثل البراري
ٍ من ذئاب
.إلى حجر
بيتي لا يطلُّ على ساحلٍ
بيتي لا يطلّ على غابةٍ
ٍ بيتي ليس في مرتفع
ولا في منخفضٍ
بيتي في مساحة التيه
.تسكنهُ امرأةٌ ضائعةٌ
أعرفُ الحبَّ
يجري كماءِ الجداول
أعرفُ الحبَّ
.يَعصفُ مثل الرياح
أنامُ مثلَ غيمة ٍفي حُضْنك
تنامُ مثل ريحٍ في عينيَّ
أغرفُ من نَبعِ أيَّامي
ألمُّ الحَصى
.وأشربُ الرمْل
كلَّ يوم أنسجُ امرأةً جديدةً
أقنعها بالحُجَج
أحتال عليها لألف ِغايةٍ
…كي أحيا
سلامٌ على هذه المرأة التي تفتحُ أبوابَ الفجْرِ
وتغلقُ خلفَها أبواب َاللّيل
.وتنتظر أبواب الصَّباح ِكي تمضي إليها
الورودُ التي زرعناها
،تبكي
.يدٌ خائنةٌ مرَّتْ عليها
أخطائي تنام ُعلى كتفي
.كنتُ لها خيرَ صديقٍ
.سأزرع ورداً كثيراً
.سأزرعُ ورداً بعددِ أخطائي
سأحفرُ الأرضَ
أحاول أن أصلَ إلى العمقِ
.ربما أجدُ نَفْسيِ
تتفتحُ الأزهار حولي
بيضاءَ بيضاء
إنّه الربيعُ
سأغنّي أغاني الحب
سأغني أغاني الفقراءِ
سأغنّي أغاني المغدورات
:وأردّدُ
.كل نفس ذائقة الحُبّ
،تعبتِ المرأة التي تسكنُ الأرض
.تعب َنعاسها من الصُّراخ
عندما أستيقظُ أرفع ُستائرَ السَّماء
ألوِّح ُلها من الأرض البعيدة
هي تطل على مَدَاري
.وأنا أدورُ مع كواكبها
يا إلهَ الغَابات
احرسْني من الضوء
.لقد سرقوا عينّي
بواسطة Narin Derky | مارس 25, 2020 | Culture, غير مصنف
الجبال لا تعرى
في الأوقات الصعبة أستبدل مدُني
بجبال خبأتُها في عينيَّ.
الجبال لا تَعْرى
قلبها من حجر
ورداؤها عويل ذئاب.
وحدها المدن تندثر
تعْرى وتغرق أو تحترق.
هنا أو هناك في هذه المواقيت
يتجمع الناس خلف النوافذ
يطفئون نيرانهم بالنظر.
المطرُ، واثقاً من موسيقاه
يدمع فوق كل شيء
وتشربه الحياة كاملاً.
اللا نهاية
شجرة وحيدة في قرية مهجورة:
العالم كاملاً يعيش بداخلي.
*
ما لايقال،
يشغل الفسحة الأكبر من الحياة.
*
لم تعد مقاهي المدينة تكفي وحدتي
العزلة في صمت:
أحاول تجسيد اللانهاية.
خشخشة
كان فضولي إلى الغد يأكلني
يأتيني كل يوم بشكل مختلف
مرة يسحرني مثل سماء على صفحة الماء
وأحيانا ً مثل صحراء تبكي من العطش.
اعتدت على تبدل أهوائه وصرت الأرض التي تستجيب.
صار بعدها يركض محملاً بما بعد الأفق
ثم غيّر اسمه فأمسى أمساً
يذوي من مجرد لمسة مني.
وينزل الليل
الآن، أستدير إليه بكلي
فلا أراه
لكنني بالكاد أسمع خشخشة.
دون قصد
لا تكتب شعراً وأنت حزين
ولا حين تغمرك سعادة صادمة
اكتب وأنت بين حياة وموت.
*
الموتى يكتبون الشعر دون قصد
يحفرونه في ذاكرتنا
من قلوب تساقطت
بعد أن شربت من نهر أعمى.
اليوم العاشر من دمشق
في اليوم العاشر من دمشق
هناك طفلٌ على الأقل
لا يتوقف سعاله في هذه اللحظة من الفجر.
*
في جانبٍ من رأسي قصص هزلية حزينة،
وفي الجانب الأرحب منه جمال منقوص.
*
ترتعش يدي حين تصدق اللحظة.
*
الكلمة أشجع من الصورة،
توقعنا في فخ التحقق،
وأما الخيال فهو لا يستحي.
*
بالكلمة أمحو حزني على نفسي
وبها أيضاً أعبر الحقيقة.
*
في اليوم العاشر من دمشق
يزداد نباح الكلاب.