بواسطة لامار اركندي | ديسمبر 26, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
أعلنت أنقرة حديثاً بدء العمل على إسكان مليون لاجئ سوري في مدينتي تل أبيض “كري سبي” ورأس العين “سري كانية ” شمالي سوريا وتقديم الدعم لإنشاء مناطق سكنية جديدة لهم في الشمال السوري.
وقالت وسائل اعلام تركية أن أنقرة عينت ولاة أتراكاً للمدينتين مهمتهما إنشاء وكالات محلية لتطبيق القانون في تل أبيض ورأس العين وإدارة حكمها، تزامنت مع تصريحات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على عدم وجود أية مطامع لبلاده في الأراضي السورية، في وقت أعلنت فيه الحكومة التركية على لسان وزير خارجيتها “مولود تشاووش أوغلو”، خلال مشاركته في أعمال منتدى “الحوار المتوسطي” في روما، يوم الجمعة أن حكومة بلاده لا تنوي الانسحاب من سوريا قبل تحقيق تسوية سياسية للأزمة في البلاد.
وتتعرض تركيا لانتقادات من الدول الغربية والعربية بسبب إطلاقها، يوم 9 أكتوبر الماضي، عملية “نبع السلام” شمال شرق سوريا ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، حليفة واشنطن في الحرب ضد تنظيم داعش التي تسببت بقتل وجرح المئات من المدنيين بينهم أطفال.
وقدرت “الإدارة الذاتية” في بيان صدر عنها في 27 تشرين الثاني، عدد النازحين بـ 350 ألفاً من مناطق عملية نبع السلام، في حين انحصرت استجابتها لكل هذا العدد الضخم الذي أعلنت عنه، في إقامة مخيم “واشوكاني” قرب بلدة التوينة غربي مدينة الحسكة في بداية تشرين الثاني، وتخلي المنظمات الإنسانية عن دعم الفارين وأوضح الهلال الأحمر الكردي “أنه قد يتسع لنحو 3000 عائلة”. كما أعلنت عن إقامة مخيم آخر في بلدة تل السمن في ريف الرقة الشمالي لإيواء نازحي تل أبيض وريفها في 23 تشرين الثاني الماضي.
المسيحيون متخوفون
وبمساندة المدفعية التركية، تستهدف فصائل المعارضة السورية الموالية لتركية المناطق المدنية ومواقع قوات سوريا الديمقراطية في بلدة “تل تمر” الآشورية شمال غربي مدينة الحسكة وتشهد محاورها الواقعة في ريفها الشمالي معارك عنيفة منذ أسابيع على قرى ” القاسمية والعريشة والمحمودية ومناخ والدردارة”.
ويتخوف المسيحيون في تل تمر من احتلال تركيا والفصائل السورية الموالية لها من المعارضة السورية لمدينتهم وقراهم، وتعرضهم لمجازر يرتكبونها بحقهم، لا سيما بعد بدء مرحلة جديدة من الدوريات المشتركة بين القوات الروسية ونظيرتها التركية، حيث جرى تسيير دورية مشتركة بين الطرفين على اتستراد M4، وبحسب المرصد السوري وهي مجموعة رصد موثوقة مركزها بريطانية جابت الدورية الـ 13 قرية ليلان التي تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني” حتى صوامع عالية التي انتشرت فيها القوات الروسية قبل أيام، وصولاً إلى غرب بلدة تل تمر عند الأوتستراد الدولي، لتنتهي جولتها عند قرية غيبش وعادت الدورية التركية إلى ليلان، بينما تابعت الروسية طريق العودة إلى مطار القامشلي.
ولم تخف “نيمو سركون” سيدة أرمنية التقيناها وشقيقتها “ازنيف” النازحة هي الأخرى من مدينة “تل أبيض” مخاوفها من تكرار مجازر سيفو بحقهم والتي نفذتها الدولة التركية بحق المسيحيين في سنة 1915، وتشير السيدة السبعينية إلى نزوحها من قريتها “المحمودية” للمرة الثانية إلى مدينة تل تمر بعد اشتداد المعارك فيها وتضيف: “خرجنا بثيابنا التي نرتديها أنا وعائلتي وأخفينا صلباننا خشية أن نتعرض لاختطاف على يد مجموعات المعارضة التي تختطف المدنيين في تلك المنطقة”.
انتهاكات الجيش الوطني
وتحدثت المعلومات الواردة عن هدم الفصائل الموالية لتركيا للبيوت في ريف تل أبيض كقرى “كورمازات” الواقعة جنوب المدينة بالقرب من صوامع “شركراك” على طريق حلب-الحسكة الدولي شملت منازل المواطنين الكرد المهجرين بسبب عملية نبع السلام من أهالي القرية بالإضافة لمنازل عناصر في قوات سوريا الديمقراطية”، وعن عمليات خطف ومطالبات بفدية مالية على غرار سيناريو عفرين وعمليات إعدام ميدانية بحق المدنيين وطواقم طبية قتلوا بذريعة أنهم مقاتلون من وحدات حماية الشعب.
ورصدت منظمة سوريون من اجل الحقيقة شهادات عن اعتقالات جماعية نفذتها الفصائل السورية الموالية لتركيا في تل أبيض بحق المدنيين وبينت المنظمة في تقريرها أن فصيل “الجبهة الشامية” على وجه التحديد، قد استخدم أسلوب الإيهام بالغرق[3] و الشبح العكسي[4] وطريقة الدولاب[5] لانتزاع اعترافات من 80 مدنياً بينهم نساء تم اعتقالهم مؤكدة أن أدوات صلبة وحادة استخدمت لضرب أجساد المحتجزين، الذين تجاوزت عمليات تعذيبهم الست ساعات.
وقالت منظمة سوريون أن الجبهة الشامية احتجزت أهالي قرية السرد/الدادات ذات الغالبية التركمانية في أحد منازل القرية بينهم أكثر من 30 طفلاً وصادرت هواتفهم النقالة وبطاقاتهم الشخصية واستولى عناصر الجيش الوطني على سيارات المدنيين ودراجاتهم النارية واستخدمتها في العمليات القتالية. كما استولى فصيل الشامية بحسب تقرير المنظمة على أملاك المدنيين الكرد من منازل ومحال تجارية وعفشها وحول منازل الأشخاص المنضوين ضمن قوات سوريا الديمقراطية إلى مقرات عسكرية للفصيل وأماكن \سكن لعناصره.
وقال “المرصد السوري لحقوق الإنسان “إن مقاتلاً في قوات المجلس العسكري السرياني التابع لقوات سوريا الديمقراطية قتل وأسر أربعة آخرين خلال المعارك التي شهدتها ريف تل تمر بين “قسد” والفصائل الموالية لتركيا. وأكد المرصد أن الفصائل طالبت المجلس العسكري بمبلغ 40 ألف دولار لقاء الإفراج عن المقاتلين الأربعة، وتحدث عن اعتصام المدنيين أمام النقطة التركية بقرية “العلي باجلية” شمالي الرقة، الجمعة منددين بسوء الأوضاع المعيشية التي يعيشونها ورفضهم للانتهاكات التي ترتكبها فصائل ما يسمى بـ”الجيش الوطني السوري” في مناطقهم في تل أبيض ورأس العين وريفهما.
ورغم تحذيرات المنظمات الحقوقية والمحلية والدولية لتركيا من استمرار الفصائل العسكرية ارتكاب الانتهاكات والاعتداءات بحق الأهالي وممتلكاتهم، إلا أنها لم تتخذ أي خطوة لإيقافها أو محاسبتها، وسط اتهامات من أهالي المنطقة أن السلطات التركية موافقة ضمنيا على هذه الممارسات.
عناصر داعش في الجيش الوطني
وكشفت ” أزنيف” أنها شاهدت قبل فرارها من مدينة ” تل أبيض” بعد احتلالها بحوالى عشرة أيام عن مشاهدتها لمسلحين في الجيش الوطني كانوا من جيرانها لكنهم انضموا لتنظيم داعش الذي سيطر على تل أبيض في يوليو 2015وتضيف: “فيصل بلو المنحدر من مدينة تل أبيض انضم لتنظيم داعش وهو كان معروفاً لدى غالبية سكان تل أبيض لامتلاكه أراض زراعية وفيرة ومحطات لبيع المحروقات فيها، لقد عاد الى المدينة مجدداً باسم الجيش الوطني وكان أميراً لتنظيم داعش في تل أبيض. تعرفتُ عليه للوهلة الأولى حين خرج من سيارة جيب مصفحة مع عدد من جنوده حين طلبوا منا نحن المدنيين القلة الذين لم نتمكن الفرار حينها أن نكشف لهم عن العوائل والأشخاص الذين كانوا يعملون ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية من العرب لكن بالنسبة للأكراد الذين نعتوهم بالملاحدة والكفرة فقالوا لنا :’عليكم إبلاغنا عن كل عائلة وشخص وحتى طفل كردي سواء أكان على صلة بالإدارة الكردية أولا فهؤلاء جئنا من أجل ذبحهم‘”.
وأضافت: “الداعشي ’بلو‘ نكل بالمدنيين في المدينة وأمر بذبح العديد من الأبرياء روج عن مقتله قبل ثلاث سنوات لكن ذلك كان كذباً فهو اليوم في تل أبيض”.
وتابعت: “لقد دمرت تلك الفصائل كنيسة الاستقلال التي كنت أواظب على أداء صلاتي فيها والقريبة من بيتي كما قال لي جارنا العربي الذي لازال في المدينة حين هاتفته قبل أيام وأحزنني أن الكنيسة باتت في حالة مزرية كما قال لي”.
المفوض الأعلى لشؤون “الشتات الأرمني” زاريه سينانيان قال في لقاء صحفي مع الصحافيين في العاصمة الأرمنية يريفان بأن القوات التركية تمنع أرمن مدينة تل أبيض من العودة إلى بيوتهم.
وبحسب الموقع الرسمي للإذاعة العامة لأرمينيا، فإن 3000 أرمني لا يزالون في شمال شرق سوريا وأُرغم بعضهم على مغادرة بعض المدن هناك إثر الهجوم التركي الأخير.
لم تكن “أزنيف” الوحيدة التي تعرفت على دواعش من أهالي المنطقة ممن انضموا بعدها للجيش الوطني فصهيب الحسن من المكون العربي والنازح من مدينة تل أبيض إلى الرقة شاهد هو أيضاً كما يقول في حديثه لنا: تفاجأت بـ”جاسم المحمد” الذي يعرفه العديد من أهالي المدينة وكان والده يمتلك شاحنة لبيع مادة المازوت ويرافقه في تجواله بين حارات وأفران وريف المدينة قبل دخول داعش لتل أبيض بأربعة أعوام وانضم لهم وكان ينكل بالمدنيين ويهدد بقتلهم حتى أنه اغتصب خمسة نساء من جيرانه بعد أن زج رجالهم في السجن. واليوم يعود ليحتل المدينة من جديد ويقيم فيها مع الفصائل المسلحة التي يعمل معها أولئك المؤتمرون بأوامر الرئيس التركي، فأردوغان منح هؤلاء الدواعش مدننا وأراضينا ليحيوا دولة الخلافة من جديد”.
وأفاد تقرير للمرصد السوري لحقوق الإنسان عن وجود عناصر من تنظيم داعش المتشدد في صفوف الجيش الوطني، تشارك إلى جانب القوات التركية في قتال قوات سوريا الديمقراطية في جبهات تل أبيض ورأس العين وتل تمر وعين عيسى.
وأكد المرصد حصوله على معلومات تفيد أن المقاتلين غيروا أسماءهم وانتقلوا إلى القتال في صفوف الجيش الوطني.
وكشف حزب سوريا المستقبل الذي فقد الأمينة العامة لحزبه “هفرين خلف” على يد مسلحي الجيش الوطني واتهم بقتلها قائد أحرار الشرقية “حاتم ابو شقرا ذو السجل السيء في تهريب قادة داعش من دير-الزور إلى تركيا عن تهريبه لعدد من مسؤولين في تنظيم عناصر إلى تركيا وأشار الحزب في مقال نشره على موقعه الإلكتروني الخاص عن سجل لعدد من مسلحي تنظيم داعش من عدة محافظات سورية ويتواجدون في تل أبيض ورأس العين تحت اسم الجيش الوطني.
نشطاء يوثقون
ووثقت مجموعة نشطاء إعلاميين من مدن شمال شرق سوريا معلومات عن مسلحي تنظيم داعش من السوريينوانتهاكات الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية الموالية لها خلال عملية “نبع السلام” والتي يواكبون نشرها عبر صفحتهم على الفيس بوك وتويتر باسم ” نشطاء روجآفا” والتقيتُ “بسردار سربست” وهو أحد نشطاء الشبكة الذي كشف عن توثيقهم معلومات عن سوريين انضموا للتنظيمات المتشددة ومنها تنظيم داعش وقال: “التقينا العديد من المدنيين الذين واكبوا حقبة سيطرة التنظيمات المتشددة كأحرار الشام وجبهة النصرة وتنظيم داعش على مختلف مدن وبلدات المنطقة الواقعة تحت سيطرة الأكراد، والعديد منهم تعرفوا على مدنيين من سكان مدينتهم وقراهم انضموا لأولئك المتطرفين ومارسوا انتهاكات بحقهم والعديد منهم هربوا إلى تركيا ومنها إلى مناطق المعارضة السورية وأصبحوا موالين لأنقرة تحت اسم الجيش الوطني الذي غالبيته مسلحون من تنظيم داعش واحتلوا عفرين وتل أبيض ورأس العين ويحاولون غزو تل تمر المسيحية ولدينا أسماؤهم وصورهم وفيديوهات ومعلومات كاملة عنهم أرسلناها لجهات دولية معنية لمحاسبتهم”.
وأشار سربست إلى تنسيق الشبكة مع العديد من المواقع الالكترونية المتخصصة في شؤون الإرهاب ونشرهم تقارير تكشف عن مسلحي داعش الذين يقاتلون إلى جانب الجيش التركي باسم الجيش الوطني في عملية “نبع السلام” ضد قوات سوريا الديمقراطية حليف واشنطن في حربها ضد داعش.
تغيير ديموغرافي
واتهمت الإدارة الذاتية في مناطق شمال وشرق سوريا، في بيانٍ لها الحكومة التركية بالسعي لإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة بعد سيطرتها على مدن وبلدات في الشمال السوري، خلال عملية “نبع السلام” التي شنتها مؤخراً ضد المقاتلين الاكراد.
وانتقدت الإدارة “صمت الأمم المتحدة” عن الممارسات التركية، واصفة السياسة التركية بـ “داعم للمشاريع الراديكالية بهدف خلق الفوضى، وتنفيذ أجنداتها في المنطقة”. وحذرا من كارثة حقيقية قد تخلقها ممارسات أنقرة في الشمال السوري، مضيفةً: “تركيا وبعد احتلالها لرأس العين وتل أبيض، وتشريدها لأكثر من 300 ألف مدني، تسعى إلى تغيير هوية هذه المناطق بشتى الوسائل والعمل على توطين لاجئين ممن لديها الآن والبالغ عددهم أكثر من 3 ملايين لاجئ بالتنسيق مع الأمم المتحدة”.
شراهة الأطماع التركية قد تلتهم مدناً أخرى كتل تمر والدرباسية والقامشلي وحتى الرقة ودير-الزور وسط صمت دولي وغض طرف قد يعيد تكرار سيناريو لواء إسكندرون وعفرين ومناطق درع الفرات وضمها لتركيا؛ فالخوف والقلق من المجازر ينتاب الأكراد والمسيحيين والعرب مع اقتراب توغل الجيش التركي وفصائل المعارضة الموالية لها في عمق مناطقهم وسط توقعات هجرة أعداد كبيرة منهم إلى أوربا بصفة دائمة بعد احتلال تركيا والفصائل السورية الموالية لها لموطنهم الأصلي شمال شرق سوريا.
بواسطة Mohammed Jalal and Naela Mansoor | نوفمبر 7, 2019 | Culture, غير مصنف
تنويه إلى أي قارئ قد تغويه التمارين اللغوية الهذيانية التي نقوم بها فيحسبها تحليلاً وتفكيكاً وفلسفة وسياسية؛ ضميرنا الحيّ يحتم علينا أن نقول لك إن اللغة تغوي بسهولتها كالماء، والحذر واجبٌ من الغرق أو التلذذ المتكرر بلا طائل. ليس الحال أن الإمساك بالكلمات وتعدادها وتصنيفها هو فكر، ولكنّنا نعتقد أن الإمساك بالكلمات التي تُؤذي ضرورةٌ أولية للتفكير بالعنف، ومن بين أنواعه العنف السياسي. ولغتنا الجميلة، ذات المعجم العملاق والخلّاق، تضم كل ما يمكنه جرحنا بعمق كذلك.
«نهيب» كلمةٌ مخيفة، يتلوها شخصٌ مخيفٌ على مواطنين خائفين، تدعوهم للشعور بالخوف من أمرٍ مخيف، قد يؤدي إلى عواقب مخيفة تتجاوز الجرعة اليومية الدائمة من الخوف: «الداخلية تُهيب بالمواطنين إلى ضرورة التعاون مع الأجهزة الأمنية في كل ما يحافظ على أمنهم وسلامتهم»، مصدر عسكري مسؤول: «نهيب بالإخوة المواطنين ألا يصغوا إلى الشائعات التي تروجها تلك التنظيمات الإرهابية»، «وزارة الداخلية تهيب بالأخوة المواطنين التقيد بالأنظمة والقوانين، وعدم اللجوء إلى استخدام مكبرات الصوت وبثّ الأغاني وإطلاق بعض الشعارات والموسيقا الصاخبة التي تؤدي إلى إقلاق راحة المواطنين».
يثير الدهشة مدى التصاق بعض كلمات اللغة العربية وجملها مثل هذه الـ«نُهيب» بنظام الأسد، تلازم بياناته الرسمية التي يضفي بها حضوره الثقيل على السوريين، وتخرج بشكل يومي من أفواه مسؤوليه؛ في تصريحاتهم الصحفية أو لقاءاتهم المباشرة. وكأن هناك قاموس للمعاني يوزعه النظام على مسؤوليه، يضم لغة النظام وكيفية استخدامها، وما يجب ولا يجب استخدامه من المصطلحات، كي لا يبقى أيّ مجال للإبداع والابتكار في التصريحات. وما يثير الدهشة أكثر هو سماع هذه الكلمات تصدر عن جهةٍ غير نظام الأسد، وكأن قائلها ارتكب خطأً لغوياً ما اقتضى تصحيحه، أو ربما هناك علاقة بينه وبين هذا النظام بطريقة أو بأخرى، فهذه المهارات اللغوية لا تأتي من فراغ، بل هي بحاجة إلى إعداد نضالي طويل.
الخطر المحدق
لدى سماع هذه الكلمة يتبادر إلى الذهن شخصٌ متجهمٌ يرتدي حلّة رسمية، يخاطبنا مؤنباً ومنبهاً وواعظاَ. صوته مرتفع، تتوالى كلماته بفصاحة وسرعة ثابته، وتظهر جلياً بينها الفواصل والنقاط وباقي علامات الترقيم. الإخوة المواطنون هم على الدوام «المُهيّب بهم»، عليهم «التهيّب» قدر الإمكان، وإن لم يستطيعوا فعليهم التظاهر بذلك، كي لا يصيب «هيبة» الدولة مكروهٌ ما، فنقع بما لا تحمد عقباه. الإخوة المواطنون عليهم الشعور دائما بأنهم فعلوا أمراً خاطئاً، أو ارتكبوا ذنباً، ولا داعي حتى أن يعرفوا ما هو. «المُهيّب بهم» عليهم الاقتناع بالعيش في عالمٍ دونيٍّ خارج أسوار الدولة، التي يُعدّ مجرد الاقتراب منها تعديّاً على «هيبتها»، وكلما زادت هذه الـ«نهيب» وتطورت طريقة تقديمها، كلما ازداد ابتعاد وخوف «المهيب بهم» من انتهاك هذه الأسوار.
«نهيب» من الفعل «هاب»، أي خاف وخشي. ورغم أنها أفعال داخلية تعبر عن مشاعر لا إرادية، لكن لا شيء لا إرادياً لدى نظام الأسد؛ حتى الحب والكره والخوف. فدعوات النظام المتواترة «للتهيّب» خلقت مع الزمن منعكساً شرطياً يُلزم «المهيب بهم» بالإحساس بخطرٍ ما محدقٍ، فلطالما كان لهذه الـ«نهيب» نتائجاً وخيمةً على عدد محدود أو كبير من الأفراد. هذا أبداً لم يكن صدفة، بل هي الوظيفة الحقيقية لهذه الكلمات؛ فلا يجب أن يُترك المجال «للمهيب بهم» كي «يهابوا» أو «لا يهابوا» كما يشاؤون، فكما أن على السوري أن يقرر أنه «يهاب»، عليه أيضاً أن يقرر بأنه «لا يهاب» خصوم النظام، الأمر الذي يتناسب عكساً مع «هيبته». وعليه أن يقرر أنه يحب ويكره على هوى الدولة، كما فعل وينستون في آخر صفحات رواية 1984؛ عندما اقتنع بأنه يحب الأخ الكبير، واستغرب المشاعر التي كان يُكنّها له في كل مراحل الرواية.
هي دعوة للناس «لتهاب» شيئاً ما «مهيب»، وهي أيضاً رتبةٌ ورثها صدام حسين من أسلافه، ذلك بعد أن تكرست «مهابته» في قلوب العراقيين، بخلاف حافظ الأسد الذي كان مُهيباً يحمل، دون غيره في سوريا، رتبة «فريق». أما المشهد «المَهيب»، فهو الذي نراه عندما يقتضي الأمر بعض الخشوع، أو ربما الحزن والحداد، تماماً كما كان «مهيباً» يوم موت حافظ الأسد ومن قبله ابنه باسل، ومشاهد التنافس في البكاء واللطم عليهما.
لدينا كذلك «المهيوب» قصي؛ مساعد رئيس الاستخبارات الجوية، وأحد ثلاثة عشر مسؤولاً في نظام الأسد موضوعون على قائمة العار الأميركية، و«المهيوب» علي؛ العميد والناطق باسم جيش النظام، والذي اعتدنا عليه وهو «يُهيب» بالإخوة المواطنين، كإحدى أبرز هواياته. كذلك هناك أسمر يا شب «المهيوب»؛ الذي غنت له سميرة توفيق. ولا يرد اسمه هنا لمجرد تشابهٍ في الأسماء، فهذا الوصف شرطٌ لازمٌ لكمال شخصية الرجل الشرقي الذي تتغنى به توفيق؛ الرجل نفسه الذي بنى هذا النظام على شاكلته؛ عنيف وغاضب وعاطفي ومعتدّ برأيه، و«مهيوب» بطبيعة الحال.
الكارثة المنتظرة
«نهيب، هيبة، يهاب، مهيوب…» مفردات تعبر عن عقلية تراتبية عميقة يستبطنها السوريون قديماً، قبل نظام الأسد، الذي بدوره كرسها منذ سيطرته على الحكم لتكون أحد ركائز سلطته. تقتضي هذه الحالة أن «يهاب» الجميعُ الجميع. على المواطنين أن «يهابوا» الدولة، والمدينة عليها أن «تهاب» الريف، والطوائف يجب أن تتبادل «المهابة» فيما بينها. الموظف عليه أن «يهاب» مديره، والمدير عليه أن «يهاب» مسؤول الفرقة الحزبية، الذي عليه أن «يهاب» عنصر الأمن. لم يجد النظام صعوبةً كبيرةً في تعميم حالة «الهيبة» هذه؛ لأن المجتمع الذي «تهاب» فيه الزوجة زوجها، والأطفال آباءَهم، والإخوة أخاهم الكبير، جاهزٌ للانتقال إلى مراحل أكثر تطوراً وتعقيداً من «الهيبة». أعيد إنتاج هذه الحالة في ظل نظام الأسد، بشكل أكثر تطوراً وتعقيداً لينتشر كالعدوى أمرُ الإفراط باستخدام مصطلحات «الهيبة» والتفخيم والتعظيم والتصرفات التي تضمن للأفراد الحفاظ عليها؛ كحمل السلاح واستخدامه في المناسبات الاجتماعية، وغيرها من الممارسات التي تخفي خلفها هزائم وانكساراتٍ وخيبات. التحدث بلهجة أهل الساحل على سبيل المثال هو إحدى طرق السوريين الأكثر ضعفاً وانكشافاً للحصول على قيمة مضافة من «الهيبة»، والاستماع لأغاني علي الديك ووفيق حبيب وغيرهم باعتبار شعبيتهم الكبيرة لدى رموز النظام تندرج كذلك في السياق ذاته.
«أُهبة» الاستعداد؛ من الكلمات المشابهة في شكلها ومعناها. سوريا دائما على «أهبة» الاستعداد لشيء، كحالة طبيعية أخرى نعيشها مع هذا النظام «المُتأهًب». الجيش وقوى الأمن دائماً على «أهبة» الاستعداد، والمواطنون كذلك يجب أن يكونوا على هذه الحال، من أجل تجاوز المنعطف التاريخي الذي نمرّ فيه منذ زمنٍ طويلٍ نكاد لا ندرك بدايته. و«أُهبة» الاستعداد وسمت السوريين في طبائعهم، فهم دائماً على أهبة الاستعداد للنجاة ووضع مخطط ب ومخطط ج ومخطط د موضع التنفيذ حين تأتي الكارثة المنتظرة أبداً، وأهبة الاستعداد توحي بشيءٍ لحظيٍّ يُحدث قطيعةً ما؛ غالباً قطيعة في زمان ومكان السوريين الاستثنائيَّيْن، قطيعة مستمرة متتابعة يقابلها أبد مستمر: الأسد للأبد.
الدولة كما الأب
«الهيبة» كذلك هي من مشتقات هذه الـ«نُهيب»، أو ربما الأمر هو العكس؛ فلهذه الدولة المسماة سوريا وشبيهاتها «هيبةٌ» هي أهم بكثير من الدولة نفسها، الأمر الذي يجعلنا نفهم ما الذي دفع بشار الأسد لأن يقول يوماً بأن لا مشكلة لديه مع المتظاهرين، بل مشكلته كانت مع الذين يصورون هذه التظاهرات وينقلونها للخارج، ويعتدون بذلك على «هيبة» الدولة التي لم يبق فيها حجر على حجر، ولم يعتدِ على «هيبتها» لا توريث للسلطة ولا توزيع أصولها على الأقارب والخلّان.
«التطاول على هيبة» الدولة كان أحد أبرز محركي مؤيدي النظام الذين أعطوا لها الحق بقمع من يخرج عن طاعتها، بذات الطريقة التي أعطوا فيها الحق للوالد بتأديب ابنه الخارج عن الأسرة وقواعدها، فالدولة كما الأب تعرف مصلحة أبنائها أكثر منهم، وبإمكانها أن تضربهم لتربيهم، والمشاكل التي تحدث يجب ألّا تظهر إلى الخارج؛ كي لا تنال من «هيبة» العائلة. الأب مهمته اتخاذ القرارات في هذه العائلة، دون الحاجة للرجوع لباقي أفراد الأسرة الذين لا يحق لهم الاعتراض، حتى لو كان القرار يقتضي تزويج أحد الأبناء أو البنات، أو المهنة التي عليهم اختيارها، والعديد من الأمور الشخصية الخاصة بالفرد. صورة الأب القائد عليها أن تزين جدران البلد؛ كما تزين صور الأب أو الجد جدران المنازل. هنا بالذات يكمنُ جنون اللغة الطغيانية؛ فالدالّ هنا مخيف، ولكنه يرتكز إلى مرجعياتٍ قريبة جداً؛ مرجعيات الأسرة والأب والعائلة والجماعة الأهلية.
هذا الخلط الفصامي بين الدولة وكل شيء يثير جنوننا وجنون غيرنا. أمّا النيل من «هيبة» الدولة، فتكاد تكون أكثر تهمة وجهت قضائياً للسوريين المعتقلين منذ انطلاقة الثورة عام 2011. أُدرجت رسمياً في النصوص القانونية وفي المحاكمات التي خضع لها موقوفون أمام مختلف المحاكم. والحال أن جزءاً مهماً وأساسياً في آلة القمع تلك هي عدم تحديد ماهية ما ينال من هيبة الدولة، كل شيء مفتوح ومبهم في الوقت عينه لتوجيه التهم، الإبهام يشل الحركة والمبادرة ويثير الذعر أكثر. الإبهام أكثر هيبة! منشور في فيسبوك أو عبارة على جدار، أو كلمة قالها صاحبها دون أن يلقي لها بالاً، الشكوى من الفساد والظلم والمطالبة بالحقوق، مجادلة موظفي الدولة ورفع الصوت بحضرتهم، الاعتراض على قانون أو تشريع أو تعيين؛ كلها أمور تنال من «هيبة» دولةٍ نال من حدودها عدة دول وجيوش.
الإبن العاقّ
في محاولة أخرى يائسة لتفكيك غموض وهيبة «الهيبة»، تساءلنا بسذاجة: هل يمكن لمن تُوجه له هذه التهم من نوع «النيل من هيبة الدولة»، والتي هي على شاكلة تهم كثيرة من قبيل «وهن عزيمة الأمة»، «إضعاف الثقة بالاقتصاد الوطني»، «بث الفرقة بين عناصر الأمة»، «الخيانة»، و«التعامل مع جهات أجنبية» … إلخ، هل يمكن لحامل تلك التهم أن يكون بارداً تماماً دون أن يُجرح؟ الكثير من المعنيين كانوا يضحكون فيما بعد على التهم الموجهّة إليهم ويشعرون وكأنهم في محاكاة ساخرة (باروديا)، ولكن هل يمكن لهم حقاً ألا يُجرحوا؟ قد يضحكون من منطلق الاستهجان الأقصى لهول التهمة، إلا أن هذا الاستهجان بعينه هو الذي يدلنا على جرحٍ ما. لماذا تجرحنا تهم المس بهيبة الدولة والأمة وإثارة النعرات الطائفية؟
ولكنّا نسينا أن نعرّف تعريفاً مبدئياً لغوياً للهيبة، حقاً ما هو تعريف الهيبة؟ نشعر به مفهوماً جمالياً، الطلة مع مزيج من بث الاحترام والسحر، وهناك طبعاً شيءٌ من الرصانة…. وماذا بعد؟ قد يكون مفيداً أن نقارن مُعادلات كلمة «هيبة» في اللغات الثانية، على الأقل تلك التي نعرفها في الفضاء المتوسطي المشابه إلى حدٍّ ما في جذوره البطريركية. لا كلمة معادلة تفي الهيبة العربية حقها: هي المكانة مع القوة مع الكرامة مع الوقار مع فخر، وثمة كذلك عنصر جمالي ما لا يمكن تبينه بدقة؛ ينطبق على الرجال والنساء، ولكن على الرجال أكثر، لتشتمل الهيبة بذلك عنصراً من تمثيلات الذكورة؛ شيء ما يتماهى معه تيم حسن، شيخ الجبل في مسلسل «الهيبة» ذي الثلاثة أجزاء، والذي لقي رواجاً كبيراً، إذ تجري أحداثه في قرية تحمل اسم «الهيبة»، بطله تاجر ومزارع حشيش، يتزعم عصابةً خارجة عن الدولة والقانون، ورغم ذلك سحرَ مشاهدي المسلسل «بهيبته» ووسامته وإنسانيته وطيبة قلبه. يعيش هو والدولة اللبنانية صراعاً على «هيبتهما» التي تنقص كل واحدة منهما الأخرى. إذن في النهاية: الهيبة عنصر جمالي تمثّلي وليس طبيعياً إو إجرائياً، يعاقب القانون السوري على النيل منه، وهو عنصر ذكوري أبوي، المسّ به يُشعر المُدان بعار العقوق.
في الحقيقة إنْ ابتغينا تفكيك جرح «المس بهيبة الدولة» فإنه يكمن هنا بالضبط؛ إحساس العقوق والذنب العميق. التعابير العاطفية والجمالية والعاطفية المستعملة في مقامٍ قانوني غير مقامها تمحي المسافة بين الدولة/الأمة/الوطن والقائد، لتصبح علاقة قربى في غير محلها؛ علاقة سفاح في الواقع. الأفراد المحكومون فيه يُقرّبون بطريقة انتهاكية من جسد «الأب القائد» الذي «منحبّك» دون احترام للمسافة التي تكفلها لغة قانونية باردة غير انطباعية وغير عاطفية. وحين ينتهك المحكوم ضمن تلك العلاقة يشعر بالذنب مثل المغتصب تماماً الذي انتهكت خصوصيته. في الحقيقة طرق التعذيب في السجون السورية لها خصوصية لا تمتلكها أي سجون في العالم، ليست الوحشية هي تلك السمة، فالوحشية وجدت (وربما أكثر) في الكثير من التجارب الإنسانية. ما يميّز التجربة السورية هي العلاقة الحميمة مع جسد المعتقل وتملكه، ولا نقصد بالعلاقة الحميمية الانتهاكات الجنسية وحسب، ولكن الإصرار على ملكية المعتقل وتأديبه وكأنه ابن عاقّ. لا داع بعد ذلك أن نشرح.
كان في انتفاضة الثائرين السوريين عام 2011 محاولة لاستبدال «الهيبة» بـ«الكرامة»، محاولة لإسقاط «هيبة» الدولة في نفوسهم، وقبل ذلك «هيبة» مجتمعاتهم والأفراد المحيطين بهم، فأصابوا هذا النظام بمقتل، وتهاوى أمامهم هذا الصنم العملاق، وكنا على موعد لتغيير اجتماعي وسياسي حقيقي، قبل أن تنحدر الأمور بطريقة غير منضبطة، لنصل إلى ما نحن عليه الآن. واليوم كل ما يقوم به النظام من اعتقالات وترويع وقتل تحت التعذيب في المناطق التي يسيطر عليها، وقصف بربري في المناطق خارج سيطرته، هو محاولة منه لاستعادة «هيبته» كشرطٍ لازم لاستمراره.
*نُشر المقال على موقع أوريان21 هنا.
بواسطة هيفاء بيطار | أكتوبر 31, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
طوال ثماني سنوات ومنذ بداية الثورة السورية، كان الفيس بوك وغيره من وسائط التواصل الإجتماعي حلاً مثالياً كي لا ينفجر الناس من الغيظ وكي يعبر كل مواطن عن أفكاره ومشاعره وبما أنني اخترت أن أعيش في اللاذقية رغم أن كل أسرتي في باريس لأنني أريد أن أكون ضمير شعبي الحبيب وأشاركه آلامه وآماله، حتى أنني وبكل محبة كنت أستقبل في بيتي في اللاذقية النخبة المثقفة والسياسية في اللاذقية كي نتبادل الحوار ووجهات النظر. لكن كم يؤلمني ويؤسفني أن أحكي كيف تطورت الأمور خلال هذه السنوات الثماني.
بداية لا بد من الإقرار أن كل سوري خاسر سواء كان موالياً للنظام أو معارضاً له، الموت حصد الآلاف من شبان سوريا سواء كانوا من الجيش السوري أو من الفصائل المعارضة. النزوح طال الجميع سواء كانوا موالين للنظام أم معارضين له، الانهيار الاقتصادي المروع أذل الجميع وانهارت الطبقة الوسطى ليصير الفقر هو سمة المجتمع السوري. وكنت أتوقع أو أتأمل أن الجرح العميق الذي يوحد السوريين سوف يزيدهم تآزراً وتعاضداً ومحبة، لكن للأسف (وبشكل عام) العكس هو الذي حصل، فشلة المثقفين (ومعظمهم سُجن أكثر من 10 سنوات أيام الثمانينات) والذين يزيد عددهم عن الخمسة عشرة صاروا يترددون في الاجتماع في بيتي وصار كل واحد منهم يسألني: هل فلان سيحضر؟ فإذا أجبته: أجل سيحضر، يسرع ليقول: إذاً أنا لن أحضر لأنني لا أتفق معه ولا أطيق منطقه في التفكير وفي قراءة ما يحصل على الأرض السورية.
أصبحت النخبة المثقفة السياسية والتي دفع كل واحد منها سنوات طويلة من حياته في السجن لا تطيق بعضها. وكنت أتساءل بسذاجة: كيف يختلفون جوهرياً وكل منهم دفع زهرة شبابه في السجون السورية، بل (لا أبالغ) إذا قلت أنهم صاروا يخونون بعضهم البعض ويتهمون بعضهم البعض بالكذب والانتهازية. حتى اضطررت أن ألغي تلك اللقاءات الغنية بين الأصدقاء والتي كانت في العام الأول ونصف العام الثاني للثورة السورية التي فشلت وانحرفت كلياً عن مسارها في تحقيق الحرية والكرامة. وإذا كانت النخبة المثقفة والسياسية والتي تعيش في الداخل السوري تختلف في رؤياها اختلافاً جذرياً بدل أن تكون قدوة للشعب المتألم وجامعة له، فكيف حال عامة الشعب! للأسف من يتابع مواقع التواصل الإجتماعي الخاص بسوريا يرى هول الشرخ بين السوريين، فأحدهم مثلاً كتب لي موبخاً وبوقاحة إعجابي بزياد الرحباني لأن الموقف السياسي لزياد الرحباني لا يعجبه، وحين أجبته بكل لباقة بأن كل إنسان حر بموقفه السياسي وبأنني أقدر زياد الرحباني وأحب إبداعه بمعزل عن موقفه السياسي اتهمني بالتذبذب وأعلن أنه سيكف عن قراءة كل ما أكتب.
زميلة أخرى تعيش حالياً في إحدى دول اللجوء عنفتني بشراسة لأنني ترحمت على الممثل القدير فاروق الفيشاوي وأنا معجبة بفنه للغاية ولا تعنيني حياته الشخصية، والسيدة إياها اعتبرتني خائنة للشعب السوري لأن فاروق الفيشاوي زار دمشق. وكي تكتمل الصورة فإن من خونني لأنني أحب فن زياد الرحباني ومن خونتني لأنني أحب الممثل المبدع فاروق الفيشاوي، كانا يعيشان في الداخل السوري كالنعجة، لا ينطقان بحرف في انتقاد حتى كومة قمامة في الشارع ! ويتملقان كل مسؤول ويكيلان المديح له ، بل كانا يتجنبانني لأنني أكتب مقالات جريئة في نقد الأخطاء والممارسات الخاطئة في المجتمع السوري ، وقد دفعت ثمن مواقفي من منع السفر إلى استدعائي مراراً إلى الأجهزة الأمنية. ولم يكن أحد يجرؤ أن يدعمني أو يقف إلى جانبي في محنتي، فمن تستدعيه الأجهزة الأمنية يخاف منه أصدقاؤه ويبتعدون عنه كما لو أنه وباء. لكن حين خرج هؤلاء النعاج المنافقون خارج الوطن بدؤوا بالجعير وصار سهلاً عليهم الشتم وليس النقد، حتى أنهم اتهموني بأنني جبانة ويجب أن تكون مقالاتي أكثر جرأة وحدة في انتقاد النظام (النظام فقط وليس الجماعات المتطرفة الإرهابية التي لا يذكرونها أبداً والتي أبدعت في سفك الدم السوري والخطف والذبح) وأزعم أنهم يطالبونني بأن أكتب بجرأة أكبر كي أكون كبش المحرقة وكي يتفرجوا علي وحيدة وعزلاء في مصابي وهم يتلذذون.
ما أسهل أن تدعي الشجاعة والبطولة وأنت خارج سوريا، هؤلاء أشبه بديوك على مزبلة، وقد ابتلي الشعب السوري بقسم ممن يسمون أنفسهم بالمعارضة الخارجية التي ارتهنت لدول عديدة شريكة في سفك الدم السوري وقبضوا ثروات، وكلهم يتفقون على عبارة موحدة بأنهم يريدون أن يضحوا بآخر قطرة من الدم السوري! سبحان الله من قال لهم بأن الشعب السوري يريد أن يموت، الشعب السوري يحب الحياة والفرح ويريد أن يزوج أولاده ويزغرد في أعراسهم وليس في جنازاتهم. وهؤلاء الذين يتهمونني (ويتهمون غيري) بأنني أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي (وهم معترضون بشراسة على موقفه السياسي) لا ينبسون ببنت شفة على شلة الأدباء والفنانين الذين زاروا اسرائيل وتباهوا بالتطبيع معها.
أنا أؤمن أن الشعب السوري أعزل تماماً فلا النظام يمثله ولا المعارضة، وهو متروك للفقر والعقوبات الاقتصادية ولرفض العالم له، ومعظم دول اللجوء حالياً تتمنى وتسعى لترحيله وإعادته إلى سوريا التي تشرذمت وتجزأت. المؤسف أن من يكون منطقياً وغير متطرف وصادقاً في حب سوريا والشعب السوري، أي من يكون معتدلاً يُعاقب من قبل النظام الذي يمنعه من السفر ويشحطه إلى فروع الأمن كلما كتب مقالآ جريئاً ينتقد فيه مظاهر الفساد في سوريا، ويكون منبوذاً وخائناً أيضاً بالنسبة لمعارضة الخارج الموظفة لدى دول معينة وتقبض منها الملايين، ولا أنكر أن بعض أطراف معارضة الخارج الحاقدين يتهمونني بالتذبذب وبأنني ضمنياً مع النظام لأنني لست في السجن!! كما لو أن كل سوري كي يثبت وطنيته يجب أن يكون في السجن، وبعضهم يقول لي: لأنك مسيحية يتسامح معك النظام. ولا أعرف ما هذا التسامح!! وقد مُنعت مرتين من السفر وأنا على الحدود وفي إحدى المرات كنت مسافرة إلى البحرين لأشارك في مؤتمر ثقافي وتبدد السفر لأنني عرفت على الحدود أنني ممنوعة من السفر (الله أعلم لماذا). هل يجب أن يُقطع رأسي ورأس كل مثقف وطني ليثبت لهؤلاء المرتزقة أنه وطني ويحب الشعب السوري! بل إن البعض من هؤلاء المرتزقة يعتبرون كل مثقف يعيش في سوريا هو موال للنظام.
كم أحس بالقهر وخيبة الأمل وأنا أرى ما آل إليه وضع معظم السوريين بعد ثماني سنوات من الثورة السورية المُنتهكة، فبدل أن يوحدهم الجرح جعلهم ينفرون من بعضهم (رجاء لا أعمم) والطامة الكبرى أن نخبة المثقفين الذين قضوا سنوات طويلة من حياتهم في السجن دفاعاً عن مبادىء الحرية والكرامة ما عادوا يطيقون بعضهم وكل منهم يخون الآخر بل يعتبره موظفاً عند الأجهزة الأمنية. ويتحدثون عن إعادة الإعمار!! هل الإعمار ببناء حجر فوق حجر. من يرمم الشرخ الفظيع الذي حصل في نفوس السوريين. من يعيد للسوري روعة عبارة أخي في الوطن وشريكي فيه مهما كانت قناعاته سواء أحب زياد الرحباني وفاروق الفيشاوي أم كرههما. لأن بناء الوطن لا يقوم على الحجر بل على البشر. المؤسف أن الأحقاد انتصرت على الحب. وحصل شرخ كبير بين السوريين ألمسه تماماً هنا في باريس.
بواسطة Jafar Al Alouni | أكتوبر 24, 2019 | Culture, غير مصنف
عادةً ما يعيدُ الفنانون، كل حسب لغته، صياغة ما قاله أفلاطون عن الحبّ والفلسفة :”من لا يبدأ بالحبّ، فلن يعرف أبداً ما الفلسفة”. هكذا يبدأ كل فنان بإعادة صياغة هذه المقولة، انطلاقاً من عمله، غير أننا في حالة بيو كابانياس Pío Cabanillas، نراه يصوغ مقولة أفلاطون على النحو التالي: “من يبدأ بالحب والفلسفة حقاً، سيعرف دائماً ما الفن”.
بهذا الحب، وبالفلسفة كلها، بدأ المصور الفوتوغرافي بيو كابانياس Pío Cabanillas زيارته إلى سوريا في ربيع عام 2009، أي قبل سنتين من اندلاع الحرب التي أخذت معها كل جميل، والنتيجة كانت كتاباً فوتوغرافياً وقعه بعنوان “سوريا. بيو كابانياس” صادر عن دار La Fábrica، ليكون الأول من نوعه في إسبانيا، حيث جمع فيه ثمانين صورةً للمعالم والأماكن التي اختفت، كما يقول بيو نفسه بكل أسف، والتي استطاع التقاطها بعدسته أثناء زيارته لسوريا.
“لقد كانت رحلة قصيرة للغاية التقطت فيها بعدستي مجموعة من الصور لأماكن ومعالم عالمية. عندما بدأت داعش بتدميرها، بدأت أعمل على هذا المشروع. هكذا في مواجهة التطرف والحرب والدمار والهمجية أخترت سلاح الجمال والثقافة والحب والسلام”. يعلق صاحب الكتاب وهو يحدق بأعمدة تدمر.
الصور التي التقطها بيو، في الأبيض والأسود، تثير الذاكرة وتدين الحرب المدمرة للتراث السوري، الذي هو جزء من التراث العالمي، ومن تراث الذاكرة البشرية أيضاً. إنها صورة موحية، حميمية وهادئة للبلد، بالكاد يظهر فيها أشخاص، أراد صاحبها أن يرفقها بمختارات لشعراء سوريين تأكيداً على تجذر هذا التراث وعمقه، ومحاولاً برفقة قصائد لـ 12 شاعراً سورياً تقديم بعض الجوانب المشعة في سوريا، إنساناً وإبداعاً ومادةً. في هذه المحاولة الفنية أراد بيو أن يؤاخي بين البصر والبصيرة، الصورة والكلمة، اللون والظل، بين المرئي واللامرئي. إنه حوار بين الأشياء وعن الأشياء، نتعرف من خلاله على التاريخ، والحقول والجبال، والشوارع، والنساء، والأطفال، والرجال، نتعرف من خلاله على بلد كامل.
إنها، إذا، محاولة رائدة لتقديم صورة حقيقية عن سوريا، ليس فقط عبر الصور، الألوان، والضوء، وإنما عن طريق الكلمات والاستعارات. لهذا فإن قارئ الكتاب سيلاحظ الحوار الواضح بين موسيقى الشعر وسحر كلماته وبريق الصورة وزوايا الضوء والظل. إنها تجربة مبتكرة وخلاقة تجمع بين أسلوبين تعبيريين يختلفان من حيث التقنيات والأدوات، ولكنهما يلتقيان في الهدف نفسه وهو تقديم صور تجمع بين الاستعارات والإيحاءات الشعرية والدلالات والإشارات المباشرة والحقيقة. في هذا العمل يخترق بيو برفقة شعراء سوريين من قامة (أدونيس، نزيه أبو عفش، أسامة إسبر، أمل جراح، سنية صالح، صقر عليشي وغيرهم) الحلم، الذاكرة والحياة. يخترق الرغبة والعلاقة بين الأشياء، هناك حيث تتلاقى اللحظة العابرة مع الأبدية. لقد قام المصور بعمل رائع من أجل الجمع بين الصورة والأدب، ولكن ما هي المعايير التي وضعت من أجل اختيار القصائد؟ يأتي الجواب في المقدمة:” لقد كان المعيار شخصياً بشكل خاص، لقد حاولت أن أختار، من زاوية فنية بحتة تتجاوز الزمان والمكان، أولئك الشعراء، الذين، برأيي، يؤسسون لعلاقة حيوية مع الصور، ففي بعض الأحيان يحتاج الإنسان إلى التحدث إلى شخص خارج الكتب، التحدث على سبيل المثال إلى شجرة، أو نهر أو نبع أو قلعة أو جدار أكثر من حديثه مع إنسان آخر. هذا بدوره يؤكد لنا أن الحقيقة لا تأتي من الخارج، أي من الكتب والأفكار والشعارات الدينية والسياسية، وإنما من تجربة الحياة ومن التواصل الحي مع الأشياء ومع الكون. بهذا المعنى تم اختيار تلك القصائد التي تؤسس لهذا الحوار التواصلي الحي بين عالم متكامل من الصور”.
بالإضافة إلى الصور والقصائد ومقدمة الناشر، كانت إلى جانبهم أيضاً الرؤية الخارجية التي أضافها قلم مارك توين الأصيل الذي قام برحلة عبر البحر المتوسط في عام 1867، وكانت نتيجتها كتاب “دليل من أجل المسافرين الأبرياء“، حيث تم اختيار الجزء الذي خصصه مارك توين للحديث عن سوريا. نقرأ من مقدمته: “لقد شهدت دمشق كل ما جرى في هذا العالم، وهي حتى الآن تنبض بالحياة. شهدت دمشق آلاف العظام اليابسة لآلاف الإمبراطوريات، وأعتقد أنها ستشهد ملايين القبور قبل أن يلامسها الموت. إنها تستحق بجدارة لقب المدينة الأبدية”. إنه بكلماته المثيرة هذه، ووصفه الدقيق يقدّم عالماً شبيها إلى درجة كبيرة بعالم اليوم، إلا أنه عالمٌ أكثر فقراً وذلك بسبب فقدان قسم كبير من تراثه الثقافي.
نتعلم في الكتاب أن لسوريا دوراً في الفن. تعلمنا سوريا أن الإبداع يتجاوز الأشياء فيما يحتضنها. بهذا المعنى الفن ليس له نهاية. فالفن، سواء أكان صورة أو كلمة، رقصاً أو موسيقى، يحرر الأشياء من قيودها ومن كثافتها، يجعلها أكثر شفافية وحرية. إنه يخلق في الإنسان شعور وحدة مع الوجود، أي كأنه يعيش في وحدة بين الصورة والمعنى، بين البدايات النهايات.
كتاب “سوريا. بيو كابانياس” لمؤلفه بيو صادر عن دار نشر La Fábrica2019.
بواسطة Aws Yacoub | سبتمبر 19, 2019 | Culture, غير مصنف
نستعرض في هذا المقال كتاب «في مهب الرقابة: العرض المسرحي في سورية 1988- 1997 (قراءات نقدية)» للكاتب والناقد المسرحي والمترجم السوري ناصر ونوس، الصادر عن “دار إي – كتب” في لندن، في آب/ أغسطس الماضي.
جاء الكتاب في 220 صفحة، وهو بحسب ناشره، يمكن قراءته من ثلاثة وجوه، فهو من ناحية أولى قراءات نقدية ذات طبيعة منهجية، في عدد من أبرز الأعمال المسرحية التي عرضت على مسارح دمشق، لا غنى عنها لكل مؤلف أو مخرج أو ممثل مسرحي. وهو من ناحية ثانية، سجل لقراءات واحدٍ من أبرز النقاد المسرحيين العرب ترك من خلالها بصمة خاصّة به في نقد المسرح.
وهو من ناحية ثالثة، وثيقة تاريخية للأعمال المسرحية التي قام بعرضها وتحليلها، حتى لكأنّها وثيقة موجِبة، لا بد لمخرجي ومؤلفي وممثلي المسرح في المستقبل، أن يأخذوها بعين الاعتبار إذا ما أراد أحدٌ أن يعود لينهض بهذا الفن الرائع والذي يكاد يأفل في عالمنا العربي، مع أفول الدولة نفسها، وانقراض المجتمع.
- تأسيس لاتّجاه أو تيار أو ظاهرة..
يتألف محتوى الكتاب على مقدّمةٍ وبابين رئيسيين، الأوّل: “من المسرح العالمي”، ونقرأ من عناوينه: (سكان الكهف: قراءة في شعرية العرض المسرحي، روميو وجولييت: السينوغرافيا وأساليب التمثيل، وكاليغولا في دمشق: الطاغية بين المسرح والتاريخ).
وحمل الباب الثاني عنوان: “من المسرح العربي والمحلي”، ونقرأ من عناوينه أيضًا: (“حكاية الملوك” ولعبة المسرح داخل المسرح، “سفر برلك” مسرحة الجوع والتاريخ، ويوم من زماننا وحداثة التخلف).
إضافة إلى ملحقين، جاء الأوّل بعنوان: “مهرجان دمشق الحادي عشر”، وحمل الثاني عنوان: “مهرجان القاهرة الثالث للمسرح التجريبي”.
ونقرأ في نهاية الكتاب نبذة عن سيرة المؤلف.
موضوع الكتاب، وفقًا لما جاء في مقدّمة ونوس، “ليس هو الرقابة على المسرح في سورية، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ في الوهلة الأولى، بل موضوعه العروض المسرحية التي أتيح لها أن ترى النور في ظلِّ الرقابة القائمة على المسرح. وهو مجموعة قراءات لأهم هذه العروض التي شهدتها العاصمة السورية دمشق بين عامي 1987 و1997”.
يتناول الكتاب بالنقد والتحليل العروض التي كانت محل اهتمام ونوس من حيث قيمتها الفنية والفكرية من جهة، ومن حيث أنّها تنطوي على إمكانية تأسيس لاتّجاه أو تيار أو ظاهرة في المسرح السوري من جهة ثانية.
في هذا السياق، يشير المؤلف إلى أنّ “هذا لا ينفي أنّه كانت هناك عروض مسرحية أخرى كان لها قدر من الأهمية لم نتناولها، والسبب ببساطة يعود إما لأنّنا لم نشاهدها أو لأنّنا لم نكتب عنها لسبب ما”. لافتًا إلى أنّ من هذه العروض على سبيل المثال أربعة عروض تم تقديمها بين عامي 1993 و1994 وحظيت بترحيب واسع ولم يشاهدها بسبب سفره خارج سورية حينها، وهي: “تقاسيم على العنبر” للمخرج العراقي جواد الأسدي، و”منمنمات تاريخية” لسعد الله ونوس الذي قدمته نائلة الأطرش، و”الآلية” لمانويل جيجي، والرابع بعنوان: “النو” وهو عرض ارتجالي لطلبة قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بإشراف الفنان فايز قزق.
يخبرنا ناصر ونوس، في منشور له على جدار صفحته في موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، إلى أنّ هذا الكتاب انتهى من كتابته قبل عشرين عامًا، وأنّ أسبابًا كثيرة حالت دون نشره حينها.
- مسرح سوري في مهب الرقابة..
تحت عنوان عريض هو “في مهب الرقابة” يستهل ونوس كتابه بالقول: إنّه “عندما نجح رجال الدين في سورية عام 1884 في طرد الشيخ أحمد أبي خليل القباني من سورية بعد إحراق مسرحه، كانوا بذلك يضعون اللبنة الأولى في جدار ما سمي في ما بعد (أزمة المسرح السوري). فمع إحراق مسرح القباني انطفأت شعلة المسرح في سورية، ولم يكن قد مضى على إضرامها سوى سنوات عدّة، ولم تعد للاشتعال مرّة ثانية إلّا في عشرينات القرن العشرين”.
هنا يؤكد صاحب «المراجع المسرحية العربية والمعربة – ببليوغرافيا وشروحات»،أنّ “أزمة المسرح في سورية ظهرت بعد سنوات قليلة على انطلاقته، وتفاقمت بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وكُتب عنها الكثير منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وإلى الآن من دون جدوى، حيث لم يتم وضع الخطط والمشروعات للخروج منها، وذلك أسوة بجميع الأزمات التي تمر بها ثقافتنا ومجتمعنا، والتي لا نستطيع الخروج منها، بل إنّ أزمة المسرح هي الأكثر تعبيرًا عن بقية الأزمات التي يمر بها المجتمع بصورة عامة، ذلك لأنّ المسرح، من بين الفنون الأخرى، وكما هو معروف، هو الأكثر حساسية والأكثر عرضة للتأثر بأزمات المجتمع”.
يشدّد ونوس في سياق تحليله النقدي على أنّ أزمة المسرح في سورية لا تكمن في النصّ المسرحي وعدم توافره، كما يشاع، وليست في المخرجين ولا في الممثلين، بل إنّها تكمن في غياب حرية التعبير، ومنع المخرجين من معالجة القضايا والمشكلات التي يغرق فيها مجتمعهم، وبالتالي منع المسرح من القيام بلعب دور اجتماعي، وتجريده من وظائفه ومسؤولياته، وسجنه داخل جدرانه الأربعة، خوفًا من «خطره».
وقد غدا المسرح السوري أشبه بورقة مزعجة تتقاذفها الرقابة على هواها، ومن هنا يمكن القول عنه إنّه «مسرح في مهب الرقابة».
يقول ونوس: إنّه “خلال العقدين الأخيرين استطاع القائمون عليه قطع كل الروابط التي كانت تربطه بجمهوره، وقاموا بذلك بذكاء لا نعهده عند المسؤولين عادة، وتخطيط مدروس قلَّ نظيره، ولو كان هذا الذكاء والتخطيط موجهين لخدمة مسرحنا لكان هذا المسرح من أهم المسارح العربية الآن، لكنه، للأسف، موجه لتدمير هذا المسرح عبر تفريغه من محتواه وعزله عن جمهوره؛ فالجمهور يأتي عادة إلى المسرح لكي يتمتع بمشاهدة فن جميل، ولكي يرى من يضع مشكلاته على بساط البحث، ويسمع من يناقشها ويعالجها ويكشف أسبابها وسبل الخروج منها، لكن عندما يأتي إلى المسرح ويرى إخراجًا رديئًا وتمثيلًا متكلفًا، ويسمع أحاديث وحوارات لا معنى لها، فلن يكرر زيارته إلى المسرح، والخطر سيكون أكبر على المتفرج الجديد الذي يقدم له هذا النوع من المسرح على أنّه (هذا هو المسرح)، وبالتالي سيهجر المسرح إلى الأبد”.
- قيود وافتقار لحرية التعبير..
يلفت الناقد المسرحي السوري إلى أنّه خلال عقدي الثمانينات والتسعينات لم يظهر كاتب مسرحي جديد؛ وهذا ما يعزز مقولة إنّ سبب أزمة المسرح في سورية هو الافتقار لحرية التعبير، فمن المعروف أنّ أوّل شروط ازدهار المسرح، وازدهار الإبداع على وجه العموم، هو وجود فضاء كافٍ من الحرية، يستطيع المبدع التحرك فيه، ويستطيع الكتابة في الموضوع الذي يشاء بعيدًا عن قيود الرقابة، ودون خوف، فضاء يتاح فيه لمختلف الأفكار والمواقف أن تعبر عن ذاتها، وتعلن اختلافها، وتدافع عن حقها في هذا الاختلاف، معتبرًا أنّ الافتقار إلى حرية التعبير أجبر بعض كتّاب المسرح على التوقف عن الكتابة، وأسطع مثال على ذلك هو المرحوم سعد الله ونوس الذي توقف عن الكتابة لمدة 15 عامًا لم يكتب خلالها سوى نصٍّ مسرحيٍ واحد هو «الاغتصاب»، الذي اقتبسه عن مسرحية «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» للكاتب الإسباني أنطونيو بويرو باييخو، والذي نشره للمرّة الأولى عام 1989 في مجلة “الحرية” التي تصدر في دمشق عن “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، وليس “الجبهة الشعبية” كما ذكر المؤلف، وأخرجه العراقي جواد الأسدي لصالح فرقة المسرح الوطني الفلسطيني.
يذكر ونوس في سياقِ سرده التاريخي للمسرح السوري المعاصر، أنّ الكاتب الراحل ممدوح عدوان أوّل من كتب المونودراما في سورية، وأنّ أوّل نصٍّ كتبه من هذا النوع هو “حال الدنيا”، وتبعه بـ “القيامة” ثم “الزبال”، وذلك في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.
ومن النقاط الهامة التي توقف عندها ناصر ونوس حول “المخرجون والعروض”، هي أنّه “مع منتصف الثمانينات، ومع فورة الأعمال التلفزيونية، بدأت ظروف العمل المسرحي في سورية تتدهور؛ فقد أصبح اختيار وتجميع عدد من الممثلين وإجراء البروفات على عرض مسرحي لعدّة أشهرٍ متواصلة أمرًا بالغ الصعوبة، فقد غدت مسألة ترك الممثل للبروفات وانضمامه إلى مسلسل تلفزيوني أمرًا مألوفًا، مهما كان طول الفترة التي قضاها في هذه البروفات، خصوصًا في ظلِّ غياب أيّ عقد يُلزمه بمواصلة هذه البروفات حتى الخروج بالعرض المسرحي إلى العلن. فإغراء التلفزيون لا يقاس ببؤس الأجر الذي يتقاضاه عن عمله في المسرح، خصوصًا إذا علمنا أنّ معظم الممثلين ينحدرون من فئات اجتماعية فقيرة، أتوا من محافظات وأرياف مختلفة لدراسة التمثيل وعينهم على التلفزيون، حيث المال والشهرة والنجومية”.
من استخلاصات ونوس في قراءة نقدية فاحصة للمسرح المحلي السوري خلال عقدين قناعته بأنّ كل التحديات التي مرَّ على ذكرها لن تؤثّر في مسرح متقدم متطور فنيًا وفكريًا، مرتبط بقضايا المجتمع، يعالجها ويضعها على بساط البحث أمام الجمهور، ويفتح فضاءات للحوار الذي ينطلق من الخشبة إلى الصالة متغلغلًا في ثنايا المجتمع، ومن الطبيعي القول: إنّ مسرحًا كهذا لا يمكن أن يرى النور في ظلِّ استمرار سيطرة العقليات والمعايير الرقابية القائمة في سورية. مبرزًا أنّ الآليات التي اعتمدها الرقيب عملت على تفريغ المسرح من محتواه الفني والفكري، بحيث استطاعت أن تحوّل المسرح إلى وجبة باردة، عسيرة الهضم، تربك المعدة والأمعاء على حدٍّ سواء.
أخيرًا، يُشار إلى أنّ مؤلف الكتاب ناصر ونوس حاصل على شهادة البكالوريوس في النقد المسرحي من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق 1988.
عمل صحافيًا مستقلًا لعدد من الصحف والمجلات العربية، كما عمل محررًا في قسم الأخبار في تلفزيون “روسيا اليوم” ثم في تلفزيون “العالم”.
وهو ناقد سينمائي ومسرحي وإعلامي ترجم وألف العديد من الكتب، ومن أعماله تأليفًا وترجمةً: «المراجع المسرحية العربية والمعربة – ببليوغرافيا وشروحات»، حمص 1992.
وله في الترجمة: «الباب المفتوح – أفكار في المسرح والتمثيل»، تأليف بيتر بروك، دمشق: دار كنعان 2007. «صناعة الأفلام الوثائقية، دليل عملي للتخطيط والتصوير والمونتاج»، تأليف بارى هامب، مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، 2011.و«الإخراج السينمائي، تقنياته وجمالياته»، تأليف مايكل رابيجر،مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي، 2018.
بواسطة Hiam Karm | أغسطس 22, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
I recently visited the Roofed Souk (al-Souk al-Maqbi–in colloquial dialect “the domed souk”) in Homs for the first time in years. I entered through surroundings of destruction and ruins, driven by nostalgia for days when we had to walk one behind the other because of the crowds. We were now one week before Eid al-Fitr, and there were no more than two hundred people at the peak hour, in addition to a few open shops waiting for customers who may or may not come!
Before the war, this market, like others in Syrian cities large and small, was a hub for commercial activities in the city, where people exchanged various goods and commodities, and craftsmen, stall holders, and customers from the villages and countryside of Homs gathered. The market buzzed with stall holders calling out about their merchandise, quality, and prices, which suited various social classes. Here you could find various clothes and textiles, sewing supplies, old rugs, furs, various threads and ropes, shoes, clogs, socks, bags, stationery, decorative materials, make-up, gold, silver, oriental and copper goods, groceries, sweets, candy, fish, and meat. In al-A’tareen Souk (perfumers’ souk), a single shop contained more than five thousand types of herbs, plants, spices, oils, and perfumes. There were also workshops for jewelry, blacksmithing, whitening copper, dyeing fabrics, upholstery, and Arab sewing.
Many of the crafts that once filled these markets, such as squeezing molasses and tanning leather, have become extinct, and new ones have replaced them. According to the Directorate of Ruins and Museums in Homs, the number of shops before 2011 was 890 oriental, local, and heritage shops located in thirteen souks: al-Nouri, al-Hisbeh, al-Bazabashi[i], al-Mansoojat, al-Sagha, al-Qaisarieh near al-Qaisarieh Inn[ii], al-Ibi, al-Ma’sarah[iii], al-Ma’radh (al-A’tareen), al-Arab–the mediator between the nomads and the urbans, al-Faru, al-Nahhaseen, al-Khayyateen, and al-Najjareen. These souks, which go back to the Ayyubid and Mamluk eras, still preserve their heritage and architectural characteristics. Other parts go back to the Ottoman occupation period.
The architecture of these souks, just like their counterparts in Damascus and Aleppo, is Islamic, as they are mostly covered with cylindrical roofs, huge rock domes: the shops are built of rocks with semi-circled rock frontages and crowned columns, decorated in the old style with geometric shapes. Huge windows sit on the top with arches for ventilation and lighting. A big dome emerges where two souks meet to crown the road junction, while basalt stones cover the floor.
Basalt stones, which characterize old buildings in Homs, were used because of their abundance in the area of al-Wa’ir, west of Homs, but you can find some souks with roofs made of limestone and hemp, some shaped as domes with air vents. An ironclad wooden shutter with a small door that goes back to 1300 AD characterizes the entrance of al-Qaisarieh souk. Then comes a roofed vestibule that leads to a stone staircase, which in turn leads up to the top floor of twenty-seven shops. Twenty columns made of white stones supporting wooden roofs surround the shops. You can see the ruins of a stone mill inside one of the shops.
The war overran these ancient markets in 2012, subjecting them to destruction and fires. Restoration and rehabilitation work over an area of forty-two thousand square kilometers began three years ago with coordination between Homs Governorate and the United Nations Development Program (UNDP), under the supervision of the General Directorate of Ruins and Museums. The restoration project will replace the damaged metal coverings with similar new ones in the style of the thirties’ period. The restoration includes fixing structural damage, replacing missing stones, and rebuilding some destroyed shops according to specifications set by the Directorate of Ruins and Museums and schemes for this project. The reconstruction will use the same old stones, after they have been sorted out and the rubble removed. There will be new roller shutters, uniform signs, and metal nets for windows and shops. The project will also restore the infrastructure and repair the stone floors.
Restoration will take place in four stages: the first and second ended in 2017 and the third began in 2018. The number of shops restored as part of the third stage reached 750 shops as of March, according to UNDP Representative in Homs Tareq Safar’s statement to the official Teshreennewspaper. However, Safar complained that the “lack of return on the part of shop owners after the restoration of their shops is causing embarrassment for us in front of visiting delegations and some donors,” calling on shop owners to remove the remaining rubble in their shops, so it can be moved away from the sight of the organization’s delegations, who are asking why the shops have not opened yet. This may cause donor countries to reconsider future assistance.
Financial Constraints and Burdens:
The restoration project is over ninety percent complete, according to official statements, but the revival in the market has not reached twenty percent in comparison to what it was prior to 2011. This is due to the sectarian division in Homs’s neighborhoods because of the checkpoints, the battles that erupted, the retreat of inhabitants to their neighborhoods, and the creation of micro markets that thrived separately in each neighborhood and later expanded after the war ended. However, these markets still lack crafts like whitening copper, oriental work, ropes, cloaks, and traditional clothing, which the old souk provided.
Merchants in the Roofed Souk suffer from high rents. The shop owners have to re-raise the columns and the roof so that they can be included in the restoration works, as the program is restricted to the shop fronts. In addition, the program has imposed a uniform interior cladding on them. All of this, along with accumulated taxes from previous years, costs the shop owners great sums of money.
Restoration works were supposed to include nearby markets in Abi al-Alaa al-Ma’ari Street, al-Na’ora Souk, Abo al-Ouf Street, Bab Hood, Vegetable Souk, and al-Jindi Souk in parallel with the old souk, so that they can be all connected[iv]. Because most of Homs’s neighborhoods are empty, the souk area has become more isolated. Although government institutions have started working, the neighborhoods of Bayyadha, Khaldieh, Wadi al-Sayeh, Bab Hood, al-Qosoor, al-Qarabis, and Joret al-Shayyah (the northern part of the city) are still semi-empty. One third of the displaced people have returned to the neighborhoods of al-Warsheh, Bab Hood, al-Hamidieh, and Bostan al-Diwan.
Many of the shop owners believe that returning to their homes and shops would be exhausting and very expensive. In addition, there is a lack of security inside the souk at night and delays in installing electricity meters. Some people prefer to open a “cart” in front of their shop until the souk starts to pick up again, so they can prove their presence.
Antoine al-Akhras, a jeweler, suggested closing infringing shops in residential areas, so that merchants will be compelled to go back. Abo Abdo, a soap and olive oil wholesale merchant who worked in the family shop he inherited from his father for more than forty years, has now switched to selling olive oil on the sidewalks after his shop burned down and he lost his goods because it is less expensive and more profitable, as he does not have the money for the restoration, cladding, and buying new products.
Abd al-Baqi al-Tarsheh, the owner of a clothing shop, believes that al-Na’ora Souk should be restored because it links al-Dablan market and the Roofed Souk. “We need financial and moral support so we can return,” he said. Morhaf Slaibi, the owner of a jewelry shop, cannot buy new equipment. Talhat al-Salqini says, “We did not get any financial support. We restored the shops at our own expense.”
A fifty-year-old lady, who frequently visits the souks, thinks that all the shops need to come back, including those selling textiles, jewelry, and tailors’ supplies, because “those who go to the souk want to find everything in one place. We need diversity,” she says. Another lady, who works as a tailor, has to go back and forth between the distant souks in the neighborhoods looking for her supplies, which she used to find all in one street in the Roofed Souk.
All attempts by the government to show that normal life has indeed returned to Homs are for media purposes only. The return of government institutions in the city center is not enough, as it is surrounded by destruction. It also seems that corrupt bureaucracy is not the only reason for not providing true incentives for the return of inhabitants and souks. Apparently, the government has no intentions in this regard, and it shows little or no concern for this matter.
The Roofed Souk still reserves its own corner in the collective memory of the inhabitants of Homs and its countryside. It has always been, and will remain, capable of encompassing all sectors of society. Its return is an indicator for the return of normal civil life. So, will the dream come true?
*This article was published in Arabic at Salon Syria here.
[i]Known as the ladies’ souk or the souk for second-hand clothing
[ii]Residents of Homs pronounce it as “Qaisawieh”
[iii]Named after the craft of squeezing molasses in old times
[iv]The infrastructure and sidewalks are currently being restored in al-Na’oua Souk, Abo al-Ouf street, and Bab Hood.