بناء جديد يُشَيَّد، غبار ورياح متربة وعويل شاحنات تنقل الصخر والرمل، أزيز آلات الحفر يصمُّ الآذان والرؤوس متعبة حتى حدود الإنهاك. تبدو المنطقة حديثة البناء جميلة من بعيد، أضواؤها تشع ملونة وساطعة، والأبنية العالية تشرف على عدة طرق، يكتشف الساكن عبر الشرفات المنيفة طرقات تحرّض على الاستكشاف أو على الخوض في مجاهلها.
لكن للحقيقة وجهاً آخر، الوحدة تعشش عميقاً في البيوت المغلقة على سكان وحيدين، متقدمين في العمر، أو مصابين بداء الرحيل أو النسيان.
بالأمس عاكس الحظ رمزية، المرأة السبعينية، الأرملة دونما التي بلا أطفال. أولاد. ولم يجب العاملون في البقالية على اتصالها، ليحضروا لها بطاريات من القياس الصغير لجهاز قياس الضغط، تحاملت على ثقل حركتها، بخفها الصيفي الخفيف عبرت درج البناء نحو البقالية القريبة جداً، ليفاجئها تركس صغير ينقل الرمل، صرخت مذعورة، كادت أن تتعثر، تجمد الدم في عروقها وتيبست قدماها في موقع الحادث.
نزل السائق بعد توقف مفاجئ وصوت الفرامل قد هز أركان المكان وطيف شجاعة هاربة مرتسم على وجهه: “حمداً على سلامتك يا خالة”. لم تجب! بانزعاج قالت له :شو مو شايف قدامك!؟”، حان دوره ليلعب لعبة الصمت، حاول اقتيادها نحو الرصيف، سألته عن معلمه لتشكوه إليه، واصل صمته، ليحاول بعض الحاضرين التخفيف من تعقيد المشهد بتهنئة السيدة رمزية بالسلامة أو بتقديم تقرير فني مقتضب وسريع يشرح الحالة الفنية للتركس البطيء وثقيل الحركة وغير المهدد لسلامتها أصلاً. لكنها واصلت صراخها والرعب يدب بأوصالها، مكررة عبارة: “أنا وحيدة! وحيدة وليس لدي من يسقيني حبة دواء.”
فجأة حضر المهندس المشرف، هنأ رمزية على سلامتها باستخفاف إداري متأصل، فزجرته قائلة: “سأشتكي عليك وعليه معاً!” تدخل ناطور البناء، وقال لرمزية :”السائق درويش ومعلّم لن يؤذي أحداً مهما حدث”، ونطق العبارة السحرية”: إنه ابن حارتك، من الشاغور!”
ضحكت وتبدلت ملامح وجهها وهدأ اضطراب قلبها، تبدلت لهجتها وشاب كلامها حنان نادر وعميق نسيته من زمن بعيد، وقالت للسائق بود فائق: “الله يسامحك يا خالتي كنت روحتني!”
لمجرد ذكر الشاغور اسم حارتها، فاض الشوق وسال حتى امتصه الطريق والشرفات وتحول المشهد من قاس واتهامي إلى جلسة تعارف تفصيلية. أسئلة متكررة من رمزية، عن أسماء أشخاص، أماكن، نكهات، تواريخ، قصص، ألوان، والسائق عاجز عن الرد بسبب تلاحق الأسئلة وبسبب تقلص الزمن الفارق ما بين فرصته في الإجابة والرد وما بين أسئلة رمزية، بالكاد يهم بالرد لتلاحقه بسؤال جديد.
بقرار حاسم قطعت السيدة رمزية سيل أسئلتها وطلبت من فتى البقالية الذي كان حاضراً في حلقة التعارف الغنية إحضار البطاريات إلى بيتها الذي سبقته إليه. عاد الفتى من بيت رمزية وبيده إبريق شاي ثقيل ومحلى وعدد من الكؤوس الزجاجية وسلمها للسائق قائلاً له: “السيدة رمزية أرسلت لك إبريق الشاي حلوان سلامتها.”
بشوق للنكهة المعتقة وبترحاب عائلي يخفف من وطأة الحادث، شرب السائق وزملاء العمل وفتى البقالية الشاي، وأصر السائق على إعادة الإبريق لرمزية بنفسه، مبادرة أسعدتها جدا، ولما عرفت أنه مازال يعيش في بيت أهله القديم في حي الشاغور مسقط رأسها، سألته عن فرن الخبز وعن محل بيع الفول والمسبحة. أعلمها بأن كل شيء مازال على حاله، إلا باختلاف بسيط وهو أن الأبناء استلموا مكان الآباء الذين ماتوا أو توقفوا عن العمل بسبب المرض.
في الصباح التالي وقبل مباشرته لعمله، رن السائق جرس باب بيت رمزية، وأعطاها الخبز والمسبحة التي طلبت منه إحضارها من حارتها الحبيبة.
تحول السائق إلى ساعي بريد ما بين رمزية وحارتها، كيلو طحينة من المعمل المشهور، علبة من الراحة الطرية والممسكة، شال من الصوف هدية من رمزية لزوجة السائق، ثم كنزة صوفية لابنة قريبة لها، إلى أن قررت رمزية زيارة حارتها وبمرافقة السائق، خاصة وأنها لا تقوى على الزيارة بمفردها. إضافة إلى أن رمزية قد تتوه في تفاصيل التغيرات الطارئة على المدينة من حواجز ومن تغيير أو تحويلات للطرق وخاصة الفرعية منها و في مداخل الحارات الصغيرة.
زيارة أعادت ربط رمزية بالحياة، طافت بحارتها مشياً على قدميها وهي العاجزة عن السير لأمتار قليلة، جالت على كل الدكاكين وسألت أصحابها عن أهلهم، توقفت طويلاً عند باب بيت أهلها القديم والمباع منذ سنين طوال، بكت الغائبين والراحلين والهاجرين والمُهجرين واللاجئين والمتناسين لرمزية أو المتعالين على الروابط العائلية، نادت ونادت وتمنت الدخول، ولم تدخل، حتى أنها لم تقرع الباب أبداً.
تشتت تفاصيل وحدة رمزية الملازمة لها سنين طوال، والسائق يزورها كل صباح محضراً لها ما تطلبه منه في اليوم السابق، زارتها زوجته وأخته، وعندما رافقه ابنه الصغير في أول يوم بالعطلة المدرسية تناول الأب والابن طعام الغداء في منزل رمزية.
التوت مفاصل الغربة وانتعشت ذاكرة الحاضر اليومية بتفاصيل التحضير الاحتفالي لحضور طاغ، فرح ووفي. وتغير مزاج رمزية وازدادت طلباتها اليومية، لم تعد تطلب شيئاً من البقالية القريبة في حيها الموحش حيث تسكن، كررت مراراً عبارة من يعرف طريق النبع لا يذهب إلى الساقية.
من على شرفة منزلها تعرفت رمزية إلى حمولة الشاحنات، آلاف من أكياس الاسمنت وجبالة ضخمة وخزانات ماء معدنية تستقر على الرصيف المقابل، لقد انتهت أعمال الحفر إذن! لم تنم يومها، في الصباح سألت السائق وهو يعطيها مرطبان مخلل الفليفلة البلدية الذي حضرته قريبة رمزية لها: “ألا تعرف قيادة جبالة؟” ضحك، وبدا مضطراً لإعلامها بأن عمله سينتهي بعد يومين وعليه مباشرة العمل في ورشة أخرى وفي مكان آخر بعيد جداً عن بيت رمزية. صمتت، أغلقت الباب، وفي الداخل بكت بحرقة وكأنها تتعرف إلى وحدتها من جديد.
كانت تؤمل نفسها بأن يستلم السائق عملاً جديداًعلى الجبالة، فتبقى على تواصل معه، ومع الحارة القديمة العائدة إليها من خلف أسوار النسيان، مع رائحة الأهل وحكايات كل يوم لكن لأسماء جديدة وبتفاصيل أحدث وأكثر غنى وألفة، لكن عبثاً، هو سائق تركس موظف ولا شيء بوسعه فعله أو تغييره ليبقى هنا. يومان كاملان والسائق يسأل رمزية عن قائمة حاجيات الغد، وهي تكتفي بعبارة: “لا شيء، شكراً.”
في اليوم الأخير لعمله في الحي الموحش حيث تسكن السيدة رمزية، رنّ السائق جرس باب البيت ليودع رمزية، لم تجب، عاود رن الجرس مراراً وتكراراً، ضرب بيده على الباب الخشبي، دونما أي رد. كان قلقاً جداً، واعتراه خوفٌ مبهمٌ، نادى الناطور، وكان لديه الجواب، رمزية في دار المسنين منذ مساء الأمس…
لن أبرح هذا الساحلَ ما دام القمر فوقه شبيهاً بوجه الفقير الصارخ أمام السّاطور.
سأشتري، كلَّ يومٍ، من بائع الخسّ والزّعتر ذي النداء العذب حِمْلَ كتفين؛ فقد تَذبلُ الحارةُ إذا نوى الرحيلَ.
أحسنَ صاحبُ هذه الشقّة المفروشة حين لم يَترك لنا فيها أيّةَ مرآة.
يقال إنني كنت، ذات يومٍ، طفلاً. لا أعرف كيف تجرّأتُ على ذلك.
أحمدُ اللهَ أنْ بَرَّأَ الينابيع التي ولدتُ قُربها من كلِّ دمٍ، فَلَمَّا شاءوها مغسلاً للمسالخ: غارتْ.
آملُ ألّا أموت قبل أن أنهي مخطوط هذه الرواية عمّا جرى في وادي النَّمل حين مرَّ موكب سليمان.
اللاذقية- حزيران-2015
الخسوف الدامي
اقترب القمر، والساعةُ معطَّلة.
ليلُ الرهائنِ ليلُنا. افتتَحه حَمَلةُ الأقفال بألعاب النار، كي تدرك السماءُ أنّ هذه البقعة من الأرض قُسِّمتْ ميداليّاتٍ بين أحزمتهم؛ فلا جدوى من تغيير فصولها أو إمطارِها بالنيازك.
لم تتزوج أسماء كما أنها لم تُعشق، ورغم جمال وجنتيها وعذوبة نظراتها ورموشها الطويلة لم يستطع أحد أن يلحظ وردة النار في داخلها تلك الوردة الخفية التي ما إن يراها أحدهم حتى يقع في غرامك.
يعبر الشبان من أمام البيت و تثقل خطواتهم وهم ينظرون نحوها بشفقة وفضول. في كل مساء كانت تقف إلى النافذة، تراقب الفتيات الشرهات للحياة وهن عائدات من مواعيدهن السريّة ويحملن بين أيديهن علب الهدايا المغلفة بورق السوليفان البراق تزينه نجوم ذهبية تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، لم تكن تستطيع سماع ثرثرتهن لكن الشفاه الملونة والباسمة كانت تفوح بالفرح وكان باستطاعتها أن تشم رائحة الفرح عن بعد….
في الليل وحين تتمدد في فراشها تقضي الوقت وهي تحاول أن تخمن ما يوجد بداخل العلب، وبين حين وآخر تحدث لها رؤيا، وهي أن هديتها تأخرت لكنها ستأتي ذات يوم. كان ذلك قبل أن تغلق والدتها النافذة بمسامير ضخمة وقبل أن يثقب رصاص الحرب جدران البيت وقلوب أخوتها الثلاثة….
لكن الحرب لم تستطع برغم شراستها أن تنسيها حلمها، ولم يكن العالم كله ليروي هذه الرغبة السريّة في داخلها بأن تمتد يد محبة، يد قوية حنونة ودافئة إليها ذات يوم بهدية صغيرة، أي هدية.
في طفولتها المبكرة كانت تجلس في أحضان جدتها أمام مسكبة الورد، وتستمع لحكاياتها. الجدة المولعة بفلسفة كل شيء من الألوان حتى براز القطط قالت لها: إذا أهداك الرجل عطراً يعني ذلك أنه سيفارقك، العطر اعتذار يا صغيرتي وعندما يهديك الرجل عطراً فهذا يعني أنه يستعد لمفارقتك.
تتنهد ثم يهيم نظرها في الفراغ: جدك قبل أن يهرب مع تلك الساقطة اشترى لي عطراً. فسكبته في قن الدجاج. كانت الدجاجات نائمات بعدها تركهن الديك وركض نحو دجاجات الجيران فالرجال تجذبهم رائحة العفونة….
والدي أهدى أمي قطعة ذهب هل يعني ذلك أنه سيذهب؟ تسأل أسماء
آآآآه الذهب تأخذ العجوز نفساً وترميه بحسرة وتتابع، الذهب يقول: أنت جوهرتي الثمينة.
تبحث الصغيرة بعينيها في المكان، فترى قطة رمادية تخمش بمخالبها جذع شجرة الجوز.
آه الوشاح بحد ذاته حكاية يا أسماء، تقول الجدة المولعة بالألعاب اللغوية مستعيرة جملة من نشيد الإنشاد: الوشاح يعني اعقدني على نبضك، والثمني بشفتيك وامسح دموعك بي.
بعد عدة أسابيع ماتت الجدة، لم تحتمل الصغيرة أول فراق، بكت كثيراً ثم أصيبت بالحمىّ، ونامت لأيام طويلة وظن الجميع أنها ميتة، وحين استيقظت أخبرت أمها -التي كانت تنتحب بجانبها وتهزها مثل دمية – بأنها رأت في حلمها الكثير من الهدايا وأن ملكاً وسيماً أهداها قرطين، لكنهما كانا ثقيلين فتمزقت أذناها وسقطتا.
كانت تمضي الليالي الباردة وهي تفكر في أنواع الهدايا تقف قبالة نافذتها وتراقب العابرين بوجوههم الهلعة… يلوح لها البعض طالبين منها أن تدخل رأسها فلا تفعل، تجرها أمها وتغلق الباب، وهي تلعن حظها بعد ذلك أحضرت مطرقة واقفلت النافذة بالمسامير.
في الساعات القليلة التي ترى فيها البلدة الكهرباء يتسمر الناس إلى قنوات تحكي عنهم وعن موتاهم، يبكون سلامهم الماضي، ويتحسرون على شهدائهم. يمتلؤون بغيظ لا يعرفون أين يرمونه. في وجوه الزوجات؟ أم على وجوه من بقي حياً من أبنائهم؟
تقلب أسماء في القنوات، لا تعنيها قصص الموت. جربته مرة وكفى، جربته بقوة ولم تستيقظ من وجعه بعد. لا تعنيها صور الدبابات ولا القنابل فهي غارقة في عالم لا تعكره حروب ولا إطلاق رصاص… تقلب في المحطات ولا تتوقف إلا إذا لمحت هدية أو شاباً وسيماً. فوجه شاب جميل يعني وعد بقصة حب.
حين أطبق الحصار على البلدة، نفذت المؤن ولم تعد ترى في أيدي الفتيات أي هدايا فقط مناديل ملونة يربطنها على أيديهن وهي تذكرهن بحبيب بعيد أو ناكث للعهد فالذي يموت أو يقع أسيراً، هو ناكث لعهده في عرفهن مثله مثل الذي يتخذ حبيبة أخرى. وبينما يفكر الناس في الخبز وفي الطعام، كانت تفكر بهدية.
ذات مساء سمعت طرقات على الباب، حاولت النهوض وسبقتها والدتها، أطلت الأم برأسها ونادت باسمها مرتين وهي تبتسم. منذ زمن لم تسمع اسمها دافئاً في فم والدتها. منذ زمن لم تر ابتسامتها…
تبعت والدتها التي نظرت نحوها بلطف، كانت نظرات أمها أقل شراسة مما هي عليه وأكثر دفئاً، تركت الباب موارباً وغمزت بعينها واختفت، من خلف الباب حياها صوت ذكوري قوي: مرحباً يا أسماء.
أطلت برأسها من الباب الموارب وحدقت في وجهه… لم يستطع الغروب أن يخفي جمال العينين العشبيتين والابتسامة المشرقة، أثارت رؤياه دموعها لكنها حبستها، ودون ان تفتح شفتيها سألته: تعرف اسمي؟ منذ زمن بعيد.
مد يده إلى صندوق ضخم، وأخرج منه علبة ملفوفة بورق أحمر برّاق وقال لها: هذه من الملك.
– من الملك؟
– نعم وأنا حارسه الشخصي.
تناولت الهدية وفي هذه اللحظة عانقته وأخذت تنتحب، أبعد يديها برفق، قبل جبينها ومضى، أغلقت الباب وقرفصت، نزعت الشريط اللامع عندها تبخر كل شيء… كانت أمها تهزها بعنف.
جلست وحدقت حولها، بين يديها ثم نظرت أرضاً فلم تجد أي شيء. شعرت أنها ضحية خدعة كبيرة فالحلم والرائحة كل ذلك كان حقيقياً، وهذه الأصوات والجوع وأمها الهزيلة مجرد حلم… لم تستطع نسيان ذراعي الشاب ولا رائحة صدره الذي يفوح منه أريج خشب الصنوبر.
سالت دموعها المالحة فوق وجنتيها ومرت فوق شفتيها وتابعت حتى ذقنها ورقبتها … كانت الدموع كل ما تبقى من الحلم .
شعرت بعداوة لأمها وظلت ليومين متتاليين تحاول تخمين نوع الهدية.
لو كانت تركتها نائمة ريثما تفتحها.
هل هي علبة عطر؟ أم وشاح؟
ربما ياقوت أو حجر تزين به عنقها؟ ربما حذاء! أو… ورود هذا مستبعد لسببين: الورود لا توضع في علب مغلقة. والثاني أن الملوك لا يهدون وروداً للرعية….
اشتد الحصار ونفذت مؤن الناس، واشتدت أصوات المعارك الدائرة، على أطراف البلدة لكنها كانت في عالم آخر، كانت تأوي للنوم مبكرة علهّا تلتقيه مرة أخرى، أو على الأقل تتابع فتح الهدية، حتى تعرف ماهي. كانت تتمنى أن يكتمل الحلم من حيث توقف، لكن ذلك لم يحدث.
ذات مساء كانت فوق سطح البيت، حين رأت سيارة صغيرة تقف أمام البيت، ويترجل منها الشاب ذاته، عرفته من قميصه الأبيض، نزلت الدرجات مسرعة ووجيب قلبها يصل أذنيها، ثم فتحت الباب .
كان هو بعينيه العشبيتين، وذراعيه اللتين لوحتهما الشمس، ورائحة خشب الصنوبر حدق فيها بغرابة توازي الغرابة التي رمقته بها وقال: كيف حالك يا أسماء؟
-إنك تعرف اسمي.
– منذ زمن.
قالت في سرها: هذه أول مرة أسمع بها اسمي منذ سنوات.
-أرسل لك الملك هدية، قال الشاب
– من الملك؟ انفلتت الكلمات بدهشة وفرح.
أتت والدتها راكضة نحو الباب وهي تنظر لوجه الشاب الممتعض.
قالت معتذرة: إنها صمّاء.
-أحاول سؤالها عن عددكم في البيت لكنها تقول كلاماً غريباً.
– أصابتها حمى في العاشرة، ثم فقدت سمعها لكنها ليست بلهاء. نحن ثلاثة قالت الأم محتسبة القط الهزيل روكي الذي يتمدد فوق السطح بتعب.
حدق الشاب ذو العينين العشبيتين في وجهها، وبانت عليه علامات الأسف.
مضى إلى السيارة ثم عاد وأحضر علبة كبيرة، رماها على الباب مثل جثة وغادر تبسمت الأم وحملت العلبة بفرح، أحضرت سكيناً وفتحتها وكادت تزغرد وهي تنثر محتوياتها. فوق أرضية الغرفة ثم أخذت تحصي علب المرتديلا والمعكرونة والرز الرديء بصوت عال.
أسماء تابعت التحديق في الكرتونة الكبيرة المرمية ، كانت هناك ورقة زرقاء كبيرة كتب فوقها بخط بارز: مخصص للاجئين السوريين.
توجهت أنظار الجماهير السورية نحو الأسماء المستدعاة، ما إن أُعلن عن قائمة المنتخب السوري الأول لكرة القدم المشاركة في المباراتين الوديتين أمام كل من أوزبكستان وقيرغيزستان، بحث المتابعون عن أسماءٍ معينة ولم يجدوها.
افتقد عشاق المنتخب السوري مهاجمهم عمر خربين -أفضل لاعب في آسيا عام ٢٠١٧ ما أثار حفيظتهم، ودعاهم لطرح عشرات الأسئلة عن سبب الغياب المتكرر لمهاجم الهلال السعودي عن منتخب بلاده خلال الفترة الأخيرة.
الأسماء الموجودة في القائمة تم اختيارها من قبل بيرند شتانغه، المدرب الجديد لـ “نسور قاسيون”، وفي الثاني من أيلول/سبتمبر، كان اتحاد كرة القدم السوري عقدا مؤتمراً، برئاسة المدرب شتانغه، ورئيس الاتحاد فادي دباس، للحديث عن مباراتي أوزبكستان وقيرغيزستان، استعداداً لأمم آسيا ٢٠١٩.
بدأ المؤتمر بحديث المدرب الألماني عن تشكيلة الفريق، قائلاً إنها: “اُختيرت بدقة بعد تقييم مستوى اللاعبين، وأن الباب مازال مفتوحاً أمام جميع اللاعبين للعب في المنتخب السوري”، كما تطرق شتانغه إلى مواضيع أخرى حول فريقه واللاعبين.
بعد ذلك فُتح الباب أمام الصحفيين لطرح أسئلتهم، ولم يتأخر السؤال عن عمر خربين، ليأتي الجواب من رئيس اتحاد كرة القدم السوري دباس الذي قال إن “المهاجم قدم اعتذاراً مكتوباً لاتحاد الكرة، وسيكون مَوضع دراسة، وفي حال كان غير مقنعٍ، سيتخذ الاتحاد الإجراءات اللازمة بحق اللاعب.” طرح السؤال نفسه على شتانغه، فرد بجوابٍ مقتضب بأنه “لن يتحدث عن أي لاعب خارج القائمة المستدعاة.”
هذه الأجوبةٌ لم تطفئ النار المشتعلة في صدور السوريين المتابعين، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً “الفيسبوك”، لمنبر أمام الجماهير السورية لطرح أسئلتهم والتكهن بمصير خربين، وانهالت المئات من المنشورات المهاجمة على ابن الأربعة والعشرين عاماً. بعض التعليقات ذهبت بعيداَ إلى درجة اتهام اللاعب “بالخيانة وعدم الوفاء لقميص المنتخب.”
في حين أرجع رامي، أحد المتابعين الرياضيين، سبب غياب خربين عن المنتخب “بتفضيله ناديه الهلال الذي يقدم له الكثير من المال”، وأضاف بالعامية السورية “مافيه خير لبلده.”
الصحفي الرياضي خالد الحمد كتب على صفحته في “فيسبوك” بأن “خربين ليس لديه الرغبة في اللعب مع المنتخب وأن اتحاد الكرة كان يعاني قبل كل مباراة رسمية لإقناعه بالحضور”، وطالب اتحاد الكرة بعدم توجيه الدعوة لخربين مجدداً للحفاظ على هيبة المنتخب واحترامه من جهة، ولتجنيب اللاعب هذا الكم الهائل الذي يتلقاه من الإساءات والشتائم. يذكر أن هذه هي المرة الثالثة التي يعتذر فيها اللاعب عن الالتحاق بالمنتخب السوري في الأشهر الماضية.
ورغم أن مباريات المنتخب السوري الحالية ودية، لكن جماهير الكرة تُصر على حضور جميع اللاعبين نتيجة زيادة العاطفة والتعلق بالمنتخب الوطني، منذ تصفيات كأس العالم ٢٠١٨، والتي فشل فيها المنتخب السوري بالتأهل للبطولة العالمية.
في تلك التصفيات، تمكن المنتخب السوري من الوصول إلى أبعد شوطٍ له، قبل أن يخرج على يد أستراليا، وفيها تسلطت الأضواء على الثلاثي عمر خربين وعمر السومة وفراس الخطيب والعائدين إلى المنتخب السوري. سجل خربين هدف الفوز على منتخب أوزباكستان، بالإضافة إلى أحد أهداف الفوز على قطر، ليرتفع رصيده أكثر وأكثر لدى الجمهور السوري المتعطش للتأهل لكأس العالم، لأول مرة في تاريخه. لكن بعد انتهاء التصفيات، بدأ لاعب نادي الوحدة الدمشقي سابقاً بالاعتذار عن الحضور للمنتخب.
أخيراً نُشر توضيحٌ من جانب المهاجم السوري تبنته إحدى صفحات التواصل الاجتماعي، عزا فيه خربين ابتعاده عن المنتخب. لضغوطٍ نفسية يتعرض لها كونه أمام امتحانٍ صعبٍ يخص مستقبله مع ناديه الهلال السعودي، مطالباً جماهير بلاده “بالوقوف معه في أزمته.”
ووعد خربين بأن “يقود مع رفاقه المنتخب السوري نحو مجدٍ آسيوي”، مشيراً إلى أنه “لن يتخلى عن تمثيل منتخب بلاده في أول مناسبةٍ رسمية قادمة” بحسب البيان ذاته. خفف هذا التوضيح من غضب البعض، لكن آخرين استمروا بمهاجمته ومقارنته بزميله غابرييل سومي الذي فسخ عقده مع ناديه “نيو انجلاند ريفولوشن” الأميركي بعد رفضه السماح للاعب بالالتحاق بمنتخب بلاده.
هذه الأحداث بسلبياتها وإيجابياتها تشير إلى أن المنتخب السوري بدأ بالعودة لمكانته لدى الجماهير الكروية السورية، بعد سنواتٍ من اعتبار هذا المنتخب غير مُجدٍ على الصعيد الكروي. ولذا لابد من العمل على دعمه وتطويره، للوصول به إلى مصاف منتخبات آسيا الكبرى، بعيداً عن الخلافات وحضور لاعب أو استبعاد آخر، وخاصةً مع تحول كرة القدم لمتنفس للسوريين خلال سنوات الحرب الماضية.
أبو آشور “أفراميونان” الحفيد الذي ورث دكان جده الترابي القديم عن والده في سوق القامشلي الشعبي الذي يعود بناؤه إلى قرن تقريباً. مارس يونان صنعة جده ووالده في بيع الغرابيل والحبال وأدوات الزراعة والبناء ومزاولة مهنة نجارة الخشب. يستخدم أبو آشور الأدوات ذاتها التي استخدمها جده ووالده .كالطاولة والسلم الخشبي والمقشرة اليدوية.
حافظ المحل على شكله القديم من الداخل بسقفه الخشبي والعلية الصغيرة التي استخدمت كمستودع لتخزين البضاعة. بقايا طلاء الكلس مازالت بادية على جدرانه الحانوت مازال يوصد ببابه الخشبي وقفله القديم الذي صنعه الجد . يمقت أفرام فكرة هدم حانوته القديم وبناء آخر حديث فهو يعتبره إرثاً يعبق بذكريات طفولته وشبابه وكنزاً ورثه وسيورثه لأبنائه وأحفاده.
القامشلي، صالون سوريا اعداد: لامار اركندي تصوير ومونتاج: جوان تحلو
يدخل عروسان لمعرض الكتاب السوري، يتبعان الازدحام ظناً أنّ احتفالية ما تقام في الداخل، يتبختر العريس بطقم عرسه الأسود وقميصه الأبيض ذي الياقة المصفرة من التعرق، أما العروس فترتدي طقماً سكري اللون بتنورةٍ ضيقةٍ وطويلة وتنتعل حذاء صيفياً ألماسي اللون بكعبٍ عال، تتعثر على الأدراج، تتمسك بعريسها. يكاد الازدحام وملابس العروسين الثقيلة يخنقانهما، فتطلب منه المغادرة، وعندما تهبط أول درجة تسقط أرضاً ويسقط حذاؤها في البركة الضئيلة الملاصقة للدرج. لا يتعاطف الزوار معها، يهمس البعض بصوت مرتفع “شو جاية تعمل هون؟” يتكثف التناقض الواقعي بين القراءة واحتفالات شعبية مرجوة من عامة الناس!
فتح معرض الكتاب السوري أبوابه للدورة الثلاثين تحت شعار “مجتمع يقرأ مجتمع يرتقي” وذلك اعتباراً من الواحد والثلاثين من تموز وحتى العاشر من آب هذا العام، بمشاركة مائتي دار نشر، مائة وعشرون منها سورية والثمانون هي دور نشر عربية وعلى الأخص لبنانية ومصرية إضافة إلى دار المدى العراقي.
تميز المعرض بكثافة في المعروضات وتأمين عدد سخي من العاملين في أجنحته المختلفة المكتظة بالكتب والمتسوقين أو المتفرجين، عائلات بأكملها تطلع وتسأل وتشتري. الأغلفة الصقيلة والملونة، العناوين الجذابة والمألوفة والمأمولة، كلها عوامل جذب.
ورغم أن المعرض يشهد حضوراً شعبياً مقبولاً مقارنةً بالمواسم الأربعة الماضية، إلا أنها لا توازي أبداً الحضور الكبير المعهود في سنوات ما قبل الحرب.
خصص المعرض هذا العام جناحاً كاملاً لدور نشر كتب الأطفال الذي تختلف محتوياته مابين قصص قديمة معروفة عناوينها ومعاد طباعتها، إضافة لوسائل الإيضاح والألعاب التعليمية وغير التعليمية مثل الكرات ولوحات الوجوه الترويجية الضاحكة أو العابسة الخشبية والدارجة على صفحات الفيس بوك.
تقترب سيدة مع طفلها للقسم تسأل عن سعر وجهٍ خشبيٍ مبتسم، وعندما تجد سعره مرتفعاً تطلب من البائعة استعارته للحظات ريثما تتمكن من التقاط صورة لطفلتها وهي تضع القناع على وجهها، وترتسم خلف الابتسامة الخشبية أخرى طفولية أحلى وأكثر دفئاً. اللافت في أجنحة كتب الأطفال، القصص المصورة باللغة الأجنبية، وهي مرتفعة الثمن لكن الإقبال عليها كثير بسبب جودة الصنع والأغلفة الفنية المميزة وبساطة الكلمات ووضوح الصورة.
تبدو الغلبة في المعرض للكتاب الديني عرضاً وتسويقاً وحضوراً وعدداً من ناحية دور النشر، وإن خالف اسم الدار محتواه.
قرب رف يعرض العديد من هذه الكتب يقف رجل خمسيني بدشداشة بيضاء كشيخ لكن دونما عمامة أو قبعة الصلاة الصغيرة، وحوله طلابه أو مريدوه، يشرح لهم بعض المعلومات عن كتاب أو واقعة مذكورة فيه. وأمامه معلمة تتجمع طالباتها حولها ويتفرقن ليشترين ما تشير إليه معلمتهن، يفرحن بحضورها وبإشارتها ويلبين اقتراحاتها بحفاوة وتقدير.
من دور نشر هذه الكتب دينية “دار العارف” و”مؤمنون بلا حدود” و “دار المعارف الحكمية”، وعن معنى هذه الكلمة قال البائع إنها اشتقاق من الحكمة، كما توزع دار نشر مسيحية وبالمجان كيساً يحتوي إنجيلاً وخمسة كتبٍ و CD لفيلمٍ دينيٍ عن القديس بولس واسمه “دمشق تتكلم”، والتوزيع اختياري بناءً على الزي والمظهر العام طبعاً وليس للجميع.
يقول أحد الزائرين أنه لمس توفراً سخياً للكتب الفلسفية وكتب العلمانية ونقد الخطاب الديني، ويعزو ذلك “لتراجع مساحة الكتاب الديني”، رغم أن التوفر النوعي لا يعني تراجعاً نوعياً.
في قسم الروايات يفتقد المعرض للكُتاب السوريين، لا أسماء إلا لعادل محمود في مجموعة رواياته القديمة وروايته الأحدث “قطعة جحيم لهذه الجنة”، أحدهم يهمس قائلاً بأنهم قد منعوا رواية الكاتب الروائي خليل صويلح “اختبار الندم” قبل ساعات من افتتاح المعرض!
الجمهور هنا مختلف، بسبابته يقول أنه يمتلك كل ماهو معروض لأنه قديم. فتراجع الكتابة والطباعة و سوق الكتب إضافة لتمويل الرواية يجعل من الروايات المترجمة الطاغية بين المعروضات، ويبلغ سعر بعض الروايات المترجمة الجديدة ما بين ثلاثة وخمسة آلاف ليرة. يقوم العديد من المشترين بمفاصلة العارض لتخفيض السعر، يستنجد بمدير دار النشر أو صاحبها فتثمر جهود المفاوضات لتخفيض مبلغ خمسمائة ليرة كحدٍ أقصى، ويقول البائع إنهم يبيعون أصلاً بخصم يفوق الثلاثين بالمائة. يتقدم المشتري ليدفع الثمن المقرر ويمشي.
تطلب زوجة شراء كتاب ملون للطبخ، يرفض الزوج مستبدلاً الكتاب المرتفع الثمن بكتابٍ عن مراضاة الزوجة، تبتسم الزوجة بخفر وتبتسم الليرات الباقية في جيب الزوج.
فقد تراجع في المعرض أيضاً عدد كتب الطبخ والموضة والأبراج. فهي مكلفة طباعياً وتسويقها متعثّر لقلة السيولة، لكن الكتب الاحتيالية الساذجة مثل “كيف تراضي زوجتك” أو “أقرب الحلول للرضا عن الذات” أو “الخديعة الكبرى” مازالت تحتل وبثقة العديد من الرفوف.
أما عن كتب المعلوماتية والبرمجيات فعدد الدور المختصة لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، ورغبةً بالتسويق توافرت الأقراص المدمجة CD التعليمية بكثرة خاصة لأنها مستنسخة وبالتالي فإنّ أسعارها أقل من أسعارالكتب ذاتها.
يتعامل العديد من الزائرين مع المعرض كفسحة ترفيهية، يشترون البوظة والبسكوت والعصائر ويجلسون على الأدراج يتسامرون ويراقبون الآخرين، مترفعين عن شراء الكتب، حتى عندما يطالب بها الأبناء تحت ذريعة ارتفاع أثمانها وأن مصيرها للقمامة.
يبدو الحاضر الأكبر في رحاب المعرض الهاتف الجوال، صور سيلفي في أماكن متفرقة وخاصة تحت اللافتات التي تحتوي أسماء دور النشر، صور جماعية وعائلية واتصالات يبحث الحضور عن بعضهم عبرها، “أنا عند الدرج الأول!”، “أنا عند الc20”. وهكذا يدور الوقت وتدور عجلة الفسحة والحياة والصورة شاهدة على أنهم زاروا معرض الكتاب لكنهم لم يجدوا الوقت لقراءة ما فيه.
السمة الأبرز لمعرض الكتاب لهذا العام أيضاً هي ارتباط الكتاب بالعملية التسويقية، حتى على صعيد الإعلانات، “حسومات تصل إلى سبعين بالمائة!”، “اشتري كتابين والثالث هدية!”، حتى أن بعض الدور تجرأت ووضعت لافتات رقمية تحدد سعراً ثابتاً لكل الكتب في زاوية محددة، وتبدأ الأسعار من الثلاثمائة وحتى الستمائة ليرة، لدرجةٍ تظن وكأنك في سوق الرخص على الأحذية أو على المنتجات الاستهلاكية اليومية والعادية.
كما أن الأكياس التي تحمل شعار المعرض وتاريخه مفقودة، بعض دور النشر تضع كتبها بأكياس من معارض سابقة مثل “معرض أبوظبي الدولي للكتب” أو “معرض مسقط الدولي للكتاب”، وبعض الدور يسلمونك الكتاب دونما كيس أو يبادرون دون استئذانك لوضعه في كيس تحمله، وربما لو طلبت كيساً لاعتذر قائلاً: “ما بتوفي.”