في عالمٍ باتَ مليئاً بالنجوم، نجوم السوشيال ميديا أو ما يسمّونهم صنّاع المحتوى، الخاضعين لخوارزميات و سياسات مواقعِ التواصل الاجتماعي، و آخرون يصنعُهم رعاةٌ مخلصون يروّضونَ تطور العقل البشري بحيثُ يظلّ القطيعُ بخير، نجوم تُبهر و تغيّر، و أخرى تعمي العيون، قد يكون رحيلُ أحد المُبدعين مناسبةً كي نبدأ بالحديث عن أعماله أو أقواله بموضوعيةٍ أو بعين النقدِ الحقيقية، بحثاً عن نجمٍ حقيقيٍّ احترق كي يضيء.
ميساء محمد فنانة تشكيلية سورية، من مواليد مدينة جبلة 1964، فُجِعَ مُحبّوها بخبرِ مرضِها في مكان إقامتِها في دبي أولاً، ثمّ غيابِها المُبكّر مؤخراً، كان مجتمعُ الفنانين التشكليين يتابعُ تجربتَها باهتمام، فقد قدّمت في مراحلِها الأخيرة سلسلةً من اللوحاتِ المتحفيّة كانت ثمرة تراكم خبرةٍ طويلةٍ في الرسم، و موهبة استثنائية في التعبيرِ عن مكنوناتِ النفسِ الإنسانيةِ عن طريقِ الخطّ و اللون. اللافت في تجربةِ ميساء هو تطوّرها الواضح باتجاه الواقعية التعبيرية، المبنيّة على امتلاكٍ حقيقيّ للرسم كأداةٍ مرنةٍ بينَ يدَيها، تشكّل من خلالِها وجوهاً ذاتَ طابعٍ سحريّ، و مناخاًغرائبيّاً، كأنّها تنقلُنا إلى عالمٍ موازٍ، شخوصُهُ تُشبهُنا، لكنّها تحملُ قدراً من الجمالِ و التصالحِ مع الذاتِ، يجعلُنا نقفُ أمامَها مشدوهين.
من الملفت أنّ ميساء لم تدخل تجربة الرسم بجديّةٍ إلا مع بداية الحرب السورية، ربما هرباً من أشباحِ الموتِ و الدمار التي سكنت البلاد، أو نتيجة شعور خَفيّ بنهايةٍ قد تكونُ وشيكة، ما جعلها تستخرجُ تلكَ الجوهرة التي طالما أهملتها في أعماقِها، و تعمل على صقلِها، “البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا، هناكَ أمل” هي عناوين لمجموعتها التشكيلية أو معارضِها التي أقامتها في كل من دمشق، دبي، زيورخ، و فينيسيا.
إنّها رسامة مشت بكلّ ثقةٍ صوبَ ذاتِها، فحفرت طريقَها حيثُ اتّجهت بوصلةُ قلبِها دونَ أن تتمكن منها مقولاتُ غيرها، ربما هذا سرّ تفرّدِها و أصالتِها، فهي لم تذهب إلى الخارج لتستورد مفردات، أو تعيدَ إنتاجَ تجربةٍ بعَينها، بل حفرت في روحِها و رسمت ما تُحب. و لأنّها أسّست أسلوبَها على ما يهوى قلبَها و يؤرقُ عقلها، كانت الشامُ حاضرةً في أعمالِها، هي التي شغلَها موضوعُ الهوية، حاولت أن تتمسّك بهويتها السورية التي شعرت أن الحربَ ستأتي عليها، فرسمتها، ” في لوحاتي لم أتعمّد العودة إلى الماضي، و لكن طبيعة الهوية هي التي تقودُني إلى ذلك، حاولت قدرَ الإمكان أن أكونَ وفيّةً لفكرةِ الجمال والرومانسيةِ العالية، التي اعتبرتها بمنزلةِ أدواتٍ لمواجهةِ عدو الثقافة و الهوية العربية التي مكّننا الفن التشكيلي من اكتشافِ كاملِ تفاصيلِها”. شخوصُها التي تطلُّ علينا من عالمٍ مُختلف، طفولي أحياناً و أسطوري أحياناً أخرى، ترتدي غالباً أزياء دمشق التراثية، التي يُقالُ إنّها تعودُ إلى تصاميم أزياء الملوك القدامى الذين عاشوا في دمشق أو تدمر،أفاميا، ايبلا، و أوغاريت، يذهبُ الشاعر و الناقد فاروق يوسف إلى ربطِ تجربتها بالفنان السوري نذير نبعة، فيما يخصّ طريقة معالجتِها للوجوه، والأجواء الشامية التراثية الباذخة، فالنساءُ بجمالهنّ الأسطوري، كأنّهنّ حفيداتُ الليليت وعشتار وإينانا والمجدلية و زنوبيا، يغنينَ مشهدها البصري و يمنحنَهُ بصمةً سوريّة خاصة.
و كما تستخدم ميساء الواقعية السحرية كي تأسرَ عين المشاهد، تستخدم كذلك الرمزية، فالحُلي والورود والغربان و السفن الورقيّة والزخارف الشرقيّة، كلّها أدوات تنقل مكنونات الفنانة وأفكارها، أمّا أداة التعبيرالأهم، التي تمنحُ لوحاتَها قوة تعبيريّة استثنائية فهي العيون، فإذا كنّا نريدُ أن نلجَ عالم ميساء محمّد، علينا أن نفهم ما تقولهُ عيونُ شخوصِها، فهي تتّسع كي تحيطَ بالواقع من كلّ الجهات، أحياناً تقفُ أمام العالمِ مذهولةً وأحياناً أخرى خائفة، لكأنّ هولَ المشهدِ جعلَها بكماء، وحدهُ بريقُ عيونِها يُفصحُ عما يدورُ في روحها، قد يكونُ بريق الوعي، أو حزن دفين يأبى أن يتدفّق ما يمنحُها سحرها الخاص، إنّ عيون ميساء محمد هي بحدّ ذاتِها موقف من العالم و وجهة نظر، تُعاتبُ و تُحبّ، تتأمّل، تحزن، وتفرح في نظرةٍ واحدةٍ، كأنّها لم تستطع أن تصرخَ في وجهِ الحربِ فحدّقت بها، وحين رحلت تركت لنا تلكَ النظرة الخالدة، لتجعلنا نتساءل و نتساءل، دون أن نتمكّن من سبرِ غورِ إحساسِها.
إنّها امرأةٌ من فصيلةِ النساء الساحراتِ، اللواتي منحتهُنّ الطبيعةُ مواهبَ استثنائية ليحاربنَ بها طغيانَ المجتمع، السحرُ هنا ليس بمعناهُ الشرير، إنّما هو السحرُ الذي يسخّر القوى الكامنة في الطبيعة من سبيل الخير، و إذا كانت ظاهرة ملاحقة الساحرات و السحرة قديمة قدمَ التاريخ، فإنّ أغلب النساء اللواتي اتُّهمنَ بممارسة السحر في العصور الوسطى في اوروبا، كنّ من المثقّفات والعالمات وصاحبات الفكر المتنوّر، ربما الفيلسوفة و عالمة الرياضيات هيباتيا التي قُتلت على يدِ حشدٍ من المتعصّبين في الاسكندرية عام 413م هي أول ساحرة معروفة تعاقبها السلطة الدينية.
تجلّى سحرُ ميساء فيما تجلّى في اللون، فقد استحضرتهُ في أعمالِها بكامل بريقه، ليساهمَ في تشكيلِ مشهدِها البصري الخاص، و منحِهِ بعداً غامضاً و شاعريةً مُختلفةً، فكان أن أظهرتهُ على العجينةِ اللونية للوجوه، فاقعاً، فاضِحاً شغفَها بالجسدِ الإنساني و مكنوناتِهِ، لقد حذت هنا حذوَ الانطباعيين في الابتعاد أحياناً عن المزج و إظهارِ تدرجات اللون على سطح اللوحة، كما اتكأت على المبالغة اللونية كطريقة في التعبير، اهتمّت ميساء بنضارةِ وصفاءِ ألوانها، كما استخدمت تلكَ المتكاملة والمنسجمة، لتمنحَ لوحاتها ضوءاً مختلفاً وبعداً سريّاً، لكأنّها هنا متأثرة بالفن الكنسي وكبار فنانّي عصر النهضة ، كما لجأت أحياناً إلى المبالغة في رسمِ أطرافِ نسائها، فتطاولت الأصابع و رقّت، ربما كي تحاكي رقّة الفنانة و سمو روحِها.
تنتمي ميساء إلى فئةٍ من التشكيلين السوريين الذين تمسّكوا بالرسم كقاعدةٍ لانطلاقهم في عالم الفن التشكيلي، فبحثوا عن أصالةٍ تشبهُهم دون الانخراطِ في تجربةِ النسجِ على منوالِ المدارس الغربية، فعلى الرغمِ من مقولات الحداثةِ و ما بعدها التي هيمنت على المشهد، صنعت ميساء حداثتَها الخاصة غير مكترثةٍ سوى بمقولاتِ روحِها، فعبّرت بطريقتِها عن فكر ومشاعر رسّامة أنثى، عايشت حقبةً من الحربِ و الهمجيّةِ ربما أودت بها في النهايةِ إلى مرضٍ و موتٍ مبكّر.
في وسطِ إحدى لوحاتِها المعجونةِ بتدرّجاتٍ رماديّةٍ، مساحة حمراء على شكلِ مستطيلٍ انفتحَت أطرافُهُ السفلى كأنّها دماءٌ تسيلُ، على هذه الخلفية جلست أنثى بثوبٍ أبيضٍ و بعينين هَلعتين، بطلة اللوحة تحضنُ إطاراً أحمراً مربوطاً في إحدى زواياهُ بشريطٍ أسود، أما داخل الإطار فتفاجئنا ميساء برسم بورتريه للأنثى الهلعة ذاتها المتربّعة في الوسط ، كأنّ البطلة تقفُ شاهدةً على موتِها، كأنّها تنعي نفسَها، هل تنبّأت ميساء هنا بنهايتها الوشيكة؟ هل كانت تعي ما ينتظرها من مصيرٍ سيحرمُها من ممارسة سحرها الخاص”الرسم”؟ لا نعلمُ حتى الآن مدى صدق نبوءة الشعراء و الرسامين، لكن و إذا كانت ميساءُ نجماً مرّ بسرعةٍ في عالمِنا فيبدو أنّها تركت أثراً سيدوم، يُقالُ إن بعض النجومِ التي لا يزال ضوءها ينيرُ ظلمتَنا هي في الحقيقة ميّتة، أن تكون نجماً حقيقياً يعني أن تتركَ وهجاً يدوم.
استطاعت رجاء عالم في روايتها با هبل والتي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام، أن تأخذنا بقوة إلى الفضاء المكاني الذي تحلق فيه وهو مكة المكرمة حيث لم تكن تدافع فقط عن روح المكان التي نالت منها الحداثة فاقتطعت وقلبت بغرض توسيع الحرم لاستيعاب خدمة الوظيفة الدينية بل وأيضاً عن أصوات أناس عاشوا وماتوا هناك في عتمة الواقع وعن ماض اجتماعي كانت فيه المرأة جزءاً من نظام العبودية المقنعة رغم انتمائها لأسرة حرة. وليس لأن الماضي يشغلها بل لأن ظلاله تمتد إلى الحاضر.
ترصد الكاتبة هذا الواقع عبر حياة أسرة السردار منذ عام 1945 وحتى 2009 والتي كانت تقطن بجوار الحرم الشريف في مجتمع ذكوري يجد مجرد التفوه باسم البنت عيبا ً وتنكر العائلة وجود فتاة في المنزل لتعتني بأهلها آخر العمر، ويتحكم الأب بحياة ابنته حتى بعد الزواج وقد يطلّقها دون استشارتها. تقول العمة سكرية: “تظن أن الحنوط سر فرعوني؟ بيوتنا المكاوية شغلتها تحنيط البنات أمثالي ” وحيث حتى الأحلام تقمع ويجب عدم التصريح بها حتى لا تتحقق. أما زيارة الطبيب فغير ممكنة دون موافقة الأب مصطفى السردار المتحكم والذي رفض نقل زوجة ابنه للمشفى بعد تعثر ولادتها قائلاً إن موتها أفضل من ذلك.
تاريخ عائلي بطريركي بامتياز
تبدأ الرواية بمشهد انتحار البطل عباس السردار، فحين يعود إلى البيت وتصدمه وحدته الكبيرة، يقوم بتفقد المنزل مروراً بحائط المقارع الذي جمع عليه مقارع البيوت المكية المزالة بالهدم، ويغادر باتجاه بيت عمته نورية المهجور حيث عاش أجمل أيامه وجمع فيه التحف واللوحات والموسيقا وأشرطة أفلامه التسجيلية لينتحر هناك بالشماخ الذي ربطه بالثريا.
تعيدنا الكاتبة بعد مشهد الانتحار في استرجاع سردي لحياة عباس وتاريخ أسرته في محيط الحرم وعماته اللواتي كان ابناً لكل منهن فهو الابن المدلل في العائلة والمولود بعناء الأم ولخطأ في قص الحبل السري يعاني من فتاق لا يختفي إلا بعد القضاء على حركة جهيمان الذي سيطر على الكعبة لمدة عشرة أيام انتهت بدخول الجيش للحرم الشريف واستخدام الأسلحة والرصاص فيه، في إشارة لا بد من التوقف عندها، وهو توءم لجنين شرد بعد ولادته حسب ما قالته القابلة لتعيش الفكرة في العائلة وفي داخل عباس إذ يشعر بوجود قرين له في داخله يسميه نوري ويحمله المسؤولية عن كل فعل خارج عن السيطرة ويتمتع بجنون الفن والخيال.
تأخذنا الكاتبة إلى تفاصيل حياة العائلة وحياة عماته اللواتي تصفهن بالمحجوبات وعلاقتهن في الدائرة الضيقة؛ المجتمع العائلي المغلق والمجتمع الكبير الذي لا يحتكين به إلا عبر سلطة الأب الساهر على حراسة العادات الموروثة.
شكلت العمات أمهات لعباس ونوري لا فرق فكل منهن تعاملت مع إحدى شخصياته كما تحب ويحب، حتى صار عدة أولاد في جسد واحد وهو الذي كان يقول إن له قرائن كثراً في بقاع العالم، لكن هذا لم يمنحه القدرة على الخروج عن سلطة العرف فحين تختاره شركة جنرال موتورز مصمما لهياكل سياراتها يعد والده ذلك فضيحة (الرسم) ويحبسه في المنزل إلى أن يغير رأيه.
كان قرين عباس (نوري) الذات المقموعة له وينسب له كل فعل صدامي مع المحيط وهو فطرة الفن وجنونه في داخله وتحت هذا الغطاء جمع عباس التماثيل وأسطوانات أم كلثوم وقام بتأليف فهرس لأغانيها إذ كان يحلم ببناء متحف يضم كل منجزات البشرية على شكل حلزوني يصل إلى السماء وفي قمته تتصاعد أصوات المغنيين الخرافيين من تراتيل سومر وحتى آخر المغنيين كأنه يقيم آذاناً كونياً.
ولعل الحوار الذي يدور بين عباس ونوري أقرب إلى المكاشفة الذاتية وما بحثه عن قرائنه إلا رغبة بالانتماء للحلم الذي يريده وبقدر ما يحمل ذلك من عذاب البحث بقدر ما يحمل من غربته عن عالم يعيش فيه. وإذ يكاشف نوري يكشف لنا ما في داخله من عالم المتناقضات المتجاورة والأنواع دون أن ينفي أحدها الآخر الطفل والشيخ، المهبل والقضيب، الماضي والحاضر، والضعف والجرأة.
فيلم تسجيلي طويل
وبتأثير نوري يقوم عباس بتصوير عماته في فيلم تسجيلي تروي فيه كل واحدة قصتها فتقول له سكرية: الحياة نزهة عشها والظل الذي ترتاح له اسكنه وطالما تستطيع الاحتراق افعل”. أما نورية فتناديه بنور عينيها.
وبقيت حورية بجانبه حتى رؤيته لأحداث غير مفهومة وفي لحظة خاطفة يكتشف أنه يحتضر وإذ يخترق معها تلك الستائر الندية التي تفصل عالم الأموات عن الأحياء. يعرف أنه يغادر الحياة ويتذكر أنها ميتة مثله منذ زمن بعيد برصاصة في الرأس في حادثة جهيمان وهو ما عاشه طفلاً دون أن يراه وأن هذا الفيلم التسجيلي الذي صوره ليشارك به في مهرجان البندقية ليس سوى شريط ذكرياته مع عماته والعائلة والذي يستحضره في احتضاره الطويل إنه الشريط الذي يمر في ذهن المحتضر قبل مغادرة العالم.
ليس عباس وحده من يصدمه الاكتشاف بل القارئ أيضاً فالرواية لم تكن سوى هذا الشريط الذي يستعيده في لحظات الاحتضار مثقلاً باحتدام المشاعر والأشخاص وأحلامها في لعبة فنية مشوقة تبرع فيها رجاء عالم إذ تأخذ القارئ بتلك الواقعية السحرية الفاتنة منذ أخبرتنا أن نورية قدحت شرارة الرواية في ذهنها إذ وقعت تحت سطوة التوصيف السريالي لعباس حين أخبرها انه أراد رمي جثة عمته نورية في البحر فلطالما كانت تتمنى أن يكون الموت سفراً في بطن حوت. وكيف ألحت عليها نورية في الحلم لتدفع روايتها للنشر فصوتها ضمن الأصوات المكتومة في الرواية- الحياة.
ومنذ مشهد محاولة الجارية في البداية حرق ابنتها على السطح لأن السردار لم يعترف بأبوته لها إلى وصف عباس الطفل لما حدث في الحرم الشريف في حركة جهيمان وحيث ماتت عمته حورية لكنها ستواصل وجودها بينهم ولا تنتهي تلك الغرائبية في المشهد إذ سنكتشف أن هذا كله ليس إلا استرجاع عباس ذكرياته قبل الموت.
وتستمر الكاتبة بتلك الغرائبية السحرية محلقة في جمالية السرد وحيث يختلط الواقع بالخيال ويسير جنباً إلى جنب معه حتى النهاية ولا تترك للقارئ أن يمتلك مهارة تحديد أين ينتهي الأول ليبدأ الثاني. وحيث يتداخل عالم الأموات مع عالم الأحياء تفصل بينهما الستائر الندية والشفافة والتي لا يخترقها إلا من ينتقل من عالم لآخر في مشهد تخييلي سريالي بديع كما كان عباس يتحرك بين الماضي والحاضر بخفة بفضل وجود القرين المتخيل.
خصوصية المكان والبيئة
حرصت رجاء عالم على الاقتراب من الواقع فاعتمدت اللهجة المكية وطعمت السرد بالأمثال الشعبية المتداولة وأوضحت المفاهيم الروحانية لبعض العادات وهي من الجمال بمكان كعادة رش الكافور على الميت؛ وذلك حرصاً على إطفاء خصوبة الموت، أما المسك فيخلط بالكافور لتخفيف الحزن.
وعرجت على تقاليد العرس والجهاز الذي يخص العروس كالسيسم وغيرها.
كما تأخذنا لوصف المكان كسوق المدعى التراثي والذي عمره أكثر من قرن ويمتد وسط مكة وكيف هدم بالكامل مع البيوت المجاورة لتوسيع الحرم. وما جرّته تغيرات المكان من تغير انعكاسه في الذات الإنسانية فحين صارت بئر زمزم تضخ بالمضخات فقد الماء طاقته الروحية وصار العطش مقيماً لا يمكن ريه.
كما تشير بشكل غير مباشر إلى التغيرات التي رافقت اكتشاف النفط وتدفق الأموال، يقول عباس نحن أولاد آدم البترولي، في إشارة إلى أن التغيرات في المجتمع بعد اكتشاف النفط كانت شبيهة بولادة جديدة لكن من رحم الأموال النفطية، إذ صار الهم هو جمع الأموال ومراكمتها واستهلاك مظاهر الحضارة والرفاهية الغربية التي وصلت من الغرب فجأة فأحدثت صدمة حضارية هزت القيم وصار الإنسان يعيش فصاماً حقيقياً في علاقته بالآخر. وهذا ما حدث مع عباس الذي كان يعيش اغترابه عن الواقع حتى أنه انتحر!
توهج السرد واللغة والوصف في مشهد اكتشاف عباس لموته في حواره مع عمته حورية لتخبره بكل رقتها عن موته الواقع في سردية مؤثرة وبليغة وتنقلت في الرواية بين الاسترجاع والمونولوج والميتا سرد والواقعية السحرية والمونولوج الداخلي الذي ينبش الخوف الإنساني من الحتمية بما يلامس داخل القارئ.
لكن يبقى السؤال لماذا اختار البطل الانتحار في بيت عمته نورية وليس في أي مكان آخر في عهدة القارئ.
نافست رواية رجاء عالم على البوكر بجدارة وهي التي فازت بالجائزة عام 2011 عن روايتها طوق الحمام والتي تدور في ذات الفضاء المكاني.
إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في إبداع الموشح الحلبي المعاصر ذي الهوية السورية والعربية الأصيلة، وجَعَله يرتقي إلى مرتبة الموشح الأندلسي ويكون امتداداً له، ليُشكل بذلك مدرسة فنية متفردة ومتكاملة في فنون الموشحات ورقص السماح المرافق لغنائها. مدرسةٌ أغنت مكتبة الموسيقى العربية ونشرت إرثها الفني المتنوع في مختلف بلدان الوطن العربي.
ولد البطش في حي الكلاسة/ حلب عام 1885، درس القراءة والكتابة في الكتاتيب، إلى جانب علم الحساب والتجويد، وقد ظهر ميله إلى الفن منذ طفولته، حيث تمكن من حفظ عشرات الموشحات القديمة، وكان يرافق والده وخاله لحضور حلقات الأذكار وسهرات البيوت، التي تُنشد فيها الموشحات والأغاني الصوفية والطربية، ويتردد على الزوايا والتكايا الصوفية ليستمع لعمالقة الطرب وكبار المنشدين، الذين تتلمذ على يدهم، ومن بينهم: الشيخ بكري القصير وأحمد عقيل وصالح الجذبة وأحمد الشعار، وقد تعلم منهم فنون الموشحات وطرق غنائها وعلوم المقامات والإيقاعات والأوزان، بالإضافة لفن رقص السماح.
في عام 1905 التحق البطش في الخدمة العسكرية ضمن الجيش العثماني، ولأنه كان يمتلك موهبة وخبرة موسيقية مميزة ضَمَّه الوالي العثماني إلى الفرقة الموسيقية العسكرية، كعازف ترومبيت وآلات إيقاعية، وقد تعلم خلال ذلك قراءة النوتة الموسيقية ليصبح، في تلك المرحلة، واحداً من الموسيقيين القلائل الذين يجيدون تدوين مؤلفاتهم. وبعد إنهائه للخدمة العسكرية عمل البطش كعازف إيقاع مع الكثير من الفرق الموسيقية والإنشادية في عدد من مسارح حلب وزواياها، ثم بدأ أولى مراحل التلحين ليبرز كواحدٍ من أهم المراجع الموسيقية في حلب، إذ كان يحفظ مئات الموشحات القديمة، ويلمّ بأغلب المقامات والإيقاعات والأوزان الموسيقية الخاصة بالموشحات.
في عام 1910 إنضم البطش لفرقة الشيخ الحلبي الشهير علي الدرويش كمنشد وعازف إيقاع، ثم سافر بصحبته في عام 1912 إلى العراق في رحلة موسيقية استمرت لعامين، أسسا خلالها بعض الفرق الموسيقية واطلعا على الإرث الموسيقي في المنطقة ونشرا جانباً من التراث الحلبي هناك. وبعد عودته إلى حلب تابع عمله الفني كمنشد وعازف إيقاع مع العديد من الفرق الموسيقية وفرق الإنشاد، إلى جانب عمله في التلحين وفي توثيق التراث الموسيقي الغنائي، حيث ساهم في حفظ وإحياء الكثير من كنوز التراث الحلبي.
وبالإضافة لتلحين الموشحات كرس البطش حياته في تدريس فنون الموشحات ورقص السماح، سواء في منزله أو في معاهد حلب ومن ثم دمشق، وقد تتلمذ على يده كبار مطربي ومنشدي حلب، الذين أصبحوا من أعلام الفن وعمالقة الطرب، ومن بينهم: صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري وزهير منيني وبهجت حسان وحسن بصال وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تأثَّر العديد من الملحنين والوشاحين العرب بمدرسة البطش ونهلوا من فنونها الكثير من أساليب وطرق تلحين الموشحات واستخدام أوزانها وإيقاعاتها، وخاصة فنون الموشح الحلبي، ومن بينهم فنان الشعب سيد درويش، الذي يعد من كبار الوشاحين المصريين، كما ساهم البطش أيضاً في تطوير وإغناء عددٍ من موشحات درويش، وذلك من خلال تلحين خانات إضافية لها لتنويع لحنها الأساسي وفق قالب الموشح الحلبي الحديث، فعلى سبيل المثال أضاف البطش لموشح يا شادي الألحان الخانة التي تقول: “هات يا فتان أسمعنا.. نغمة الكردان”، وإلى موشح يا بهجة الروح أضاف خانة: “هات كاس الراح وأسقيني الأقداح”، وإلى موشح العذارى المائسات أضاف خانة: “من ثغورٍ لاعسات ذاق طعم العسل”.
في منتصف الأربعينيات ومع افتتاح معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، على يد الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات والخمسينيات، انتقل البطش إلى العاصمة، بدعوة من البارودي، ليدرِّس في المعهد فنون الموشحات والمقامات والأوزان ورقص السماح، كما قام بتأسيس فرقة موسيقية وغنائية وفرقة راقصة خاصة برقص السماح، وقد تتلمذ على يده مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز ملحني الموشحات ومدربي رقص السماح في سورية، ومنهم: صباح فخري، عدنان منيني، سعيد فرحات، بهجت حسان، عبد القادر حجار، وعمر العقاد.
مع افتتاح إذاعة حلب عام 1949، استعان القائمون عليها بالشيخ البطش ليقوم بتدريب الفرقة الغنائية التابعة للإذاعة على غناء الموشحات والأدوار وغيرها، وقد ضمت الفرقة، التي سجلت العديد من أعمال البطش، كبار المنشدين والمطربين الحلبيين، مثل: صبري مدلل ومحمد خيري وصباح فخري وعبد القادر حجار ومصطفى ماهر وحسن بصّال.
انتهج البطش بموهبته المتفردة والمبدعة أسلوباً جديداً ومبتكراً في تلحين الموشحات، وذلك عبر الخروج من وحدة الإيقاع ورتابة اللحن، اللتين كانتا تُثقلا القوالب الموسيقية الغنائية التقليدية، فأغنى قالب الموشح بالكثير من الإضافات والتنويعات الفنية على بنيته اللحنية والشعرية، ليعمل على تطويره وعصرنته كي يتلاءم مع ذائقة العصر الحديث، وليدخل بيوت جميع الناس، وتعشقه أذن المستمع العادي وأذن الموسيقي المحترف على حدٍ سواء. وإلى جانب ذلك ساهم البطش في إحياء الكثير من الموشحات القديمة والتي كانت مهددة بالاندثار، وعمل على تطويرها ومنحها روحاً جديدة بإضافة خانات لحنية عليها، لتغيير مسار ورتابة اللحن الواحد الذي كان يقتصر فقط على الدور.
تميز البطش بكونه مرجعاً هاماً في علم المقامات الموسيقية وفي التعريف بالمقامات النادرة منها، والتي تتطلب مسارات لحنية خاصة لكي تبرز شخصيتها الموسيقية، لذا كان يلجأ لتلحين موشحاتٍ على تلك المقامات لتكون بمثابة وسيلة شرح وإيضاح لها. ومن إحدى الطرائف الشهيرة التي تروى عن البطش عندما التقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي زار مدينة حلب في الثلاثينيات، أن عبد الوهاب أراد أن يمتحن البطش بطلبه سماع موشحات على مقام السيكاه الصافي، وهو مقام يناسب الألحان الشعبية، لذا لم يكن مستخدماً في تلحين الموشحات. أخبر البطش عبد الوهاب أنه سيسمعه ما يريد في سهرة اليوم التالي، ولأنه لم يكن يتوفر أي موشح على ذلك المقام، أمضى البطش ليلته في التلحين، فلحن ثلاثة موشحات على مقام السيكاه، وقام في اليوم التالي بتدريب فرقة تخت شرقي وعدد من المغنيين على عزفها وغنائها ليسمعها للموسيقار عبد الوهاب في الموعد المحدد، على أنها موشحات قديمة، وبذلك فتح البطش الباب أمام الملحنين لتلحين موشحات على ذلك المقام.
كبير الوشاحين العرب
لحَّن البطش خلال مسيرته الفنية نحو 135 موشحاً من عيون الموشحات العربية، تضمنت مختلف أنواع المقامات الموسيقية والإيقاعات والأوزان المركبة، وقد سجل أغلبها لصالح إذاعة حلب بعد افتتاحها، وغناها كبار المطربين والمنشدين السوريين والعرب مثل: محمد خيري، صباح فخري، ومصطفى طاهر، صبري مدلل، حسن الحفار وغيرهم، إلى جانب العديد من الفرق الموسقية السورية والعربية. ومازال المطربون والمغنون يتغنون بموشحاته جيلاً بعد جيل، كونها تضفي قيمة فنية كبيرة لمسيرتهم الفنية، إذ كانت ومازلت تشكل مرجعاً موسيقياً للباحثين في علوم المقامات والإيقاعات، وتُدرَّس في كثير من المعاهد الموسيقية كوسائل إيضاح للتعريف بأنواع المقامات والإيقاعات والأوزان المركبة.
ومن أشهر موشحات البطش: موشح يمر عجباً وهو على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع المخمس التركي، في الروض أنا شفت الجميل على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع الثريا، هذي المنازل على مقام الراست وإيقاع المخمس المصري، قم يا نديم على مقام النوا أثر وإيقاع الدارج/ يورك، مُنيتي من رُمتُ قربه على مقام الراست وإيقاع العويص، داعي الهوى على مقام العجم عشيران وإيقاع الشنبر الحلبي، وموشح يا مالكاً مني فؤادي على مقام العجم عشيران وإيقاع السماعي الثقيل والرقصان.
وإلى جانب ذلك لحن البطش عدداً من الموشحات الدينية والصوفية، ومن أبرزها: موشح يا مادحاً خير الأنام على مقام العجم عشيران، موشح لُذ في حمى خير الأنام على مقام النهاوند. موشح هام قلبي على مقام البيات. وموشح يا خير خلق الله على مقام الهزام. والموشحات الأربعة على إيقاع الوحدة الكبيرة.
تطوير رقص السماح
بحسب كثير من المؤرخين والباحثين تعود أصول رقص السماح إلى مدينة منبج في حلب وتحديداً إلى الشيخ عقيل المنبجي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وهو من أبرز شيوخ الطريقة الصوفية. ويُعرف رقص السماح بشكله التقليدي بأنه فن يقوم على تجاوب حركة القدمين مع إيقاع الموشح، وتمايل حركة الأيدي والجسد مع اللحن والكلمات، ويمكن أن يرافقه العزف على الدفوف. وقد بقي هذا الفن محصوراً بمدينة حلب حتى نقله الشيخ عمر البطش منها إلى دمشق، لينتقل بعد ذلك إلى عدد من الدول المجاورة. ويعود الفضل للشيخ البطش في تطوير رقص السماح وتقديمه بالصورة المعاصرة التي استمرت حتى يومنا هذا، حيث قام بتطبيق حركات الأيدي والأرجل على إيقاعات الموشحات، وجعل كل إيقاع من الموشح يختص بحركات للأيدي أو للأرجل أو لكليهما معا، ليتكامل التعبير الفني بين السمع والبصر، وليتجلى التجسيد الحركي للإيقاع ونبضاته بأبهى صوره، ولتبرز العلاقة المتناغمة والعميقة بين أداء المغني وحركة جسد الراقص الذي يمثل الحس الحركي للإيقاع في كافة تنويعاته. وبغرض إغناء وتلوين رقص السماح وإبراز جمالياته بأفضل شكل تعبيري ممكن قام البطش بتطوير آلية تلحين الموشحات، التي تُغنى مع الرقص، بإدخاله التنويعات الإيقاعية واللحنية المقامية على الموشح ومنح المغني مساحاتٍ للارتجال والتفريد بصوته. ومثالنا على ذلك موشح قلت لما غاب عني ، الذي يتضمن ثلاثة إيقاعات. يبدأ بإيقاع النواخت، وهو سُباعي بطيء، ثم ينتقل إلى إيقاع السربند، وهو إيقاع ثلاثي معتدل السرعة، ومن ثم ينتقل إلى إيقاع الدور الهندي، وهو سُباعي سريع، ليعود بعد ذلك إلى الإيقاع الأول.
أدخل عمر البطش الكثير من التغييرات والتنويعات على رقص السماح، الذي كان في الأصل رقصاً صوفياً، بغرض إخراجه من قالب “السماح الديني”، الذي كان يؤدى في الزوايا والتكايا الصوفية، إلى “ السماح المسرحي” الذي يؤدى على المسارح من قبل الفرق الفنية. ويعود له الفضل في إشراك النساء في رقص السماح، الذي كان في الأصل حكراً على الرجال، وفي جعله أكثر تعبيرية ومواكبة للعصر، وذلك من خلال تحديث الفضاء العام للعرض الراقص وتحديث أزياء وألبسة الراقصين، بإدخال بعض التطاريز والزخارف عليها لكي تعطي طابعاً أندلسياً.
في نهاية الأربعنييات وبرغبة من الزعيم الوطني فخري البارودي قام الشيخ عمر البطش، الذي كان يُدرِّس فنون الموشحات وعلوم المقامات ورقص السماح في المعهد، بإدخال رقص السماح إلى مناهج التدريس بعد أن طوَّره بشكل منهجي، كما قام أيضاً بتعليمه لطالبات مدرسة دوحة الأدب للبنات، وقد قدمت طالبات المدرسة عرض رقص السماح لأول مرة على مسرح مدرج جامعة دمشق، في الحفل السنوي للمدرسة، لتصبح عروض رقص السماح بعد ذلك جزءاً أساسياً من عروض حفلها السنوي على مدى سنوات.
وقد استمر تقديم عروض رقص السماح، من قبل العديد من الفرق السورية والعربية الراقصة، حتى يومنا هذا، وذلك استناداً إلى الأسلوب المُطور الذي ابتدعه البطش، ومن بينها فرقة أمية للفنون الشعبية، التي قدمت عشرات العروض ضمن أداء استعراضي مشترك بين الراقصين والراقصات، وتحت إشراف أبرز تلامذة البطش: الأستاذان عمر العقاد وبهجت حسان.
في أواخر حياته مرض البطش وضعف بصره حتى كاد أن يفقده، ثم تدهورت حالته الصحية وأصيب بالشلل قبل أن يفارق الحياة في نهاية العام 1950 عن عمر ناهز الخامسة والستين عاماً، أمضاه حارساً للتراث ومخلصاً لرسالة الفن والإبداع، ليُخلد كواحدٍ من عظماء الفن في القرن العشرين، ويُمنح العديد من الألقاب، ومن أبرزها: كبير الوشاحين العرب، عميد الوشاحين، شيخ الكار، عبقري الموشح، سيد درويش سوريا، مؤسس الموشح الحديث، ورائد الموشح في سوريا والعالم العربي.
يكتبُ الروائيّ السوريّ مازن عرفة (1955) نصّه بحرارةٍ تُشعلها الذاكرةُ ويطاردها الخوفُ وتُشتّتها السورياليّة المُطلقة. هذا ما نتلمّسه في أعمالٍ سابقةٍ له مثل “الغرانيق” و “سريرٌ على الجبهة” وصولاً إلى أعماله الجديدة “الغابةُ السّوداءُ” و “داريّا الحكاية”؛ يُمعن “عرفة” في تقديم مشاهداته السوريّة من بوّابة تجربته الذاتيّة ومحاكاته لواقع عايشه بالتفاصيل، ومرَّ عبرهُ بقسوة، ربّما احترق فيه ولم يُعد حتى الآن، لذلك لازال إنتاجه الأدبيّ عن سوريا دون تردد.
ثمّة فروق نقديّة توقّفنا عندها مع جديده اليوم، مثلاً حجم النصّ في كلّ رواية وأسلوبها ومعمارها الفنيّ. هناك تجريبٌ سرديٌّ لا ينتهي، ربّما مُشتّت، وآخرُ سبق وأن اختبرهُ قبل أعوام في أعمال سابقة. يتميّز صوته الروائيّ بزخمٍ مضطربٍ من الصور واختلاط الواقع بالحلم حتى حدود غير معقولة من الخيال والألم.
صدر للكاتب مؤخراً رواية “الغابة السوداء” (منشورات رامينا – لندن 2023)، ورواية “داريا الحكاية” (منشورات ميسلون – باريس 2023) واللتان كانتا “رواية واحدة، وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”، حسب ما قال “عرفة”، وللمزيد حول ذلك أجرينا معه الحوار التالي:
عمر الشيخ :هناك تداخلٌ ما بين وقائع شخصيتك الحقيقية، والشخصية التي تعيش صراعات “الغابة السوداء”، مثلا تذكر دراستك في بولونيا وبعض التفاصيل التي يمكن الوصول إليها ببحث بسيط عن سيرة حياتك الحقيقية، كأنك تحاول اقتراح حياة تبحث عنها أو عشت شيئاً منها، ألا ترى ذلك ضُعفاً في التجربة يستنزف قصص “الأنا” حتى الرمق الأخير؟
مازن عرفة: أستخدم في جميع رواياتي “الأنا ـ الراوي”، وهي مفضّلة لي بدلاً من “الراوي. العالم”، لأنّها أكثر قدرة على التعبير عن المشاعر والعواطف والتجارب الشخصيّة، وهي ترتبط عميقاً برؤيتي للحياة، وطريقة التعبير عنها. الحياة هي بالنسبة لي رواية (أو بالأحرى مزيج من الرواية/ الفيلم)، وأنا أعيشها كما لو أنّني في قلب شكل من “المُحاكاة الإلكترونيّة”، يُختزل فيها دور “الإرادة” إلى أشكال من “الاستيهامات” و”أحلام اليقظة”ـ سواء على المستوى الفرديّ أو الجمعيّ.، مقابل نوع من “الحتميّة الخفيّة” المتحكمة بنا (“العولمة”، خاصة بشكلها “الاستهلاكيّ الاقتصاديّ. الثقافيّ”، و”شبكات التواصل الاجتماعيّة الإلكترونيّة”، و”احتكارات الأسلحة والمخدّرات والجنس” العابرة للحدود بكافة أشكالها، وليس آخرها “الماورائيّات الدينيّة”).
أحاول دائماً عبر هذه “الأناـ الراوي” تسجيل تفاصيل الحياة اليوميّة، لكنّي أتركُ الفانتازيا تلعب بالوقائع، باستخدام مزيج من “الواقعيّة السحريّة”، و”السورياليّة”، و”الكوميديا السوداء”، الأقدر على التعبير عن “استيهاماتنا”، و”أحلام يقظتنا”. لذلك، يُسيطر الشكل “الأوتوبيوغرافي. الفانتازيّ” على ما أكتبه، وهو ما يتوسع دائماً بآفاق تجربتي الإنسانيّة، في تنوعات الزمان. المكان.
إضافة إلى ذلك، لا أجد في “الأناـ الرواي” أيَّ ضعف أو استنزاف لديّ، فهي تمثيل لـ”الأنا الجمعيّة” بغناها، التي تتمزّق وتتبعثر باستمرار في مجتمعاتنا العربيّة إلى عشرات الشخصيات. تعود هذه “الانفصاميّة التعدديّة”ـ مثلاً في المجتمعات السوريّة، والعربيّة الشبيهةـ إلى أن الفرد هو نتاج مجموعة من البُنى المتشابكة؛ سياسيّةـ اجتماعيّةـ تاريخيّة. وتتمثل بـ”الاستبداد الشرقيّ البطريركيّ”، “والعسكرة الأمنيةـ الستالينيّة، و”الذهنية الدينية الدمويّة المتوحشةـ الجّهاد”. هذه البُنى تجعل من الفرد الواحد ممزقاً بالكامل إلى عدّة شخصيات، تحدّد هويتهُ المُتقلبة بينها؛ الظروف المتغيّرة، فيلعب في الوقت نفسه أدوار الازدواجيّة لثنائية “الديكتاتورـ البطل الثوريّ”، أو “الجلادـ الضحية”، أو “الطائفيّ. العلمانيّ”، على سبيل المثال، مع القدرة على تلّبس أيّة شخصية منها، واقعياً، حسب الظروف التي يعيش بها.
عمر الشيخ :إلى أيّةِ درجةٍ تعتقدُ أنّ النجاة-الآن، ومأساة-الماضي، هي فرص حياتيّة تُتيح مساحة آمنة للحكاية التي تريد تتويجها كتاريخ ربّما أو كـ توثيق فنيّ للألم السوريّ على طريقتك الأدبيّة؟
مازن عرفة: تنتظم جميع رواياتي في إطار “الحكاية السوريّة”، بمعناها الواسع، أينما يعيش السوريّ، بما فيه عالم المنافي. في العادة، تبدو العودة إلى الماضي نوعاً من “النوستالجيا المرضيّة” ـ بالنسبة لي، ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث عشتُ طفولتي وشبابي، قبل انتشار الشكلين المتوحشين لـ”العسكرة” و”المدّ الدينيّ، الوهابيّ خاصة”ـ، إذ ينبغي للمرء أن ينظر للمستقبل بآمالٍ متجددةٍ. لكن عندما أنظر للمذبحة السوريّة الحالية، بآلام الحاضر وسوداويّة المستقبل المجهول أمامنا، أضطر للعودة إلى ماضي حياتنا ببساطتها، سواء الريفيّة أو المدينيّة. لا يكتفي كلٌّ من “البوط العسكريّ” والسيف الإسلاميّ” بتشويه سرديّة حكاياتنا؛ بل ويسعيان إلى خلق ترهات جديدة تلغي بساطتها وجمالياتها الإنسانيّة. لذلك، فالتوثيق الروائيّ لـ”الحكاية السوريّة”، على طريقتي بالفانتازيا، تجعلها عابرة لـ”الزمان ـ المكان”، كنوعٍ من مقاومة “الذاكرة الجمعيّة” ضدّ العبثيّة المتوحشة التي نعيشها!
عمر الشيخ :ما بين فصلي “الصور” و”المتاهة” حتّى النهاية؛ يُلاحظ في روايتك “الغابة السوداء” أن هناك انفلاتاً مفاجئاً من تجميع خطوط الحكاية عبر الشخصيات المحيطة بالشخصية الرئيسية التي تحكي بضمير المتكلم (أنا)، وتقذف بالقارئ إلى هلوسات لا تنتهي بين الماضي السوريّ والحاضر الألمانيّ، ألا تخشى على شكل معمار روايتك من التشتّت؟
مازن عرفة: بالعكس، التشتّت ليس في بنية الرواية، وإنّما في حياة “المهجر السوريّ”، وهذا ما أحاول أن أعكسه بكتاباتي. لا تنس أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة عشر مليون مهجر خارج سورية، وعدداَ آخر كبيراَ داخلها. وبالأصل كلّ منّا يعيش “المنفى” في داخله، سواء كان فيها أو خارجها. لكنّ الأزمات النفسيّة تتراكب لدى كلّ منا كمُهجرين، خاصة إلى أوروبا، تلاحقنا “كوابيس المذبحة السورية” ليلاً، لنستيقظ على كابوس نهاريّ آخر، مرتبط بضياع ذواتنا في مجتمعات نفتقد فيها الحميميّة الشرقيّة. نحن نعيش الحنين إلى “الحكاية السوريّة”، لكنّه تمّ تدمير أُسسها الماديّة! وإذا عدنا، لن نجد بيوتنا ومراتع ذكريات طفولتنا وشبابنا. وفي الوقت نفسه نحن نعيش في أوروبا دون “حكاية”، في حين أن أطفالنا سيبنون حكاية شخصية لهم؛ ألمانيّة، فرنسيّة، سويديّة…إلخ، أي حكاية سيقتلعون فيها بالكامل من جذورنا.
“ظلمة الغابة السوداء” تعيش في ذواتنا، على طريقة “جوزيف كونراد” في روايته “قلب الظلام”، التي نُشرت في نهاية القرن التاسع عشر، وأعادها فرانسيس كوبولا فيلماً “القيامة الآن”، في نهاية القرن العشرين. ومع أنني أستقي فكرة الظلمة من هنا، إلا أن “الغابة السوداء” لدي تصبح “الغابة المُنيرة”، عندما نتخفف من آلامنا بروايتها حكاية. والحكاية تعني الذاكرة والجذور، وبالتالي التماسك قدر المستطاع في وجه التشتّت والتمزق.
عمر الشيخ :هناك مسرحةٌ سورياليةٌ في الجانب الخاص بهلوسات بطلك في رواية “الغابة السوداء” وكأنّنا نتلمس نوعاً من “أدب الشواش” هنا. برأيك إلى أي حدّ يمكن للكاتب إعادة تدوير “ثيمة” الأحداث بما أنك تناولت حالة “الشواش” في روايتك السابقة “الغرانيق” بشكل كبير أيضاً؟!
مازن عرفة: في “الغرانيق” كانت شخصية “الأناـ الرواي” أكثر من مشوشة، كانت متقلبة بانفصاميّة متشظيّة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ موقف. كان هو “الشاب الثوريّ العنيف”، الذي سيتحول بظروف القمع إلى “إسلاميّ متشدد”، وفي الوقت نفسه هو “الزعيم الجنرال الديكتاتور”، و”المثقف الانتهازيّ المتقلّب”؛ جميعها وجوه لفرد واحد، حسب الظروف التي يعيشها. تطورات “الثورة السوريّة”، والعنف الدمويّ والتهجير الديموغرافيّ الذي سيرافقها… كلّ هذا جعل من الصعب اتخاذ مواقف حاسمة فيها، ناهيك عن لعبة “الضحيةـ الجلاد” المتبادلة لدى الفرد نفسه. المهجر السوريّ في “الغابة السوداء” يعيش واقعاً جديداً، فبالإضافة إلى تمزقاته التي يحملها في داخله من البلاد، ستنمحي شخصيته بالكامل (وبالتالي هويته)، في “اللا بلاد”؛ في مجتمعات مريعة، تفتقد الحميميّة والدفء الإنسانيّ والتكافل الاجتماعيّ في بنيتها، بعكس ما اعتاد عليه كشرقيّ. ويتحول بعد اقتلاعه من جذوره إلى أكثر من مُهمش، إلى مسحوق بالوحدة المُريعة، دون أن يستطيع الاندماج بما حوله، وتتحول حياته إلى عالم من الهلوسات مرتبطة بتمزقاته، وكأنّه يعيش في “محاكاة” مرعبة. نحن نعيش الشّواش والتمزق والضياع و”المنفى” في داخلنا أصلاً، لكنّها تزداد حدة في مجتمعات الغربة. ربما تلملم “حكايتنا” بعضاً من ذواتنا، وتعزز “الذاكرة الجمعية” كهوية، تصمد في وجه غربة نفوسنا، سواء كنا في البلاد أو خارجها.
عمر الشيخ :تبدو رواية “الغابة السوداء” تجربة أكثر اختزالاً عن رواياتك السابقة، من حيث الحجم وأسلوب البناء الأدبي وتكثيف الصور والجمل القصيرة، ووحدة الموضوع، وهي تعكس واقعيّة سحريّة من النوع المأساويّ، ولفتتنا جملة تقول “ماذا يعنني الاسم والهوية إذا لم ألتقِ أحداً كي أعرف عن نفسي؟” هل تعتبر تلك النظرة تبشيراً بالعدميّة الممتدة من سوريا إلى السوريين في لجوئهم؟
مازن عرفة: أعتمد في روايتي دائماً على عنصري “الغرابة” و”إثارة الدهشة”، في إطار عوالم مجنونة. في البداية، كنت أستفيض في الوصف رغبة في إيصال تفاصيل حياة يوميّة مُحددة. لكن في روايتيّ الأخيرتين؛ “الغابة السوداء”، و”داريا الحكاية”، وبسبب كثافة “الهلوسات” و”الكوابيس” و”اللّامعقوليّة”، التي تميزهما، وجدتُ أنّي بحاجة إلى تكثيف “المعنى” في كلمات جمل قصيرة، إنّما بطريقة شاعرية، تسمح بانفتاح المعاني على “استيهامات” مُتعددة. وقد تَطلّب هذا تطوير طرق التعبير الأدبيّ المكثف لدي، بحيث تقترب بعض النصوص فيهما من شاعريّة كثيفة، وأدى هذا إلى اختزال النص. لكن هذا لم يحدث عفوياً، ففي الأصل كانت كلتا الروايتين الأخيرتين رواية واحدة! وجهين متقابلين متشابكين لعوالم “البلاد” وعوالم “الغربة”. واضطررت إلى فصلهما بسبب إشكاليات النشر. رغم أن أوروبا تحترم “تعدّد الثقافات”، ضمن مفاهيم “حقوق الإنسان”، إلاّ أنّه في نهاية الأمر يبدو أن مفهوم “اندماج المهجر” يتطلب عملياً التحول إلى “برغي في ماكينة العمل الضخمة” لديها، والانغماس في “رتابة الحياة وإيقاعاتها السريعة”، ضمن تعقيدات مجتمعات عولمية متقدمة. وبالضبط من أجل هذا تستقبلنا أوروبا، وهي تفكر باحتياجاتها الاقتصادية. وإذا كان جيلنا يعاني تمزق “الهوية” في مجتمعات غريبة بالكامل، بعيداً عن حميميتنا الشرقية، فماذا سيحصل مع أجيالنا التالية، التي لن تتذكر سورية التي نعرفها، خاصة في ظل احتلالات يبدو أنها طويلة الأمد؟ ربما يحاول كلّ منها فرض قيمه الخاصة، بالارتباط مع تغيير “البنية الديموغرافية” فيها. هل ذلك عدمية، أو واقع…؟
عمر الشيخ :لاحظنا وجود صراع أخلاقيّ لدى البطل في تبرير سلوكيات أصدقائه في مجتمع منفتح مثل ألمانيا، وشيئاً من الإضاءة على “ازدواجيّة المعايير”، “العنصرية”، “التطرّف”، “فوبيا الدين”.. وتفكيك مفرداتهم وقصصهم وظهوره كضحية إلا قليلاً! أضف إلى أنّه على نحو ما يبدو رومنسياً بشكل غير معقول، هل تريد الإشارة إلى مدى السذاجة التي تعاني منها الشخصية السورية في المنفى؟
مازن عرفة: شخصياً أعد نفسي مواطناً أقرب إلى “الكوزموبوليتانية” بثقافات متعددة؛ “عربية”، و”فرنسية” و”بولونية” (عشت في بولونيا ما يقارب ستة أعوام)، والآن “ألمانية”، فلا أجد أي مشكلة لي في مجتمع غريب. لكن أفكر بجيل المهجرين السّوريين، خاصة الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين، الذين قدم معظمهم إلى بلد أوروبي لأول مرة، يحملون في لاوعيهم “ما ورائياتهم الدينية”، و”نرجسياتهم وخيلائهم الشرقيّ” المرتبطة ببنى “ما قبل الحداثة”؛ “الطائفة” و”العشيرة” و”العائلة”، والأهم “اعتيادهم على الانفلات من القانون” في مجتمعات “الفساد العربيّة”. مثل هؤلاء سيصطدمون بشكل مريع بقيم مخالفة لهم ومستفزة؛ “سيادة القانون”، “المجتمعات اللادينية”، “ممارسة الجنس فيما قبل الخامسة عشر”، “مجتمع (الميم) بعوالم المثليين والمتحولين جنسيّاً”، “شرعنة تدخين الحشيشة”، “منع الأهل من ضرب الأطفال”، “حرية اتخاذ الأولاد قراراتهم، والانفصال عن أهلهم بحماية القانون”… هم لا يستطيعون منع جيل أطفالهم من الاندماج في هذه الحياة، ولا يسعهم سوى أن يتمزقوا، ولا يبدو الموقف عندئذ “موقف أخلاقيّ” أم لا. أنت أمام مجتمعات استقبلتك بكل احترام كـ”مهجر حرب” وقدمت لك المأوى والأمان وفرصة العمل الكريم، وهو ما افتقدته في بلدك، فماذا تفعل أمام قيمها الاجتماعيّة المغايرة.
عمر الشيخ :“داريا الحكاية” كانت تتسلسل ببداية ممتعة عن تفاصيل سورية عريقة في تاريخ المجتمع وعاداته وتقاليده، ما لبثت الرواية إلى أن تحولت إلى ساحة حرب، هل تحاول أن تظهر لنا بساط الحياة التي كانت وانقلابها مع وجود العسكر في السلطة؟
مازن عرفة: ليس فقط وجود العسكر في السلطة، وإنّما أيضاً انتشار المدّ الإسلاميّ، برمزيتهما معاً “البوط العسكريّ”، و”السيف الإسلاميّ”؛ وجها القمع للعملة نفسها، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. في جميع رواياتي، أحاول إعادة إحياء “الحكاية السورية” بجذورها، ليس كـ “نوستالجيا”، وإنّما في مواجهة “التشويه” الذي نالها من هذين الطرفين. في بداية “داريا الحكاية” استخدمت شكلاً من “الواقعية الشعريّة” لوصف حياة الناس البسيطة، قبل “عسكرة البلاد” بشكل شمولي. لكن، بالوصول إلى حاضرنا مع “الربيع العربيّ” وتداعياته المأساويّة، لجأتُ إلى نوع من “سوريالية اللّامعقول”، وهو ما لا يمكن وصف ما حدث فعلاً في الواقع إلا بها. يُضاف أنّه بواسطتها يمكن الذهاب من الخاص إلى العام، لتشمل ليس فقط المناطق السورية الأخرى، وإنّما أي مكان أو زمان تنتهك فيه كرامة الإنسان بوحشية الحروب ومجازرها.
عمر الشيخ :شعرنا في “داريا الحكاية” بالكثير من الاضطراب بسبب كمية الكره نحو شريحة اجتماعية تنتمي لها سلطة النظام في سورية، ألا يخيفك هذا الانحياز بوضع كلّ من ينتمون لتلك الشريحة بأنهم متهمون أيضاً، حتى لو لم يوافقوا على إرهاب تلك السلطة وأفعالها؟
مازن عرفة: ليس اضطراباً، وإنّما مواجهة واقع حدث فعلياً، حتّى نفهم كيف تطورت الأمور لاحقاً، بهذا العدد الهائل من القتلى والمعوقين والمهجرين المشردين، بما فيه مشروع “التغيير الديمغرافيّ” في سورية، وهو ما يتم الحديث عنه بالملايين بلغة الأرقام. استغلت السلطة الديكتاتوريّة العسكريّة التجييش الطائفيّ في قمع سلمية “الربيع العربي”، وهو ما أدى إلى ظهور “الأسلمة” بوجهها الوحشيّ ضمن ظروف إقليمية ودولية معقدة. وبالتأكيد، لا ينبغي تعميم رموز القمع من أي طرف على أي مجموعات أثنيّة أو دينيّة أو طائفيّة، إذ إن كثيراً من أفراد من هذه المجموعات لهم تاريخ نضاليّ طويل من أجل الحريّة ضد السلطة الديكتاتورية نفسها، قضى قسما كبيراً من حياته في المعتقلات، قبل في “الربيع العربي”، وشارك في بداياته السلمية. وهم أصدقاء شخصيون يعيشون الآن المنافي مثلنا. يستند مشروعي الروائيّ كلّه عن “الحكاية السورية” على مواجهة سوريالية ما حدث، بالسوريالية نفسها، كأحد أشكال الفانتازيا.
عمر الشيخ :هناك نوع من الموافقة الضمنيّة على استخدام “أدبيات إعلامية” ليست دقيقة، كانت قد أنتجتها فئة من “المعارضة السورية” ألا تعد ذلك شحاً بالمخيلة لإعادة انتاج مفردات رمزية تبعد العمل عن خانة التصنيف الفوريّ بأنه مراجعات أدبية عن تقارير واقعية لأحداث وثقها الإعلام؟
مازن عرفة: الرواية هي رؤية أدبيّة ـ فانتازية، تحاول أن تنتقل من خصوصيّة منطقة، للتعميم على جميع المناطق السوريّة. لكنّها تنهض في الوقت نفسه على وثائقيّات محدّدة؛ الأول منهاـ وهو الأهمّ. ما شهدته أنا نفسي شخصياً، وقد عشتُ هذه الفترة في بلدتي بريف دمشق الغربيّ، المُلاصقة لداريا، بكلّ أجواء جنون المجازر الوحشيّة السائد وقتها، وربّما نجوت بحياتي منها بالصدفة. وثانياً شهادات أصدقاء من أهالي داريا أنفسهم، الذين نجوا من المجازر فيها بأعجوبة. لكن إلى جانب ذلك، كانت هناك مفاتيح مهمة، هي تلك الوقائع الموثّقة بالفيديوهات، ومن قبل منظمات دولية. الكثير منها هي من وثائقيات النظام الديكتاتوري نفسه، التي يفتخر بها. لا توجد عائلة في سورية إلا ولها قتلى في “المُعتقلات السوريّة”، وتحت “البراميل المتفجرة”، ومهجرين مشردين لكني في روايتي كنت موضوعيّاً، فالفصل الرابع، وهو من أهم الفصول التوثيقيّة، الغارق بالكامل بـ”سوريالية الجنون اللّامعقول”، يستند على واقعة قامت فيها “داعش” بسحق أحد الجنود تحت جنازير دبابة، مقابل وقائع شبيهة قام بها الجنود المتعصبون وميليشياتهم في الطرف المقابل. الضحية في كلّ الأحوال هي “الإنسان السوريّ”.
عمر الشيخ :انتقدت في ختام روايتك “لغة الدّم” ألاّ ترى أنك أيضاً استخدمت ذات اللّغة في تجسيد الوجع السوريّ في هذا العمل، ألا يمكن للأدب أن ينجو من الدم؟ وإذا كان الجلاّد شريراً هل يجب أن نكون أكثر شراً منه لنرفع صوتنا؟ ألا ترى ذلك تجريداً من الإنسانيّة يجرنا نحو وحشية مطلقة؟
مازن عرفة: الراوي في “داريا الحكاية” يحمل جُثث المجازر في داخله، ترافقه في الذاكرة دائماً، هي “حكاية السوريّ” أينما تنقل. الجُثث برمزيتها ضاجة لا تهدأ، إلا إذا تم رواية حكاياتها للزمن. حدث هذا أيضاً في “الغابة السوداء”، حيث ستتحول في داخلنا إلى “الغابة المُنيرة”، بمجرّد أن نروي حكاية مآسينا، ونتخّف بذلك من آلامها. الهدف من رواية “الحكاية السوريّة” في “مشروعي الروائيّ” هو تحدي رموز القمع بكافة أشكاله، وتوثيق مجازره، وإنّ عن طريق الفانتازيا، حتّى لا ننسى. وسيأتي الزمن المناسب، ويحاسب التاريخ رموز القمع هذه بكافة أشكاله. ليست وظيفة الأدب التغيير السياسيّ المباشر، وإنّما هو نشر الوعي بقيم الحياة الإنسانيّة واحترام حقوق الإنسان وكرامته.
منذ البداية ندرك أن رغبة الكاتب باسم خندقجي في روايته “قناع بلون السماء” تتخطى هاجس دحض قصة دان براون عن مريم المجدلية في رواية شيفرة دافنشي، إلى التلويح بأهمية كشف الزيف الذي عممته الحركة الصهيونية على العالم، خشية أن يكرسه الزمن لدى الأجيال الجديدة بينما مازال هناك فلسطينيون تُغيّب حياتهم بقسوة، فالبطل نور دارس الآثار يرى أن في إحياء حكاية مريم المجدلية المغيبة قسراً إحياء لهويته المسلوبة والتي تعمل دولة الاحتلال على محوها، إذ أغفلتها كتب التاريخ المتبناة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية وأهملت إنجيلها، رغم أنها أقرب التلاميذ للمسيح. ويرى ذلك في صلب تفكيك التفاصيل المعرفية والثقافية والتاريخية للدولة المستعمرة من أجل تمزيق الأقنعة التي تحتال بها على العالم عبر إحياء حقائق أغفلها التاريخ. هكذا تعيش رواية في قلب رواية خندقجي وتنتظر أن يكتبها بطله، فتتشابك الروايتان وتستمد إحداهما الإشارات من الأخرى، في سرد يجدله بطريقة مثيرة للانتباه، مليئة بالإسقاطات من الحكاية إلى الواقع إذ يستطيع القارئ أن يلاحظ كيف يوازي بين رموزه ليمنح الحياة لإحدى روايتيه من الأخرى وبالعكس، بينما يقوم بطله نور بإطلاعنا على الحقائق التي وصل إليها وطريقته بالتقصي، في أسلوب شيق وذكي يخرج من البكائيات إلى المغامرة في التعامل مع واقع الاحتلال الضاغط. يعيش البطل أزمته العامة تحت خطر الاعتقال والاختطاف والحرمان من الحقوق كما حدث مع صديقه مراد في مخيم يضيق بسكانه، إضافة لأزمته الخاصة في أسرته التي سُلب تاريخها النضالي وتراثها العريق فانكفأت للصمت. كانت ملامح نور الأوربية الشبيهة بملامح الأشكناز تساعده في المواقف الحرجة كما لو كانت قناعاً يساعده في التنقل، إلى أن دعمتها الصدفة بقناع آخر، حين عثر على هوية إسرائيلية باسم أور شابيرا في معطف ابتاعه من سوق الخردوات، فاستطاع التحرك بحرية ودخول القدس للعمل ومن ثم الالتحاق ببعثة أثرية في سهل هر مجدون سعياً وراء مشروعه الروائي. يقدم باسم خندقجي عبر تنقلات بطله صورة حية عن الداخل الفلسطيني الذي يتقلب على السفود، في ظل محاولات تهويد القدس وتهجير سكان حي الشيخ جراح والهجوم المتكرر على الأقصى ومقاومة الفلسطيني الأعزل، كما نتعرف على حياة سرية للقدس كوجود جماعات صوفية فيها، ونرى وجه السكان الآخر (المحتلون) عندما يزور المستوطنة القريبة من مكان البعثة الأثرية، متتبعاً آثار المجدلية. يوازي الكاتب بين نور والفخار المكسور في الحفريات بينما يشعر نور أثناء التنقيب أنه يلتحم بالأرض، ويصبح معها جسداً واحداً، كأنه يستعيد انتماءه الذي جرد منه وهويته المسلوبة، وثقته بنفسه منفصلاً عن العالم الذي أنكره كما أنكر بطرس المسيح.
قناع لكل البلاد كانت هوية أور قناعاً لنور، بينما نشاهد أن الاحتلال ألبس البلاد كلها قناعا ليخفي الماضي الذي لا مكان له فيه، فأعاد رسم الجغرافيا على هواه، وزرع سفوح الجبال بالأشجار ليدفن بقايا القرى المهجّرة والمدمرة، وآثار الفلسطينيين المهجرين. وهو ما ذكرته عدنية الشبلي في روايتها “تفصيل ثانوي” إذ تختفي من الخارطة عشرات القرى الفلسطينية ويصبح مكانها منتزه كندا، وما يؤكده الكاتب اليهودي أبراهام يهوشع في روايته، كما يخبرنا خندقجي، حيث يجعل الفلسطيني حارسا للغابة ويقطع لسانه فيقوم هذا بحرق الغابة لتظهر الحقيقة عارية في بقايا القرى المطمورة. لكن خندقجي لم يستخدم أسلوب عدوه رغم كل ذلك، بإلغاء وجود الآخر وتاريخه في معرض دفاعه عن وجوده التاريخي، فالبحث الذي أنجزه نور في دراسته كان عن ثورة باركوخبا اليهودية بعد سنة من صلب المسيح ضد الرومان، والتي أخمدت على يد الفيلق الروماني السادس الذي عسكر في منطقة تنقيب البعثة الأثرية. يزيد استخدام القناع الهوية من تمزق نور النفسي حيث يصبح العدو ليس فقط في خارجه بل يعيش في جسده وهذا الالتباس يجعله في ذروة التوتر وعدم تحديد المفاهيم فيشعر بالخيانة والخجل من زميلته في البعثة الأثرية (سماء الحيفاوية) التي كانت تحاول شرح الحقائق للأعضاء الأجانب دون خوف. تنتهي أعمال البعثة بشكل طارئ بعد اشتعال المواجهات بين حماس والاحتلال فيقوم نور بإنهاء تمزقه النفسي بتمزيق الهوية القناع والذي يعني في اللغة العبرية المسخ، مستعيداً كيانه وانتماءه الذي يعلو على زيف الجغرافيا كأنه سماء ناصعة ويشتبك ذلك بإعلانه الانتماء لسماء الحيفاوية التي يراها في لحظة ما صورة المجدلية النورانية. تابع باسم خندقجي في روايته التي نالت البوكر العربية هذا العام، شد القارئ بلغة جميلة ومعبرة صادمة وسرد شيق وغني بالمعلومات يتنقل بين الميتا سرد والاسترجاع والمونولوج عبر أسلوب الرسائل الصوتية التي كان يسجلها البطل لوضع التصور الروائي لروايته أو للتواصل مع صديقه مراد رغم أنه لن يسمعها، و لتفريغ الغضب المحتقن جراء الازدواجية التي يعيشها وتقريعه لنفسه بتهمة الخيانة، كما تجلى الصراع الداخلي في حواراته مع أور شابيرا صاحب الهوية المتخيل في لعبة ذكية لإيصال صوته المقموع والمصادر، في غزارة تاريخية و كثافة أدبية لافتة. هكذا يلعب خندقجي وهو الأسير المحكوم بالسجن مدى الحياة وحيث كتب رواياته ودواوينه الشعرية، لعبة الثنائيات: بين الماضي والحاضر، فعمل نور وعمل مراد صديقه في السجن والذي ينجز رسالة الماجستير عن بنية الدولة الاسرائيلية الكولونيالية عملان يسيران في طريقين متعاكسين زمنياً ومترابطين بدقة. وثنائية المحتل اللاجئ، الحرية والسجن خلف القضبان أو في المخيم المحاصر، إلى ثنائية الهوية في شخصيته المقنعة بينما صديقته سماء وشمت على يدها (حيفا 1948) في دلالة انتماء لا يبطله إلا الموت أما أور شابيرا اليهودي فقد نسي هويته في معطف باعه في سوق الخردوات وأي هوية تباع في سوق الخردوات؟ لنصل إلى الثنائية التي يشير إليها منذ البداية وهي ثنائية الواقع والخيال فنور يتعجب كيف استطاع الخيال أن يقود شعباً لاستملاك بلاد ليست لهم، وتهجير أهلها والاستمرار بالخديعة التي يصفق لها العالم كتعويض عن الهولوكوست، مقارناً بين المخيم والغيتو ومتسائلاً عن مستقبل المخيم بعد سبعين عاماً! الخيال ذاته جعل براون يمنح المجدلية حياة متخيلة، هكذا يكتب الرواة رواياتهم، فهل للفلسطيني أن يعيد حكايته للتاريخ في رواية تقلب الطاولة على رؤوس الرواة جميعاً؟
لا أخفي ارتباكي وأنا أكتب عن ديوان (تحت شجرة بوذا) للشاعرة فرات إسبر التي تخطت بشجاعة وصدق كل الخطوط الحمراء في الكتابة التي يضعها عالمنا العربي لدرجة أنني توقفت مراراً مبهورة بجرأتها وسعيدة أنها قفزت فوق الرقابة. ديوان أشبه بجدارية عن الوطن والغربة والحنين والحب واليأس والأحلام، شعر يزخر بمشاعر غنية بالحياة والماء والزهور والأشجار والدماء، ووجدت نفسي أمام تحد في كتابة مقال يُعبر عن روح الكتاب. لذا وجدت الأنسب أن أختار جملاً معينة من قصائد مدهشة الإبداع تختزن روح الشاعرة المبدعة. في مقطع بعنوان موت تُعبر الشاعرة عن نفسها: بقدر ما أحيا أموت وبقدر ما أموت أحيا –تزهر حياتي مثل ربيع– وأجمع أوراقها مثل خريف. ولم أعرف لماذا تذكرت عبارة سيمون دو بوفار (نحن لا نولد نساء بل نُصنع نساء) لأن فرات إسبر في ديوانها (تحت شجرة بوذا( كتبت عن المرأة كإنسانة وليست كأنثى. ورغم إعجابي الكبير بالشاعر نزار قباني وهو شاعر المرأة والحرية، فإن أغلب أشعاره كانت عن افتتانه بالأنثى المثيرة والساحرة، لكنه برأيي لم يغص كثيراً في روح المرأة كإنسانة، بل ظهرت نرجسيته الذكورية في جمل كثيرة (وما بين حب وحب أحبك أنت). لا أقارن على الإطلاق بين شعر نزار قباني [وهو أيقونه في الشعر والإبداع وبين شعر فرات إسبر]، لكن أصابني ذهول وأنا أقرأ عبارة ( حيضهن تخضر الأرض) هي عبارة ثورية وفيها تحد كبير لكل المفاهيم الدينية خاصة والاجتماعية التي تعتبر المرأة في فترة الحيض مدنسة لا يجوز أن تصوم ولا تدخل الكنيسة أو الجامع وبشجاعة امرأة تتفجر الحرية في أعماقها وتقدس المرأة كواهبة للحياة والحب. المرأة التي كانت في زمن مضى آلهة [آلهة الخصب والحب والإنتقام.. ]، تأتي عبارة (وبحيضهن تخضر الأرض) كإعلان ثورة لمفهوم الحيض الذي يُغني الأرض بالدم وعندها تنبت الأشجار والنباتات.
تكتب فرات عن الله بحرية متصوف لا يحتاج لوسيط بينه وبين إلهه في مقطع بعنوان (انهض يا قلبي الينبوع): سكرتُ سكرتُ، اليوم بالدمع –
قلتُ لربي: آه يا ربي، هذا النبع قيدني بالدمع.
طفتُ في الأرض سكرى من شدة الوجد
وقلت لكل زهرة عند مفرق النبع –
ها قلبي – ها قلبي –
أطوف به بين الدرب والدرب
– بين الوهد والوجد .
تبحث فرات في كل شعرها عن مُسكن للحنين إلى وطن تعشقه، عارفة سلفاً أن لا دواء للحنين أتأمل ما كتبت: من يؤنس وحشة الضوء بعد هذا الكسوف؟ في سماء كلها سفر إلى جنه أو عدم نتقاسم الذكريات كأنها رغيف خبز نصف لي ونصف لذاكرتي التي تنقر ذاكرتي وتُشجعني على النسيان . هذه الذاكرة طوفان والزمن رسام بديع.
لكنها تعرف أن النسيان مستحيل وأن وجع الحنين لا دواء له تعبر عن وجع الحنين:
لي مدينة اسمها الأسى – ولي قلب اسمه الشوق !
لا يفصل المحيط فرات إسبر عن مدينتها الساحلية الجميلة جبلة، تعبر روحها المشتاقة إلى حد الوجد المحيط لتقف في موقف باصات جبلة، وتجلس قرب بحرها وتتأمل الزهور على نوافذها، وتحس بوجع الحنين والكارثة التي حلت بسوريا. لم تجعلها الغربة تنسى أبداً مدينتها جبلة ولا تنسى اللاذقية ودمشق وتتذكر أدق التفاصيل وباعة الكتب المستعملة في دمشق، فرات تحس أن للأمكنة أرواحاً وروحها مسكونه بعشق وطن يستحيل أن يخف.
أنام على حلمي بدون وسادة مسكونة بالوحدة حتى الموت.
وتعترف بهزيمتها حين تقول: أنا الغريبة التي أجيد اللغات والكتابة ولكنني لا أجيد قتل الحنين.
في مقطع بعنوان (رجفة): الشجرة ترتجف أمام الباب – أنظر إليها ، تنظر إلي – غصن أخضر منها، غصن يابس مني – اتحدنا في دورة الحياة – وكسرتنا الرياح.
لا أخفي إعجابي بالإبداع والفكر الحر حين تكتب: أحب الضعف كي يحبني الله
أحب القوة كي لا أحب الله. أهذا اختبار القوة أم اختبار الضعف يا الله؟
تكتب عن الحب:
اليأس خلق سماء بيننا أعطى معنى لي بأن لا أعود إلى المُتشابهات / أنت من طين وأنا من ماء. كلما جُبلنا إزددنا إبتعاداً
– أيها الحب، أغنية أنت في أذني التي لا تسمع، وفي عيني التي لا ترى، فاذهب إلى مصيرك حيث الصوفي والعاشق الواهمون بوجودك، ويصورونك بالبديع من الجمل.
ولا ثمار في القبل.
وجع الوطن ينخر في قلب فرات، موجع ومؤثر ما كتبته عن سوريا وعن جبلة وعن دمشق كم مؤلم أن تكتب: بلادي يُوقظها الدم من نعاسها، يضع خنجراً في صدرها ويدعوها للصلاة.
وتكتب: شقيقان نحن يا هابيل، شقيقان يا غراب، الأرض سدوم كلها والإنسان جرح يقطع بطنها.
وتضيف: أسمع صوت نساء الحارة الغريبات، الوحيدات، الحزينات. ومن رماد إلى رماد أنطفئ شوقاً ثم أموت.
كنتُ أتمنى لو أعيد كتابة الديوان كله (تحت شجرة بوذا)، فمن الصعب تقطيع الإبداع، لكني حاولت أن أنقل روح مبدعة حرة لا تعترف بالخطوط الحمر ولا بالسقف المنخفض للإبداع، لأن الإبداع الحقيقي لا سقف له وقد يصل إلى السماء ويتجاوزها. أخيراً أختم بعبارة كتبتها فرات: ليموت الوحش لتقتله الشاعرات.
قرأت الكثير من الشعر لشاعرات ومنهن مبدعات لكن كانت أغلب المواضيع التي تناولنها بشعرهن عن ظلم المرأة وآلام الحب، وظلم القوانين والرغبة بالتحرر والحرية، لكن ظل الخوف كوشاح يُغلف تلك القصائد. لم تكتب شاعرة عبارة ثورية كما كتبت فرات (بحيضهن تخضر الأرض)، ولم أقرأ لشاعرة حواراً لها مع الله بحرية دون أي اعتبار لجنات الخلد ولنار جهنم. فرات تتكلم مع رب العالمين الذي خلقها حرة أي تفكر بحرية، وتسأل وتعترض. أحد الفلاسفة يقول (الإنسان سؤال) .
أخيراً حين أنهيت قراءة ديوان (تحت شجرة بوذا) لفرات إسبر وجدتني أفكر في فيرجينيا وولف ولا أعرف لم فكرت بها بعمق وهي العظيمة التي أعتبر نفسي تلميذتها، فثمة رابط خفي بين كتابة فرات إسبر الحرة وبين كتب فيرجينيا وولف خاصة كتاب (غرفة تخص المرء وحده)، وهو كتاب نقدي للعديد من أهم روايات بداية القرن التاسع عشر. روايات لكاتبات عظيمات اضطرهن ظلم المجتمع أن يكتبن بطريقة تحميهن من الأذى والمحاكمة وربما القتل، كل الكاتبات اللاتي كتبت عنهن فيرجينيا وولف لجأن إلى أن تكون بطلة الرواية (مجنونة) لأن المجنون لا يُحاسب على أقواله وأفعاله، وكان صوت المجنون هو صوت الكاتبات.
فرات إسبر لا تحتاج أن يكون بطل شعرها مجنوناً فهي تملك روحاً حرة وجرأة، وربما من حظها أنها بعيدة عن العالم العربي الذي يتراجع في مجال الحرية ويدين ويُكفر.
نحن نحتاج في هذا الزمن إلى شاعرات تحديداً يقطعن الصلة مع ماض متخلف مع جرائم الشرف والعذرية، وربط شرف المرأة بالرجل الذي يُقرر حياتها. نحتاج إلى ثورة فكرية أولاً ثم تلحقها الثورة الأدبية والفنية. وأحب أن أختم بعبارة عظيمة للشاعرة الإيرانية (فروغ فرخ زاد) التي كتبت (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة)، كان ثمن هذه العبارة أن طلقها زوجها وطردها والدها من البيت.