نوروز.. حكاية متجذرة في الدم

نوروز.. حكاية متجذرة في الدم

تحتضن نيران عيد “النوروز” فرحة المحتفلين الأكراد بقدومه في 21 آذار من كل عام، فتمتزج حلاوة استقباله بشغفِ آلامِ شعبٍ واكبَ القدرُ أزماته، فشهرآذار كما تقول “هيوا جميل” مدرسة اللغة الكردية: “لايمرّ مرور الكرام على الأكراد إلا ويجرّ خلفه مجزرةً، ويمضي بعد أن يأخذ  حصته من قرابين احتفائه،  لكن يبقى نوروز العيد الذي يتوج الفرح على بروج قلوبنا، ففي النوروز تمتزج الكرديات مع الطبيعة بزيهن الفلكلوري الذي يسحر بريقه ولمعانه وألوانه الزاهية الناظرين إليه، فأنا حين أرتدي زيي الشعبي أشعر أنني أصبحت ملكة، فألوانه وتصاميمه تشعرني بالماضي النابض في حاضري ومستقبلي.”

يُعتبر عيد النوروز من الأعياد القديمة والعريقة للأكراد فهم يحتفلون به منذ آلاف السنين، وهو يعتبر عيد ميلاد للطبيعة وعيد الحركة والنشاط والنمو والازدهار وتفجر الطاقات، وكما تضيف هيوا: “يصادف التحول الطبيعي في المناخ والدخول في فصل الربيع الذي هو فصل الخصوبة والنماء، وتجدد الحياة، فهو يحمل بعدًا قومياً عند الكرد، وصفةً خاصة مرتبطة بقضية التحرر من الظلم”.

صورة رقم 1: تظهر جزء من احتفالات عيد “النوروز”

 شعلة كاوا الحداد

في ليلة العشرين من آذار (مارس) تضرم شعلة “كاوا الحداد” في كل المناطق الكردية إعلاناً عن قدوم عيد رأس السنة الجديدة عندهم.

بحسب الباحث والكاتب الإيزيدي “سالم الرشيداني” فإن عيد نوروز الربيعي يعني عند الأكراد ذكرى قومية ليوم تحررهم من الظلم والعبودية، حتى وإن كان ذلك من خلال ملحمة رمزية شعبية (كاوا الحداد) فالأسطورة الكردية تقول باختصار “إنّ ملكاً آشورياً شريراً اسمه (ضحاك أو زوهاك)، وفي مصادر أخرى كان ملكاً فارسياً، وبسبب شروره الكبيرة، كذبحه لأطفال الكرد، تغيب الشمس وترفض أن تشرق ثانية، وحتماً غيابها أدى إلى موت الحياة النباتية وجوع البشر. وبعد حزمةٍ من الأحداث المأساوية يبزغ نجم بطل قومي كردي اسمه (كاوا الحداد)، الذي يوقد النار في قلعة الضحاك ويقتله. عندئذٍ تشرق الشمس ثانيةً حسب الأسطورة، وتعود للأرض خصوبتها ورونقها واخضرارها، وبهذا تصبح نار قلعة الضحاك رمزاً لعيد النوروز الكردي.”

صورة رقم 2: الكاتب سالم الرشيداني

وللتأكيد على رمزية كاوا كبطل قومي في الحكايات الشعبية المتداولة بين الكرد، يزعم الباحث الرشيداني أنّ اندلاع ثورة (كاوا) قد تزامن مع  “نوروز السنة الإيزيدية التي أرجئت الاحتفالات بها وإشعال النيران المقدسة خلالها بسبب وقوع الشعب الإيزيدي الكردي تحت اضطهاد حكم الضحاك الجائر. وعند قيام البطل كاوا الحداد بقتله أشعل النيران الاحتفالية علامةً للانتصارالمقدس للنور على الظلمة لأن شمس الحرية للكورد عادت من جديد. فلا غرابة من الجزم بأنّ عيد النوروز عيد كردي، لكن لا بد من الإشارة إلى اليوم الذي كان يحتفل به قديماً والذي يصادف يوم “سري سالي الإيزيدية” (أي رأس السنة الإيزيدية)”.

صورة رقم 3: دبكة جماعية بمناسبة عيد “النوروز”

نوروز (اليوم الجديد)

يشير ابن مدينة كوباني الشاعر (جان إبراهيم) إلى أن نوروز كلمة مركبة، فشقها الأول هو نو Nû ويعني الجديد، والشق الثاني إلى روج (ro j) وتعني اليوم، وبذلك تكون تسمية نوروز أصلها نوروج Nûroj وتعني اليوم الجديد في السنة الجديدة، أي رأس السنة الذي يعتبر أيضاً رأس السنة لدى شعوب آسيا الوسطى وغربي آسيا وبلاد القوقاز، وبعض شعوب الشرق الأوسط كالمصريين الذين مازالوا يحتفلون به باسم “عيد شم النسيم،” والإسماعيليين، وعند الأمازيغ يسمى عيد «ثافسوث».

ويتابع جان إبراهيم حديثه موضحاً بأن الزرادشتيين يعتقدون أنّ الإنسان قد خلق في الحادي والعشرين من آذار، وأنّ الملك ضحاك في الرواية الفارسية الذي انتصر عليه كاوا الحداد هونفسه الملك “جمشيد،” وأنّ النوروز هو ثورة على الظلم والطغيان والخلاص من الاستعباد والقتل.

وبحسب رواية الباحث المصري”عبد الكريم شاهين “كان ذاك الملك يقوم بقتل خيرة الشباب الكرد وبشكل يومي واستخدام مخاخهم كدواء للداء الذي ألم به، ولكنه قتل على يد الثائر كاوا الحداد وبذلك تحقق النصر على الطغيان، وأشعلت النيران في كل مكان احتفالاً بالنصر العظيم، وأقيمت الدبكات والاحتفالات وحلقات الرقص على أنغام الموسيقا الشجية”.

صورة رقم 4: الشاعر جان إبراهيم

طقوس الاحتفالات

تُشير “عزيزة فرحو” مسؤولة منظمة الدفاع عن حقوق المرأة الكردية في سورية ورئيسة تحرير مجلة بيلا سابقاً إلى أنّ الكرد يحتفون بعيد نوروزفي أحضان الطبيعة بارتداء زيهم الفلكلوري الزاهي وبأغانيهم الشعبية الحماسية. أما اليوم فقد باتت هذه الاحتفالات أكثر ثراءً بطابعها الخطابي والمسرحي والفني من حيث العروض الفنية الفلكلورية، أما بقية شعوب بلاد فارس فقد كانوا قديماً يحيون طقوسها باختيار ملكٍ مغلوبٍ من العامة يركبونه الحمار بالمقلوب تعبيراً عن إذلال الملك الطاغية، ويجوبون به ساحات المدينة والمحتفلون يرافقونه ساخرين منه.”

صورة رقم 5: نساء كرديات بأزياء ذات تصاميم مختلفة

الزي الكُردي… فلكلور توارثته الأجيال

اللباس الكردي جزء هام من ثقافته، ومُعبّر عن هويته رغم اختلاف بعض تصاميمه من منطقة كردية إلى أخرى. فالزي يعبر عن شعبه وحضارته وجذوره، والزي الكردي كما نوهت عزيزة فرحو :”جميلٌ بكل تفاصيله لكنّه لا يناسب الحياة العملية اليومية، ولذلك يبقى عند الكرد الزي الخاص للاحتفالات والأعياد، والمناسبات الرسمية فقط. فتصاميم الحداثة لم تنل من الزي الكردي بل أبقته محافظاً على لمساته الفلكلورية وألوانه المتشعبة والمتناسقة فيما بينها، وهذا ما يجعل المرأة الكردية محط إعجاب ناظريها. فزي المرأة الكردية مُكون من دشداشة طويلة تغطي في الغالب أخمص القدمين، وذات كمين طويلين يرتبطان بذيلين مخروطيين طويلين، ومنها ماتسمى بالكراس والخفتان. أما عند الرجال فتسمى بالشال والشابك والمؤلف من قطعتين، قميص وسروال.”

“نوهات الأحمدي” كغيرها من النساء الكرد تواظب على ارتداء هذا الزي في الأعياد والمناسبات السعيدة والأعراس، وتقول: “أفتخر بارتداء الزي الكردي الذي يميزني كامرأة كردية عن غيري من نساء القوميات الأخرى، فهو إرثنا الشعبي الذي ورثناه عن أجدادنا، زينا التقليدي له جمالية ينفرد به عن الأزياء الأخرى، والتغييرات البسيطة على التي طرأت عليه قد زادت من جماليته.”

صورة رقم 6: أسر كردية تحتفل بالنيروز

مآسي الكرد وثوراتهم في شهر نوروز

يعتبر قدوم النوروز مع بداية الربيع رمزاً يحمل في طياته كل معاني الخير والحب والجمال وسحر الطبيعة والسلام والحرية والخلاص من الظلم والاستعباد، لكنّ جعبته حملت بين طياتها الكثير من الألم والحروب التاريخية والإبادات وهم من قادوا أكثر من 40 ثورة منذ عهد السلطان العثماني (مراد الأول) سنة /1574/ إلى اليوم.

 الكاتب الكردي ” شيرزاد شيخاني”  يرفع الستار عن مآسي “آذار والأكراد” فيقول: ” في السادس من آذار من عام 1975 وقّع صدام حسين مع شاه إيران محمد رضا بهلوي معاهدةً في قمة الجزائر للدول المصدرة للنفط أوبك بوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين عرفت في الأدبيات السياسية الكردية باتفاقية الجزائر المشؤومة التي أدت إلى انهيار الثورة التحررية الكردية، حيث قدّم صدام حسين الذي كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك وهو أعلى سلطة تشريعية في البلاد تنازلاتٍ مشينةٍ عن مساحات واسعة من الحدود البرية والبحرية للعراق مقابل إيقاف الشاه دعمه للحركة الكردية بقيادة الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني الذي بدأ ثورته في عام 1961. وقدّرت بعض المصادر عدد أفراد الجيش الذين زجهم النظام في حربه العنصرية منتصف شهر آذار من عام 1975 بأكثر من 200 ألف جندي وضابط معززين بألفي دبابة ومدرعة ومدافع ثقيلة ومتوسطة و70 طائرة عسكرية من مختلف الأنواع خصوصاً السوخوي والميغ الروسيتين والباجر الهندية الصنع من طرازات حديثة، يقابلهم في جبهة المواجهة المقاتلون البيشمركة ببنادق خفيفة من نوع البرنو وعدد صغير من الرشاشات المتوسطة ولكن بعزيمة قوية استطاعوا بها أن يصدوا الكثير من هجمات قوات النظام الدكتاتوري على جبهات القتال.”

كما شهد يوم 8 آذار 1921 قيام ثورة نوري ديرسمي، وفي 3 آذار من عام 1937 قيام ثورة ديرسم بقيادة سيد رضا، وفي 31 آذار 1947 أعدم القائد قاضي محمد وبعض من رفاقه بعد انهيار جمهورية مهاباد في إيران. وفي 16 و17و18 آذار 1988 قصفت حلبجة وخورمال والدجيلة بالسلاح الكيمياوي، والتي راح ضحيتها 5000 كردي من قبل نظام صدام حسين.  وفي 6 آذار 1991 اندلعت انتفاضة كردستان العراق، وفي 12 آذار 2004 حدثت انتفاضة القامشلي. ومؤخراً في 18 آذار 2018 احتل الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية المسلحة مدينة عفرين السورية وحطموا تمثال كاوا الحداد رمز مقاومة الظلم والطغيان.

صورة رقم 7: أسرة كردية من موقع الاحتفالات

نوروز يوم دولي

أُدرج عيد النوروز لأهميته الكبرى في قائمة اليونسكو التمثيلية للتراث الثقافي في 2009 بوصفه يمثل قيمة عالمية للإنسانية. وأعلنت الجمعية العامة، بموجب قرارها 64/253، يوم 21 آذار/مارس يوما دولياً للنوروز، بناءً على مبادرةٍ قدمتها في عام 2010 عدة بلدان منها (أذربيجان وأفغانستان وألبانيا وجمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة وطاجكستان وقيرغيزستان وكازاخستان والهند) بغرض مشاركة هذا العيد مع بلدان العالم وشعوبها.

تقطيع المشاهد بالاختناق

تقطيع المشاهد بالاختناق

إذا حزنتَ لا تُخبر النصوص التي تكتب أنك كذلك،
كي لا يُصاب الشعر بك، بالحزن.

إذا شعرت بالحب لا تعترف

وجرّب محو الحب بالبلاد الغافية على الجماجم،
ثم لا تعد للحرب كلما اتضحت غباشة الصور البطيئة،
إنهم يتعاهرون بالهدنة.

حين يصبح للموت كل هذا المديح و”البطولات”،
يكون الحطب قد أخذ اسماً دقيقاً: بشراً… بشراً…

ضع كوباً من الوقت على طرف سريرك،
وتناول كتاباً قديماً كنت قرأته حول محاربة المدن الكبيرة للمساحة،
أخبر الكتاب بأنك تكره الفراغات المتسعة في أي مشهد،
ثم ضع الكتاب على باب متاهاتك النائمة بالقرب منك، بئر الشهوات…
تلك التي تستعد لخطفك إلى أيقونات تسيل ماء بدل الزيت المقدس،
هنا ضع كوب الوقت لتأخذ اللحظات وقتها

بخروج روح الماء من أحزان الصور

وانظر للضوء الخافت، القادم من نافذ الغرفة،
ثمة نجم سوف يهبط على قلبك من العصور الطباشيرية،
عندما ينتهي نزيف الأيقونة

ويرتوي الوقت من لهاث متاهاتك ثم يتوقف للأبد،
تصبح هذه المتاهة امرأة غريبة.

أعد الحزن إلى مكانه الطبيعي، هناك في قفص الضوء،
لن تغرد أنفاسك 140 حرفاً فقط!
الحقائب المنتظرة أسفل الرحيل، هي حقائب الرئتين،
هيا أسرف في ذوبانك ولا تردّ على أحد،
احظر كل كائنات الإنس و اللعنة…
إنهم يريدون صوتهم من كهوف صدرك.


أبعد هواتف المعجزة عن باب رأسك،
الرنين الطويل للحلم لن يعد للوراء،
لن تتذكرك رائحة النهد،

لا تلمس هذا اليباس فقد تكسر ذكراه،

إنه ما بقي من عصير المشمش على صوتها،
هي كذلك، كل الزوايا ترتد إليك… بها،
ترتدّ اختناقاً في تقطيع الماضي الأخرس.

(لارنكا – 10 آذار 2017)

أنا… الغرباء

الغرباء يدخلون إليكَ من أوسع أبواب السؤال،

تطيح بهم جمعياً بحطام واحد منك!

على أن تكون العيون براميل الموتى الذين يقف الغرباء

بحثاً عليهم

بحثاً عن تساقطهم من مروحية النصر“!

وتسأل: إذا كان للضحايا كل تلك الصور في خرائط الشاشات،

لماذا لا يراك الغرباء إلا شبيهاً بالأسئلة،

وماء يديك ينخرط مرارات في كتب ذكرياتهم؟

الغرباء يطوّبون الوجوه السائلة على صفحة شفاههم،

ثم يدوّنون هذا الصوت

يدوّنون فعلتهم تلك: أجل، لقد نظروا إليك،

كنتَ الغريب الوحيد بينهم،

وهم

أصحاب المكان

أصحاب الرحيل

لارنكا – (بار 1900) 11 كانون الثاني 2018  

موت ناصع

نحن افتراض الطُعون على منصات الحقوق!

لا طوابع على جباهنا، ولا أختام تعدّل لنا الحياة،

نحن عفونة الملح في أوراق الطُعون

فكرتها وسحاق شهوتها، نعبث في شاطئ خيالها

ويقدمنا قضاة الحزن في مرافعة الرحيل

نغرق في دعوة الرفض، ثم لا يمنحنا الآمنون رخصة للهواء

نقسّم أحلامنا على رذاذ الرمال، يتضاعف خصامنا منّا وهو يحدق بهشاشة في أحشائنا الطينية.

من يعبق قرب عظامنا بالنهاية، فليحمل لنا ثعابين الخلاص أو يرسل إلى الله حبالاً لتسحب هذه الجثث من برزخ صراخها.

نتفوّق على حمرة دمنا في خَرق بياض الصفحات وتنقيط وحي الإله، وأقدار عجزنا المذوّبة طوال ثلاثين عاماً نرتدي نتوء القصائد المحترقة تحت نواح الموت الناصع

تعالوا عربدوا على حكاياتنا وملفاتنا، وصورنا الإجرامية إلا قليلاً،

هيا اكتبوا نحونا صعود الرثاء، وعانقوا فينا الوحوش النائمة، أخرجونا من كبريائنا وذاكرتنا، وفصّلوا لنا أطقم الرمال النادمة، ربّما تكللنا أصابع أولادكم وهم يهيلون التراب على أحذيتنا قبل أن يشعلوا الفتيل

نرجع إلينا في أرصفة المَهَاجر وطلائع العيون البيضاء تمشي أمامنا،

ترحب بنا كنائس المدينة ببطء الحروب التي صلبت حجارتها ورؤوسنا تنحني لتبعد عن دربها أصوات البحر العالقة بين قبور القديسين،

ها نحن نعبر إلى عصور العدم، لا هواء يدخل الجسد! والأرواح تحوم في العيون البيضاء، العيون التي اقتلعتها أقدرنا ومضت وراءنا

لارنكا – 26 أيلول 2017

الغريب

الغريب

الغريب (1)

عيناهُ تسجّلانِ التفاصيلَ الرتيبة

كعدسةٍ في يـدِتاركوفسكي،

عيناهُ رأتَــا في ثلاثينَ عامًا

ما يراهُ شعبٌ في ألفِ عام،

أين يذهبُ بعينيه؟!

كيف يهربُ من ذاكرةِ الدمعِ والدم؟!

عندهُ من الصُوَرِ

ما يملأُ جدرانَ العالمِ بالنَّعَوات،

من الطعناتِ

ما يجعلُ السماءَ غربالًا،

من القهرِ

ما لا يستطيعُ عمرٌ كاملٌ من الأمجادِ محوَهْ.

* * *

الغريب (2)

عندما تكتبُ قصيدةً عظيمة

أو تنامُ مع امرأةٍ رائعة

أو تقتلُ عدوّكَ اللئيم

يُمكنكَ أنْ تشربَ أنهارًا من الخمر

وتدخَّنَ الأشجارَ سجائرَ،

تركُلَ الأرضَ حتى تدورَ بالاتجاهِ الذي تريد،

تعترفَ لوالديكَ بأنكَ لستَ ابنـهُما،

تُخرجَ جـثّـةً من القبر

وترقصَ معها حتى الصباح،

يمكنكَ أنْ تصرخَ في وجه السماء: أنا سـيّـدُ الأرض!

وبعدَها

يمكنكَ أنْ تموت

كما يليقُ برجُـلٍ أنْ يموت؛

ضاحكًا في وجهِ الموت

باصقًا في وجهِ الحياة.

* * *

في البدء كانت السكين

في البدء كانت السكين

في البدءِ كانت السكين

منذ قابيل

وإلى آخر مجزرة،

الكلماتُ لم تكن ولدتْ بعدُ

الكلمات التي تحفظونها عن الأمل

لن تمنح الحياةَ لوردةٍ صغيرة

مرّتْ من فوقها دباباتُ الوطن،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الفرح

لن تمسحَ دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت رُكام المنزل،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحلم

لن تُقنعَ النائمين تحت سماءِ الحزن المدلهمّ

بالنظرِ إلى السماء،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحبّ

لم تعد تصلُح لحديثٍ مسائي بين عاشقين

على مقعدٍ في حديقة

في زمن “الأندرويد” و “دونالد ترامب”.

أيتها الكلماتُ المغدورة

ماذا سنقولُ لـ “كريم” (*)

– وقد انطمسَتْ قصائدُنا التي لم تُكتَبْ بعدُ –

عن العيونِ والأنهار

عن البحار والمدى

عن الردى!

وحدَها السكينُ

ووحدنا الحنجرة،

وحدها البندقية

ووحدنا الظهر،

وحدَهُ الذئب

ووحدنا الحملانُ الضعيفة.

هلِّلُويا

هلِّلُويا

في البدء كانت السكين.

* * *

(*) كريم: من أطفال غوطة دمشق، اقتلعت عينه جراء القصف.

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في سنوات الحرب السبع الفائتة، فالمسرح الذي كان يرتهن لأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي، ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة من جميع أنواع الرقابات السلطوية منها قبل الاجتماعية والقبلية. يمكننا الإطلالة على هذه الخشبة التي تصرخ وهي تحترق؛ إذ سجلت مسارح سوريا -ولاسيما في العاصمة دمشق- عشرات العروض التي عبّرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.

المسارح السورية أيضاً ولاسيما الأثرية منها والتاريخية من مثل مسرحي بصرى وتدمر تم السيطرة عليهما من قبل المليشيات المسلحة، بل تحول مدرج تدمر التاريخي إلى منصة إعدام شاهد العالم كله ماذا فعل ما يسمى بـ (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) فوق خشبته الحجرية.

سيكون نصيب المسرح القومي من عروض الحرب هو الأغزر إنتاجياً، ولن تكون الرقابة القبْلية حديدية كما كان الوضع ما قبل الحرب، فلجان المشاهدة وقراءة النصوص صارت أمراً شكلياً، وصار من الممكن تقديم أطروحات موضوعية على الخشبة بهامش مفاجئ من حيث سعته وقدرة العاملين في المسرح على أخذ الأمور حتى نهاياتها في انتقاد طرفي النزاع على حدٍ سواء.

“كأنو مسرح” لـ غسان مسعود عن نص لابنته ” لوتس مسعود” كان مثالاً على توسيع هوامش جديدة، وتسمية الأشياء بمسمياتها على الرغم من الحلول الفنية المتواضعة والبنية المباشرة للنص المكتوب؛ إذ كان (مسعود) قد ركز على تناول الحرب من مقلبٍ آخر عبر تطويع نصوص المآسي الكبرى لشكسبير في مسرحيته “عرش الدم- الأوبرا السورية” ولتكون “مكبث” باقتباس رياض عصمت عنها هي حكاية العنف والشر والطموح بالسلطة؛ وحيث (الدم يطلب الدم) كإسقاط ماهر عن نبذ للعنف، وإدانة القتل العبثي.

مثله كان عرض ” اختطاف” لـ أيمن زيدان، والذي قام بالتعاون مع محمود الجعفوري بإعداد مسرحية “الأبواق والتوت البري” للإيطالي داريو فو، موجهاً نقداً لاذعاً لتحالف السلطة مع المافيا، والاستثمار في الإرهاب تحت عناوين وشعارات يسارية ضللت الشعوب وجعلتها نهباً لحكومات رجال الأعمال المتعاقبة.

سوف يقدم (زيدان) أيضاً مسرحية “دائرة الطباشير” مستعيراً نص المخرج والكاتب الألماني “برتولت بريخت- 1898- 1956” عن العنوان ذاته الذي أراده “زيدان” مفتوحاً على كافة الإسقاطات الممكنة حول الحرب الدائرة في بلاده منذ سنوات؛ وذلك بحذفه لكلمة “قوقازية” من عنوان النص الأصلي؛ تاركاً “الدائرة” هنا دون إغلاق مكاني أو زماني.

من جانب آخر تناول المسرح الحربي البيئات الفرعية ذات الثقافات الإثنية والعرقية عبر أكثر من عرض كان أبرزها “المرود والمكحلة” لكاتبه عدنان العودة ومخرجه عروة العربي. خروج من سطوة النصوص القديمة نحو أشكال مسرحية جديدة للمراهنة مجدداً على فعل اللهجة وقدرتها على ابتكار الحركة على خشبة المسرح؛ وصولاً إلى خصوصية إبداعية تسعى لتأصيل اللهجات المحلية في اللعبة المسرحية، وذلك بالذهاب أكثر خلف ما يشبه ملحمة سورية معاصرة بدأت عام 1917 بمذبحة الأرمن على يد العثمانيين، لتتقاطع مع حكاية شاب سوري- كردي يصادف أخته من أمه في ليلة من ليالي دمشق بعد سنوات طويلة.

سيكرر (العربي) التجربة في عرض (مدينة في ثلاثة فصول) عن نص ( احتفال ليلي خاص في دريسدن) لـ مصطفى الحلاج، وذلك عبر التعرض لجذر الإشكالية السورية من خلال السؤال التالي: الحرب بين من ومن؟ يسأل أحد الممثلين في العرض؟ فيجيب آخر: “الحرب بين (نا) و(نحن) وليست بيننا وبين إسرائيل، نحن يقتلنا و(نا) يقتلُ نحنُ”. سوف لن تحضر هنا وصايا ” غوبلز” وزير الدعاية الحربية في حكومة هتلر، بقدر ما سنشهد سجالات لها إسقاطاتها على الحرب السوريةبالنظر أكثر نحو التجارب الطازجة.

الأماكن البديلة:

حضرت الأماكن البديلة جنباً إلى جنب مع فن الارتجال كجزء أساسي من مسرح الحرب السوري، ليأتي في مقدمته مختبر مفتوح بشكل علني وشجاع على كتابة النص الجماعي عن أعراض الصرع السوري، وذلك دون التعويل على النصوص الأجنبية المترجمة أو الاقتباس عنها، بل في اقتراح صيغة راهنة وحارّة عن المعيش اليومي وفداحة الخسائر الإنسانية في ظل الحرب. الجنون هنا أتى كثيمة مناسبة لاختراع أبعاد أكثر تحرراً في مخاطبة الجمهور، ولاسيما في التجربة التي قدمها المخرج سامر عمران في مسرحية “رماد البنفسج” محققاً تعاوناً لافتاً مع الكريوغراف نورا مراد لصياغة فضاء مسرحي أطل على اللحظة الراهنة بكل تناقضاتها ومفارقاتها الصادمة؛ حيث عمل كل من “عمران” و”مراد” على تحقيق عرض استوحى حكايته من مستشفى الأمراض العقلية؛ متخذين من سيكولوجيا الجنون مادةً رئيسةً لإدارة الممثل. شخصيات ذكّرت برائعة الألماني بيتر فايس “مارا ساد” وقصة “العنبر رقم ستة” لتشيخوف.

سوف يكرر (عمران) هذه التورية في استخدام مقهى شعبي في قلب دمشق القديمة، وذلك ليقدم مسرحيته “نبوءة- إنتاج عين الفنون” مسنداً دور الحكواتي لممثلة شابة (ربا الحلبي) ليكون الجمهور أمام حكواتية امرأة في مناظرة ذكية مع الكرسي الفارغ الذي يتوسط مقهى النوفرة الأثري بعد موت” أبو شادي” آخر حكواتي في دمشق بعد نزوحه من بيته مع أسرته من ريف دمشق بفعل النزاع الدائر؛ فمنذ موت آخر حكواتي في البلدة القديمة، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن “عمران” في “نبوءة اختار “مقهى الشام القديمة” المواجه مباشرةً لمقهى “النوفرة” في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده؛ لتسرد المرأة هذه المرة  حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ من “ملحمة السراب” لسعد الله ونوس 1941- 1997″ المسرحية التي كانت بمثابة استشراف مبكّر لما سيؤول إليه واقع البلاد.

صرخة المسرح في وجه الحرب استمرت قوية وهادرة من خلال عروض كان لها طابعها السياسي، وسمتها الجدلية والمعاندة لأطروحات السياسة (دعارة العقل) كما يصفها نيتشه، ولتأتي عبارة “هوب هوب” لتكون عنواناً للمسرحية التي قُدِّمت على مسرح الحمراء، ولتكون بمثابة طلب صريح وواضح من “سائق الحافلة” السورية بإيقاف فوري وعاجل للحرب الدائرة منذ سنوات على امتداد كامل البلاد؛ فالعرض الذي أخرجه الفنان عجاج سليم كان قد اشتغل عليه مع اثني عشر ممثلاً وممثلة في ورشة مفتوحة على الارتجال الجماعي مع الممثل؛ مطوّعاً نص “الجزيرة القرمزية” للروسي “ميخائيل بولغاكوف-1891- 1940” عن إعداد جوان جان؛ ولصالح مقاربة جريئة اتخذت من الكارثة الوطنية الأعنف في تاريخ البلاد موضوعاً فنياً لها؛ إذ يأتي عرض “هوب هوب” ليكون العرض الجماعي الأول الذي رفع عقيرة المسرحيين السوريين عالياً إزاء ما يدور على أرضهم؛ مقتبسين العبارة الشعبية “هوب هوب” كصرخة بمدلول سياسي لا يخلو من التهكم والمرارة؛ حيث بدا هذا جلياً من كلمة المخرج “سليم” على بروشور العرض: ” (هوب هوب) تعني الطلب من (سائق الحافلة) التوقف السريع؛  وفي اللهجة الدارجة تشير بشكل عام إلى الرغبة بإنهاء فعل، أو حوار، أو مشكلة، …أو أزمة؟”.

هوب هوب

مختبر مسرحي:

بمقابل عروض المسارح الكبرى للعاصمة والأماكن البديلة كان ثمة مختبر مسرحي ينمو بهدوء وكتمان داخل جدران المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مختبر كان من الصعب عليه أن يزدهر ويترعرع على مسارح العاصمة السورية؛ أولاً من جهة المحرّمات الدينية والسياسية التي ستواجهه في حال العمل على هذه المسارح المفتوحة نسبياً أمام شرائح متنوعة بين الجمهور والحشد، وثانياً من جهة طبيعة العروض التي يديرها أساتذة ومخرجي الأكاديمية المسرحية الأعرق في البلاد، والتي تنحو إلى صيغ أكثر تحرراً ومباغتة للراسخ في الدماغ الجمعي الديني والسياسي.

هكذا على الأقل قدم فايز قزق عرضه ( إيواء واء واء- أستوديو شريف شاكر) كحلقة من سلسلة عروض كان (قزق) قد بدأها مع طلاب التمثيل، فمن ( وعكة عابرة- 2008) إلى ( حكاية السيدة روزالين- 2011) وصولاً إلى هذا العرض؛ والذي برهن من خلاله بطل عروض (فرقة شكسبير الملكية) تجربةً إثر أخرى أن البروفة هي الزمن الأصلي لصياغة العرض المسرحي؛ سواء من حيث اشتغاله على الارتجال كمسوّدة دائمة الكتابة مع الممثل، أو حتى من خلال تلك الرغبة في نبش خفايا هذا الممثل وزعزعة كيانه الداخلي؛ دافعاً إياه إلى أقصى ما يمكن من البذل والسخاء على الخشبة؛ خارجاً في مسرحية ( إيواء واء واء) إلى براح التأمل الجماعي والبحث وفقاً للفرضية التي وضع المخرج السوري ممثليه فيها؛ لتكون وجهاً لوجه مع الحرب الدائرة في بلادهم.

حكاية الشخصيات الثماني عشرة في عرض ” إيواء واء واء” بدت مزدحمة بحضورها وأفكارها واضطراباتها الموحشة، وتعويلها على التناقضات، من مثل مشاهد الأطفال في لحظة التناسخ العجيب نحو القتل والتآمر، دار الإيواء الذي تحول إلى ماخور، المواجهة الصادمة بين الدين والمدنية، قصة الحب الكردية في عيد النوروز؛ قارب الموت المزدحم بدوره كسفينة نوح سوريّة؛ يكاد الدم يحفُّ بها من كل جهات الأرض الأربع، الملاكم ورجل الدين، الديوث والعاقر؛ الخادم والسيدة. متتالية لا منتهية من غثيانات منفلتة بوحشية على خشبة العرض؛ جعلها (قزق) تبدو كصورة مصغّرة عن بلادٍ ترقص في حفلة تعذيب جماعي؛ حيث لا يهدأ سعير المواجهة حتى يعود ويشتعل وفق ثنائيات متحاربة، سعير لا ينجو منه حتى الأموات في أكفانهم.

كوميديا الحق والحق الآخر! قدمها المخرج تامر العربيد هو الآخر ضمن صيغة الارتجال في عرضه” جسور- مسرح فواز الساجر” متكئاً على نص “قضية أنوف” للكاتبة المكسيكية الساخرة (ماروشا بيلالتا) فاستطاع فريق ممثلي هذا العرض صياغة مشروعهم الساخر من الحرب، معوّلين في ذلك على تقنية الارتجال الجماعي في كتابة شخصياتهم وتلوينها.

لقد كان الاقتراب من تجسيد الشخصية النمطية المسخية في “جسور” تجاوز ذلك عبر إسقاط حكاية المسرحية على المقتلة السورية؛ حيث أطل الجمهور من خلال شخصيات هذا العرض على بلدة خرافية اختلف أبناؤها من أجل أتفه الأسباب (أصحاب أنوف قصيرة وآخرين طويلة)! فاندلعت بينهم حروب عبثية مضحكة؛ قاربها الممثلون بأداء حار ولافت من خلال أسلوبي “الفارس” و” الغروتيسك” لتحضر المأساة والعنف والقتل والمؤامرات بين ذات البين في قالب طريف وكاريكاتوري.

الفنان جهاد سعد جاء أيضاً إلى خيار الورشة الفنية المفتوحة في عرضه “هستيريا” واضعاً ممثليه التسعة على “مسرح سعد الله ونوس” وجهاً لوجه مع امتحانات عدة للجسد واللياقة والصوت وحساسية التفاعل الجماعي على الخشبة؛ لتقدم هذه التجربة عروضها في المعهد العالي للفنون المسرحية بصدامية أداء جماعي جعلت الممثل منساقاً إلى نوعية خاصة من مسرح العنف الذي تتغلب فيه القدرة البدنية على صناعة الشخصية المسرحية؛ حيث استطاع “سعد” في صياغته الفنية الجديدة أن يحقق توريات مسرحية متعددة؛ رامزاً بقوة إلى حال العلاقات الإنسانية في ظل الحرب؛ وما ترتب من آثار نفسية قاسية لهذه الحرب على كل من الرجل والمرأة في ظل هيمنة نشرات الأخبار الدموية على وعي الناس وطبيعة سلوكهم اليومي.

لقطة من مسرحية تصحيح ألوان

مسرح تعدد أصوات

مجدداً خرج عبد المنعم عمايري هو الآخر عن كليشيهات المسرح السوري، متابعاً تجربته على الارتجال، والتي كان قد بدأها بعرض  “سيليكون- 2010” آخذاً ممثليه نحو مفازات الممثل الحقيقية، فالنص هنا كان نتيجة لكتابة جماعية امتزجت فيها السيرة الذاتية بصيغة الجماعة، فعمايري أكد في تجربته هذه التي حملت عنوان “ليبيدو” حيوية المقترح وأحقيته كمحترف لانهائي، وكمسوّدة لا متناهية تتم كتابتها في كل مرة يصعد فيها الممثلون على الخشبة؛ فمن خلال إبرام تناص باهر بين نصوص “روميو وجولييت، ريتشارد الثالث، عطيل” لشكسبير، و كل من نصي “عربة اسمها الرغبة” لتينسي وليامز، و”رحلة الليل في النهار” ليوجين أونيل غزل الممثلون أطروحتهم الخاصة بهم، وتصوراتهم الشخصية حول مفهوم إعداد النص وبنائه نحو صيغة عرض احترافي، ليدفع عمايري ممثليه في (ليبيدو) إلى تجربة فعلية لاختبار قدراتهم الأدائية بطريقة تتيح لهم ديمقراطية شاسعة من خيارات الكتابة والتمثيل وإنتاج الأفعال عبر ينابيع الحياة والعيش ضد الحرب.

(سوريون بعنوان) ساق أيضاً تجربة تعدد الأصوات عن أشعار محمود درويش حيث حضر كل من: (السائق العصبيُّ، الجنديّ، الجامعيّ، السيّدةُ، الشاعر، والمسافر) شخصيات المسرحية التي اقتبسها عرض ( سوريون بعنوان- مسرح سعد الله ونوس) من أشعار محمود درويش؛ مطوعاً تعدد الأصوات (البوليفونية-Polyphonie) في نصوص: (لا تعتذر عمّا فعلت، الجدارية، مديح الظل العالي)، لتأتي كحوارات درامية قام بأدائها ممثلو فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مرتكزين في هذه التجربة التي أشرف عليها كل من ( سامر عمران، ووسيم قزق، وشادي كيوان، ونورس عثمان) على إيحائية النص الشعري كخطاب أدبي ينطوي على حوارية الأنا والآخر.

بدوره قدم الفنان أسامة غنم نص (مجموعة الحيوانات الزجاجية) لكاتبها ( تينسي وليامز1911- 1983) محيلاً هذا النص إلى عرضٍ سوري بامتياز تحت عنوان (زجاج- مسرح فواز الساجر). مهارة عالية سجلها (مختبر دمشق المسرحي) الذي يشرف عليه (غنم) بنفسه منذ العام الأول للحرب؛ منهياً بتجربته الجديدة جدلية النص والعرض؛ لصالح فن الأداء وقدرة الممثل على اكتشاف نفسه من جديد على الخشبة؛ بعيداً عن عبودية هذا الممثل لخطة إخراجية صارمة، تعتبر الأدبي مادةً درامية بحتة؛ لا يجوز (درمتتها) إلا بما تمليه المؤشرات والإحالات النصية للكاتب؛ بل عبر الممثل الشريك والمنغمس حتى النهاية في اللعبة المسرحية.

فهم عميق ومؤثر ساقته النسخة السورية ( إنتاج -مواطنون فنانون- آفاق) من نص (الحيوانات الزجاجية) مطوعةً مفردات محلية ومفارقات نفسية أليمة لصالح بناء الشخصيات من جديد؛ انتزاعها من أربعينيات القرن الفائت؛ لزرعها في صراع مرير بين تفاهاتها اليومية وأحلامها المهدورة؛ حيث تصير هذه الشخصيات المتورّمة بثراء عالمها الداخلي؛ نسخةً عن عائلة سورية حزينة؛ عائلة أرادها مخرج العرض صورة عن بلادٍ بأكملها؛ فلم يكن من السهولة بمكان وبعد سبعة أشهر من البروفات المستمرة، الوصول إلى تلك المكابدات الدفينة التي قدّمها (زجاج) بحيوية عالية ورغبة وقلق شديدين لمقاربة الحطام الاجتماعي؛ دافعاً بشخصياته الأربعة إلى أمكنة خطيرة من الذاكرة الجماعية.

بسام كوسا خاض هو الآخر تجارب لافتة في مسرح الحرب السورية؛ كان أبرزها عرض “الكوميديا السوداء عن نص لـ (بيتر شافر) المسرحية التي كتبها رائد الغرابة الإنكليزية عام 1965؛ ليذهب عرض “الكوميديا السوداء” نحو نظرة غاية في الطرافة على حماقات مجموعة من الشخصيات التي تتحسس طريقها في غرفة داكنة الظلمة على مسرح الحمراء الدمشقي؛ حيث ترتطم الشخصيات بكم كبير من المواقف والمفارقات المضحكة بناء على انقطاع الكهرباء؛ الفرضية التي بنى عليها كاتب النص مواقفه الساخرة من كذب المثقفين وانهيار قيم الطبقة الوسطى وتحولهم من ذات إلى موضوع؛ فضلاً عن نفاق أصحاب المال وعلاقات الحب العابرة في فضاء غميضة من التخفي في العتمة.

تجربة سوف يعيدها (بسام كوسا) في مسرحية (تكرار) مقتبساً نص (المتحذلقات السخيفات) لموليير. العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات وأصحاب الطرابيش ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سورية، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوج ألقته الممثلة (فرح دبيات) عن تشابه البشر وعدميتهم في كل الأزمنة، (فلا جديد تحت الشمس)!

(عرض البحر) مسرحية هي الأخرى مزجت العبث بالعنف حققها مجد فضة على خشبة سعد الله ونوس مع كل من الممثلين وسيم قزق و الفرزدق ديوب وياسر سلمون؛ ليطل (فضة) بذلك على أبرز نصوص الكاتب البولوني “سلافو مير مروجيك” من خلال نسخة سورية عمل عليها دراماتورجياً مع إبراهيم جمعة.

التجربة التي قدمها المعهد العالي للفنون المسرحية؛ بدت أقرب إلى مسرح اللامعقول من حيث اعتماد المخرج على أسلوب “الغروتيسك” فعكست قالباً عبثياً لشخصيات العرض متكئة على تقنيات مسرح الكلام، وذلك مع الإبقاء على هيكل النص الأصلي “في أعالي البحار” حيث نشاهد ثلاثة رجال يقطعون رحلتهم نحو المجهول فوق طوفٍ خشبي؛ وليكون الجمهور شاهداً على تباينات حادة في الشخصيات الثلاث؛ حيث هناك الانتهازي والرومانسي والعضلي الأهوج.

أنماط كشفت عبر حوارها المطوّل عن ماضيها قبل اختيارها للهجرة عن بلادها، وعن قصص حب وخيبات عاشتها الشخصيات الثلاث في عملها وعلاقاتها الحميمة وصدامها مع الآخر المختلف سياسياً عنها، كلاً حسب وجهة نظره لكن ومع نفاد المؤن على متن الطوف تتكشف نوازع بدائية لدى الرجال الثلاثة؛ وصولاً إلى فرضية التضحية بواحد منهم ليكون زاداً للرجلين الآخرين بدلاً من موت الجميع جوعاً في عرض البحر.

مسرحية (ستاتيكو) ناقشت هي الأخرى الحرب السورية بذكاء لافت، مستعينةً بنص لشادي دويعر وإعداد مخرجها الفنان جمال شقير الذي ذهب في تجربته الأولى إخراجياً نحو مناقشة ثقافة الانتحار عبر شخصية (حكم) التي لعبها سامر عمران إلى جانب كل من نوار يوسف و محمد حمادة، مسجلاً على شريط كاسيت وصيته الأخيرة قبل أن يتدخل كل من جاره وصديقته في تعطيل خطته للموت بعد لجوء الفتاة الشابة إلى شقته للاختباء عنده بعد عودة الأهل المفاجئة.

العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى حاز ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان قرطاج، ذاهباً نحو حذافير الواقع في محاكاته للديكور الذي أنجزته سهى العلي عبر تصميمها لشقة تطل على شارع من أحياء دمشق ليلاً تموضع في عمق الخشبة، بينما حافظ على موقع لافت للوحة (الغارنيكا) لـ بيكاسو؛ مسقطاً الحرب الأهلية الإسبانية على الواقع السوري الراهن؛ في إشارة لما حمل بطل العرض على الانتحار.

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كانَ ورداً أقلَّ الذي نامَ ما بيننا في السرير

أكُنّا سنحلُم أكثرَ بالنوم في شُرفات البلادْ؟

وما الحبُّ إنْ لم يكن عارضاً للحديث عن الريحِ

أو جمرةً تتباهى بأحلامنا كلّ صبحِ

وتأخذنا من يدينا لكيلا نموتَ إذا جاء وقتُ الرمادْ!

وما الشوقُ إنْ لم يكن مؤلـِماً وغريباً كصبّارةٍ

وانتظاراً يغيّـرُ أقدارَنا لو أرادْ؟

وحين أفكّرُ فيكَ يهبُّ من المزهريةِ صوتُكَ

يسقطُ قلبي على درجِ البيتِ مني

وأنسى تماماًكأيةِ عاشقةٍ–  كيف يشتدُّ عودُ الغريبة في البرد

أصعدُ نحو هلاكي رويداً رويداً

فيجعلني الوقتُ أغنيةً لا تُعادْ

ولو كان ورداً أقلَّ أكنتَ ستمضي بعيداً لتبحثَ عن وطنٍ آخرٍ

أو نشيدٍ جديدٍ؟

أكنتَ ستكسرُ قلبي كما فعلَ الآخرون به،

أم ستبقى جميلاً كأيّ غريبٍ يرى في المنافي ملاذاً من الحرب

والتركاتِ البخيلة من شجرِ النار أو كذبِ الأصدقاءْ؟

كبرنا كثيراً على أنْ نكون سوانا

وهذا الرحيلُ الذي كان محضَ اتفاقٍ مع الشمس كي نمسكَ الغيم

أصبحَ كلَّ الذي تركتْهُ لنا الأرضُ من سِـيَـرِ الأنبياءْ

* * *