مع بداية زيارتكم، اسمحوا لي أن أشاطركم بعض الأفكار المتعلقة بالتاريخ الياباني الحديث. كما تقرر مؤخرا أن الإمبراطور الحالي سيتنحى عن العرش العام المقبل، منهيا بذلك فترة حكم ٣٠ عاما. وهذا العام الجديد يلهمنا النظر وراء تاريخنا الحديث، وسأبذل قصارى جهدي للقيام بذلك.
في العام ٢٠١٨ تصادف ذكرى ١٥٠ عاما على استحداث ميجي، وكان ذلك بداية تحديث اليابان. اذ انه في العام ١٨٦٨ كانت “النهضة” الحقيقية لليابان التحديثية، التي سبقت سوريا على الأقل ٥٠ عاما إذا كان البعض يعتبر التقدم البريطاني والعربي إلى دمشق في عام ١٩١٨ كبداية لحركة نهضة السوريين. طبعاً هذا الأمر خاضع للجدل في مناسبة أخرى. كان الشعار الأساسى لحكومة ميجي هو “زيادة الثروة وتعزيز القوة العسكرية”، حيث أدت هذه السياسة إلى التحديث السريع في اليابان.
نهضة اليابان
تطورت اليابان بسرعة بعدما انتصرت بالحرب الصينية – اليابانية في عام ١٨٩٤-١٨٩٥، والحرب الروسية – اليابانية في الفترة ما بين ١٩٠٤ و ١٩٠٥ لتصبح واحدة من خمس دول رئيسية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان)، وتحتل مقعدا في المجلس لعصبة الأمم مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى. ووقعت اليابان أيضا على معاهدات مختلفة مثل معاهدة فرساي (١٩١٩) وسان ريمو (١٩٢٠) وسيفريس (١٩٢٠) ولوزان (١٩٢٣) وما إلى ذلك. ومنذ ذلك الحين، أصبحت اليابان تدريجيا “قوة استعمارية آسيوية بحكم الأمر الواقع.” في نهاية المطاف، استعمرت شبه الجزيرة الكورية وتايوان وجزءاً من شمال شرق الصين اوما يسمى “منشوريا”.
تقبل الهزيمة
مع ذلك، تم تحطيم غطرسة اليابان تماما عندما دخلت في الحرب العالمية الثانية متحالفة مع ألمانيا وإيطاليا كمحور ثلاثي، خصوصا الحرب بين اليابان والولايات المتحدة منذ ٧ كانون الاول /ديسمبر ١٩٤١ التي قادت اليابان إلى هزيمة كاملة في ١٥ آب / اغسطس١٩٤٥. فقد أكثر من 3 ملايين شخص من اليابانيين خلال الحرب المدمرة، حيث كان عدد سكان اليابان في عام ١٩٤١ حوالي ٧٢ مليون نسمة، وتجاوز معدل الإصابات أكثر من ٤ في المائة من مجموع السكان. لو اردنا المقارنة، فانه إذا افترضنا أن عدد الوفيات في الأزمة السورية الحالية حوالي ٥٠٠ الف من السكان البالغ عددهم 22 مليوناً، فإن نسبة الوفيات تصل الى ٢ في المئة، كحد أقصى. كما ان أكثر من ١٤٠ الف شخص اختفوا في هيروشيما وأكثر من ٧٠ الفاً تبخروا في ناغازاكي في صيف عام ١٩٤٥ عند استعمال القنبلتين الذريتين. حتى أن روسيا ضمت المناطق الشمالية من اليابان مباشرة بعد تاريخ الاستسلام الياباني غير المشروط في١٥ آب ١٩٤٥.
وكانت الاضرار على الجانب الاقتصادي ببساطة ضخمة وحتى رسميا غير محسوبة فإنه وفقا لما ورد في كتاب “احتضان الهزيمة” للكاتب جون داور، فقد احتسبت (SCAP) بيروقراطية الجنرال ماك آرثر (SCAP، وهي اختصار للقيادة العليا لدول الحلفاء) في وقت مبكر من عام ١٩٤٦ أن اليابان “فقدت ثلث ثروتها الإجمالية وثلث إلى نصف إجمالي دخلها المحتمل.
قد تعرضت ٦٦ مدينة رئيسية، بما فيها هيروشيما وناغازاكي، لقصف شديد، ما أدى إلى تدمير٤٠ في المائة من هذه المناطق السكنية بشكل عام وجعل حوالي ٣٠ في المائة من سكانها بلا مأوى. في طوكيو، و هي أكبر مدينة، تم تدمير ٦٥ في المئة من جميع المساكن.
هذه الكارثة في الحرب وضعت حدا لأي عقلية إستعمارية للأمة اليابانية. لقد كانت فترة كاملة لتكريس مفهوم الحرب والسلم. كانت الطبيعة السلمية للدستور الياباني الجديد مقبولة بشكل جيد من قبل اليابانيين على الرغم من أنه كتب أصلا من قبل الأميركيين. وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعلنا نقترح و نوصي ان تقوموا بكتابة الدستور الخاص بكم بأنفسكم.
ثلاثة عوامل للتعافي
قد تكون هناك ثلاثة عوامل أساسية لتعافي اليابان السريع:
بعد الحرب العالمية الثانية، كان بقاء اليابان إلى حد كبير بسبب المساعدات الاقتصادية السخية والكبيرة من الولايات المتحدة، وكذلك الترتيبات الامنية الصلبة بين اليابان والولايات المتحدة في وضع الحرب الباردة. الحرب الكورية في عام ١٩٥٠ قامت بتعزيز مزيد من التعافي الاقتصادي السريع في اليابان. هذه العوامل مجتمعة جعلت اليابان تركز فقط على التنمية الاقتصادية في التعافي بعد الحرب. وعلى سبيل المثال، انخفض الإنتاج الصناعي الياباني في عام ١٩٤٦ إلى ٢٧.٦ في المائة من مستوى ما قبل الحرب، لكنه استعاد هذا المستوى قبل الحرب في عام ١٩٥١ ووصل إلى ٣٥٠ في المائة في العام١٩٦٠.
مساعدة واسعة النطاق
أولا، المساعدات السخية الأميركية: لعبت أموال GARIOA و EROA دورا حاسما في انتعاش الاقتصاد الياباني. وهي جزء من الصندوق العسكري الأميركي للمنطقة المحتلة. وبلغ مجموع المساعدات حوالى ١.٨ مليار دولار أميركي. وفي القيمة الحالية، يساوي ما يزيد على ١٢٠ مليار دولار أمريكي. (GARIOA: اعتمادات الحكومة للإغاثة في المناطق المحتلة، EROA: إعادة التأهيل الاقتصادي في المناطق المحتلة)
وعقب تعافي و استعادة السيادة اليابانية مباشرة، تلقت اليابان أيضا من ١٩٥٣ حتى ١٩٦٦ القرض الضخم من البنك الدولي، الذي يزيد على ٨٦٠ مليون دولار أميركي بما يعادل القيمة الحالية لحوالى ٦٠ مليار دولار أميركي. وقد أنفق القرض على بناء البنى التحتية الرئيسيةالتي لا غنى عنها لنمو اليابان الاقتصادي مثل الطرق السريعة والقطارات السريعة والسدود. ولكن الأمر المفاجئ، أن اليابان استطاعت تسديد كامل القرض الذي قدمه البنك الدولي في العام١٩٩٠. إن الدعم الأجنبي لليابان خلال فترة ما بعد الحرب الماضية جعلنا نؤمن إيمانا راسخا بفلسفة “دعم أولئك الذين يساعدون أنفسهم.”
السياسة الاقتصادية الناجحة لليابان
والسبب الثاني الذي مكّن اليابان من التعافي من صدمة الحرب هو الإصلاح الاقتصادي الناجح من قبل الحكومةوكان من بين الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية اعتماد برنامجعُرف حينها باسم “سياسة إعطاء الأولويات” ذلك لتحديث القطاعات الانتاجية. وهذا يشير إلى السياسة الجديدة التي تعطي الأولوية لإنتاج المواد الخام الرئيسية بما في ذلك الصلب والفحم والقطن.
وعلاوة على ذلك، ولتحفيز الإنتاج، أطلقت الحكومة اليابانية التوظيف الجديد للعمال، ولا سيما الإناث العاملات، من خلال تعزيز توظيف النساء العاملات وغيرهن بموجب لوائح مفصلة تصدرها وزارة العمل،تمكنت اليابان من التعافي من الدمار.
الحرب الكورية كعامل خارجي
وكان العامل الثالث اندلاع الحرب الكوريةحيث شاركت الولايات المتحدة في نهاية المطاف في الحرب، ما وفر فرصة للاقتصاد الياباني. وبما أن شبه الجزيرة الكورية بعيدة عن الأراضي الأميركية،سرعان ما أصبحت الخدمات اللوجستية مشكلة كبيرة.
وباعتبارها واحدة من المؤيدين الرئيسيين للولايات المتحدة في آسيا، خرجت اليابان وقامت بتوفير الإمدادات اللوجستية وزيادة إنتاج الأسلحة النارية بشكل كبير. إن ترتيب السلاح الناري الشامل من الولايات المتحدة حفز الاقتصاد الياباني إلى حد كبير، ما مكن اليابان من التعافي من الدمار في وقت الحرب،ووفر لليابان الأساس لمستوى عال من النمو الاقتصادي المرتفع.
خلاصة سريعة
باختصار، ان الضمان الأمني القوي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى جانب المساعدات الخارجية الضخمة سواء من الولايات المتحدة أو البنك الدوليوالإصلاح الاقتصادي الياباني شكلوا العوامل الرئيسية للانتعاش الياباني من أنقاض الحرب العالمية الثانية. لكن العامل الأهم، ان اليابانيين استفادوا من هذه العوامل وحولوها بأنفسهم الي فرص للنهضة الشاملة. في حالة سوريا، أنتم والشعب السوري وحدكم تملكون الجواب.
نص خطاب القائم بالأعمال والمنسق الخاص لشؤون سوريا فوتوشي ماتسوموتو الذي القاه امام حشد من عشرات الخبراء السوريين بتاريخ ٩ كانون/يناير ٢٠١٨.
فتحتْ باب خزانتها القديمة وتناولت ٲلبوم الصور بغلافه الجميل المرسوم بالورود الزاهية. كانت تختبئُ وراء ٲلوانه البهيجة عشرات الصور القديمة التي اعتادت بهيجة الموسىابنةُ ٲحد النّاجين من ضحايا الٳبادة الٲرمنية ٲنْ تَمسحَ ماضياً يتيماً بأحداثٍ أليمةٍ تَدُقُّ في ذاكرتها قصصاً مروعة عمّن سكنتْ خيالاتهم ٲلبومها الثمين.
تتأمّل بهيجة صورة والدها نظريان شوربجيانالذي سخَى القدر بكراماته عليه ليكون ممّن نجا بفعل معجزة من هَولِ تلك المجازر البشعة التي ارتُكبتْ على يد الدولة العثمانية بحق الأرمن قبل ٲكثر من مئة عامٍ.
بكلماتٍ مُغلّفةٍ بِغبارِ تاريخٍدامٍ، قلّبت بهيجة الموسىصفحات حِقبةٍ سوداء ألقتْ بظلالها القاسية على حياة والدها،الطفل المدلل لأحد عوائل الأمراء الأرمن وقالت “كان والدي من ضحايا الوجبة الثانية للٳبادة التي ارتُكبتْ سنة ١٩١٥ ولم يتجاوز حينها حسب روايته لنا الثامنة من عمره، كان كالآلاف من الأبرياء حطبَ حربٍلا ناقة لهم فيها ولا جمل.”
وتنقلُ بهيجة عن والدها : “في ذلك اليوم المشؤوم، حلّقت حمامات والدي في سماء مدينة قيصرة في تركيا بعيداً، وأخذ يُراقبها مع أخوته الثلاثة من فوق سطح منزلهم الكبير، حين نادتهم جدّتي أنْ يُسرعوا في النزول، والهرب بعيداً عن آلة الموت التركية، وركوب العربة التي جهزتها الجدة بالطعام والماء، وانطلقت مُسرعةً تعبر طرقات المدينة تجرُّهاثلاثة أحصنةٍ للّحاق بفُلولِ العوائل الأرمنية الفارَّة والوُجهة جنوباً إلى سوريا، في رحلة استغرقت ٲياماً طويلةً حصد الموت روح ٲمّ والدي في منطقةرأس العينمن جهة تركيا وبعدها بدأتْ قوافل الفّارّينَ تفترق في مجموعات عديدة توجّهت كلٌّ منها في جهة أملاً في نجاة أكبر عددٍ من الهاربين، حينها ٲضاعَ والدي جَدّي وأعمامي وعمّاتي وبقيّة ٲقاربه ووصل هو مع المجموعة الصغيرة إلىحدود منطقة عين ديوارفي سورية.”
النَّجاةُ مِنَ الذَّبح
بعيونٍ اغْرورقتْ بالدّموع أضافتْ بهيجة: “الخوفُ قادَوالدي نظريانٳلى الاختباء تحت جُثثِ الضّحايا الأرمن بعد أنْ تمكن الجنود الٲتراك من اللّحاقبمجموعتهم وحَزّهِم لِرؤوسِضحاياهم دونَ رحمةٍ. صرخاتُهم كانت تقطع ٲنفاس ٲبي من الخوف لكنّ الحظَّ لم يَسْخ هذه المرة بكراماته على ٲبي، فقد تمكّن ٲحد الجنود الٲتراك مِنْ سحبه من تحت الجُثث وطعنهِ بخنجرٍ في ظهره أسفل كتفه الأيسر، وأخذ يتمتم بالتركية التي كان يُتقنُها ٲبي بعد أنْ خلع حذائهُ الأسود من قدميه الصغيرتين والمُجهدتين قائلاً لصديقهوهم يبحثون في جيوب وٲغراض قتلاهم: ‘سآخذ هذا الحذاءَلابني فهو يناسبهُ تماماً’، وألقى بوالدي على الأرض جريحاً ينزفُ. وهربوا بعد أنْ رأوا أهالي عين ديوار قد هبوا لنجدة الضحايا بعد ٲنْ ٲخبرهم رُعاةُ القرية عمّا فعلوهُ الجنود الأتراك، لكنهم لم يصلوا في الوقت المناسب لإنقاذهم.”
وكانَ مِنْ بين الواصلين الٲكرادموسى ٳسماعيلمُختار عين ديوارالذي تولّى مُداواة والدي النّاجيالوحيد من وجبة الٳبادةتلكَ وتَبنّاه كأحدِ ٲبنائه وانتقل للعيش في كَنَفِ ٲسرةٍ جديدةٍ مَنحتهُ نَسبها، وٲصبح يعرف بــ مصطفى موسىٳسماعيل.
بعد مرور خمسة عشر عاماً على الٳبادة شَبَّنظريانوتزوج من شريفة بيرمامابنة عائلة كردية من قريةملا مرزيهالقريبة من عين ديواروأنجبَ منها أربعة ٲولاد وثلاث فتيات، وترك العائلة التي عاشفي كنفها ابناً مُحبّــاً ومُخلصاً، وانتقل للعيش والاستقرار في مدينة القامشليشمال شرقي سورية.
مقهى كربيس بريد النّاجين من الٳبادة
لا تَنفكُّ بهيجة السيدة السبعينية التي تمرُّ بشكلٍ دوري في سوق القامشليٳلّا وأنْ تقودها قَدَماها للمروربجانب مقهى كربيس الذي بُنيَ في الثلاثينيات من القرن الماضي قبل ٲنْ يُهدم ليعود ويُطلَّ من جديدٍ في ذات المكان، لا تُغادره صور من عرفوهوتُضيف: “كأنّ الزمن ينثرُني على صفيح الذكريات ويُعيدُني ٳلى الوراء عشرات السنين كلما مرَرتُ بجانب مقهى كربيس أشعرُ بكثير من الألم وأترحّم على روح صاحبه كربيس ميراييان.”
أذكُر تماماً ميراييانحين كُنت أُرافق والدي ٳلى دُكاننا الطيني في سوق عَذْرافي وسط المدينة، وٲساعدهُ في بيع الغرابيل والحبال والخيزران والمسامير والتوابل وٲدوات الزراعة، زارنا كربيسوسأل والدي بعد سماعه أنّه أرمني نجا من الإبادة عن اسمه الحقيقي الذي يُعتبر مَقهاهُ من ٲوائل المقاهي بمدينة القامشليومن أهم نقاط التواصل الاجتماعي، عاد كربيسبعد فترةٍ بَشَّر والدي بوصول رسائل من ٲعمامه وخالاته وعمّاته من لبنان وٲمريكا وفرنسا الذين فرّوا مع قوافل الٲرمن الهاربين يومها ٳلى تلك البلاد واستقروا فيها، وراسلوا كغيرهم كربيسالذي كان بمثابة حمام زاجلوكساعي بريد ٳنساني. وتمكنت العديد من العوائل عن طريقه العثور على بعض ٲحبتها النّاجين كوالدي، وصلتنا رسائل ٲعمامه وخالاته وعماته الذين كتبوها باللغة الأرمنية وتولّت حينها عائلة ٲرمنية تُدعى جان دولة في ترجمة الرسائل وكتابتها وحتى ٳرسالها ٳلى عناوين مُرسليها. ومنها رسالة خالة والديأرشلوزالتي وصلتنا من بيروت في لبنان ودَعَتْ والدي لزيارته.”
“نعم أذكر ذلك تماماً كأنه الأمس. كنت في الحادية عشرة من عمري، حينها سافر والدي بالبوستةكما كانت تُسمى الحافلات في تلك الأيام، ومنها ٳلى الساحل حيث سافر بالبابوروهي الباخرة التي حملت والدي نظريانوٲمي وٲخي البِكر بحراً ٳلى لقاء خالته بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد مرور ٲربعين يوماً من عودة ٲبي تُوفّيَ بعد صراع مع مرض الفشل الكلوي كانت سنة ١٩٥٧.”
الجريمةُ الكُبرى
الرابع والعشرين نيسان منْ كلّ عام الذكرى السنويةللإبادة الٲرمنية التي راح ضحيتها ما يُقارب المليون ونصف المليون ٲرمني خلال وبعد الحرب العالمية الٲولى. وقد أطلق الأرمن على تلك الأحداث بـ “الجريمة الكبرى”والتي ارتكبها الجنود الٲتراكمن ربيع ١٩١٥ حتى خريف ١٩١٦ وبقي صداها المُؤلم يُؤرّق ابنة الناجي نظريان شوربجيانكالآلاف غيرهاممّن كانوا ضحايا حروب ٲحرقتِ الٲخضر واليابس وسط تخاذُل المجتمع الدولي في ٲداء دوره الٳنساني بِرَدّ الحقوق ٳلى ٲصحابها. وتُضيف بهيجة الموسى: “لطالما ارتبك المجازر في المناطق التي سيطروا عليها ونَكّلوا بالعباد وهدروا كرامة البشر الٳنسانية. فلطالمارفضت الحكومة التركية الٳعتراف بتلك الٳبادات الشَّنعاء رفضًا تامًّــاً.”
وتُضيف: “رُغمَ مرور كل تلك السنوات الطويلة فإنها عجِزتْ عن مسحِوابلِ الظلم الذي خيّم على حقبة سوداء في تاريخ دولةٍ طاغية أثقلتْ في طُغيانها وحفرتهُ عميقاً في ذاكرة الضحايا الناجين من تلك المجزرة الملعونة وسيبقى صداها مغموساً في ذاكرتي سأورثهُ لأبنائي ولأحفادي، مُحالٌ أنْ تَندملَ جراحاتهُ العميقة، وسَيُلاحق شَبحُ تلك الٳباداتالطُّورانيين الٲتراك وسَيخنقُ ٲعناقهُم بِطوقِ لعناته.”
١–لماذا اخترت أن تترجم بوكوفسكي بالذات، ما الذي جذبك إلى عالمه؟
انتبهتُ إلى بوكوفسكي قبل سنواتٍ عديدة، إذ لفتَني أنه مختلفٌ عما قرأته من الشعر العربي والأجنبي، ومختلف عن مُجايليه من الشعراء الأمريكيين أيضاً. إن مُغرياتِ عالم بوكوفسكي متعدّدة ومتنوعة، منها البساطة والمباشرة، الطرافة والبذاءة، العبثيّة والسُخرية، وهنالك الاحتفاءُ بالخمر الذي يبرزُ كثيمةٍ أساسيّة في أدب بوكوفسكي، وهي ثيمةٌ شائعة الشعر العربي والفارسي، لكنها نادرةٌ في الشعر الغربي والأمريكي بالخصوص. ثم قرّرتُ جمعَ ترجماتي المتفرّقة له، والإضافةَ إليها، والتقديمَ لها، بغية إصدار كتاب مختاراتٍ شعريةٍ جيّدٍ من حيث الحجم والاختيار وجُودة الترجمة، بعدما عانتْ قصائد بوكوفسكي من استِسْهال المترجمين والهواة على مواقع التواصل الاجتماعي وخارجها.
٢– ما الإضاءة الشعرية الجديدة التي يمكن أن يكتشفها القراء العرب لديه؟
يمكن للقرّاء العرب اكتشافُ العديد من الأفكار والآراء ووجهات النظر الجديدة عند بوكوفسكي، والعربُ يحبّون بوكوفسكي عموماً. أوّلُ ما نلحظه عند بوكوفسكي هو أنه يُدمّر “أسطورة أمريكا” ويقدّم لنا الوجه -لا القبيح، بل– الحقيقي لها. ثم نراه يحطّم الصورة النمطية للشاعر، الصورة المكرّسة في الثقافة المركزية والمتوارَثة في المؤسَّسة والأكاديميّة، ويقدّم بدلًا عنها صورةَ الشاعر بعد الحداثي، شاعر الهوامش الـمُهمَّش والشَّغُوف بالـمُهمَّشين. وكما قال عنه ليونارد كوهين: “إنه يُـنـزِلُ كلَّ شيءٍ إلى الأرض، حتى الملائكة.” شِعريًّا؛ يلفتُ بوكوفسكي الانتباهَ إلى إنّ الشِعر ليس محدّدًا في موضوعاتٍ معينة، ولا يمكن حصْرُهُ في أساليب تعبيرية محددّة، فالسيّد بوكوفسكي يذهب إلى أبعد المواضيع وأغربها، ويتناولُها بأكثر الأفكار والأساليب غرابةً. إنّ أهمّ درسٍ تعلّمتُهُ من بوكوفسكي؛ هو أنّ على القصيدة أنْ تحتشد بكلّ ما لا يتوقّعه القارئ.
٣– ما أوجه الاختلاف بينه وبين الشعراء العرب من جيله على صعيد الرؤية الشعرية؟
جيل بوكوفسكي من العرب هم جيل السبعينات. بالتأكيد الاختلاف كبير من حيث المرجعيّة الفكرية، واللغة الشعرية، وفهم طبيعة الشعر ودوره، وكذلك رؤية الشاعر لنفسه وبلده والخارج… وإنّ هذه الاختلافات –كما أرى– تعودُ وتُـرَدُّ إلى أسبابٍ تاريخية ومادية، لا إلى أسباب ثقافية أو لغوية.
الشاعر العربي الذي أجد تشابهًا بينه وبين بوكوفسكي؛ هو محمد الماغوط. فكلاهما حطَّما صورة الشاعر الفارس الذكوريّ المغرور، وقدَّما نفسَيهما بصورةِ الشاعر البائس والفاشل. وكلاهما ناقشا موضوعاتٍ كُبرى بشيءٍ من السُخرية واللامبالاة، إذ تطغى على نصوصهما حالةٌ من اليأس الذاتي والعام، وفقدانِ الأمل من إحداث أيّ تغييرٍ في أي مجال. إن الوحدة والرعب اللذين عاشهما الماغوط في دمشق وبيروت، يشبهان الوحدة والرعب اللذين عاشهما بوكوفسكي في لوس آنجلس.
٤– ما الدور الذي تلعبه الترجمة حالياً في إغناء الشعرية؟
للترجمة إلى العربية دورٌ رياديّ في تطوير الشعر العربي ودفعه من مكانٍ إلى آخر، وهذا معروف منذ أوائل القرن العشرين، فما نشأتْ تيّاراتُ الرومانسيّة والواقعيّة والواقعيّة الجديدة وما سُـمّي “الحداثة” إلا بعدَ الـتأثُّر بالنصوص الأجنبية المترجمة. واليوم ثمة من الشعراء العرب مَنْ يُقلّد بوكوفسكي، فيستعيرُ صوتَ العابث اللامبالي ويكتبُ عن بيئته بصورةٍ مباشرة. وثمة شاعراتٌ يُـقلّدن بلاث وسكستون وغيرهما، فيكتُبن ما يُشبه “الاعترافات” مع جُنوحٍ مُبالَغ فيهِ نحو العزلة واليأس والانتحار. لطالما كان الشِعرُ المترجَمُ بوصلةَ الشاعر العربي على مدار قرنٍ كامل. دعْ عنكَ مقولاتٍ مثل “الشِعر لا يُترجَم” أو “ترجمة الشعر خيانة“، وأحيانًا تغدو الترجمةُ كلُّها “خيانة“! فهذا الكلام لا قيمةَ له. إنّ تأثيرَ الشِعر المترجم في الثقافة العربية لظاهرةٌ تستحقُّ التأمّل، حيث أن معظمَ المثقفين العرب فهِمُوا الحداثة وكتَبُوا عنها تأييدًا أو نقدًا، مُنطَلِقين من فهمِهم وتصُوُّرهم الشِعري لها. إنّ كلمة “حداثة” عند العرب تأخذُ الأذهانَ باتجاه الشِعر قبل أيّ شيء آخر!
٥– ما الذي شعرت أنك خسرته في الترجمة، وما الذي ربحته؟
الترجمة تُعلِّم الدقّة، وهذا الأمرُ حسَنٌ في مجال الكتابة البحثية، لكنه مُقيِّدٌ في مجال الكتابة الإبداعية. خسرتُ حريّة وفوضوية التعامل مع الكلمات، خسرتُ متعة القراءة باللغة الأجنبية دون أنْ يعمل ذهني –لا شعوريًّا– في ترجمة ما يقرأ، حتى أثناء مشاهدة الأفلام أجدُ نفسي أترجم ما أسمع بدلًا من الاستمتاع به فحسب. في المقابل، كسبتُ معارفَ عديدة في اللغة والأدب والثقافة العامة، وحتى اللغة الأم فإنها تتطوّر وتُغنى أثناء الترجمة إليها.
٦– بماذا يتميز بوكوفسكي عن أقرانه من الشعراء الآخرين في سياق الشعر الأميركي؟
يتميّز بأنه لا يشبههم، ولم يقبل التصنيفَ ضمن تيارٍ من تياراتهم، فلا هو تقليدي ولا حداثوي، لا اشتراكي ولا مناهض للاشتراكية، لم يكنْ من المؤمنين ولا الوثنيين، ولم يُعرَف عنه الاصطفاف إلى جانب الملوَّنين أو الوقوف ضدّهم… أما من حيث الاتجاه الأدبي، فإن الحركة الأدبية التي أسَّسَها بوكوفسكي، والتي ينتمي إليها وتنتمي إليه بوصفه عرّابها، فهي “الواقعية القذرة“، وقد باتَ من المعروف أنها اتجاهٌ أدبي يهتمُّ بالحياة العادية والبائسة للطبقة الفقيرة، ويركّز على نماذج من العمّال والمشرّدين والسكّيرين والعاهرات (عاملات الجنس)، ويتميّز بتصوير الواقع المعيش بكلّ تفاصيله القاسية والصادمة والقذرة. إذًا، فإنّ بوكوفسكي مؤسّسٌ لتيّار أدبي! وهذا ما لا يستطيعُهُ إلّا بضعةُ شعراء معدودين خلال قرنٍ كامل!
٧– كيف تنظر الآن إلى واقع الترجمة الشعرية إلى اللغة العربية؟ لماذا برأيك تتفوق الرواية على الشعر؟
في الواقع لا يمكن الحديث عن حركةِ ترجمةٍ شعريةٍ إلى العربية، إذ توجد مساهمات فردية متفرّقة وسطَ حالةٍ من الفوضى العامة، وقد باتتْ هذه المساهماتُ تجدُ مكانًا لها في الصحافة (ورقية وإلكترونيّة) أكثر مما تجدُ مكانًا في دور النشر. كل ذلك، وغيره، يجعلُنا لا نعتقد بوجود حركة ترجمة شعرية إلى العربية. السبب فيما أرى هو غياب المؤسسة الثقافية العربية، وفي حال وجودها فإنها تعمل دون خططٍ أو رؤىً مستقبليّة. أما دور النشر الخاصة فلها اعتباراتها الخاصة، مثل تحقيق نِسَبٍ جيّدة من المبيعات، وهذا ما لا يحقّقه الشِعرُ عادةً. لكن لماذا تحقق الرواية مبيعات أكثر من الشعر؟ أعتقد لأنّ لغة الرواية تصلُ إلى شريحةٍ واسعة من القرّاء، هي أوسع بكثيرٍ مِنَ التي تصل إليها لغةُ الشعر. كما تصلُ مقولةُ الرواية –سواءً كانت تاريخيّة أو سياسيّة أو اجتماعية– إلى شريحةٍ أوسعَ بالعموم من الشريحة التي تصلُها مقولةُ القصيدة. الشعرُ مُتطلِّب، ويحتاجُ إلى قارئٍ مُهتمّ به، لأنّ آليّات القراءة في الشعر تتطلّب إلمامًا خاصًّا بها. وهنالك –أيضًا– أسبابٌ تتعلّق بطبيعة الحياة اليوم، وبكثرة الـمُغرَيات التكنولوجيّة التي تُبعد الناسَ عن القراءات الـمُعمَّقة والـمُتأنّية، وعن القراءة مرّةً تلو الأخرى، في سبيل التلذّذ بالنصّ وإعادة خلْقِ أبعاده ودلالاته لدى المتلقّي، وهذا ما يتطلّبه النصّ الشعر في نماذجه الرفيعة.
أجري هذا الحوار بمناسبة صدور الترجمة العربية لمختارات من شعر تشارلز بوكوفسكي بعنوان ”وحيداً في حضرة الجميع“ والتي ترجمها الشاعر السوري عبد الكريم بدرخان وصدرت مؤخراً عن عن دار فضاءات في عمان، الأردن.
“Like the country itself, feelings about Syria’s national football team, who play Australia tonight, are complex.
When the Syrian national football team walks onto the pitch in Sydney tonight , Obay Al-Akul won’t be inside the stadium cheering but outside protesting.
For many, the national side’s unlikely progression to the playoffs for 2018 World Cup qualification is less a fairytale and more a continuation of the nightmare that has seen more than 400,000 people killed since the Syrian uprising began in 2011.
“How can I support this team when so many civilians have been killed in Syria,” Al-Akul said on Tuesday. “How can I when too many athletes have been arrested and some of them killed by the regime because they supported the Syrian revolution.”
The result seemed so unlikely for a team ranked 75th in the world from a country ravaged by civil war, that many, like George Salloum from Granville in Sydney’s west, saw it as a rare reprieve from all the “bad news” the country his family migrated from faces.
Salloum was born in Australia, but many of his family still live in Zweitina, a Greek Orthodox Christian village near Homs in the country’s west.
“It’s good for Syria – with what’s happening there you’d think there would be no soccer team,” he said.
“People think the whole country is in ruins, but it’s showing the world we’re still up there and thriving. The country is still up and running, and people are so proud of Syria.”
But is Syria an example of triumph over adversity, or a cynical propaganda display from a despot?
After the Iran match, in an eerie demonstration of the cult of personality that surrounds the Assad regime, the players assembled on Syrian television to praise the dictator.
Among them were Firas al-Khatib and Omar al Somah, two players who before the Iran match had not played for Syria since 2012 in a boycott of the regime.
“First, we thank president Bashar al-Assad for honouring all the players,” al-Khatib said in a broadcast translated to English on Youtube. Al Somah mimicked him: “I thank president Bashar al-Assad for his support of sports and athletes,” he said.
Anas Ammo, a Syrian sports writer who has lived in Turkey for the past five years after fleeing the civil war, said the staged press conference was a display of how the national side has been co-opted by Assad.
“All the people in Syria love football, and six years ago we would be celebrating,” he said. “But this team – this is not a football team – this is a political team. This is a dictator’s team.”
Ammos, who says he’ll be supporting Australia, said the reasons for the player’s support for the national team were also varied and complex.
Some genuinely support Assad, while he believed others, such as al-Khatib, faced political pressure.
“Whatever happens, 12 million Syrians will love me,” he told Fainaru. “Another 12 million will want to kill me.”
Like many, al-Akul, who now lives in western Sydney, believes Assad is using the national team to project an image of normality to the international community.
“He didn’t care about football or sport before this – in Syria we had bad teams, bad funding, now all of a sudden he supports all of that?” he said.
“He wants the propaganda to show the world ‘look, after seven years of war we don’t care, we go to the World Cup qualifier’.”
It’s certainly true that the regime’s support for its athletes is newly found. Ammos believes at least 13 league football players are missing or in government detention. Almost 50 have been killed by government forces. And many have come up against the regime since the 2011 uprisings.
This week the website of the Asian Football Confederation published an interview with Syria’s most capped player, goalkeeper Mosab Balhous, on the country’s unexpected success.
Balhous, 34 and now based in Omar as a coach for Dhofar, predicted the team would beat Australia on the back of the “spirit, desire and determination of the players”.
Jihad Qassab, a former Syria captain who led his club al-Karama to the 2006 Asian Champions League final, died inside Saidnaya military prison in Damascus in late 2016 after being accused by authorities of making car bombs, an allegation he denied.
A second person named George Salloum, this one from Avondale Heights in Melbourne’s north-west, has been watching Syria’s matches on television.
Salloum moved to Australia from Syria 45 years ago as a 19-year-old. Usually he’d be supporting Australia, but he says the sentimental pull of Syria is too great.
“I should be supporting Australia because I have been here all my life [but] it’s human nature, you always have a soft place in your heart for the place that you’re from,” he said. “Plus, Syria are the underdogs.”
But, Salloum said, he understood why many didn’t feel able to support Syria.
“What has happened is a catastrophe in any way you want to measure it, cities and villages have been destroyed and people have been killed on both sides,” he said.
“The hatred and division is so profound it will take generations and generations to heal it.
“I don’t have any grudge against anybody.””
[This article was originally published by The Guardian.]
وصلتْني منه صورةٌ سوداء معتمة بعد أن أرسلتُ إليه لقطةً للمدينة التي أعيش فيها سمّيتُها مدينة الضوء. في البداية ظننت أن صورته لقطة فاشلة التقطتْها الكاميرا نتيجةً لخطأ ما. كانت حالكة السواد، وكتبَ تحتها:”صورة مدينتي”. نظرتُ إلى الظلمة المؤطرة، إلى الأعداد الغفيرة التي تعيش فيها، إلى حيوات مدفونة وذكريات مطموسة وطفولات وأحلام مجهضة. هل غمرتْ الظلمة مدينة بأكملها، بحيث لا يومض ضوء واحد في هذا الغيهب؟
نَفَضْتُ هذه الإيحاءات من ذهني، وأغمضْتُ عينيَّ متخيّلاً مدينة مضاءة، مدينة النور، الوجوه فيها نورانية ليس من ضوء خارجي بل من ضوء ينبع من الداخل، الأعين تتوهج وهي تنظر إلى الآخر، الجمال أفق ومتعةُ العيش هوية تنير الوجوه، ثم فتحتُ عينيَّ ونظرتُ إلى الصورة التي أرسلها صديقي: ظلمة لا تُخترق، قال إن الوطن غرق فيها.
أخرجَ من القاموس مرادفات لكلمة ظلمة ودَوَّنَها تحت الصورة. كان مولعاً بالكلمات، قال إنه حين يقرأها يشعر بأنه يمسّد فراءها، ويلمس بشرتها.
كانت مرادفات كلمة ظلمة كثيرة: إِسْوِدَاد، جَهْمَة، دَجْن، دَيْجُور، دُجًى، دُجُنَّة، دُجْنَة، دُهْمَة، سَدَف، سَدَفَة، سَوَاد، سُدْفَة، طَسَم، ظَلاَم، ظَلْماء، عَتْمَة، غَبَش، غَسَق، غَطَش، غَيْهَب، غَيْهَبَان، غُبْسَة، قَتام، لَيْل. لم تكن أيّ منها تعبّر عن الظلمة التي في الصورة. كان في الصورة جاذبية هائلة، جاذبية الظلمة، التي توحي بأفكار لانهائية، فقد بدا كما لو أن الضوء مطرود منها، أو منفيّ، مثلي رغم أنني لا أعدُّ نفسي ضوءاً فأنا مزيجُ أنوار وظلمات، أحلام وكوابيس، نجاحات وإخفاقات، تطلعات وانهدامات.أما حيث هو، أعني صديقي، وحيث كنتُ، أي وطن ولادتي، فمن غير المسموح لك أن تضيء أو تستضيء، قد تلجأ إلى أضوائك الخاصة، كأن تتخيلها في الداخل، وتحوّل النور من بُعْد خارجيٍّ إلى بعد داخلي، ولكن الليل المعتم المكثّف الذي في الصورة، كان قوياً وحاداً كنظرة أسد جائع.
بحثتُ في قاموس ما أزال أحتفظ به عن مرادفات كلمة ضوء، كان هناك الكثير منها، وجاءت تحت عنوان “أضداد كلمة ظلمة”: النّور، الضِّياء، السَّناء، إِشْراقٌ، إِصْباحٌ، التماعٌ، بهاءٌ، بَرِيقٌ، تَبَيُّنٌ، تَلأَلُؤٌ، سطوعٌ، صَبَاحٌ، ضُحًى، ظُهُورٌ، فَجْرٌ، لامِعٌ، لمعانٌ، لياحٌ. لم أشعر أن لهذه الكلمات وقعاً، أو أن فيها بعداً إيحائياً كمرادفات كلمة ظلمة، هل السبب هو أنني أميل إلى الأسرار، إلى ما هو مبهم وعصيّ على التفسير؟ أم هل لأن انشغالي بالظلمة في تلك الصورة، صورة مدينة من الوطن، هو الذي ولّد لدي هذا الإحساس؟ هل كانت حياتي في كل تلك السنوات السابقة بهذا السواد؟ أتذكّر أنني كنت أرى ضوءاً وأنا أتنقل أو ألتقي بالآخرين. أتذكر أن الشمس كانت تشرق، وأنني كنت أشعل اللمبة أو أشعل شمعة حين تنقطع الكهرباء. هل فقدتُ كل هذا؟ هل مُحيَ كلُّ هذا من ذاكرتي بحيث أنني لا أذكر سوى الظلام؟
أرفقَ الصورةَ بوصفٍ موجزٍ للظلمة التي تُكوِّنها. قال إنه منذ أن تشكّل وعيه شعر أنه مؤطر بالظلام، فشاشات التلفزيون، كانت معتمة طيلة عقود، لا شيء يشتغل عليها حين تضغظ الزر، فيما يصدر من المحطات الإذاعية هدير كأصوات أنهار خفية ترفد الظلام. أما الصحف، فكلها حبر أسود، هناك أحياناً سطور، عبارة عن خطوط سوداء، لكن دون كلمات. أما المدينة فتعيش حياتها بشكل باطني، لا أحد يتحدث إلا عن فضائل الظلمة.
قال إن النبي يونس رُميَ في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، والجنين يعيش في ظلمة جدار البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة المشيمة بأغشيتها، ثم يولد في ظلمة الكلمات كي يُرْمى فيما بعد، معنا، كباراً وصغاراً، في مائة ظلمة وكل ظلمة أشد من الأخرى.
لم يتغيّر شيء في بلادنا طيلة عقود، لم تنزع عنها غشاء الظلمة وتخرج إلى الضوء. كان هو الصديق الوحيد الذي حافظتُ على صلة به، وكان يتحدث دوماً بهوس عن الهجرة والسفر لكنه لا يقوم بأي فعل في هذا الاتجاه، ثم أحياناً يتحدث عن السفر داخل المكان، أي حين ترفض الانتماءات الضيقة تتحول إلى غريب في هذه الأمكنة، ومن ثم فإن الإحساس بهذه الغربة يتحول إلى معينٍ لا ينضب لأفكار مثيرة، تُغْني حياتك.
صارت علاقتي معه عبر الكلمة والصوت بعد أن صدر قرار بمنعي من دخول البلاد بسبب مقالة ساخرة تحدثت فيها عن خطاب للرئيس، قلتُ فيها إنه لولا عيب واحد لكان عبقرياً في انتباهه إلى التفاصيل، ينتبه إلى كلّ شيء باستثناء حقيقة ما يجري في البلاد، يتحدث عن التقدم العلمي في كل أنحاء العالم ويغفل انهيار التعليم في بلاده، يتحدث عن أنواع الأزهار، يركز على الأوركيدا، وأحياناً يستخدم الشاشة كي يعرض أمثلة عن أنواع الورود المستوردة في قصره، فيما الوردة الجورية والياسمينة لا تُلْمحان في شوارع البلاد. يجتمع بالخبراء لكنه يستولي على الحديث، ولا يصغي. كان جميع زواره يجدون أنفسهم مجبرين على الصمت. كان علّامة في كل شيء والذين يصمتون في حضرته ويصغون إليه ويداهنونه هم الذين يتولّون المناصب. بعد ذلك ينتقل إلى حديث عن الجرذان والجراثيم مشيراً إلى بعض منتقديه، متبجّحاً أن شعبه، (لا أعرف ما الذي عناه بهذا المصطلح الغامض)، رمى في القمامة شخصيات كثيرة.
كان يحصي كل يوم عدد مسامير الكرسي الذي يجلس عليه، اكتشف مرةً أن مسماراً نُزع منها فقصف بلدة يُشَكّ بولاء سكانها، وحين نُزع المسمار الثاني قصف بلدةً ثانية، وكلما نُزع مسمار محا بلدة عن الخريطة بسلاح الطيران، وحين نُزعتْ المسامير كلها اختفت المدن، ولم يتبق إلا المطارات والطيران.
أحد العائدين من مخيمات اللجوء خارج الحدود قام برحلة بحث عن منزله فلم ير إلا حطام المنازل وطائرات حربية في مطارات مهجورة. كان البرد شديداً فبدأ البحث عن الحطب، عثر على بعض القطع الخشبية، كانت هذه قطع أخشاب كرسي الرئيس. كوّمها وكونه لا يملك عود ثقاب أو ولاعة بحث عن حجرين بدأ يحكهما ببعضهما حتى أشعل ناراً، في هذه اللحظة دوّى الرعد وانهمرتْ أمطارٌ غزيرة أطفأتْ النار. لعن اللاجئ خشب البلاد وسماءها وأرضها المدمرة، وقال: من الأفضل لي أن أعود إلى الخيام.
أما الذين فرّوا فقد غرق قسمٌ منهم في البحر، وأُعْدم قسمٌ آخر على الهوية بعد أن عمّتْ الفوضى وتشكلت جيوشٌ كثيرة، الأثرياء تمكنوا من عبور الحدود وتوكيل محامين والحصول على لجوء في بلدان أخرى. الفقراء تكوّموا في الخيام. بضعة أخشاب ومسامير دمرت بلاداً بأكملها.
أرسلت لصديقي صورة ثانية للمدينة التي أعيش فيها، وهي صورة ملتقطة في الليل عن سطح بناية مرتفعة. الأضواء ترسم مخطط المدينة، شوارع من الضوء تتفرع في أزقة من الضوء وعلى أطرافها نوافذ من الضوء، فرد صديقي قائلاً: إن هذه الأضواء التي ترسلها ليست إلا ديكوراً للظلمة، وأرسل مرة أخرى الصورة السوداء، المعتمة، التي ليس فيها سوى الحلكة الشديدة وكتب تحتها: هذه هي مدينتي، ليس حين تنقطع الكهرباء، بل في الأوقات كلها.
أطّرتُ الصورة التي أرسلها إليَّ، مسحوراً بالظلمة التي حين أنظر إليها تُضاء بلادي بكل تفاصيلها في ذهني، صارت هذه الصورة السوداء ضوئي المتوهّج في ظلمات المنفى. أعادت الحياة إلى أفكاري، وشعرتُ بتوثب العشرينات من عمري، ذروة الاندفاع نحو حياة بحاجة للاستكشاف والتجريب، كمراهق يسرج فرس رغباته وينطلق.
أمعنُ النظر في الصورة المعتمة كل يوم مخترقاً حجاب الظلمة مشاهداً الضوء في كل مكان، في جميع الوجوه، في الابتسامات الجميلة المرحبة، في وجوه الشبان والشابات، في وجوه العابرين في الشوارع، أضواء تنبع من هذه التفاصيل وترفد المدينة بضوء آخر، وكم أحن إلى هذا الضوء القابع تحت العتمة في صورة مدينتي، كم أتوق إلى الحفر والوصول إلى ينابيعه ونزع أختامها كي يفيض.