بواسطة Nabbel Al-mulhem | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري نبيل الملحم
قد يكون منظرو الرواية هم أسوأ الروائيين، تمامًا كما تكتب الرواية التاريخية على أيدي أسوأ المؤرخين.. فالرواية بالنتيجة ليست “الحدث”، وليست “القضية”، الرواية هي من يروي.. كيف يروي؟
وعندما تتحول القضايا الكبرى إلى عكّاز لقدم الروائي، فلن يلغي هذا كون الروائي “أعرج”.
الهزّات.. الحوادث الكبرى ليست أكثر من استفزاز لذاكرة روائية.. أو لصياغة ذاكرة جديدة تأخذ مساحتها في الرواية ففي المحصلة الرواية هي “ذاكرة”، والأهم هو كيف تتذكر؟
تتذكر بشر بما يحمل البشري من تنوع يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، الحب والكراهية، الإعصار والرماد، وهذا بالتحديد يتصل بمن يتذكر، وكيف يصيغ هذه الذاكرة، وكيف يحييها أو يميتها، فالحرب، العنف، السطوة، الاستبداد، هاجس العدالة، كلها لاتكفي أن تكون الصلصال الذي يمنح منحوتة روحها.. بالنتيجة يد النحّات هي التي تُقرر.
كل ماسبق كلام عام، كلام في الموقف من الرواية كفعل إنتاج حياة على الورق، غير أنه حين يتصل الأمر بفعل محدّد هو الحرب السورية، بما مهّد لها وآلت إليه، فمن الصعب العثور على رواية هي رواية أولًا والحرب مادتها ثانيًا، وهذه إشكالية وقعت فيها القصيدة كما وقعت فيها الرواية، وربما يكون السبب هو استجابة الروائي لمتطلبات الرأي العام لا احتياجات الرواية بما جعل الرأي العام مادة خام، والقارئ زبونًا، وبوسعي أن أحكي عن أعمال روائية محدّدة وعن روائيين محددين خارج استطلاع رأي، وإذا كان كلامي صحيحًا (كليًّا أو جزئيًا)، فلهذا معنى واحد هي أننا أمام رواية عرجاء، عكازها “قضية بساقين مكتملتين”.
هذا عن رواية الحرب، أما عن رواية الاستبداد، فالاستبداد لم ينبت اليوم، والرواية لم تستنبته، الاستبداد متراكم عمره أعتق من عمر جيلنا والأجيال اللاحقة، ولا أظن أن “كريزا الحريّة” تكفي لانتاج رواية.. الرواية تطلقها تلك الحريّة الداخلية المُعاشة، المتراكمة فينا، تنتجها الشجاعة الأصيلة في الكاتب، والذي يكتب روايته حتى ولو كان بين فكي الغول.. ونحن اللحظة، في مساحة الكلام السهل، غير المكلف، الكلام الذي لايحمل مجازفة الحياة ولا مغامرة الكتابة، وهذا سيقلّل كثيرًا من قيمة منتجنا، وحين تسألني إذا ماكان الروائي مؤرخًا للّحظة فأقول لك:”ليس من رواية تؤرخ، فللمؤرخ مقعد المؤرخ، وللروائي مقعده، وحين يأخذ الروائي مقعد المؤرخ فهو مقعد إما فضفاضًا وإما ضيّقًا وفي الحالين مسخ.. في توثيق الحادثة التاريخية ليس ثمة علامة صحيح 95 بالمئة، أو واحد بالمئة، ثمة 100 بالمئة أو صفر، فالحادث التاريخي إما أنه وقع أو لم يقع، ولا مكان لنصف أو ربع وقع، أما في الخيال الروائي فإما أنه خيال خلاّق وإما أن يكون خيال شاحب، والفوارق شاسعة ما بين المورخ والروائي، وبين متطلبات الأول ومتطلبات الثاني، وأدوات الأول وأدوات الثاني، وتبادل المقاعد يخسر التاريخ ولا يربح الرواية، ويحصل الآن هذا التبادل، يحصل بشدّة استجابة لروح الدعاية، ولمتطلبات الرأي العام، بل لمتطلبات الراعي السياسي للرواية من قوى سياسية وصحف ومواقع ترويج، بما جعل الرواية بضاعة مؤقتة تستجيب للسوق، ولا أظن أن الفعل الروائي الذي هو فعل مخاض، سيكون وفيًّا لمخاضاته إن كان السوق مُرضعته.
ثمة سؤال في ملفكم هو: “هل تكون الكتابةُ في الحيزِ الضيقِ، حيزِ المواجهةْ، طوق نجاة في مواجهة هذا الخراب العميم؟ وما أهميةُ الكتابةِ في اللحظةِ الراهنةْ؟” أجيبكم أن الكتابة ليست طوق نجاة، غير أن مطرقة الحجّار تهوي بعشرات الضربات لتكسر الصخرة الصلبة، والرواية الخلاّقة – المطرقة، هي واحدة من هذه الضربات وقيمتها بقيمة شدّتها، ويد حاملها، وزاوية الصخرة التي يكيل ضرباته عليها، فهي فعل حياة، وفعل إنتاج حياة إذا كانت هي حياة، وما قيمتها في اللحظة الراهنة؟ هو السؤال الأكثر خطورة، فاللحظة الراهنة ليست رافعة لقيم الكتابة الموجوعة، القيم التي تؤصل لما بعد اللحظة.. هي قيم الكتابة السريعة.. قيم تويتر.. فيس بوك.. الانطباعات، أكثر مما تؤصل لقيم الاستغراق في تفكيك الأسئلة التي تطال عمق وجودنا فوق هذا الكوكب.. في هذه البقعة منه.. في طوفانه.. الكتابة حزينة، والوقت ليس لحسابها.. الوقت لحساب مسخ الكتابة، لحساب سوقها.. هاجس اليوم بات السوق.. مع ملاحظة أن كل ماقلته في كلامي هذا هو في الاطار العام لما يحدث للكتابة، غير أن في اللوحة مايكسر كلامي هذا ويقول: “لا.. ثمة كتابة أخرى.. في مكان آخر.. ليست كتابة بسطات وسوق”.
*************
نبيل الملحم في سطور:
صحافي وروائي سوري من مواليد السويداء عام 1953. درس الحقوق في جامعة دمشق والصحافة في جامعة القاهرة، ويقيم حاليًا في برلين/ ألمانيا.
يكتب في العديد من الصحف والمجلات العربية، ويدير حاليًا مركز “البوصلة للدراسات والبحوث” وقد صدر عن المركز حتى هذا اليوم (27) كتابًا، آخرها: روسيا – إيران – تركيا.. شرّ البليّة مابين التكتيك والاستراتيجية”، تقديم نبيل الملحم.
أعد وقدّم عدد من البرامج التلفزيونية منها: “ظلال شخصية” عام 1996، و”الملف” عامي 1999 – 2000.
كتب مسلسلين تلفزيونيين “ليل السرار” عام 2003، و”أرواح منسية” عام 2012.
له مجموعة من الكتب المطبوعة منها: “بوليساريو – الطريق إلى الغرب العربي”، “مسرحية أنا وهو والكلب”، “سبعة أيام مع آبو”.
يصفه النقاد بـ”صحافي مشاغب وروائي مشاكس”، وفي زمن الثورة السورية المُختطفة يقول “الملحم”: “ثورتي في نصي.. فيما أكتب”. هو السارد الذي تتناسل في نصوصه الروائية الخمسة التي صدرت مابين 2011 و2013، فجيعة الشخوص على مسرح التاريخ “فالغرقى أكثر من إمكانية إحصائهم”. ولقد وجد صاحب “آخر أيام الرقص”، الذي دخل عالم الرواية وهو في الـ57 من عمره، ويعكف حاليًا على كتابة روايته السابعة “الله حين يحكي”، وجد في الكتابة احتيالًا على الموت، وفي حياة الآخرين مخزونًا لترميم ذاكرة مهددة بالنسيان.. ذاكرة مأمولة تختزن جزءًا من تاريخ عاصف بالتحولات والخيانات، وجزءًا من حيوات بشر بعضهم مضى إلى حتفه، وبعضهم خان طريقه، وبعضهم التحفه النسيان. فكان أن كتب خلال السنوات الخمس الماضية ست روايات، آخرها “خمّارة جبرا”، والتي تصدر قريبًا، وفيها يحفر الروائي عميقًا في ذاكرة دمشق/ المكان، بتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، منذ بدايات الاستقلال إلى لحظة هتاف السوريّين للحرية. حيث يقف الشخصية الأساسية في الرواية (جاد الحق جاد الله)، أمام شاشة التلفزيون، التي تنقل أخبار القتل في سورية، ليهتف: الشعب يريد إسقاط النظام؛ فيسقط هو وتتحطّم عظامه التي لن تُجبَر أبدًا. لحظة السقوط هذه لحظة تلخيصية لكل ما مضى من عمر (جاد الحق)، ولكل ما سيأتي، وكأن الراوي يريد بحسمٍ مطلق أن يقول: “إن عظام جاد الحق هي عظام سورية الهشّة، التي لم تحتمل الوقوف والهتاف للحرية، نتيجة عقود النخر في بنية البلاد”. فبقدر ما تتقاطع براءة (جاد الحق)، مع براءة استقلال سورية، يتقاطع تشوّهه المستمر مع تشوّه سورية الإنسان والبلد.
وبقدر ما تبدو السياسة حاضرةً في الرواية، بقدر ما تبدو هامشية، فـ “خمّارة جبرا” أبعد ما تكون عن الرواية السياسية، إنما السياسة فيها مجرّد خلفية للمواقف الفلسفية والقراءة الوجودية، لقيم الحب والذاكرة، والنسيان والموت.
أما “بانسيون مريم” ثالث رواياته، فيأخذنا نبيل الملحم من تداعيات اللحظة السياسية التي يمكن التعبير عنها ببيان سياسي لطبقة أو حزب أو نخبة.. إلى عالم آخر.. إلى تحرير الروح الإنسانية.. تحرير الجنس فيها، وتحرير الأمل كما تحرير الجسد الذي يحلو له أن يرقص بعد ان أُصيب بشيخوخة طالت ثم احتجّت على نفسها.. إنها باختصلر شديد، رواية يمكن قراءتها بعين الغد لا بعيون الأمس المطفأة.
أعماله الروائية:
– “موت رحيم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “حانوت قمر”، دار أطلس للنشر، بيروت 2013.
– “سرير بقلاوة”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “بانسيون مريم”، دار أطلس للنشر، بيروت 2012.
– “آخر أيام الرقص”، دار الجمل، كولن/ بيروت 2011.
– “خمّارة جبرا”، قيد الطبع.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Taher Aitah | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري ضاهر عيطة
الإنسان هو القيمة الوحيدة التي تعني بها الرواية، بل يمكن القول: إن الإنسان هو طفل الرواية، تتلقفه من رحم الواقع أحيانًا، ومن رحم الخيال في أحايين كثيرة، وتسهر على تنميته وعلى كسائه وغذائه وألق روحه وجسده وفكره ووجدانه، لتشكله حسبما تشتهي وتهوى، فعندما يكتب الروائي روايتها، يكتب ليس فقط عن وإلى الإنسان، إنما يكتب إنسان، يخلقه من جديد، وعليه يصبح الإنسان في الرواية كائن مقدس إن جاز التعبير، ويغدو أي مساس به من خارج الرواية، ضربة موجعة إن لم نقل مميتة للروائي والرواية.
تلاحق الرواية حياة أناسها بأدق تفاصيلهم وعواطفهم وأفكارهم وهواجسهم، ثيابهم صفاتهم ضحكهم حزنهم، وقد تُخصص فصول من رواية، لتحكي عن تفصيل صغير، وربما تصير كل فصولها وسطورها وحبرها فقط للحديث عن لحظة حزن أو فرح، أو لحظة تردد أو لحظة اندفاع تعيشها شخصية في رواية، غير أن ما يحدث في الواقع يكاد يدمر معنى كل تلك التفاصيل، فهو حدث صادم وموجع، ليس فقط للروائي وللرواية، بل للوجود الإنساني برمته، فعندما يغدو قتل آلاف الناس وذبحهم وتعذيبهم أمرًا عاديًا بحكم التوحش اليومي، لا يعود يهم كثيرًا على سبيل المثال، الحديث عن نوع الشاي الذي كان ذاك المذبوح يفضله قبل أن يذبح، ولا الحديث عن ثياب وأحلام تلك التي مزقتها صورايخ الطائرات وأحالتها إلى أشلاء.
نعم الرواية تسهر على ولادة أناسها، وتظل ترافقهم مشتغلة على بنيتهم الروحية والنفسية والجسدية، لتحيك مصيرهم ببطء وهدوء وأناقة وتأني، بينما ما يحدث في الواقع العربي، وخصوصًا السوري، أحال المصائر الإنسانية إلى نهايات حادة، ومباغتة، وفي معظمها لا تتفق مع تطور وصيرورة بنية الإنسان على أرض الواقع. وقد تصل الأمور في بعض الأحيان أن يطرح الكاتب على نفسه سؤال كهذا: ما قيمة أن أخلق امرأة فاتنة الجمال في روايتي، وأنا أدرك أن الواقع أحل ويحيل وسيحيل كل هذا الجمال الأنثوي، وبطرفة عين، وعبر صاروخ يسقط من السماء، إلى أشلاء مبعثرة تنافي كل قيمة جمالية، فهذا القتل اليومي لا يقتل الإنسان فقط، إنما يساهم بقدر كبير في قتل الجمال والأدب والفن والقيم، ولا يعود هناك ثمة قارئ، فما الذي سيلفت انتباه القارئ ويدهشه ويضيف خبرة إلى خبرته وهو يرى السكاكين تفصل الرؤوس عن الأجساد، والصواريخ تكتب المصائر المأساوية، ليس فقط مصائر البشر بل ومصير الجغرافية والوجود، فلا أظن أن قارئ خرج لتوه من تحت أنقاض بيته، أو مثّل بجثة حبيبته أمام عينيه، أو استحالت أمه إلى أشلاء وهي تعد له طعام الفطور، أن يكون لديه شغف أو رغبة، ليقرأ رواية، فثمة ألف ألف رواية قد عشعشت في رأسه، وبات لديه فائض منها، ومن خلال تجربتي الشخصية كثيرًا ما صادفتُ أشخاص عاديين، وما إن يعلموا أنني أعمل في حقل الأدب والرواية، حتى يعبروا عن سخرية دفينة، معلنين عن امتلاكهم لألف رواية، مقترحين عليّ أن اصغي إلى رواياتهم عساها تغنيني ساعة الكتابة، إذًا لعلى الرهان في كتابة الرواية لم يعد على قارئ غارق في الدم والخراب والهجرة والاعتقال، إنما هو رهان مؤجل، يتطلع إلى جيل سيرث هذا الجيل، ويكون لديه عطش لقراءة رواية ما حدث في يوم غابر، ولكن كل هذا لن يمنع الروائي من أن يكتب، وإلا شاخ سريعًا أو نال منه الموت قبل الأوان، فحال الروائي بات كحال القارئ، فهو أيضًا مستغرق في الوجع، والدم، وكثيرًا ما يكتب ليهرب من خوفه، ليهرب من الموت الذي يلاحقه، يكتب على أمل أن يقول كلمة ما في الموت قبل أن يموت، أو يكتب ليعلن: أنه وإن كان عاجزًا عن القيام بفعل يوقف شلال الدم على أرض الواقع، فأنه يفعل أشياء كثيرة على الورق، وبهذا المعنى بات الكتّاب يكاتبون بعضهم، أو يكاتبون المؤسسات المعنية بشؤون الكتابة والثقافة والجوائز.
فكل ما يحدث وما يحيط بالكاتب يترك أثره عليه وعلى ما يكتب، ففي روايتي الأولى “لحظة العشق الاخيرة” والتي نشرت عام 2010 كان ضابط أمن في المعتقل قد غير مصير ثلاث شخصيات في الرواية، منهيًا عمرًا كاملًا من العشق بلحظة واحدة، ولو أني قبلها كنت قد اختبرت تجربة المعتقل لمَ كتبت هذه الرواية على هذا النحو، وبعد نشر الرواية بعدة شهور، كنت شرعت بكتابة رواية جديدة، لكن مع الثورة توقفت عن هذا المشروع ، ورحت أستغرق في رواية مختلفة، ويوم اعتقلت عام 2012 واعتقل معي جهازي المحمول، وكان يحتوي على فصول من تلك الرواية، أحدثت فيَ تلك الفصول المحفوظة في الجهاز المحمول رعبًا مميتًا، فقد كان الإطلاع عليها من قبل عناصر الأمن في المعتقل، كفيلًا بأن يؤدي إلى قتلي على الأقل تقدير لمجرد أنني اسميت ما يحدث ثورة وليس أزمة كما كان يروج من قبل إعلام النظام في حينه، لكن بعد تسلمي للجهاز يوم خروجي من المعتقل، اكتشفت أنهم لم يفتحوا الجهاز أبدًا، بل كانوا قد قاموا قبل اعتقالي بتصوير ونسخ جميع كتاباتي على الفيسبوك منذ بداية الثورة وبناء عليها اعتقلوني، غير أن تجربة المعتقل بحد ذاتها، وما رأيته من سحق لكرامة الإنسان وجلده وتجويعه وتعذيبه حتى الموت، أدت إلى تعديل الكثير مما كنت كتبت، ومع حرق الطيران لحمص ودرعا وحلب وداريا، أيضًا انزاحت بعيدًا خيوط كثيرة من الرواية، وهذا ما حدث مع السلاح الكيماوي على غوطة دمشق، ومع ظهور داعش.. وحتى الآن لازلت أشتغل على هذه الرواية، بل شرعت قبل عام ونصف تقريبًا بكتابة رواية ثانية، أهرب من الأولى، كي أشتغل على الثانية، وأهرب من الثانية للرجوع إلى الأولى. فقبل المعتقل كنت أكتب كي أنتشي بشخوصي الذين يحلقون إلى السماء بجوانح حريتهم التي راحوا يغزلونها، وبعد تجربة المعتقل صرت أكتب هربًا من الخوف والموت، والآن في دول اللجوء أكتب هربًا من الغربة، أو محاولة مني لتتطهر من عار هروبي وترك الأطفال هناك يموتون وحدهم دون أن أقدر على صون ولو قطرة واحدة من دمهم، ولعل هذا ما دفعني إلى استحضارهم في روايتي الثانية عساهم يدركون يومًا أنني كنت قريبًا منهم.
*************
ضاهر عيطة في سطور:
ولد الكاتب والروائي والمسرحي السوري ضاهر عيطة، في مدينة دمشق العام 1966. وهو يقيم حاليًا في ألمانيا.
وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث أوقفته أجهزة الأمن السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر بدمشق، لمواقفه المنتقدة للنظام.
حاز إجازة في الفنون المسرحية ، قسم الدراسات المسرحية، من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق العام الدراسي 1994 ـ 1995. وكان منذ العام 2003 وحتى العام 2015عضوًا في هيئة تدريس المعهد .
أصدر في العام 2010 روايته الأولى “لحظة العشق الأخيرة ” عن دار نينوى، دمشق. وقد أعاد هذا العام نشرها إلكترونيًا، من خلال الموقع الرئيسي لدار “كتابوك” المتخصصة بالنشر الإلكتروني عبر الانترنت.
وقال “عطية” عند نشر روايته إلكترونيًا: “جل شخصيات الرواية كانت في حالة اختناق كامل، كتبت الرواية وأنا أختنق مترقبًا خلاصًا ما لم أكن أعرف كنهه لكن استمرار الحياة مختنقًا كان أمرًا مستحيلًا، ولكم في الكتابة أكسجين الحياة أيتها الأقلام المبدعة”.
من مؤلفاته:
– “رقص مع النجوم “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2008.
– “حراس البيئة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2009. ونال الجائزة الاولى في “مسابقة عبد الحميد شومان للتأليف المسرحي للأطفال” في الأردن.
– “طيور الحمام “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2010. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” في سوريا.
– “عصفورة النجاة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2011. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” السورية.
– “براءة بحار”، (نص مسرحي موجه للأطفال)، ، نشر لدى الهيئة العربية للمسرح في الشارقة 2012 بعد فوزه بالمركز الأول في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى الهيئة العربية للمسرح” في الشارقة.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Haitham Hussein | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري هيثم حسين
تسعى السلطات عادة إلى تضييق الهامش المتاح للناس، لكنّ الأدباء لا يفتؤون يجاهدون لتحدّي مسعى تلك السلطات، وتوسيع الهامش ذاك ليغدو ميدانًا رحبًا ينطلقون فيه ومنه إلى عوالمهم، يهندسون فضاءاتهم، يتحرّرون من القيود المفروضة عليهم، يقفون في خطّ مواجهة مباشر مع السلطات القامعة، يكشفون إجرامها بحقّ الإنسان والوطن، يرشّون ملحًا على الجرح كي لا يتمّ إهماله، أو التعامي عنه. وللأسف فإنّ جروح بلدنا كثيرة، دائمة النكء، لا تكاد تلتئم من شدّة العمق والإيذاء، حتّى تنزف مرة أخرى وتخلّف مرارة أشدّ.
تتمثّل محاولات الروائيّين في مواجهة الخراب عبر تصويره بطريقتهم الخاصّة، عساهم بتركيزهم عليه، وتحذيرهم منه، يساهمون بجزء بسيط في تبديده، أو التخفيف من حدّته الكارثيّة. أعتقد أنّ الكتابة حلم ورديّ بطوق نجاة مأمول للروائيّ نفسه قبل قارئه، لأنّ الخراب المعشّش ترسّخ في النفوس، ودمّر ما دمّر منها، ويكون الأمل بانتشال ما ومَن تبقّى من مستنقع الخراب مثيرًا للاهتمام، وربّما باعثًا على الشفقة ومثيرًا للرثاء في بعض الأحيان.
تكتسب الكتابة أهمّيّة في مختلف الأزمنة والأمكنة، هي مهمّة الآن بقدر أهمّيتها أمس وغدًا، فهي الشهادة الحيّة على الجريمة الماضية المستمرّة بحقّ الإنسان والبلاد معًا، هي الإشعار بالحياة في مواجهة جنون الحرب والموت والتعصّب ودعوات الثأر المستعرة. الكتابة كالأمل لابدّ أن تبقى حاضرة في كلّ الأوقات، ولولا ذلك لتركنا المجال للعتمة كي تتسيّد وتمضي بنا من هلاك إلى آخر أكثر إيلامًا وتعتيمًا.
يعيد الروائيّ صياغة الواقع بحسب رؤيته، يستلّ قلمه ويعلن رفضه للجنون المتعاظم، وبرغم أنّ الدعوات الإنسانيّة، والشهادات الروائيّة، تكون الصوت الأخفض وسط ضجيج المدافع وأزيز الرصاص، إلّا أنّها تعيد التذكير بالجانب الإنسانيّ الذي يجب أن يعود للصدارة ويقود البلاد وسط حقول الألغام الطائفية والسياسيّة التي تخلّفها الحرب.
يتبدّى تفوّق الروائيّ على الطاغية في إعلائه من شأن الإنسانيّة، والحرص على التفاصيل كلّها، يدوّنها كأنّه يوثّق تواريخ الجروح النازفة ويحصي أنفاس الشهداء، ينتصر للتاريخ والمستقبل في محنة الواقع وقهره. يسعى إلى ترميم جروح الأرواح، يكتب بإصرار وحرص ليخفّف من الدمار، ويؤكّد أنّ الأدب يبقى بوصلة الإنسان في الملمّات، وأنّ الابتعاد عن القراءة والأدب بداية الانزلاق إلى هاوية الاقتتال والحرب. القرّاء والكتّاب لا يشهرون أسلحة، إنّهم يشهرون الأفكار ويحاربون بها الرايات السوداء التي ترتفع حيث ينتعش الجهل ويتفشّى التجهيل. يشهررون “أسلحة الروح” ويحاربون بها.
الطغاة ليسوا جهلة بالتاريخ، بل هم على عكس ما يشاع عنهم، تراهم يحاولون تحدّي عجلة التاريخ ويقعون في وهم قدرتهم وجبروتهم على تغيير مساره وفق مشيئتهم، كلّ واحد منهم يتخيّل أنّه ليس كغيره، يعميهم التاريخ، يمكر بهم ويلعنهم، ثمّ يأتي الروائيّ ليصوّر عماهم ومكرهم وتعميتهم، ويعيد الاعتبار للأدب والتاريخ أمام جنون العظمة البائس الذي يقود ويعمي ويدمّر لديهم.
ما يحدث في سوريا يتفوّق على أيّ خيال إجراميّ أو قدرة أدبيّة على تخييل الكوارث والفجائع، إنّه مأساة عصر برمّته. لحظة انهيار قيم الديمقراطية ومزاعم حقوق الإنسان، ساعة انكشاف حقيقة الأنظمة المتاجرة بالبشر، خريطة تحرّك العصابات العالمية المتاجرة بالدين والسلاح، وثيقة إدانة للنفاق العالميّ، مجزرة مفتوحة على عدم يدور حول نفسه، لذلك فإنّ تداعيات هذه الحرب لن تتوقّف عند حدّ معيّن، ستظلّ دوائرها تتّسع باطّراد بمرور الأيّام وتقادمها.
وحسب أيّة رواية أن تلتقط مشهدًا صغيرًا من لوحة الأسى التي باتت مسلسلًا عالميًّا دمويًّا مرعبًا لا تنتهي حلقاته. لا شكّ أنّ هذه المأساة ستساهم بإنتاج روايات مميزة مستقبلًا، ستكون لكلّ واحد حكايته المختلفة، لن تكون هناك رواية يمكن تنسيبها إلى منتصرين في هذه الحرب، لأنّ لا منتصرًا فيها، الكلّ مهزوم بطريقة ما. وتبقى أعظم الروايات تلك التي لم ولن يتمكّن أصحابها، من الشهداء والقتلى والراحلين الغارقين، من تدوينها وروايتها.
لا أعتقد أنّ مسعى الرواية يتمثّل في الارتقاء إلى مستوى الإجرام الوحشيّ المدمّر، بل يتجلّى في تفصيل منه بانتشال ما يمكن إنقاذه من إنسانيّة مهدورة في ظلّ الانحدار المريع الحاصل، وما يجري في معمعة قاع ظلاميّ منفر تجتهد الرواية لتبديد ظلمته وظلاميّته بتسليط الأضواء على زوايا منه.
حين كنت في ريف دمشق منتصف 2012، قبل أن أغادر بلدي، كانت المعارك تحتدم بين الليلة والأخرى، بدأت بمناوشات ليليّة، ثمّ تصاعدت إلى اشتباكات دائمة في محيط البلدة؛ شبعا، وحين انتقلت إليها، شهدت لحظات مريعة، ورأيت مشاهد فظيعة، رائحة البارود كانت تزكم الأنوف في الغوطة الشرقيّة، الطائرات تقصف بلداتها، والانتقامات قائمة على قدم وساق، كانت الجثث تبقى في الشوارع لساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وكان من السهل على كلّ طرف اتّهام الآخر بالخيانة وتبرير قتله.
حاولت توثيق جزء من التجربة، لكنّني وجدت الجرح أعمق من محاولة توثيقه، فانتقلت إلى إجراء دراسة عن (أدب الحرب)، وكتبت كتابي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، حاولت توثيق شهادات روائيّين، في الشرق والغرب، عالجوا وتناولوا وحشية الحرب وكانوا شهودًا عليها أو مشاركين فيها بطريقة ما، ولكن للأسف اكتشفت أنّنا نعيد قراءة التاريخ ولا نستقي منه أيّ عبر، نقرأ عن وحشيّة الحرب لكنّنا نتفوّق عليها بوحشيّة معاصرة. فقدت بعد ذلك عنصر الاستغراب من أيّ فعل إجراميّ فظيع قد أسمع عنه أو أشاهده. أيقنت أنّه في أوقات الشدّة، وحين تجد الموت قريبًا منك، يدور من حولك، تكتشف فداحة الخسارة التي يتعرّض لها الإنسان في حربه الخاسرة ضدّ الحياة، وضدّ الحرب نفسها.
عندما انطلقت شرارة الثورات العربية هناك من استمرأ توصيف عمله أنه استشراف الأحداث، أو قراءة المستقبل، أعتقد أنّ هذا يأتي من باب تلبيس الحدث رؤية رغبويّة بعينها، وتأويل الجاري وفق المتخيّل، وتأطير الصورة الجديدة بإطار قديم. ما حدث ويحدث فاق كلّ التوقّعات، وتجاوز خيال أيّ متشائم. ساهم بعض الروائيّين بإطلاق شهادات الرفض والاحتجاج على واقع البؤس والعنف، وناشدوا التغيير عبر لعن العنف والسجون، لكنّ زعم الاستشراف يفتقر للدقّة.
الكاتب الذي يحتفظ في رأسه بشرطيّ يحصي عليه أفكاره وأنفاسه لن يستطيع التحرّر من سطوة الأوهام وسلطة الشرطيّ المتأصّلة في روحه. الكتابة تحليق في الأعالي وتحطيم لكلّ القيود، فثورة تقتلع أساس الطغيان كلّه ولا تحرّر كاتبًا من مخاوفه لا تليق باسمها، ولا يليق ذاك الكاتب بوصفه كاتبًا. الحرّيّة شرط الإبداع الرئيس، والكاتب المسكون بقلاقل الرقابة ووساوس الاستجوابات عليه أن يكسر قلمه ويمضي إلى أقرب حانة ليسجن نفسه في دهاليزها، ويختبئ فيها هربًا من تحدّيات الواقع ورهانات التاريخ.
هناك مثل يقول “النيّات الحسنة تنتج أدبًا رديئًا”، ذلك أنّ الأدب لا يكتب بنوايا حسنة أو سيّئة، بل يكتب بجودة وأصالة، ولا يكفي أن ينتصر الأديب لقضية عادلة، أو يكتب عنها، حتّى يوصف عمله بالمتجاوز والمميّز والتاريخيّ، بل هناك أعمال ذات سويّة متدنّية تشوّه القضايا العادلة بمقارباتها الممسوخة، وتنقل صورة لا ترتقي لسويّتها، ترتهن للشعارات وتخمّن أنّها قد تضلّل القرّاء بتلك الشعارات. لا يتعلّق الأمر بمن كتب أوّلًا أو لم يكتب بعد، بل يتعلّق بروح الأدب وجوهر الإبداع.
لا يمكن انتظار الحرب حتّى تنتهي، لينكبّ الروائيّون على أعمالهم، ذلك أنّ الحرب أصبحت طقسًا يوميًّا بعد أن كانت بؤرة متفجّرة يُتوقّع خمودها في وقت قريب، فحتّى لو وضعت هذه الحرب أوزارها، ستنشب حروب جانبيّة كثيرة لأتفه الأسباب في مناطق متناثرة على خريطة الوطن، لأنّ اعتياد لغة السلاح يفقد لغة الحوار معناها، ويساهم في تضييعها وإظهار دعاتها سذّجًا في نظر المحاربين القدماء والجدد. تحتاج الحروب عادة إلى عقود كي تلتئم بعض الجراح التي تنتجها، ولا أحد يضمن أنّ تلك العقود قد تمضي بهدوء وسلام، أو تنعم بالأمن والطمأنينة، فتجارب التاريخ في الشرق لا تبشّر بخير في هذا السياق.
ولا يخفى أنّ الكتابة تحت ثقل اللحظة الراهنة تظلّ كمن يقبض على الجمر ويحاول أن يحافظ على توازنه وموضوعيّته، ويكون ذلك من الصعوبة بمكان. قد تنجو أعمال تقارب اللحظة، تتمترس بالتاريخ والممهّدات التي قادت إلى الأحداث الراهنة، لكنّ المشهد ما يزال مفتوحًا على فظائع أكثر، والروائيّ يوقف شريط الزمن ليلتقط زاوية من زوايا الحدث، ويقوم بتظهيره.
للأسف الغيوم السوداء لن تنقشع في وقت قريب، تصوّر إن كانت هناك أطراف ما تزال تحارب من أجل أحقّيّة مَن بالخلافة منذ عشرات القرون، وهناك مقاتلون يؤمنون بتلك الأفكار التي تدسّ في بنادقهم وعتادهم لتبقيها ملقّمة مصوّبة إلى الأخ المستعدَى، كيف يمكن أن تتأمّل منها أن تستدلّ إلى أيّ درب للخلاص في وقت قريب..! سنبقى في متاهة حروب الأحقّيّة والأفضليّة والثأر. وكأنّه مقدّر على الإنسان الحرب، ولا يسعنا في هذه الحالة إلّا القول على الوطن “السلام” إلى إشعار آخر، لم تلح بوارق أمله في الأفق بعد.
*************
هيثم حسين في سطور:
هيثم حسين ناقد وروائيّ ومترجم كردي سوري، من مواليد مدينة عامودا 1978 في محافظة الحسكة، سوريا، ويقيم حاليًا في أدنبرة بالمملكة المتحدة.
أسّس ويدير موقع «الرواية نت»، كما يعمل ككاتب مستقل ومتعاون مع عدد من أبرز الصحف والمواقع والمجلات العربية، وهو متخصص في النقد الروائي إلى جانب القضايا الثقافية الأخرى.
جرّب صاحب “إبرة الرعب”، مرارات الحروب والخذلان والمنفى، لكنه مع كل ذلك يرى أنّ الرواية تقدّم دواء ناجعًا وأجوبة شافية، وقد تعين في تجاوز تلك الآثار السلبية التي تتراكم بفعل المصائب التي تُحيط بنا. يقول في كتابه “الرواية والحياة”: “يطغى اعتقاد بعبثية الرواية أمام الفجائع، أمام تكاثر المآسي وتناثرها، وخصوصًا في بحر الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وهنا فإن مرارة المفارقة تكون مضاعفة حين التسليم بتعديم الرواية أو تهميشها تحت زعم أنها لا تستطيع التغيير أو التأثير”.
وفي كتابه النقدي “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، يقرع “حسين” طبول الحرب بقلمه وكتابته وتصويره لعوالم الحرب، يقرع الطبول ليوقف القرع الذي يدمي القلوب ويفتّت البشر، يقرع لينذر ويبشّر في الوقت نفسه. وفي فصول الكتاب السته، يحاول السارد أن يقدم بعين الناقد قراءات لعدد من الروايات التي “حفرت” في الحروب، سواء في الشرق أو الغرب، وقدمت شهادات ووثائق عن المراحل التي سعت إلى تأريخها.
أما في روايته “رهان الخطيئة فيعالج “حسين” إشكاليّة الحدود الواقعة بين سوريا وتركيا بأبعادها المختلفة، السياسيّة، الدينيّة، الفكريّة، والإجتماعيّة، عبر شخصيّات متعدّدة، منها مَن يرتهن لتلك الحدود ويتقيّد بها، ومنها من يتجاوزها ويتخطّى كلّ العقبات الموضوعة. ويكون التقسيم الجغرافيّ شرارة تقسيم إجتماعيّ، حيث الأكراد موزّعون على طرفي الحدود، توضع بينهم أسلاك شائكة مكهربة، وتزرع بينهم حقول ألغام أودت بالكثيرين ممّن حاولوا التخطّي من جهة إلى أخرى.
كما تتناول الرواية تأثير التحالفات العالمية والأحداث الكبرى على الأكراد، خاصة حالة أفراد يبدون مهمّشين بعيدين عن الاهتمام، في حين تقع على عاتقهم الآثار الناجمة عنها.
تتّخذ الرواية من بقعة جغرافيّة مُهمَلَة خلفيّة رئيسة تدور فيها الأحداث، وتكون الشخصيّة الرئيسة امرأة عجوزًا، تنتقل بولديها من قرية إلى أخرى لتحميهما من بطش الجهل والتخلّف، وتبعدهما عن قيم الثأر المعمول بها. وهي تتكتّم على قصّتها، قرابة نصف قرن، محاولة التغلّب على الماضي، لكنّها، وهي تحتضر، تبوح لحفيدها الوحيد بقصّة الترحال الذي فرض عليهم.
وفي روايته “إبرة الرعب” يتناول “حسين” عبر الشخصيّة الأساسيّة في العمل (رضوان)، موضع الفساد الذي عمّ مؤسّسات الدولة، وانعكاسه على المجتمع، فيحضر في سرده تفاصيل ومجريات مستوصف الخدمة الإلزاميّة، الذي تدرّب فيها أثناء خدمته، وكيف كانوا يتّجرون، بالأدوات، والمواد، وحتّى أجزاء الجسم، باشتراك الضّابط المسؤول، حتّى عندما عمل لدى المشفى الحكوميّ، والحديث الذي دار بينه وبين طبيب التخدير، وقصص كثير من هذا القبيل، لتشكل بالمحصلة حالة رعب، وهلع للمجتمع من هكذا حالات.
صدر لهيثم حسين من الروايات:
– “آرام سليل الأوجاع المكابرة”، دار الينابيع، طبعة أولى السويد 2006، ط2: دار النهرين، دمشق 2010.
– “رهائن الخطيئة”، دار التكوين، دمشق 2009. وقد صدرت حديثًا، في براغ عاصمة جمهورية التشيك النسخة التشيكية من هذه الرواية، بترجمة الأكاديمية التشيكية يانا برجيسكا، وتقديم الشاعر والكاتب التشيكي ييرجي ديدجيك، رئيس نادي القلم التشيكي. وتم اختيار عنوان مختلف لهذه الترجمة عن العنوان الأصلي للرواية وهو “أين بيتك، خاتونة..؟”.
– “إبرة الرعب”، منشورات ضفاف (بيروت)، الاختلاف (الجزائر) 2013.
ومن أعماله النقدية:
– “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، دار نون، طبعة أولى: سوريا 2011.
– “الرواية والحياة”، صدر ككتاب مرفق مع مجلة “الرافد” الإماراتيّة، عدد آذار/ مارس 2013.
– “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، دار ورق، دبي 2014.
– “الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، دار نون، الإمارات 2015.
وله في الترجمة:
– “مَن يقتل ممو..؟”، (مجموعة مسرحيّات مترجمة عن الكردية)، دار أماردا، بيروت 2007.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Mamduh Azzam | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري ممدوح عزام
لا عمل للكاتب غير أن يكتب، ليس لأن الكتابة تفيض عن الحبر الذي في قلمه، بل لأنها طريق المواجهة الوحيد لديه في هذا العالم الذي يندفع بلا ضابط ولا رادع نحو تدمير نفسه ومن حوله. وبهذا المعنى فإن الكتابة لا تنجي الكاتب، بل تورطه (بالمعنى الإيجابي والتفاعلي). ويمكن أن تكون ورطة الكاتب الروائي السوري، أكبر منها في أي وقت آخر.
أول ورطات الكاتب هي أنه يقف في مواجهة ساحة يصل الدم فيها إلى الركب. وأخذ البشر فيها، أو قسم منهم، ممن كان يعرفهم بالأمس، ويعيش معهم، ويبيع أو يشتري منهم. منهم من هو قريبه، ومنهم من كان حتى الأمس صديقه الحميم، ومنهم من كان جاره الذي يأتي للسهر في بيته، أو يستضيفه، ويحكي له عن إبنه الذي نجح في الصف التاسع. أخذ هؤلاء يمجدون الحرب، أو يرقصون في ظلال الجدران المهدمة، أو يطلقون سعار التصفيات، أو يعملون في تهريب السلاح والوقود والطحين، في لحظة نكوص أخلاقي وفكري ووجداني مريعة.
وعلى الكاتب أن يكتب عن هؤلاء جميعًا، في الوقت الذي قد يكون ثمن الكتابة كلها رصاصة رخيصة يلوح بها أي قاتل مأجور يمكن أن يفلت من العقاب، إذا ما شعر أن الجرائم التي يرتكبها تتحول إلى كتابة روائية تعري أفعاله وأقواله ونهجه كله. وسوف تضاف إلى هذه الورطة الجديدة التي يأخذ فيها المجتمع مهام الرقابة، والملاحقة البوليسية، ميل السلطة إلى إفلات الغرائز، وتجاهل التجاوزات، وتقديم صور لا تنتهي من احتمالات القمع والتصفية، في وقت تتحول فيه أقسام من “معارضة” مسلحة إلى قرين مواز لهذا، يقلد ما يعترض عليه.
وثاني ورطات الكاتب هي في مواجهة القراء. فالجميع ينتظرون كلمة الروائي في مواجهة الحرب والثورة والطائفية والقتل والتهجير والتدمير. والمرجح أن الانتظار يضع الروائي أمام مسؤوليته الأخلاقية والفكرية والسياسية، والأهم من ذلك مسؤوليته الفنية. وقد يحدث التناقض والإفتراق هنا. فالمطلوب من الكاتب، هو أمر مختلف عن المأمول من الكتابة. تختلف هموم الكاتب عن هموم القارئ، حيث يكون عليه، أي على الكاتب، أن ينجز عملًا فنيًا، لا نسخة مرجعية، أو وثائقية، أو تسجيلية. ويكون عليه أن يسخر أدوات الكتابة الروائية، وعلى رأسها المخيلة كي ينجز نصًا لا يعيد إنتاج الواقع، كما هو، ولا يخون التضحيات العظيمة لبني البشر.
وثالث ورطة هي أن يكون قادرًا على اجتياز اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا في واقع الأمر سؤال عصي. فتاريخ الأدب يشير إلى المصاعب التي تواجه الكتاب الروائية تجاه الراهن واليومي. أو يشير إلى زمن الحرب، والتبدلات الكبرى، واللحظات التي تقطع مع التطور الخطي في التاريخ. ولكن هذا يفترض شكلًا محددًا لهذا الاستجابات. وهو شكل غامض على أي حال، وغير معروف. والجهة الوحيدة التي تؤيد القول أن الرواية تحتاج لوقت آخر، يعقب صمت المدافع، ترسل الأسئلة أكثر مما تقدم الوقائع. دون أن يكون لدى الروائي، الأدلة الكافية التي يثبت بها خطأ، أو صحة السؤال. ومع ذلك فإن بوسعي القول إن هذا الكلام يمكن أن تقبله الرواية التي تحكي عن التاريخ، ولكن الرواية اعتادت أن تكون قرينًا للواقع الذي تحيا في جدران زمنه.. ومع ذلك فإن “صمت البحر” لفيركور، التي لم تتضمن أي طلقة، أو معركة، أو وثائق للوقائع. قد كتبت في خضم الحرب العالمية الثانية، وطبعت في زمن الحرب، ووزعت، وقرئت في الزمن ذاته. ومع ذلك فإن الجواب غير نهائي. وطاقات الفن والإبداع شاسعة. وثمة احتمالات لا حصر لها، وأشكال رواية لا تعد، قادرة على أن تكون تمثيلًا روائيًا، أي فنيًا، للراهن الذي تشهده سورية. سواء تعلق الأمر بالحروب التي تتوالى، أو مفهوم الثورة، أو الهجرات المليونية، أو التهجير المدمر، أو التدخلات الخارجية، ومواقف الدول، أو مصائر الأفراد والجماعات التي تعرضت للاقتلاع.
وبوجه عام فإن الإقرار بنهائية نتائج هذا الميل الذي يزعم عجز الرواية عن تمثيل الراهن، قد يعرض الروائي لدفعة من الإحباط، أو يضعه في مسائل إشكالية مع الأسئلة التي تتناول قضايا الرواية والواقع الاجتماعي. أو هو يعلن أن الرواية إما أن تكون عن الماضي أو لا تكون. ولهذا فإن من الصعب أن يتمكن أحد من التكهن، أو من وضع الشروط المسبقة لما ستكون عليه الرواية الجيدة التي تتناول الحاضر. وفي كل الأحوال فإن عدد الروايات السورية المنشورة حتى الآن عن موضوع الثورة، ما يزال محدودًا، ولا علم لنا بما يخبئه الروائيون في أدراجهم، من المنجز، أو ما يسعون إلى إنجازه. لهذا تبدو بعض الأسئلة وكأنها تحاول استباق الكتابة، أو تحديها، أو قوننة الموضوعات. وذلك حين تتحدث عما لم يكتب بعد، أو عن السري، الخاص، الذي لم يعلن الكتاب الروائيون عنه. ومن الصعب على الروائي أن يصرح بهواجسه. يعرف هذا كل من كتب الرواية، وعلم أن جودتها، وكمالها، يكمنان في الصمت، أو المكتوب المخبأ الذي لا يعلن عنه الكاتب أثناء العمل. لهذا أميل إلى القول أن من غير المجدي استنطاق الروائي حول النص القادم. إذ يخيل لي أن شهادته سوف تكون نوعًا من المراوغة، ومحاولة إبعاد الشبهات عن نفسه، أو قول كلمات نظرية، تأتي روايته فيما بعد كي لا تتطابق معها.
*************
ممدوح عزام في سطور:
ولد القاص والروائي السوري ممدوح عزام في السويداء (جنوب سوريا) عام 1950.
عاش طفولته متنقلًا بين العديد من المناطق والبلدات السورية، بسبب طبيعة عمل والده بالدرك الخيالة آنذاك. اشتغل في التعليم مدرسًا في مدينته السويداء.
كتب/ ويكتب مقالات أدبية في عدد من الصحف العربية.
بدأ بالكتابة مبكرًا أي منذ مرحلة الشباب، وفي العام 1985 صدرت أول مجموعة قصصية له بعنوان” نحو الماء”، عن وزارة الثقافة السورية. وقي عام 2000 صدرت المجموعة الثانية بعنوان “الشراع”، عن وزارة الثقافة أيضًا.
امتاز “عزام” بسلاسة كتاباته وتشويقها وبأسلوبه الروائي الساحر، وهو يعد من الروائيين المؤرخين للعصر الحديث في سورية بكتاباته الأدبية، وقد رافقت رواياته الكثير من الجدل و النقاش، وكان أن تعرض في العام 2000 لمحنة كبيرة، حيث أصدرت الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها في شهر حزيران/ يونيو من ذلك العام، بيانًا طالبت فيه بـ”إهدار دمه بحجة أن روايته (قصر المطر) أساءت إلى المجتمع الدرزي وأخلاقه، وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله الأسطوريين”. وطالب البيان الذي وقعه –حينها- مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته وسحبها من الأسواق”، علمًا بأن الرواية كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1998.
وقد تجاهل الإعلام السوري ذلك البيان وردود الأفعال الأخرى، مثل “بيان المثقفين للتضامن مع الكاتب”. كما تجاهل اتحاد الكتاب العرب بدمشق الحدث، ولم يتضامن مع الكاتب بل دعاه إلى طلب الغفران والتراجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته !.
في العام 2016، وقد دخلت الثورة السورية عامها السادس، يقول “عزام”: “كيف سأكتب روايتي حول ما يجري وقد فاضت الأرض السورية بالحكايات؟ الحكايات هنا يومية، تداهم الكاتب وتسحب منه القدرة على المتابعة، ولكن لا مفر من أن يسمع ويرى. فالعالم هنا يعاد تشكيله ورسمه وابتكاره وتدميره وإحراقه أمام عيني الروائي. الأرض تتغير، والقوى تبدل مواقعها، والناس الذين نعرفهم ما عادوا هم الناس الذين نعرفهم. تهدمت الصداقات وعلاقات القرابة والمواقف السياسية. نحن الآن أمام مشهد قيامي بامتياز، ولن تكون سوريا في الغد ما كانت عليه بالأمس، ولا على ما هي عليه اليوم، فأين يجد الروائي مشروعه إذن؟ هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عنه فنيًا”.
كتب “عزام” حتى يومنا هذا خمس روايات، وبحسب النقاد، فإن قارئه يعرف أن فكرة الثورة، أو أحلام التغيير، حاضرة بقوة في كل أعماله. فنحن نراها في الثورة السورية الكبرى داخل “قصر المطر” روايته الأبرز، ونراها في انكسار أحلام كريم الزهر وعموم أهالي “السماقيات” و”السويداء” داخل “أرض الكلام”، وفي تمرد “عصابة الكف الأسود” داخل “نساء الخيال” آخر رواياته الصادرة في العام 2011.
ويؤكد “عزام” في حوار معه، أنه “إذا كان فكر الثورة حاضرًا في أعمالي، فإن الحقيقة الأكيدة هي أنني لم أتنبأ بها، لم أتوقع حدوث ما حدث. ولهذا فإنه لما يُشرّف المرء، وهو الروائي هنا، أن يكون قد استطاع تسجيل تلك اللحظات المضيئة في الجسد العربي، في حين كانت قيم اليأس واللامبالاة تسبغ حضورها على الحياة اليومية العربية”.
صدر له من الروايات:
1- “معراج الموت”، دار الأهالي، طبعة أولى: دمشق 1989. وقد طبع من هذه الرواية خمس طبعات في السنوات التالية في دور نشر مختلفة داخل سورية وخارجها، كان آخرها في العام 2013. كما ترجمت إلى اللغة الألمانية، وصدرت عن دار لينوس “lenos” في سويسرا، وترجمت كذلك إلى الأنكليزية وصدرت عن دار “hauspublishin” في لندن.
2- “قصر المطر”، وزارة الثقافة السورية، طبعة أولى: دمشق 1998. ط 2: المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، ودار البلد، دمشق 2003. ط 3 دار أطلس، بيروت/ دمشق 2012.
3- “جهات الجنوب”، دار ورد، دمشق2000.
4- “أرض الكلام”، دار المدى، دمشق/ بيروت 2005.
5- “نساء الخيال”، دار أطلس، بيروت/ دمشق 2011.
كما كتب ممدوح عزام سيناريو فيلم “اللجاة” بالإشتراك مع مخرج الفيلم الراحل رياض شياـ وهو مأخوذ عن روايته “معراج الموت”، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما (القطاع العام)، دمشق 1996.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Fawwaz Haddad | سبتمبر 12, 2017 | Culture
[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري فواز حداد
المؤسف أن الأدب بشكل عام، لا يغير من موازين القوى على الأرض، ولا يشكل مركز ثقل في الثورة والحرب، ومن نافل القول أنه بلا جدوى، مع أن الأدب سلاح، لكنه غير قاتل. من هذا الجانب، يتبين لنا ما فعلته الرواية مثلًا لهذه الثورة التي قدمت مئات آلاف الشهداء، أو لهذه الحرب التي أصبحت لغزًا قاتلًا بتحولاتها الدموية، واختزنت في داخلها حروبًا أهلية ومذهبية وطائفية وأقليمية، وتجاذبات دولية.. واسقطت ما قامت الثورة لأجله، حتى تبدو وكأنها عودة الى الأيديولوجيات التي كان من شعاراتها؛ الحرية والعدالة، فالحرية أدت الى المعتقلات، والعدالة إلى الظلم.
مع أنه كان في التظاهرات والاحتجاجات إعادة اعتبار لهذه الشعارات، وأيضًا لشعب واحد وسورية موحدة، تلك التي غيبت في السجون، وكانت مفتقدة طوال أربعين عامًا، جرت استعادتها كهتافات مضادة للطغيان. أجاب عنها القناصة، والبراميل المتفجرة والسواطير، والأعلام السوداء وقاطعو الرؤوس والميليشيات المذهبية… هذا المشهد يتكرر يوميًا بشكل أو بآخر دونما انقطاع على مدار خمس سنوات، يستعصي على كاتب تجنبه، ولو كان بأمان منه، ونجاته كانت محض مصادفة، كاد أن يكون قتيلًا، أو ميتًا تحت التعذيب، جريحًا أو معوقًا، سجينًا أو محاصرًا معرضًا للجوع أو الركوع. الخيارات القسرية متعددة، ونهاياتها محددة بالموت.
الأدب قاصر لأنه يؤثر في العقول والقلوب، وما تأثيره فينا إلا في رفع قدرتنا على التعامل مع الحياة، والدفع إلى تغييرها بجهد إنساني، واكتشاف منابع السعادة والفرح. وهي نظرة متفائلة إلا أن الواقع ضنين بها، لكن الإنسان يتغلب عليها. الأدب فظ أيضًا، لا يخفي جوانب الحياة السيئة والأسوأ، مهما كانت واقعيته طبيعية أو سحرية، أو لها علاقة بالأحلام، ما دام بمقدور الطغيان تحويلها إلى كوابيس. الأدب لصيق بالبشر وبالحرية، ثمة علاقة حميمة تربطه مع الكثير من التساؤلات التي تمسنا، وماذا تكون إلا عن حياة بلا حرية، وعيش بلا كرامة.
الكتابة أشد ما تكون ضرورتها للكاتب، فهي تعبير عن موقف، احتجاج على القمع، الدفاع عن القيم الانسانية… وفي هذا لا يعبر عن نفسه فقط، بل يعبر عن شريحة كبيرة، اضطرهم الاستبداد إلى الصمت، ومعهم جحافل من البشر المغيبين، والمحاصرين تحت وطأة الجوع والموت.
في أزمنة الثورة والحرب، تتولى الكوارث صناعة الأدب، وربما في الكتابة في آتون الحرب حرارة قد تفتقد فيما بعد، ففي جانب منها تكتب التاريخ كشاهد عيان، فالأحداث طازجة، عدا حيويتها المريرة والفاعلة كتسجيل مضاد لحاضر يزور الآن، كما نشهده في وسائل التواصل والإعلام التي تنشر الحقائق مع أكوام من الأكاذيب، فظاهرة إنكار البراميل المتفجرة وقصف المدنيين والمستشفيات والأفران تسهم في التعمية عليها دول كبرى، رغم أن الحرب اليومية تؤكدها بالصور الحية، وما إنكارها من المجتمع الدولي إلا ليغطي عجزه عن منعها. ومهما كان ما يكتب الآن، فالحكم على مقدار جودته، يستحسن تركه الى ما بعد، الأفضل أن نبحث عن مقدار الحقيقة التي يحملها، والجيد منها لن يعوزه الفن. أما إدعاء النقد المشبوه أنها بلا قيمة فكذبة كبرى، فالصحافيون والمتشبهون بالنقاد، يتعاملون مع الكتابة حسب انحيازاتهم، لذلك لن نعدم قراءات طائفية من الموالين للأنظمة سرًا أو جهرًا، وفي أفضل الأحوال قراءة سياسية تأخذ جانب ما يدعى محور الممانعة والمقاومة الذين يتعيشون في دعاواهم على خلط أوراق الثورة بالإرهاب.. وعلى رأسهم مثقفون يتسترون بالعلمانية، فلا عجب أن يقرأ النقد المحابي للنظام الرواية بعين إرهابية، لإنكار ما يجري على الأرض.
لم يمتد العمر بالروايات الكبرى إلا لأنها تواطأت مع الحقيقة، وكانت المرآة لمسيرة الإنسانية الظافرة والمؤلمة… التي لا تنفصل عن واقع معاند وقاس، فكانت الاختبار الصعب للبشر. وإذا كانت الرواية عاجزة عن تغيير الواقع، فلأنها لا تملك وسائل الإجبار، وهذا من حسن حظها، لكنها تمنح القدرة على التأثير في البشر من خلال إعادة النظر الى كل ما ألفناه واعتدنا عليه، والتجرؤ عليه، ورؤية تعدد أساليب تغييره، بحيث يصبح نضال الإنسان ما هو إلا العمل المتواصل على إزالة أقانيم الطغيان والاستبداد والخرافة والأفكار الثابتة، وما الروايات التي تكتب إلا انعكاسًا وتكريمًا لهذا الجهد الانساني.
منحتنا الثورة فاصلًا من الحرية على الرغم من هذا الخراب الشامل الذي امتد إلى دواخلنا، ولا شك أن لاشيء يشجع على الشعور بالحرية، لكن لابد من الإحساس بها، والتعبير عما اختزناه من قهر وقمع وتشويه، وإذا كنا غير متفائلين، فلأننا ربما كنا على أهبة دخول عصر طغيان آخر، هذا ما يبشرنا به الروس والأمريكان وداعش والقاعدة.
*************
فوّاز حدّاد في سطور:
فوّاز حدّاد كاتب سوري من مواليد دمشق 1947.
حصل على إجازة في الحقوق من الجامعة السورية 1970. وتنقل بين عدة أعمال تجارية، امتدت سنوات طويلة.
كتب ويكتب المقالة الصحفية والقصة القصيرة والمسرح والرواية، دون أي محاولة للنشر قبل مطلع تسعينات القرن الماضي.
شارك قبل الثورة السورية كمحكم في “مسابقة حنا مينة للرواية” التي تشرف عليها وزارة الثقافة، و”مسابقة المزرعة للرواية” في السويداء. كذلك ساهم في الإعداد لموسوعة “رواية اسمها سورية”.
في العام 1991 أصدر “حدّاد” روايته الأولى “موزاييك – دمشق 39″، والتي أعادت “دار رياض الريّس” في بيروت نشرها مؤخرًا إلى جانب روايته “تياترو 1949″، ويستمد الإصداران –بحسب الناشر- راهنيتهما في أن الرواية الأولى تتحدث عن المخاض الذي عاشته سوريا ودمشق خاصةً زمن الانتداب الفرنسي في سوريا وكيف كانت تلك السنة الحاسمة وما فعلته دمشق مع الفرنسيين وعلاقة السكان مع بعض ومع الاجانب في المدينة وعن الحياة الاجتماعية وقتها والعادات والتقاليد التي كانت سائدة تحديدًا في 1939، حيث يدخل “حدّاد” شوارع دمشق وحاراتها ناقلًا تفاصيل انطباعات الناس وحتى الوزارات، والدوائر الحكومية، ورئاسة الحكومة، ويرصد التطورات السياسية التي جرت في تلك الايام ووقعها على الناس في دمشق.
أما “تياترو 1949” فيعود فيها السارد إلى أواخر أربعينيات القرن العشرين، وبالتحديد إلى الفترة الممتدة ما بين عامي 1948 و1950 لا ليرصد الصراع على السلطة، الذي وجد تعبيراته في الانقلابات العسكرية فحسب، بل ليصوّر ما تركته تلك الانقلابات من آثار سلبيّة على مجمل الحراك الإجتماعي وفعالياته وآفاقه السياسية والفكرية والإبداعية في سوريا، ليحضر التاريخ لا بوصفه بنية فوقية وغاية للخطاب الروائي، بقدر ما يحضر عبر علاقته العضوية بالقاع الاجتماعي وتحوّلاته المعلنة والمُضمرة.
ويعد فوّاز حدّاد صاحب تجربة سردية مميزة لاقت صدى كبيرًا لدى القراء والنقاد، لتصل روايته “المترجم الخائن” إلى القائمة القصيرة لبوكر العربية 2009، وتجد روايته “جنود الله” طريقها إلى الترجمة بالألمانية وتصدر تحت عنوان “سماء الله الدامية”. فيما رُشح للقائمة القصيرة لجائزة “فريدريش روكرت” الألمانية العام 2013 مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين هم سمر يزك وروزا ياسين حسن ونهاد سيريس، الذي حاز الجائزة.
ومنذ باكورة أعماله الروائية اختار صاحب “خطوط النار”، الحفر في التاريخ السياسي لسوريا، وجعله مجرد خلفية للمشهد الاجتماعي، راصدًا مشاهد من المعيش السوري ذات محامل سياسية وإجتماعية وثقافية، مسائلًا إياها أسئلة لا تكتفي بالظاهر من أحوالها وإنما تغوص إلى حقيقة أعماقها. ولعل هذا ما دفع صديقه الناقد والروائي السوري نبيل سليمان إلى القول: إن “روايات فوّاز حدّاد هي غالبًا من «العيار الثقيل»”.
يقول “حدّاد”: “ما أنا على يقين منه، أننا نحن أيضًا لدينا حياتنا وما يعصف ببلداننا، التخلف المستحكم، رياح الأصولية، والربيع الذي جاء متأخرًا، ثم انقلب إلى فصل متقلب، وفي غزو العراق شاهد قوي، وحاليًا هذه الاضطرابات التي لا تستقر على حال.
المنطقة العربية من أكثر المناطق عرضة للمؤثرات الداخلية والخارجية، وما ينجم عنها من متغيرات هزيلة، إن لم يكن تراجعات وطنية وقومية وإنسانية، تعقبها فترات ركود، هذا ما ندعوه بفترات سلام، لا تخلو من القمع والمصادرة. لذلك لا بد أن تنعكس هذه الأحوال على الرواية، وأية رواية غير بريئة منها، حتى بمحاولات تجنبها، ونادرًا ما يفلت الروائي منها، ما دام يعيشها”.
وتعالج رواية “المترجم الخائن” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، مسألة ثقافة السلطة وسلطة الثقافة وما ينجم عنها من إفساد للضمائر وترويج للغث وكسب للولاءات، بعد زمن من الصمت واعتماد الترميز والمواربة، وقد باشرت بمعنى ما في ذهابها إلى الهدف تمامًا.
وتعتبر روايته “السوريون الأعداء” الرواية السورية الأولى التي ترصد، في شكل بانورامي، حقبة سورية مديدة، تمتد بين لحظتين تاريخيتين فاصلتين في التاريخ السوري المعاصر “تحتلان مكانًا رمزيًا عاليًا في المظلومية السورية”.
أعماله الروائية الصادرة:
– “موازييك دمشق 39″، دار الأهالي، طبعة أولى: دمشق 1991.
– “تياترو 1949″، إصدار خاص، طبعة أولى: دمشق 1994.
– “صورة الروائي”، دار عطية، دمشق 1998.
– “الولد الجاهل”، دار الكنوز الأدبية، دمشق 2000.
– “الضغينة والهوى”، دار كنعان، دمشق 2001.
– “مرسال الغرام”، دار رياض الريّس، بيروت 2004.
– ” مشهد عابر”، دار رياض الريّس، بيروت 2007.
– “المترجم الخائن”، دار رياض الريّس، بيروت 2008.
– “عزف منفرد على البيانو”، دار رياض الريّس، بيروت 2009.
– “جنود الله”، دار رياض الريّس، بيروت 2010.
– “خطوط النار”، دار رياض الريّس، بيروت 2011.
– “السوريون الأعداء”، دار رياض الريّس، بيروت 2014.
صدرت معظم أعمال فوّاز حدّاد في أكثر من طبعة في دمشق وبيروت. وله مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان “الرسالة الأخيرة”، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1994.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 11, 2017 | Culture, News
“الوطن ليس أشخاصاً فالأشخاص عابرون زائلون
والأوطان باقية .. منتخب الوطن يلعب بإسم البلد وللبلد
بكل فئاتها وأطيافها ومن حق السوريين الفرح.”
من صفحة مشجعي النجم ولاعب كرة القدم السوري عمر السومة الرسمية
”مملكة الوفاء البشري هذه التي تُمارس في الهواء الطلق“، هكذا وصف أنطونيو غرامشي لعبة كرة القدم، كما يذكر إدواردو غاليانو في كتابه ”كرة القدم بين الشمس والظل“، الذي يضيف أن المثقفين اليمينيين واليساريين كانوا يحتقرون هذه اللعبة، فاليمينيون كانوا يعتبرونها لعبة غوغائية مستندة إلى غريزة القطيع فيما اعتبرها اليساريون تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري، غير أن الجدل الذي يحيط بإنجازات الفريق السوري لكرة القدم في وقت تعيش فيه سوريا أكبر مآسي القرن، يوحي بما هو أعمق من ذلك وهو أنه كما يتعلق الغريق بقشة تعلّق السوريون بفريقهم الرياضي لكرة القدم في إطار التصفيات القائمة من أجل المشاركة في كأس العالم، وحدثت تغييرات مفاجئة في تركيبة الفريق أربكت طرفيْ المعادلة في الساحة السورية، فما هو غير متوقع حدث، وعاد لاعبون لم يكن أحد يتصور أنهم سيغلّبون فن الجماهير الرياضي على الانقسام السياسي والطائفي الحاد، مما يوحي بأن هناك في الجو فرصة لبناء فضاء مشترك، بأن هناك شيئاً متوفراً يجب أن يتمسك به السوريون كالهواء الذي يتنفسونه للخروج من نفق الحرب.
لم تحقق الفرق السورية لكرة القدم في الماضي انتصارات عالمية يشهد لها كفرق أمريكا اللاتينية التي أذهلت العالم، ولم يولد لدينا نجوم سُلطت عليهم الأضواء كبيليه وهرنان كريسبو ودييغو مارادونا وروماريو وألان شيرر وغيرهم من أساطير كرة القدم القديمة والحديثة، لكن الإجماع الجماهيري المذهل على إنجازات الفريق السوري في مبارياته مع قطر ومع إيران وعودة لاعبين معارضين إلى الفريق، وعودة الجمهور الرياضي إلى تشجيع فريق البلد في تجاوز للطائفية وللانقسامات الحادة، يؤكدون أن الفضاء السوري رحب وأن السوريين متمسكون بالأرض السورية الواحدة وبدولة الحلم الواحدة والتي تحتاج إلى ما يجب أن يجمعوا عليه، وهل هناك أفضل من دولة القانون، الدولة المدنية بتعدد أحزابها وجرائدها وتياراتها الفكرية والسياسية وتعدد فرقها وأنديتها الرياضية، الدولة التي تسودها الانتخابات الحرة، وتتحرر فيها المرأة وتصبح مستقلة في حياتها، وتتحقق فيها شخصية المفكر وشخصية السياسي وشخصية الرياضي وشخصية الإنسان الذي ينتمي إلى الإنسانية وليس إلى الأديان والأحزاب والعشائر والطوائف ولا يعاني من مرض الرهاب الأمني.
تُعد الرياضة في عصرنا الحديث ديناً قائماً بذاته وتمارس طقوس العبادة عبر الإدمان الهائل لمشاهدة الألعاب المهمة ومتابعتها، بل أن هناك رياضيين حققوا جماهيرية لا يحلم بها لا السياسيون ولا غيرهم، وحين تذكر اسم لاعب من أساطير كرة القدم، ستجد أن جماهيريته وثروته تحققان حضوراً قياسياً في عالمنا المعاصر، وكيف لا، خاصة أن الجماهير في هذا العصر الحديث تبحث عما يمتعها ويسليها، ويخرجها من روتين ساعات عملها وملل حياتها، ذلك أن الرياضة فن، وفيها إبداع يعادل الإبداع الفني أحياناً ولو كان مختلفاً عنه، ذلك أن مهارة اللاعب وذكاءه ومناورته وسرعة بديهته وسرعة حركاته وقدرته على الإدهاش كلها عناصر فنية في اللوحة المشهدية التي تصل إلى أوجها لدى تحقيق هدف على نحو مفاجئ، كما أن بعض الفرق تتحرك متناغمة كما الألوان في لوحة كي تقدم لنا زبدة مشهدية تتجسد في الركلة الأخيرة التي تحقق الهدف.
أما في الساحة السورية فالوضع مختلف الآن، ذلك أن البلد لم يخرج بعد من الحرب الطاحنة المدمرة، ولم يشف الشعب السوري من جراح الدمار والقتل والسجن واللجوء، لكن رغم التفكك الذي طرأ على المشهدالسوري، والانقسام الطائفي الحاد، الذي يهدد البلد، رأينا السوريين يخرجون من انقساماتهم ويتحلقون أمام الشاشات أو في الملعب متابعين لإنجازات فريقهم، الذي لا ينتمي لهذا الحزب أو ذاك، أو لهذه الطائفة أو تلك، بل هو فريق كل السوريين، الذين انسحروا بلوحته المشهدية اللعبية التي حققت انتصارات مفاجئة في الطريق الصعبة إلى المشاركة بنهائيات كأس العالم ألهبت قلوبهم.
وكما خرج السوريون كي يحتفوا بفريقهم ويشجعوه في مسيرته الصعبة بوسعنا القول إنهم بحاجة إلى فريق لكرة السياسة يجمعون عليه، كما يجمعون في الرياضة على فريقهم، لكن الفريق السياسي الذي يجب أن يجمع عليه السوريون، يجب أن يخرج من أنقاض الحرب بفنية أعلى وذكاء أكبر، ورؤية أشمل لبناء سوريا، ويجب أن يكون أعضاء الفريق من كل المناطق والطوائف والتيارات السورية التي يهمها بناء سوريا الدولة المدنية التي يحكمها القانون، دولة الحريات وحقوق الإنسان، دولة الصحف الحرة والأحزاب الحرة، دولة الانتخابات الحرة، الدولة الحلم، ولم لا، فالسوريون شعب مثقف ذكي، يمتلك خبرات يُشهد لها عالمياً، وكما يتعلم المرء من التجربة ودروس الحياة وعِبَرِها، لا بد أن السوريين، جميعاً، وفي مختلف مواقعهم، سواء في الرياضة أو في الحياة المدنية أو العسكرية أو في المخيمات أو في بلدان اللجوء، لا بد أنهم تعلموا من دروس هذه الحرب المدمرة، ضرورة بناء المستقبل، ووضع أسس متينة وصحيحة له، كي لا تتكرر المأساة من جديد، ويعتم المستقبل في وجه الأجيال السورية الجديدة.
وإذا كان السوريون قد خرجوا لتشجيع فريقهم الرياضي واضعين خلفهم كل العصبيات والخلافات فأنا واثق أنهم سيخرجون وراء فريق سياسي يؤمن بأن الحكم يجب أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس.