الرقص الشعبي في إدلب… الفرح رغماً عن الحرب

الرقص الشعبي في إدلب… الفرح رغماً عن الحرب

غطاء رأس يُعرف محليا بالـ”الحطة”، وهو غالباً مصنوع من الحرير البلدي، تحته القميص القطني المزيّن بتطريز الأكمام مع الياقة، و فوقه الصدرية، يليها من الأسفل الشروال الفضفاض، والشال العجمي الذي يشد على الوسط، وفوق كل هذا اللباس هناك المعطف “الملتان”، والجوارب البيضاء والحذاء أو ما يعرف ب”الكسرية”، والمحارم باليد، بهذا يكتمل أحد أزياء الرقص الشعبي الإدلبي، والذي اختاره مصطفى أبو محمود، وهو شاب ثلاثيني من أبناء بلدة سرمين بريف إدلب، لأعضاء فرقته المتخصصة بالرقص الشعبي العربي.
يقول أبو محمود لـ”صالون سوريا” إن فكرة تأسيس فرقته والتي تحمل اسم “شباب سرمين لإحياء التراث”، هو حلم يراوده منذ صغره، عندما كان يرافق جده لتدريبات وحفلات الرقص، وجده كان مؤسس فرقة أصيلة للرقص العربي أيضاً.

ويضيف أبو محمود “بدأ مشروع الفرقة بجمع أعضائها، والذين بلغ عددهم اليوم تسعة، وهم شباب يجمعهم حبهم وشغفهم للرقص، وكل من انضم للفرقة كان لأبوه أو جده باع طويل في أداء الرقصات العربية، فهي تراث الأجداد يتوارثه الأبناء”.

وترفض فرقة أبو محمود تقاضي أية أتعاب أو تعويضات من الحفلات أو الأعراس التي تحيها، لأنها “تعمل من أجل المحافظة على الإرث” بحسب قوله.

و تلبي الفرقة دعوات والحفلات والأعراس التي تقام بحضور فرق غنائية دينية أو طربية، وبعد انطلاقها بأشهر عدة حققت الفرقة انتشاراً ملحوظاً في المنطقة، لا سيما مع فترة هدوء نسبي تعيشه إدلب؛ ما أسهم في انتعاش الحفلات والأعراس.

وتتنوع الرقصات بحسب الإيقاع والألحان، فمنها “الشيخاني والقوصرة والقبا” وغيرها، وكلها رقصات قديمة يحافظ عليها، بالتدريب المتواصل مع أعضاء فرقته.
وتعد الشيخانية أبرز الرقصات الشعبية في محافظة إدلب، وهي تؤدى في الأفراح والأعراس والمناسبات العامة والخاصة على إيقاع الطبل والزمر، ويرافقها المبارزة بالسيف والترس، كما يقال أن لفظة الشيخاني جاءت من أن من كان يرقصها هم الشيوخ والزعماء وكبار الحارة.
أما رقصة “القبا” وتعني الرزانة والجلال، ويسميها الأهالي السلطنة على نغمات القبا السبعة التي يفتحها الزمر أو المجوز، ويكون السيف في هذه الرقصة حاضراً، ثم يرقص المؤدي به مع الإيقاع التي يحددها الطبال، يمنة ويسرة، وببطء شديد، وهو يتمايل على البلاطة التي هو عليها في مكانه، ثم يأخذه أمام وجهه، وتحت ذقنه ثم إلى اليسار، ثم يهوي به ببطء شديد إلى الأرض وهكذا، وقالوا عنها: “القبا في ملعبا ريحة عطر… جمعت طرب دنيا العرب نغمة وشعر… أو لا لكا بالمعركة طل النصر… ترقص قبا بالمركبا وبعد النصر”.
ولكل عضو بفرقة الرقص دور محدد فمنهم من لديه مهارة بالرقص بالسيف، أو بالأداء المنفرد أمام الفرقة، أما القائد فهو كما يقال باللغة الدراجة فإنه “يمسك ع الأول”، أي يقف في بداية الصف ممسكاً منديلاً بيده ملوحاً فيه، وموجهاً لباقي الفرقة، وهو من يشير بحركة من قدمه لباقي الأعضاء لتغير الرقصة والانتقال مع اللحن بحركات رشيقة متناسقة.
على مدار الأسبوع يجري أبو محمود مع فرقته التدريبات، والتي تزيد في مواسم انقطاع الأفراح للمحافظة على اللياقة والانسيابية في أداء الرقصات.
وفي أغلب الأحيان يرافق فرقة الرقص قارع الطبل، لمجاراة اللحن والكلمات التي يرددها المغني، كما تحرص الفرقة على ابتكار رقصات جديدة من اختلاف النغمات لتواكب الألحان الجديدة، ويتميز الرقص العربي بالرقصة العربية الثقيلة، والخفيفة، والغزاوية، والولدة، بحسب الحاج أبو نجيب الذي كان عضواً في فرقة للرقص في شبابه.
لم يدخل أبو نجيب مدرسة لتعليم الرقص، وإنما تلقاه عن أبيه عن جده، فكما يقول “الممارس غلب الفارس” في إشارة لتدريبه المستمر وحرصه على حضور الحفلات ومراقبة الراقصين.

ويقول أبو نجيب لـ”صالون سوريا”: “إن الثقيلة هي رقصة رباعية ذات حركة بطيئة، وتبدأ بالرجل اليمنى مع اليد اليسرى، وتنتهي بالرجل اليسرى مع اليد اليمنى، والرقصة العربية الخفيفة، وتبدأ بعد الموال مباشرة، ولكن بحركة أسرع قليلًا من الثقيلة”.

ويتابع أبو نجيب وهو يمسك بعصاه الخشبي، ويمسد شاربه الأبيض “أما الغزاوية، فهي رقصة سريعة الحركة تحتاج إلى نشاط الشباب لتأديتها، نحنا راحت علينا”.
من جهته يؤكد أبو حسن، وهو رجل أربعيني من سكان مدينة إدلب، أن العرس لا يحلو إلا بالرقص، ويشرح بأن المكان الذي يجرى فيه الفرح يجب أن يقسم لحلقات بحيث يجلس كل عشرة أشخاص تقريباً مقابلين لبعضهم، وعندما تبدأ الألحان تعزف يقوم الناس للتمايل على أنغامها برقصات متقنة أحياناً ومرتجلة حيناً آخر.
“ويمشي العريس برفقة أقربائه وهم يتمايلون مع أنغام الموسيقا بين الحضور طالبين منهم مشاركتهم الرقص والفرح” بحسب قوله.
إلا أن الفرق المتخصصة بالرقص، تتميز بزيها الموحد ودعوتها الخاصة لمكان الرقص الأول الذي يكون أمام فرقة الإنشاء والغناء، والتي بدورها تطلب فرقة الرقص للحضور بالقرع المتواصل على الدف والطبل مع مقولة “جماعة العربي عالساحة”، أو على ألحان وكلمات أغنية “قوموا نرقص عربية ونورجي هل العالم فنّا، نحن شباب زكرتية.. خلقت هل الرقصة إلنا”.


 

رغم الحرب.. سوريون يتسابقون لدخول غينيس

رغم الحرب.. سوريون يتسابقون لدخول غينيس

الساعة الثانية ليلاً لكن الضوء مازال يعمل في غرفة لمى، والألوان منتشرة في المكان، بينما تعمل بجد محاولة الانتهاء من لوحتها الضخمة التي قررت تنفيذها لتكون صاحبة رقم قياسي وتدخل سجل غينيس، في وقت تعاني بلادها من أوضاع اقتصادية صعبة وظروف معيشية سيئة للغاية، لكن ذلك لم يمنع الشابة العشرينية من الحلم.

لمى مع لوحتها

ليال طويلة عملت فيها لمى على لوحتها خلال خمسة أشهر بالتوازي مع دراستها في كلية العمارة، لتنجح في النهاية من انجاز لوحة ضخمة برسم الماندالا أبعادها 488 ضرب 488 تضم عدداً كبيراً من الدوائر المتداخلة بالإضافة للدوائر الحرة، ولتتمكن في تأمين هذه المساحة الضخمة قسمت اللوحة إلى أربعة أرباع، في كل ربع يوجد دائرة مشابهة للدائرة الموجودة في الربع الآخر كي تكون متكاملة، فضلاً عن وجود دائرة في المركز تعتبر قلب اللوحة، كما يوجد خطوط انسيابية تربط بين الدوائر.

الفكرة بالنسبة للمى كانت نوعاً من التحدي، لكنها دخلته ونجحت به، ثم كانت الصعوبة الأكبر بالحصول على اللقب، وإقناع غينيس بأن عملها حقيقي خاصة مع عدم وجود مندوبين للسجل في سورية، وتشرح لمى ”المراسلات كانت معقدة واحتاجت عملاً طويلاً، وفي كثير من الأحيان كنت أشعر بالإحباط وأظن بأن حلمي لن يتحقق، لأن الموضوع استغرق حوالي السنتين حتى حصلت أخيراً على الرقم القياسي العالمي ونلت الشهادة الدولية“.

لمى تعرف أن الرقم لن يقدم لها أي إضافة مادية، وربما لن يفدها بشيء في الوقت الحالي، لكنه معنوياً يعني لها ولمنطقتها، دير عطية، التي ساندتها خلال رحلتها ووقفت معها بكل خطوة وفرحت لفرحها.

وعن تعرفها على فن الماندالا وتعلمها له، تقول لمى ”الأمر يرجع لفترة الشهادة الثانوية، وللتخلص من الضغط المرافق للدارسة بدأت بتعلم هذا الفن والتعرف عليه، وكنت أشعر بنوع من الراحة النفسية كلما نفذت عملاً، لهذا قررت البحث في هذا الفن الهندي أكثر، والتعرف على تقنياته وقررت التخصص بفن الـ “Dotmandala” أو التّنقيط النّافر، لأنه أقل انتشاراً، فتدربت عليه بشكل جيدٍ حتى أنجزت لوحتي الضخمة بهذا النوع من الفن“..

صائد غينيس

من جهته لم يكتف محمد فيضو، وهو من اللاذقية، برقم واحد، إنما حصد حتى اليوم أربعة عشر رقماً، وينوي الوصول إلى عشرين رقم قياسي خلال حياته. 

اختار فيضو المجال الرياضي و بدأ بالتدريب من عمر السبع سنوات، ليحصل على العديد من الجوائز والبطولات المحلية، ولشدة تعلّقه بالرياضة كان يتدرب لعشر ساعات يوميا، بشكل منظم ومكثف، الأمر الذي دفعه للتفكير بالحصول على لقب عالمي، فنجح في عام 2021 من دخول سجل غينيس ست مرات، وثمان مرات في سنة 2022.

يقول فيضو وهو طالب كلية تربية رياضية ومدرب كمال أجسام ولياقة بدنية، لـ“صالون سوريا“، ”أنا متفرغ لغينس، ورغم عدم نيلي لأي تكريم أو تمويل محلياً، لكنني أصر على تسجيل الأرقام، وهو تحدي مع نفسي وشيء مهم بالنسبة لي، كما أن الأرقام القياسية هي هدف أحققه لنفسي، ولا أنتظر أي شيئ من أحد“. ويشير فيتو بأن الحصول على أول لقب احتاج منه جهداً ليفهم آلية تقديم الطلب بشكل صحيح، وطريقة التوثيق، وللوصول لهذه المعرفة قدم عدة طلبات فاشلة، ولكنه أدرك الطريقة صحيحة لاحقاً.

أول رقم سجله كان تمرين الضغط الجانبي بـ93 ضغطة بدقيقة واحدة، محطماً الرقم السابق لألماني بـ 55 ضغطة بدقيقة واحدة”، وآخر رقم سجله كان الضغط على القبضة مع وزن 100 باوند بـ 81 ضغطة بثلاث دقائق، والرقم السابق كان لرياضي استرالي بـ 70 ضغطة بثلاث دقائق.

ومن الأرقام التي سجلها ضغط مع رفع رجل واحدة مع وزن 100 باوند بـ51 ضغطة بدقيقة واحدة، والرقم السابق كان لباكستاني بـ42 ضغطة بدقيقة واحدة”، و سكوات مع القفز للأعلى مع وزن60 باوند بـ44 تكرار بدقيقة واحدة، وكان الرقم السابق صيني بـ34 تكرار بدقيقة واحدة”.

رقمان وأحلام جديدة

وفي المجال الرياضي أيضاً تمكن الشاب يزن صالح من مصياف من تحطيم رقميين قياسيين في سجل غينيس آخرهما كان تنفيذ 222 حركة “سكوات” خلال دقيقتين و58 ثانية، وبذلك كسر صالح الرقم السابق البالغ 206 حركة خلال 3 دقائق، أما الرقم الأول الذي ناله فيرجع لتمكنه من جر سيارة دفع رباعي تزن 3 أطنان لمسافة 100 متر، وهذه التجربة نفذها في جامعة تشرين أمام حضور كبير.

يزن مع شهادة غينس

يقول صالح (٢٣ عاماً) ”أنا كبقية من سجل أرقام قياسية في سورية، لم أنل أي دعم أو تبني، كما أنني أواجه صعوبات عديدة لأتمكن من نيل اللقب، فالسجل يطلب شروطاً صعبة للتوثيق، وقد كلفتني تجربتي الأولى قرابة المليون ليرة سورية لأتمكن من توفير التصوير المناسب، وفي المرة الثانية نفذت التحدي تحت إشراف نادي حطين الراضي كوني مدرب لياقة في النادي، وهذه الرعاية وفرت علي مصاريف التوثيق“.

 ويزن يدرس اليوم في كلية التربية الرياضية وهو بطل جمهورية بألعاب القوى (وثب طويل وثلاثي و٢٠٠ متر)، وبطل جمهورية بالقوس والسهم، بدأ الرياضة بعمر الخمس سنوات، نال خلال مسيرته الرياضية 53 شهادة محلية ودوليه، واليوم يحضر للقب جديد، ويقول عن سبب إقدامه على هذه التحديات ”الموضوع هو تحد شخصي في ظل الظروف الصعبة في البلد، والدعم شبه المعدوم للوصل إلى العالمية بأقل الإمكانيات“.

غينيس لحائط مدرسي

 وفي دمشق تمكن حائط مدرسي من الحصول على لقب في سجل غينيس عام 2014، بفضل لوحة فنية نفذها عدد من الفنانين التابعين لوزارة التربية، استعان الفنانون بمخلفات قاموا بإعادة تدويرها، وصمموا من خلالها لوحة فنية باتت مَعلماً في منطقة المزة.

الحائط الملون صُنع من أغطية عبوات بلاستيكية أو فناجين مكسورة أو بقايا صحون وغيرها. الفنان موفق مخول المشرف على مجموعة ”إيقاع الحياة“، التي رسمت اللوحة يقول إن مساحتها تتجاوز الـ 720 مترا مربعا، وقد نالت لقب أضخم جدارية على مستوى العالم، تم تنفيذها من بقايا “مواد بيئية“.

استغرق تنفيذ هذه اللوحة حوالي الستة أشهر، وكان الهدف منها ”نشر الفرح بين الناس والفن، وتحويل الجدران الصماء الشبيهة بجدران السجن لجدران تنبض بالحياة، لتواجه ظروف الحرب التي تعاني منها البلاد، وفي الوقت عينه تشجع الأطفال على الحفاظ على البيئة واعتماد مبدأ إعادة التدوير“ بحسب قوله.

وعن كيفية دخول اللوحة لسجل غينيس أشار مخول لـ“صالون سوريا“ إلى أن ”دارم طباع -ولم يكن حينها وزيراً للتربية- راسل (غينيس) عن طريق الإنترنت، وعرض عليهم الفكرة فشجعوا الأمر، وطلبوا صوراً وفيديوهات لتوثيق التجربة، وتمكن الفريق من نيل اللقب خلال ثلاثة أشهر من انتهاء اللوحة.“

 وشارك في تشكيل اللوحة كل من الفنانين: صفاء وبي، رجاء وبي، علي سليمان، ناصر نبعة، حذيفة العطري، والمساعدين: عدنان العبدالله، حسين مصطفى، محمود السبينة.

 النّدابة.. قرباطية تؤجر حزنها لتبكي أمواتاً لا تعرفهم 

 النّدابة.. قرباطية تؤجر حزنها لتبكي أمواتاً لا تعرفهم 

هاتف ليلي لأحد الأصدقاء في العام ٢٠٠٩، دفعني لمشاركته رحلة سفر نحو واحدة من مدن ريف حمص الشرقي، وطيلة الطريق الذي استغرق نحو ست ساعات تقريباً، كان الحديث يعود باستمرار لسيرة عم صديقي الذي توفي بحادث سير ناجم عن القيادة بسرعة تحت تأثير الكحول. كان المتوفى عائداً من سهرة في أحد الملاهي الليلية وترافقه راقصة تحمل جنسية إحدى الدول المغاربية.

 لم يكن هذا الحديث معتاداً بالنسبة لي، فهو عكس ما تقوله القاعدة المعروفة “اذكروا محاسن موتاكم”، فصديقي ذاك كان يوغل في نبش الحكايا السيئة عن عمه الذي يصرف مبالغاً طائلة على ملذاته، فيما يبخل على أسرته بالمصروف، وهو رجل يعمل بـ “الربى”، فلا يُعطي مالاً بدون فائدة حتى لأقاربه المقربين، وعموم ثروته كدسها من سرقات من القطاع العام، حينما كان مسؤولاً في مؤسسة حكومية بحمص تُعنى بإنشاء مباني المشروعات. بدا لي هذا الرجل بغيضاً من خلال حديث ابن أخيه الذي أجبر على حضور العزاء من باب الواجب العائلي، إلا أنه صدمني بجنازته.

الدهشة الأولى

سار موكب الرجال يحمل النعش بخطى ثقيلة، وفي الخلف نسوة تتقدمهن مسنة تبكي الميت بحرقة، وتردد جملاً توحي بأن ما قصّه صديقي عن عمه كان كذباً، خلف المرأة نسوة يبكين بحرقة أيضاً، فيما بقية النساء يمشين بهيبة ووقار دون إبداء الحزن الشديد.

سألت صديقي عن المرأة التي كانت تبكي بحرقة وتندب الميت بكلام مقفى، قلت له “هي شاعرة”، فرد “كل الندّابات شاعرات”، صُدمت ولم استوعب الجملة التي قالها، وبعد انقضاء الدفن والعزاء، سألته عن مدى قرابة المرأة لعمه، فقال ببساطة «قلت لك هي ندّابة، قرباطية تبكي مقابل مبلغ متفق عليه سلفاً»، والصدمة أن كل النساء اللواتي بَكَين عمه في التشييع كنّ من القرباطيات اللواتي يحضرن مثل هذه المناسبات ليبكين نيابة عن نساء العائلة.

خلال عملية بحث عن «القرباط» في محيط العاصمة السورية دمشق، كان مشهد الندّابات هذا يقفز من الذاكرة. تحاول سميرة التي قاربت العقد الخامس من العمر، و تعمل بهذه المهنة من سنوات أن تجيب عنه، وتقول لـ“صالون سوريا“: ”المرة الأولى التي شاركت فيها بتشييع ميت كنت بعمر السادسة عشرة، حينها خرجت ملتفحة بالسواد برفقة مجموعة من نساء المخيم الذي كنت أعيش فيه مع أهلي، صعدنا في صندوق سيارة “بيك آب”، أرسلها ذوي الميت آنذاك، وكنّ مشغولات بالغناء في طريق الذهاب، وبعدّ المال والحديث عما شهدناه في العزاء من كرم أو بخل أو تصرف نسوة آل المتوفى في طريق العودة“.

وتشير سميرة إلى أن جدتها كانت تسأل “حين وصولنا عن اسم الميت ولقبه فقط، لتبدأ بعدها بإلقاء ما تحفظه من رثاء سواء كان شعراً أو أغانٍ، ولحرقة بكائها كنا نبكي معها، وكأننا نبكي على حالها“ بحسب قولها.

حكايا لحزن مفترض 

في ثمانينيات القرن الماضي كانت جدة سميرة تتقاضى ٥٠ ليرة كاملة عن الندب على ميت لا تعرفه، وتحصل النسوة التي ترافقنها على مبلغ ١٠ ليرات لكل منهن، زاد المبلغ في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي  ليصبح ١٢٥ ليرة للندابة، وخمسين لكل من ترافقها، ويُحدد عدد المرافقات وفقاً لطلب ذوي الميت.

أما خولة، فقد كانت أولى مشاركاتها في عملية الندب في أوائل التسعينات، حينها خرجت برفقة أمها لعزاء بريف حمص الشرقي أيضاً، وكان الميت وفقاً لما تذكره مختاراً لقريته، وكان ذوي المختار كرماء، فحصلت كل النساء اللواتي رافقن أمها على مبلغ ٢٥ ليرة كـ “إكرامية”، أو “بقشيشاً”، فيما حصلت أمها على ٢٠٠ ليرة كاملة، فقد بكت حينها بحرقة وكأنها أم الميت أو حبيبته،.

من جهتها تروي خلود لـ ”صالون سوريا“: ”كانت أمي تعمل كحفّافة، أي تقوم بتزيين النساء وإزالة الشعر من وجوههن باستخدام الخيط، ولأنها ذات صوت جميل كانت النسوة يمنحنها وقتاً إضافياً لتغني لهن مقابل بقشيشاً تحصل عليه بعد إنهاء حفلة التزيين، ولم تكن معروفة كندّابة، إلا حين رغبة ذوي أحد الموتى باستقدامها لتندب في عزائهم“، ولا يوجد لدى «القرباط»، تفسير لسبب احتياج سكان القرى لهم في مثل هذه المناسبات إلا بكون ذوي الميت يريدون أن يتباهوا حتى في حزنهم.

عن عمرها تجيب خلود ”مثل ما أذكر ٦٥ سنة“، أما عن الندب فتقول “لا أذكر أن ثمة من طلب نساءً للندب في عزاء منذ عام ٢٠٠٥، كان وقتها ضمن عزاء بقرية في ريف حماه الشرقي، حينها استقلينا السيارة لمدة تزيد عن ساعة لنصل للقرية، وتقاضينا حينها مبلغ ١٥٠٠ ليرة سورية لكل منا، وكنا عشر نسوة، والطريف في الأمر أن النساء اللواتي كنّ يندبن خلال عزاء الميت، وما إن يعدن لثيابهن المزركشة بعد انقضاء المهمة، ليمارسن حياتهن الاعتيادية“.

وفي صباح اليوم التالي سيكون موعدهن لشرب كأس من الشاي أمام إحدى الخيام، ليتشاركن أسرار النساء الحاضرات من أقارب ومعارف الميت، وضمن هذه الجلسة يسخرن من “نساء الحضر“، اللواتي يبدين نوعاً من التحفظ في الاختلاط مع الندّابات لكونهن ”قرباطيات – نوَريات“، وما يثير سخرية الندّابات أكثر هو إنهن يبكين نيابة عن أولئك النساء.

وتردد الندّابات، كل ما يحفظنه من قصائد الرثاء المكتوبة شعبياً، وهي مستقاة من بيئة المنطقة التي يقع فيها هذا المخيم أو ذاك، وغالباٍ ما تكون جملاً من الموروث الشعبي للمنطقة، وتستذكر ونس، بعضاً من جمل جدتها في حالات الندب المأجور ومنها “وشربت من ميهم قطّع معاليچي.. بموتك شلون يبل الوگت ريچي“، ومعناه أن الراثية تسأل المرثي بعد أن شربت من ماء الغرب وتقطعت أحشاؤها وجعاً، كيف سيرويها الزمن..؟!.

أكثر ما كان يهم الندّابات هو قطع اللحم التي يحصلن عليها كحصة من الذبائح التي ينحرها أصحاب العزاء لتكون وليمة لضيوفهم، ويعدن محملات بخبز الصاج الطازج.

ويُعرف عن القرباط عملهم في مهن ”تبييض الأواني النحاسية – تركيب الأسنان المعدنية – لحام أغطية صفائح تخزين الجبن – الطب العربي – الختان“، التي يمارسها الرجال، ذات المردود المنخفض، وهم يعتمدون على ما يحصلون عليه من ”إكرامية“ وهي تتنوع بين المال أو المواد العينية من قمح أو عدس أو ثياب مستعملة، والحال مثله للنساء اللواتي يمارسن في الحياة الاعتيادية مهناً مثل الحفّافة – الونّاسة (ترافق سائقي الشاحنات لتبث لهم الونس بالغناء والحكايا) – الدگاگة (ترسم وشوماً للنساء) – الحچية (امرأة تغني في خيمة ذويها لمن يحضر من زبائن)، وسواها من المهن الأخرى، وتعد عادة المشاركة في ندب ميت ما، ”رزقة“، لم تكن تأتِ كل يوم..

عن هذه المهن تشرح ميادة، لـ ”صالون سوريا“، ”ليس للموت موسم، ونساء القرباط يعتمدن في بعض المهن على الموسم، فـالحفّافة، تطوف بشكل مستمر لتلتقط رزقها، لكنه كان يزيد في موسم الأعراس في القرى، و الدگاگة، كانت تَشِم للنساء بعد موسمي حصاد الحبوب وقطاف القطن، ويزيد عمل الحچيات بعد المواسم لأن جيوب الرجال تمتلىء، لكن الندّابات، وهن غالباً من كبيرات السن اللواتي اعتزلن العمل، ينتظرن عزاء ليلطمن فيه، والتعازي لا تحدث كل يوم“.

تضيف المرأة الستينية التي تخاف من العودة للخيام: “الآن لم يعد ثمة ندّابات، الناس تعودت على كثرة الموت ولم يعد للعزاء ذات الطقوس التي كانت سابقاً، كما إن الناس لم تعد تجد خيامنا، فكل سكان مخيمات القرباط إما استقروا في المدن أو بالقرب من مخيمات النازحين، وفي كل الأحوال بات التسول مهنة غالبية النساء والأطفال، فيما يعمل الرجال في مهن مثل بيع الدخان أو جمع القمامة أو بيع المشروبات الساخنة“.

التسول.. كمصير

في ساحة المرجة تجلس سمر، وهي في العشرين من عمرها، مع والدتها السبعينية على كرسيين لشرب كأس من الشاي خلال فترة الظهيرة للاستراحة من التسول. وتستأجر سمر مع أسرتها المكونة من ١٤ فرداً غرفتين في فندق قريب بأجر يومي يصل إلى ٢٠ ألف للغرفة الواحدة، وهم جميعاً يتسولون لجمع مبالغ تكفي لمعيشتهم وفقاً لتعبيرها.

وتبوح أم سمر، التي أنجبت ابنتها في مخيم شرق العاصمة، قائلة: “كل نساء القرباط كن يحلمن ببيت طبيعي بدل الخيمة، الرجال هم من كان يتحكم بقرار الحل والترحال للقبيلة تبعاً لموسم العمل وشكله، لم يكن ثمة مستقر، وغالباً ما كنا نرحل ليلاً، فيستفيق الناس في مكاننا القديم على اختفائنا المفاجئ، فيما يستفيق سكان أقرب منطقة من المكان الجديد لمخيمنا على مفاجأة وجودنا، كان البعض يجبرنا على الرحيل خوفاً مما يسمعونه عنا من إشاعات، فالبعض يظن أننا نخطف الأطفال، والبعض يعتقد أننا نعمل بالدعارة، وتهم أخرى مثل ممارسة السحر والسرقة وما إلى هنالك“.

“نعتذر عن المجيء”… سوريون يكتفون بالمعايدات الهاتفية

“نعتذر عن المجيء”… سوريون يكتفون بالمعايدات الهاتفية

عيد الأضحى هو “العيد الكبير” هو أبرز الأعياد التي اعتاد السوريون على الاحتفال بطقوسها السوريين كحال كل الشعوب الإسلامية، وهي مناسبة اجتماعية متجذرة في عاداتهم للتلاقي بعد  طول غياب وتبادل التهاني.

 كما أن العيد يعتبر فرصة لرأب الصدع بين المتخاصمين، لكن هذا العيد كان صعباً ولم يعد بوسع أغلب السوريين تمضية أيامه سويّة، وذلك لعدم استطاعة السوريين خارج بلادهم تكبد نفقات السفر الكبيرة ، فيما حال الموجودين في الداخل ليس بأفضل، فمصاريف التنقل بين المحافظات باتت مرهقة.

تمسك دينا (30 عاما) جهازها الخليوي وتفتح الكاميرا لتبدأ بتقديم التهاني والمعايدات لوالديها، لكنها سرعان ما تجهش في البكاء، فلعنة المسافة الجغرافية لا يمكن للتكنولوجيا أن تقربها، ولا يمكن للشاشة الصغيرة أن تحل مقام الحضن والقبلات الحارة. تقول الشابة التي تقيم في أربيل لـ”صالون سوريا” :” هذا العيد الأول لي وأنا بعيدة عن أهلي، لا طعم للعيد بدونهم، كما أنني لم أتمكن من حضور عيد الفطر، أشتاق إليهم كثيرا، صحيح أن التكنولوجيا تمكنني من الاتصال معهم ورؤيتهم، لكنها لا تقارن بحضنهم الكبير”، وعن سبب عدم تمكنها من زيارة والديها وقضاء العيد معهم، توضح الشابة ” مضى على إقامتي عام وشهرين، أعمل كنادلة في مطعم هنا، راتبي لا يتجاوز 500 دولار، فيما ستكلفني زيارتي لأهلي قرابة 800 دولار، تشمل تذكرة الطيارة، مصاريف التنقل وفحص كورونا وبعض الهدايا، أي انها تعادل راتب شهر ونصف من العمل الطويل والمضني”، وتختم دينا حديثها قائلة:” اكتفيت مجبرة بمكالمة فيديو ، استعيد فيها  معهم ذكريات العيد البعيدة حين كنا صغار والكثير من الدموع التي حرقت وجنتاي، لا أعلم متى سأزورهم، ربما بعد عامين، فقدومي إلى هنا من أجل العمل وجني المال وإرسال النقود لأهلي للعيش بكرامة”.

حال عباس (28 عاماً) ليس بأفضل، فهو أيضاً استبعد كلياً فكرة  نزوله من أربيل هذا العيد للمصاريف الباهظة التي سيتكبدها وقد تصل إلى 1200 دولار، أي ما يقارب نصف راتبه الشهري، يقول الشاب:” قررت عدم زيارة أهلي وذلك بسبب النفقات الباهظة، فسوريا باتت أغلى معيشيا من هنا، فتكلفة تذكرة الطيران ترتفع في هذا التوقيت، بالإضافة إلى نفقات التكسي وفحص الكورونا والوزن الزائد والهدايا ،وأجور خدمات المطار، من حمل حقائب وبقشيش وسواها”، يعقب الشاب:” حتى إرسال المعايدات المالية باتت مهمة صعبة وخاسرة ومكلفة، فأجرة تحويل مبلغ مالي قدره 400 ألف ليرة سورية، يتم قضم حوالي 30 ألف ليرة سورية منه لإيصاله إلى أهلي ، وهناك مكاتب تأخذ عمولة عالية على أجور التحويل، ما يسبب خسارة لي أنا أيضا”

الوضع المادي يفّرق العائلات في العيد

“كيفك ماما… لاتزعلي مني بس مافيني أنزل، ما عطوني إجازة، رح ابعتلك عيدية لإلك ولأخواتي وبجي عن قريب” هكذا تهرب ماهر  من محادثته الهاتفية مع والدته التي أ ضناها شوقها لرؤيته، فالشاب تحجج بضغط العمل ورفض إجازة كي لا يخبر والدته بأن قدومه في عيد الأضحى يعني أنه سيبدد المال الذي جناه خلال عام كامل، يقول الشاب” لا أريد كسر خاطر أمي، سأكتفي بإرسال العيدية لها ولأشقائي، المبلغ الذي سأنفقه في إجازتي يعادل ما أدخره خلال سنة، سيذهب تعبي سدى”.

أحوال السوريين في الخارج  ممن يتقاضون رواتب ضئيلة دون 1500 دولار تتشابه تقريبا،  فسيتحتم عليهم تكبد نفقات كبيرة خلال فترة وجيزة، مايعني عبء مادي جديد يرهق كاهل غربتهم المريرة، وعن ذلك يقول جاد(25 عاما)” علي أن أفاضل بين زيارة أهلي وبين تجديد جواز سفري الذي ستنتهي صلاحيته بعد شهرين، ما يعني أنني سأدفع مقابل تجديده قرابة 1500دولار، أدخر  كلفته منذ أكثر من 4 أشهر”، متابعا “يذبحني شوقي لأسرتي، لكن في الوقت نفسه لا أملك المزيد من المال لنفقات السفر وتجديد الجواز معا، لا أستطيع الاستدانة من أحد ومراكمة الديون  “أما طارق ففضل توفير نفقات السفر إلى بلاده لصالح البدل الخارجي والهروب من شبح الخدمة العسكرية، يعقب بالقول” راح الكتير وبقي القليل، الله يجمعنا بأسرع وقت”. 

حال السوريين داخل حدود بلادهم ليس أكثر يسرا، فهناك من تعذر لقائه بأسرته وانقطعت به السبل المادية للوصول إليهم، كخليل الذي يعمل سائق أجرة ولم يتمكن من السفر إلى الحسكة لممارسة طقوس عيد الأضحى مع والديه، يقول” حجز ثلاثة مقاعد في باص يتمتع بخدمة سيئة لي ولزوجتي وطفلي سيكلفني 180 ألف ليرة سورية ذهاب وإياب، ناهيك عن المصاريف الأخرى كالحلوى، أما ثمن تذكرة الطيران فتصل إلى 400 ألف ليرة للشخص الواحد، أنها حقا مبالغ خيالية يصعب تحملها بالنسبة لأصحاب الدخل المعدوم وليس المحدود”. 

المهر في سوريا: حلم الليرات الذهبية وعجز القانون

المهر في سوريا: حلم الليرات الذهبية وعجز القانون

منذ عامين، فاجأت هيلين خطيبها بطلب رفع مهرها على غير المتفق عليه بينهما أثناء جلسة عقد قران الشيخ، وها هي اليوم تعزم رفعه للمرة الثانية تحسبًا لطلاق تعسفي مفاجئ يُسفر عن خسائر فادحة. من جهة أخرى، تنازلت ختام بإرادتها عن كامل حقوقها فارةً من لطمات زوجها وهربًا من نوبات جنونه الهائجة. تعكس القصتان باختلافهما حجم معاناة العديد من النساء مع قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 لعام 1953 بالرغم من تعديله مؤخراً في شباط 2019 الذي سمح للمرأة بتعديل مهرها بما يتناسب مع القوة الشرائية في البلاد حين التسجيل. لكن مازال هذا القانون يحسم المعركة دوماً لصالح الرجل، ويعكس مدى عجز القانون عن حماية المرأة وصون كرامتها، مهما طرأ عليه من إضافات وحتى إن بلغت قيمة المهر مئات الملايين.

قصصهن

خرجت الأسبوع الفائت ختام (48 عاماً) من باب المحكمة وهي تتأبط ورقة الخلع بعد محاولات مضنية وفاشلة بالحصول على طلاق يضمن لها كامل حقوقها. تُشارك تفاصيل تجربتها وملامح التعب تغزو وجهها: “خلعتُ زوجي وتخليتُ عن مهري وجميع حقوقي، أريد الاحتفاظ بما تبقى من حريتي وكرامتي وراحتي، لم أعد أحتمل لطماته ونوبات غضبه المتكررة، لا أطيق غيابه المتكرر عن المنزل وتقصيره المستمر بواجباته كأب وزوج.” وتضيف ختام: “أخفى زوجي عني أمر إصابته بمرض ثنائي القطب، كما أصر على عدم تناول الدواء والتعافي، ما انعكس سلباً على صحتي حين تصيبه نوبات ضرب وصراخ تنصبان فوق رأسي.” حاولت ختام بشتى الطرق التوصل إلى تسوية لإرضاء الطرفين، لكن دون طائل، تدخل العديد من المقربين كوساطة لحل النزاع بين الزوجين، غير أن إصرار الزوج على أنه لا يعاني من أي مرض أدى إلى فشل العلاقة. تشرح ختام الوضع: “لم تنفع معه أي حلول، توسط الأصدقاء بيننا وطلبوا منه الالتزام بتأجير منزل لي ولأبنائي الثلاثة وتكبد نفقاته مقابل الاستمرار معه، لكنه رفض بالرغم من وضعه المادي الممتاز وطلب مني البقاء وتحمل تقلباته المزاجية والتزام الصمت وتقديم فروض الطاعة، غير أنني رفضت وخلعته، خسرت حقوقي، لكن كسبت حريتي وكرامتي المتبقية.” ليس لدى ختام عائلة، فوالدها متوفان، استدانت من أحد أصدقائها مبلغ مالي لسداد أجرة المنزل الذي تُقيم فيه مع أبنائها ريثما تجد عملاً لها.

في الوقت الذي هُدرت فيه حقوق ختام ولم تجني نفعاً من قيمة مهرها، تجد هيلين (25 عاماً) أن للمهر أهمية كبيرة لصون حقوقها فيما لو وقع الطلاق، ما دفعها لزيادة قيمته لحظة عقد قرانها وإرضاخ خطيبها آنذاك للأمر الواقع، وتقول عن تجربتها: “اتفقتُ مع خطيبي قبل الزواج على مهر مقدره مليون ليرة سورية مقدم، ومليونين مؤخر، لكن بعد التفكير العميق وجدته قليل جدًا، فطلبت رفعه إلى الضعف للاثنين معاً أثناء وجود الشيخ عند عقد القران، فوافق ذويه على مضض.” تُتابع الشابة: “المهر مصدر أمان لي في المستقبل عند حصول الطلاق، أفكر حاليًا برفعه مجددًا نتيجة ارتفاع سعر الصرف وغلاء المعيشة وإقناع زوجي بالموافقة دون إخبار أهله لأنهم حتما سيرفضون ذلك.” تعتقد الشابة وهي أم لطفل واحد أن على المرآة أن تطالب بمهرها وتمتنع عن كتابة كلمة مقبوض ما لم تقبضه حقًا وعدم السماح للزوج بالضغط عليها، لأنه يشكل لها ضمانة في المستقبل وستكون بحاجة ماسة إلى المال بعد طلاقها.

المهر بالليرة الذهبية

تفكر سارة (28 عاماً) جدياً بتحديد مهرها بالليرات الذهبية كضمان لقدرتها على العيش وعدم خسارتها ماليًا، وذلك أسوة بشقيقتها الكبرى: “يجب التفكير بمساوئ الطلاق قبل محاسنه، يجب توقع الأسوأ على الإطلاق، إذا كتبت بالعقد مبلغ مالي بالليرة السورية فهو سيصبح بلا قيمة بعد سنوات في حال فسخ عقد الزواج، فالليرة تنهار يوميًا، والأفضل أن أحدد مهري بالليرة الذهبية فستظل لها قيمة وستمكنني من تدبير أموري لأن الذهب يحافظ على قيمته دومًا، أن أخسر زواجي ومعي نقود توفر لي منزل، خير من خسارتي وأنا مفلسة ومرمية في الشارع انتظر رحمة الناس وشفقتهم.”

المهر لا يصون حقوق المرأة

“المهر بحد ذاته لا يصون حقوق المرأة بشكل كامل ولا حتى تعديله، فهو يسلع المرأة”، هكذا تجيب المحامية السورية اعتدال محسن عن رأيها حول المهر وتعديله، مضيفة: “أن المرأة الأفضل بنظر المجتمع يُدفع فيها المهر الأعلى، كما أنه لا حد لأقل المهر ولا أكثره وفق القانون وكل ما صح شرعًا صلح أن يكون مهرًا سواء كان مالاً أو منفعة أو حتى عملاً، لكن على ألا يتجاوز مهر مثيلاتها وهنا حدد المهر حسب الطبقة أو الحالة المجتمعية للمرأة.” 

وعن الآلية المتبعة في تعديل المهر، تشرح المحامية أنه: “لم ينص القانون السوري على إلزام الزوج بتعديل المهر ولا عدلته المحكمة من تلقاء نفسها، وإن تم التعديل كان يتم باتفاق الطرفين، أما وفق القانون الجديد فإذا كان المهر متدنيًا جدًا وفق سعر الصرف الحالي جاز تعديله على آلا يتجاوز مهر مثيلاتها.”

ترى المحامية اعتدال ألا سبيل إلى نيل المرأة حقوقها، إلا أن يساويها القانون مع الرجل في الحقوق والواجبات، وألا يكون الطلاق بإرادة منفردة، بل يكون بالاتفاق الكامل أو وفق ما يراه القانون الذي يكون أصلًا قد أعطى المرأة كامل حقوقها،” مؤكدة أن المهر، “ليس السبيل الوحيد لحفظ المرأة كرامتها ولا هو السبيل الوحيد الذي يعوض المرأة التي أفنت حياتها وشبابها في إعمار المنزل وتربية الأولاد فيكون جزاؤها مقدار من المال مع إخراجها بشكل كامل من حياة الأسرة”.

تعديل المهر: حبر على ورق

يحق للزوج أو الزوجة تعديل المهر في حالتين، إذا تم الأمر برضا الطرفين وبموافقتهما التامة دون خصومة وذلك من خلال تقديم طلب إداري إلى القاضي الشرعي، الذي يحول الطلب إلى الديوان، ثم تُكتب ورقة تعديل المهر على أصل عقد الزواج القديم في المحكمة. والحالة الثانية عند رفع دعوى خاصة، لكن لا ينظر القاضي بأمر التعديل إلا في حالة كانت قيمة المهر المسجلة منخفضة جدًا عند التسجيل. أما دون هذه الحالات فتقابل بالرفض التام، كحالات تحديد المهر بقيم متدنية دون 10 آلاف ليرة سورية على سبيل المثال، حينها يتم تعديله ليصبح 200 ألف ليرة سورية أو أكثر بقليل عند المطالبة. بمعنى آخر تبقى المرأة هي الخاسرة الأكبر من مسألة تعديل المهر في حال رفع دعوة خصومة.

قانون مجحف للنساء

ترى الناشطة النسوية بحقوق المرأة سلوى زكزك أنه “لا يمكن تناول مسألة المهر كجزئية منفصلة، بل هي من جملة وضع المرأة عمومًا في ظل قانون الأحوال الشخصية، كالحضانة والبقاء في السكن والحصول على الكفاف اليومي لها ولأطفالها بعد حصول الطلاق.” وتصر زكزك على أن المهر ليس مصدر أمان للمرأة ويعمل على تسليعها وتشييئها، وهو مبرر أساسي للرجل على تطليق المرأة في أي وقت يشاء بحجة أنه دفع مهرها بالكامل مقابل الخدمات الجنسية والمنزلية والإنجاب وزيادة أعداد أفراد العائلة وخدمتها التي قدمتها خلال مسيرة حياتها الزوجية. كذلك هو مصدر جلد وتمييز سلبي ضد الرجال ويدفعهم للسفر لتأمين مستلزمات الزواج.” وتوضح الناشطة النسوية: “يجب أن يبقى المهر حقاً ثابتاً للمرأة حتى بعد الطلاق أو الخلع ليكون مصدر حماية لها”.

المهر قبل وبعد سنوات الحرب

أحدثت الحرب صدوع وتشققات كبيرة في جدار المجتمع السوري، غيرت بالكثير من عادات سكان المناطق، حيث تم التخلي عن البعض منها واكتساب البعض الآخر. تتحدث زكزك عن السياق الاجتماعي للمهر قبل اندلاع الحرب السورية: “اختلف تحديد المهر بين المرحلتين، قبل عام 2011 كانت العائلات تحدد المهر حسب جمال ونسب الأسرة وثقافة الفتاة، كلما زاد جمال الشابة ارتفع مهرها والعكس صحيح، هذه العادة غير منطقية ومهينة للرجل والمرأة معًا، فالرجل الذي لا يملك مبلغ مالي كبير لا يحق له الزواج من شابة جميلة، وينصرف إلى الأقل جمالًا بما يتناسب مع وضعه المالي. وتضيف: “أما بعد عام 2011 فهناك فتيات تزوجن بلا مهر، أو بمنطق السترة عليها، أو تزوجن مقابل مهر إسكان ذويها في بيت يسترهما، كما تزوجت العديد من الفتيات مقابل استيلاء والدها على قطعة أرض كمهر من زوجها والانتفاع منها، إلى جانب استغلال تجار الحرب للنازحات واللاجئات والامتناع عن دفع مهورهن عبر الإشارة إليه أنه مقبوض وهو غير ذلك، مستغلين ظروفهن القاهرة والنظرة الدونية تجاههن وبالتالي يقل مهرهن أو لا يُمنح أبدًا.”

المادة منشورة على جدلية

“فوبيا الامتحانات” وحلم ”الطب“ الباقي ! 

“فوبيا الامتحانات” وحلم ”الطب“ الباقي ! 

عام 2007، كان أبي يردد مفرداته الشهيرة ” كم سنة ورح علق اسمك على العامود بآرمة كبيرة، الدكتورة رنيم غسان خلوف، اختصاصية في كذا“. إلا أنه ترك لي حرية الاختصاص، ومات حلمه عندما قررت الدخول إلى الثاني الثانوي الأدبي.

أذكر تماماً ملامح وجهه” مثل مابدك”، وعندما كتبت أول مادة صحفية وضعت اسمه مع اسمي تقديراً له وليس تحقيقاً لحلمه.

عراك الشهادة والمهنة والمجتمع، يعيش في تفاصيل حياة السوريين/ات، منهم/ن من ينظر للشهادة أنها آمانٌ وحماية، ومنهم/ن من ينظر لها أنها تحصيل حاصل.

وظيفة الحكومة..مازالت مرغوبة

لا أنكر إني ضغطت على ابني، ومرات أشعر كتير إني زودتها عليه، بس من خوفي، ترجع فيني الذاكرة لخوف أمي”، بهذه الكلمات عبرت ساليت محمد- اسم مستعار- 40 عاماً، عن تعاطيها مع طفلها الأول الذي يقدم الشهادة الإعدادية، تتابع ساليت ”ربما ورثنا من أهالينا طرق التعامل مع أبناءنا أثناء الامتحانات، لكن بكل تأكيد لن أقف بوجه ابني إن أراد أن يدرس مايريد، موسيقى، جغرافية، فنون، وهذا ما نختلف فيه تماماً عن أهلنا، وترى أن الشهادة مهمة له، تشبه جواز السفر الذي ينجو به من البلاد إلى كل العالم“، بينما توافق تهامة العلي من مدينة حمص 40 عاماً، ساليت بضرورة أن يدرس الطالب فرعاً جامعياً يمكن أن يعيش كريماً من خلاله، إلا أنها ترى الشهادة وسيلة لوظيفة حكومية آمنة حتى في ظل تدني الأجور والرواتب، وتشجع ابنتها الوحيدة على ذلك، وتعترف بممارسة الضغط على ابنتها لتشعرها بالمسؤولية!

توافق علياء علي، وهي تدرس الهندسة المدنية وعمرها 25 عاماً، على أن وظيفة الحكومة -رغم ضعف الراتب- هي أمان الفتاة في المستقبل، لكن عندما يصح لها فرصة سفر سوف تذهب، وتنظر للشهادة أنها وثقة حياة ونجاة معاً، وتتحدث عن شرط أبيها الذي أجبرها على دراسة اختصاص تلتزم فيه الدولة بتعيين الخريجين، وتعزو ذلك للفقر!.

إلا أن حازم علي 39 عاماً، وهو خريج لغةٍ عربية ويعمل تاجراً في محلٍ للألبسة النسائية، لا يؤمن من جهته بوظيفة الحكومة التي يعتبرها أنها ”تفقد الشخص احترامه بعد تعب سنين“. 

الخوف القاتل!

” ما أحلاها هيك بعد 8 سنين يقولوا عني أم الدكتور والدكتورة، ويا سلام إذا كان الاختصاص شي صعب ونادر قلبية، أورام، جراحة، كتير بكون رافعة راسي“ تقول نهى محمد 47 عاماً، وهي ربة منزل، لجارتها من النافذة في حي المزة 86 غرب العاصمة دمشق، لتعقب الأخرى ”يالله هانت كم يوم وبتطلع النتائج، الله يفرح قلبك“. تتنهد نهى وتودع جارتها لموعد في عصر ذات اليوم.

في مشهد آخر بمدينة حمص، دخلت والدة عمران دياب إلى غرفته قبيل تقديمه للمادة الامتحانية الأولى في الشهادة الثانوية لتجده مستلقيا وهو يحتضن كتابه. حاولت أن توقظه علها غفوةً إلا إنه لم يستجب، مات عمران طفلا، لأنه لم يتحمل ضغط امتحانات تقرر مستقبله.

“فوبيا” الامتحانات الدراسية، تتوارثها الأجيال من صفٍ دراسي لآخر، فالعلامة مقياس حكم اجتماعي وحامل الأحلام الاقتصادية والرخاء أيضاً.

تزايدت حالات إصابات الشباب والصبايا في سوريا بجلطات قلبية ودماغية، وخصوصاً في السنة الأخيرة، دون وجود أية أعراض مرضية سابقة، فعزاها الأطباء إلى الضغط النفسي، سواء الناجم عن الوضع العام بالبلاد أو حتى ضغوط الامتحانات، وعن هذه الناحية تتحدث الدكتورة في علم الاجتماع سمر علي ”الأهل اليوم ورثوا جملةً من العادات التربوية الخاطئة، من خلال توجيه أبنائهم في المراحل الدراسية وخاصة التاسع والبكلوريا لضرورة الحصول على أعلى العلامات، دون الانتباه إلى فروق فردية ومستويات ذكاء، وتوجهيهم إلى الفروع الطبية كنوع من البريستيج، مع نسيان أهمية فروع أدبية أخرى“.

وتعزو عبير ياغي 45 عاماً وهي أم لأربعة أطفال وربة منزل، في حديثها لصالون سوريا مشكلة الأهل ”بالتعويض عن نقص لديهم، حيث أنهم عجزوا عن النيل على شهادة الطب أو الهندسة، ويطالبون أولادهم اليوم بالحصول على العلامة العالية، لتحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه.“، وتضيف ياغي ”من الممكن أن يكون الفقر عامل آخر، فعائلة وضعها متوسط يريدون من أولادهم دراسة فرع جيد، ليستطيع الحصول على وظيفة مناسبة تنقذهم من الفقر، في ظل غياب التشجيع على التعليم المهني وأهميته“.

وتتعرض ياغي للانتقاد عندما تقول أن العلامات العالية ليست معيار ذكاء للطالب، إلا أنها احتفلت بنجاح انتبها في الصف التاسع بعلامات عادية جداً!.

ويرى الأهل أن الفروع العلمية ربحها سريع ومستقبلها مضمون، ”وهذا معتقد خاطئ، لكن مازال يعيش في المجتمع“ بحسب الدكتورة سمر، بينما يشير الدكتور مصطفى الشعار الاختصاصي بعلم النفس إلى أن الضغوط الذي يمارسها الأهل على الطالب بحسن نية ”نتيجتها سلبية، ممكن أن توصل الطلبة إلى أمراض نفسية خطيرة، واليوم الضغط مضاعف على الأهل وعلى الطالب بحكم أوضاع البلاد، وكلاهما يرى أن الشهادة هي نجاة لمستقبل مضمون الهوية، رغم احتفاظ الأهل بالكثير من البريستيج لكل علامة يزيد بها الطالب جاره أو ابن خاله وخالته وعمه“. 

الأهل يريدون والطلاب والطالبات يريدون شيئاً آخر، لكن وحدها الذاكرة والعلامات النهائية هي من تقول الكلمة النهائية، وإلى أن تأتي هذه العلامة تستمر “فوبيا الامتحانات” وحلم شهادةٍ تنجّي من الجوع أو تقرّب السفر خارج هذه البلاد.