حسان عباس في ذاته المغايرة

حسان عباس في ذاته المغايرة

نعتَ شاعرُنا العربي الكبير المتنبي الموتَ بالغدر، واعتبره أيضاً ضرباً من القتل، في بيته الشهير الذي يقول فيه:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَه
تَيقَّنْتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
وهو فعلاً نوع من القتل حين يستهدفُ شخصيات فكرية وإبداعية لم تتوقف يوماً عن العمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل باذلة من أجل ذلك الغالي والرخيص، ومفضلة حياة المنفى على حياة الذل والخضوع. وإذا لم يمتلك المرء إيماناً دينياً من نوع ما سيبدو له الوجود لعبة ومسرحاً عبثياً لموت متواصل، فيما الحياة الحرة الكريمة، حياة الحقوق والمواطنة والاختيار، حياة التغيير والتجدد شبه منعدمة، والسبب في ذلك طبيعة النظام الاستبدادي السائد، وطبيعة جزء كبير من الفكر السياسي المعارض السائد والاثنان لا يكفان في منطقتنا عن الصدور عن بنية واحدة، أو بحسب الفكرة الألتوسيرية، عن البنية الإيديولوجية والتي يحدث فيها تواطؤ مريب: أي تتواطأ العائلة والمدرسة والإعلام والمسجد والنقابات والأحزاب التوفيقية والقوانين والمنظومات والعادات والتقاليد والأجهزة القمعية بمختلف أنواعها في تشكيلها، وبالتالي تسهم في ولادة الإنسان الممتثل والخاضع والخائف من التغيير والقابل للواقع السائد بكل إكراهاته، وهكذا يخرج الحاكم وكثير من معارضيه من المنظومة نفسها. إلا أن هذا يجب ألا يكون مدعاة للتشاؤم والسوداوية وموت الأمل، بل يجب أن نكون كما قال المسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس محكومين بالأمل، وإذا كانت البنية تتحكم وتُنتج وتفرض نظرة الإنسان إلى الوجود والثقافة التي تحد من خياراته، وتدعوه للامتثال إلا أن وعيه لذاته وتمرده عليها، وبالتالي تمرده على البنية – الرحم يؤدي إلى ولادة ذاته المغايرة كإنسان حر رافض لذاته كنتاج للبنية، وبالتالي ولادته وانبعاثه من ذاته القديمة الموروثة في ذات جديدة، ذات الإنسان الرافض للواقع السائد والمنادي بتغييره. هذه الولادة الجديدة للذات السورية المغايرة حقّقها وجسّدها حسان عباس، الذي توفي أمس إثر صراع مع مرض عضال، مات لكنه وُلد في الفكر المتحول والذي لا يموت والذي هو وحده القادر على إنقاذ سوريا من الموت. فقد رفض أن يكون نتاج البنية التقليدية التي تصنع الإنسان الممتثل المهادن والقابل للأمر الواقع، وقرر أن يكون ذاتاً جديدة تنادي بالتغيير، وبالتالي كان صوت ذاته الجديدة والتي وضعتْهُ على المسار الفكري الصحيح، مسار نقد الأوضاع السائدة وتأصّلها في الثقافة الموروثة، وحين حدثت الانتفاضة السورية أعلن على الفور وقوفه مع خطها المدني لكنه لم يهادن الخطوط الأخرى التي التهمتها وحافظ على موقفه النقدي مشدداً على دور الكتاب والتربية والتعليم والإبداع الفكري والأدبي والفني الموسيقي والسينمائي والعمل الثقافي الدؤوب القائم على البحث المعرفي في خلق ثقافة تنويرية بديلة هي التي ستنقذ المنطقة من التهاوي المتواصل في ظلام الاستبداد والفكر الأصولي.

كانت معرفتي بحسان عباس جيدة جداً، وحين كان في المعهد الفرنسي، وجه لي دعوة مع بعض الشعراء الشباب الآخرين لإحياء أمسية شعرية ونقاش مفتوح مع الحضور، كانت هذه أول أمسية شعرية لي في دمشق، وبالتالي أن تكون الدعوة موجهة من حسان عباس فهذا يعني أن هناك سبباً وراءها والسبب هو أنه كان يؤمن بالعمل الثقافي والإبداعي وبضرورة دعم المواهب الشابة ووضعها في سياق ثقافي مختلف في وقت كانت فيه المراكز الثقافية الرسمية (باستثناء بعض المراكز التي لعبتْ فيها المبادرات الشخصية دوراً لافتاً) لا تعبر عن نبض الإبداع السوري، لا يعني هذا أن المعهد الفرنسي يجب أن يكون بديلاً، بل أنه قد يكون بديلاً مهماً حين تكون فيه قامة مهمة كقامة حسان عباس، تفهم ألاعيب القوة وتعرف كيف تفتح منافذ الاستقلالية والخصوصية. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كان حسان عباس شعلة ثقافية حية استطاعت أن تؤسس لجو ثقافي بديل في وقت كانت فيه روح الشباب تبحث عن منافذ لها خارج التدجين الثقافي العام الذي سُلط عليه سيف الرقابة.
لم يكن حسان عباس في أيامه الأخيرة متفائلاً كما كان في ٢٠١١، لكنه حين رأى أن الحل الأمني سلك طرقاً شرسة وعنيفة أدت إلى وأد النزعة المدنية وتحويلها إلى تيار ديني متطرف، وبعد أن تحولت الصرخة المدنية إلى خطبة دينية، وانفتح باب العسكرة على مصراعيه، ووُلد التطرف الديني ودخل مالُ النفط الخليجي على الخط واشتُريت الذمم واستُلبت الإرادات، وأُفْسدت النفوس وتفككت الدولة وفقدت أراضيها وتجسدت في ميلشيات وتجسدت المعارضة في جماعات أصولية يقودها أشخاص على صلة بالقاعدة، وصار الحلفاء أصحاب القرار في البلد، لم ير حسان عباس المستقبل مشرقاً ومضيئاً، وتحدث في حوار أجراه معه منذ مدة قصيرة ”معهد حرمون للدراسات المعاصرة” عن ”مشهد عبثي“، ولم ير أية صورة مشرقة وردية لمستقبل سوريا القريب، وكان الشيء الوحيد الذي تخيله صورة كارثية تعكس بلداً ممزقاً دولته فاشلة وسيادته مُنتهكة ومجتمعه متصدّع طائفياً واقتصاده منهار ويواصل انهياره. غير أن حسان عباس لم يكن من النوع المتشائم وهذه ميزة المثقف العضوي التغييري المحب لشعبه، لهذا نوه في الحوار نفسه أن الصورة العبثية التي يتحدث عنها هي صورة سورية في المستقبل القريب، وليست سورية المستقبل، التي يجب أن يعمل السوريون الحقيقيون على أن تُعمَّر من جديد، وبإرادة سورية مستقلة، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. ولهذا كان حسان عباس يرى منذ البداية، أي منذ بداية كتاباته حول الشأن السوري أن العمل الثقافي التنويري هو الجوهر الأساس في كل شيء، إذ لا يمكنك أن تغيّر مجتمعاً إذا لم تُغير رؤيته للعالم والحياة، إذا لم تُفْهمهُ أنه ما يزال تحت المجتمع، وأن عليه أن يكون مجتمعاً بالمعنى الحقيقي والمدني للكلمة. وكي تغير هذه الرؤية عليك أن تكون مخلصاً للمبدأ الفلسفي اليوناني: اعرفْ نفسك، و أن تفكر بكيفية ولادة ذوات جديدة، ذوات قادرة على أن تتمرد على نفسها كنتاج للبنية اللاشعورية، ذوات لا يمكن أن تعاود المنظومات القديمة إنتاج نفسها من خلالها وبالتالي هي ذوات تنويرية تمتلك رؤية جديدة للتغيير، تتمرد على نفسها وتتحرر وتُجسِّد أخلاق الحقيقة ومقاومة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، ولا مستقبل لسوريا إلا بتحطيم هذه البنية والتي صارت في منطقتنا، نبع الاستبداد والتطرف سواء أكان يرتدي بدلة العلمانية أم عباءة دينية.
قضى حسان عباس لكن آراءه  لن تموت وهي التي أبدعتها ذات حقيقية مغايرة أنجبت نفسها في سياق البحث عن الحقيقة وفي تجسيدها للصوت المقاوم لكل أشكال الاستبداد والتخلف، وهي دوماً ستشكل زوادة لكل مُنْجبٍ لنفسهِ وصاقلٍ لها، ولكل رحالة على دروب التغيير السياسي، ولكل باحث عن الحقيقة خارج المسرح الإيديولوجي المليء بالأكاذيب والتشويهات، مسرح العبث السوري حيث الخريطة نفسها تبدو كما لو أن خطوطها تتحرك بشكل سريالي أو تدور كدواليب اليانصيب فلا نعرف على ماذا سيتوقف الرقم أو إذا كان سيتوقف في المستقبل القريب.
قضى حسان عباس من ورم خبيث غير أنه لم يكن رقماً عابراً، كان صوتاً منقذاً ومداوياً، هذا الصوت الحر الذي، في سيمفونية إبداعية وحرة مع أصوات سورية أخرى حرة مُنقذة، سيظل يعمل على مداواة الجسد السوري من ورم الاستبداد والتطرف.

السوري حسّان عباس بعيون معاصريه: سفيراً للحرّيّة والمواطنة برتبة فارس

السوري حسّان عباس بعيون معاصريه: سفيراً للحرّيّة والمواطنة برتبة فارس

أصدرت منصّة “شركاء” الإلكترونية، مؤخراً كتاباً احتفاءً وتكريماً بشخص ومنجز الباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عباس، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديميّة برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.

الكتاب الموسوم بـ «حسّان عباس بعيون معاصرة» جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري البارز فايز سارة. وهو يحتوي بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة. كما احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات المختارة لصاحب «الموسيقى التقليدية في سوريا» (منظمة “يونسكو”، باريس 2018)، تناولت الأحوال السورية في السنوات العشر العجاف، مع ملحق عن نشاطات المحتفى به ومسارات حياته الذاخرة بالعطاء.

الدكتور حسّان عباس يُجيب سائله: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، بالقول: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.

تمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.

ومما جاء في مقدّمة الكتاب التي كتبها الأستاذ فايز سارة، “إنّ روح هذا الكتاب، بطابعه التكريمي وبالمشاركين فيه الذين كتبوا مقالات، خصّصت له، وتنشر فيه حصراً، يستحقّ أن تكتب له مقدّمة مختلفة، مقدّمة تتحدّث عن الفكرة أولاً، فكرة هذا النوع من الكتب، قبل أن تتناول المثال أو تجسيدها العملي في الكتاب الذي صار بين أيدينا.” وتابع: “تعود فكرة الكتابة عن شخصيات في النخبة السورية عندي، ولاسيّما الثقافية منها إلى ما أحاط بالنخبة من تدمير وانتهاك وتهميش متعمّد من جانب نظام البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963، وهو أمر تمّت متابعته وتكريسه في عهد الأسدين الأب والابن اللذين أمعنا في عملية تهميش النخبة السورية وانتهاكها إلى حدِّ التدمير، فيما ركزا من جانب آخر كل الأضواء على شخصيتيهما، وأحاطا نفسيهما بشخصيات، لا تملك من مواصفات النخبة وقدراتها إلّا القليل، لكنّها مشبعة بروح التزلف والتصفيق للدكتاتور وكيل المديح لجنون العظمة فيه، وكان وضع النخبة في المجال الثقافي والإعلامي بين أسوأ الأمثلة في تعبيرات ما أصاب النخبة، وكان الأشدّ وضوحاً في النماذج، التي تولت إدارة المؤسّسات الثقافية والإعلامية وخاصّة في اتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد الصحافيّين والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وقد تحوّلت جميعها إلى مؤسّسات وهيئات لا هدف لها سوى خدمة النظام، وتمجيد الدكتاتور فيه، والإشادة بما قام، ويقوم به حتى لو كان مصنفاً في عداد الارتكابات والجرائم المعلنة”.

عقود من العمل في خدمة سورية والسوريين..

سارة، الذي شارك في الكتاب بتحرير مقالة أيضاً، بعنوان «عن زمن استبداد ودم ورجل يسعى إلى ربيع»، بيّن في المقدّمة أنّ د. حسّان عباس ينتمي إلى نخبة السوريين، “التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام وممارساته، وعملت قدر ما استطاعت، أن تقوم بما رأت أنّ عليها القيام به، فجهدت وحاولت بكل الطرق والأساليب مستغلة كل ما أمكن من ظروف وطاقات لخلق وقائع جديدة، تتراكم باتجاه التغيير بجوانبه المختلفة.”وأضاف: “جَهِدنا في محتويات هذا الكتاب، أن نقدّم صورة عنه في مساره الحياتي من تكوينه المعرفي إلى العملي، مروراً بنشاطاته المتعدّدة، وصولاً إلى ما يمثّله من خلاصات في الجهد الذي قدّمه خدمة لسورية وللسوريين على مدار ثلاثة عقود ونيّف، بدأت في المكان الرئيس لدراسته في باريس، وتصاعدت في دمشق المدينة التي اختار العودة إليها والعمل فيها، وتواصلت في بيروت، التي لجأ إليها بعد أن أصبح من المحال البقاء في دمشق، وصار من رابع المستحيلات، أن يتابع عمله فيها. واستكمالًا لتكريم د. عباس، رأيت أنّ إعادة نشر بعض كتاباته في هذا الكتاب احتفال به، وتكريم له. إذ أننا نحتفي بأفكاره وآرائه في إطار إجمالي سيرته، وهكذا فإنّ تزيين الكتاب ببعض ما كتبه من مقالات، يقع في دائرة جُهدنا، آملاً أنّي اخترت نصوصاً، قاربت أو طرحت الأهم في آرائه ومواقفه.”

المساهمون في الفصل الأول من الكتاب إلى جانب محرّره، مجموعة من النخبة السورية من الشعراء والكتّاب والكاتبات هم (حسبما وردت أسماؤهم في الكتاب): فرج البيرقدار، وائل السواح، سمة عبد ربه، علي الكردي، ميشيل كيلو، عمر الجباعي، مزن مرشد، إبراهيم اليوسف، وبدر الدين عرودكي.

فيما خُصّص الفصل الثاني لكتابات د. حسّان عباس في الحال السوري، ومن عناوين المقالات المنشورة: («جدران الوهم»، «حرّاس الذاكرة»، «تحوّلات في ثقافة الخوف»، «المجتمع المدني المقبل»، «صناعة التفاؤل»، «المواطنة أمام امتحان الوباء»، و«سوريا لا أمّ لها»).

ونجد في نهاية الكتاب فصلٌ بعنوان «مسارات حسّان عباس في دروب الحياة»، وآخر عنوانه «روابط من نشاطات حسّان عباس ومقابلات معه وكتاباته». إضافة إلى الهوامش والتعليقات.

من مآثر رجل بحجم وطن..

في حوار لي معه تمّت الإشارة إليه في الكتاب (نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في 3 أيلول/ سبتمبر 2020)، يرى صاحب «سورية، رؤية من السماء»؛ أنّ “الثورة السورية مثّلت برأيي أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سوريا الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت غالبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقيّة وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعيّة لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث”. مؤكّداً أنّه “سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دوراً ليس ضئيلاً فيما وصل البلد إليه لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنّما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء”.

ونقرأ من مقالة الشاعر السوري فرج البيرقدار، المقيم في السويد، والمعنونة بـ«بشارة الحرّيّة»؛ “حسّان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت. كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها. ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، ولكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساسًا، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية”.

ومن الشهادات اللافتة عن رجل نبيل بحجم وطن، ما كتبه المعارض البارز الكاتب ميشيل كيلو، المقيم في فرنسا، والتي جاءت بعنوان «مأثرة حسّان عباس»، والتي أشار فيها كاتبها إلى أنّه “بانطلاق الدكتور عباس من الحرّيّة كخصيصة يتعرف الإنسان بها، فإنّه كان من المحتم أن يؤسّس دولة المجتمع المدني على المواطنة، ليتساوى أمامها السوريون في كل ما يتّصل بحقوقهم وواجباتهم، وبتعين الشأن العامّ والحقل السياسي بهم، وتعينهم به كضامن لحرّيّاتهم، فقد جانبه القهري أو أقلع عن استخدامه ضدّهم، لأنّه لم يعد يرى فيهم رعايا/أعداء. قال حسّان عباس بالمواطنة كحلقة رئيسة، كرّس جهوده لتحقيقها، فكان من المحتم أيضًا أن ينصب اهتمامه على بناء ونشر الوعي بها لدى عامّة السوريين. لهذه الغاية، أسّس (رابطة المواطنة)، وجعل شعارها “المساواة والمسؤولية والمشاركة”، بما هي تجليات حتمية للحرّيّة: أساس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة لسورية”. يضيف كيلو: “قدّم عباس للرابطة تعريفاً يقول: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنّها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العامّ وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. أما هدفها فهو: “المشاركة الفاعلة والواعية لأيّ شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة””.

عباس مفكّراً ومنظّراً في زمن الاستبداد..

من مواسم رحلة عطاء د. حسّان عباس إسهامه في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، إضافة إلى مؤلّفاته وتنظيراته الفكرية ومنها ما أشار إليه الشاعر والروائي السوري الكردي إبراهيم يوسف، المقيم في ألمانيا، الذي كتب تحت عنوان «د. حسّان عباس ونظرية الرأرأة.. أثر آلة الاستبداد بين العاهة والتشخيص»، والذي رأى فيه أنّ الثورة السورية “استطاعت أن تحوّل معارفنا النظرية التي طالما تعاملنا معها على أسس معرفية، إلى واقع معيش، فيما يخصّ الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، والعنف، بمعنى أنّها أزالت المسافة الكامنة بين النظرية والتطبيق، إذ إنّ ما ظللنا نتناوله عبر ما يصلنا من أوعية معرفية أو ثقافية، في العقود الأكثر ظلامية، التي مرّت ولما تزل تخيم في أبشع صورها، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وإنتاجه أعلى نمطاً للاستبداد والطغيان، إذ سعت آلة النظام إلى كمِّ الأفواه، ومواجهة أيّ رأي مختلف، أو أيّ موقف لا يندرج في خدمة النظام على أنّه معاد، وتمّت تربية -جيش- من العيون والمخبرين الذين انحصرت مهمتهم في مراقبة سلوك الناس، وحركاتهم، وسكناتهم، وأقوالهم، بل محاسبة كثيرين على مبدأ المظنّة، ما رسّخ بنيان هذه الآلة الرّهيبة التي راحت تحاسب بعضهم حتى على رؤية في منام”.

يحلّل اليوسف في سياق مقالته استنباط الدكتور عباس لمصطلح «الرأرأة» الذي جاء على ذكره في مقالة له عنوانها «الرأرأة السورية» (نشرت في صحيفة “المدن” الإلكترونية اللبنانية، في 17/10/2013)، فيقول: “ينطلق د. حسّان عباس في استنباطه لمصطلح «الرأرأة» من أحد أمراض البصر، إذ يرى أنّ للرأرأة نفسها أربعين حالة، بحسب التشخيص الطبي، إلّا أنّه لا يستغرق طويلاً في حدود هذا المرض العيني، العياني، بل يتّخذه معبراً إلى مرض آخر، فإذا كانت الرأرأة (في لغة الطب) عبارة عن “عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية” إلّا أنّه يمضي إلى رأرأة أخرى، أشدّ فتكاً، لا تكتفي بهذه الحالة السريرية العابرة التي يمكن علاجها لدى طبيب العيون، لأنّ هناك رأرأة أخرى يقشعرُّ لها بدن المرء وهي “كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميّزهم عن سائر البشر. وتتميّز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجّه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيّز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”. إنّنا هنا، أمام حالة رعب يكاد يكون فريداً من نوعه. رعب يتحكم بلغة الناس، وحديثهم، إذ ثمّة ما هو ممنوع عليهم التكلم به، أو تناوله، أو الحديث عنه، إلّا في إطار المديح الملفق، بدءاً من اسم الدكتاتور الأول، وانتهاء باسم أصغر شرطي، ضمن دائرة متكاملة، يشكّل جميعها آلة الاستبداد”. يتابع اليوسف: “إذا كان د. حسّان عباس، قد رأى، أنّ للرأرأة أربعين حالة، قد يعاني المصاب بإحداها، أو أكثر من حالة رؤية وهمية أو نحوها، فإنّه ليشخص الحالة الحادية والأربعين التي لم يذكرها أحد قبله، ولم يتناولها حتى علم -طب العيون- وتكاد لا تشبه حالة أحد من المصابين بمرض الرأرأة سوى حالة من هو في ظل وطأة حكم ربيب آلة القهر -السفاح السوري، طبيب العيون- (في إشارة إلى بشار الأسد)، الذي لا تتجاوز تجربته الثقافية حتى مع اختصاصه الألفباء التي وضعها -الكحّالة- البدائي، قبل قرون، في التراث، ولعله لا يفقه “ما الرأرأة” أصلاً! هذه الحالة الإحدى والأربعون ولدت في ظل حكم باطش أسّسه الحزب الحاكم، وكان ذروة نتاجه -حالة النظام الحاكم- الذي أسّس لحالة طغيان دفع ثمنها السوريون جميعهم -موالاةً اضطرارية بسبب مصالحها أو انتهازيّتها أو جبنها- من جهة-، ومعارضة مشرذمة منقسمة على ذاتها بسبب اقتصاديات الحرب، وتمويلات سفك الدم، من جهة أخرى. هذه النظرية، وإن بدت جدُّ بسيطة في طرحها، إلّا أنّها تُقدّم صورة -طبق الأصل- عن حالة السوري المقموع، رصدها الكاتب بلغة أدبية، تتمايز عن لغة الكاتب الصحفي، كما أنّها تقدم ما هو فكري بلغة لا تصعب على مستسيغ لغة الصحافة، وفي هذا ما يميّز لغة كاتبنا التي يمكن تناولها في مبحث خاصّ”.

وأطلَّت علينا القرون: عن الحب والموت

وأطلَّت علينا القرون: عن الحب والموت

يتحدّث فرويد عن دافع الحياة (سمّاه «إيروس» تيمّنًا باسم إله الجنس الإغريقيّ)، وعن دافع الموت (سمّاه مريدو فرويد «ثناتوس» تيمّنًا باسم إله الموت الإغريقيّ). ولكنّ إيروس ليس دافعًا للحياة تمامًا، بل هو أقرب إلى دافعٍ للحب الذي يؤسِّس بدوره للتّناسل الذي يضاعف الحياة؛ وليس ثناتوس دافعًا للموت في ذاته، بقدر ما هو دافعٌ مُبهَمٌ إلى العنف والتّدمير اللذين يؤسّسان بدورهما للزّوال أو الإبادة التي تُرسِّخ الموت. كانت المفارقة الفرويديّة الصاعقة هي أنّ هذين الدافعين متلازمان بالرغم من تناقضهما، وبأنّ تلازمهما وتضادّهما هما اللذان يجعلان البشريّ بشريًا، أو ربّما كانت جدليّة التّلازم والتّضاد هي ما تجعل البشريّ بشريًا محكومًا بدافعٍ مزدوج للحياة وللموت، للحب وللموت، للحب في الموت، وللموت في الحب. لعلّ كلام فرويد ردٌّ أو تطوير متأخّر على طرح الفيلسوف الإغريقيّ قبل-السقراطيّ إنباذوكليس الذي يُضيف إلى العناصر الأربعة الأساسيّة (التراب، الماء، الهواء، النار) المُكوِّنة للكون قوَّتَيْن أساسيّتين هما: الحب (أو الوئام) والصّراع (أو النّفور). يكون الكون حين تتآلف هذه العناصر (كلّها أو بعضها) بنسبٍ دقيقة، ويكون الفساد حين تتنافر تلك العناصر، وتكون تغيّرات الكون (والبشر) تبعًا لاختلاف نسب تآلفات هذه العناصر أو تنافراتها. تمثَّل تطوير فرويد في دمج قوَّتَيْ التآلف والتّنافر دمجًا لا انفصام فيه، بحيث بات الموت وجهًا آخر للحب أو الحياة، لا نهايةً لهما. بل ربّما كان الموت – بمعنى من المعاني – شرطًا أساسيًا لاكتمال الحب. هذا ما يقوله فرويد، أو بالأحرى هذا ما فهمتُه من كلامه المعقَّد. لم يفهم أحدٌ فرويد، ولعلّ الوحيدين الذين فهموه هم الذين لم يقرؤوه. ما من مكان لليقين حين نحاول تأويل كلامه، بالرغم من أنّه يكتب بيقين إلهيّ. ليس لنا إلا «ربما»، و«لعلّ»، و«أحسَبُ»، و«أظن»، ومثيلاتها حين نحاول استثمار نظريّاته تطبيقًا. وكذا الأمر بالنّسبة إلى صديقنا إنباذوكليس الذي كان وما زال موضعًا لجدالات لا تنتهي بين الشرّاح والمفسّرين. لعلّ مكمن عدم فهم كلام فرويد يعود إلى أنّه يناقش متاهةً معقدةً لا سبيل إلى فهمها، وهي النّفس البشريّة. أو ربّما كان سببُ انتفاء اليقين أنّ فرويد (والفلاسفة قبل-السقراطيّين عمومًا) يكتب أدبًا لا علمًا، مع أنّه يقدّم طروحاته بوصفها علمًا. يصطفل فرويد! هو يكتب أدبًا حتّى لو أنكر، وحتّى لو (بالأحرى، بالرغم من أنّنا) لم نفهم كلامه. الأدب لا يُفهَم بل يُحَس، يُتذوَّق. ولذا كان الانتشار الأكبر لطروحات فرويد والإغريق في الأدب، حيث حلبة صراعات النّفس البشريّة، وحيث يتجاور الوئام والتّنافر، وحيث يتّحد الحب والموت.

اتّحاد الحب والموت في الأدب؟ روميو وجوليت حتمًا. قصّتهما أشهر قصة حب في تاريخ الأدب، ويعرفها حتّى مَنْ لم يقرأ مسرحيّة شيكسپير. سنخسر كثيرًا لو لم نقرأ المسرحيّة، ولكنْ لن أعاود اليوم تشديدي على الهوس الحميد بشيكسپير، ولنمرّ مرورًا سريعًا على القصة. لعلّ سر شعبيّتها الجارفة هي موت عاشقين قبل أن يبلغا النّهاية السعيدة، ولعلّ شعبيّتها هي أنّهما لم يبلغا تلك النّهاية. لا شعبيّة ولا لذّة ربّما للقصص السعيدة. إنّنا مخلوقون للّوعة ولملاحقة الفجائع، وكأنّه ضربٌ من ضروب التّطهّر الذي لا بدّ منه كي نتحرّر من فائض الأسى. ولكن لعلّ سر الشعبيّة يكمن أكثر في كون العاشقين فتيّين، طفلين لو طبّقنا معايير زمننا اليوم، ولذا كان الموت أقسى لأنّ الموت ليس للأطفال، وليس للأطفال العشّاق بطبيعة الحال. ولكنّه لهم كما «يبشّرنا» شيكسپير، وقافلةٌ طويلةٌ من الكتّاب. على أنّ التطهّر لن يكون إلا تنفيسًا عابرًا حين نقرأ القصة بوصفها قصة حب فقط. لا يكون الموت إلا حين تنتهي الحلول كلّها، ولعلّ أسانا يتضاعف على العاشقين الصغيرين لأنّهما عبثا بالموت كما لا ينبغي لهما أن يفعلا، فاختطفهما الموت بعد نهاية اللعبة، وبقي كلُّ ما عداه. بقيت الحياة كلّها، حياةٌ ضيّقة في بلادٍ ضيّقة في عالمٍ ضيّق في كونٍ ضيّق. بمعنى ما، بقيت الحياة التي تشبه الموت، والتي تُمهِّد للموت، والتي تُغلِق المنافذ الأخرى كلّها باستثناء تلك المفضية إلى الموت. ليست قصة موت حبّ وحسب، بل قصة موت بلاد، إذ ما معنى البلاد التي تقتل أطفالها لأنّهم أرادوا الحب؟ سيكبر الأطفال ويُقتَلون لأسباب كثيرة في البلاد ذاتها، ولكنْ ستبقى اللوعة أكبر حين يكون القتل بسبب الحب، لأنّه أكبر الخطايا السماويّة والأرضيّة على السواء. قد يبدو الكلام غريبًا، ولكنْ فلنتأمّل مصائر الحب عبر العصور مع تقلُّب الديانات والحضارات والهمجيّات. هو الثابت الوحيد في المعادلة المتغيّرة. هل نبدأ بآدم وحوّاء؟ لعلّها ليست قصة حب بدقّة، ولكنّها قصة إيروس نموذجيّة: الجنس الذي يُفضي إلى العقوبة. الشعراء؟ كلّهم رجيمون في مجتمعات العادة السريّة، ولا يُحتَفى بهم إلا بعد موتهم، كي يصبحوا دليلًا آخر على «الزمان الجميل» الذي مضى. حتّى الشعراء «العفيفون» لم ينجوا من الملاحقة والإقصاء، ولن ينجوا حتّى لو عاشوا اليوم إذ ستُرفَع عليهم دعاوى «قذف أعراض»، وسيُحجَر عليهم. ليس إيروس إلهًا للجنس فقط كما ظنَّ الإغريق، بل هو إله للحب كلّه، جنسيًا كان أم عفيفًا؛ إنْ افترضنا وجود حب عفيف. لعلّ قائلًا يقول إنّ الدنيا قد تغيّرت، وذاك زمان ضيق الأديان لا اتّساع الحضارة وجموحها، قبل عودة التعصّب اليوم، ثمّ يمصمص شفتيه تحسّرًا على العقود الماضية التي كانت أكثر تحرّرًا. أين زمن السينما الحرّة، والشوارع الحرّة، والأدب الحرّ، وسبعينيّات وثمانينيّات وتسعينيّات التحرّر؟ أو، ربما، يا لجمال البلاد الحرة التي يُحتفى فيها بالحب بلا قيود وبلا تحفّظات. نعم، الحب الحر جميل ويستحق الاحتفاء، ولكن بشرط أن يكون بعيدًا، أن يكون خارج نطاق المنظومة التي تحكم حياتي التي أتفنّن في فرض حدودها وقيودها. نضع لايكًا باطمئنان على أيّة قصة حب بعيدة، ولكنْ ماذا لو كانت داخل حدودي؟ ماذا لو كان المحبوب من طائفة أخرى، أو دين آخر، أو عِرْق آخر أو لون آخر؟ ماذا عن المثليّة؟ ماذا عن المساكنة بلا زواج؟ سنبدأ حينها في ابتكار تعريفات جديدة للحب تُفضي كلّها إلى نتيجةٍ بسيطة واحدة: الحب هو ما أُعرِّفه أنا، أنا وحدي، حبًا؛ وكلُّ ما عداه هرطقات أُهلِّل لها حين تبقى بعيدة، أو حين تُدفَن. ولعلّ أعظم فنوننا البشريّة هي المراثي، واللطم، والتحسّر على ما فات. فلنبدأ من السبعينيّات إذن، ولنر كيف كان الحب ملاحقًا وملعونًا حتّى في سنوات ذلك العقد المتحرّر، ولنر أيضًا أنّ درس شيكسپير وفرويد درسٌ أزليّ لم ندرك مغزاه بعد: لا منجى للحب إلا بالموت، أو فيه.

بعد ذهاب سَكْرة الانتصار في حرب أكتوبر 1973، جاءت فَكْرة الحياة بعد الانتصار في مصر السادات. كان لا بدّ للسادات من تحطيم كلّ إرث جمال عبد الناصر، ولذا بدأ عمليّة «الانفتاح». لا، لم يكن انفتاحًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل انفتاحًا اقتصاديًا سيُمهِّد لظهور الطبقة التي ستبلغ مجدها في تسعينيّات حسني مبارك، وإنْ كانت قد بدأت إرهاصاتها الأولى في زمن السادات؛ طبقة مُحدَثي النّعمة (أو «القطط السِّمان» كما راجت التسمية في الصحافة المصرية) الذين أثْرَوا بعد انفتاح مصر أمام المشاريع الخليجيّة ورفع القيود الاقتصاديّة التي كانت تمثّل صمّام الأمان في وجود طبقة وسطى ستبدأ بالتّلاشي سنة إثر أخرى. شرعتْ الهوّة الطبقيّة بالاتّساع وبدأ طوفان ردود الفعل الاقتصاديّة من نظريّات تُهلِّل وأخرى تُعارِض. ولكنْ بعيدًا من ضجيج السياسة والاقتصاد، كانت هناك عينٌ حاذقة تراقب بصمت، من طاولة مقهى شهدت مراقبات وتأمّلات لا حصر لها طوال قرابة نصف قرن. كان نجيب محفوظ، ابن السابعة والستّين آنذاك، صامتًا مراقبًا كعادته عام 1978، حين بدأت أطياف قصة جديدة تراوده. كانت قصة مباغتة حتّى لمتابعي مسيرة محفوظ القصصيّة الدؤوبين، وهم قلّة قليلة بالمقارنة مع متابعي الروايات الذين كانوا ما يزالون، وقتذاك، يواصلون إعادة قراءة الحرافيش التي أصدرها الأستاذ قبل عام. لم يكن محفوظ ابنًا للقصة القصيرة، ولم يكتبها كتابةً جديّةً إلا في الستينيّات، ولكنّه عوَّض تأخّره ذاك بسلسلة عظيمة من المجموعات التي بدأت بـ دنيا الله (1965)، وبدتْ وكأنّها انتهت بـ الجريمة (1973)، حين عاودَ محفوظ غوصه في روايات متلاحقة كالرصاص في السبعينيّات. ولكنّ الأستاذ كان يتأمّل ويهيّئ رصاصته الجديدة في القصة هذه المرة: قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي نشرها في مجموعة بالعنوان ذاته عام 1979، التي واصلَ فيها حفره في جنس القصة الطويلة التي نوّع فيها لاحقًا ليكتب نوڨيلات لا تقل أهميّة وجمالًا عن رواياته الأطول. لم تكن قصة شيخوخة، إذ سيترك تلك التأملات الرهيفة لعقدَيْ الثّمانينيّات والتّسعينيّات. كانت قصة عن شاب يصغر محفوظ آنذاك بأربعين عامًا. لعل هذا لا يشكّل مفاجأة كبيرة إذ يمكن أن نتوقّع أيّ موضوع من محفوظ غزير الإنتاج، متنوِّعه، حتى لو كانت قصة تٌشرِّح بدقّة متناهية عالم الشّباب الذي غادره محفوظ قبل عقود. هي قصة عن شاب يعاني أزمة جنسيّة. مرةً أخرى، ليس هذا بمستغرب عن محفوظ الذي سبق أن كتب رواية السراب التي كان فرويد سيرقص لها طربًا لو عاش وقرأها.

اللافت في حكاية علي عبد الستّار بطل قصة «الحب فوق هضبة الهرم» أنّها تبدأ بافتتاحيّة صاعقة: «أريد امرأة، أيّ امرأة. … الجنس أصبح محور حياتي وهدفها. انقلب وحشًا ذا مخالب وأنياب. قوّة مطارِدة مهدِّدة»، لا تشبه أيّة افتتاحيّة من افتتاحيّات محفوظ التي تميل في الغالب إلى البدء بتوصيف عموميّ للسماء أو الشمس أو المكان، من دون استثناء الافتتاحيّة الأشهر في رواية ميرامار: «الإسكندريّة أخيرًا. الإسكندريّة قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع». يفتتح محفوظ القصة برمينا مباشرةً في الحدث، ويواصل نبشه لعالم الشخصيّة الداخليّ في مقطع كامل، قبل أن يعود بنا إلى عالمه المألوف في المقطع الثاني حين يقدّم الشخصيّة مرةً أخرى تقديمًا محفوظيًا تقليديًا. يبحث علي عبد الستار عن امرأة ليُطفئ رغبته الجنسيّة المستعرة التي لم يروِها يومًا، وقد بلغ السادسة والعشرين. شابٌّ مصريّ عاديٌّ، شاء له عبث الأقدار أن يولد مع ثورة 52، ويعي الحياة مع هزيمة 67، ويشبَّ في زمن انفتاح السادات. على أنّ ذلك الانفتاح لن يشمله لأنّه مجرد موظف صغير زائد عن الحاجة، فرد من جيل سيتضاعف في العقود التالية ليشكّلوا جيش البطالة المُقنَّعة التي اجتاحت نظام البيروقراطيّة العتيد. يجد عليّ سلوانه في التّجوال في الشوارع. هنا بالذات نلتقط براعة محفوظ، وهو المشّاء العظيم، في التقاط نبض الشارع المصريّ في السبعينيّات، بعينِ الشّباب وحكمة الشيوخ وحنكة الحكّائين الكبار. عليّ مرآة لذلك الشارع، أو ربّما كان الشارع مرآة لعليّ. شيخوخة قبل الأوان، وتوتّر نَزِق ينفجر مع أبسط استفزاز، لأنّ ذلك الشارع وسكّانه محكومون بالكبت على اختلاف وجوهه: كبت سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، من دون استثناء الكبت الجنسيّ الذي سيتضاعف مع تلاحُق مشاهد العري في الأفلام التجاريّة التي بدأت تكتسح السينما، ومع تعاظم مظاهر الثراء الفاحش الذي بدأ يترسّخ. شارعٌ كهذا لا يليق إلا ببلاد تقوم مقام صالة ترانزيت يولد فيها المرء ويعيش لهدف أوحد: السفر إلى الخارج للعمل في أيّة مهنة، باختصاصه أو بغير اختصاصه. السفر الذي يعني الهرب من الجحيم، الهرب من مستنقع الرتابة الخانقة المترافقة مع الفقر والبؤس والحرمان، ومع أقنعة الطبقة الوسطى، الأقنعة التي بدأت تبلى وتتفتّت شيئًا فشيئًا، قبل الانزلاق إلى هاوية الطبقة المسحوقة التي ستشمل الجميع. دوّامة ستلتهم البلاد كلّها، ولن ينجو منها إلا الأثرياء الذين يمتلكون مفاتيح تنفيس الكبت. أما جيل علي عبد الستّار فسيعيشون على العادة السرية، لا في الجنس وحسب (إذ يحتاج هو أيضًا إلى أموال، أكان جنسًا شرعيًا أم غير شرعيّ)، بل في كلّ تفاصيل الحياة. كان يمكن لجيل أسبق أن يُفرِغ كبته في السياسة، حيث الزعيق والشجارات والدّسائس، ولكنْ ما الحل لدى جيل يُدرك أنّ السياسة باتت تعني طريقًا أوحد: الاعتقال؟ ليس له إلا الشارع كي يُنفِّس كبته فيه، من دون إدراك أنّ هذا التّنفيس سيُفضي إلى تضاعف الكبت قبل الانفجار.

تنقلب حياة عليّ حين يرى رجاء، وهي زميلة جديدة ستشاركه البطالة المقنّعة والأحلام المجهضة والكبت. كانت رجاء في البداية الموضوع الذي تكثَّف فيه كبت عليّ كلّه، إذ بدت تجسيدًا لكلّ النّساء، وطيفًا واضحًا يبرز من داخل العماء الذي كان يطوِّقه في لحظات الاستثارة. ولكنّها ستصبح الحبيبة والشريكة الحقّة في دنيا الجنون تلك. يُمهِّد محفوظ لظهور رجاء بعبارة يردّدها عليّ بتكرار في المقاطع المتلاحقة: «ما هذه البهجة المنعشة؟». تبدو العبارة مثل لازمةٍ موسيقيّة تضبط إيقاع السّرد وإيقاع مشاعر عليّ وإيقاع علاقة الحب مع رجاء في آن. تغيب اللازمة حين تعرّضت تجربة الحب لانتكاسة مبكّرة، وما لبثت أن عادت حين عاد الوصال، من دون أن يتخلّى عليّ (ومحفوظ) عن هوايته الأثيرة في مراقبة الشارع واستشعار نبضه الخفيّ، حين يتلمّس عليّ تفاوت السرعة بين إيقاع الحياة البطيء في الشارع، وإيقاع الأيام التي تنهب الزمن بسرعةٍ خارقة، مضاعِفةً نسبة الضغط والكبت الذي بدأ يولِّد انفجاراته التي دوَّنها محفوظ بعينه التي لا تخيب: «في تلك الأيام تابعتُ بإعجاب مغامرات الإرهابيّين في الصحف. إنّهم ينفجرون في أركان البلد معلنين عن نبض جنين ينمو في رحم الغيب». وضع محفوظ إصبعه بذكاء على التيّار الذي سينحت الدّمغة الأكبر على أيام العقدين اللاحقين اللذين بدآ باغتيال السادات، قبل أن تلحقه عمليّات اغتيال كثيرة طوال عقدين تقريبًا. لم يكن الغيب غيبًا إذن، بل كانت النتائج شديدة الوضوح والفجاجة، بالرغم من أنّ عينَيْ زرقاء اليمامة المحفوظيَّتَيْن لم تُدركا أنّ جحافل تلك الأشجار الغامضة المرعبة ستنسف الجميع، أكانوا من أنصارها كالسادات أو من مراقبيها الصامتين مثل محفوظ نفسه، وربّما كان عليّ سيصبح من ضحاياها لاحقًا. لا يضع محفوظ نهايةً بعيدةً لقصة عليّ، بل يركّز على أواخر عقد السبعينيّات، وعلى السنة التي شهدت علاقة الحب. سنة كأيّة «سنة نجيبيّة» أخرى، لا صيف فيها، إلا حين يشهد انتكاسة الحب كما كان يشهد التوقّف الموقّت عن الكتابة بسبب الحساسيّة التي تَحكُم حياة محفوظ. تبدأ بوادر قصة الحب شتاءً، ثم تتفتّح ربيعًا، قبل أن تنقطع صيفًا، ومن ثمّ تُعاوِد مسارها الدافئ القديم في الخريف الذي سيُنهي الحكاية، أو ربما سيُنهي هذا الفصل من الحكاية التي لم تنته فصولها إلى اليوم.

ربّما كان محفوظ يريد التهرّب من الرقابة، أو تخفيف وطأة القصة، حين جعل البطلين يسعيان إلى تتويجٍ شرعيّ لقصة حبّهما عبر الزواج. غير أنّ هذا التّفصيل ليس مهمًا في ثنائيّة البلاد والحب، لأنّ النّتيجة هي ذاتها: ستبقى البلاد تلاحق الحبّ وكأنه طاعون لا بدّ من وأده. هذا ما نجده صراحةً على لسان الشرطيّ الحارس لهضبة الهرم حين يرى بوادر حبٍّ بين شاب وفتاة: «متزوّج أو غير متزوّج، لا يهمّ». يهرب العاشقان اللذان تزوّجا سرًا إلى الهرم كي يختلسا لحظاتٍ شحيحةً من الحب، بعد أن لاحقتهما سياط الأعين في الشوارع وفي الفنادق. ثمّة من يجرؤ على الحب وعلى الجنون، ولذا كان لا بدّ من إرهاقهما في ملاحقةٍ لاهثةٍ إلى أن يعودا مواطنين صالحين مكبوتين، أو يهاجرا إلى دنيا أخرى تلاحقهما بحدودٍ وقيودٍ جديدة، أو يهربا إلى الموت. يلتقط محفوظ المفارقة اللاذعة حين يومئ إلى أنّ المكان الوحيد الذي يمكن لك فيه اختلاس الحب هو منطقة الأهرامات التي ما هي إلا مقبرةً؛ نعم، مقبرة ملوك، ولكنّها مقبرة أخرى في نهاية المطاف. وكأنّ التّلاحم بين الإيروس والثّناتوس يصل إلى أقصى درجاته في تلك اللقاءات السريعة المختلسة التي لا شاهد فيها إلا الأشباح: أشباح الملوك الموتى، وأشباح العشّاق الآخرين الهاربين من جحيم البلاد. لا يفكّر عليّ أو رجاء بهذه المفارقة لأنّ كلًا منهما منشغلٌ بأفكاره الخاصة: يبتهج عليّ لأنّ الجنيه الذي تقاضاه الشرطيّ، حارس الموت وخفير الحب، «أرخص من الفندق بما لا يقاس»؛ أما رجاء فتذوب من العار الذي تدرك أنّه سيحكم حياتهما إلى حين موتهما أو هربهما من دوّامة الموت-في-الحياة تلك. تتضاعف سذاجة عليّ حين يحاول التّخفيف عن رجاء والاعتذار لها وطمأنتها بأنّ كلّ ما يحدث هنا والآن استثنائيّ وموقّت، وسيكون محض ذكرى مضحكة يومًا، غير عارفٍ بأنّ أطياف الموت لا تتقن اللعب، ولا تكترث للدعابات وللذكريات. ستتعاظم دفقة الموت في العقود اللاحقة، حين ستجري تفاصيل الحياة كلّها داخل مملكة الموت. لن تكون الأهرامات-القبور مكان الحب الوحيد، بل ستصبح المقابرُ الحقيقيّةُ مأوى (ومثوى) لآلاف الناس (سكّان المقابر) الذين لم يظفروا بتذكرة سفر إلى الخارج، أو بعقد عمل في مؤسسات الانفتاح الاقتصاديّ. ستكون المقابر مكانًا دائمًا لسكنهم في دستوبيا واقعيّة، لم يكن ليتخيّلها حتّى محفوظ.

يُنهي محفوظ قصة «الحب في هضبة الهرم» بعبارةٍ ثاقبة تلخّص مسار ديالكتيك الإيروس والثناتوس، ومصائر الحب في بلاد الضيق: «وأطلّت علينا القرون من فوق الهرم وهي تضرب كفًا بكف»، حيث ازدواج المعنى في كلمة «القرون» التي تعني تعاقب الأيام، وتعني في الوقت ذاته إيماءةً إلى الدّياثة التي تمارسها أيام التاريخ الصامتة، وهي تراقب انسحاق العشّاق والحب في رحى البلاد التي تطحن أبناءها. ليس محفوظ وحده من التقط توازي الحب والموت، وليست السبعينيّات وحدها هي الأيام التي شهدت مطاردة الحب في شوارع البلاد المكبوتة. ثمة عملان بديعان آخران تناولا الفكرة ذاتها، بمعالجتين مختلفتين، في الثمانينيّات والتسعينيّات، وهما: قصة «المقبرة» لإبراهيم صموئيل، ومسرحيّة «بلاد أضيق من الحب» لسعد الله ونّوس. ولكنّهما سيكونان محور المقالة القادمة.

ملاحظة: وردت فكرة المعنى المزدوج لكلمة «القرون» في تعليق للكاتب المصريّ ياسر عبد اللطيف في تويتر.

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

مدينة بيضاء

 

١

هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.

تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية

ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.

 

٢

أصواتٌ حادةٌ للنوارس

تخرجُ من حنجرة الصباح

وتقطّع الصمتَ إلى شرائح

لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها

وليس لها مترجمون.

 

٣

أسمعُ في الأنباء عن آخرين

 يرتجفون من البرد في الخيام.

صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً

بل مجرّد صوت هارب من صداه

أو ضيّعتْهُ الحنجرة.

 

٤

يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني

يسير معي كأنه صديقي الوحيد.

حين يأتي مرة ثانية

سأتشبث به وأمنعه من الرحيل

سأدعوه إلى كأس

وأجعله نديمي.

 

٥

نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر

رغم أن قاعها بعيد

وظمأي لا صبر له.

لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة

لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة

وتحرّري الضوء

وتمنحيه أفقاً.

 

٦

لا تقدموا لي النصائح حول

 ما الذي يجب فعله.

ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم

ستمنحني حكمةً كي أرددها

لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.

 

٧

نعيش في عصر الأوبئة

في عصر الوجوه المكممة

والإنسانية المكممة

والصداقات المكممة

والقصائد والروايات المكممة

والأفكار المكممة

حتى الأشياء مذعورة

وقد يأتي يومٌ

تصير فيه الكمامة وجهاً.

 

٨

أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم

يتركون إشارات وعلامات

أننا لم نمرّ هنا

أو أننا مررنا ولم نر شيئاً

أو أننا على الطريق نسير لوحدنا

والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها

ولن تحتفي إلا بنا.

على هذا الطريق الذي

يسير عليه الجميع

كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره

أفضّل أن أتابع سيري

وأن أعتبر المسألة

 كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.

 

٩

أحتاجُ إلى مسافة مع نفسي

كما مع الآخرين،

كي أتحرّر من إملاءاتها.

ولو تيسّر لي لهربتُ منها

لكنها تتنبه إلى ذلك

وتُحْكمُ مصاريع الأنا.

 

١٠

أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني

من طفولتي في قريتي

للدروب حين تتحوّل إلى جداول

وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية

وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض

في موسم الأمطار.

ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،

كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟

ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس

وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟

 

١١

حين جَلستُ في مقعد الطائرة

وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط

شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.

لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق

أو بأنني سأخرج من باب المطار

 إلى ذراعين مفتوحتين

أو إلى باب مغلق.

إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط

أقرأ صحيفة وأواصل رحلتي

ولا مطار في الأفق.

 

١٢

لا تقلْ لي عدْ

لا تقل لي ابْق،

اتركْني، كهذه الريح

التي تهبّ ثم تهدأ

تتحوّل إلى عاصفة

ثم تسكن كجدار

دعْني أتقدم كموجة

وأتلاطم بصخور ذاتي

أو كنبعٍ لا يعرف

 من أين أتى وإلى أين سيذهب.

 

١٣

مرت أعوامٌ وسْط الثلوج

على شاطئ بحيرات

تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.

وفي وسط المدينة،

تحت جسر شيكاغو الحديدي

كان النهر يتجلّد ويتكسّر

ورأيتُ مقالع الجليد

في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني

مدينة بيضاء.

وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،

 طفلها الذي يكبر في حدائق البياض

ثم يذوب أحياناً من الشوق.

 

١٤

تتعرى الأشجار في شيكاغو

تتوحّد مع لون السماء.

لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا

لأن الخضرة تتوهّج

في عُرْي الأغصان.

 

صوتي

 

١

اليوم، أدليتُ بصوتي،

بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.

 

٢

قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص

قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً

في مظاهرة فاشلة.

وسبق لي أن رأيته

 يتدلى على حبل مشنقة

حيث تولد الأصوات ميتة

ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.

 

٣

بعد أكثر من خمسين سنة

عشتُها بلا صوت

استيقظتُ كي أكتشف صوتي

 نائماً قربي على المخدة

كحيوان أليف

بعينين مسالمتين

وكانت أصابعي مسترخية في دفء

فروه.

 

٤

اليوم أدليتُ بصوتي

رأيتهُ يستحم بالضوء

وينشّف جسمه بالريح

و يسير بقدمين واثقتين.

 

٥

اليوم

كنتُ محظوظاً ومنكسراً

أنني أدليتُ بصوتي هنا

أنني ندبتُ صوتي هناك

فيما كنت أصافحه

 وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه

بجناحين منتشيين.

 

٦

غداً، حين يصل صوتي في البريد

وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى

سينكمشُ مرتعداً من الخوف،

عارفاً أنه مجرد رقم

في لعبة تجريدية.

لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد

وأنه قادر على قلب الموازين.

 

تثمل الريح

-١-

تَثْمل الريح

أعرفُ ذلك من صوتها

حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً

ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.

 تلهثُ الريح

كما لو أن دروبها وعرة.

-٢-

في الأحلام

تهب الريح فوق دروب موحشة.

في الخريف

تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.

-٣-

لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا

أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.

لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا

على طرقات الريح.

-٤-

وحده الجسد

يعرف أن يقرأ الريح.

الكلمات

الكلمات

هو هو.. هي هي.. ها ها..

ما أروع الدولة حين تمزح يا “زد” وتحاول أن تكون خفيفة الظل، تتخيل الدولة نفسها في أوقات العبث حكماً في ملعب كرة، وتظهر هوساً في رفع الكرت الأحمر، وأنت لا يحق لك إلا أن تبتسم، أو تتذمر  على طريقتك، ولكن احذر التمادي يا زد. أنت يا زد رفع في وجهك هذا الكرت، مزيلاً على طلب من طلباتك القليلة، وعلينا أن نعترف لك بأنك لم تكن لجوجاً في يوم من الأيام، هكذا مع التوقيع بالحبر الأخضر: /مع عدم الموافقة.

توقفْ يا زد هنا،لا تدخلْ في نفق التداعيات والتفاصيل، ولا تجعل ضغط الدم عندك يرتفع.

قد تكون الدولة التي يمكن أن نرمز لها بالحرف ” دال” أو “ضاد” من الضد، في غاية المرح، حين تخطّ هذه الجملة الجاهزة، وتهزّها في وجهك البريء، أو تخطَّها بأناة على الطلب الذي يترك فيه مساحة من البياض يتريَّض عليها فرسان الدولة بأقلامهم الفخمة، المذهبة، بياض يترك للضرورات ولراحة نفس الدولة. أنت يا زد مع أصدقائك لا تصدقون، أن الدولة يمكن أن تعبث، ولا ترون فيها إلا الوجه الصارم المتجهم، أليست الدولة كائناً حياً، يتدرَّج في النمو؟ وبعض الدول تطول فيها مراحل النمو حتى لتبدو ثابتة، من الصبا إلى المراهقة إلى الشيخوخة، هذا ما يمكن أن نستوحيه من ابن خلدون. وإذا مارسنا المزاح نفسه، وأطلقنا التداعيات على هواها، وتذكرنا المراحل الثلاث لنمو الطفل عند فرويد، وأسقطنا ذلك على الدولة، سنجد أنَّها تجمع المراحل معا مع إضافة صفة واحدة، فهي فموية ضاحكة، وشرجية مكتَّمة، وقضيبية منتصبة، ويمكن أن نعكس هذه الصفات.

في لحظات الجد، يمكن أن يسقط حرف الجر (مع) عن العبارة وتغدو: (عدم الموافقة) مجردة من الخفض والجر، وهنا جدية أكثر، وربَّما تعبير عن غضب أو سأم، وفيها حسم لا رجعة فيه ولا رخاوة. إذا جزَّأنا العبارة الأخيرة، وتوقفنا عند طرفها الأول “عدم” الخالي من أي بعد فلسفي، المجرد أيضاً من التعريف، والمضاف إلى المعرف، وما أدراك ما العدم ومشتقاته، عليك في هذه الحالة يا زد أن تفكر بالفرار أو بالهرب أو بالدخول في غابة لا نهاية لها. أما الطرف الثاني، المضاف، هو مهم  في المعنى ولكنه جزء متراخ مثل جلد امرأة عجوز، أو مترهل مثل أذرع الأخطبوط النائم. الدولة أحياناً، يشبهها البلاغيون المتحذلقون بالأخطبوط المتربّص بالفريسة، يستيقظ عندما تقترب منه الفريسة، وتتحول أذرعه الرخوة إلى مخالب فولاذية. الرخاوة هنا استدراج. يتم جمع طرفي العبارة من قبل فرسان الدولة لتكون: عدم الموافقة، وتحتها التوقيع، وهو خط حاد ينتهي بقبضة تشبه سيفاَ يمانياً، تحته نقطة، خطَّه فارس غاشم، رمى لك بهذا السيف في أسفل الصفحة، على اليسار منها. قد لا تعرف أنت وغيرك هذا الفارس، ولم ترَ وجهه من قبل، لكنها إشارة رمزية  تختزن القوة  الصريحة والخفية للدولة. لا أعرف إذا ما كانت النقطة ضرورية، وعلى الأغلب هي ضرورية أكثر مما نُخمّن، قد تُقرأ على أنها نقطة النهاية أو الانتهاء، لا شيء بعدها، وإذا أحسنَّا الظن، نقدر أنَّها تعني عودة إلى أول السطر أو إلى أفق الاحتمالات، وهذا من باب الظَّن الطيب. كلمة ” انتهى” أكثر توافقاً مع الحالة من البداية، إذ، لا مكان لبداية جديدة.. إنه حكم قطعي، أنت يا زد مرفوض، ربَّما لو لم يكن اسمك زد لكان الأمر مختلفاً، عليك أن تكتفي بما أنت فيه، فالهواء الذي تتنفسه حتى الآن يمكن أن تقطعه الدولة عنك، وأن تقطع أنفاسك لو أرادت، الدولة لها الحق بكلِّ شيء، لها الماء والهواء والتراب والنار، وما فوق وما تحت الأرض، ولها جلدك وعظمك، روحك وأوردتك، كلّها.. عليك يازد، أن تشكر الدولة، هي أم ثانية، تريد الحفاظ على أولادها، مهما كبروا، هم صبيان مراهقون، يعبثون ويلعبون في حدائق الأرض!

أنت ساخط ومتبرّم على الأب والأم، والدولة ليس لها الوقت الكافي لتنشغل بك، عرفت ذلك أم لم تعرف. اسمك، مثلاً، غير مكتمل، غير ثلاثي، وهذا ليس ذنبك وحدك، بل خطيئة والديك، أو خطيئة الكاتب الذي اختار لك هذا الاسم المسوخي، حكموا عليك منذ الولادة باسم ناقص، لا يركب على الميزان الصرفي، وغير قابل بأي شكل أن يتحول على وزن فاعل أو فعل، لا مكان للطموح هنا، محكوم عليك بالنقصان في اللفظ والمعنى، وهذه لعنة اللعنات ياسيد زد. لكن، من غير المحسوم، أن اسمك زد كان منذ الولادة، فهذا غير مستخدم في الأسماء، وغير مستساغ، على الأرجح هو اختلاق أدبي محض، وأنت لا تستطيع أن تتأكد من هذا، لأن ذاكرتك بدأت في هذه اللحظة التي وجدت نفسك فيها على الورقة. إذا نظرت إلى النصف الملآن من الكأس، أنت لست مجرد حرفين صوتيين، بل ستة أحرف صوتية مجتمعة، لا تخلو من المعنى، إنها: (زال+ دال) هذا ليس أمراً مستصغراً، خلف هذه الخدعة البيضاء دراية وعمق فقهي، لا تؤول المفردات ولا تغص في تقصي النوايا، خذ ظاهر اللفظ، وتمتع  بالإيحاءات الإيجابية لكلمة (مواطن) يعني أن لك وطناً، وأنت واحد من أفراد، يُسمَّون مواطنين، لست وحيداً، أو مقطوعاً، أو منفياً في خرائط العدم، أنت قابل للجمع، جزء من كلٍّ، والكل يتكوَّن من هذه الأجزاء المجموعة..

وكما تقول الكتب والأحلام والشرائع: للمواطن حقوق وعليه واجبات..

لا تعتقد يازد أنك نكرة، تعادل صفراً في مقياس القوة والحضور، كنت جندياً منذوراً للدفاع عن الحياض، وأنت تدفع الضرائب والرسوم المالية على أكمل وجه، تمنحك الدولة شهادة تأدية الخدمة، وهذه وثيقة شرف.

الفواتير تمنح إشعارات ممهورة بالختم الرسمي عليها اسمك كاملاً مع اسم الأب والأم والكنية. لولا هذه الحيثيات التي تبدو غير مهمة،  لما كنت تعرف من أنت، ومن هو أبوك.. كنت ستكون لقيطاً بلا انتماء. أنت تنتمي إلى أرومة ضرائبية، بدليل هذه الفواتير الممهورة بالأختام الرسمية. تمنحك الدولة بطاقة شخصية، لا تكن جاحداً وتعتقد أنها لاتعني كثيراً، بطاقة عليها اسمك، واسم أبيك وأمك وكنيتك ومكان وتاريخ الولادة، والأهم من هذا كله، عليها رقمك الوطني.

كان زد يحاور نفسه، على الرغم من أنه يكره الحذلقات، لكن لا بد من أن يكون الإنسان الجديد مرتاباً أو ذا ريبة. زد يتفاعل مع كل جديد بإيجابية ووعي، ليس لأنه يكره العالم القديم، بل لأنه يحبُّ أن ينظر إلى الأمام لا إلى الخلف، كان قد قرأ مسرحية جون أوزبورن” انظر إلى الوراء بغضب” كان يرددها مع رفاقه في الجامعة والمقهى، كـ(مانشيت) في ميديا الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. ليس زد جاهلاً أو بسيطاً، بل هو حاذق في التهكم، قرأ كتباً، ولا يزال يقرأ في الخفاء!

قال زد في نفسه، مهم جداً أن يكون الإنسان مواطناً، وجزءاً من الآخرين، له وطن وله معارف، جزء من كل. كان في غاية الانشراح، منذ الصباح حين خاطبه موظف النفوس بعبارة: يا (مواطن) إذن، أنت يازد مواطن! هل كنت تدرك ذلك؟ هذا الموظف الذي يمثل السلطة الرسمية أطلق عليك هذه الصفة الساطعة كضوء الشمس، كان الموظف لطيفاً، أملسا مثل أفعى بلا أنياب، لم يقل (مواطن) مجردة، بل مقترنة بحرف النداء المنعش: ( يا أخي المواطن) ربما كانت جدية ومن القلب، لكن لا تخلو من احتمالات التهكم! لاتفكر بالتهكم، الأحسن أن نتلقى بعض الكلمات بحيادية.

 لكن سرعان ما تعكَّر مزاج زد بعد الظهر، بسبب انقطاع الكهرباء، وحرارة الطقس المرتفعة، وعاد ليفكر بمدلول كلمة مواطن على لسان الموظف، وصب فيها دفقاً من الريبة، اعتقد زد أن الموظف يقصد من الكلمة عكس معناها النبيل، إنه يريد أن يقول: أنت لا شيء، ليس لك إسم، عليك أن تبلع ريقك وتقبل الصفات التي يطلقونها عليك، لا يحق لك أن تتبادل معهم إنتاج الصفات، هذه لها مرجعياتها ومصادرها، وطريقة إنتاجها، أنت تتلقى، ولا يحق لك أن تنتج هذه الصفات وتصدرها، هذا النوع من الإنتاج اللغوي، حق حصري، تحتكره البيروقراطية، بكل قوتها الممركزة، المكثفة، وما فيها من فائض القوة. أنت يازد لا تشكل شيئاً في نظام الكلمات والأشياء، حتى لا تستحق أن تكون رقماً، أنت لامرئي في عالم الـ: (نحن) أنت من إقليم الـ: (هُمْ) أنت هو .. هو، هي.. هي، ها .. ها…

–        من أنت، هل أنت عبداً في نظام العبودية؟

– لا، هيهات!

-هل أنت خصم؟

-لا

-هل أنت قابل للتأهيل؟هل أنت نقطة في خلاء؟

-لا، النقطة كبيرة الأهمية في عالم اليوم.

-لست حرفاً، ولا فاصلة، ولا نقطة، ماذا تكون؟

لا جواب، فالجواب اعتراف، سيكون إشعاراً آخر، بعدم الموافقة، هذا الحكم الأبدي المبرم، الذي أطلقه عليك الوجود الحاضر بقوُّة.

في مزحة أخرى استثنائية، استطاع زد أن ينتزع انزياحاً طريفاً على عبارة: “عدم الموافقة” فيما يشبه لعبة القط والفأر، حصل على ابتكار معابثة فكاهية مع الدولة، قدم له موظف كبير تعبيراً جديداً على طلب توظيف، من باب الحق في العمل الشريف والكريم، إنها عبارة: ” موافق أصولاً” ويالها من عبارة شكلت عزاء تراجيدياً للمواطن زد، الذي اكتشف بعد مرور أيام من المرارة والخيبة، أنها تحمل الشيء ونقيضه، الموافقة وإبطال الموافقة! كانت خالية من مفردة العدم، الصعبة، خالية من السلب، فيها أريحية محمودة، على الرغم من أنها لا تفضي إلى شيء، لكنها لا تخلو من مستوى ضئيل من الأمل، وهذا يدعو إلى السعادة،إمكانية أن تُطور الدولة آلية إنتاج العبارات بعد مراس طويل في هذا المجال.

(موافق أصولاً) إيجاب منفوخ مثل بالون ملوّن، لكنْ، اللعنة تكمن هنا، في الكلمة الثانية، المخادعة (أصولاً) وقد نسفت الإيجاب في الكلمة الأولى، إنه صراع نفي، ونفي النفي، تجيد أجهزة الدولة ابتكاره ببراعة ألسنية، تحويل الإيجاب إلى عدم، والجدوى إلى اللاجدوى. إنها دوامة من العبث بالكلمات، تجلب الخيبة والعدمية، بعد الشعور المتكرر بالخسران، ستكون دائما خاسراً يا زد في هذه الحلبة، حتى لايبقى فيك أي شعور بالذات!

في تفسيرات البيروقراطية المقيتة، على لسان مدرائها أو مديريها المحنكين، ابتسامة هزء مع هزِّ الرأس، والمدير يضع سبابته على فرج الجملة العذراء( موافق أصولاً) المتراخية في سرير بياض الورقة، ويقول: للأسف لا يوجد عندنا شواغر الآن. هكذا إذن، عليك أن تتأكد يا زد أو تستنتج تعريفاً خاصاً بك، إن الدولة تساوي عبارة عدم الموافقة أو مشتقاتها التي تؤدي إلى النتيجة ذاتها! هذا بعد اختبارات من المراقبة والعقاب، يا سيد فوكو. إذا كان المدير ثرثاراً يُحبُّ التفسير، سيشرح بدهاء كلمة السر هذه، ويكشف لك كم كنت مغفلاً عندما اعتقدت أنك حصلت على الموافقة أو الوصول إلى الذروة، ويقول لك: لا يوجد اعتماد مالي. ما يذكرك يا زد بـ:إرم ذات العماد، ويقول: عندنا فائض وظيفي. وأنت يا زد لن تقبل أن تُرمى فوق هذا الفائض أو تحته، أو أن تكون غائطاً! هل لا حظ ذلك سيبويه؟

هذه لغة ما بعد سيبويه يا زد، لغة عصر انحطاط الجديد!

الكاتب، الذي اختلقك يا زد، يتواطأ مع القارئ، ويقولان لك:

لا تدع الكآبة تغزوك، انظر إلى النصف الملآن من الكأس، واجعل هذه الكلمات والأشياء أضحوكة، أو أضحوكات، على وزن أمثولة أو أمثولات أو زقزقات أو فعلالات. قهقه إذا استطعت، وأنت ترى أسراب الغربان تعبر سماء المدينة.

ابتسمْ باشتهاء وأنت تعبر أمام الجميلات اليقظات، انظرْ كم هنَّ كثيرات.. وقل كما قال شاعر الرصيف والحرمان: “جميلة عيون النساء في باب توما..” واشتهِ ما طاب لك، وعربد في الحدائق وفي الحجرات، واقرأ ما يكتبه المجانين على الحيطان، واسمع تفاهات الشاشة الصغيرة، وامض إلى حيث تشاء. ولكن، ابتسم بعمق، وأنت ترى عصافير الصباح، وأطفال المدارس والروضات، وهم يغذون السير نحو أناشيد الأفق..

غرّدْ مع العصافير، وانشد مع التلاميذ نشيد الصباح، بصوت جهوري أو بصوت سري، فأنت يا زد أكثر من حرفين، أنت رهط من الأصوات والحروف والمشاعر، أيُّها المواطن اللغوي.

كانت بلاداً جميلة: من حيدر حيدر وإليه

كانت بلاداً جميلة: من حيدر حيدر وإليه

«صح النوم! خِلْصت الفضيحة.»

كان هذا الردَّ الساخرَ لصاحب المكتبة عام 2001 حين سألتُه عن نسخة من وليمة لأعشاب البحر. أذكر أنّي رددتُ بجملة صارخة اجتمعتْ فيها هرمونات سنّ السادسة عشرة مع بداية الطّبع الحاد الذي سيلازمني إلى اليوم: «على فكرة، عرفت حيدر حيدر قبل الضجّة!». لم يكن صاحب المكتبة ليفهم افتخاري الذي آنَسَني طوال العامين اللذين فصلا بين ضجّة إعادة نشر الرواية في مصر عام 1999 وبين أوّل صِدام شخصيّ حادّ حيال حيدر في مدينة دير الزور التي رسّختْ تلك الحادثةُ فيها إحساسي حينها بأنّها أضيق من عالمي. ربّما كان افتخارًا ساذجًا، ولكنْ ما أزعجني آنذاك التّعاملُ مع حيدر وكأنّه ولد فجأةً من الفضيحة، وكأنّه ما كان ليوجَد لولا تحريض من شخص أخرق لا يعرف القراءة. في واقع الحال، عرفتُ حيدر حيدر منذ عام 1997، حين قرأتُ جزءًا من سيرته في باب «مرفأ الذاكرة» في مجلّة العربي الكويتيّة، وأذكر أنّي سُحرتُ بكمّ ارتحالاته التي وسمَتْ حياته من حصين البحر إلى حلب إلى دمشق إلى بيروت إلى قبرص إلى الجزائر. ستسحرني تجربة مماثلة أخرى لاحقًا هي تجربة عبد الرحمن منيف، وحينها بدأتُ تلمُّس الفوارق بين التّجارب، وتلمُّس آلام الغُربة ومعنى العلاقة الشائكة التي تربط كلًّا منا بوطنه. ما الوطن في نهاية المطاف؟ أليس هو التّفاصيل الصغيرة التي تربط أيًا منّا بأرض ما، بمدينة ما، بنهر ما، بشارع ما، بشخص ما؟ لم أكن أعرف وليمة لأعشاب البحر حتّى في ذلك العام الذي شهد صِدامي الأول (الذي ستليه صِدامات كثيرة) حول جوهر الأدب وصلته الغامضة بالفضيحة. ولكنْ كنتُ قد قرأتُ حكايا النّورس المهاجر وربّما الومضحكايا النّورس المهاجر حتمًا، إذْ أذكر الصّدمة التي صعقتني عند قراءة الفهد التي كانت إحدى قصص المجموعة وصارت تُطبَع لاحقًا منفردةً بوصفها نوڨيلا خارج نطاق المجموعة الأصليّة التي أدخلتْ اسم حيدر حيدر إلى مشهد الأدب السوريّ أواخر الستينيّات.

ما كنتُ أعرف من الأدب السوريّ آنذاك إلا تجارب مخيّبة مع أعمال متفرّقة لعبد السلام العجيلي وكوليت خوري وغادة السمّان، ولذا بدتْ الفهد ناتئة عن كلّ ما قرأت. هنا كاتبٌ يعجن اللغة على هواه ويعيد إنتاجها صافيةً جارحةً في آن. هنا كاتبٌ يدرك جوهر الكتابة المرتبطة ارتباطًا لا انفصام فيه مع الطبيعة والمرأة والبلاد والمنفى … واللغة. اللغة مرةً أخرى، لأنّها توجز كلّ ما سبق. هنا كاتبٌ محكومٌ بالمفارقات التي سيّجتْ حياته وأدبه، إذ لا يُقرأ لذاته بل لكونه أُدخِل قسرًا في هذا الجدال أو ذاك، كما حدث في الضجة المصريّة الشهيرة. لم تُقرأ الفهد، مثلًا، إلا بوصفها خلفيّةً غامضةً للفيلم الذي أخرجه نبيل المالح مع أنّه يكاد لا يشبه الرواية؛ كان هذا الفيلم أحد أبرز الأفلام التي أقلقتْ مراهقتنا حين تداولنا مشاهدته سرًا بحثًا عن عري جسد الممثّلة إغراء، فيما كانت الرواية في عالمٍ آخر يولد من جسدٍ آخر هو جسد الأرض والإنسان، جسد التمرّد الذي حُكم عليه هو أيضًا بقراءات لاحقة غبيّة انطلقت من خلفيّات طائفيّة في سنوات الخواء السوريّ. أما وليمة لأعشاب البحر فقُرئت (إنْ كانت قد قُرئت حقًا) بوصفها فضيحة وإسفافًا لا من جانب الجهلاء الذين ثاروا بلا وعي كالعادة، بل أيضًا من جانب مثقّفين مثل محمد حسنين هيكل ورجاء النقّاش ومحمد الرميحي، فيما هي في واقع الحال إحدى أجمل الروايات العربيّة. ملحمةُ ارتحالات وغربة لا تنتهي، آسَفُ لأنّي أجّلتُ قراءتها بالرّغم من (على الأرجح بسبب) الضّجيج الذي رافق إعادة نشرها. ظننتُ حينها أنّها شبه سيرة ذاتيّة لكاتبها الذي عرفتُ لمحات من حياته، ولكنّ تلاحُقَ القراءات غيَّر تفكيري. ليس مهمًا إنْ كانت سيرة ذاتيّة أم لا، بل المهم أنّها سيرة؛ سيرة بشر حاولوا أن يبقوا بشرًا في عالم يسحق كلّ شيء. أظنّ أنّ أعظم ما علّمتني إيّاه تلك الوليمة هي أنّ حياة أيّ شخص تستحق أن تُكتَب وأن تُخلَّد، وأنّ التفاصيل التي تجعل البشر بشرًا هي جوهر الفنّ. ما أزال أذكر المشهد الأخير حيث يركض مهدي جواد في شوارع عنّابة قبل أن يغطس في البحر، أو بالأحرى قبل أن «يقذف جسده إلى البحر» بحسب جملة حيدر الدّقيقة الموجعة؛ مشهد سكنَ ذاكرتي وسيبقى إذ سرقتُه في قصة قصيرة مزّقتُها لاحقًا كي أنسف ذلك التأثير، كما تسلّلت لغة حيدر حيدر إلى لغتي وستبقى، وكما لَطَمَني التّاريخان اللذان يُنهيان الرواية: 1974-1983، مع ثلاث مدن هي الجزائر وبيروت وقبرص. ثمّة مَنْ يقضي تسع سنوات في كتابة عمل واحد، وينقّله معه أينما حلَّ وكيفما ارتحل، كما لو كان حقيبة منفاه أو حقيبة ما تبقّى من بلاده التي ضاقت حتّى عن أن تظفر إحدى مدنها بأن تكون مسرحًا لكتابة تلك الملحمة المؤرِّقة. لولا حماقةُ صاحب المكتبة ذاك، كانت قراءتي للوليمة ستتأخّر على الأغلب، إذ اندفعتُ في اليوم التالي إلى المركز الثقافيّ واستعرتُ نسخةً منها ودخلتُ إلى فردوس الرواية الذي يلتحم بالجحيم في متاهةٍ مرعبة. يخطر لي الآن أنّ المفارقات التي حكمتْ على حيدر حيدر انتقلتْ إليّ أنا أيضًا كلعنةٍ لا براء منها، إذ تذكّرتُ أنّي لم أحتفظ بأيّة نسخة من أعماله عندي؛ كانت إما نسخًا ورقيّة مستعارة أو نسخًا إلكترونيّة. ويحيّرني دومًا أنّه يغيب حين أقلّب في ذاكرتي الأعمال الأهم في الأدب السوريّ، وكأنّي لا أعدّه سوريًا أو كأنّ غيابه الورقيّ حَكَمَ عليه دومًا بأن يبقى عندي مثل طيفٍ لا سبيل إلى إحكام قبضة الحواس عليه. طيف سكنني ولن يتركني حتّى لو نسيتُه؛ طيف التصق بالذّاكرة إلى حدّ الغفلة إذ باتَ جزءًا منّي بلا وعي منّي؛ بات جزءًا من قاعدتي التي لا أرتضي استثناءً لها: الكاتب هو اللغة، الكاتب هو الأسلوب. ولذا غرقتُ في لغة حيدر حدَّ النّسيان.

أظنّ أنّ حيدر حيدر كان السّبب الأكبر في دفعي إلى قراءة أدب السبعينيّات السوريّ. صحيحٌ أنّه طرقَ أبواب النّشر أواخر الستينيّات إلا أنّه أقرب إلى جيل السبعينيّات الذين غيّروا خارطة الأدب السوريّ سردًا وشعرًا ومسرحًا. لم يجتمع الكمّ والكيف بهذه الدّرجة من الألق إلا في السبعينيّات: نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد ورياض الصالح الحسين شعرًا، سعد الله ونّوس مسرحًا، هاني الراهب وحيدر حيدر سردًا، ممدوح عدوان كعادته مثل نحلة لا تكاد تستقر على زهرة حتّى تغادرها إلى أخرى، وإنْ كانت زهرته الكبرى هي المقالات. هل كانت تلك السّنوات شديدة الخصوبة بحيث أنبتت كلّ هذه الأشجار، أم إنّ تلك الأسماء هي التي كانت غمامًا لمطرٍ أحيا أرضًا شبه قاحلة بعد أن صمت الروّاد أو غادروا إلى المنافي؟ لا نعلم بالتّحديد، غير أنّنا نعرف حتمًا أنّها أغنى سنوات في تاريخ سوريا المعاصر في الثقافة والفن (كيف لنا أن ننسى لؤي كيّالي ونذير نبعة ويوسف عبدلكي ومصطفى الحلّاج وعمر أميرلاي؟) لأنّها استوعبت الجميع على اختلاف اتّجاهاتهم. فلنبق في القصة التي كانت نقطة انطلاق حيدر حيدر. كانت الواقعيّة في القصّة قد حزمتْ آخر أمتعتها مع أعمال سعيد حورانيّة، لتمهّد لظهور عاصفة نصوص زكريا تامر التي جرفت كلّ ما كان قبلها بلا رحمة؛ نصوص لا تشبه القصة ولا تشبه القصيدة، ولكنّها تشبه تلك البلاد في فوضاها. غير أنّ حيدر لم يركن لوصفة تامر الأثيرة بالرغم من التّشابه الظاهريّ في دفقة الشّعر في أعمالهما، بل شقَّ طريقًا منعزلةً تأثّرت بالآداب الغربيّة وصانت بريق لغة التّراث ولكن بأدوات جديدة؛ طريقًا تحفر في الشّعر بإزميل الحكاية، أو تغرس قصائد في تربة سردٍ مغوٍ كمصيدة. كانت قصصه متفرّدةً لأنّها تبدو وكأنّها تضيق بحدودها، إذ بدت أقرب إلى سكتشات لمشاريع أكبر بدأها بـ الفهد، ومسّها مسًا طفيفًا في الومض والفيضان، ثمّ بدا وكأنّه وجد ضالّته أخيرًا في الوعول والتموّجات: قصص طويلة أقرب إلى النوڨيلا واصلَ كتابتها حتّى بعد نشر روايته الأولى الزّمن الموحش التي شرّح فيها دمشق بقسوةٍ جارحة، ليكتشف أنّ مبضع اللغة لن يهدأ إلا بتشريح باقي البلاد، كلّ البلاد، فكانت وليمة لأعشاب البحر، الوليمة الكبرى التي شغلته قرابة عقد في كتابتها واستنزفته قرابة عقد كامل من الصمت بعدها، قبل أن يعود بمفاجأة جميلة حملت عنوانًا غامضًا هو مرايا النّار، وعنوانًا فرعيًا أكثر غموضًا: «فصل الختام». ختام ماذا؟ لعلّها ختام فصول «نشيد الموت» الأربعة التي بدأ غنائها في الوليمة وبقيت أصداؤها عصيّة على التّلاشي. ولكنّها كانت في الوقت ذاته ختامًا حزينًا لأعمال حيدر في ذاتها. حين ثارت ضجّة وليمة لأعشاب البحر كانت تجربة حيدر حيدر قد أمست وراء ظهره حقيقةً ومجازًا. كانت أهم أعماله قد كُتبت ونُشرت منذ سنوات. كانت مرايا النّار أشبه بذروة أعمال حيدر، لا بمعنى أنّها الأفضل بل بمعنى أنّها ختام طريق الصعود، إذ بدأ ألق أعماله يخفت شيئًا فشيئًا حين التهمتُ أعماله كلّها عامي 2001 و2002. لعلّ بوسعنا استثناء مجموعة غسق الآلهة، وربّما كتاب مراثي الأيام، ولكنّهما – على جمالهما –  عجزا عن منافسة أعماله الأقدم.

أنتبه الآن إلى عنوان هذا الكتاب: مراثي الأيام الذي صدر عام 2001، وكذا أنتبه إلى عنوانَيْ مجموعتين لنزيه أبو عفش صدرا في تلك السنوات: الله يبكي، وأهل التابوت. وأبدأ استعادة ذكريات تلك السنوات التي كنت فيها ثملًا باكتشافاتي المتلاحقة في قراءة تجارب جيل السبعينيّات، وغافلًا عن التقاط الإشارات الخفيّة التي التقطها أدباء السبعينيّات أنفسهم، ومتناسيًا التحوّلات الكبرى في سوريا آنذاك، مع انتهاء عهد طويل وبداية عهد آخر كان يومئ بسراب التّفاؤل. بدت سنوات العقد الأول من الألفيّة مرشَّحةً بقوّة للمقارنة مع سوريا السبعينيّات التي كنّا نظنّ أنّها كانت فردوسًا كي تضمّ كلّ تلك الغابات الوارفة، مثلما كنّا نظنّ أنّ ألق الأدب السوريّ سيعود في ظلّ الانفتاح الموعود. غير أنّنا كنّا سذّجًا وبقينا سذّجًا لسنوات. كانت الإشارات الخافتة آنذاك تومئ إلى أنّنا سنشهد أيامًا مختلفة، وهذا ما بدا للمراقبين الخارجيّين أيضًا: لا موت ولا معتقلات ولا منافي؛ سوريا «الانفتاح» حيث الصحافة الجديدة وشركات الموبايل والسيّارات التي ستصبح في متناول الجميع؛ سوريا إغلاق سجن المزّة وعودة المنفيّين وتكريم الأدباء الشيوخ بأوسمة الاستحقاق؛ سوريا الجوائز التي تَعِدُ الأدباء الشّباب بدُنيا لا تحزّبات فيها ولا رقابة ولا تحجّر العهد البائد. على أنّ هذه الصورة تُخفي صورةً أخرى أبلغ وراءها. كانت تلك السنوات نفسها هي التي شهدت الموت السريريّ لجيل السبعينيّات: أُقيل أنطون مقدسي من منصبه في وزارة الثقافة وهو كان عرّاب سنوات السبعينيّات؛ مات سعد الله ونّوس وهاني الراهب وسيلحق بهما ممدوح عدوان بعد بضع سنوات؛ تفرّقَ في المنافي من لم يمت بعد من الرسّامين؛ عاد زكريا تامر إلى منفاه بعد أن خُدع في «الوطن» وخلد إلى الصمت الذي كان سعيد حورانيّة قد خلد إليه منذ الستينيّات حتّى رحيله؛ هجرَ بندر عبد الحميد الشّعر، ولجأ حيدر حيدر إلى قريته كملاذ أخير في الشيخوخة. ولم يكن حظّ الأدباء الذين جاؤوا في الثمانينيّات والتّسعينيّات أفضل من سابقيهم: عام 1998، أُهدِر دم ممدوح عزّام إثر نشر روايته قصر المطر وعايش مأساةً مماثلةً لمأساة حيدر؛ تواصلَ تهميش الأدباء «المغضوب عليهم»: ركنَ إبراهيم صموئيل إلى الصمت بعد عام 2002، وزِيْد في تجاهل فوّاز حدّاد. كانت تلك سنوات اليد الحديديّة المغلّفة بقفّاز مخمل «الإصلاح والتّطوير والتّحديث». وأنتبه الآن إلى أنّ توازي هاتين المرحلتين وتماثلهما ينسحب أيضًا على عناوين أعمال السبعينيّات: الزمن الموحش لحيدر حيدر، دمشق الحرائق لزكريا تامر، الفرح ليس مهنتي لمحمّد الماغوط، حبر الإعدام لسنيّة صالح، أيّها الزمان الضيّق أيّتها الأرض الواسعة لنزيه أبو عفش، خراب الدورة الدمويّة لرياض الصالح الحسين، الدّماء تدقّ النوافذ وأمّي تطارد قاتلها لممدوح عدوان.

لم تكن فردوس السبعينيّات فردوسًا إذن. ولم تكن سنوات العقد الأول من الألفيّة الثالثة فردوسًا أيضًا. كانت السنوات الأولى سنوات السّراب البعيد الذي يحسبه الظمآن ماءً، وكانت السّنوات الثانية سنوات الغفلة التي تناسى فيها الظمآن السّراب والماء وعضَّ على عطشه بانتظار ماءٍ قد يأتي وقد لا يأتي. لعلّه الجحيم، أو المطهر ربّما؛ لا فرق! كان جيل السبعينيّات يحذّرون من الفجائع التي كانوا يستشعرون حدوثها الآن وهنا، وبعد عقود. لم أنتبه إلى دفق الفجيعة الذي ينزّ من كلّ حرفٍ من حروف مرايا النّار التي عرفتُ منذ البداية أنّها ستكون روايتي المفضّلة من روايات حيدر. ربّما سحرتني الملانخوليا التي تؤطّر الرواية كلّها، كما تفعل عادةً في المراهقة وبداية الصّبا. ثمّة عالمٌ قاسٍ مؤلم في ثنايا الملحمة الصغرى التي لا تُسلِّم مفاتيحها كاملةً إلا حين تُقرأ بالتوازي مع الملحمة الكبرى، ولكنّ إغواء اللغة ورهافة الإحساس حجبا قسوة العالم للوهلة الأولى، ليستشعر القارئ، من ثمّ، جراحه الخفيّة بعد أن يظنّ أنّه انتهى من القراءة. كانت الزّمن الموحش المبضعَ الذي شقَّ به حيدر أجسادنا كلّنا، وكانت وليمة لأعشاب البحر الإصبع الذي نكأ تلك الجراح، ثمّ أتت مرايا النّار لتصبح الملحَ على تلك الجراح المفتوحة. عشرون عامًا تقريبًا تفصل بين الزمن الموحش وبين مرايا النّار، وعشرون عامًا تقريبًا تفصل بين قراءتي الأولى لـ مرايا النّار وقراءتي الرابعة أو الخامسة لها قبل أيام. الطيف هو الطيف، والسراب هو السراب، والظمآن هو الظمآن، ولذا واصلَ حيدر تحذيراته المتلاحقة من الفجائع التي ستأتي لا محالة، من اللوياثان – لو استخدمنا المصطلح التوراتيّ الأثير لدى حيدر – الذي سيلتهم كلّ شيء، سيلتهم الطّيف والسراب والماء والظمآن. لعلّ جمال أعمال حيدر يكمن في أنّه يحنو على جميع شخصيّاته بالرغم من أنّه لا يخفي انحيازاته. الفجيعة طوفان يجرف الجميع، ولذا لا فرق بينك وبين غيرك، فالكلّ ضحايا، وإنْ لم يدركوا ذلك للوهلة الأولى. «الذاكرة وحدها المنجى من هلاك محقّق»، كما يقول في الزمن الموحش، ولكن هل هي حقًا؟ أليست الذاكرة هلاكًا هي الأخرى؟ أليس هذا ما يدركه مهدي ومهيار وآسيا وفلّة في وليمة لأعشاب البحر؟ أليس هذا ما ندركه كلّنا حين نتذكّر ما لا نودّ تذكّره؟ أليس هذا بالذات ما يتوق ناجي في مرايا النّار كي يهرب منه؟ أليس هذا ما أسعى إليه الآن كي أُعيد جمال لحظات سنة المراهقة تلك بعيدًا من تداعيات السنوات العشرين التي أثقلت الذاكرة وأَدْمَتْها؟ ولكنْ لعلّ الذاكرة منجى حقًا حين ننتقي ما نودّ تذكّره: خطّ الثلث في عنوان وليمة لأعشاب البحر بغلافها الأبيض في طبعة دار «ورد»؛ غلاف مرايا النّار الأزرق، وغلاف غسق الآلهة الأخضر في طبعة دار «بترا»؛ غبار صفحات الزمن الموحش التي لم يَسْتَعِرها أحد منذ شهور؛ جلد المفكّرة الحمراء التي كنتُ أدوّن فيها ما أحبّ من اقتباسات. لا بدّ أنّي دوّنتُ الاقتباس الذي على غلاف الوليمة: «وكانت بلادًا جميلة». لا أعرف الآن ذلك الزمن الذي كانت فيه البلاد جميلة، ولستُ متأكّدًا من وجوده أصلًا؛ غير أنّي كنتُ متأكّدًا من وجوده قبل عشرين عامًا، كنتُ متأكّدًا من أنّ هذه البلاد القاحلة كانت جميلةً يومًا، إذ لا بدّ من وجود ذلك الزمن وإلا لن تكون البلاد جديرةً إلا بالحرائق.

كنتَ تريد الكتابة عن مرايا النّار. ما الذي فعلته يا أحمق!

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.