رمضان جديد أم قيم جديدة

رمضان جديد أم قيم جديدة

يلقي أحمد (اسم مستعار) بحمولته من أكياس المحارم الورقية على الرصيف، ويختبئ بين سيارتين ليدخن سيجارته، هرباً من أعين المارة ومديره، فـ”الدنيا رمضان ، وإذا دخّنت علناً قد يتراجع بعض المتسوقين عن الشراء منك تحت ذريعة تدخينك” بحسب قول صاحب المحل.

يقترب شريك أحمد منه ويقول له: “لا داعي للاختباء، لقد رأيت فتاة تشرب الماء علناً، وسيدة تضع حبة سكاكر في فمها، ورجل غيرك يدخن أيضا!”.

ويظهر تبدل جلي في السلوك اليومي للمقيمين في دمشق تجاه الصيام في شهر رمضان، لا يقتصر على إشهار المفطرين لأنفسهم فقط، فحتى غالبية محال بيع الطعام الجاهز والعصائر لم تغلق أبوابها في شهر الصيام.

على عكس أحمد، لدى أم منار ثلاثة أبناء يشهرون إفطارهم علناً، لكنها ومن منطلقها الإيماني، تصر على دفع دية إفطارهم طيلة شهر الصوم، في السابق كانت أم منار تدفع كفّارة إفطارهم نقداً للعائلات الفقيرة عبر الجمعيات الخيرية أو أحد الشيوخ.

ويحدد المرجع الشرعي في وزارة الأوقاف هذا البدل سنوياً، وهذا العام قدّره بمبلغ مقداره ما بين ثمانمائة وألف ليرة، وهو قيمة وجبة لجائع على من أفطر دفعها. لذلك قررت أم منار هذا العام بمشاركة صديقتها لشراء كرسي متحرك لطفل فقد ساقه في الحرب، وبصورة مباشرة دون اللجوء إلى أية وساطة. ويعكس قرار أم منار هذا التغيير الذي يختلط فيه الإنساني مع الإيماني والتفاعل مع الحاجات الجديدة الأكثر إلحاحاً في زمن الأزمات.

وليس أولاد منار حالة فريدة في دمشق، فأغلب الموظفين في الدوائر الرسمية والخاصة يواظبون على تناول إفطارهم اليومي في أماكن العمل. تقول سامية إن زميلتها في العمل لا تصوم، لكنها تراعي مشاعر الصائمين بالتوقف عن إعداد القهوة في مكان العمل وخاصة لما لها من رائحة نفاذة تبعث الشهوة القوية لها، وتضيف سامية “حتى أن بقية الزملاء لا يأكلون الخيار أو البيض أو الفلافل في وجباتهم الصباحية خلال شهر رمضان، لرائحتهم الشهيّة والقويّة أيضاً”، أي أن المراعاة لا تتجاوز فعل التوقف عن أكل ما تطغى رائحته لتجنّب إيقاظ جوع أو شهوة الصائمين.

وحول هذا الموضوع، ينص القانون السوري في المادة 517 من قانون العقوبات، على معاقبة كل من يشهر إفطاره علنا في شهر رمضان بالحبس لمدة شهر كامل! مع الإشارة إلى أن نص الحكم لا يتضمن عبارة إشهار الإفطار أو عدم الصيام، وإنما التعرض للآداب العامة وعدم مراعاتها في شهر رمضان، وهي مادة شبه معطلة حاليا، ولم يصدر أي حكم بموجبها طيلة فترة السنوات الثماني الماضية.

وفي حال غياب أية مواد قانونية صريحة وواضحة تعاقب على فعل الإفطار أو إعلانه، فإن الأحكام الحقيقية المجتمعية المتداولة هي الأكثر تأثيرا.

التبدل أيضاً يبدو في صورة جديدة مرعبة دخلت حياة السوريين، فعلى إحدى مجموعات “الواتس آب” النسوية، وهو وسيلة التواصل الأكثر رواجا في سورية، تبارك رويدة بقدوم رمضان، لكن مباركتها النمطية التي لا تتجاوز كونها بروتوكولاً اجتماعياً، تصطدم بردود عنيفة من قبل بعض عضوات المجموعة، إذ تقول إحداهن “رمضان وصيام والجوع ينهش في جسد السوريين!”، فيما تنهرها أخرى وتربط بين المباركة بالصوم والاحتفاء بقيم داعش!

من جهة ثانية، وفي ظل التردي الكبير لأحوال السوريين الاقتصادية، انطلقت في رمضان عدّة مبادرات جديدة في طرحها، بدت على جدران الشوارع ومراكز التجمعات العامة، كالدعوة إلى إعفاء المستأجرين من إيجار بيوتهم في شهر رمضان، والإصرار والتكرار على السوريين في الخارج لإرسال ما تيسر للأسر المحتاجة في هذا الشهر لردم الفجوة الكبيرة بين القدرة الشرائية الضعيفة عند السوريين وبين حقيقة وحجم المتطلبات الأساسية للعيش، وخاصة الدواء والسكن والطعام.

ومن الظواهر القديمة التي لم تعد مقبولة، هي ارتداء بعض السيدات للحجاب أو الجلباب في شهر رمضان حصرياً، إذ بات يشار لهذا التصرف على أنه نفاق اجتماعي، وإن كان مؤقتا، لكنه يعكس هشاشة عميقة تتأمل في دواخلها رحمة أكبر، وسلم حسنات أكثر توازنا يمنح اللاجئات إليه سلاما داخليا ورضاً يحتجنه.

وإن كان لرمضان تعريف خاص ورائج، فهو ما يأتي به من وجبات الطعام الغنية والمنوعة، حيث تجهد الوسائل الإعلانية لترويجها رغبة في مكاسب اقتصادية مباشرة. لكن هذا تغيّر كلياً،  الحالة الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون وانخفاض القوة الشرائية هي أحد الأسباب فقط، يُضاف إليها تغيير النظرة نحو الأولويات الأساسية، وحول جدوى نمط العيش الغارق في تفاصيل مرهقة ماديا وجسديا ومعنويا .

إذ باتت موائد الإفطار تقتصر على نوع واحد من الطبخ، إضافة لصحن من السلطة أو الحساء وآخر من الفول أو الفتة، فيما بات التنوع المبالغ به إسرافاً غير مرغوب به.

وحتى الدعوات العديدة التي اعتاد أفراد العائلة على تبادلها على موائد الإفطار الجماعية، باتت أمراً مكروهاً، وغالبا ما يتم اختصارها بدعوة واحدة، تلبية للشرط العائلي وتثبيتا لحالة انفكاك باتت مقبولة عن التقاليد العائلية.

وكما تحمل كل الشهور تبدلات تتعمق في حياة السوريين بفعل الحرب وشروخها العميقة وتكلفتها الباهظة، يأتي شهر رمضان ليثبَت هذا، من التغيّر في الوظيفة المجتمعية، أو في وظائف الأفراد، حيث يبدو أنها تتعرّف من جديد وفق هويات أقل ضيقا أو تشنجاً، لتصبح ظائف أقل إلزامية، تخفف الخناق المقيّد على الأفراد وإن بفسحة ضيقة، لكنها تتسع.

الشاعرة هنادي زرقه: العاصفة الخلّاقة إزاء الحرب

الشاعرة هنادي زرقه: العاصفة الخلّاقة إزاء الحرب

أسّست هنادي زرقه، منذ ديوانها الأوّل “على غفلة من يديك” 2001، خصوصيّتها المميّزة، في المشهد الشعري السوريّ والعربيّ. نال ديوانها الثاني “إعادة الفوضى إلى مكانها” 2006 الجائزة الأولى في مسابقة محمد الماغوط للشعر، وزارة الثقافة بدمشق للعام 2004. تلاه “زائد عن حاجتي” 2008. وخلال الحرب أصدرت “الزهايمر” 2014، “الحياة هادئة في الفيترين” 2016، وأخيراً صدر لها “رأيت غيمة شاحبة، سمعت مطراً أسود” 2018. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، بينها: الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الدنماركية والإسبانية.

أتحدّث هنا، عن ديوانيها الأخيرين الصادرين عن دار النهضة العربية ببيروت، نظراً للقواسم المشتركة العديدة بينهما، أبرزها الحرب، ثمّ الحب، الموت، الوحدة، المرأة، وذكريات الطفولة والعائلة.
تُجسّد قصائد هنادي كتابة نسويّة بامتياز، ومن غير تطرّف. الرجل ليس عدوّاً لها، هو الجبيب، والأب والأخ. وهي، أنثى مثقّفة، متمرّدة وحرّة، رغم أنّ القيود تحاصرها، والآلام تنهكها، البطريركيّة تقصيها، الحبّ يخذلها، والحرب تؤطّر المشهد التراجيدي وتكمله. بمبضعها الأنيق تُشرّح هنادي العالم حولها، وبعين ثاقبة ونقيّة ترصد الأحداث حولها، كما ترصد ذاتها. تكشف، تعرّي وتفضح. حضورالذات الأنثويّة سمة من أبرز سمات الكتابة النسويّة. عبره تُجابه النساء الكاتبات تغييب ذواتهن المزمن. هنا، تبرز ذاتٌ فاعلة، لا تنفصل عن الخارج، تعيشه، تتماهى معه، يرهقها، فتتحايل عليه: (ثمّة حبلٌ سرّة وهميّ/ يشدّني إلى هذه الأرض/ أخاف أن ينقطع/ أربط خصري به/ أشدّه بإحكام/ ثمّة قذيفة لا أعرف أين ستقع/ ورصاصة طائشة قد تقطع هذا الهواء السميك).

وحيناً آخر تُفكّك الذات الخارج لتعيد بناءه من جديد بعين المرأة وبيديها. تروم أملاً ما. إلّا أنّ الحرب تُفشِلها. تقاومها هنادي بسخرية سوداء، وأحرف عطف متواترة، كي لا ينقطع النَفَسُ والعزيمةُ: (ليست الأمور سيئة إلى هذا الحد/ ما زال بإمكاني أن أنهضَ صباحاً، وأشتُمَ الحياةَ/ وأركلَ الطرقات أمامي/ وأطيلَ التأمّل في النعوات الجديدة/ وبنظرة هازئة إلى السماء/ أبحث عن معنىً لهذا العبث كلّه).
تتجاوز هنادي قوانين البطريركيّة، تابوهاتها المجتمعيّة والدينيّة، وتعلن بقوّة الحبّ والشهوة للجسد المستلب. الجسدُ الملعون بسببه ولأجله ثارت نساءُ العالمِ ورجالُه المتنوّرون. الجسدُ الذي جُرِّد من قيمته الإنسانيّة، أنجب النظريات النسويّة المختلفة. ليس إباحيّاً، ولا مجّانيّاً ما تكتبه هنادي، الجسد والروح لديها لا ينفصلان. هنا الجسد القيمة، يبدو مثل قطعة “بزل\puzzles”، لن تكتمل اللوحة بنقصانها: (كما أنني أحبكَ/ “يحدث في الحرب”/ وهذا يكفي لولادة إله جديد/ لا أحتاج ملاكاً ينفخ بين فخذيّ/ قل: أحبكِ/ وسيحفل الوعر بالتفاح/ يا حبيبي لم أعد صغيرة).

وفي مكان آخر تقول: (يذهب الرجال إلى الحرب/ وتفرغ الأسرّة من الشهوة/ تاركين نساءً لا يكففن عن الصراخ/ وضرْب الأولاد/ يذهب الرجال إلى الحرب/ والحربُ شهوةٌ أيضاً!). وهنا تؤكّد هنادي رؤية عالم النفس فرويد في النساء المحرومات من الجنس أو المكبوتات، فإنّهن يقضين الليالي في الصراخ. وتؤكّد أيضاً على شهوة الذكور للقتل.
تتخلّى هنادي عن عنونة القصائد في الديوانين، ربّما بسبب الحرب. ثمانية أعوام انقضت، وما تزال تَسفحُ الدماءَ، تمزّقُ الأجساد والأرواح، تدكُّ الأحلام، وتحرقُ البيوت والذكريات. إذاً لا جديد! الموت نهر يجري، يرافقه النزوح والهجرة، والدمار، والهلع، والضجر، والهزيمة، والعجز والعبث. فلا معنى لعنونة القصائد، وحتى لكتابة الشعر: (أما من هزيمة جديدة؟/ أقولها صباح كلّ يوم/ وأنا ماضية إلى هزائم أخرى./ ثمّ تقول: /… /صباح الخير، أيّها الهلع/ ها أنت تملأ الطرقاتِ/ وتسدّ نوافذ السماء). تعترف هنادي أنّنا نحن من سبّب الحرب: (لم تكن الحرب طارئاً/ كلّ ما حدثَ/ أنّ الحرب قشّرتْ جلودنا/ وأطلقتْ قُطعان الذئاب/ التي ربّيناها طويلاً في دمائنا/ الحربُ مرآتنا/ تحت أظافرنا/ كان يلمع كلّ هذا الخراب).

الأنثى أصل الاستقرار وسببه. هي زارعة الأرض، وهاوية الكنكنة، قادت الرجل، لإنشاء الحواضر والمدن. وهنادي على عهدها، ووفائها لجدّاتها. رغم الخراب والكوابيس، لن تغادر الوطن، لديها ما تفعله، ولديها حبّ البلد وذاكرته التي تُدمَّر: (لا شيء يغريني بالرحيل/ عليّ أن أعدو خلف رائحتهم كلّ صباح/ وأجمع وجوهَهم من قطع البزل التي تركوها في كلّ زاوية/ أؤسّس ذاكرةً للمدينة على وقع غيابهم).
في الحرب وما قبلها، تُنتهك الأشجارُ، ينجزّ العشبُ، ويموتُ الزرعُ. في أوّل التاريخ، هي من زرعت، وهو من قتل (قابيل وهابيل). وما يزال البطريركيّون يصنعون من الأشجار أسلحةً لحروبهم! وأوّل ما تقع كوارثهم، تقع على رأس المرأة ووجودها. المرأة المُتّهمة، المُذنبة والمُعاقَبَة، على الدوام: (…لسْتُ أنا/ لست أنا/ شجرة السرو الكبيرة تكاد تهوي عليّ/ أنا وحيدة/ ذهب حاملو الفؤوس إلى الحرب/ من يقنع الأشجار السابقة أنّني بريئة؟). تؤكّد هنادي سيرة دمار الأشجار والعشب في مطارح عديدة، ما يذكّر بمقولة النسويّة البئيّة، التي ترى أن المرأة والطبيعة صنوان، دمارُ الطبيعة دمارٌ للمرأة ذاتها.
للمشهديّة الحسيّة، البصريّة والسمعيّة حضور خاص لدى هنادي زرقه. تبرز منذ اختيارها لعنوانين الدواوين. ففي عنوان “الحياة هادئة في الفيترين” توحي لنا أنه فقط خلف زجاج فيترين المبيعات المعروضة، هنا فقط، لا صخب وجيع، أو حرب! وفي عنوان “رأيت غيمة شاحبة، سمعت مطراً أسود” المشهديّة مكثّفة وموجعة أيضاً، دمّرت الحرب الطبيعة! هنادي رأت وسمعت. الفعلان ماضيان. انقضى الأمر! في العنوانين، وحده اليأس من يبقى حيّاً، في الحرب!

تُسمعنا هنادي همس روحها وضجيجها وسط الخراب، والعبث. يخذلها الحبّ. وتقصيها البطريكيّة، والمتحاربون، والعجز. تجعلنا نرى تفاصيل المكان والزمان وأصناف البشر. يتبعها القارئ راغباً، بين وهاد القصيدة، إلى وديانها المخيفة، وإلى أعالي جبال الحزن. ترتّب هنادي هواجسها المختلفة بإتقان، وأحياناً، تحشدها في قصيدة واحدة، من دون إثقال أو افتعال، وبإقناع مدهش: (ينقصني أشياءُ كثيرة/ كي أكون بخير،/ أن يكفّ الكون عن الصراخ/ وطباعة الكتب مثلاً،/ أفكّر بالركاكة التي تحدث حين أنام/ تاركة العالم لأوهامه/ ربّما تخطئ الطائرات في القصف، أو لأقل سيتّفق/ المتحاربون على هدنة،/ سيستغلّون نومي في شتائم منخفضة الصوت/ أو لأتخيّل مثلاً أنّني سأستيقظ في الصباح لأقول إنّني متعبة/ فقط…/ كوني لا أعرف بِمَ أجيب حبيبي عن سؤاله الساذج: أما زلتِ/ تحبّين شرب القهوة وحيدة؟!/ حبيبي الذي لا يفهم أنّني أتشارك القهوة مع صور القتلى في/ الشوارع وعلى أعمدة الإنارة،/ حبيبي الذي يُصرّ على نعتي بالمرأة المترفة./ وأنا أكرهك، يا حبيبي/ كما أكره الأوراق/ والأقلام/ دفاتر التلوين/ أصحاب دور النشر/ كلّ ذلك/ وأريد أن يهدأ هذه الضجيج حولي/ لأكفّ عن الموت).
تُمعن هنادي في اختراق التابوهات. تذكّرنا بالإلهات القديمة، وبالخصوبة المقدّسة، تُشير إلى ذكوريّة الحروبِ، وتنبّه إلى الأنثى الراهنة المغايرة التي تنْشِدُ العاصفةَ؛ التجربة: (سأنجب طفلاً، ليس الأمر بتلك الصعوبة/ أعجن التراب بدمي،/ أنفخ عليه من روحي،/ وأطلقه./ سيكون هشّاً لا يحبّ الحروب،/ لكنّه سيحبّ كثيراً من النساء،/ سوف ينادي الموتى جميعاً: يا أمّي/ لكنّ طفلي المولود من العدم/ سوف يُنجب أطفالاً خضراً،/ عيونهم على التجربة/ وأقدامهم في العاصفة.)

المرأة/الأم، رمز الحنان والعطاء والسلام، لا تقابل القسوة بالقسوة، ولا الحرب بالحرب، هي ليليت ربّة المهد، حارسة الأطفال، تهدهدهم، وتغنّي لهم لتبعد شبح ظلام الليل/الشرّ. ليليت لم تنجب! وهنادي لم تنجب! إنّما هي غريزة الأمومة تجري في دمها، كما تجري دماء ليليت. اليوم، وقد استفحل الشرّ/الحرب، في الليل والنهار، فتقرّر هنادي أن تغنّي للحرب: (سوف أُنشد للحرب أُنشودة/ وأنا أضمّها إلى صدري كما يُضمُّ الرضيع./ سوف أهدهدها حتّى تنام/ سوف أغنّي لها مثل أرملة/ وضعت للتوّ طفلاً معوّقاً./ سوف أغنّي للحرب بصوت الناي المتكسّر:/ نامي، ياحرب،/ نامي ولا تكبري!).
هنا، تتجلّى الأنثى/المرأة بكلّ صورها، المرأة/الأمّ المدجّجة بثقافة مجتمعيّة ذكوريّة، تضطهد غير واعية بنات جنسها/ابنتها (لأن الذكور احتكروا المعرفة لقرون طويلة). هذه المرأة، تحيلنا إلى مقولة سيمون دو بوفوار في كتابها (الجنس الآخر): “لا يولد المرء امرأة، بل يصير كذلك”. صيّرت البطريركية الأنثى امرأةً، كائناً دونيّاً هشّاً وفارغاً، مكمناً للشرّ أحياناً! يجب إقصاؤه. بالمقابل، تحضر الأنثى المتحرّرة، مثل عاصفة، إنّما ما تأثير العاصفة الخلّاقة إزاء ما تفعله الحرب المدمّرة؟! تكثّف هنادي وتختزل، تواري وتكشف، تفضح المفارقات، بلغة بسيطة عذبة، وحزن شفيف، فلنتأمّل: (كنتِ تخجلين بي/ كما لو أنّني ندبة في خدّك الأيمن/ وحين تموتين،/ سيسقط اسمي من ورقة نعيك،/ كما لو أنّني مكتومة القيد:/ البنت الشاعرة التي أشرعت قلبها للمسافرين/ ونفخت في الريح،/ وصدّع صوتُها جدار العائلة./ سوف تمضين من دون أن تلحظي التشابه بين صوتينا، وأنّي ورثت صندوق عرسك الخشبيّ،/ ولسوء الحظّ والحرب،/ لم أخبّيء فيه ثياباً وفساتين/ لعروس حلمت أن أبدو على شاكلتها./ صندوق عرسك الخشبيّ/ غدا تابوتاً لعشّاقي الذين قضوا في الحرب).
أوهنت الحرب الناس، ممن لا ناقة لهم فيها أو جمل، وأعجزتهم؟! بينهم هنادي زرقه. لكنّ هنادي ما تزال تقاوم الهزيمة، بكتابة الشعر وصنع الجمال.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

المساكنة في سوريا… اختبار لنجاح الزواج أم عصيان اجتماعي؟

المساكنة في سوريا… اختبار لنجاح الزواج أم عصيان اجتماعي؟

تتقاسم مرام (28 عاماً) ويزن (25 عاماً) أجرة المنزل والمصروف والفراش أيضاً، كأي زوجين، إنما دون عقد زواج أو عرس وتقاليد عائلية، إذ دفعت الرغبة باكتشاف الشريك جنسياً وحياتياً قبل الارتباط رسمياً بمرام لخوض تجربة المساكنة مع يزن الذي ترك منزل عائلته لمشاطرتها هذه التجربة، إضافة إلى رغبة الشريكين بقضاء أطول وقت معاً تحت سقف واحد، بعيداً عن أغلال المؤسسة الزوجية والقيود الدينية.

عن رأيها بتجربة المساكنة تقول مرام “تتيح لي فرصة التعرف على يزن عن قرب دون تصنع، واكتشاف عاداته اليومية بدءاً من الأكل والشرب والنوم وصولاً إلى أدق التفاصيل الحميمية، فالرضا الجنسي وتقبل عادات الشريك من شأنه أن يفضي إلى زواج ناجح”. وأضافت: “تظهر المساكنة لي حقيقته التي لا يمكنني اكتشافها في الساعات القليلة التي سأقضيها معه خارج إطار المساكنة، فغالباً ما يقدم الطرف نفسه للآخر في العلاقات الأخرى بأبهى حلة وبصورة مثالية تكون منسلخة عن الحقيقة التي تبدأ بالتكشف تدريجياً بعد الزواج”.

وترفض الشابة النظرة السلبية العامة للمساكنة بوصفها علاقة عابرة لإشباع الجوع العاطفي والجنسي بين رجل وامرأة، فهي ترى أن الكثير من علاقات المساكنة يتسم بالجدية والالتزام الكلي مع الشريك “ربما أكثر مما يحققه عقد الزواج الرسمي، شريطة توفر الوعي والنضج بين الشريكين” بحسب تعبيرها. وتعتبر مرام أن المساكنة تمهد لزواج ناجح وبناء أسرة، وهي خطوة لتجنب الطلاق وتقول: “عقد الزواج لا يعني بالضرورة أن تلتزم بشريكك والإخلاص له عاطفياً وجنسياً، بل أحيانا يكون العكس، فهو يبيح للرجل الخيانة انطلاقاً من حقه بتعدد العلاقات شرط أن يعود في الليل إلى فراش الزوجية، والالتزام بمصروف المنزل وأعبائه المادية”.

ويتفق يزن مع مرام في نظرتها للمساكنة، ويصف علاقته بها بـ”المتينة، المدفوعة بالحب والاكتفاء بها عاطفياً وجنسياً، والالتزام الطوعي، وليس القسري المتجسد بورقة هزيلة تسمى الزواج”، ويضيف يزن “برأيي تمثل المساكنة منتهى الالتزام لأية علاقة حب بين شخصين يتقاسمان الحياة بكافة تفاصيلها وأعبائها المادية، وبقاؤنا معاً ناجم عن قرارنا الشخصي، ورغبة باكتشاف طباع وعادات بعضنا إلى حين اتخاذ قرار الزواج لاحقا بشكل رسمي وفي الوقت المناسب”.

وتفضل مرام أن تُقبل على هذه الخطوة عند التأكد من نجاح تجربة المساكنة، وعندما يفكر الشريكان بإنجاب طفل، عندها يصبح الزواج ضرورة لئلا يوصم بالعار، وليتمكنا من تسجيله بشكل قانوني دون مشاكل.

ورغم مناهضة العديد لظاهرة المساكنة بوصفها “فكرة غربية مستوردة تعتدي على المنظومة الاجتماعية والدينية”، يجدها آخرون ظاهرة مثيرة للتجربة تستحق القفز فوق أسوار المجتمع وكسر محرماته، أو صيغة تعايشية مؤقتة بين شخصين متحابين تقف الفروقات الطائفية حائلاً أمام زواجهما، بفعل الخضوع لقوانين العشيرة والقبيلة والملة المنتميين لها، كما أن هناك من اختارها نتيجة عجزه عن تسديد تكاليف الزواج المرهقة.

كما حدث مع رام (اسم مستعار)، الذي فضل عرض حبيبته بالمساكنة، على فكرة الزواج التي كانت بمثابة مخاطرة اجتماعية فادحة لا يمكن الإقدام عليها. يقول رام “كان من الصعب جداً التفكير بالزواج، فوضعي المادي لم يكن يسمح بتحمل نفقاته ومستلزماته أو حتى فرصة امتلاك منزل نظراً لغلاء المعيشة ومتطلبات الحياة، كما أن مستقبل البلاد كان مجهولاً لا يمكن التنبوء به، ولا يشجع على تأسيس عائلة وإنجاب أطفال، ناهيك عن ارتفاع منسوب عدم الأمان والاستقرار”، لا يخفي الشاب أن الاختلاف الطائفي كان له أثر كبير في دفع العلاقة تلقائياً للسير نحو المساكنة نظراً لانتماء الطرفين إلى طائفتين مختلفتين يجعل الزواج بينهما معركة اجتماعية صعبة.

يروي رام: “لم يكن أهلنا ليقبلوا بزواجنا أومباركته باعتبارها تنتمي للطائفة الدرزية وأنا علوي، فكلا عائلتينا تمتلك من التعصب ما يكفي لنبذنا ومقاطعتنا وربما يصل حد القتل”، وأفسح انتقال رام من حمص للعيش في دمشق له المجال لاختبار هذا النوع من التجارب، بعيداً عن أعين الأهل. ويضيف: “علاقتنا مع الجيران كانت في غاية الرسمية، فلم نواجه المشاكل ولا أية تدخلات من قبلهم، حتى أننا لم نضطر لتقديم أنفسنا لهم بصفة زوجين حديثي الزواج، فمجتمع المدينة يعد أكثر انفتاحاً مقارنة بالريف الذي يتسم بصغر مجتمعه ما يجعل العلاقات الاجتماعية مفتوحة ومكشوفة دون مراعاة للخصوصية، مما أتاح لنا الفرصة لخوض هذه التجربة دون مخاوف”.

أما فرح فقد اتخذت من المساكنة طريقاً نحو الزواج، وهي ترى أن “شخصية الشريك لا يمكن تعريتها وكشفها إلا عبر السكن معه، شرط أن لا تتجاوز مدة المساكنة أكثر من عام خوفاً من إفساد العلاقة وإصابتها بالجمود” كما حصل معها وعن تجربتها تقول: “وصلنا إلى مرحلة الإشباع من النهم العاطفي والمعرفي والفضولي والجسدي بعد خمس سنوات من المساكنة، التي تضع شريكك عارياً أمامك دون أقنعة أو مساحيق تجميل، فتشاهد عريه ومعدنه وندوبه وصفاته وأخطاءه وأسراره التي يخشى عليها من البوح، فبات كل منا يحفظ الآخر عن ظهر قلب، كما تسلل الجمود إلى العلاقة ولم يعد أمامنا سوى السير نحو الزواج كثمرة ناضجة للعلاقة”.

من جهة ثانية لم تكن المساكنة بالنسبة لزين (اسم مستعار) تتجاوز مسألة ممارسة العلاقة الجنسية، التي قد تصبح فرصة لاختبار مدى نجاح العلاقة، للتأكد من صوابية الدخول في علاقة طويلة الأمد. عن هذا يقول زين: “كنا مختلفي الطباع والعادات اليومية، لذلك لم تتوج علاقتنا بالزواج، ففي المساكنة تكتشف تفاصيل الشريك، وإذا لم يوجد انسجام يكون الانسحاب من العلاقة أقل كلفة للطرفين منه في حالة الزواج ووجود أطفال”.

ويعتقد يوسف أن الحرب تركت الباب موارباً لعلاقات المساكنة وشجعت الشباب على الدخول فيها، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي حلت بالبلاد وإنعدام فرص العمل، ويقول “لم أخض تجربة المساكنة، لكنني أؤيدها من حيث المبدأ، لاسيما أن قرار الزواج في ظروف البلد بات أمراً مكلفاً للشاب السوري، فشراء منزل في منطقة عشوائية لا يقل عن 6 ملايين ، علاوة عن تكاليف الزفاف والذهب الذي لا يقلان عن مليوني ليرة سورية”.

لكن سحر تختلف مع يوسف وترى أن المرأة هي الخاسر الأكبر من هذه العلاقة، “التي غالباً ما تكلل بالفشل، وبوصمة عار تلاحقها مدى الحياة، في ظل مجتمع تسيره العادات والأعراف الاجتماعية وعقلية ذكورية سادية” بحسب قولها. فالمساكنة برأيها تعفي الشاب من التزاماته تجاه المرأة، وتفسح له المجال إلى هجرها في الوقت الذي يحلو له، عدا عن السمعة السيئة التي ستلازمها وتحرمها من فرص الزواج.

تناقض النص القانوني

لم يتطرق القانون السوري لموضوع المساكنة بشكل مباشر، فلا تتناول نصوصه موضوع العيش المشترك بين المرأة والرجل وإقامة علاقة جنسية تحت سقف واحد دون رابط عقد الزواج. وبينما يسمح قانون العقوبات بالحرية الجنسية للرجل والمرأة العازبين وهو من ضمن الحقوق الشخصية التي يصونها الدستور، إلا أن القانون أحياناً يعتبر المساكنة جريمة يعاقب عليها تحت اسم الزنا، ويعتبرها من الجنح المخلة بآداب الأسرة. فبحسب المادة 473 من قانون العقوبات السوري، تعاقب المرأة الزانية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين، ويقضى بالعقوبة نفسها على شريك الزانية إذا كان متزوجاً، وإلا فالحبس من شهر إلى سنة.

ولا يوجد في القانون ما يسمى مساكنة لكن يوجد عقود زواج “خارجية” تعتبر نوعاً من أنواع المساكنة والعرف يقرها، فليس هناك أية مادة تمنع أو تعاقب المساكنة بين اثنين دون زواج شرعي، ولا يمكن اعتبارها تحت جرم الزنا إلا إذا تم الإبلاغ عنها للسلطات المختصة التي تقوم باستدعاء الطرفين ودفعهما غالباً إلى إجراء عقد زواج نظامي. ففي حال التبليغ على الشاب والفتاة من قبل الجيران والقبض عليهما وهما يمارسان الجنس، يعاقبان من قبل القانون بالحبس إذا لم توجد ورقة زواج عرفي، أما في حال وجود هذه الورقة، يثبت القاضي زواجهما آخذاً بعين الاعتبار أنها ستصبح زوجته، مع الإشارة إلى أنه في حالة القبض عليهما بسبب وجودهما في المنزل نفسه دون ممارسة الجنس لا يحق للقاضي محاسبتهما، لأنه من الممكن أن تربطهما علاقة عمل أو أي علاقة أخرى غير الجنس والحب.

وسواء مورست المساكنة بصورة  سرية أو علنية، يبدو أنها بدأت بفرض نفسها في المجتمع السوري، فهل ستصبح المساكنة شكلاً قانونياً منظماً أو يتم التعامي عن أسبابها ونتائجها والاكتفاء بإدانتها باعتبارها مستوردة من الغرب؟

المرأة السورية في السينما والمسرح

المرأة السورية في السينما والمسرح

لطالما اهتمت الدراسات ببحث الدور التغييري للفن في المجتمع أكثر من اهتمامها بالتطرق لمحاربة هذا الفن ذاته بمختلف السبل، وإذا ما بحثنا على محركات البحث الالكترونية عن هذا الموضوع سنجد هذه النتيجة بسهولة. لم يكن الفن يوماً إلا اشكالياً شكلاً ومضموناً، وبالتالي فالمشتغلون بالفن (الفنانون/الفنانات) لهم حيواتهم/ن الخاصة وأساليب عيشهم/ن المختلفة التي يمليها ابداعهم/ن الفني، ومن الصعب انصياع الفنان/ة لكل العادات والتقاليد والنظم والقوانين التي لا تكفل حرية الإبداع ونشر الأفكار. هذا الإشكال بين الفن والمجتمع وجد في كل زمان ومكان، فكيف الحال في البلدان العربية التي يخضع أغلبها لشرائع إسلامية صارمة لطالما حاربت الفن ومجتمعات مقيدة بما تنص هذه الشرائع. هذا الوضع يجعل هوامش التعبير التي تملكها الفنانات النسويات ضيقة خاصةً ضمن هيمنة ذكورية مجتمعية تخصهن بالنصيب الأكبر من المضايقات وتكبيل الحريات.

النساء السوريات في السينما
لم تُهمش المرأة في مضامين السينما السورية، بل كان لها وضع معقد كوضعها الإجتماعي تماماً، فهناك من المخرجين من قدمها على شكل جسد وهذا أسوأ ما تم طرحه، وهناك من أعطاها دوراً ثانوياُ إلى جانب البطل الرجل، ومنهم من قدمها بصورة وردية مزيفة في مجتمعها. والقليل من المخرجين من قدم صورة حقيقية وعميقة عن المرأة وتناول قضاياها، ومن أهمهم المخرجة أمل حنا وواحة الراهب وأسامة محمد ومحمد ملص. ولكن تبقى هذه الأعمال تمثل حالات فردية كان لها همها الجدي بالطبع، إلا أنه لم يمر في تاريخ سورية مشروع سينمائي مدروس أو متبنى من جهة منتجة لأعمال تُعنى بوضع المرأة السورية بما يتعلق بحقوقها وواقعها العام وعالمها السيسيولوجي الهام. لذا احتاجت صورة المرأة في السينما السورية لاهتمام أكبر من المخرجين والكتاب الذين بدورهم كانوا على الأغلب رجالاً ولم يستطيعوا التعبير عن واقع النساء كما يجب. وعلى الصعيد المهني، لم تكف المحاولات النسائية عن السعي لقيادة العمل السينمائي السوري (الإخراج)، إلا أنّ النسبة كانت ضئيلة جداً مقارنةً مع الرجل وأغلبهن انكفأن وانتقلن إلى العمل في التلفزيون حيث تكررت المعاناة ذاتها، مع بعض التسهيلات لأنه لا يوازي أهمية فن السينما. وفي الفترة الراهنة الحساسة لم يتحسن حال المرأة السورية في السينما، بل زاد سوءاً في الداخل السوري بسبب توجيه أغلب الأعمال السينمائية لخدمة ايديولوجيات معينة تهم النظام الحاكم، ويبقى التعويل على ما ينتجه وسينتجه المخرجين والمخرجات في الخارج أو الذين يحصلون على منح إخراجية من منظمات ومؤسسات دولية والتي للأسف يقل ويندر تداولها إعلامياً وبالتالي يبقى تأثيرها ودورها في التغيير محدوداً.

النساء السوريات في المسرح
لم يكن حال مضامين المسرح السوري بأفضل من مثيلتها في السينما لأسباب أكثر تعقيداً، فالدراسات في المنطقة العربية حول أزمة المسرح لم ولن تتوقف. ويبقى التساؤل ذاته يطارد المسرح العربي ومنه المسرح السوري دون نتيجة نهائية حتى الآن. فمن البديهي أن تعاني المضامين المطروحة في المسرح من أزمة أيضاً، فأغلب المخرجين في سورية اعتمدوا على الاقتباس والإعداد عن نصوص عالمية، وبعضهم من غيّر المصطلح لـ(دراماتورجيا) اعتباطياً دون دراسة. ويحتاج حال المرأة في سورية لنصوص تُكتب من قبل الكتّاب السوريين والسوريات أنفسهم، لذلك فإن النص المسرحي السوري وبالتالي العرض المسرحي السوري يفتقد إلى معالجة عميقة ومحلية لقضايا المرأة باستثناء بعض التجارب النادرة التي كان روادها نساء عملوا في الإخراج السينمائي كالمخرجة نائلة الأطرش ومها الصالح، اللتان حاولتا تقديم المرأة بصورة مختلفة عن المطروق والنمطي. وعلى الرغم من عدم تناول مواضيع تخص المرأة في المسرح إلا أنها اقتحمت بقوة هذا العالم كعاملة فيه، وهذا شأن له أهميته الكبيرة÷ فقد ظهرت نصوص مسرحية تتحدث عن قضايا متعددة كتبتها خريجات المعهد العالي للفنون المسرحية/قسم الدراسات المسرحية (قسم النقد المسرحي سابقاً) وما زلن، وتحتفظ مكتبة المعهد بغالبية هذه النصوص. كما أنه لا يقل عدد خريجات المعهد العالي/قسم التمثيل عن عدد الخريجين وأغلبهن يمثلن ويعملن في المسرح، ولنا أمل أن يلامسن قضايا نسوية مهمة. ورغم أن النص المسرحي والعرض المسرحي المدعوم من جهات خاصة هو الأقل ظهوراً ورواجاً إلا أنه ربما يُعنى بقضايا المرأة أكثر مما يقدمه المسرح المحلي حالياً في الداخل السوري. فعلى سبيل المثال، يطغى اليوم على المسرحيات المدعومة من مديرية المسارح والموسيقى تمثيل المرأة على أنها أم الشهداء الحزينة والمستكينة دون مساس بعوالمها المختلفة (أنثى/عاملة/مفكرة). يتم هذا التمثيل لخدمة الرؤى التي تريدها هذه المؤسسة الرسمية. ومن الاستثناءات في المشهد المسرحي السوري، حصول مسرحيتين لشابتين سوريتين (إحداهما بعنوان “كحل عربي” والأخرى بعنوان “عزلة”) على منحتين من قبل اتجاهات ثقافة مستقلة عام 2017. تغوص المسرحيتان في عمق عالم المرأة السورية اليوم. ونأمل ظهور نصوص وعروض أخرى مشابهة في المستقبل القريب.
وبالعودة إلى ما بدأنا به عن مواجهة المجتمع للفن، يحضرنا سؤال مهم، كيف يمكن أن يكون للفنانة السورية دور تغييري وهي مُحاربة على مختلف الصعد؟ فمن المعروف أنه لم يكن من السهل انخراط الإنسان السوري في الفن كمسرح وسينما، ولا يغيب عن المشهد السوري حرق مسرح القباني في أوائل الثمانينات. ودائماً ما عانت المرأة من مضايقات ونبذ وقلة تقدير عند انخراطها في الوسط الفني، وما زالت تعاني من الاستخفاف بقدراتها وتحديد أدوارها واستغلالها من قبل العقلية المتخلفة المهيمنة حتى الآن على الوسط الفني والعاملين فيه. وشكلت الفنانات سنة 2011 جزءاً من المجتمع السوري الذي انتفض ضد الديكتاتورية. وكان هم الفنانات الثائرات الاحتجاج على الآليات الفكرية التي تمنعهن من ممارسة حقوقهن والتعبير عن آرائهن. بعد 7 سنوات من هذه الثورة، يمكن الجدل إن كانت النتيجة مفائلة أو مخيبة للآمال، ولكن رغم عدم حدوث تغيير كبير في واقع السينمائيات والمسرحيات، إلا أنه يجب احترام تحديهن للمجتمع عبر الفن ونشر الأفكار التي تشجع على التمرد والثورة على كل النظم الاستبدادية والإقصائية.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

حب في زمن الماسنجر

حب في زمن الماسنجر

لجأت لانا 25 عاماً مع عائلتها إلى السويد قبل أربع سنوات تقريباً وبعد انتقالهم إلى هناك بدأت معاناة لانا مع الحياة الاجتماعية، فليس هناك من أصدقاء أو أقرباء، وبعد أن قطعت شوطاً طويلاً في تعلم اللغة بدأت باستخدام تطبيق تيندر\Tinder. كان هدفها من ذلك في البداية التعرف إلى أصدقاء جدد، لكن الصدف قادتها إلى التعرف على أليكس الشاب السويدي؛ فنشأت بينهما قصة حب تكللت بالزواج. تقول لانا: “لم أتوقع يوماً أن أجد شريك حياتي عبر تيندر\Tinder، حين كنت في سورية كانت لدي خيارات مختلفة للبحث عن الحب”.
استخدام تطبيقات كـ تيندر\Tinder وغيره يبدو شائعاً في أوروبا ويعتبر من تطبيقات المواعدة الأكثر رواجاً، يضع المشترك فيه صورته ومعلوماته الشخصية وبإمكانه الوصول إلى الآخرين عبر صورهم الشخصية؛ فيكفي أن تقلب إلى اليمين لتُعبر للشخص عن إعجابك به وإلى اليسار عندما لا يثير اهتمامك. إذا قمت أنت وصاحب الحساب الآخر بالإعجاب ببعضكما البعض، سوف يفضح تيندر\Tinder الخبر السعيد للطرفين حيث ستستقبلا إشعاراً عبر التطبيق، وستصبح قادراً على بدء التحدث معه عن طريق خاصية الرسائل.

لكن هذا التطبيق غير رائج في سوريا فبعد إجراء استطلاع للرأي شمل مجموعة من الفتيات والسيدات أظهرت نتائجه قلة عدد مستخدمات التطبيق، بل إن العديد ممن استطلعنا آراؤهن ليس لديهن أي فكرة عن التطبيق. قبل عام تقريباً بدأت (سلمى 26 عاماً تُقيم في دمشق) باستخدام تطبيق تيندر\Tinder بعد أن أخذت بنصيحة إحدى الصديقات في النرويج لكنها لم توفق في ذلك. لم تجد سلمى الكثير من الشباب في الداخل السوري على التطبيق؛ فتعرفت على بعض المقيمين في لبنان كما تعرفت على لبنانيين، لكن أكثر ما اثار استيائها أن معظم هؤلاء أرادوا الحديث في مواضيع الجنس أو ممارسة الجنس عبر الانترنت، وهذا ما لم تكن تسعى إليه فقررت إلغاء استخدامها للتطبيق. تقول سلمى: “في البداية كنت مستمتعة بهذا العالم الافتراضي الممتع، التعرف إلى أشخاص جدد أمر مسلي للغاية كنت أستخدم التطبيق يومياً، لكن بعد قرابة الشهرين بدأت اسأم من الأمر فبدأت باستخدامه مرتين أسبوعياً في أحسن الأحوال، وفي النهاية حذفت التطبيق عن هاتفي النقال وتوقفت عن استخدامه، كل ما يفكرون به هو الجنس ولا شيء آخر”.

في المقابل هناك طرق أخرى للتعارف الإلكتروني في سوريا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المسنجر والسكايب التي تحولت إلى وسيلة مهمة للبحث عن شريك الحياة وخاصة بعد سفر العديد من الشبان إلى خارج سوريا وصعوبة اللقاء بهم على أرض الواقع. لكن ورغم ما توفره هذه الوسائل من فرصة للتعرف على آراء الأشخاص وأفكارهم وتوجهاتهم نحو قضايا معينة والخوض في نقاشات طويلة للتعرف على شخصية الطرف الآخر، إلا انها في بعض الأوقات تتحول إلى مشكلة؛ فلا يمكن لها أن توصل المشاعر كما هي، ومن الممكن أن تتحول إلى حاجز بين الأشخاص في بعض الأحيان.
تعرفت رشا على خطيبها عبر الفيسبوك قبل فترة قصيرة من سفره إلى تركيا. وكان المسنجر وسيلة جيدة لمعرفة آراء بعضهما البعض، لكن رغم تفاهمهما بقيت لدى رشا مخاوف تتعلق بالتواصل الشخصي، وخاصة أنهما لا يستطيعان اللقاء لم تنجح حتى الآن بالحصول على فيزا لتتمكن من لقاءه. يحاول خطيب رشا إقناعها اليوم بالقيام بـ”كتب الكتاب”عن بعد عبر الإنترنت، كالكثير من الناس، لكنها مصرة على أن يلتقوا قبل القيام بهذه الخطوة، تقول رشا: “أريد فقط أن أشعر بشيء واحد عن قرب، أختبر مشاعري عن قرب، لأن الإنترنت والتواصل عبر التشات والسكايب مهما بلغ من تطور لن يعوض عن الالتقاء”.

علاقات أخرى كتب لها النجاح عبر الفيسبوك وتكللت بعقد القران عبر السكايب؛ فآلاء مثلاً تعرفت على علي عن طريق الفيسبوك، ورغم أنهما كانا زملاء في نفس الجامعة إلا أنهما لم يلتقيا يوماً إلا عبر الشاشة الزرقاء. تطورت علاقتهما يوماً بعد يوم لتتم الخطوبة عبر السكايب وبعد عدة أشهر ذهبت آلاء إلى لبنان ليتم عقد القران هناك والزواج فوراً. تصف آلاء العلاقة عبر فيسبوك بالصعبة نوعاً ما، فمن جهة كان فرصة مهمة للتعرف على أفكار الطرفين وآرائهما، ومن جهة أخرى لا يوصل الانترنت المشاعر الحقيقية كما هي، فتزدهر مشاكل صغيرة لتتحول إلى شجارات سببها سوء تفاهم. لكن آلاء لا تبدو نادمة أبداً على هذه التجربة رغم صعوبة الفترة الأولى من اللقاء في الواقع الحقيقي لكنهما تمكنا من تخطي كل ذلك بالاحترام والتفاهم والصبر. تضحك آلاء مضيفة: “أكثر ما صدمني في البداية طريقة تناوله للطعام لا يظهر الانترنت كل شيء على حقيقته لكنني تقبلت الأمر فيما بعد”.

أخيراً تجدر الإشارة إلى انتشار ظاهرة الخَطابّات عبر الفيسبوك حيث انتشرت صفحات تُقدّم عبرها عروض الزواج عبر وسيط، بعضها تعرض خدماتها بأسعار بسيطة لكن بعضها الآخر تتقاضى مبالغ كبيرة لإيجاد عريس أو عروس وفق مواصفات الراغبين بالزواج والذين لم يوفقوا بإيجاد شريك الحياة على أرض الواقع. كما تنتشر هذه الظاهرة أيضاً على مجموعات الفيسبوك الخاصة بالنساء وعروض الزواج، فإحداهن تبحث عن عروس لأخيها وأخرى تبحث عن عريس لصديقتها وتضع كل منهما شروط الخاطب المطلوب توافرها في الشريك المنتظر وتطلب ممن تجد في نفسها الشروط اللازمة أن تكلمها على الخاص عله يتم النصيب.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

 

 

 

نساء البشتون السوريات

نساء البشتون السوريات

في أنطولوجيا شعرية قرأت هذه العبارة عن نساء قبائل البشتون في أفغانستان “نساء البشتون لا ينتحرن بالرصاص، ولا بشنق النفس، فالسلاح والحبال من أدوات الرجال، وأجسادهن لا تجد راحة إلا في أعماق الأنهار: قفزة واحدة إلى الهاوية ويُغرق الماء كل الأحزان والرغبات.” وإن كان ينطبق ذلك على النساء البشتونيات في أفغانستان، فهو ينطبق على الكثير من المجتمعات النسوية في الشرق عموماً، وحتى على النساء اللواتي هربن من الحروب والتخلف والعادات الرجعية في بلدانهن لتلجأن إلى بلدانٍ أخرى أكثر انفتاحاً وحرية أيضاً.

ففي هذا العام قام لاجئ سوري في ألمانيا بقتل طليقته طعناً بالسكين لأسبابٍ يراها وجيهة ومحقة متعلقة بالشرف، رغم أنها كانت طليقته لا زوجته، ماتت طعناً بالسكين غارقة بدماءها على يد رجلٍ كان زوجها في يوم من الأيام وأباً لأطفالها.
ولو قُدّر لها أن تكون في بلدها سوريا لربما لم تستطع أن تقدم على الطلاق الذي يكلف في بلداننا غالياً، كالتهديد بحرمان المرأة من أطفالها، ناهيك عن نظرة العائلة والمجتمع التي تكبّل المرأة المطلقة بآلاف القيود.

أجل لو كانت المرأة السورية التي قتلها طليقها في ألمانيا طعناً بالسكين في سوريا، لربما هي من أقدمت على قتل نفسها كما تفعل النساء البشتونيات، أو كما فعلت قريبةٌ لي، لم تتحمل الظروف القاسية بعد ولادتها بطفلتها، فقامت برمي نفسها في نهر في إحدى المدن التركية واضعةً بذلك حداً لمعاناتها.

بعض النساء بعد وصولهن لألمانيا رمين خواتم زواجهن في نهر الراين لينهينّ بذلك سنواتٍ طويلةٍ من المعاناة مع زوجٍ لم يستطع يوماً أن يكون شريكاً حقيقياً. نساءٌ كثيراتٌ بعد وصولهن إلى البلدان الأوربية، استطعن أن يتنفسن أخيراً، أن يتخلصن من أنقاض حياتهن التي أثقلت أرواحهن بأحمال لا طاقة لهن على تحملها، فهن لم تعدن أسيرات المجتمع والحالة الاقتصادية التي تجبرهن على تقاسم الحياة مع رجالٍ يحولون أدنى مطالبة لهن بحق من حقوقهن إلى جحيم.

حالات الطلاق في المحاكم الألمانية التي تُقدم من قبل النساء السوريات تشير إلى معدلٍ مرتفعٍ نوعاً ما، خاصةً وأنّ هذه الحالات تُقدّم من قبل المرأة لا الرجل، وهو يعود برأيي لسببٍ جوهريٍ واحد: عدم القدرة والرغبة في دفع المزيد من الأثمان لقاء حياةٍ بائسةٍ لا تقدم لهن شيئاً سوى الأسى. وليس كما يزعم أنصار المجتمع الذكوري ويروجون له على أنّ تزايد طلبات الطلاق نتيجة انفلات أخلاقي.

إلى جانب هؤلاء النساء القادرات على اتخاذ قرار الطلاق والبدء من جديد، لا تزال آلاف النساء، رغم المجتمع المفتوح والإمكانات والدعم المتوفر لهن، غير قادراتٍ على اتخاذ قرار الطلاق أو التحدي ومواجهة السلطة الذكورية التي يفرضها الزوج والمجتمع. فحتى في ألمانيا تتعرض النساء للعنف الزوجي والتمييز وضغوط العائلة، وهو ما يمنعهن من مواجهة المعركة التي سيخضنها في سبيل أن يكن أكثر حرية وتقديراً للذات.

وإذا كنا لا نغفل أهمية عامل الجغرافيا والمكان في قضية تحرر المرأة وحصولها على دعم أكثر في المجتمعات الأوربية مما يمكنها من القدرة على المطالبة بحقوقها، فإنه ليس حاسماً دائماً. فالإرث الاجتماعي الذي تحمله المرأة معها منذ الطفولة، والمتعلق بالتغاضي المستمر عن حقوقها والعنف الذي يمارس بحقها وصمتها لأجل الأطفال وسمعة العائلة، لا يمحيه وجودها في دولةٍ أوروبية تدعم النساء وتضع أمامهن فرص وخيارات أكثر إنسانية. وبالتالي، فإنّ موضوع تحرّر المرأة من القيود يتعلق أولاً بالمرأة ذاتها، وبرغباتها، وبقدرتها على كسر حاجز الخوف الداخلي لمواجهة الحياة الجديدة بعيداً عن صراعاتها النفسية مع العائلة والتربية والمجتمع. ولربما هذا ما يجعلني أؤكد أنّ المواجهة الأهم التي يجب أن تدخلها المرأة هي مع ذاتها وإرثها الداخلي الذي يمنعها في الكثير من الأحيان من المطالبة بحقوقها في مجتمعٍ يكفل لها الكثير من الفرص والإمكانات لتكون شريكاً ورفيقاً حقيقياً للرجل، وقبل كل ذلك إنساناً له حقوقه الأساسية التي يجب ألا يتنازل عنها مهما كانت المساومة قاسية وشبيهة بانتحار النساء البشتونيات.

* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات

ملاحظة: الصورة المرافقة للمقال هي عمل للفنانة ديما نشاوي – خاص لصفحة ت متحررة.