عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن سبقه من جهة وميله للتجديد والحداثة ورغبته بربط البلاد بأواصر التقدم واللحاق بركب الحضارة من جهة أخرى.  

فالعجيلي يعد علماً من أعلام الأدب والثقافة، له الريادة في التأسيس والانفتاح على الثقافة العالمية، ولطالما كان التخلف والتأخر الحضاري هاجسه المؤرق لما لهذين الثنائي من نتائج كارثية على مستوى العباد والبلاد، فلا نهضة ولا تحرير ولا عدالة بغياب العلم والثقافة دعامتي الوعي والتقدم الحضاري، لذا تراوح نشاطه بين الرؤى الناقدة للبيئة من عادات وتخلف اجتماعي وبين محاولاته ترسيخ ما يحمله الموروث من قيم إيجابية وعراقة وأصالة فقد عمل على المزاوجة بين العادات الصارمة والأخلاق النبيلة والحذر من رقابة تلك الأعراف بذات الوقت لوعيه بمسؤوليته للنهوض بهذا المجتمع لا أن يكون غريمًا له   وهو الطبيب الرقيق والرفيق بالفقراء والمعوزين.

لقد انتمى جيله إلى موجة أحداث سياسية كبرى تميزت بتنامي التيارات الفكرية والسياسية وقد كان بارزاً في معمعة التحولات الجارية وذلك بربط الكلام بالعمل في انسجام أخلاقه وسلوكه مع ما يكتبه ويقتنع به ويمارسه كالتحاقه بجيش الإنقاذ في فلسطين وتخليه عن مناصب هامة لأجل ذلك ومعاناته مثل الجميع من ثقل النكسة على وجدان الفرد العربي.

جمع عاشق الفرات السياسة مع فطرة البداوة مع استيعابه وانسجامه مع نمط الحياة المدينية لكثرة ما ارتحل وسافر وتعرف على الأمكنة والبلدان، هو الهاوي الأبدي للكتابة على الرغم أنه لم يحترفها بمعنى التفرغ ولم يمارسها إلا في أوقات فراغه ومع ذلك اتسع عالمه ليحاور ويجرب أغلب الأشكال الأدبية إلى جانب مهنته الأساسية كطبيب ومهامه الأخرى التي كلف بها مثل إشغاله مناصب في البرلمان والوزارة فقد جرى تكليفه العام ١٩٦٢ بين شهري نيسان “ابريل” وأيلول “سبتمبر” بثلاث وزارات، الثقافة والإعلام والخارجية.

رحلته مع السرد:

عبد السلام العجيلي حكاء من طراز خاص يكتب بعفوية الفنان دون أن يفكر في أي مكان أو مذهب أدبي سيصنف أو يحتسب، فقد بلغ رصيده من الأعمال الأدبية حوالي أربعة وأربعين كتابًا، وقد ترجم البعض منها إلى اللغات العالمية، ومما يلفت الانتباه قدرته على التنقل بين الأجناس الأدبية إذ نرى نتاجه موزعاً بين الشعر والقصة والرواية والمقالات بالإضافة لأدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية، ويرى محمد أبو معتوق أن العجيلي استطاع «أن يؤسس ملامح السّرد التقليدي ودعائمه في سورية، من قصة ورواية…».

عرف عن طبيب الفقراء التزامه العروبي واعتزازه بقوميته وما مشاركته في حكومة الانفصال إلا محاولة منه لرأب الصدع وتلافي العوائق ولكن القوى المهيمنة كانت أقوى منه وقد ضمن مكابداته تلك في أعماله المتعددة، فالأدب لديه انعكاس تلقائي لأحاسيسه وأفكاره وقد صرح بذلك بما معناه ” أنا أكتب كي أنفث عما يعتمل في أعماقي” فقد كان مهموماً بفكرة الوحدة العربية إبان المد القومي بالمنطقة، لذلك حفرت حادثة الانفصال بين سوريا ومصر آثاراً عميقة في وجدانه ظهرت في روايته “باسمة بين الدموع” التي صدرت بفترة الخمسينات تعرض فيها لمافيات الفساد المهيمنة، وقد اعتمد فيها أسلوب الخطف خلفاً المستعار من السينما بأن يبدأ بنهاية العمل ليتدرج بعدها إلى البدايات، وقد رصد فيها النفاق الاجتماعي والسياسي في المجتمع> وكذلك في رواية “قلوب على الأسلاك” التي صنفت من بين أفضل مئة رواية عربية اشتغل فيها على تقنية الترجيع والاستباق وعبر مشهديات منفصلة بدت كلوحات نصية يترك عبء الربط فيما بينها على عاتق القارئ الحصيف، وقد سمح بذلك أسلوب التداعي للأفكار التي يدرجها البطل في مذكراته، فهو يصور الطبقة المخملية في المجتمع التي ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية المرتحلة بعيني شاب ريفي يأتي إلى العاصمة وهو يكتشف ناسها وأهلها وينتبه لاهتماماتهم التي تتقنع بالشعر والأدب عبر صالونات الثقافة وعبر إطار علاقات عاطفية لبطله التي يوحي العجيلي أنها هدفه من العمل، ولكن يتبدى في ثناياها مواقف تلك الفئة التي تتبوأ المراكز الهامة والمفصلية بالبلد، وتختار بناء تلفريك يربط ساحة الأمويين بجبل قاسيون في العاصمة دمشق، بذات الفترة التي تحتاج البلاد لخطط تنموية أكثر أهمية وتوطيد بنى تحتية تضمن حاجات الشعب وتدعم الاستقرار وعدم التبعية للخارج، وهنا يصور حالة التوتر الذي ساد عقب الانقلاب السياسي الذي  دفع بجمعهم إلى الهروب الكبير، كتعبير عن الفشل والعجز، مما يلخص موقف البرجوازية المحلية غير الحقيقي من مشروع  التحديث والتنمية ومن قضية الوحدة كذلك، حيث الهروب من المركب قبل الغرق واللحاق بمصالحها هو هدفها غير المعلن، وترك الجماهير وقاع المجتمع لتقلبات السياسة الهوجاء.  

تتميز سردياته بالتنوع وغنى الأمكنة التي يتجاور فيها مجتمعا البداوة والحضر بالإضافة لتجاور الأساليب الفنية المختلفة كما ينوع بين الخيال العلمي والواقعية الصرفة ويزاوج بين التوجه للعلم وبين استثمار الطقوس الروحانية والأعراف المتوارثة مروراً بالعجائبي كما في قصة ” العراف”، أو أسلوب القصة داخل قصة كما في قصة “الأحجية”.

وتميز أيضاً بتشريح علاقة الشرقي بالغرب في روايته الأخيرة “أجملهن ” والتي كانت واضحاً فيها التمييز الدقيق بين مفهومي الآخر المتحضر الذي يجب الاستفادة من تقدمه وتطوره وبين المستعمر الذي يمتص خيرات البلاد ويرسخ الجهل والتخلف فيها.

أما في مجال القصة القصيرة فقد عُد أحد روادها في سورية كما صنفه القاص المصري يوسف إدريس وقد اتسمت مجموعته القصصية الأولى “بنت الساحرة” بالواقعية والمباشرة والبساطة باعتماده صوته الشخصي في سرد الأحداث كما عُدت نموذجاً للوعظ الأخلاقي المحافظ، وقد اعترف الكاتب نبيل سليمان في كتابه النقدي اللاذع” الأدب والأيديولوجيا في سورية” بالمستوى الأدبي الرفيع لعبد السلام العجيلي رغم تصنيفه بخانة شواهد الأدب القديم، وأرى هنا من الضروري أن نفهم ونقيم تجربته الأدبية في سياقها الزمني الذي كتبت فيه والتي كانت في باكورة المنجز العربي عمومًا.

كذلك أفرد العجيلي مساحة لأدب الرحلات لكونه كثير الأسفار والتنقلات بين المدن والعواصم وقد نقل تجربته إلى قراءه وألف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: ” دعوة إلى السفر” و ” خـواطر مسافر” و” حكايات من الرحلات.”

وأيضا برع في فن الرسائل الذي كان حاضرًا في قصته (لقاء كـل مساء وثلاث رسائل أدبية) من مجموعة “الخيل والنساء” حين تحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية.

حكايته مع المدينة:

 المكان الأول ” الرقة” تلك المدينة الواقعة على كتف الفرات التي كانت معلماً حاضراً في وجدانه أينما ارتحل وأينما حل، وهي التي ارتبطت باسم العجيلي بشكل بارز وجلي، حيث أواصر الارتباط العالية للأديب بالمدينة وكأن المدينة هو، وكأنه المدينة.

انحدر عبد السلام العجيلي من بيئة بدوية من عشائر البو بدران التي نزحت من الموصل إلى ضفاف الفرات، وقد تخرج طبيبًا من جامعة دمشق واستقر في مدينته الرقة بعد التخرج وافتتح عيادته بها، وهو الذي عشق السفر والترحال عبر أصقاع الأرض ومع ذلك بقي رجوعه إليها دائماً وظل عاشقاً متيماً لمدينته “الرقة” عروس البادية السورية.

 وترجع تسمية الرقة على الغالب بأن الرقة بطائح الماء بعد الفيضان، فيضان النهر أو ما يتبقى منه حين يحل الجزر بعد المد، ومفردها البطيحة أي الرقة، الرقة درة الفرات، والعجيلي الذي سلخ تسعة عقود من الزمن كان جلها فيها لدرجة سميت “رقـة البـدري” وهي كلمة مختصرة من بدوي وحضري، نعم هي الرقة التي لطالما كانت غاوية ومغوية ولطالما قصدها الملوك والشعراء ورجال الفكر والسياسة منذ هارون الرشيد ومن قبله هشام بن عبد الملك وسواهم، وقد قال عنه نزار قباني بأنه: أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء.”

 كان العجيلي صاحب نكتة ونوادر ساخرة وقد انضم إلى “عصبة الساخرين” قديماً، مع المرحـومين عبـاس الحامض، وممتاز الركابي وعبد الغني العطري وسعيد الجزائري. ومع نشأت التغلبي وآخرين، وقد قال في إحدى الكلمات التي ألقاها:” أن الله في الدار الأخرى، لن يحاسب الكتّاب على ما كتبوه وهم أحياء على ظهر البسيطة، بل إنه سوف يحاسبهم على ما لم يكتبوه” في تورية عميقة للرقيب الاجتماعي والسياسي في حجب المخزون الثقافي المختبئ في داخله وكثافة ما يود قوله لو منح مزيداً من العمر فقد عاش حياة مفعمة بالعمل والإبداع، كان مع الناس وللناس في زمن مبكر اتسمت المنطقة بالتخلف وسيطرة الرجعية غداة تحررها من ربقة الاستعمار ولطالما عُد رائداً من رواد النهضة في سورية والوطن العربي فهو الطبيب والأديب والسياسي المفوه الذي اجتمعت القلوب على محبته.

وقد وصف أهل الرقة جنازته “بأنه مات على سروج الخيل” أي كان يعمل ويكتب ويسافر حتى آخر أيامه بكل روح العطاء والإقبال على الحياة ورحل في صحبة الضوء مشعاً وخالداً.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في إبداع الموشح الحلبي المعاصر ذي الهوية السورية والعربية الأصيلة، وجَعَله يرتقي إلى مرتبة الموشح الأندلسي ويكون امتداداً له، ليُشكل  بذلك مدرسة فنية متفردة ومتكاملة في فنون الموشحات ورقص السماح المرافق لغنائها. مدرسةٌ أغنت مكتبة الموسيقى العربية ونشرت إرثها الفني المتنوع في مختلف بلدان الوطن العربي.

ولد البطش في حي الكلاسة/ حلب عام 1885، درس القراءة والكتابة في الكتاتيب، إلى جانب علم الحساب والتجويد، وقد ظهر ميله إلى الفن منذ طفولته، حيث تمكن من حفظ عشرات الموشحات القديمة، وكان يرافق والده وخاله لحضور حلقات الأذكار وسهرات البيوت، التي تُنشد فيها الموشحات والأغاني الصوفية والطربية، ويتردد على الزوايا والتكايا الصوفية ليستمع لعمالقة الطرب وكبار المنشدين، الذين تتلمذ على يدهم، ومن بينهم: الشيخ بكري القصير وأحمد عقيل وصالح الجذبة وأحمد الشعار، وقد تعلم منهم فنون الموشحات وطرق غنائها وعلوم المقامات والإيقاعات والأوزان، بالإضافة لفن رقص السماح.

في عام 1905 التحق البطش في الخدمة العسكرية ضمن الجيش العثماني، ولأنه كان يمتلك موهبة وخبرة موسيقية مميزة ضَمَّه الوالي العثماني إلى الفرقة الموسيقية العسكرية، كعازف ترومبيت وآلات إيقاعية، وقد تعلم خلال ذلك قراءة النوتة الموسيقية ليصبح، في تلك المرحلة، واحداً من الموسيقيين القلائل الذين يجيدون تدوين مؤلفاتهم. وبعد إنهائه للخدمة العسكرية عمل البطش كعازف إيقاع مع الكثير من الفرق الموسيقية والإنشادية في عدد من مسارح حلب وزواياها، ثم بدأ أولى مراحل التلحين ليبرز كواحدٍ من أهم المراجع الموسيقية في حلب، إذ كان يحفظ مئات الموشحات القديمة، ويلمّ بأغلب المقامات والإيقاعات والأوزان الموسيقية الخاصة بالموشحات.  

في عام 1910 إنضم البطش لفرقة الشيخ الحلبي الشهير علي الدرويش كمنشد وعازف إيقاع، ثم سافر بصحبته في عام 1912 إلى العراق في رحلة موسيقية استمرت لعامين، أسسا خلالها بعض الفرق الموسيقية واطلعا على الإرث الموسيقي في المنطقة ونشرا جانباً من التراث الحلبي هناك. وبعد عودته إلى حلب تابع عمله الفني كمنشد وعازف إيقاع مع العديد من الفرق الموسيقية وفرق الإنشاد، إلى جانب عمله في التلحين وفي توثيق التراث الموسيقي الغنائي، حيث ساهم في حفظ وإحياء الكثير من كنوز التراث الحلبي.  

وبالإضافة لتلحين الموشحات كرس البطش حياته في تدريس فنون الموشحات ورقص السماح، سواء في منزله أو في معاهد حلب ومن ثم دمشق، وقد تتلمذ على يده  كبار مطربي ومنشدي حلب، الذين أصبحوا من أعلام الفن وعمالقة الطرب، ومن بينهم: صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري وزهير منيني وبهجت حسان وحسن بصال وغيرهم. وإلى جانب ذلك، تأثَّر العديد من الملحنين والوشاحين العرب بمدرسة البطش ونهلوا من فنونها  الكثير من أساليب وطرق تلحين الموشحات واستخدام أوزانها وإيقاعاتها، وخاصة فنون الموشح الحلبي، ومن بينهم فنان الشعب سيد درويش، الذي يعد من كبار الوشاحين المصريين، كما ساهم البطش أيضاً في تطوير وإغناء عددٍ من موشحات درويش، وذلك من خلال تلحين خانات إضافية لها لتنويع لحنها الأساسي وفق قالب الموشح الحلبي الحديث، فعلى سبيل المثال أضاف البطش لموشح يا شادي الألحان الخانة التي تقول: “هات يا فتان أسمعنا.. نغمة الكردان”، وإلى موشح يا بهجة الروح أضاف خانة: “هات كاس الراح وأسقيني الأقداح”، وإلى موشح العذارى المائسات أضاف خانة: “من ثغورٍ لاعسات ذاق طعم العسل”.

 في منتصف الأربعينيات ومع افتتاح معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، على يد الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات والخمسينيات، انتقل البطش إلى العاصمة، بدعوة من البارودي، ليدرِّس في المعهد فنون الموشحات والمقامات والأوزان ورقص السماح، كما قام بتأسيس فرقة موسيقية وغنائية وفرقة راقصة خاصة برقص السماح، وقد تتلمذ على يده مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أبرز ملحني الموشحات ومدربي رقص السماح في سورية، ومنهم: صباح فخري، عدنان منيني، سعيد فرحات، بهجت حسان، عبد القادر حجار، وعمر العقاد.

مع افتتاح إذاعة حلب عام 1949، استعان القائمون عليها بالشيخ البطش ليقوم بتدريب الفرقة الغنائية التابعة للإذاعة على غناء الموشحات والأدوار وغيرها، وقد ضمت الفرقة، التي سجلت العديد من أعمال البطش، كبار المنشدين والمطربين الحلبيين، مثل: صبري مدلل ومحمد خيري وصباح فخري وعبد القادر حجار ومصطفى ماهر وحسن بصّال.  

انتهج البطش بموهبته المتفردة والمبدعة أسلوباً جديداً ومبتكراً في تلحين الموشحات، وذلك عبر الخروج من وحدة الإيقاع ورتابة اللحن، اللتين كانتا تُثقلا القوالب الموسيقية الغنائية التقليدية، فأغنى قالب الموشح بالكثير من الإضافات والتنويعات الفنية على بنيته اللحنية والشعرية، ليعمل على تطويره وعصرنته كي يتلاءم مع ذائقة العصر الحديث، وليدخل بيوت جميع الناس، وتعشقه أذن المستمع العادي وأذن الموسيقي المحترف على حدٍ سواء. وإلى جانب ذلك ساهم البطش في إحياء الكثير من الموشحات القديمة والتي كانت مهددة بالاندثار، وعمل على تطويرها ومنحها روحاً جديدة بإضافة خانات لحنية عليها، لتغيير مسار ورتابة اللحن الواحد الذي كان يقتصر فقط على الدور.

تميز البطش بكونه مرجعاً هاماً في علم المقامات الموسيقية وفي التعريف بالمقامات النادرة منها، والتي تتطلب مسارات لحنية خاصة لكي تبرز شخصيتها الموسيقية، لذا كان يلجأ لتلحين موشحاتٍ على تلك المقامات لتكون بمثابة وسيلة شرح وإيضاح لها. ومن إحدى الطرائف الشهيرة التي تروى عن البطش عندما التقى بالموسيقار محمد عبد الوهاب الذي زار مدينة حلب في الثلاثينيات، أن عبد الوهاب أراد أن يمتحن البطش بطلبه سماع موشحات على مقام السيكاه الصافي، وهو مقام يناسب الألحان الشعبية، لذا لم يكن مستخدماً في تلحين الموشحات. أخبر البطش عبد الوهاب أنه سيسمعه ما يريد في سهرة اليوم التالي، ولأنه لم يكن يتوفر أي موشح على ذلك المقام، أمضى البطش ليلته في التلحين، فلحن ثلاثة موشحات على مقام السيكاه، وقام في اليوم التالي بتدريب فرقة تخت شرقي وعدد من المغنيين على عزفها وغنائها ليسمعها للموسيقار عبد الوهاب في الموعد المحدد، على أنها موشحات قديمة،  وبذلك فتح البطش الباب أمام الملحنين لتلحين موشحات على ذلك المقام.

كبير الوشاحين العرب

لحَّن البطش خلال مسيرته الفنية نحو 135 موشحاً من عيون الموشحات العربية، تضمنت مختلف أنواع المقامات الموسيقية والإيقاعات والأوزان المركبة، وقد سجل أغلبها لصالح إذاعة حلب بعد افتتاحها، وغناها كبار المطربين والمنشدين السوريين والعرب مثل: محمد خيري، صباح فخري، ومصطفى طاهر، صبري مدلل، حسن الحفار وغيرهم، إلى جانب العديد من الفرق الموسقية السورية والعربية. ومازال المطربون والمغنون يتغنون بموشحاته جيلاً بعد جيل، كونها تضفي قيمة فنية كبيرة لمسيرتهم الفنية، إذ كانت ومازلت تشكل مرجعاً موسيقياً للباحثين في علوم المقامات والإيقاعات، وتُدرَّس في كثير من المعاهد الموسيقية كوسائل إيضاح للتعريف بأنواع المقامات والإيقاعات والأوزان المركبة.

ومن أشهر موشحات البطش: موشح يمر عجباً  وهو على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع المخمس التركي، في الروض أنا شفت الجميل على مقام الحجاز كار كرد، وإيقاع الثريا، هذي المنازل على مقام الراست وإيقاع المخمس المصري، قم يا نديم  على مقام النوا أثر وإيقاع الدارج/ يورك، مُنيتي من رُمتُ قربه  على مقام الراست وإيقاع العويص،  داعي الهوى  على مقام العجم عشيران وإيقاع الشنبر الحلبي، وموشح يا مالكاً مني فؤادي على مقام العجم عشيران وإيقاع السماعي الثقيل والرقصان.

ومن أبرز موشحاته على مقام اليكاه: موشح صاحِ قُم لِلحان هيا  الإيقاع: فرنكجين تركي، موشح مُفرِدُ الحُسن المُبين الإيقاع: الطرّة، موشح حُسنك النشوان والكأس الروية  الإيقاع: سماعي ثقيل، موشح مُبرقع الجمال  الإيقاع: دارج يورك، وموشح بلبلٌ في الروض غنى الإيقاع: المُحجر.

ومن موشحاته على مقام النهاوند:  موشح  سُبحان من صور   الإيقاع: سماعي ثقيل،  يا ناعس الأجفان الإيقاع: أوفر مصري، خدك النَدي بوجه أنور  الإيقاع: قتاقفتي، بدر حسنٌ زار الإيقاع: الشنبر الحلبي، يا مُنى القلب الإيقاع: أقصاق، وموشح ذا الأهيف المُعجب الإيقاع: مدور رباعي.  

ومن الموشحات التي لحنها على مقام النكريز:  موشح يا من رماني بالسهام، الإيقاع: الأوفر المصري، يا قوام البان الإيقاع: سماعي ثقيل،  زارني تحت الغياهب الإيقاع: الفاخت، بين قاسيون وربوة الإيقاع: دارج يورك.  وعلى مقام الزنجران : موشح طلعة البدر المنير الإيقاع: النيم دور، رقوا لمجروح الهوى  الإيقاع: سماعي دارج، طاب يا محبوب شُربي الإيقاع: سماعي ثقيل،  إذا دعانا الصبا هَبَبنا  الإيقاع: الفاخت، وموشح يا جناني أقم الإيقاع: سماعي ثقيل. كما لحن على مقام الحجاز كار كرد: موشح طال عمر الليل عندي  الإيقاع: نواخت،  عذبوني ما استطعتم  الإيقاع: أقصاق، يا عيوناً راميات  الإيقاع: نواخت هندي، يا ذا القوام الإيقاع: مقسوم ووحدة كبيرة، وموشح فتاكة اللحظ  الإيقاع: أقصاق تركي.

ويعد البطش من الوشاحين القلائل الذين لحنوا موشحات على مقام السيكاه ومن أبرزها:  موشح صاحِ حان الروض باكر، الإيقاع: نواخت،  يا مُعير الغصن الإيقاع: المُربع، وموشح رمى قلبي رشا أحور  الإيقاع: المُربع.

وإلى جانب ذلك لحن البطش عدداً من الموشحات الدينية والصوفية، ومن أبرزها: موشح يا مادحاً خير الأنام على مقام العجم عشيران، موشح لُذ في حمى خير الأنام على مقام النهاوند. موشح هام قلبي على مقام البيات. وموشح يا خير خلق الله  على مقام الهزام. والموشحات الأربعة على إيقاع الوحدة الكبيرة.

تطوير رقص السماح

بحسب كثير من المؤرخين والباحثين تعود أصول رقص السماح إلى مدينة منبج في حلب وتحديداً إلى الشيخ عقيل المنبجي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وهو من أبرز شيوخ الطريقة الصوفية. ويُعرف رقص السماح بشكله التقليدي بأنه فن يقوم على تجاوب حركة القدمين مع إيقاع الموشح، وتمايل حركة الأيدي والجسد مع اللحن والكلمات، ويمكن أن يرافقه العزف على الدفوف. وقد بقي هذا الفن محصوراً بمدينة حلب حتى نقله الشيخ عمر البطش منها إلى دمشق،  لينتقل بعد ذلك إلى عدد من الدول المجاورة. ويعود الفضل للشيخ البطش في تطوير رقص السماح وتقديمه بالصورة المعاصرة التي استمرت حتى يومنا هذا، حيث قام بتطبيق حركات الأيدي والأرجل على إيقاعات الموشحات، وجعل كل إيقاع من الموشح يختص بحركات للأيدي أو للأرجل أو لكليهما معا، ليتكامل التعبير الفني بين السمع والبصر، وليتجلى التجسيد الحركي للإيقاع ونبضاته بأبهى صوره، ولتبرز العلاقة المتناغمة والعميقة بين أداء المغني وحركة جسد الراقص الذي يمثل الحس الحركي للإيقاع في كافة تنويعاته. وبغرض إغناء وتلوين رقص السماح وإبراز جمالياته بأفضل شكل تعبيري ممكن قام البطش بتطوير آلية تلحين الموشحات، التي تُغنى مع الرقص، بإدخاله التنويعات الإيقاعية واللحنية المقامية على الموشح ومنح المغني مساحاتٍ للارتجال والتفريد بصوته. ومثالنا على ذلك موشح قلت لما غاب عني ، الذي يتضمن ثلاثة إيقاعات. يبدأ بإيقاع النواخت، وهو سُباعي بطيء، ثم ينتقل إلى إيقاع  السربند، وهو إيقاع ثلاثي معتدل السرعة، ومن ثم ينتقل إلى إيقاع الدور الهندي، وهو سُباعي سريع، ليعود بعد ذلك إلى الإيقاع الأول.  

أدخل عمر البطش الكثير من التغييرات والتنويعات على رقص السماح، الذي كان في الأصل رقصاً صوفياً، بغرض إخراجه من قالب “السماح الديني”، الذي كان يؤدى في الزوايا والتكايا الصوفية، إلى “ السماح المسرحي” الذي يؤدى على المسارح من قبل الفرق الفنية. ويعود له الفضل في إشراك النساء في رقص السماح، الذي كان في الأصل حكراً على الرجال، وفي جعله أكثر تعبيرية ومواكبة للعصر، وذلك من خلال تحديث الفضاء العام للعرض الراقص وتحديث أزياء وألبسة الراقصين، بإدخال بعض التطاريز والزخارف عليها لكي تعطي طابعاً أندلسياً.

في نهاية الأربعنييات وبرغبة من الزعيم الوطني فخري البارودي قام الشيخ عمر البطش، الذي كان يُدرِّس  فنون الموشحات وعلوم المقامات ورقص السماح في المعهد، بإدخال رقص السماح إلى مناهج التدريس بعد أن طوَّره بشكل منهجي، كما قام أيضاً بتعليمه لطالبات مدرسة دوحة الأدب للبنات، وقد قدمت طالبات المدرسة عرض رقص السماح  لأول مرة على مسرح مدرج جامعة دمشق، في الحفل السنوي للمدرسة، لتصبح عروض رقص السماح بعد ذلك  جزءاً أساسياً من عروض حفلها السنوي على مدى سنوات.

وقد استمر تقديم عروض رقص السماح، من قبل العديد من الفرق السورية والعربية الراقصة، حتى يومنا هذا، وذلك استناداً إلى الأسلوب المُطور الذي ابتدعه البطش، ومن بينها فرقة أمية للفنون الشعبية، التي قدمت عشرات العروض ضمن أداء استعراضي مشترك بين الراقصين والراقصات، وتحت إشراف أبرز تلامذة البطش: الأستاذان عمر العقاد وبهجت حسان.

في أواخر حياته مرض البطش وضعف بصره حتى كاد أن يفقده، ثم تدهورت حالته الصحية وأصيب بالشلل قبل أن يفارق الحياة في نهاية العام 1950 عن عمر ناهز الخامسة والستين عاماً، أمضاه حارساً للتراث ومخلصاً لرسالة الفن والإبداع، ليُخلد كواحدٍ من عظماء الفن في القرن العشرين، ويُمنح العديد من الألقاب، ومن أبرزها: كبير الوشاحين العرب، عميد الوشاحين، شيخ الكار، عبقري الموشح، سيد درويش سوريا، مؤسس الموشح الحديث، ورائد الموشح في سوريا والعالم العربي.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره وتحديداً في الرسم والأدب،  درس نصير شورى المرحلة الابتدائية في مدرسة التجهيز في دمشق، أكمل المرحلة الثانوية في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، والتحق بمعهد الفنون الجميلة في دمشق، نتيجة هذه المرحلة كانت مرحلة الواقعية الانطباعية. حيث أبدع في مزج واستنباط الألوان التي عالج فيها مواضيع ملتصقة بالبيئة والطبيعة من عمارة قديمة وقرى ومناظر طبيعية وورود وأمومة ووجوه إنسانية وموضوعات إنسانية متنوعة. أخذه الشغف باللون والرسم في رحلةٍ إلى مصر ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والتي تخرج منها عام ١٩٤٧، تعلم نصير على يد كبار الفنانين المصريين، مثل محمد ناجي، وراغب عياد، ومحمود مختار، وتميزت دراسته بتنوعها، حيث درس الرسم والتصوير والنحت، وتأثر بالعديد من التيارات الفنية، مثل الواقعية والتجريد، وخلال فترة دراسته، شارك نصير شورى في العديد من المعارض الفنية، ونال إعجاب الفنانين والنقاد، وبدأ بتكوين أسلوبه الخاص، مستوحياً من التراث العربي والإسلامي، وظهرت موهبة نصير شورى الفنية بشكل لافت خلال هذه المرحلة. ويشير عدد من الباحثين إلى أن دراسته في مصر لم تؤثر به بعمق حيث كانت الواقعية والسوريالية هما الاتجاهان السائدان هناك، يرجع ذلك إلى بدايات شورى حيث تعلّم الرسم على يد الرسام عبد الحميد عبد ربه ثم الفنان جورج بولص خوري؛ خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس.

  ساعدت دراسة نصير شورى في القاهرة على تطور أسلوبه الفني، فقد بدأ بتجربة تقنيات جديدة، وظهرت في أعماله تأثيرات من التراث العربي والإسلامي  وإثر تخرج نصير شورى من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عاد إلى دمشق وبدأ مسيرته الفنية المهنية، برفقة نضوج معارفه العلمية من خلال دراسته الأكاديمية التي بدأها في مصر، وأكملها في أكاديمية الفنون الجميلة في روما- إيطاليا، والتي تخرج منها عام ١٩٥١ م، وقد كان أول من حصل على درجة الأستاذية (بروفيسور) بين أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الفنون بجامعة دمشق، لذلك يعتبر نصير شورى من أهم المؤسسين لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ويمكن القول إنه درّس وأثر قي كل من تعلم وتخرج من هذه الجامعة فقد عمل فيها مدرساً لمادة الرسم والتصوير، وشغل منصب وكيل علمي لعدة سنوات، ساهم مع حمّاد وعبد النشواتي وجلال قصيباتي وأدهم إسماعيل في تأسيس “مرسم فيرونيز” سنة ١٩٤١، معبّرين عن قطيعة فنية مع التيارات التقليدية في الفن، كما ساهم في تأسيس “جمعية أصدقاء الفن” في دمشق عام ١٩٥٠ ، وأصدر كتابًا بعنوان “الفن التشكيلي في سورية”.

   كان لنصير شورى حب كبير للطبيعة، تجلى ذلك في العديد من أعماله الفنية، فقد رسم المناظر الطبيعية الخلابة، مثل الجبال والوديان والأنهار، واستخدم الألوان الزاهية لتصوير جمالها، إثر هذه المرحلة جاءت مرحلة الواقعية ومن ثم الانطباعية على الرغم من الفروق بين الواقعية التي هي رسم الواقع، والانطباعية أي الرسم من الطبيعة، والتي تأثرت بعوامل عدة وهي مرحلة السفر وتأثره باتجاهات الفن التشكيلي الجديد، وتعمقه بشكل كبير بمعطيات التراث العربي، إضافةً إلى تأثير صديقه المقرب جداً الفنان محمود حمّاد (الذي غادر الحياة قبله بأربع سنوات في عام 1988) والذي كان قد سبقه في الفن التجريدي الحروفي الذي يقصد به استخدام الحرف بتكوينات فنية مجردة، بالاعتماد على الإحساس واللون والانفعالات، وبعد ذلك اتجه نصير شورى إلى الفن الرومنسي الجميل، وإلى نوع من التلخيص الحذر للشكل المشخص، والاختصارات المدروسة للون، وقد انتقل شورى إلى التجريد في منتصف الستينيات مع ظهور مساحات مستطيلة بالألوان والخطوط في لوحاته، قبل أن يزاوج بين التشخيص والتجريد في مرحلة لاحقة ضمن ابداعه الخاص الذي كان يخضع لقواعده أو قيوده الذي يختارها بنفسه. وقبل رحيله بنحو سنتين، اتجه إلى رسم لوحات بلون واحد ومشتقاته، وكانت لوحات كبيرة لها مواصفات خاصة مبرزاً التدرجات الضوئية التي أصبحت تعكس الحالة الداخلية الوجدانية معبّراً عنها بدينامكية وحركة لونية تشير إلى حساسيته الشديدة تجاه مفهوم التناغم.

أقام العديد من المعارض الفردية في سوريا والعالم العربي، وشارك في معارض جماعية دولية، كما أنه أصدر كتاباً بعنوان “الفن التشكيلي في سوريا” ١٩٨٠ ونال العديد من الجوائز، أهمها جائزة “بينالي الإسكندرية” عام ١٩٦١.من أهم أعماله الفنية: لوحة “الريف السوري” (1950)، لوحة “القدس” (1970)، لوحة “الأشجار” (1980)

  يمكن القول هنا: إن نصير شورى جمع بين العفوية الانطباعية والعقلانية في التجارب المخبرية المجردة وشبه الزخرفية، وما دفعه لذلك كان محاولة التوفيق بين الحب القديم للتعبير الحر، وبين التجارب المأخوذة من قبل المختبر، وهذا ما أدى به الوصول إلى الاغتراب الشكلاني المجرد أي الابتعاد عن الشكل باتجاه التجريد. تجلّت غنائيته اللونية في تلك المرحلة قبل أن يذهب في تحوّلات عميقة في مشواره، والتي يلخّصها في مقابلة صحافية بقوله إنه “مرّ بثلاث مراحل. كان في الأولى انطباعياً وفي الثانية تجريدياً، ويومها بدأ ولعه بمادة الإكريليك، أما في المرحلة الثالثة فإنه عاد إلى الطبيعة، بعدما علمته المرحلة التجريدية خصائص جديدة في اللون، سماها الواقعية الجديدة، قدم نظاماً شكلياً ولونياً جمع بين التناغم أحياناً والتضاد أحياناً أخرى، وبين الهندسة والطبيعة، وبين الألوان الحارة والباردة، للوصول إلى تكوين له أصالته مستخدماً الدمج والابتكار وخلق تناغمات وتدرجات لونية، لتقديم لوحة فنية مستقلة.

ومع اتقاد لونه، وحضور ابداعه شحب شعاع روحه وانطفأ سمة ١٩٩٢ تاركاً خلفه إرثاً فنياً متميزاً بأصالته وابداعه.

يعتبر نصير شورى من رواد الحركة الفنية التشكيلية في المشهد الثقافي السوري، قد كان لفاعليته الأكاديمية والإبداعية الأثر الحاضر واقعاً وإن كان ذكره غير متناسب مع منجزه.

للاستزادة:

  1. بطرس المعري، شورى وحماد: سورية في لوحة صديقين، صحيفة العرب الجديد، 2017م.
  2. سعد القاسم، مئوية شورى 1920-2020م، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
  3. طارق الشريف، الفنان الراحل نصير شورى، مجلة الحياة التشكيلة، 1992م.
  4. طارق الشريف، نصير شورى سيمفونية الألوان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
  5. غازي الخالدي، نصير شورى والتجريد الملحمي المُغني، مجلة الحياة التشكيلية، 1993م.
  6. عفيف البهنسي، الفنون التشكيلية في الإقليم السوري، 1960.
  7. فاروق يوسف، نصير شورى الذي رأى العالم بعيني طفل يتعلم المشي، صحيفة العرب، 2016.
  8. محمود حماد، نصير شورى، وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.

 وفي دراسة مصدر واكب الفنان نصير شورى وعاصره، لا بدَّ من البحث في كتاب عنوانه (نصير شورى…سيمفونية اللون) الذي صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بتوقيع طارق الشريف وهو ناقد، وكان قد ألفهُ قبل وفاته عام 2013 وبقي مخطوطاً عند عائلته إلى أن تم نشره بخمس وتسعين صفحة مقسمة إلى ثلاثة فصول، وملحق صور يضم صور 38 لوحة من المراحل المختلفة لتجربة نصير شورى الثرية، وصدر كتاب يحمل عنوان (مئوية شورى) تضمن، مجموعة من شهادات الفنانين والمثقفين والنقاد بينهم الناقد طارق الشريف الذي وصف نصير شورى بأنه «علم بارز من أعلام الفن التشكيلي في سورية، ورائد من رواد الحركة الفنية، ومعلّم له دوره الكبير في توطيد هذه الحركة ورفدها بالأعمال الفنية المتنوعة، التي أسهمت في تطوير الرؤية الفنية وتجديدها، ووضع الأسس والمقومات لانطلاقة الفن التشكيلي وتحديثه، وتقديم الفن الأصيل المعبر عن الواقع، وما فيه من موضوعات وأشكال».

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 “كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض”. ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي أبدع بريشته وألوانه وخياله الخصب حيوات شاسعة ومتكاملة ومتنوعة، صوَّرها بطرقٍ تعبيرية شاعرية، حكائية، غنائية، حالمة، محمَّلة بالأبعاد النفسية والعاطفية والروحية، حافلة بالإيحاءات والصور والحكايات والذكريات، وأظهر من خلالها قدراتٍ فنية استثنائية في تحويل الخيال والذاكرة والأساطير الشعبية إلى تجلياتٍ بصرية لونية، ليبرز كواحدٍ من أهم مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، وكمرجعية في علم التكوين الفني واللغة البصرية وفلسفة الألوان.   

ولد نذير نبعة (1938- 2016) في منطقة بساتين المزة، التي شكلت طبيعتها الساحرة هاجسه اللوني الأول وساهمت في إغناء موهبته الفطرية، وتحريض بصره على التقاط المشهد الفني، فبدأ منذ طفولته برسم بعض الزخارف والورود على ثياب الفلاحات التي كانت والدته تقوم بخياطتها وتطريزها. وخلال دراسته الإعدادية برزت موهبته الفنية من خلال تقديم بعض الرسوم، التي تنتمي للمدرسة الانطباعية، كالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والبورتريه، والتي أظهرت مدى قدراته على فهم واستخدام بعض قواعد الفن التشكيلي، وقد ساعدته موهبة المتفردة على المشاركة في معرض “الجمعية السورية للفنون الجميلة” عام 1952، وهو في عمر الرابعة عشر، إلى جانب 38 فناناً من الذين قُبلت لوحاتهم في معرض الجمعية التي أصبح حينها واحداً من أعضائها وشارك في معظم معارضها السنوية حتى حصوله على الشهادة الثانوية عام 1958.

 في عام 1959 سافر نبعة إلى القاهرة  ليدرس فن التصوير في كلية الفنون الجميلة هناك، حيث تتلمذ على يد كبار أساتذة الكلية، مثل حسين بيكار وعبد العزيز درويش وعبد الهادي الجزار وحامد ندا، واطلع على عالم الفن القديم، الآشوري والبابلي والفينيقي والفرعوني واليوناني والروماني، إلى جانب دراسة أساليب الفن المعاصر بمختلف مدارسه التشكيلية. وخلال دراسته بدأ يظهر كفنان متفردٍ يَشقُّ طريقاً فنياً يختلف عن السائد، فنال درجة الامتياز عن مشروع تخرجه من الجامعة، وهو بعنوان “عمال مقالع الحجارة” الذي استلهم موضوعه من زياراته لقرية برقاش، القريبة من القاهرة، ولقائه بعمال مقالع الحجارة. وقد عالج الموضوع بطريقة تعبيرية حداثوية ومتحررة من الحالة التصويرية التقريرية، إذ يبدو التكوين في اللوحة حياً وحيوياً ومتحركاً، يوحي بحالة من النشاط واستمرارية العمل وكأننا أمام شريط سينمائي.

نحو هوية فنية سورية

بعد عودته إلى سوريا عام 1964 راح نبعة يبتكر أسلوبه الفني التعبيري الخاص، الذي يوفِّق بين التقنية والمضمون ويؤسس لاتجاهاتٍ وفضاءاتٍ فنية تحمل ملامح محلية، فبات يستلهم موضوعاته الفنية من فنون البلاد وتراثها الشعبي، بما يتضمنه من قيمٍ إنسانية وجمالية، وقد ساعدته مرحلة إقامته في مدينة دير الزور، التي عمل كمدرسٍ للتربية الفنية في بعض مدارسها، أن يُغني لوحاته برؤى وفضاءات تشكيلية ساحرة وشاسعة، استوحاها من التفاصيل الجمالية المدهشة للبيئة الريفية وألوانها الرحبة، ومن المثيولوجية الفراتية، والمناطق الأثرية الغنية بالرموز، والتاريخ الآشوري والسومري، والأساطير القديمة للبلاد وملاحمها الشعبيية الغنية بالحكايات، والتي ربطها بالحاضر بعد تجسيدها بشكلٍ تعبيري حكائي، ليُشكل من خلال تلك الموضوعات ملامح هوية فنية سورية أصيلة، تجلت بشكلٍ واضح في معرضه الأول الذي أقامه عام 1965، في صالة الفن الحديث في دمشق. وقد حظي المعرض حينها باهتمام ثقافي بالغ، وكرَّسه كفنان صاحب بصمةٍ إبداعية متفردة ورؤيةٍ تجديدية مؤثِّرة، ساهمت في تطوير وإغناء الحركة التشكيلية في سوريا آنذاك. ومن أبرز لوحات المعرض: “ننليل”، “عشتار”، “العجاج”، “خسوف القمر”، “الزير”، “صرخة سيزيف”، “الحوت يبتلع القمر” و “كاهنة مردوخ”، وهي اللوحة التي تم اقتناءها من المعرض. وقد استطاع نبعة من خلال  تلك الأعمال أن يبتكر مدرسته الواقعية الخاصة التي مزجها مع التعبيرية والرمزية، ليُقدم اقتراحاتٍ وموضوعاتٍ بصرية رائدة ومثيرة للاهتمام، تجاوزت الأنماط الفنية السائدة في تلك المرحلة، حيث تناول أكثر من فكرةٍ وموضوع في اللوحة الواحدة، من خلال تكوينات غنية ومبتكرة ومتنوعة، مزجت العديد من العوالم والفضاءات والمشهديات، قدمها بلغةٍ تعبيرية سردية، استندت إلى المفاهيم الفنية المعاصرة وابتعدت عن المباشرة والتقريرية.

فنان ملتزم بالقضايا الإنسانية والوطنية

بعد وقوع نكسة حزيران عام 1967 برز نبعة كفنان ملتزم بقضية الإنسان العربي والفلسطيني، ومدافعاً، من خلال فنه، عن حقه باستعادة أرضه ووطنه وكرامته، فانتهج أسلوباً فنياً جديداً، جمع بين ثورية الموضوع وفنية التعبير، وتناول في معظم لوحاته الفدائي الفلسطيني البطل، وأظهره بشكلٍ أسطوري وملحمي، ومنحه الكثير من صفات البطولة والخلود بوصفه المُنقذ والأمل. ولم يكتفِ نبعة بذلك فقط بل انتسب في تلك الفترة لمنظمة التحرير الفلسطينة، وصمم شعارها وعدداً من ملصقاتها وشعاراتها السياسية، التي أصبحت جزءاً هاماً من الذاكرة البصرية الفلسطينية، بالإضافة لتصميم أغلفة عددٍ من الكتب والمجلات التي تناولت الواقع الفلسطيني والمقاومة، كمجلة “فلسطين الثورة” التي صمم ماكيت عددها الأول وساهم في وضع رسوم بعض أعدادها، هذا إلى جانب إبداعه لمجموعة من الرسوم الغرافيكية، بعنوان “الأرض المحتلة”، استوحاها من قصائد عددٍ من الشعراء الفلسطينيين، كالشاعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وراشد حسين. وقد استطاع من خلالها أن يقدم نفسه كفنان غرافيك محترف ومُلهم، يجمع بعبقريته الفنية، بين أفكاره الوطنية وأدواته التعبيرية الفنية.

 وفي عام 1968 وبعد انتصارات معركة الكرامة زار نبعة وعدد من أصدقائه الفنانين المصريين معسكرات الفدائيين الفلسطينين في الأغوار، فأثمرت الزيارة، التي استمرت لمدة 15 يوماً وكانت مُلهمة لنبعة وأصدقائه، عن إقامة معرض فني مشترك، مستوحى من حياة الفدائيين وبطولاتهم وعملياتهم الفدائية، وقد جال المعرض حينها في عدد من المحافظات السورية، وبعض العواصم العربية كالقاهرة وعمان.

التوجه نحو الفن المعاصر

سافر نبعة عام 1971 لمتابعة دراسته الفنية في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، والتي وضعته وجهاً لوجه مع الثقافة الغربية والفن العالمي المعاصر، فكان، إلى جانب دراسته، يزور المتاحف والمعارض الفنية ويطلع على تجارب الفنانين المعاصرين، ليطور معارفه وثقافته وخبراته التقنية التي أغنت وعمقت رؤيته الفنية، فنال مشروع تخرجه، وهو عمل عن النباتات، جائزة المدرسة. وقد شكلت تلك المرحلة منعطفاً فنياً بارزاً في طريقة التعبير الفني عند نبعة، تجلت من خلال المزج بين التجريدية والواقعية. وعند عودته إلى دمشق، عام 1974 تجاوز كل الأشكال الفنية التي لجأ إليها في المراحل السابقة ليتجه إلى مدرسة الواقعية السحرية، التي يُعد من أبرز مؤسسيها وروادها في سوريا، فرسم النباتات، والمناظر الطبيعية، والطبيعة الصامتة، والوجوه، وعوالم المرأة، هذا إلى جانب استمراره في تناول موضوعات البيئة الشعبية والرموز والتفاصيل المُستقاة من التراث السوري، ولكن برؤية تجديدية معاصرة، حافظت على روح التراث وأصالته وقيمه الجمالية والروحية دون إهمال تقنيات الفن المعاصر، ليؤكد نبعة، مرة أخرى، مدى انتمائه للهوية السورية، وأن الفن لا ينبغي أن ينفصل عن البيئة والواقع المحلي. ومن أبرز لوحاته في تلك المرحلة: لوحة “نباتات ووجه”، “تفتح الزنابق”، و “عازفة المزمار” وغيرها.

الدمشقيات

خلال مرحلة “الدمشقيات” التي بدأها عام 1975 اتجه نبعة، بشكل أكبر، نحو مفاهيم الحداثة والمزج بين أكثر من مدرسة وتقنية وأسلوب في اللوحة الواحدة، محاولاً تقديم اللوحة التي تنتصر للفن المعاصر وتقنياته، والتي أسماها لوحة “الفكرة” كونها تحمل كثافة بصرية شاسعة وتتضمن العديد من التكوينات والتفاصيل وتخلو مساحتها من أي فراغ. ويقول الناقد صلاح الدين محمد عن تلك المرحلة :”بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة لكان هناك فجوة في سلم ارتقاء الفن السوري ومعطياته”.

 ومن خلال لوحات الدمشقيات، التي تحولت لمرجعية أسلوبية ألهمت الكثير من الفنانين، أبرز نبعة تفاصيل الحياة الدمشقية من زوايا مختلفة، فأعاد بناء أزقة وحارات المدينة القديمة بطرق تعبيرية غنائية وحالمة وغنية  بفضاءات جمالية مكثَّفة، كما تناول الذاكرة التراثية للمدينة وبعض فنونها الشعبية وصناعاتها اليدوية الفنية التقليدية كالزخارف والصدفيات، وأضاء على الكثير من التفاصيل والرموز الدمشقية العالقة في الوجدان الجمعي السوري. وفي إحدى لقاءاته  يقول نبعة عن لوحاته الدمشقية: “أعتبر هذه اللوحات قصيدة عشقٍ غنائية طويلة لمدينة دمشق، لأنها بالنسبة لي هي الأم، الأخت، الحبيبة، المدينة والوطن”.

وفي لوحات “الدمشقيات”حضرت المرأة على نحو فريد وملفت، وبحالاتٍ وتفاصيل متنوعة، وضمن فضاءاتٍ لونية، أضفت على اللوحة المزيد من السحر والجمال والتناغم، فظهرت ضمن البيوت الشعبية وأجوائها الحميمية والأليفة، ومحاطة بالزخارف والنقوش والأواني الخزفية والصدفيات، بشكلٍ يبرز عمق ترابط المرأة مع تلك العناصر الفنية المحفورة في وجدان وذاكرة الدمشقيين. كما ظهرت المرأة أيضاً وهي محاطة بالمصابيح والسيوف والمباخر وأطباق القش وغيرها من التفاصيل الفنية الدمشقية، أو محاطة بالأزهار ونباتات الزينة وزجاجات وأصص الورود، وثمار الرمان، وأغصان الياسمين، وسنابل القمح. وفي لوحات أخرى ظهرت وهي تعزف على الآلات الموسيقية التقليدية كالعود والناي، كما ظهرت وهي ترتدي الأزياء التقليدية، المليئة بالنقوش والألوان، وتتزين بالحلي والجواهر والأساور والأقراط والعقود، بشكل بديعٍ ومتناغم، أضفى الكثير من الحيوية والرشاقة على اللوحة. ومن أشهر لوحاته الدمشقية: “هلال” ،المساء”، “الربيع”، بدوية”، ” البحر”، “ست الحس”.

ويُعد نبعة من أبرز الفنانين التشكيليين السوريين والعرب الذين تناولوا موضوعات المرأة بشكلٍ موسع، لذا لقب بـ “رسام المرأة العربي”، كما أنه، وخلافاً لكثيرٍ من الفنانين، لم يُظهر المرأة بشكل إيروتيكي بحت أو تصويري مباشر، وإنما تناولها بكل حالاتها الجمالية والنفسية والوجودية وبوصفها رمزاً للعطاء والخصوبة والحياة، فقدمت لوحاته المرأة القادمة من الأسطورة والأحلام، المرأة التي تفيض سحراً وأنوثة وجمال، المرأة التي تعزف الموسيقى، المرأة التي تشبه المدينة، المرأة المتماهية مع الطبيعة، المرأة التي ترمز للأرض والوطن، والمرأة الحبيبة والأم، والتي تهب معنى للحياة والوجود.

التجليات

في التسعينيات اتَّجه نبعة نحو مرحلة فنية جديدة، أسماها “التجليات”، انتمت معظم أعمالها للمدرسة التجريدية، واستمرت حتى نهاية حياته، وقد ابتعد فيها عن الجانب التزييني والزخرفي وعن الأجواء الشرقية والأسلوب الانطباعي والواقعي، ليتجه نحو فلسفة الألوان وتجلياتها وفضاءاتها الشاسعة وحركاتها التعبيرية الرمزية والمتداخلة بشكل متناغم ومتحاور في مساحات اللوحة الفنية، التي تطرح الكثير من المفاهيم التشكيلية التقنية المعاصرة. وقد استوحى ألوان  لوحاته من الطبيعة السورية وبراريها وجروفها الصخرية، وحمَّلها بالكثير من الأفكار والعواطف والذكريات، ضمن فضاءٍ تصويري واسع الأفق، يوازن بين الموضوع والجانب الفني التقني الأكاديمي. ورغم توجهه نحو الأعمال التجريدية واستخدامه لمختلف أنواع التقنيات الفنية، حافظت لوحاته على الروح الجمالية وعلى الشاعرية اللونية والحالة الحسية ذاتها.

وضمن مرحلة التجليات رسم نبعة، الملتزم بالقضايا الوطنية، مجموعة لوحات بعنوان “المدن المحروقة”، انبعثت فكرتها عقب ارتكاب إسرائيل لمجزرة قانا/ جنوب لبنان عام 1996، وقد تناول مأساة المجزرة بأسلوبٍ تعبيري تخلى فيه عن السخاء اللوني، الذي كان يُميّز أغلب لوحاته، ليستخدم تقنية الحبر الأسود، الذي عبَّر من خلال خطوطه وقتامته عن حجم المأساة، وأبرز وجوه الشهداء الشاحبة والغارقة في جحيم الموت والألم. وقد استمرت تجربة “المدن المحروقة” لعدة سنواتٍ، رسم خلالها، باستخدام أكثر من أسلوبٍ وتقنية وطريقة تعبير، لوحاتٍ عن بيروت وجنين وغزة، التي عاشت مختلف أشكال القتل والوحشية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم بغداد التي تعرضت للقصف الوحشي خلال الغزو الأمريكي لها عام 2003. ويقول نبعة عن تلك التجربة في أحد لقاءاته: “أنا لم أرسم الدمار والأبنية المحروقة، وإنما رسمت الحرقة داخل صدري، وصدر كل مواطن عربي وهو يتابع انهيار هذه المدن وإحراقها، وهو عاجز عن القيام بأي دور”. 

وفي سنواته الأخيرة رسم نبعة مجموعة رسومات بالحبر الصيني عن ممارسات تنظيم داعش في سوريا، أسماها “المفاتي”، كرمز للفتاوى التي كان التنظيم من خلالها يحاول تحليل العنف والقتل.

بعض مساهماته في مجال الثقافة  

إلى جانب إرثه الفني الغني عمل نبعة في نهايات الستينيات مع مديرية الكتب المدرسية، إلى جانب الفنان ممتاز البحرة وعبد القادر أرناؤوط، في تصميم أغلفة ورسوم الكتب المدرسية، كما عمل في تلك المرحلة مدرساً في معظم أقسام كلية الفنون الجميلة في دمشق حتى عام سفره إلى باريس، وكان من أبرز وأهم أساتذة الكلية والأكثر تأثيراً في الطلاب الذين تتلمذوا على يده. وبعد عودته من باريس عاد للتدريس في الكلية، ثم أسس في العام 1980، بالتعاون مع الفنان فاتح المدرس وإلياس الزيات ومحمود حماد، قسم الدراسات العليا في الكلية، وعمل فيه أستاذاً لعدة سنوات، حيث تخرج على يده كبار الفنانين السوريين الذين أصبحوا من رواد الفن التشكيلي في نهايات القرن الماضي.

وإلى جانب التدريس عمل نبعة في مجلة الطليعة، التي كانت تستقطب أبرز الأسماء الثقافية والفنية السورية، حيث كان مسؤولا عن تصميم غلاف المجلة الأسبوعية، وعن إنجاز الرسوم الداخلية، بالإضافة لصفحة خاصة به كرسام للمجلة، وقد أصبحت رسوماته في تلك المجلة مرجعاً هاماً لكثير من الفنانين الشباب، الذين عملوا في نفس المجال، بعد أن رفع من سوية فن الرسم الصحفي والغرافيك. وبين عامي 1975 و 1976 عمل نبعة رساماً في مجلة الموقف الأدبي، التي كان يرأس تحريرها الكاتب زكريا تامر، وكانت تلك التجربة غنية وفريدة من نوعها، إذ كان الرسم في المجلة عملاً فنياً موازياً للعمل الأدبي (الشعري أو القصصي)، يُدرج إلى جانبه في صفحات منفردة، ليعَبِّر عنه بلغة تشكيلية تقدم للقارئ متعة بصرية تعادل المتعة الأدبية، ولشدة ما كانت تحمله تلك الرسوم من حالة شاعرية وقصصية وسردية وخيالية، أسماها البعض :”أشعار نذير نبعة المرسومة”، وكان كثير من القراء يحتفظون بالمجلة لكي يتأملوا رسومات نبعة التي كانت تُشكل ما يشبه المعرض الفني داخل المجلة.

وإلى جانب ذلك كان نبعة من أبرز مؤسسي مجلة “أسامة”، التي تعتبر من أهم مجلات الأطفال في سوريا حتى يومنا هذا، وهو من صمم غلاف عددها الأول، وكان، إلى جانب ممتاز البحرة ولجينة الأصيل، أول الفنانين الذين رسموا في المجلة وصمموا عدداً من أغلفتها لعدة سنوات، ليشكل إلهاماً ومرجعاً للرسامين الذين جاؤوا من بعده. كما ساهم، بالتعاون مع دار الفتى العربي، في إنجاز رسومات سلسلة من الكتب التي شارك فيها أهم وأشهر الفنانين والكتاب، بالإضافة لمساهمته، بالتعاون مع دار النورس، في إصدار كتب شعرية للأطفال، هذا إلى جانب تصميم وإنجاز الديكورات المسرحية لعددٍ من مسرحيات الأطفال ومسرحيات المسرح القومي ومسرح العرائس.

أبرز معارضه :

– المعرض الفردي الأول في صالة الفن الحديث/ دمشق/ عام 1965

– المعرض الفردي الثاني في صالة الصيوان/ دمشق/ 1966

– معرض في صالة الصيوان/ دمشق/ 1968

–  معرض في صالة غاليري ون/ بيروت/ 1969

– معرض في المركز الثقافي العربي/ دمشق/ 1979

– معرض في متحف الشارقة/ 1996

– معرض في غاليري بوزار/ دبي/ 1997

– معرض في مهرجان القرين الثقافي/ الكويت/ 1998 

– معرض استعادي في مركز المجمع الثقافي في أبوظبي/ 1998

– معرض في متحف الفن الحديث/ الكويت/ 2001

– معرض التجليات في غاليري أتاسي/ دمشق/ 2003

–  شارك في العديد من المعارض المشتركة في القاهرة، مدريد، باريس، سان باولو، بولونيا، إيطاليا، طوكيو، موسكو، براتيسلافا وغيرها.

بعض الجوائز والتكريمات:

– جائزة معرض غرافن آي/ عام 1967

– جائزة تقديرية من بينالي الأسكندرية الدولي/ 1968

– جائزة المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس/ 1974، عن مشروع تخرجه.

– دبلوم في مجال الغرافيك من معرض لايبزج الدولي/ 1978

– دبلوم في مجال رسوم الأطفال من معرض براتيسلافا/ 1979

– الجائزة الفضية للمعرض الدولي السادس لرسوم كتب الأطفال/ مؤسسة نوما اليونيسكو/ اليابان/ 1989

– جائزة لجنة التحكيم في بينالي القاهرة الدولي/ 1995

– دبلوم شرف من بينالي القاهرة الدولي/ 2004

– وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة / 2005

أهم المراجع

– كتاب “نذير نبعة: عين على العالم.. عين على الروح”. تأليف: يوسف عبدلكي. الناشر: صالة تجليات للفنون/عام 2009.   

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

لقاء مع الفنان نذير نبعة في برنامج “ينابيع” على قناة القرين/ الكويت.

لقاء مع الفنان نذير نبعة على هامش معرض فناني بلاد الشام، عام 2000.  

لقاء مع الفنان نذير نبعة، منشور في مجلة العربي/ أرشيف.

لقاء مع الفنان نبعة، منشور في جريدة الثورة عام 2009/ أرشيف.

– مجموعة من لوحات الفنان نبعة من مراحل فنية مختلفة.   

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته – كما يروي هو – بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل من الخطيئة محور حياتنا. والثانية اقتناعه أن القضية الأساسية في التغيير الحقيقي، هي تغيير العقليات لا الأنظمة والسياسات، والثالثة تتعلق بالموقف من المرأة؛ لأن الموقف منها يتعلق بالموقف من العالم بأسره، والرابعة متعلقة بتعرُّفه على فرويد والتحليل النفسي، والخامسة اكتشافه تزييفات الجابري حيال موقفه من إخوان الصفا، والسادسة متعلقة بموقفه من الحرب في سورية ومن صمته حيالها، فهو لم يصمت ولكنه أصيب بخيبة أمل بأن الربيع العربي الذي استبشر به خيراً في البداية، كان بمثابة ردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى.( طرابيشي، المحطات الست في حياة جورج طرابيشي، موقع الجمهورية نت).   

طرابيشي من مواليد حلب (١٩١٦-١٩٩٣). ويحمل الإجازة باللغة العربية، وماجستير في التربية، وقد عمل مديراً لإذاعة دمشق، بُعيد فض الوحدة بين سورية ومصر، وكذلك عمل رئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية في بيروت، لكنه اضطر لترك لبنان بسبب الحرب الأهلية هناك، وانتقل إلى فرنسا وعمل في مجلة الوحدة، وتفرَّغ بالكلية للعمل الفكري مؤلفاً ومترجماً لعشرات الكتب الفلسفية والأدبية والتراثية.

تبنى طرابيشي في كتابه ” مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ” فكرة احتضان الحضارة العربية للفلسفة، حيث ازدهرت الفلسفة في ظل هذه الحضارة، عكس ما أشاعه بعض الفكرين العرب – أمثال: أحمد أمين وعبد الرحمن بدوي والجابري- من أن هذا الاحتضان للفلسفة كان محصوراً بالغرب، وأن الشرق العربي كان محروماً من نفحات الفلسفة وإبداعاتها. (طرابيشي، مصائر الفلسفة، 1998، ص7 وما بعدها) فقلب معادلة التقدم والتأخر، وأعاد الأمور، بل الحقائق إلى نصابها، دون تحريفات الإيديولوجيا وتزييفات روَّادها من الغرب والشرق. ومع ذلك فقد أنكر وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وهي إن وجت فهي ” فلسفة مترجمة، أو مولّدة بوساطة الترجمة. يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين…( طرابيشي، 206، هرطقات1، ص59).

لقد عمل طرابيشي على ترجمة أهم مؤلفات ماركس ولينين وفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بوفوار، ورغم أن تلك الترجمات لم تكن عن لغتها الأم، إلا أنه كان لها دور مهم في نشر الثقافة والفلسفة الأوربية في الأوساط العربية، وقد انعكست تلك الترجمات على أعمال طرابيشي، وتأثر بمدرسة التحليل النفسي، حيث طبق منهج التحليل النفسي على الرواية العربية، ويعود له الفضل في تناول الرواية العربية وتحليلها تحليلاً نفسياً، وإثرائها بالبعد الفلسفي الذي انعكس على كل كتاباته. ولا نتحدث هنا عن الترجمات، بل عن أعماله الخالصة ككتابه شرق وغرب، وعقدة أوديب، ولعبة الحلم والواقع، والأدب من الداخل…الخ.

أما فيما يتعلق بالمسألة القومية، فقد تناولها طرابيشي بتأثير من الفلسفة الماركسية، وكان يغلب عليه في بداياته الفكرية الطابع الثوري والماركسي، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، وقد ألَف في هذا الشأن: الماركسية والمسألة القومية، والماركسية والأيديولوجيا، والاستراتيجية الطبقية للثورة، وغير ذلك من المؤلفات التي يغلب عليها اتجاهه اليساري الماركسي. وكان موقفه وقتئذٍ من التراث العربي سلبياً، قبل أن يتحول لدراسته دراسة ناجعة ومثمرة.

ولعل أهم ما أنتجه الطرابيشي متعلق بمسألة نقد الفكر العربي، وقد بدأ مشروعه هذا بنقد نقد الفكر العربي لمحمد عابد الجابري، واستغرق ذلك من وقته ما يقارب العشرين عاماً. ورغم أنه بدأ رحلته مع الجابري، بإعجاب لافت بكتابه ” تكوين العقل العربي”، إلا أن طرابيشي سرعان ما انتبه إلى ملاحظات نقدية على هذا الكتاب أولاً ثم على المشروع النقدي للجابري ككل.

خصص طرابيشي لهذا النقد أربعة أعمال، كانت تتجه بشكل مباشر لنقد الجابري، وهي: نظرية العقل العربي، وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، وأخيراً العقل المستقيل. لكن طرابيشي لم يبقَ حبيس آراء الجابري، ولا حبيس تزييفاته الأيديولوجية المقصودة أو غير المقصودة. حيث إن الجابري – حسب طرابيشي – عمل على تقسيمات شرقية وغربية، وخص الشرق بالبيان والعرفان، أما البرهان فهو من نصيب الغرب أو المغرب حيث ينتمي الجابري. وقدَّم طرابيشي عشرات الأدلة على تزييفات الجابري للتراث، بل للإرث العربي والإسلامي عموماً والمشرقي خصوصاً. وانتهى طرابيشي إلى ” أن دوائر العقل العربي الإسلامي متحدة المركز، سواء أكانت بيانية أم برهانية أم عرفانية، وهذا معناه أن النظام الابستمي لهذا العقل واحد، وبالتالي ما كان لهذا العقل أن يشهد أية قطيعة ابستمولوجية مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.” ( طرابيشي، 2002، وحدة العقل العربي الإسلامي، ص 405). 

والذي يقرأ كتاب طرابيشي ” وحدة العقل العربي ” يدرك في آن معاً موسوعيته وعمقه في قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي، حيث نراه من جهة يمسح على نحو أفقي أعلام الثقافة العربية من الفلسفة إلى اللاهوت إلى التصوف، يبدأ بابن سينا وينتهي بابن طفيل وابن رشد، يحلل الغزالي ويعرج على ابن حزم، ليصل إلى الشاطبي، ثم نراه يغوص في تحليل عمودي ليقف على أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً.   

فطرابيشي لم يبقَ حبيس الملاحظات النقدية على الجابري، بل تجاوز ذلك لفهم التراث العربي بكل ما فيه، ولم يقتصر على قراءة الفلسفة اليونانية وامتداداتها الوسيطة والحديثة والمعاصرة، الغربية منها والشرقية، بل نراه قد قرأ التراث من نصوصه الأصلية، فكتب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ولم يكتفِ بذلك بل تطرق للفقه والتصوف واللاهوت المسيحي والإسلامي، وتناول كل ذلك بعقلية نقدية منقطعة النظير. والنقد لديه لم يكن نقضاً أو هدماً، بل كان نقده بناءً، غايته تصويب ما اعوج من منظور تنويري، فقد كان ينقد ليصوِّب، يَهدم ليبني، ويجرح ليبنّه الغافلين.  

لم يكن طرابيشي كغيره من المفكرين، الذين اتجهوا لنقد التراث، فبقوا حبيسين في أقفاص ذلك التراث، بل إن طرابيشي كان يمسح التاريخ الفكري والفلسفي والديني، يسبر أغواره متسلحاً بالنقد أو التفكيك، بكل ما تعنيه هذه الكلمة أو هذا المنهج النقدي الخطير. فكتب كتابه الهام “هرطقات “، بجزئين الأول خصصه لهرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، كشف فيه عن زيف بعض التصورات والمفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه المفاهيم، كاشفاً عما يعتري الثقافة العربية المعاصرة من زيف وأضاليل تُسِيء للتراث والتاريخ العربي، الذي يراه طرابيشي بأنه حافل بقيم الديمقراطية والعلمانية، عكس ما ينشره متفلسفو العرب المعاصرون، الذين لم يروا في التراث غير أوراق صفراء لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا نراه يخصص الجزء الثاني من كتابه ” الهرطقات ” لإشكالية العلمانية، كاشفاً ومبرهناً عن مظانها في تراثنا العربي.   

أما بخصوص الديمقراطية فقد كتب يصف حاله يوم صار ديمقراطياً، فقال: ” ويوم انتهيت إلى أن أصير ديمقراطياً لم أرَ في الديمقراطية ايديولوجيا خلاصية، نظير ما فُعل بعقيدتي الوحدة العربية والاشتراكية، ولم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية على تحول ديمقراطي يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، إذ لم يقترن بتحول عقلي في صندوق جمجمة الرأس: رأس النخب كما رأس الجماهير.” ( طرابيشي، 2008 ،  هرطقات 2، ص7). 

استطاع طرابيشي وبحق أن يغوص لعمق القضايا التراثية بعقلية علمانية مستنيرة، وبأدوات ومناهج فلسفية وعلمية راهنة، فكك كل إشكاليات الفكر العربي، وعلى رأسها إشكالية البنية الشعورية للعقل العربي ذاته، وإشكالية وجدلية اللغة والعقل، منذ المرحلة الشفوية للثقافة، وصولاً إلى عصر التدوين (طرابيشي، 1998، إشكاليات العقل العربي، ص 9 وما بعدها) فلم ترهبه مقدسات اللاهوتيين، ولا أوثان الفلاسفة ولا أفكارهم ولا حدودهم الصفراء، وقدَّم لوائح امتياز لما للتراث العربي وما عليه. فنراه هنا يقيِّم مشروع حسن حنفي في موسوعته ” التراث والتجديد ” فهو يرى أن ” أجمل الصفحات، وأعمق الصفحات، وأكثر الصفحات أصالة، هي تلك التي خطها يراع حسن حنفي وهو يمارس تجاه التراث والذات الوظيفة النقدية، وبالمقابل فإن تلك الصفحات التي دبجها في تعظيم التراث والذات هي من أكثرها ضحالة، وابتذالاً…” ( طرابيشي، 1991، المثقفون العرب والتراث، ص 274).

 وأخيراً قدَّم طرابيشي للأدب والنقد الأدبي والروائي ربما أول تجربة في التحليل النفسي والفلسفي الوجودي والماركسي والتفكيكي. وعشرات الترجمات لنفائس نادرة في الثقافة الفلسفية والأدبية والإنسانية. فكان بحق فيلسوفاً وأديباً في زمن خلا أو يكاد.      

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص التوفيقية بين حدود المادية والمثالية، بل عدا ذلك إلى الجمع بين ثنائيات أخرى كالماركسية والقومية، والفلسفة والدين، وبين الوطنية والقومية، وبين الدولة والديمقراطية، ولا نبالغ إذ نقول بين الاشتراكية والبرجوازية.        

إلياس مرقص من مواليد اللاذقية عام 1929، وقد توفي فيها عام 1991. وعاش في بيئة ثقافية، وقد حصل على الثانوية بقسميها العام والفلسفي، ثم درس البيداغوجيا في جامعة بروكسل الحرة، وعمل معظم حياته في تعليم الفلسفة.

تعرَّف مرقص إلى الحزب الشيوعي السوري منذ أن كان طالباً جامعياً ببلجيكا، وانضم إلى صفوفه، واستمر على ذلك حتى بعد عودته لسورية، لكنه طُرِدَ منه عام 1956 وذلك بسبب سلوكه ومواقفه الثورية، وانحيازه جهة الديمقراطية والانتخاب. ولم يدفعه هذا الأمر إلى محاربة التنظيمات السياسية، بل بالعكس كان يؤكد أهمية التجربة الحزبية في الحياة السياسية، وفي تغيير الواقع والدفع به إلى الأمام، ولهذا استمر بالتواصل مع الفعاليات الحزبية المختلفة، وضمن نقاشاته وفي كتاباته المتعددة وفي ترجماته للعديد من الكتب ذات الصلة بالحياة الفكرية والسياسية، حتى لقَّبه خالد بكداش بأنه المثقف الأول بالحزب الشيوعي السوري.  

 وقد أسهم مرقص في إنشاء مجلة الواقع الفصلية في بيروت، ومجلة الوحدة الشهرية في باريس، ويتم عادة التمييز بين مرحلتين اثنتين مرَّت بهما الكتابات الفكرية لمرقص، الأولى قضاها بالتأليف، وفيها ألَّف معظم أعماله الفكرية، والثانية تفرَّغ فيها للترجمة، ومعظم كتاباته وترجماته كانت تنصب على الفلسفة والفلسفة السياسية تحديداً.

كان لمرقص موقف فلسفي واضح حيال دور المذاهب والاتجاهات الفلسفية، ودورها في بناء المجتمعات والدول، وما يميِّز تجربته الفلسفية أنَّه ورغم كونه ماركسياً لم يفهم ماركس من دون هيجل، ولم يفهم ديموقريطس أو زينون الأيلي من دون أفلاطون، لم يُقِم العالم على قدميه بمعزل عن عقله، ثم نراه ينتقل من ذلك إلى ربط كل العلوم والفنون بالفلسفة، فحسب مرقص ” لا فكر ولا تفكير ولا علم ولا معرفة، ولا بحث ولا تنقيب، ولا خدمة لهذه الأمة بدون أفلاطون إيجابياً، بدون سقراط وأفلاطون وأرسطو وبارميندس وهيروقليط  وفيثاغور وبدون هيجل وبدون كانط وهيوم وفشته … وبدون ماركس وإنجلز ولينين إيجابياً.” ( مرقص،1997، نقد العقلانية العربية، ص 489).

فالمثالية ليست في ذاتها عدواً للمادية، حتى بالنسبة للأديان. ومشكلتنا نحن كعرب ” لا تكمن في سيطرة الفكر الديني علينا كما يرى كثيرون، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي، لأن الفكر الديني من أهم ظواهر تاريخ أوربا وتاريخ الثقافة العربية أيضاً. والفلسفة الأوربية الحديثة لها مصدران: أفلاطون والمسيحية…” ( مرقص، 2013 حوارات غير منشورة، ص 16).

 ولهذا ينتقد مرقص الماركسية الشوفينية لاستبعادها فكرة الله والدين، في حين أنه لا ماركس ولا إنجلز ولا لينين، قالوا أو طالبوا بهذا الاستبعاد، وقد لعب النبي محمد ومن بعده عمر بن الخطاب دوراً جوهرياً في توحيد العرب أو القبائل العربية، كما أن الإسلام ” لعب دوراً، فعل فعلاً مديداً، في إلغاء العبودية، أي في اضمحلال واختفاء أو انطفاء وانقراض الظاهرة .” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص851).  

ولذا ركز مرقص على جدلية الفكري والموضوعي، الصوري والمادي، أو المثالي والواقعي، حتى لدى تحديده لمفهوم الأمة خلافاً لمفهومها عند ساطع الحصري والقوميين المثاليين، فالأمة لديه ” ليست جماعة أصلية نسلية طبيعية ولا أمة دينية، ولا هي الاثنان معاً. هي أمة لغة وإقليم (أرض) وإنتاج وثقافة وتاريخ ومصير ومواطنة. هي مجتمع واحد، دولة واحدة. هكذا مفهوم الشيء فكرته الواقعية، ليس واقعه الموجود، الأمم مختلفة من حيث اتفاقها مع النموذج الذي لا تتطابق معه أمة من الأمم من الناحية العرقية أو السلالية.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 961). لهذا لا وجود مادي واقعي بدون وجود فكري أو نظري.

ومفهوم الأمة لديه مرتبط بمفهوم الوحدة، والوحدة تمثل قضية القضايا في فكر مرقص، فقد كان يرى أن ” لا طريق للتقدم والتحرر العربيين من دون تحقيقها وأن العرب لن يتقدموا ثانية في طريق الوحدة العربية ما لم تتمكن قوى الثورة العربية من إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعلمانية وديمقراطية وما لم تعِ أن السيرورة الوحدوية هي حركة الأمة وليست مقصورة على طبقة أو فئة أو حزب.” ( إلياس مرقص، حوارات، ص9).

والكلام عن الأمة والوحدة متصل بالحرية، والكلام عن الحرية عند مرقص غير ممكن ” بدون الكلام عن العقل والضرورة والقانون، عن المجتمع والدولة والفرد، عن الفَرق والهوية، عن الشغل والقيمة. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون مفهوم الدولة، ولا يمكن الكلام عن الدولة الديمقراطية بدون الدولة الحقية (دولة الحق) أولاً وأساساً. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون الحديث عن التقدُّم وبدون عيش الناس، بدون خبزهم.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 845). وينتقد مرقص الفكر العربي الحديث لأنه ” لم يُعنَ بفكرة التقدم، بل تمسك بفكرة الثورة. (مرقص، حوارات ، ص 15). وشتان بين التقدم الذي يعني الانتقال والحركة نحو الأمام، وبين الثورة التي قد تكون خطوة في طريق التقدم، لكنها لا تنتهي بالضرورة إليه، إذ قد تنحرف أو تغيّر مسارها. 

خاض مرقص معارك فكرية ضد الشيوعيين الذين لم يفهموا ماركس؛ لأنهم لم يقرأوه فشوهوا أفكاره، وخاض سجالاته ضد الماركسية الستالينية، وضد الدوغمائية وضد قطرية الماركسية وضد القومية المثالية المعادية للاشتراكية، وكتب كتاباً في نقد ساطع الحصري، وكان يرنو من وراء ذلك إلى صياغة ماركسية لينينية عربية، تجمع بين الاشتراكية والقومية معاً. واختلف مع المقاومة الفلسطينية، ليس بسبب أنه ضد تحرير فلسطين، بل لأنه كان يرى أن تحرير فلسطين يمر عبر الوحدة العربية والإرادة القومية العربية . لم يكن مرقص يعد نفسه قومياً عربياً، بل كان يرى أنه ماركسي ناصري، حيث يوافق جمال عبد الناصر بقوله: إن العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب عدة، ولا يوافق الأفكار القومية [ الحصرية] التي ترى أن الدول العربية مجرَّد كيانات مصطنعة لا بد أن تزول لقيام الوحدة العربية. (مرقص، حوارات، ص18).

ربط مرقص بين الوحدة والتعدد أو الاختلاف، وهذا الموقف يعدُّ من مآثر الفيلسوف السوري، فبينما تنكر الفلسفة والأيديولوجيا الماركسية التعدد، وتؤمن بما هو مشترك، نرى مرقص الماركسي السوري يخلق التعدد والكثير، وينثره في الواحد الفرد الصمد. والماركسية كما يرى مرقص لا تُنكر التعدد من حيث الأصل، لكن ” الماركسيون فيما بعد ذهبوا نحو الأقنمة [ من أقنوم ]، استغرقوا الاختلاف في الطبقات … فـ الحزب فـ القائد والرمز ودولة الأجهزة. الدولة انتصرت على المجتمع، السياسة على الاقتصاد، الفكر على الوجود وفي الحاصل كان المنتصر أكبر المهزومين.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص59).

من هنا نرى حضور فلسفة الاختلاف والفردية لدى مرقص، ولعل الفضل يعود إليه باستخدامه لأول مرة في مجتمعاتنا مصطلح المجتمع المدني بمفهومه الكلاسيكي الهيغلي، وهو ما يعني المجتمع البرجوازي، أو إن شئت فقل المجتمع الحر الديمقراطي. وهذا مما أضافه مرقص للوعي الماركسي الشيوعي، لأنه لم تكن لديه تلك الحساسية التاريخية حيال البرجوازية، ومع كونه اشتراكياً فإن اشتراكيته لم تتحول كما تحولت اشتراكية الأحزاب العربية الستالينية، إلى اشتراكية كليَّانية، بل كان مرقص يربط مفهومي الوطن والأمة بالديمقراطية حسب الفهم البرجوازي، فلا وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون حقوق إنسانية أولاً، واقتصادية وسياسية وأضف ما شئت من الحقوق ثانياً. يقول مرقص بهذا الصدد: ” ولأن لا أمة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون مجتمع مدني حر، من دون حقوق الإنسان أولاً، قبل وفوق حقوق المواطن، المواطن إنسان أولاً، المواطن مواطن المدينة أو المجتمع أولا ثم وبالتالي مواطن الدولة والسياسة.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص862).

من هنا نلاحظ أن مرقص كان يقيم فلسفته في الدولة على أساس مادي من جهة؛ لأنه أعطى للحقوق الإنسانية التي هي طبيعية ومادية أولوية على الحقوق السياسية، وعلى أساس مثالي من جهة أخرى؛ لأنه كان يطمح لإقامة دولة الحق الواجبة لا الموجودة على أرض الواقع، فكان فيلسوف المثال والواقع السوري بلا منازع. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ