حال العلمانية في سوريا بعد تسع سنوات من الدمار

حال العلمانية في سوريا بعد تسع سنوات من الدمار

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

كان الخطاب العلماني في سوريا أحد ضحايا الثورة السورية. وقد جاءت تلك الخسارة نتيجة لأكثر من مسبّب واحد، حيث تعاون النظام والفصائل الإسلامية ودول الخليج وتركيا على تحييد هذا الخطاب وإفقاره وإقصائه من على طاولة النقاش. وبينما استخدم النظام العلمانية كورقة سياسية وزينة تجميلية فارغة من أي مضمون، هشّمت فصائل المعارضة مفهوم العلمانية باعتباره مرادفا للإلحاد والردّة.

قبل اندلاع الثورة، كان ثمّة حوار حاد (وجارح أحيانا)، بين أربعة تيارات فكرية تناولت مسألة العلمانية.

التيار الإسلامي والعلمانية

 التيار الأول كان التيار الإسلامي الذي لا تهادن بين فكره وبين الفكر العلماني، وقاد هذا التيار رجال دين مثقفون وفقهاء[1] وآخرون سوقيون وشعبويون[2]. واتفق الجميع على استسهال الاستشهاد بالمقدس[3] في مواجهة الدنيوي واختصار السجال بفكرة أن العلمانية هي نتاج غربي يهدف إلى تدمير الإسلام، بل ذهب البعض أبعد من ذلك فصرّحوا أن العلمانية نتاج الحركة اليهودية التي “أرادت نشر الإلحاد في الأرض فتسترت بالعلمانية،” كما يقول عبد الرحمن حسن حبنّكة.[4]

تيار النظام

التيار الثاني هو تيار النظام الذي عقد تسوية تاريخية بينه وبين التيار الإسلامي، وعلى رأسه الشيخ الراحل محمد سعيد رمضان البوطي، بحيث يترك الإسلاميون السياسة والاقتصاد للنظام وجماعته، ويتخلّى النظام بالمقابل عن الفضاءين الثقافي والاجتماعي لرجال الدين.

وزاد من قوّة هذا الاتفاق الضغط الدولي على النظام السوري بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ودور سوريا في توريد مقاتلين جهاديين للقتال ضدّ القوات الأمريكية وارتكاب أبشع المجازر الطائفية. نتيجة تلك الضغوط، استخدمت السلطة المزاوجة بين الوطني والديني كورقة في مواجهة الضغوطات الخارجية التي كانت تتعرض لها. وقد لاحظنا قبل الثورة ارتفاعا كبيرا للخطاب الديني في الأداء السياسي لصناع القرار في سورية، وبخاصّة أثناء أزمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من ضغوط خارجية على الحكومة السورية، وارتفاع وتيرة الغزل بين أركان السلطة وأركان المؤسسة الدينية الأكثر انغلاقا. ورأينا انفلاتا همجيا للفئات الإسلامية الأكثر تطرفا، تجسّد في ذروته في إحراق وتدمير سفارتي الدانمارك والنرويج في شباط 2006.

شحرور والخزنوي

وكان على التحالف العتيد ما بين النظام ورجال الدين أن يزيل من على الطريق العثرات التي يمكن أن تقف في وجه هذا المدّ أو تنغّص عليه، فهوجم رجال الدين المنفتحون، كالدكتور محمد شحرور[5]والدكتور معشوق الخزنوي. لطالما كرّر شحرور أن “الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، والناس بالنسبة له سواسية، يتميزون بقدر عملهم الصالح”. وحدّد بكل وضوح أن “وضع بند ‘الإسلام دين الدولة’ في أي دستور لا معنى له، بل يحمل مغالطة للتحكم برقاب الناس، وأفضل من هذا التركيز على دولة المؤسسات والقانون، بحيث يحكم فيها أمثال ميركل وترودو من خلال مؤسساتهم لا شخصهم”[6].

 أما الخزنوي فكان قبيل مقتله ينادي علانية بالعلمانية التي تعني وفق كلماته “في النهاية فصل الدين عن الدولة. وهو مطلب يخدم كلا الطرفين، فابتعاد الدين عن الدولة والعمل السياسي، حماية للدين نفسه، ولمكانته وقيمه ومثله العليا”[7].

 وتترافق الدعوة إلى العلمانية، في فكر الخزنوي، مع فكرة “لا إكراه في الدين،” وفكرة الأخوة الإنسانية التي يعتبرها أمرا رئيسيا. ولذلك عمل الخزنوي على “البحث عن المشترك بين الناس في مختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية وخاصة أبناء الوطن الواحد”[8]. ولذلك، اضطر محمد شحرور إلى الهجرة بمذهبه العقلاني إلى الخارج، بينما لقي معشوق الخزنوي حتفه تعذيبا واغتيالا في منتصف العقد الأول من هذه الألفية.

تيار “تأليه الشعب”

التيار الثالث شكّل طيفا واسعا من المثقفين السوريين الذين يؤلّهون “الشعب” ويسعون إلى استرضاء “الأغلبية”، وينادي هؤلاء بعلمانية لطيفة بلا أنياب تبقى في الإطار الفوقي للدولة دون أن تنزل إلى الناس في المجتمع.[9] هؤلاء يعتبرون أن العلمانية، لأنها تبحث في ضرورة فصل الدين عن المؤسسات واعتبار أن الأولوية للإنسان وليس للدين ومؤسساته رجاله وطوائفه، إنما تصبّ في خدمة الدكتاتور، وترحم الأغلبية (السنية بتركيبتها) من حرية التعبير.[10]

ويريد هؤلاء تخليص علمانيتهم اللطيفة من براثن العلمانيين الفجّين وجعلها مقبولة من الأغلبية، فيقولون إن العلمانية لا تتعارض مع الإسلام ويبحثون عن جذور لها في التاريخ العربي الإسلامي.

تيار “الأقلية”

كان التيار الرابع[11]على الدوام تيّار الأقلية التي كانت تطالب بدولة غير مؤدلجة، تقف على مبعدة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، ولا تتدخل في محتوى العقائد الدينية وليس من شأنها تنظيم الديانات، وعليها أن تُعامِل، على قدم المساواة، جميع الديانات والمذاهب الفلسفية الإنسية دون تبني أي منها أو تفضيل واحدة على أخرى. وهي لا تكفل فقط حرية المعتقد، بل وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، وتحمي الأفراد وتضمن لهم حرية الخيار بأن يكون لهم اتجاه روحاني أو ديني أو لا يكون. وتحرص على ألا يكون بإمكان أي مجموعة أو أي طائفة أن تفرض على أي شخص هويتها الدينية أو الطائفية أو الانتماء إليها، وبشكل خاص تقسيم الأفراد بالقوة وفق الأصول العائلية لهؤلاء الأفراد.

العلمانية في ظل الثورة

مع قيام الثورة السورية، ازداد التيار الأول قوّة وسطوة، سواء أكان في مناطق المعارضة أم في مناطق سيطرة النظام، وبات ذكر مصطلح علمانية أمرا مكروها إن لم يكن محرّما، وغدت تهمة بحدّ ذاتها في بعض مناطق سيطرة الفصائل المسلحة، توازي الكفر أو الردّة. وتخلّى مثقفون سوريون علمانيون أو شبه علمانيين عن طرح أفكارهم، وذهبوا يدارون علمانيتهم بمصطلح جديد هو “المدنية“. بل انزاح بعضهم إلى لعب دور مصلحين دينيين بدل دورهم كناقدين،لهم، فطرحوا مسألة “الإصلاح الإسلامي”، راجعين بفكرهم قرنا ويزيد، وواجدين أنفسهم في أحذية محمد عبده ومحمد رشيد رضا، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

انحناء النظام أمام المد الديني

ولم تكن مناطق سيطرة النظام بأحسن حالا، فالنظام الذي يباهي بعلمانيته اضطر إلى الانحناءأمام المدّ الإسلامي، ويمكننا أن نرى ذلك جيدا من خلال قانون وزارة الأوقاف السورية المثير للجدل، الذي اعتبر جمهرة من البعثيين ومؤيدي النظام أنه “يرسخ الانقسام الديني في البلاد ويجعلها وزارة تحكم قبضتها المطلقة على عدد من مفاصل الدولة الدينية وتحولها إلى وزارة لا شريك لها في اتخاذ عدد من القرارات”[12].

ولم ينحنِ النظام أمام التمدّد الإسلامي فحسب، بل قدّم تنازلات أيضا للمرجعيات الشيعية والكنائس المسيحية، ما جعل البلد الواحد، بل المدينة الواحدة عدّة بلدان وعدّة مدن. ففي دمشق مثلا يختلف نمط الحياة في القصاع وباب توما اختلافا كبيرا عن الميدان ويختلف الحيّان عن حيّ الأمين أو السيدة زينب. وكانت النتيجة تعميق الانقسام المجتمعي بين مكونات الأمة السورية.

حال العلمانية السورية اليوم

ويحقّ لنا استنتاج أن حال العلمانية في سوريا اليوم أسوأ من حالها قبل عقد من الزمان وقبل عقود كثيرة. وسوريا التي طالما عرفت، منذ انفكاكها عن الإمبراطورية العثمانية، نوعا من العلمانية الشفافة التي، وإن لم تسمّ باسمها، فإنها كانت واضحة ولينة ولم يعترض عليها معترض، تجد نفسها اليوم في حال أسوأ بكثير، فكثرة ممن يدّعون العلمانية يقفون الآن في صفّ النظام وأيّدوا فجوره ضدّ السوريين، إما خوفا من التغوّل الإسلامي الذي كانوا يرونه رأي العين في مناطق سيطرة المعارضة أو تشبثا بمواقع يسارية بائسة تقوم سياستها على المناكفة وردّ الفعل وليس المبادرة والفعل.

 وبالمقابل، تخلّى الكثير من المثقفين عن علمانيتهم، بزعم أن الوقت الآن ليس للترف النظري والفلسفي، بل للتغيير على الأرض. وسنحتاج سنوات قليلة قبل أن نعود إلى طرح القضية للبحث بشكل جدي ومثمر. ومع ذلك، فإن أي طرح لمستقبل سوريا بعيداً عن العلمانية سيكون خطوة أخرى باتجاه إبعاد البلاد عن الحداثة والديمقراطية والعيش المشترك، فالعلمانية ضرورة لإنتاج الدولة الوطنية الحديثة، في مواجهة اللادولة، أو الاستبداد والعنف والطغيان، وهي أداة السوريين الأكثر أهمية في تأسيس وحدتهم القائمة على أساس التعددية والتنوع والغنى القومي والطائفي والمجتمعي.

العلمانية ليس حكم قيمة

ولنتذكر في الختام أن العلمانية ليس حكم قيمة، بل هي أسلوب في الفكر والحياة، يعتبر أن الإنسان هو جوهر القضية وليس الفكرة أو العقيدة أو الدين. وهذا وحده ما يجعل من المتّحد المجتمعي مكانا صالحا للحياة والتفاعل والإنتاج والتطور.

وقد يكون أفضل ختام قول المفكر السوري جاد الكريم الجباعي في أن العلمانية “ليست صفة خارجية نطلقها على الدولة جزافاً وننزعها عنها جزافاً، وليست حكم قيمة ذاتياً يطلقه العلمانيون على الدولة، بل هي حكم واقع يتعلق بأساس الدولة الوطنية الحديثة ومبادئها، وليست اختياراً ثقافياً أو انحيازاً أيديولوجياً، إلا على صعيد الأفراد. الدولة الوطنية إما أن تكون علمانية وإما لا تكون دولة وطنية، بل لا تكون دولة. هذا الأمر لا يتعلق بواقع الاختلاف والتنوع، على الصعيدين الديني والإثني فقط، بل يتعلق بماهية الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون أساساً.”[13]

هوامش

[1] كالدكتور محمد سعيد رمصان البوطي وعبد الرحمن حسن حبنّكة.

[2]  ، كالشيخ عبد العزيز الخطيب، وبدرجة أقل الشيخ راتب النابلسي.

[3] يمكن بخصوص الاستشهاد بالمقدّس مراجعة المناظرة الشهيرة بين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور طيب تيزيني. متوفرة على الرابط https://bit.ly/2Wk3VKP وفي هذه المناظرة يعتمد الشيخ البوطي على سؤال يسأله لمناظره، وسيستند إليه في جلّ طرحه. ” هل كلانا مؤمن بأن النص الذي سنتحدث عنه إنما هو حصيلة وحي تنزّل من عند الله (…) وخوطب به الإنسان؟”

[4] عبد الرحمن حسن حبنكة، هوامش على كتاب نقد الفكر الديني، منقولة عن “محمد كامل الخطيب، حرية الاعتقاد الديني، مساجلات الإيمان والإلحاد منذ عصر النهضة إلى اليوم، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دمشق – 358

[5]  يقول الدكتور محمد شحرور في مقابلة له مع مجلة الجديد (https://shahrour.org/?p=8180 ) عندما صدر كتابي الأول «الكتاب والقرآن» عام 1990، لم أكن أتوقع أن يلقى ترحيباً، وتعرّض الكتاب لهجوم شرس في حينه، لكني لم آبه له، وكان رد معظم رجال الدين هو تحريم قراءة الكتاب، وبالطبع لم ألق قبولاً لدى الإعلام العربي على عكس شيوخ الطهارة وطاردي الجن، واليوم وبعد انتشار الوسائط المتعددة أصبح من الصعب منع المعلومة من الوصول لطالبها، وما قلته في التسعينات واعتبر تجاوزاً كبيراً على «المقدسات» أصبح اليوم يتداول حتى على ألسنة من هاجموه، ورغم أن الانتشار ما زال محدوداً إلا أني أتفاءل بالمستقبل، فجيل الشباب يبحث عن أجوبة لأسئلته. واتهم شحرور بالردة (راجع http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_news.php?main_id=6739  كما اتهم بالعلمانية (راجع أسامة شحادة https://bit.ly/31PQvay)

[6]  راجع: د. محمد شحرور، هل الدولة الإسلامية هي الحل؟ متوفر على موقعه الرسمي على الرابط التالي: https://shahrour.org/?p=4013

[7]  للمزيد عن فكر الشيخ الخزنوي ورؤيته للعلمانية، راج: وائل السواح، الشيخ الكردي السوري محمد معشوق الخزنوي… خرج ولم يعد، جريدة الحياة 1 حزيران/يونيو 2005، متوفر على الرابط التالي:  https://bit.ly/2BLixJS

[8]  راجع وثيقة كان كتبها الراحل قبل وفاته، متوفرة على الرابط التالي: http://www.asharqalarabi.org.uk/huquq/b-huquq-18.htm

[9]  انظر في هذا الصدد برهان غليون، المسألة الطائفية ومسألة الأقليات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2012، المقدّمة، وفيها يقول: ” المثقفين (العلمانيين) سعوا “إلى نفي التعددية المذهبية والدينية الرمزي في إطار دعوة علمانية تتجاوز السياسي لتشمل المجتمع بأكمله، وتظهر كما لو كانت عقيدة جديدة للدولة والأمة يجب أن تنحل فيها أو تذوب العقائد والمذاهب والأديان الأخرى كلها”.

[10]  يقول د. برهان غليون إن العلمانية باتت إيديولوجية لـ “تبرير ضرب حرية الاعتقاد الأساسية، ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة”. نفس المرجع ص 30.

[11]  ومنهم عزيز العظمة، جورج طرابيشي، صادق جلال العظم، وراتب شعبو.

[12]  هل فُصِّلَ القانون على مقاس وزير الأوقاف؟ موقع سناك سوري الموالي للحكومة السورية، متوفّر على الرابط التالي: https://bit.ly/2PmM8RM

[13]  انظر جاد الكريم جباعي، دخل سياسي إلى العلمانية أو مدخل علماني إلى السياسة، موقع الأوان، متوفر على الرابط التالي: https://bit.ly/32NgQaJ

سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية

سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

كثرت التساؤلات في السنوات الماضية عن مستقبل الدولة السورية، الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكل منهم حقله ومفاعيله ومنظوماته ومساراته. وسنخص بالنقاش موضوعا متصلا بهذه الحقول اتصالا عضويا، وهو بنية وطبيعة الدولة السورية المستقبلية: هل هي دولة علمانية؟ أم دولة دينية؟ أم ستبقى دولة هجينة؟

 وللإضاءة على ذلك، لابد من عرض مكثف عن جذور العلمنة المبكرة في سوريا والمرتبطة بالمشرق العربي، وأسباب فشل تطبيقها.

أسباب فشل العلمنة في سوريا

بدأ الفكر العلماني القومي بالظهور في المشرق العربي أواسط القرن التاسع عشر (إبان الاحتلال العثماني) وترجم على الأرض بتكوين الجمعيات الفكرية  والثقافية، وكان المركز الرئيسي لهذا النشاط مدينة بيروت (سوريا ولبنان كانتا موحدتين).

 تأسست أول جمعية سورية لإحياء الفكر القومي العلماني (1857) الجمعية العلمية السورية، التي تأثرت بقيم وأفكار الثورة الفرنسية نتيجة الدراسة والاحتكاك والبعثات التبشيرية (إبراهيم اليازجي، محمد أرسلان، بطرس البستاني، فرنسيس المراش) وشكل هؤلاء المثقفون وسواهم، أحد أهم روافع الفكر القومي العلماني، وانضم إلى  هذا التوجه (لاحقا) ضباط خدموا في الجيش التركي (وتأثروا بالثورة الفرنسية وبالفكر القومي الألماني) إثر فرض سياسة التتريك الإجبارية، ومن هؤلاء (مصطفى وصفي، وأمين الحافظ) بعد ثورة (1909) ونهوض القومية الطورانية، الأمر الذي أجج عوامل نهضة الفكر القومي وبلورته على الأرض، من خلال الانضمام إلى الثورة العربية الكبرى (1916)، ونيل دول المشرق العربي استقلالها ومن ضمنها سوريا  (قلبه) عن الدولة العثمانية. لكن لم يمض عامان من الاستقلال (1918, 1920) إلا وانتدب الفرنسيون سوريا، بعد أن وجهوا لها الضربات المتتالية  (ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر)، سواء للصناعات المحلية، أو لتراكم رأس المال (أثره السلبي في نهوض طبقة برجوازية ليبرالية). لكنهم  استحضروا بعض مظاهر الحداثة سياسيا (الانتخابات), إضافة إلى مناح أخرى محدودة كالطرق!

 وبنفس الوقت، حافظ الفرنسيون على البنى القائمة، وتحالفوا مع القوى التقليدية التاريخية والراسخة من التجار، ورجال الدين والإقطاع الذين شكلوا السلطة المحلية للانتداب، ولم تختلف الصورة بعد الاستقلال، فهؤلاء من حكم سوريا حتى الوحدة، وعادوا بمرحلة الانفصال.

 وسنفرد لكل مرحلة أسباب العجز البنيوي عن بناء دولة علمانية ديمقراطية. ولن ندخل مرحلة الانتداب ومفاعيلها من توزيع طائفي ومذهبي وجغرافي مُدَسْتر بين (1920، 1936).

فشل في إنجاز المهمات الوطنية

وسنلج إلى مرحلة الاستقلال والنخبة المسماة زورا “ليبرالية” التي تعاقبت على حكم سوريا، وفشلت في إنجاز المهام الوطنية والحداثوية، ومنها العلمنة، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية ودينية، أهمها العجز البنيوي لارتباطها العضوي بالسوق العالمية وتبعيتها له، إضافة إلى البنية التجارية الركيكة للمدن وتحالفاتها مع رجال الدين (الكثير منهم تجار وملاك أرض) والإقطاع المسيطر على الاقتصاد ككل (المديني والريفي)، ودور هذا الثلاثي  المتجذر في البنية السورية الاقتصادية والسياسية لعقود طويلة.

وهذه البيئة والبنية أفرزت الصناعيين ورجال الأعمال بطبيعتهم المحافظة وعلاقاتهم، وهو التحالف الضعيف الذي تحكم بمفاصل الدولة والسلطة في  سوريا (المتعددة الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات). الدولة التي خرجت  للنور مضطربة الاقتصاد والسياسة والجغرافية والحداثة، دولة متشابكة ومتناقضة ما بين مظاهر الحداثة وبنى القرون الوسطى، هذه العناصر جميعها  تشابكت وتراكبت، لتصبح سببا رئيسا من بين أسباب عديدة أخرى، عرقلت تبلور طبقة أو فئة اجتماعية تتبنى عضويا مفاهيم العلمنة والحداثة والحرية والتعددية، وتحمل مشروعا حداثياً جدياً بمنطوياته المتعددة، ومنها العلمنة.

 هذا العجز البنيوي  لليبرالية  السورية (المستولدة من رحم الإقطاع وسواه)، هو من مهد  الطريق جراء فشل سياستهم الاقتصادية، لاكتساح الأرياف معالم الدولة الحديثة، الأمر الذي أدى إلى إقصاء المدينة نفسها (ولو جزئيا) عن الأفكار العلمانية وعن التيارات السياسية الديمقراطية، وإلى  تهميش الأرياف الذي وجد أبناؤها في الأحزاب العلمانية ملاذا، يعدهم بالمساواة والمواطنية المتساوية، ووجدوا في الجيش ميدانا للترقي الاجتماعي، فتضافرت تلك العوامل لإيصال الجيش إلى السلطة، بالتوازي مع  حرب فلسطين (وقيام إسرائيل) التي كشفت عجز النخبة الحاكمة الوطني، فأطيح بها من قبل  حسني الزعيم الذي أقر دستوراً  اقرب للعلمانية (لم  يذكر دين الدولة أو رئيس الدولة)، والذي أُخضع للتعديل (1950) مرحلة حكم أديب الشيشكلي بعد صراع طويل حول فقرتي دين الدولة ودين رئيسها، واتفق المعنيون على كتابة  الدولة مجردة، في حين تم تحديد دين الرئيس (الإسلام).

 وبقيت قوانين الأحوال الشخصية خاضعة للشريعة الإسلامية، وبهذا استمرت الدولة الهجينة (حتى الآن) رغم صعود أحزاب علمانية فاعلة آنذاك، ولكن اقتصر فعلها على الحقل السياسي والحكم، وغاب عنها الفعل التنويري، لأنها أرجأت كل مشاريعها التنويرية والحداثية إلى حين  وصولها إلى السلطة. ولعل أبرز تلك النخب الحزب القومي السوري، الذي ناضل لتحقيق الحداثة والعلمنة (ضرب مبكرا) والشيوعي. أما حزب البعث، فلم يكن علمانيا، لأنه مزيج من الفكر القومي ذي البعد العلماني ومرتبط بحبل سرة بالتاريخ العربي الإسلامي.

عندما حكم البعث

 ولذا عندما حكم البعث سوريا (1963) بانقلاب عسكري، حاول ضرب مواقع القوى الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية المدينية من خلال التأميم،  والإقطاع بقوانين الإصلاح الزراعي، والمتحالفين معهم من رجال الدين، وأبقى على البنى القديمة القادرة على إعادة إنتاج المفاهيم التقليدية وحواملها الاجتماعية والثقافية، وعندما سن البعث دساتيره المؤقتة (الثلاثة) لم يجرؤ على  فصل الدين عن الدولة، ولم يحدث ثورة أو إصلاحاً على مستوى التشريع بما يختص بقوانين الأحوال الشخصية (الدينية) ولم يخض معركة الحداثة، والعلمنة (كما فعل بورقيبة في تونس)، وإنما دخل بصراع على السلطة والنفوذ والثروة وتجريد القوى المناوئة من مكامن قوتها، وتم ذلك على مراحل، حتى عندما حكم راديكاليو البعث (1966، 1970) اقتصرت إجراءاتهم الجذرية على التأميم والمواقف السياسية، ولم يفتحوا معركة العلمنة نتيجة ضعف قاعدتهم الاجتماعية وحوامل الحداثة والعلمنة، ولخوفهم أيضاً من القوى المناهضة وتمردها واتهامهم بالكفر. وبالتالي، حافظت  “الدولة” على صيغتها الهجينة.

حافظ الأسد.. علاقة وثيقة بين الدولة وعلماء الدين

وعندما جاء حافظ أسد (ذو الخلفية الأقلوية) إلى السلطة ونتيجة حاجته لتوطيد أسس نظامه السلطوي وفي سياقٍ سياسي متغيّر، أحدث تغييرات في البيئة العلمانية المحدودة، فقام النظام بالعمل على رعاية علاقةٍوثيقةٍ بين الدولة وعلماء الدين على وجه الخصوص (دار الإفتاء والأوقاف) وعقد تحالفاً وثيقا  معهما بما يمثلان (إضافة إلى الكومبرادور). وهذه الصيغة شكلت ركائز معادلة حكمه (وأبقى مسحة علمانية لاستدامة تآلفه الخاص البيئي والسياسي)  ولا تزال سارية المفعول.

 هذا العقد التحالفي أنتج دستور (1973) الذي أعاد صيغة دستور (1950) إثر مظاهرات في مدينة حماة، ورفض رجال الدين للنسخة التي لم تأت على ذكر دين رئيس الجمهورية، وفي هذه المرحلة ازدهر بناء الجوامع ونشط الخطاب الديني الذي تزامن وازدهر مع بناء الجوامع، وذلك لإرضاء حلفاء النظام  الجدد وقاعدتهم الشعبية، وللوقوف بوجه اليسار الراديكالي الخ.

 استمر العمل بجوهر دستور (1973) بما فيه دستور (2012). ولم تطرأ تعديلات حداثية فعلية تتعلق بالعلمنة وعلى وجه الخصوص شؤون الأحوال الشخصية والتشريع المرتكز على الشريعة الإسلامية.

 أما في ملف الأحزاب، ومع العلم أن تحالف النظام السياسي ذا الطابع (الشكلاني) مع الأحزاب الخمسة المشكلة للجبهة الوطنية هي أحزاب علمانية ومدنية. ورغم ذلك أصدرت الحكومة السورية قانوناً ينظم عمل الأحزاب السياسية (2011)، ولم يأت القانون في مواده على ذكر “العلمانية”، وإنما أشار إلى شروط التأسيس بعدم قيام الحزب على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو على أساس التمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون.

خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية

 إن الوقائع سابقة الذكر، تؤكد خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية (المسيطر عليها من قبل الباتريمونالية، وتعني الإرثية الرأسمالية وإعادة إنتاج البنى التقليدية والغنائمية) وهذا ينطبق على توصيف المجتمع السوري أيضا ( المتعايش فطريا إلى أن يدخل الدين بالسياسة).

 يضاف إلى تلك الوقائع، التذكير بأن المساجد والكنائس لا تزال كلمتها هي العليا، وقانون الأحوال الشخصية مازال ضمن  إطار ومحور الشريعة الدينية، وفي المدارس لم تستطع المؤسسات التربوية إلغاء التربية الدينية، واستبدالها بمواد عن المواطنة. وأي مراقب محايد يلاحظ مؤخراَ ازدياد الجرعة الدينية في الدولة والمجتمع السوري من ازدياد معاهد تحفيظ القرآن إلى الجماعات الإسلامية مثل القبيسيات” والجمعيات الخيرية، وتوسع ٍ في صلاحيات وزارة الأوقاف، وكأنها إعادة إنتاج وتجديد لتحالف النظام مع الأوقاف  والإفتاء ولشرعيته  بعد التحولات  السورية الكبيرة، التي بدأت بالانتفاضة  السورية كجزء من الربيع العربي (2011).

هل حجارة  البركان السوري حجبت العلمنة؟

حمل الانفجار الجماهيري الكبير (2011) احتماليات مستقبلية كبيرة من مشاريع وبرامج جذرية لمسارات ديموقراطية وعلمانية (ونفث أيضا بواطنه المتخلفة). ولكن للأسف كانت قواه الفاعلة والمحركة, سياسيا وشعبيا, من  الإسلام السياسي التقليدي بتلاوينه المتعددة، لأن اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، ولذا  لم يُطرح أي مشروع نهضوي،  واقتصر حقل  الصراع على السلطة ( وأهمية صندوق الانتخاب)، ترافق ذلك مع تنظير بعض النخب العلمانية لمصطلح الدولة المدنية بدل العلمانية، كخطوة تراجعية عما طرح طوال العقود المنصرمة. وفي هذا الإطار، يأتي تخلي برهان غليون في مقابلته التلفزيونية  مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي) عن الدولة  العلمانية بما تمثل، إلى الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين وغيره الكثير. وهذا التراجع هدف إلى  تسويق مفهوم الدولة المدنية تمهيداً للحكم الإسلامي على النموذج التركي، وبرروا ذلك بأنه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون.

فشل الانفجار العربي الكبير في معظم الدول (بما فيها سوريا) من تحقيق المأمول منه (ديمقراطية، حداثة، عدالة اجتماعية…) وانزلق نحو الحروب الأهلية في كل من ليبيا، اليمن، سوريا، والتي لا تزال دائرة.

حرب قادت سوريا إلى التطرف والتطيف والتقوقع، وربما التقسيم فخسر الوطن السوري (وغيره من بلدان المنطقة) فرصة تاريخية لبلورة مشروع تنويري حداثوي وديمقراطي، أو محاولة تقديم مشروع إصلاح جدي، كما حصل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على يد رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي  وغيرهم الكثير.

 والسبب (كما قلنا) يعود إلى طبيعة الفواعل السياسية والاجتماعية في الحراك وبنيتها الدينية التقليدية، فهي قوى بدون مشروع ولا برنامج، وكل ما تطمح إليه السلطة السياسية والثروة وإدخال رأس مال بنكهة إسلامية (أصحاب رؤوس الأموال من الإسلام السياسي) في تماثلية شديدة الوضوح بين أحزاب الإسلام السياسي والقوى الحاكمة المستبدة (ذات القشرة المدنية) من حيث  البنية الرأسمالية،  والهدف المركزي  السطو على السلطة، وغياب المشروع،  أضف إلى أنهما قوى غير ديمقراطية. إن طبيعة الصراعات الأخيرة قادتنا إلى  تراجع جديد  في مسار المشروع النهضوي. وفي هذا السياق لن ننسى  دور التدخلات الخارجية ومشروعها مع الإسلام السياسي “المعتدل”، الإخوان المسلمين، وإن تراجعت عن تحالفها معهم بعد سقوطهم في مصر.

مسارات الحل السوري وأفق العلمنة

بعد سنوات من الحرب الأهلية السورية المدمرة والصراع الدامي على السلطة والثروة وسمات الصراع المذهبي متعدد الوجوه، إن لم نجرؤ (من باب توخي الدقة) على القول بأن الصراع اتخذ شكلا وبعدا مذهبيا، لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه الصراع المسلح بين النظام والأصولية الإسلامية (1979، 1982) وإن اكتسى قشرة تقدمي/ رجعي (ما يؤكد ما ذهبنا إليه أن النظام لم يكن يوما نظاما علمانيا) آنذاك.

وهذا الصراع المتجدد، يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي،  يتمظهر بالتوضع الطائفي والمذهبي نتيجة طبيعة وبنية القوى المتحاربة والمتخاصمة من حيث التركيبة الديموغرافية والمذهبية والفكرية القصووية  المتقابلة. فالنظام السوري ذو الطبيعة الاستبدادية له سماته المذهبية والطائفية، ولاحقا جاءت  بعض تحالفاته في المحيط الإقليمي (إيران) لتراكم رؤية وموقفا من النظام على أسس مذهبية من قبل كتل شعبية وقوى معارضة إسلامية، جاءت انتفاضة (2011) ومسارها، الذي جوبه وقطع بالعنف الوحشي الممارس من النظام، لتبلور معارضة تناقضه بالبيئة الاجتماعية وبالتوجه السياسي والتحالفات، وعناوين الصراع، قوى تعمل على القطع مع النظام والقتال ضده تحت شعار مذهبي دفع به إلى واجهة الصراع ومتاريس القتال من قبل الطرفين وعبّآ بيئيتهما، وشكّلا أدواتهما من ميلشيات عنف وعنف مضاد مع استخدام النظام لكل أدوات العنف في الدولة بحيث جر وحوّل الصراع، والذي كان  يفترض  أن يكون أفقيا، إلى صراع  عامودي  اجتماعي وسياسي، أسس لآفات تقسيمية طائفية ومذهبية مذرية، لأن طرفي الصراع بدون برنامج ولا رؤية، سواء للدولة أو للنظام، ومشروعهما السلطة،  فالنظام  دافع عن بقائه بكل الوسائل الدموية وغير الدموية، واستخدم ادعاءات الدفاع عن العلمانية (والأقليات) والممانعة وغيرها من الشعارات.

أما القوى المعارضة المسلحة الفاعلة على الأرض، وهي معظمها قوى إسلامية، طالبت بحقوقها (المفترضة) بحكم سوريا بما تمثل، ومن بينها الإخوان المسلمون. أما قوى المعارضة الأخرى، من يسارية وعلمانية وليبرالية،  فهي الحلقة الأضعف (مفككة) وعاجزة عن الفعل.

 والانتفاضة التي فتحت الباب أمام مشروع  نهضوي تنويري حداثوي (كما ذكرنا سابقا) أغلقت الأبواب سريعا بالرتاجات بسبب طبيعة مواجهة النظام (استخدم كل صنوف العنف في وجه المتظاهرين) ورد الفعل من البيئة الواقع عليها العنف والقوى المشكلة والفاعلة لمواجهة هذا العسف، وتحولها السريع إلى الأسلمة، عدا عن وجود الإسلام السياسي الكامن في المجتمع السوري.  هذه العوامل الداخلية، معطوفاً عليها التدخل الإقليمي الذي ضخ المال والسلاح من أجل إسقاط النظام وضرب ما يسمى الهلال الشيعي في منطقة هي قوس أزمات أصلا، فتحولت الساحة السورية إلى حرب خنادق بين طرفيين مستبدين وقصويين  وقتلة، واستحضرت أشباح الماضي القاتم، وتجاهلوا عن قصد ابن رشد وابن سينا وغيرهم. وخسرت سوريا صياغة مشروع دولة وطنية ديمقراطية وعلمانية، بسبب غياب كتل شعبية لها أدواتها، تشكل حوامل هذا المشروع، واستطاعت القوى التقليدية الإسلامية السيطرة على الحراك وقيادته إلى حيث أرادت بدعم من الأطراف الإقليمية والدولية.

 وبعد ثماني سنوات عجاف من أنهار الدم والتدمير والتهجير، وانهيار الحلم بالمشروع التنويري وسحقه، وتحوله إلى حلم ببقاء الدولة بحدودها الحالية  وشعبها المتشظي إلى  “ملل ونحل”  وإنهاء الحرب بأبعادها كافة، وأهمه البعد المجتمعي والسياسي إثر بروز الهويات القاتلة (الطائفية والمذهبية) ما قبل مدينية، والذي يتطلب مصالحة وطنية مبنية على حل سياسي وتقاسم للسلطة بين النظام والمعارضة (بعد الفشل في إسقاط النظام). والسؤال الذي يطرح نفسه: أي معارضة سياسية، وهي إلى حد كبير افتراضية؟! هل هي المسلحة الفاعلة؟ وماذا سيكون دورها؟ وما هي طبيعة تحولاتها الداخلية، خصوصا  والجزء الفاعل منها هو متطرف راديكالي؟ والذي  يقود أيضاً إلى تساؤل عن  الدور الذي ستلعبه هذه القوى (التقليدية والمتطرفة) مجتمعة في بنية وطبيعة  الدولة القادمة وبنيانها، وإلى أي درجة ستخترقها؟ وعليه كيف سيعاد بناء هوية سورية وطنية؟

إنها تساؤلات جدية حول المستقبل السوري وسيرورة تطوره؟ وما هو شكل الدولة والحكم!

واستطرادا، من هي القوى التي ستحدد مستقبل سوريا الوطني؟ في واقع مدمى  وممزق وممذهب، والذي  يدفعنا لإعادة طرح علمانية الدولة مجددا كمفتاح  لحل الأزمة السورية من أجل مجتمع موحد وسياسة معقلنة، دولة وطنية  علمانية تضمن الوحدة الوطنية وتستطيع  تجاوز الانقسام  المجتمعي والشرخ البنيوي (بانتماءات ما قبل الدولة)، وفي الوقت نفسه تعبر عن مصلحة الدولة العليا، رغم ما يدور من  التباس  حول مفهوم العلمنة  وارتباطه بأذهان العامة بالكفر…الخ، نتيجة الهجوم والتضليل الذي سيق ضدها طوال عقود مضت، بحيث لم يتم فهمها باعتبارها منظومة معرفية عقلية، وأحد وجوهها  فصل ما هو دنيوي عن ما هو ديني.

كيف ستأتي العلمنة؟

والسؤال الذي يتلو بالضرورة هذه الرؤية:  كيف ستأتي العلمنة؟ بإسقاط  فوقي (وله مساوئ عديدة) أم تحتي؟ وأي كتل شعبية وطبقية ستكون رافعة للعلمنة وممثليها (سياسيا)؟ وهل ستحّمل اجتماعيا للأقليات، كحالة دفاع عن ذواتهم؟

عندئذ تعاد الكرّة ثانية حول محدودية القاعدة الاجتماعية الرافعة لها (أيا كانت) والقوى المالية والدينية والاجتماعية الكلاسيكية التي سبق وأفشلت وستفشل  تطبيق العلمنة في مرحلة كانت القوى الحداثية والعلمانية  في ذروة حضورها وفاعليتها ولديها مشروعية، خصوصا والمنطقة تمر بأسوأ مرحلة لا تقتصر على الإسلاموية، وإنما على التطييف والتمذهب كنتاج للحروب المدمرة التي اصطبغت بالداء المذهبي. وهذا ما يعّقد هذا الطرح ويدخله باب الأمنيات والترجي! أم علينا الانتظار إلى حين نضوج إرادة شعبية أفقية لها قواعدها  الاجتماعية والسياسية؟

سورية مريضة

وسورية، في حالتها الراهنة، مريضة، وفي العناية المركزة، وتحتاج للعلاج السريع، علاج يفتح الأفق لدولة سورية سليمة البدن، بحيث لا تبقى رهينة   حليّن كليهما مر، الأول: بقاء نظام استبدادي ذي قشرة علمانية، والثاني: الذهاب إلى دولة دينية متطرفة تقضي على ما تبقى من مؤسسات مدنية  وهياكل دولة، خصوصا والنخب العلمانية السورية الحالية لم ولن تستطع فرض ذاتها على طاولة المفاوضات، وبالتالي على شكل وماهية الدولة  السورية التي  يعاد بناؤها وصياغتها، وسوف تكون محصلة موازين  القوى الفاعلة في الداخل والخارج ومعظم هذه القوى، العلمنة ليست على أجندتها، وبالتالي لن يأتي الحل بدولة علمانية ديمقراطية على أسس المواطنة المتساوية، وإنما ستبقي دولة هجينة (بناء على توازن القوى) في حال  جرى تقاسم في السلطة! أو يتكسر المساران (العلماني والهجين) ونذهب إلى تحاصص طائفي ومذهبي، وهو الطريق الأخطر على مستقبل سوريا، لأنه يؤسس لحروب أهلية متعاقبة. أو تخرج من بين الأنقاض نخبة جديدة تقنع السوريين  بضرورة العلمنة ودولة القانون…الخ.

مهمة ممكنة وملحة

 وإلى حين ذلك، لدينا مهمة ممكنة وملحة، وهي الضغط على اللجنة الدستورية (الشكلانية) المشكلة حديثا، لأجل صياغة دستور علماني ديمقراطي يحفظ حقوق المواطنين جميعا لبلد فسيفسائي الطوائف والمذاهب والقوميات والأديان  وممزق. دستور قائم على مبدأ المواطنة المتساوية والتشريعات الوضعية. مع أني لست متفائلة لأن القوى الدينية ستكبح ذلك، خصوصا أن الولايات المتحدة ودولا أخرى تعمل على دستور طائفي كما في لبنان والعراق، وهذا ما اتضح من خلال تسريب أوراق نوقشت (لقاء الولايات المتحدة والأردن والسعودية ودول غريبة أخرى 2018) عدا عن طرح بعض المبعوثين الغربيين  للديمقراطية التوافقية” المذهبية والطائفية ومحاولة إقناع  بعض النخب السورية  بهذا الطرح، فهل سيقبل الشعب السوري ونخبه بهذا الطرح؟

في تفكيك الخطاب العلماني ونقائضه

في تفكيك الخطاب العلماني ونقائضه

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

مقدمة:

ما إن استقرت العلمانية في مؤسسات ودول وممارسات حتى تحولت إلى سردية كبرى أسوة بالحداثة التي ولّدتها. ومع الوقت، وبسبب المعارك الفكرية والأيديولوجية التي خاضتها ونجمت عنها، أصبحت شبيهة بالأيديولوجيات التي وعدت البشر بالتحرر منها، إذ سرعان ما أصبحت ديناً جديداً، أي عقيدة متماسكة وصلبة ومغلقة، وبدا أن مهمة الفكر النقدي تتمثل في تفكيكها أسوة بالسرديات الكبرى القومية والأممية والدينية. فخسرت الكثير من ألقها الفكري وميلها التحرري، وغدت صنماً يضاف إلى بقية الأصنام التي حاولت تهديمها. بهذا النقد الجذري انكبت تيارات ما بعد الحداثة الفلسفية على مراجعة فكر الحداثة ومؤسساتها، ومقولاتها التأسيسية ومن ضمنها العلمانية.

أسهمت الأزمات والحروب بنتائجها وخيباتها بتعرية وفضح الخطابات الخلاصية والنصوص التي وعدت الناس بالفردوس المفقود، كما فككت الإيديولوجيات والسرديات الكبرى في نظر أصحابها وفي عيون الآخرين. إذ لم تتمكن هذه المقولات من بناء وعي أعمق بواقع المجتمعات العربية، ولم تترافق إلا بممارسات فاضحة لادّعاءات أصحابها بدلالة الفرق الكبير بين ما يقال وما يمارس، على ما تشهد به التجارب المصرية والليبية والعراقية والسورية مع التطرف والإرهاب وسواها. وتصدعت بدرجات متفاوتة اليقينيّات الكبرى القومية والدينية لتسود أشكال نكوصية وتفتيتية من الوعي الضيق، سواء أكان مذهبياً أم طائفياً أم قبائلياً أم عشائريا، وبدا أن البون شاسع بين ما نبشر به وما نمارسه[1]. وتهاوت دعاوى دولة الخلافة على أرضية ممارسات الجماعات المتطرفة والتكفيرية الأشد دموية والأكثر همجية، ولم تنفع محاولات تسويقها وتجميلها بتأكيد انتسابها إلى الخبرات الإسلامية والوعي الجمعي ذي المرتكز التراثي الإسلامي، كما تم تأويله وإعادة إنتاجه في الميديا المعاصرة.

وفدت العلمانية مع مفردات منظومة الحداثة الغربية إلى الثقافة العربية إثر الاحتكاك المباشر مع الغرب، وأثار مفكرو النهضة الأوائل معارك فكرية ذات مضامين سياسية وثقافية، إبان محاولتهم الإجابة على السؤال النهضوي الكبير، والذي مايزال معلقاً ومطروحاً: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب والمسلمون؟؟.

في سياقها الغربي لعبت العلمانية دوراً إيجابياً في تسهيل انتقال أوروبا من العصر الوسيط إلى العصور الحديثة، وساهمت إلى جانب العقلانية والمعرفة العلمية الوضعية الجديدة في تغيير الرؤيا القديمة إلى العالم وفي نقل السياسة من السماء إلى الأرض فأصبحت شأناً إنسانياً خالصاً. وبالتالي أسهمت في تحرير الإنسان الأوروبي بالتضافر مع الإصلاح الديني والنهضة، من سلطة اللاهوت الكنسي وسيطرته على مقدرات أوروبا المادية والروحية، هذا التحول الذي استكملته فلسفة التنوير من خلال اعتبار الإنسان الفرد وأسئلته وحريته وملكيته أساساً للفلسفة السياسية الحديثة التي قالت بدولة الحق والقانون، وبالعقد الاجتماعي مع هوبز وروسو ولوك وتوصلت إلى فكرة المواطنة كبديل للصراعات الدينية. فعد الإنسان هو المركز بوصفه مواطناً وبصرف النظر عن لونه أو دينه أو مذهبه أو معتقده السياسي، الأمر الذي تكرس في معاهدة وستفاليا وبنيت على أساسه صيغة الدولة_الأمة التي يتطابق فيها الكيان الاجتماعي للأمة مع معادلها السياسي أي الدولة. لكن هذه التطورات والثورات والانقطاعات والتراكمات استغرقت أكثر من أربعة قرون وكلفت الأوروبيين الكثير من الدماء والأكثر من الأفكار والفلسفات والتراكم المعرفي.

 نستخلص مما سبق أن العلمانية ليست بالظاهرة التي يمكن لنا توصيفها في بساطة ويسر. فهي جملة من التحولات التاريخية (السياسية والاجتماعية والثقافية)؛ وهي تندرج في إطار أوسع من مجرد التضاد بين الدين والدنيا (كما هو شائع)، وتنطوي على وجوه عدة:

  • وجه معرفي:يتمثل في نفي واستبعاد الأسباب الخارجة على الظواهر الطبيعية والتاريخية _أي ظواهر الميتافيزيقية_ وفي التشديد على التحول التاريخي الدائم؛
  • وجه آخر مؤسّسي:يتمثل في النظر إلى المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة خاصة تضم دور العبادة وأنظمتها ومستلزماتها؛
  • وجه سياسي:يتمثل في عزل الدين عن السياسة (الدولة)؛ وأخيرا،
  • وجه أخلاقي قيمي:يربط الأخلاق بالتاريخ والضمير[2].

ولم تعد مسألة العلمانية والدين مطروحة في الغرب إلا بما تحيل عليه في عالم السياسة، أي لم تعد مشكلة ولا حلا ولا قضية خلافية لأن الواقع تجاوزها بشكل علمي ومعاش أي بفعل الممارسة، لكن الأمر مختلف في أوضاعنا ومجتمعاتنا العربية، إذ لم نتمكن  من إنجاز الحداثة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، رغم وجود العديد من مظاهرها وبقيت أشكال التحديث قشرية وبرانية تتعايش مع بنى تقليدية موروثة فكانت أقرب إلى حداثة التخلف، ولم نتمكن من امتلاك عوامل القوة في عالم اليوم والمرتكزة على الإنسان والعلم وتطبيقاته، وارتضينا بالضعف والهامشية، بل دخلنا في صراعات تناحرية بينت فداحة الثمن الباهظ الذي ندفعه، فبتنا مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء خارج العصر وفاقدي السيطرة على مقدراتنا ومصيرنا.

نقد الخطاب العلماني ونقائضه:

على مستوى المآلات أخفق العلمانيون العرب في تقديم رؤيا للعلمانية نابعة من ضرورة التفكر بواقع العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة في مجتمعات مفعمة بالروحانيات والمقدس، وبالتالي بدا وكأن دفاعهم عن علمنة الحياة يصب في مواجهة الدين، رغم قولهم أن ذلك ينطبق على المجال العام ولا يمس الشأن الخاص للإنسان ومعتقداته. فكان رد الخطاب الديني على دعاة العلمانية متطرفاً إذ بدوره اتهمهم بالكفر والخروج عن الدين، بل اعتبرهم البعض وكلاء للغرب يريدون افتعال مشكلة غربية ليستوردوا لها حلاً غربياً بحسب تعبير محمد عمارة[3].

وبتفكيك هذا السجال يتضح أن الطرفين قد دخلا إلى الموضوع مدخلاً إيديولوجياً غير آبهين بالمكونات المعرفية والسياق التاريخي الذي أنتج العلمنة كسيرورة تاريخية وتراكم معرفي، بل أصبح الموقف من العلمانية موضع تهمة مسبقة وشبهة حيث نسمع في وسائل الإعلام ونقرأ عبارات مثل (علماني والعياذ بالله، العلمانيون الملحدون، وكلاء الاستعمار، المستغربون، اللادينيون…. إلخ). وهي بصرف النظر عن تحيزها أوصمتها، تدلل على موقف مسبق وأحكام صحتها قطعية وعداء إيديولوجي للعلمنة يجعل الحوار بين الطرفين مستحيلاً.

وبمقابل قول العلمانيين أن للعلمانية خاصية لا تملكها الدولة الدينية وهي قبولها للتعددية والتنوع والانفتاح، يطرح الإسلاميون المتشددون شعار “الإسلام هو الحل” بوصفه ديناً ودنيا أي عقيدة وتشريعاً، وبالتالي فنحن لسنا بحاجة إلى العلمانية ولا إلى فصل الدين عن السياسة، وذلك لعدم وجود كهنوت في الإسلام على شاكلة المسيحية من جهة، ولأن الإسلام نظام سياسي اقتصادي اجتماعي صالح لكل زمان ومكان وفق الأيديولوجيا الإخوانية من جهة أخرى!!!

ومن الواضح أن المسكوت عنه في هذا الخطاب والذي تقوله جماعات الإسلام السياسي بصراحة في سياقات أخرى، إن نظام الخلافة الإسلامي على طريقة “المودودي” وسيد قطب ومحمد مرسي وآردوغان هو البديل المطلوب. ورغم نجاحات الإسلاميين على المستوى الشعبوي والتحريضي، إلا أن تجاربهم العملية في غالبية البلدان العربية تؤكد فشل هذه التيارات في تقديم الحلول لهذه المجتمعات، مثلما تبين أن الاستبداد الديني لا يقل خطورة عن الاستبداد السياسي، بل هو أخطر لأنّ الخروج عليه أصعب نظراً لاعتقاد أصحابه أنهم يدافعون عن الحقيقة وأن تأويلهم الديني هو الوحيد الصحيح، وأن الخروج عليه خروج عن إجماع الأمة ووحدة الجماعة، مع ملاحظة أن الأمة هنا هي الأمة الإسلامية ولو رمزياً باعتبار أن الخلافة تغطي نظرياً كل العالم الإسلامي.

لا يميز الخطاب السابق بين علمانية مؤمنة وعلمانية ملحدة، ولا يلتقط الفروق بين علمانيات متطرفة كالعلمانية الفرنسية أو الأتاتوركية وأخرى معتدلة، فهي جميعها وعلى ما بينها من فروق وتمايزات مدانة وغير مرغوب بها ولا تلزم هذه البلدان.

في حين ينطوي الفهم الأعمق والأشمل للعلمانيّة على اعتبارها مجموعة من القيم العقلية تستهدف إحراز استقلال الفكر وضمان حريته حيال تحليل ونقد العقائد والإيديولوجيات (سياسية، دينية). إنها موقف لروح أمام مشكلة المعرفة؛ فكما يقول محمد أركون:

[…] بمعنى حق الإنسان في معرفة أسرار الكون والمجتمع اعتماداً على عقله وخبراته. بهذا لا تكون العلمانية موقفاً من الدين فقط […] بل من قضية المعرفة. والعلمانية الفلسفية ليست الكفر؛ إنها بحث عن المعرفة، يدخل فيه الدين أيضاً، تقول بالدين وتبحث فيه بحثاً علميّاً ولا تقصد هدمه البتة. فهدف كل موقف علمي هو فضح الثوب التنكري التمويهي الذي ارتداه الفكر الإسلامي العربي[4].

أما إذا سألت هؤلاء عن وضع المرأة المتدني مثلاً في المجتمعات العربية، أو عن الفوارق الطبقية الحادة بين الأغنياء والفقراء، وعن أسباب استمرار التخلف والأمية والفقر وعن فشل التنمية، وانسداد الأفق أمام الشباب وتحولهم إلى التطرف، أو عن عمق حالة الاغتراب الوجودي التي يعيشها الإنسان بفقده السيطرة على مصيره ومستقبله، وكيف يكون الإسلام هو الحل لهذه القضايا؟ فلن تسمع سوى إجابات شاحبة وتبريريّة تعمق المشكلات بدلاً من أن تساهم في حلها. ولا يتساءل أحد عن الفرق بين الخطابات التي تصور النظام الإسلامي على أنه منصف للمرأة ويتماشى مع طبيعتها البيولوجية ويكرمها بوصفها أمّاً وبين الوقائع والأرقام التي تفضح هذا الزيف من خلال نسب الأمية الأعلى في العالم المنتشرة بين النساء في العالم العربي فضلاً عن النظر إليها باعتبارها مخلوقاً أقل أهلية وحقوقاً، على ماتبيّن أدبيات الثقافة الذكورية والتقليدية السائدة، والأمر نفسه ينطبق على غياب نظرية إسلامية في الاقتصاد والتنمية وتفسير الفوارق الطبقية الحادة، ولعل حال المسلمين، باستثناء القلة منهم، يوضح بشكل جلي كيف ينعكس المقدس على حال المؤمنين، وهذا هو الأهم بتعبير ماكس فيير، فهم رغم كل الادعاءات والديماغوجيا في ذيل قائمة الأمم والشعوب في التقدم والتنمية وحال المرأة والبحث العلمي وسيادة القانون واستقلالية القضاء وحريات التعبير والقول والاعتقاد والعمل الإبداعي، وإن تواجدت بعض هذه المؤشرات فهي فردية ومؤقتة ولا يبنى عليها ولا تشكل ظواهر لأنها تتواجد رغماً عن، وربما بسبب بيئة غير مؤاتية ومفوّتةتاريخياً.

فتفكيك الخطاب العلماني المتشدد يصبح ضرورة وشرطاً لتفكيك النزعة والتيارات المتطرفة دينياً وايديولوجياً، لأن منطق التطرف واحد وهو الإلغاء، إلغاء الآخر المختلف والمغاير باللون والجنس واللغة والمعتقد والدين والمذهب والقبيلة والعشيرة والعائلة، وذلك من أجل فرض الواحدية والتجانس المزعوم على مجتمعات هي بتوصيفها السيسيولوجي تعددية ومتنوعة. والمشكلة برأينا ليست في التعدد والتنوع، ولا بالطبيعة الفسيفسائية للعديد من البلدان العربية مثل لبنان وسورية والعراق وبدرجة أقل مصر وتونس والسودان …إلخ. المشكلة في إدارة هذا التنوع وفي قدرة النظم السياسية على بناء مجال/فضاء عام يتسع للجميع تحت مظلة الهوية الوطنية، مع الاعتراف بوجود وتعدد القوميات والأعراق واللغات وتداخل وتفاعل الثقافات الممتدة لآلاف السنين في هذه البقعة من العالم. إذ تتحدث الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية على تعاقب حوالي 38 حضارة على الأرض السورية بعضها عابر وأغلبها مقيم ومستمر بشكل أو بآخر. فإدارة التنوع هي الأهم والأبقى، وعليها يصبح التمايز والتعدد نقمة ومشكلة أو يغدو نعمة وعامل قوة وتماسك، شريطة تطبيق مرجعية متفق عليها بين الجميع والاحتكام لمبادئ وأسس المواطنة بحمولتها الفكرية والسياسية الحديثة والتي تكفل المساواة الحقوقية والسياسية لكل المواطنين على مستوى الحقوق والواجبات بصرف النظر عن جنسهم أو لونهم أو دينهم أو لغتهم أو معتقدهم السياسي.

بين مفهوم العلمانية ومضامينها:

كان محمد عابد الجابري يقول: ” إذا كانت العلمانية مقولة غربية نشأت في إطار الصراع مع الكنسية، فلماذا لا نبحث عن جوهر العلمانية وهو العقلانية والديمقراطية ونأخذ به بدلاً من العلمانية التي تثير الجدل والحساسيات”[5]. وأنا أعتقد ان الجابري بهذه النباهة قد تخطى الجدل العقيم بين أعداء العلمانية ومناصريها، وسلط الضوء على لب الموضوع وهو طبيعة النظم السياسية، فإذا كانت تعددية وعقلانية فلا يهم حينئذٍ اسمها، وهذا حل واقعي إلى أن تتغير الأحوال والأفهام، أي الوقائع والوعي.

فما الذي يجمع بين هذا التصور وبين الدولة المدنية دولة الحق والقانون، دولة لكل مواطنيها على قدم المساواة؟؟.

يعترض الإسلاميون على أنظمة الحكم ذات الطابع العلماني بدعوى أنها شمولية وغير ديمقراطية ولاتقبل الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإرادة الناخبين، مثلما يعترض العلمانيون على الديمقراطية العددية، بمعنى أن الدين أو الطائفة أو المذهب أو العشيرة الأكثر عدداً هي التي ستتحكم في مقاليد الأمور وتضطهد الآخرين، وهذا أمر مفهوم وإن كان غير مستساغ من كثيرين، وذلك حتى يتحول مفهوم الأغلبية من ديني إلى سياسي وحزبي. على صعيد آخر لا يقدم القائلون بالدولة الدينية تفسيراً لانتشار ظواهر التطرف والعنف ولا يوضحون كيف تتحول البنى الاجتماعية التقليدية والموروثة إلى بيئات حاضنة للتشدد والغلو وصولاً للإرهاب، وبدلاً من انتقاد التحالف العضوي بين الأيديولوجيات الوهابية والإخوانية وبين المال النفطي وفضح دوره في إعادة هذه المجتمعات إلى وضعية حرب الجميع ضد الجميع، عبر زجها في حروب وصراعات غير مثمرة تاريخياً ولا ينجم عنها سوى المزيد من العنف والدمار، يكتفي أصحاب الإسلام السياسي باتهام الغرب وأعداء الإسلام بأنهم سبب ما يجري في مجتمعاتهم، ومع أن في هذه الحجج بعض الوجاهة، إلا أن إعادة هذه البلدان إلى شريعة الغاب والحالة الوحشية التي أحسن “هوبز” توصيفها عندما قال: “الإنسان ذئب أخيه الإنسان” يعادل في منطق السياسة العودة على ما قبل الدولة والمجتمع، أي إلى حالة الطبيعة والتوحش والتي جاء العقد الاجتماعي لتجاوزها بوصفها تهديداً بفناء الجنس البشري، وإن بصيغ جديدة ورموز ورايات وإمارات تمتد من باكستان وحتى المغرب وتجعل من التطرف الإسلامي العدو الأول للإسلام المعتدل والمستنير.

وعوضاً عن الانجرار وراء هذا الهذيان التبشيري الماضوي والذي لم يجلب لبلداننا سوى مزيد من الخراب والموت باسم استعادة الماضي الذهبي المتخيل، إذ تدفقت علينا وحوش التطرف والإرهاب تحت مسمى الجهاد من كل حدب وصوب، فقتلت وسبت واستباحت الأعراض والأرزاق وأحيت الرق والعبودية الجنسية لإرضاء خيالات مرضية اعتقدت أنها بجهاد النكاح سوف تصنع إماراتها الظلامية، إلى أن بدأت تتناحر فيما بينها من نفس منطق الاستبعاد والإلغاء ولا هدف لممارساتها سوى إطلاق أقصى ما في النفس البشرية من توحش وعنف ونزوع تدميري للذات والآخر. وفي صراع كهذا الجميع خاسر، ألم يقل نيتشه ” حاذر وأنت تقاتل الوحوش من أن تتحول إلى وحش مثلهم، آنذاك أنت الخاسر سواء ربحت المعركة أم خسرتها”. تحذرنا الصرخة النيتشوية من عبث ومجانية وفداحة الدخول في صراعات من هذا القبيل، وتؤشر على خطورة
أن يقوم الصراع بتحويل الجميع قتلة وضحايا إلى مجرد أدوات، ذلك لأن شرط التفوق على الخصم بشكل حقيقي هو الانحياز إلى غايات إنسانية عليا تضمن التفوق الأخلاقي لأصحاب القضايا العادلة، وتضمن عدم تحول كل أطراف الصراع إلى وحوش بشرية متناحرة تعمل ليحل الخراب، كما في كل الصراعات الداخلية والأهلية فالجميع فيها خاسر، وهذه أقل حصيلة معرفية يمكن أن نتوصل إليها بعد الأثمان الباهظة التي دفعناها والتي كادت أن تعصف بنا دولاً ومجتمعات بالمعنى الوجودي. ألم يلحظ هيغل ان بومة مينرفا وهي رمز الحكمة لا تحلّق إلا بعد أن يعم الخراب!!!. الخوف والخيبة إذاً وبعد كل هذا الخراب، من عدم سماع صوت العقل وتجاهل فرصة المعرفة الحكيمة الملازمة للكوارث والحروب.

مستقبل وآفاق العلمانية في سورية:

ليس من السهل التنبؤ بمآلات وآفاق تطور العلمانية في سورية. فتعقيدات المشهد السوري وتداخل الوطني مع الإقليمي والدولي في تشكيل ملامحه المستقبلية باتت أمراً واقعاً. مع ذلك لا نجازف كثيراً إذا قلنا إن تطور مسار العلمنة لا ينفصل عن كيفية وتوقيت انتهاء الحرب والأزمة وما يتعلق بها من قضايا تتصل بملامح العقد الاجتماعي الجديد الذي ينظم ويعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويكفل وحدة وسيادة الدولة على كامل التراب السوري، فضلاً عن إعادة التماسك الاجتماعي، بعد كل ما تعرض له من تصدعات وشروخ وخسائر في الرأسمال الاجتماعي المبني على التعاون والثقة وتعميق القيم الرمزية التي تجمع السوريين على ما بينهم من تباينات واختلافات وتنوع.

وإذا كان لعملية إعادة البناء والإعمار دور حيوي في تظهير ملامح سورية المستقبل، سواء لجهة تأمين مصادر التمويل اللازمة لبناء البنى التحتية والمساكن والمنشآت الحيوية، أو لجهة حجم الاستثمارات والتمويل المخصص لهذه العملية والمرتبط بشكل التسوية السياسية التي ستنهي الحرب وتبعاتها، فإن إعادة بناء الإنسان قيمياً ومعرفياً لا تقل أهمية عن البناء المادي، بل هي التي ستقودها عبر سياسات ثقافية واجتماعية وتنموية مطالبة بتصحيح أشكال الخلل الهيكلي في الاقتصاد السوري، إن على مستوى الهوية الاقتصادية، أو على صعيد الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتنافسية وخلق بيئة مواتية للاستثمار …إلخ. لاتصال ذلك مباشرة بتلبية الاحتياجات الأساسية للسوريين، وتحسين سبل عيشهم، واستعادة الكثير من مواردهم التي دمرتها الحرب، ولأن الانتعاش الاقتصادي شرط لازم لاستئناف المسار التنموي وضمان حقوق المواطن في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية والدخل والمشاركة.

وسيكون للدستور الجديد المنبثق عن الحوار الوطني الشامل بين السوريين أنفسهم، والمنظم للعلاقة بين السلطات والضامن للحقوق والحريات والمساواة بين المواطنين، ذكوراً وإناثاً، وبصرف النظر عن عرقهم أو دينهم أو لغتهم أو عقيدتهم أو انتمائهم السياسي، دور محور في تكريس قيم وثقافة المواطنة وبالتالي الاستفادة من المضامين العميقة للعلمانية كضمانة للتنوع مع احترام العقائد والأديان والخصوصيات الثقافية للسوريين تحت مظلة الهوية الوطنية الجامعة.

ولا شك بأن ملامح سورية ما بعد الحرب ستتبلور وتتضح بمقدار استجابتها دولة ومجتمعاً لجملة التحديات التي واجهتها ومستوى الاستجابة لها، وفي صلبها امتلاك رؤية مستقبلية تشكل جزءاً من استراتيجية واضحة الأهداف تندرج فيها ضمناً أسس تنظيم العلاقة بين الديني والسياسي والمجتمعي وبما يضمن عدم تحوّل هذه العلاقة إلى عامل تهديد للاستقرار والسلم الأهلي. فهل نستفيد من الفرص الملازمة للأزمات والحروب، وهل نحسن التقاط العبرة والدروس الثاوية في قلب المعاناة والأثمان الباهظة التي دفعناها؟؟.

الهوامش:

[1]للمزيد من التوسع حول الفرق بين الخطاب والممارسة، يمكن العودة إلى كتابات جاك دريدا التفكيكية، ونصوص علي حرب في مؤلفاته النقدية، وخصوصاً كتابة نقد الحقيقة، بيروت، 2015.

[2]عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ص18.

[3]محمد عمارة، جريدة الحياة، عدد22/8/1989.

[4]محمد أركون: في حديث لمجلة الإحياء العربي، العدد 5تشرين الأول، 1979.

[5]انظر الحوار بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي على صفحات اليوم السابع، 3نيسان/أبريل1989.

العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

1 – سؤال الإمكان وسؤال الوجوب

يدل عنوان هذه المقاربة على أن العلمانية ممكنة، في سوريا، كما في غيرها. ومن ثم، إن البحث  يتجه نحو الشروط التي تجعلها ممكنة. لكنَّ في العنوان مصادرة على المطلوب: العلمانية ممكنة؛  لذلك، يجب أن نبدأ بالسؤال: هل العلمانية ممكنة في سوريا؟ لا يحتمل هذا السؤال سوى إجابة واحدة من إجابتين: نعم هي ممكنة / لا هي غير ممكنة. هل نقع في القطعية اليقينية، إذا لم نجد غير هذين الجوابين، هل هناك حالة وسط بين الإمكان وعدم الإمكان؟

هناك صيغة أخرى لسؤال العلمانية: هل العلمانية واجبة في سوريا؟ هذا سؤال يحتمل إجابتين: العلمانية واجبة / العلمانية غير واجبة، بل يحتمل أكثر من إجابتين إذا أضفنا دواعي الوجوب وشروطه ودواعي عدم الوجوب: العلمانية واجبة إذا كانت تعني كذا أو كذا .. وإذا كانت تهدف إلى كذا أو كذا .. إلخ؛ العلمانية غير واجبة لأنها كذا أو كذا، وتؤدي إلى كذا أو كذا.

السؤال الأول، سؤال الإمكان أو عدمه، يحيل على المعرفة، وهذه لا تنفصل عن الأخلاق، ويعيِّن نموذجين مختلفين من نماذج التفكير: الأول نموذج إمكاني أو احتمالي، يتسق مع منطق الواقع  ومعنى  التاريخ ومعقولية العالم، وبكلمة واحدة: عقلاني. والثاني نموذج ثبوتي أو يقيني، قطعي مطابق لنزوع ذاتي، عاطفي أو وجداني، وبكلمة واحدة: إيماني.

والسؤال الثاني، سؤال الوجوب أو عدمه، يحيل على الأيديولوجية، بصفتها تعبيراً عن رؤية هذه الفئة الاجتماعية أو تلك لواقع المجتمع، وتفسيرها أو تأويلها لتعارضاته الملازمة، ويحيل على  السياسة، بصفتها ممارسة، تهدف إلى تحقيق مصالح معينة وغايات معينة.

لو نظرنا في الإجابتين المحتملتين عن السؤال الأول لوجدنا أن الإجابة بالإيجاب (نعم العلمانية ممكنة في سوريا)، تنفي الحتمية واليقين القطعي، وتنبثق من إدراك خصائص الواقع ومعنى التاريخ، بصفته “توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى”[1]، وبهذا تتسق مع منطق الواقع  ومعقولية العالم، كما أشرنا، وتعين حدود الحرية. أما الإجابة بالسلب أو النفي (العلمانية غير ممكنة في سوريا) فتصادر على الإمكان أو تنفيه ذاتياً، فقط، ووهمياً إذا شئتم، فتنفي الحرية؛ إذ  ليس هنالك قوة تستطيع أن تمنع حركة الواقع وحركة التاريخ أو توقفها، أو تستطيع أن تقف في  وجه الإمكان؛ البشر يستطيعون توجيه الحركة، فقط، سواء حركة الواقع أم حركة التاريخ، ولكنهم  لا يستطيعون وقفها، لأنهم، هم أنفسهم، لا يتوقفون عن الحياة والنشاط والعمل والتبادل والتعاون  والتدافع والنزاع والصداقة والعداوة والزواج والطلاق والحرب والسلم … إلخ،  والتاريخ هو حياتهم  ونشاطهم وعملهم ومبادلاتهم وتعاونهم وتدافعهم ونزاعاتهم وصداقاتهم وعداواتهم وحروبهم  وموادعاتهم، القائمة منها والممكنة .. إلخ. وهذا معنى أن “البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم”، حسب المأثور الماركسي.

الفرق بين السؤالين السابقين: سؤال الإمكان وسؤال الوجوب، والإجابات المحتملة عن أي منهما  يبين أن الحقل الأيديولوجي – السياسي لا يتطابق مع الحقل المعرفي – الأخلاقي، في أي مجتمع، وأن درجة انحراف أحدهما عن الآخر هي التي تحدد مدى تماسك الاجتماع المدني والاجتماع السياسي، أو مدى هشاشتهما، أو مدى تنثُّرهما، كما هي الحال في سوريا، ومدى إمكان تشكل روابط وطنية، أو مدى تعذر ذلك أو صعوبته.

نريد من هذه المقدمات أن نقول: العلمانية ممكنة في سوريا، كما في غيرها؛ هذا الإمكان مؤسَّس  على كونية العقل، أي كونية الإنسان العاقل والأخلاقي، وعلى أن كل تجربة إنسانية خاصة تنطوي على عنصر عام، هو لبها العقلاني، الإنساني، أو النوعي، فإن تحقق العلمانية في مكان  وزمان معينين يفتح إمكان تحققها في أمكنة – أزمة أخرى. ولكن العلمانية ليست واجبة، وليست حتمية، وليست غاية الغايات وسدرة المنتهى.

الموقف الثاني، (العلمانية غير ممكنة في سوريا) يتأسس على اعتبار الخصوصية، (خصوصية  مجتمعنا وثقافتنا وقيمنا … إلخ)، هي المعيار الوحيد للحقيقة والمعنى الوحيد للتاريخ. الخصوصية، هنا، تنفي العمومية ذاتياً، فتنفي ذاتها وذاتيتها موضوعياً، أي تنفي إنسانيتها، ومن ثم حريتها. ولهذا تظل إما منعزلة ومنكفئة على ذاتها، وإما تابعة ومستباحة، لأنها “هوية بلا ذات“، بتعبير  فتحي المسكيني، أو “نحن” بلا أفراد مختلفات ومختلفين، حرائر وأحرار.

هذا على صعيد الاستدلال العقلي، أما على الصعيد العملي أو الأخلاقي، الواقعي والتاريخي، فيتأسس الموقف الإمكاني على أن إمكان تحقق العلمانية مرهون بنمو المجتمع المدني ونشوء دولة سياسية (وطنية)، أو دولة حديثة. أي إن العلمانية تتموضع في سياق تطور المجتمع ونموه وتقدمه، وفي سياق “رفع السحر عن العالم”، وليست مرهونة بإرادة ذاتية لحزب أو طبقة. ويمكن أن نسميها “علمانية موضوعية”، تتحقق من دون قصد، وفقاً لحاجات النمو والتقدم، ومن دون معارك كلامية وضجيج أيديولوجي، وهذا ما كانت عليه الحال في سوريا، قبل اغتيال جنين  المجتمع المدني والدولة الوطنية.

2 – العلمانية والمسألة الوطنية

في الظروف السورية الراهنة، يبدو لنا أن إمكان العلمانية مشروط بالتحولات التي جرت، والتي تجري في بنى “المجتمع الأهلي”، وتتجه نحو مجتمع مدني حديث، نعني التحولات التي جرت وتجري في بنية العائلة الممتدة والعشيرة والجماعة الإثنية والطائفة الدينية، وتشكُّل الأسر النووية، وتراخي روابط القرابة، (قبل الحرب)، وتغير أساليب العمل والإنتاج وأساليب الاستهلاك وأنماط السلوك والقيم الحاكمة للعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات ولا سيما بين الذكور والإناث… وكلها تحولات تمهد لعملية الانتقال من أحكام الأعراف والعادات والتقاليد والشرائع الدينية إلى  حكم القانون. هذا الانتقال العسير والبطيء والقابل للانعكاس هو الشرط الضروري الحاسم لتعلمن  الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا لعلمنتها، على اعتبار حكم القانون، الذي يسري على جميع المواطنين والمواطنات، بلا أي تفرقة أو تمييز .. هو جوهر الدولة الحديثة وأساس المواطنة  الحديثة. (انزعوا القانون الوضعي من الدولة ومؤسساتها لا يتبقى منها شيء).

أجل، التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية قابلة للانعكاس، وهذا أي الانعكاس لا يظهر في  المدى القصير، ربما يظهر في المدى المتوسط. ومن المؤكد أنه يظهر في المدى البعيد، وقد  بين إخفاق الثورة السلمية، ثورة 2011، أن الروابط المدنية، نعني الروابط الوطنية، كانت تتفكك  شيئاً فشيئاً، منذ وحدة سوريا ومصر (1958)، ثم ثورة الثامن من آذار 1963، واغتيال جنين  المجتمع المدني (النقابات والأحزاب السياسية والجمعات والنوادي … إلخ، واغتيال جنين الدولة الوطنية، الليبرالية.

من جانب آخر، تعلمنا التجربة التركية القريبة منا أن العلمنة، التي فُرضت من فوق، لم يكن ممكناً أن يقبل بها مجتمع شديد التدين، أكثريته من المسلمين السنة، ولم يكن لها أن تستمر، وتتجذر في مؤسسات الدولة ودستورها وقوانينها لولا اقترانها بالمسألة الوطنية، وحرب الاستقلال وإلغاء نظام الخلافة، من اللحظة الأولى. الدرس التركي يؤكد، اقتران العلمانية بالمسألة الوطنية.

والمسألة الوطنية لا تقتصر على الاستقلال السياسي، أو التحرر من الاستعمار، كما جرى اختزالها دوماً، من دون أن يتحقق الاستقلال.

 المسألة الوطنية هي الانتقال من حكم الأعراف والعادات والتقاليد المحلية المختلفة، والشرائع الدينية الخاصة المختلفة إلى حكم القانون الوطني العام، الذي تضعه مؤسسة تشريعية منتخبة  انتخاباً صحيحاً. هذا الانتقال هو انتقال نوعي في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية، انتقال من نظام الامتيازات وتسلسل الولاءات الشخصية والعائلية والعشائرية والإثنية  والمذهبية إلى نظام الحقوق المتساوية، الذي ينطوي على اعتراف مبدئي ونهائي بتساوي الأفراد  ذكوراً وإناثاً في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق. المسألة الوطنية، بعبارة أخرى، هي الانتقال من الرعوية  إلى المواطنة، أي من القطيعية والجماهيرية إلى المجتمعية، بحيث تسمو الرابطة الاجتماعية (الوطنية) على جميع الروابط الطبيعية أو الأولية وجميع الروابط الفرعية.

الذين وصفوا نظام البعث في سوريا بأنه نظام علماني، وبأن سلطته الشمولية والعنصرية علمانية، تجاهلوا ويتجاهلون حتى اليوم حقيقة أنه نظام امتيازات وولاءات مقابلة لها، منها امتيازات  متفاوتة لهذه الطائفة أو تلك، ولا سيما الطائفة العلوية، وولاءات طائفية، وامتيازات متفاوتة  لهذه العشيرة أو تلك. وهذا التجاهل ناجم إما عن جهل وإما عن مكر.

نظم الاستبداد والتسلط القديمة والحديثة جوهرها الامتيازات والولاءات المقابلة لها؛ و”احتكار الثروة  والسلطة ومصادر القوة”؛ فإنه من قبيل التناقض في التعريف اعتبار النظام التسلطي القائم على  الامتيازات والولاءات علمانياً، واعتبار النظام العنصري الذي يميز الأفراد والجماعات بحسب انتماءاتهم الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الجنسية نظاماً علمانياً. وإنه من قبيل مرض الفاهمة وعطب العاقلة، واعتلال الضمير، اعتبار العلمانية أداة للتسلط والاستبداد. هل يعقل أن يكون  تساوي البشر في الكرامة الإنسانية وتساوي المواطنين والمواطنات في الحقوق المدنية والسياسية أداة للتسلط والاستبداد، هل يعقل أن تكون حرية الفرد وحقوق الإنسان أدوات للاستبداد، هل يمكن  أن يكون تساوي النساء والرجال في الحقوق أداة من أدوات الاستبداد؟

العلمانية لا تتعلق بموقف سلبي من الدين، فرب رجال دين كان لهم فضل كبير في تأسيس العلمانية، بل تتعلق بالتمييز الذي يقيمه كل دين بين البشر، وبالسلطة / السلطات، التي تنتج  من هذا التمييز وتمارسه، وتتعلق بالتفاضل بين الأفراد وتفضيل الذكور على الإناث، أي إنها تتعلق بعدم المساواة وعدم العدالة. العلمانية لا تتعلق بموقف سلبي من الدين، بل بتضافر السلطات الدينية والسلطات السياسية على الاستبداد والتسلط وما ينجر منهما.

لا يفيدنا كثيراً تعريف العلمانية ومكان ولادتها وتاريخ ميلادها وهل هي بكسر العين أم بفتحها، فالمفاهيم، التي تنتقل من مكان ولادتها، تتحول غالباً إلى مفاهيم عالمية مشتركة بين جميع الثقافات الحية، كالديمقراطية، على سبيل المثال، ويصيبها ما يصيب الأشخاص الذي يهاجرون  من مساقط رؤوسهم إلى بلدان  أخرى مختلفة، تكتسب في كل مجتمع دلالات خاصة، تزيدها غنى وثراء، أو تفقرها وترذِّلها وتعزلها، بحسب كيفية استقبالها، ودرجة إدماجها واندماجها في البيئة المعرفية والثقافية الجديدة.

فلعل مفهوم “الدهريَّة” القدحي ينبئنا بكيفية استقبال العلمانية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، كما ينبئنا مفهوم “الشورى” بكيفية استقبال الديمقراطية، في ظل تواطؤ العسكر والإسلامويين الذين يسيطرون على الثقافة ومؤسساتها، ويحاصرونها، في سوريا وغيرها، ويحجبون عنها الشمس والهواء النظيف. في بلاد يسيطر عليها عسكر وإسلامويون، لا سبيل إلى علمانية أو ديمقراطية ولا سبيل إلى حياة إنسانية.

3 – علمانية الأقليات وديمقراطية الأكثرية

أنتج تفكك الروابط الوطنية تباعاً، في سوريا، حالة ثقافية وأخلاقية مزرية، من مظاهرها أطروحة “علمانية الأقليات وديمقراطية الأكثرية”. القائلون بهذه الأطروحة يفترضون أن العلويين والدروز  والإسماعيليين ومن في حكمهم من “أهل التأويل”، إضافة إلى المسيحيين علمانيون (بالولادة)، وموالون لسلطة الأسد “العلمانية”. بالمقابل يفترض القائلون بهذه الأطروحة أن المسلمين السنة  ديمقراطيون (بالفطرة). حسب هذا المنطق، ينقسم المجتمع السوري قسمين: علمانيين وديمقراطيين، فنكون قد ودعنا التأخر التاريخي، ونعاني من فائض ديمقراطي، لدى السنة، وفائض علماني، لدى “الأقليات”.

ترتبط هذه المقولة المتهافتة منطقياً وواقعياً برؤية خاصة (أجل خاصة) للديمقراطية، تحصرها، أي تحصر الديمقراطية في صندوق الاقتراع، الذي يفضي بالضرورة إلى حكم “الأكثرية” (= حكم الشعب). وفق هذه الرؤية، يتطابق مفهوم الأكثرية ومفهوم الشعب: الأكثرية هي الشعب، والشعب  هو الأكثرية، و”الأقليات كسور الأمة” بتعبير ياسين الحافظ، وغيره (والله محيي الجيش الحر).

مقولة علمانية الأقليات أسست لمقولة “تحالف الأقليات”. والأرجح أن سلطة “تحالف الأقليات” صارت ممكنة في سوريا ما بعد الحرب، إن لم نقل مرجحة. ولكن، لنفكر في المعطيات الإحصائية: تبلغ نسبة العلويين من سكان سوريا، حسب بعض التقديرات، نحو 12% ونسبة المسيحيين 8% والدروز 3% والإسماعيليين 1%، إضافة إلى نسبة قليلة من الشيعة، ومن ثم إن تحالف نحو ربع عدد السكان، أكثر قليلاً أو أقل قليلاً، ضد الأكثرية؛ لا يمكن أن يقوم، ولا يمكن أن يصمد في حال قيامه، إلا بدعم قوى خارجية. لذلك، لا نستبعد أن تكون المقولة إياها من  منشأ إيراني، لأن لإيران مصلحة جذرية في تحالف من هذا النوع والروس لا يعارضونه. وهذا يعني استئناف الحرب بوسائل أخرى، ليست سياسية بالتأكيد.

4 – علاقة الدين بالدولة

المسألة في سورية لا تنحصر في علاقة الدين بالدولة، لا سيما في الأوضاع الحاضرة، التي تبددت فيها الدولة كلياً، إذ الهياكل القائمة، التي تسمى دولة، ليس معترفاً بها من قبل ثلاثة أرباع السوريات والسوريين، ومن يعترفون بها دولة هم مجرد شبيحة، مهما علا شأن بعضهم. لأن اعتبار هذه الهياكل دولةً يقتضي إلغاء العلوم السياسية، وتخدير العقل والأخلاق. ليس هنالك صفاقة عربية ودولية أكثر من كذبة “الحفاظ على مؤسسات الدولة” وعلى “وحدة سوريا أرضاً وشعباً”. المسألة في سوريا إذن هي مسألة الافتراضات السياسية للدولة، التي سيحدد الدستور المرتقب ملامحها الأساسية، في مقابل افتراضات غير سياسية، أو شروط غير سياسية، كالعائلة  والعشيرة والطائفة والقوم أو الجماعة الإثنية والطبقة الاجتماعية أيضاً. في ظل افتراضات أو شروط غير سياسية للدولة السياسية، سيان أن تكون الدولة “جمهورية عربية سورية” أو “جمهورية إسلامية سورية” أو “جمهورية عربية إسلامية سورية عظمى”.

التحدي التاريخي في سوريا هو الإلغاء السياسي للعروبة والإسلام، الإلغاء السياسي للأقوامية (الإثنية) والدين، وقد تبين أن خطر الإحيائية القومية (البعثية) ليس أقل من خطر الإحيائية الإسلامية. وهذا الإلغاء أو النفي الإيجابي، أمر ليس في المستطاع تحقيقه في المدى المنظور، إذ ليس في سوريا بعد من يَبرز لهذا التحدي (من المبارزة)، ويحظى بهذا الشرف. أجل هذه  مبارزة مع التاريخ، أي مواجهة مع الذات، تحت مقولة: نكون أو لا نكون، والشرف قيمة من قيم المبارزة. العلمانية في سوريا ليست في أمر اليوم ولا في أمر غدٍ قريب، وكذلك الديمقراطية بالطبع. قد يكتشف مناهضو العلمانية من السوريين، إذا ثابوا من طائفيتهم إلى وطنيتهم، أن الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى الديمقراطية، وأن الثورة الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى ثورة ديمقراطية. تجربة الثورة السلمية ومآلاتها شاهد لا يدحض.

الذين يمارسون نقد الثورة ونقد الذات لا يلتفتون إلى هذه المسألة، بحكم مناهضتهم الضمنية أو الصريحة للعلمانية. وما زال كاتب هذه السطور يعتقد أن مناهضة العلمانية هي مناهضة المواطنة المتساوية ومناهضة الوطنية السورية، التي لا تكون وطنية إن لم تكن علمانية.

ما كان للدولة الحديثة أن تقوم في الغرب، في نظر كارل ماركس، وما كان للمواطنة المتساوية أن تتجذر فيها، قبل الإلغاء السياسي للملكية الخاصة، والإلغاء السياسي للدين[2]، ويجب أن نضيف اليوم الإلغاء السياسي للإثنية (القومية الشوفينية، العرقية – اللغوية، والعنصرية)، لأن الشعبوية التي تتنامى في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تعبر عن محاولة التراجع عن الديمقراطية إلى ماضي الدولة الديمقراطية القريب، أي إلى ما كانته “الدولة القومية” وسياساتها الحمائية ونزعاتها الاستعمارية وميولها العنصرية.

حين قلنا إن العلمانية ممكنة، وليست واجبة، وليست كذا وكذا، كنا نريد أن نقول إنها ليست مطلباً ثقافياً أو سياسياً، وليست بالأحرى شعاراً، وليست أيديولوجية لفئة اجتماعية بعينها… بل هي بالضبط سيرورة نمو وتقدم، بل سيرورات نمو متآنية أو متزامنة، في مجالات مختلفة، قد تتجه في لحظة معينة نحو مجتمع مدني ودولة سياسية حديثة. ولذلك نولي تنظيمات المجتمع  المدني، ولا سيما النقابات والأحزاب السياسية أهمية تستحقها، ونعتبرها، في حال استقلالها عن  السلطة التنفيذية وأدواتها، الأطر التي تجري فيها التربية على المواطنة المتساوية، لأنها، في  واقعها الفعلي، الأطر التي يمارس فيها الأفراد حياتهم العامة، مقابل حيواتهم الخاصة. والحياة  العامة مهما يكن مدى عموميتها (في قرية أو في حي أو في مدينة .. أو في حزب أو نقابة أو ناد أو جمعية) هي الحياة النوعية، أي الحياة الإنسانية، بتعبير كارل ماركس. تنظيمات المجتمع  المدني هي النوى (جمع نواة) الأساسية للمدنية، مقابل المؤسسات الطبيعية وشبه الطبيعية، كالأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة … إلخ. الرهان في سوريا اليوم معقود على هذه التنظيمات، بما  لها وما عليها. وقد دعونا مراراً إلى تشكيل فيدرالية لمنظمات المجتمع المدني في بلدان اللجوء الأوروبية خاصة، لعلها تسهم في ما نسميه “وحدة الاتجاه” نحو مواطنة متساوية، لاعتقادنا أن المواطنة هي التي تنتج الوطن، وتنتج الوطنية.

5 – وحدة العقل والإيمان

سؤال الإمكان، الذي بدأنا به هذه المقاربة يطرح سؤالاً آخر: هل ثمة مبدأ يعبر عن المغزى الأعمق للعلمانية باعتبارها سيروة نمو وتقدم تاريخية، و”موقف منفتح للروح إزاء قضايا المعرفة  وقضايا الواقع”، ويقتنع به جميع العقلاء والعاقلات؟ على سبيل الافتراض و”التجريب” نقترح وحدة  العقل والإيمان، مبدأً جامعاً، لا يستفز أحداً، ولا يستبعد أحداً، ولا “يهدد ثقافتنا وهويتنا” المزعومتين، وجنبنا ويلات “الغزو الثقافي”.

من البدهيات، التي لا جدال، فيها أن غير العاقل لا يؤمن ولا يكفر، لا يوحِّد ولا يُشرك… إلخ؛  الإيمان مشروط بالعقل؛ بل هو مشروط بالصحة العقلية، أو بسلامة العقل، لا بت “العقل السليم”[3]. غير العاقل ليس مسؤولاً، بالتعبير القانوني، وغير مكلف بالتعبير الفقهي، وليس مواطناً بالتعبير  السياسي، وإن كان موضع رعاية واهتمام، وغير العاقلة كذلك بالطبع.

العقل والإيمان صفتان للشخص الإنساني، الكلي، تعيِّنان وجهين من وجوه ماهيته؛ وإن من  زاويتين مختلفتين؛ إذ يمكننا أن نقول: الإنسان كائن يؤمن (حيوان مؤمن)، مثلما نقول: الإنسان كائن يعقل، (حيوان عاقل)، على الرغم من التناقض الظاهري في هاتين الصيغتين، نعني الحيوان المؤمن والحيوان العاقل، ويمكن أن نضيف الحيوان الأخلاقي. يزول هذا التناقض الظاهري حين ندرك أن العقل مؤسس على اللاعقل، أي على طبيعية الكائن، أو فطرته أو غريزته، والإيمان مؤسس على اللا إيمان، أي على طبيعية الكائن مرة أخرى.

بهذا المعنى فقط يمكن أن نتحدث عن “دين الفطرة”، على نحو ما تحدث جان جاك روسو، حين قال: “بما أننا نرفض الخضوع لأية سلطة بشرية، لا نصادق على أي عقيدة متوارثة في بلد مولدنا، كل ما يمكن أن يهدينا إليه نور العقل، في حدود الطبيعة، هو دين الفطرة”[4].

الإيمان، بوجه عام، أشمل من الاعتقاد الديني، أو الإيمان الديني، لأنه يدل على معرفة يقينية، موضوعية أو ذاتية، ليست موضع شك. الإيمان الديني مُستغرَق في الإيمان، كما يقول المناطقة.  يمكن للشخص الإنساني أن يؤمن بنظيمة فكرية أو “حقيقة علمية”، مثلاً، مثلما يؤمن بعقيدة دينية.

فالعقل والإيمان ليسا مجالين متخارجين ومتنافيين بصورة مطلقة، بل هما حدان جدليان، متعارضان، وجود كل منهما هو شرط وجود الآخر، وانتفاء أي منهما هو انتفاء الآخر، وينتج من تعارضهما في كل مرة مركب جديد ليس أياً منهما، يمكن أن نسميه هنا، العقل المؤمن أو الإيمان العاقل. العلاقة بين العقل والإيمان، هنا، أكثر من علاقة تضايف[5]؛ إنها علاقة تجادل، يتحول بموجبها العقل إلى إيمان والإيمان إلى عقل، أي إن عملية/ عمليات التعقل تنتهي إلى يقين، وهذا يتحول إلى موضوع للعقل النافي مرة أخرى، وهكذا، أي إن اليقين يتحول إلى موضوع للتفكير والتساؤل والشك والنفي، وفقاً لمقدرات الأفراد المتفاوتة وشروط حياتهم المختلفة.

وحدة العقل والإيمان، مفهومةً على هذا النحو، هي، في اعتقادنا، مبدأ معرفي وأخلاقي في الوقت  نفسه، من المبادئ التي تضمن الطمأنينة للفرد والوحدة والاستقرار للمجتمع، وتستأصل جذور التعصب المغروزة في الجهل والهوى.. ومن ثم، إن العقل هو الذي يؤمن. ولكي لا يلتبس الأمر، نقول إن القوة العاقلة في الإنسان هي التي تؤمن، فتلبي حاجة الإنسان إلى يقين. لكن القوة العاقلة لا تؤمن إلا بعد شك، ولا تشك إلا بعد إيمان.

الشك والإيمان يتناوبان على الروح الإنساني، أو الروح الإنسانية. فحين يضعف الروح، ويستكين،  يميل إلى إيمان ثابت، لا يتزعزع، ولا يستنير بنور العقل، ولا يتطرق إليه الشك؛ فلا ينمو ولا يتجدد، يسمى “الإيمان الأعمى”، ويسميه بعضهم “إيمان العجائز”[6].

حين يؤمن العقل (أي الإنسان العاقل، الفرد الإنساني العاقل، الأنثى والذكر على السواء) إنما يؤسس عالمه الداخلي، ويؤثِّثه، فلا يشك الشخص إلا بمقدار ما يعمل على تعرُّف عالمه الخارجي، كما هو وإنتاج ذاته فيه، ويعود، في كل مرة، بأفكار جديدة و”حقائق” جديدة، يعيد ترتيب عالمه الداخلي، أو “تجديد أثاثه”، بمقتضاها. وهذه هي الطريق الملكية لتصالح الإنسان مع عالمه ومع ذاته، والطريق الملكية لتجديد المعرفة والثقافة. العلمانية هي هذا التصالح مع العالم ومع الذات، وهذا التجديد.

هذا، في اعتقادنا، يخرج العلمانية من دائرة السجال الأيديولوجي، ويضعها في سياق التطور التاريخي للمجتمع، الذي لا ينمو ولا يتقدم إلا بمقدار ما يجدد معرفته وثقافته، وهاتان المعرفة والثقافة من عوامل تجديد المجتمع كله.

الهوامش:

[1]– هذا، في نظرنا، أفضل تعريف وأوجز تعريف للتاريخ، يبين أن معنى التاريخ لا ينصرف إلى الماضي، ولا يعني التأريخ، أو سرد أحداث الماضي، لأن عمله هو النفي ونفي النفي، بلا توقف، وهو بالضبط وحدة الزمان والمكان.

[2]– راجع/ـي، ماركس وباور، حول المسالة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت،  بلا تاريخ نشر، ص 178.

[3]– العقل السليم معيار ذاتي، هو ما يعتبره المتكلم وما تعتبره الجماعة أو ما يعتبره المجتمع سليماً. والسلامة العقلية معيار علمي، من معايير الطب والطب النفسي.

[4]– جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربية، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص 16.

[5]– علاقة التضايف تعني أن كل تغير يطرأ على أحد العنصرين المتضايفين يطرأ على الآخر.

[6] – كلما تقدم الإنسان في السن تتقوى لديه النزعة الإيمانية، وقد يزداد تشدداً وتعصباً.

 

العلمانية، الأفق الممكن

العلمانية، الأفق الممكن

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

لا يتوقف الانشغال في موضوع العلمانية حتى في البلدان التي تتبنى منذ أكثر من قرن من الزمان علمانية جذرية أو ما يسمى أحياناً بالعلمانية الصلبة، مثل فرنسا. لا يهدأ النقاش بشأن العلمانية التي تواجه على طول الخط تحديات تطال قدرتها على استيعاب المستجدات، وحفاظها على التوازن بين حقوق المساواة وقضايا الهوية. لكن انشغالنا بالعلمانية، نحن أبناء البلدان المفقرة، والتي لم تعثر على آليتها الخاصة في الاجتماع وفي إنتاج الشرعية السياسية بعيداً عن منطق الغلبة بالعنف، يتعلق بشكل العلمانية التي نريد، وبكيفية وحدود الفصل بين الدين والسياسة، وباستكشاف قدرة العلمانية، أو عدم قدرتها، على المساعدة في الخروج بالمجتمع المسلم، أقصد الذي يشكل الإسلام دين غالبية السكان فيه، من وهدة الصراعات العقيمة التي تستهلك طاقاته وموارده وتهدد وجوده.

ما شهدناه في السنوات الأخيرة في سورية وغيرها من البلدان العربية، من اتجاه واسع نحو التطرف الديني والسعي للعودة بالمجتمع إلى حكم ديني (خلافة وإمارات ومحاكم شرعية ..الخ) مع تكفير الديموقراطية والعلمانية، هو إحدى نتائج تعثر تطور مجتمعاتنا. الفشل أرض خصبة لشتى أنواع التطرف واللاعقلانية، ولا سيما في الأمم المكسورة، والتي ترى إلى نفسها، مع ذلك، على أنها متميزة ومصطفاة و”ذات رسالة”، كما هو حال “الأمة العربية”. التطرف الديني الإسلامي الذي شهدته السنوات الأخيرة والارتداد نحو ماض غابر، سواء في الأحكام أو في الرموز والتسميات، هو احتجاج طفولي ضد الشطر المسيطر من العالم، أو ضد النظام العالمي الذي “يهملنا” مع أننا “الأعلون”، وهو احتجاج أو ارتداد ضد الذات أيضاً بالقدر نفسه. نقصد إن فشل هذا التطرف الديني أو هذه الجهادية الدينية العالمية أو المحلية هو أمر محتوم في هذا العصر، وما الإصرار والتضحيات المقدمة في سبيلها سوى تعبير عن إدراك عميق بالعقم والاستحالة. لا مكان في العصر الحديث لحكم الدين الذي يبشر به منظرو الجهادية، وليست هذه قناعة بعيدة عن عقول المتطرفين الإسلاميين أنفسهم، إنها فقط طريقتهم في استجلاب الاعتراف لأنهم لا يمتلكون طريقاً آخر للاندماج في العالم من موقع الشريك والتابع (طالبان في أفغانستان، وربما جبهة النصرة في سورية). وقد نقول أيضاً إن هذه الجهادية العنيفة هي طريقة غير واعية في الانتقام من الذات “الفاشلة”.

قد نجد أشخاصاً أنجزوا انفصالاً واسعاً عن الواقع إلى حد القناعة التامة بإقامة حكم ديني في العصر الحالي، غير أن السؤال الحقيقي اليوم لا يتعلق بالموقف من الدولة الدينية، السؤال الحقيقي ليس المفاضلة بين دولة دينية ودولة علمانية، بل أي دولة علمانية نريد؟ وكيف نفهم العلمانية؟ هل هي فصل الدين عن الدولة أم فصل المؤسسة الدينية عن الدولة؟ وماذا يبقى من الدين في ظل الدولة العلمانية؟ ..الخ. مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من السوريين باتوا ينفرون من كلمة “العلمانية” بسبب ارتباطها بنظام الأسد من جهة، وبسبب الدعاية الإسلامية التي ازدهرت مؤخراً في إطار الصراع الجاري في سورية، من جهة أخرى. وبات كثير من العلمانيين السوريين يفضلون تفادي اللفظ مع الاحتفاظ بالمضمون، وهناك من يقترح استبدالها بلفظة أخرى تعطي دلالة مشابهة مثل “الوطنية”. لكن بعيداً عن اللفظ، يبقى، في تقديرنا، أن غالبية السوريين “علمانيون” في المضمون، أي لا يميلون إلى الحكم الديني كما يطالب به أصحابه، الذي هو حكم إسلامي سني بطبيعة الحال. يبرهن على ذلك الرفض الواسع الذي لاقته الدولة الإسلامية (داعش)، وتلقاه جبهة النصرة، في مناطق سيطرتها. وقد يكون بروز وسيطرة هذه التنظيمات السلفية الجهادية وانكشاف محدوديتها وطبيعتها القائمة على العنف المحض، من النتائج الإيجابية القليلة التي أدت إليها المأساة السورية.

بين العلمانية والمذهب العلماني

ينبغي التمييز منذ البداية بين العلمانية (secularity) والعلمانوية أو المذهب العلماني (secularism)، المفهوم الأول ينتمي إلى المجال السياسي ويعرض تصوراً لطريقة تبدو لمناصريه، ونحن منهم، أكثر عدلاً وجدوى في تنظيم الشؤون العامة في المجتمع وإدارتها، لأنه يحرر إدارة المجتمع من المجال القدسي حين يبعد التقديس والإطلاق عن عالم السياسة، فيما ينتمي المفهوم الثاني إلى المجال الإيديولجي فيحول “العلمانية” إلى ما يشبه الدين الدنيوي، حين يقوم أتباعه بنقل “التقديس” من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فينتج ظاهرة “المقدس الدنيوي”، ويحول “العلمانية” إلى إيديولوجيا لسلطة مطلقة.

يمكن الحديث عن نسختين من المذهب العلماني، الأولى هي النسخة السوفييتية التي تطابقت مع الإلحاد. لا تكتفي هذه النسخة بتحرير السياسة من سلطة المؤسسة الدينية، بل تحظر الأديان نفسها، وتقيد حرية المتدينين، وتضخ ثقافة “مادية” في كل مفاصل المجتمع بغرض استئصال الدين .. الخ. تستند النسخة السوفييتية إلى فلسفة مادية محددة ترى في الدين عائقاً في وجه تحرير المجتمع، وترى أن الدين تعبير عن طفولة البشرية أو مرحلة عابرة من تطور البشرية. وقد ترافقت هذه النسخة مع قمع سياسي معمّم وبناء اقتصادي وعسكري مهم. لم تخف النسخة السوفييتية عداءها للأديان، وكانت جزءاً من مشروع تنموي يهدف إلى التحرر من “الإمبريالية” لكنه انتهى إلى الانهيار، وتبين من هذه التجربة أن سبعين سنة من الإلحاد العام لم تستطع استئصال الدين من المجتمع، وأن ربط التحرر أو التنمية بمعاداة الأديان هو ضيق أفق يتجاهل المكانة الثابتة للدين في النفس البشرية.

النسخة الثانية من العلمانوية كانت جزءاً من إيديولوجيا سلطات “تقدمية” مستبدة، سرعان ما تحولت إلى سلطات منحطة فارغة من أي مشروع تنموي أو تحرري وممتلئة فقط بإرادة الديمومة أو التأبيد، فعملت على صياغة كل آليات إدارة المجتمع لتكون موجهة إلى تأبيد سلطتها. إلى هذا النوع تنتمي “علمانية” نظام الأسد. هذه النسخة، على خلاف النسخة الأولى، لا تقف ضد الدين، ولا تفصل الدين عن الدولة، بل تتحول إلى ما يشبه دين دنيوي مجاور تحل فيه السلطة، أو رأس السلطة، محل الله في الدين الديني الذي تتواطأ مؤسساته الرسمية مع “دين السلطة” هذا، وتصبح خادمة له من موقعها كممثلة للدين الإلهي.

يتأتى انحطاط هذه النسخة العلمانوية من انحطاط السلطات التي تعتمدها. الحق أن صلة هذه السلطات مع العلمانية تقتصر على أنها سلطات ليست دينية، بمعنى أنها لا تفرض تطبيق الشرع (وإن كانت تفرض أن يكون رئيس الدولة متحدراً من دين أو مذهب معين)، وبذلك فإنها تحمي جوانب من الحرية الفردية مثل عدم فرض الحجاب وعدم فرض تحريم الخمر .. الخ. ينظر كثيرون إلى هذه “الحريات” بوصفها علامات تقدم، في الوقت الذي أنتج ترافق أمثال “الحريات” المذكورة مع سيطرة سلطة مفروضة على المحكومين وتعمم القمع والفساد وأشكال التمييز الضمني والمعلن، رد فعل ضد هذه الحريات نفسها التي غدت في الوعي العام جزءاً من منظومة الاستبداد. وقد لوحظ في سورية ميل شعبي لرفض هذه الحريات في العودة إلى الدين والعودة للباس الديني وعودة الالتزام بالطقوس الدينية والمطالبة بفصل الجنسين ..الخ، في السنوات الأخيرة السابقة لاندلاع الثورة. وقد كان لهذه العودة إلى الدين “الإلهي” حضور صريح في جسد الثورة السورية منذ بداياتها، عودة إلى الدين الإلهي كشكل لرفض “الدين الدنيوي” أو “دين السلطة” الذي سخر الدين الإلهي لصالحه عبر سيطرته على مؤسساته الرسمية التي تأقلمت بدورها مع هذه السيطرة من موقع المصلحة المشتركة. على هذا كانت العودة إلى الدين الإلهي نوعاً من رفض السلطة السياسية ورموزها. يلفت النظر التركيز على “الرموز” في الهدف الثابت (الكليشي) الذي استخدمته وكررته مؤسسات المعارضة السورية لفترة طويلة وهو “إسقاط النظام بكامل مرتكزاته ورموزه”، وكانت هذه المفردة الأخيرة تشمل العلم والنشيد الوطني والأغاني الوطنية التي كان يستخدمها النظام ..الخ، كما لو أن هذه الرموز انعكست في وعي الثائرين على أنها طقوس لدين السلطة “العلمانية”.

اصطفافات غريبة

هكذا أبرزت الثورة السورية اصطفافات غريبة وسط نخبة المثقفين والناشطين والمهتمين بالشأن العام، فالقمع الوحشي الذي لجأ إليه النظام “العلماني” دفع إلى التطرف في رفضه جملة وتفصيلاً بما في ذلك “علمانيته“. وبالمقابل، فإن الطابع الديني الذي راح يسيطر أكثر فأكثر في المظاهرات ثم في التحول المسلح، دفع آخرين إلى رفض الثورة “الدينية“.أولوية الموقف ضد النظام دفعت علمانيين إلى الاقتراب من قوى غير علمانية في مواجهة النظام، وأولوية الموقف ضد الإسلام السياسي، دفعت معارضين تاريخيين للنظام إلى الاقتراب من النظام في مواجهة قوى إسلامية غير علمانية أو في مواجهة “الفاشية الإسلامية”،كما يسمونها. هكذا أصبحت لوحة الصراع مركبة وغريبة، وأغرب ما فيها أن قوى إسلامية دينية تتصدر ما يفترض أنه ثورة ديموقراطية، وأن علمانيين ديموقراطيين يجدون أنفسهم بجانب قوى تكفّر الديموقراطية والعلمانية، فيما يجد علمانيون ديموقراطيون آخرون أنفسهم بجانب نظام مستبد وحشي يشن حرب إبادة ضد شعبه. ومهما يكن المنطق السياسي لكلا الطرفين، ولكل منهما منطقه الخاص وحججه الثابتة، فإن الخاسر الأكبر في هذا الاصطفاف هو هؤلاء العلمانيون الديموقراطيون أنفسهم، مع قضيتهم المهملة.

بماذا تتميز العلمانية عن الحكم الديني؟

العلمانية تتضمن أمرين جوهريين، الأول هو إنشاء مرجعية انتماء موحدة لكل أبناء البلد، وهي مرجعية الانتماء إلى البلد (الوطن)، وجعل هذا الانتماء أولياً في الشؤون الدنيوية أو السياسية، أي جعله فوق كل الانتماءات من الناحية الدستورية والقانونية. والثاني هو تحصين المجال السياسي من هيمنة الدين وحماية هذا المجال من “ممثلي الله على الأرض”، الذين يحاسبون الناس على عقائدهم الروحية، ويفرزونهم بحسب ذلك، فلا يبقى مكان في البلاد لملحد مثلاً. ينتج عن هذين الأمرين أن أهل البلد متساوون أمام القانون بصرف النظر عما يحملون في رؤوسهم من عقائد روحية أو دينية، وأن شأن إدارة بلدهم يعود لهم، ولما يرونه مناسباً لتطورهم، دون ارتهان لأي مرجعية سوى مرجعية العقل وإرادة الغالبية. من الطبيعي أن هذا يوحد أهل البلد بوصفهم مواطنين بدلاً من أن يفرقهم بوصفهم أتباع مذاهب وأديان، كما هو الحال في الحكم الديني. ومن شأن هذا، أيضاً، أن يفتح أمام أهل البلد كل إمكانات التفكير الحر في حل المشاكل التي تواجههم، مع الاستفادة من تجارب العصر دون الحاجة إلى “جواز مرور” من نصوص أو من جهات “فقهية” تستقر فوق الدستور بدعوى زائفة هي احترام الدين والهوية.

من ناحية أخرى، تميز العلمانية بين مجال عام (المجال السياسي) يتساوى فيه أهل البلد بوصفهم مواطنين بحقوق وواجبات يحددها الدستور والقوانين، وبين مجالات خاصة يتمايز فيها الناس بحسب معتقداتهم الخاصة، فيمارسون في مجالهم الخاص سلطاتهم الدينية وأنشطتهم الروحية وطقوسهم وتقاليدهم بكامل الحرية. هذا يعني أن العلمانية ليست ضد الدين إلا بقدر ما يسعى الدين إلى اقتحام المجال العام، أي بقدر ما يتحول إلى إيديولوجيا لسلطة سياسية. “الدين دين في حدوده، وهو إيديولوجيا خارجها”، بحسب تعبير عزمي بشارة في كتابه (الدين والتدين)، الجزء الأول من ثلاثية بعنوان (الدين والعلمانية في سياق تاريخي)، يدافع فيها بشارة عن فكرة أساسية تقول إن العلمنة هي عملية تاريخية طويلة من التمايز بين الدين والدنيا.

غير أن عقدة مناقشة العلمانية في المجتمع المسلم هي أن الإسلاميين لا يقبلون التمايز بين الدين والدنيا. يصر الإسلاميون على أن الإسلام دين ودنيا، وأنه لا يمكن الفصل في الإسلام بين العبادات والشريعة، وأن العلمانية تعتدي على الإسلام لأنها تستبعد الشريعة (يوسف القرضاوي). ينتهي هذا القول الثابت عند الإسلاميين إلى نتيجة واحدة تقول، إذا استعرنا من شعر لبيد: “ألا كل شيء ما خلا (الحكم الديني الإسلامي) باطل”.

هل يمكن علمنة الخطاب الديني الإسلامي؟

حاول عدد من المفكرين حل العقدة السابقة بأن يقبلوا بارتباط الدين والدنيا في الإسلام وأن يعملوا على توسيع الدين إلى الحد الذي يجعله قادراً على استيعاب الدنيا في تطورها وتطلباتها المتزايدة، والعلمانية من متطلباتها. أي حاول هؤلاء “علمنة” الخطاب الديني الإسلامي، مرة بالاعتماد على علوم اللغة، كما فعل السوري محمد شحرورفي كتابه “الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة”، ومرة بالاعتماد على استخلاص المعنى من الخطاب الديني برده إلى ظروف نشأته “أسباب النزول”،وبالتالي أخذ العبرة والمعنى دون التقيد بحرفية النص، كما فعل المصري نصر حامد أبو زيدفي كتابه “مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن”، ومرة بالعودة إلى الإسلام المكي دون المديني كما فعل السوداني محمود محمد طه. وهي محاولات توفيقية يصعب أن تنافس التيار الإسلامي السائد على الجمهور، لأنها تسعى إلى محاربته في ساحته وبأسلحته.

هذه المحاولات تنطوي على تناقض عميق هو الجمع بين المقدس غير الخاضع للعقل، والعقلاني. فهي تقر بقداسة النص وإعجازه من جهة، وتنتصر للعقلانية من جهة أخرى. هذا مسعى معاق، فهو يريد أن يزرع العقلانية في ما هو غير عقلاني، يريد من الدين أن يتخلى عن دينيته بقدر ما يريده أن يكون عقلاً.

لا يمكن حل هذه المشكلة إلا بفصل المجال السياسي (النسبي والمشترك والمتغير والدنيوي) عن المجال الديني (المطلق والثابت والخاص والروحي). وتبقى حدود الفصل بين المجالين محلاً للبحث والتداول لأنها تتعلق بالمجتمع المشخص وتاريخه وتركيبته، حتى يمكن القول إن لكل مجتمع علمانيته الخاصة.

علمانية أرضية مقابل علمانية سماوية

ما أنجزته الدعوة المحمدية من الناحية السياسية، وما شكل أساس نجاحها، هو إنشاء رابط واحد بين أبناء القبائل العربية المختلفة، استطاع من خلاله توحيد الجميع والظهور بهم على العالم في تلك الحقبة. الجميع متساوون في هذا الرابط الذي هو “الإسلام”، والذي شكل قاسماً مشتركاً للجميع لا يتعارض مع الروابط والانتماءات القبلية. كان ذلك، قبل أن يصبح الإسلام نحلاً وفرقاً عديدة، ويتحوّل بالتالي إلى مصدر تقسيم وليس مصدر وحدة، كما كان عليه الحال في مطلع الدعوة.

على هذا كان الفعل السياسي للانتماء الجامع الذي جاء به محمد، هو تماماً ما نريده نحن من العلمانية. أي تحييد الانتماءات الدينية (الانتماءات القبلية) أمام الانتماء إلى الوطن (إلى الإسلام)، ومساواة الجميع في الدستور وأمام القانون بصرف النظر عن منابتهم الدينية والمذهبية. هذا يقول إنّ “أتباع” محمد اليوم، من أنصار الحكم الديني، وهم يعملون، في الحقيقة، على الضد مما عمله محمد، فهم يقسمون أبناء البلد الواحد، بحسب مذاهبهم وأديانهم، ويقودون إلى تشتيت الناس بدلاً من توحيدهم. التمسك بقاسم مشترك بين الناس يحميهم من صنوف التمييز فيما بينهم، مع احترام القواسم الخاصة بكل جماعة، هو ما يكافئ الفعل السياسي الذي أنجزه الرسول، بفارق أن الرسول ربط الانتماء بالسماء، فيما العلمانية تربطه بالأرض.

أما التمسك بالانتماءات الدينية في هذا العصر وإعلاؤها على غيرها، فإنه يكافئ التمسك بالانتماء القبلي في زمن الرسول وإعلاءه على الانتماء الإسلامي الذي كان جامعاً في حينها.

علمانية الأقليات الدينية والمذهبية

الأقليات المذهبية الموجودة في سورية لا تمتلك “شريعة” ولا تنتج تعبيرات سياسية تتكلم باسم “الأمة”، فهي غير مؤهلة لذلك، لا من حيث التكوين العددي ولا من حيث البنية المذهبية. لا يوجد مشاريع حكم ديني لدى هذه الأقليات. مشروع الحكم الديني في سورية هو مشروع إسلامي سني بالتحديد، ولذلك فإن أبناء الأقليات المذهبية يؤيدون العلمانية في وجه الحكم الديني، ذلك لأن هذا الأخير يجعل منهم رعايا أو محميين أو ذميين أو مواطنين من درجة ثانية في بلدهم. هذا مفهوم وثابت.

في مواجهة سعي الإسلاميين إلى إقامة “حكم الشرع”، سوف تميل الأقليات إلى القبول بأي خيار آخر، حتى لو كان التمسك بنظام يستبد بهم، ولو كان يقيم “ديناً دنيوياً” يكرس فيه إلها ملموساً ومشخصاً اسمه “السلطة“. يقبلون أن يتساووا مع الجميع تحت سيف قمع “علماني”، على أن يطالهم سيف التمييز الحتمي للحكم الديني الإسلامي الذي سوف يميزهم بحسب ولادتهم. فما بالك إذا كانوا يشعرون أن السيف “العلماني” أقل قسوة عليهم من قسوته على أهل الأكثرية التي يخشى دائماً من أن تقوم للمطالبة بحكم الشرع؟ ولن يكون مفاجئاً أن تميل الأقليات إلى القبول حتى بالأجنبي، في مواجهة محاولة “حكم الشرع” الوصول إلى السلطة، كما نرى في الموقف من التدخل الإيراني والروسي.

على هذا، حين يصبح مشروع الحكم الديني في حالة هجوم، ويدخل في نزاع مباشر على السلطة، سوف تتحول الأقليات إلى قوة محافظة ضد هذا المشروع، وسوف يصبح المذهب العلماني وسيلة إيديولوجية تعتمدها في موقفها ضد الإسلاميين. وقوف الأقليات مع الاستبداد السياسي “العلمانوي” ضد محاولة التغيير الإسلامية، لا تنبع من “تقدمية” جوهرية لدى الأقليات، كما يمكن أن يقال، بل من موقف دفاعي ينتهي، في الحالة العيانية السورية، إلى تكريس الاستبداد وخنق العلمانية نفسها، بقدر ما نفهم العلمانية على أنها مقدمة ضرورية للمساواة. الموضوع لا يتصل إذن بتقدمية أو رجعية الأقليات، بقدر ما يتصل بحسابات مصلحية واضحة.

لاحظنا في سياق الثورة السورية، أن الأقليات عموماً، بدرجات متفاوتة فيما بينها، (العلويون بصورة أبرز لأسباب كثر تناولها والحديث عنها وباتت معروفة كما أعتقد)، توجست منذ البداية، وراحت تستقصي اللون الإسلامي منذ الأيام الأولى، واصطفت إلى جانب النظام أكثر مع بروز الطابع الإسلامي للثورة أكثر. كان هذا الاصطفاف نهائياً، بمعنى أن الأقليات تخلت بالكامل، بتأثير الخوف من تقدم المشروع الإسلامي، عن موقفها النقدي من النظام، أو، بدقة أكبر، حصرته تحت سقف دعم النظام باسم دعم الدولة أو دعم الجيش الوطني أو دعم “العلمانية” ..الخ. ولم يكن لهذا الموقف أن يتبدل رغم كل شيء، رغم تمادي النظام في القمع والقتل والتدمير، ورغم الارتهان لدول خارجية مثل إيران وروسيا، ورغم التواطؤ المتبادل بين النظام ومؤسسة الدين الإسلامي الرسمي المتحالف مع النظام. لم تجرؤ الأقليات على مراجعة جدية لموقفها من النظام حتى حين مارست أجهزة النظام البطش والتشبيح ضد أبنائها أنفسهم، وحتى حين أعطى النظام وزارة الأوقاف سلطات غير مسبوقة في الرقابة على التعليم وعلى مؤسسات الدولة. لقد أصبحت الأقليات، والعلويون بوجه خاص، مرهونة للنظام بقدر ما هو مرهون لها.

الواقع يقول إن علمانية الأقليات لا تعبر عن تقدمية أقلياتية، فهي دعمت استبداداً “علمانياً” ولم تدعم ديموقراطية علمانية، كما أن لا علمانية الإسلاميين لا تعبر عن رجعية أكثرية، فهؤلاء قاموا ضد استبداد يتاجر بالعلمانية ويدوس مبادئها بممارسات طائفية مستورة ومعلنة.في الحالتين يندفع كل طرف وراء ما يعتقد إنه يحمي وجوده ومصالحه. في الانقسام الحاد الذي أفرزه الصراع الجاري في سورية، أظهر الطرفان احتقاراً لكرامة الإنسان ولمبادئ حقوق الإنسان. والواقع أن الجمهور السوري منقسم اليوم ليس على أساس علماني ومضاد للعلمانية، بل على أساس مع أو ضد النظام، مع أو ضد الإسلاميين. لا حضور للحديث العلماني في الأمر، ولا يوجد في سورية اليوم طرف مؤثر يعبر بشكل حقيقي عن المبادئ الديموقراطية والعلمانية.

إذا صح وصفنا السابق، فإن مهمة المثقفين والمهتمين بمستقبل سورية، إنقاذ العلمانية من التشويه الذي يمارسه النظام السوري، والتعبئة المضادة التي يمارسها الإسلاميون، لأن الديموقراطية العلمانية هي، في اعتقادنا، الأفق الوحيد الممكن لسورية موحدة وكريمة.

 

أي علمانية تناسب سوريا

أي علمانية تناسب سوريا

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

يُعد التساؤل عن إمكانية علمنة الدولة في سوريا من أهم الأسئلة وأكثرها تعقيداً في السياق السوري، خاصة بسبب التعددية الدينية والعرقية والثقافية السائدة في المجتمع السوري. إلا أنّ هذه التعددية، ذاتها، هي التي تمنح المطالبة بعلمنة الدولة شرعيتها من أجل ضمان المساواة بين مكونات هذه التعددية، وحتى لا يتمكن مكون واحد من الهيمنة على بقية المكونات. مع التأكيد على أنه لا يمكن استخدام مفاهيم الأكثرية والأقلية في هذا السجال، طالما أنه ليس مسموحاً للأقلية بأن تتحوّل إلى أكثرية، وطالما أنّ الأكثرية ليست مهدّدة بأن تتحول إلى أقلية.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: ما هي العلمانية التي تناسب سوريا بنسائها ورجالها وبأشكال تعدديتها المتنوعة؟!

تُعرّف الدولة بأنها إطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني مع الشعب ومع الأرض أيضاً، وأعتقد أن فصل الدين عن مكونات الدولة الثلاثة هو أمر غير ممكن مع شعب مؤمن، (ونقصد هنا ثقافة الشعب التي تشكل الأديان رافدا أساسيا لها، ولا نقصد هنا حق الفرد بأن يكون مؤمنا وعلمانيا في الوقت ذاته)، مع اختلاف الديانات التي يؤمن بها، ومع أرض حفظت تاريخاً مسيحياً وتاريخاً إسلامياً موغلين في القدم.

وهذا يعني أن العلمانية التي يمكن أن تناسب سوريا هي الفصل بين الدين وإطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني بجميع استطالاته بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية التي يجب اعتبارها جزءاً من إطار الحكم القانوني لأنها تنظم العلاقة بين أفراد الخلية المجتمعية الأساس، وهي الأسرة.

ولطالما وقع الكثيرون في خطأ اعتبار قوانين الأحوال الشخصية تقع في إطار الحيز الخاص، فالحيز الخاص هو الحيز المتصل بالفرد، رجلاً كان أم امرأة، وليس هو الحيز الخاص بالرجل كرب أسرة يدور في فلكه الزوجة، أو الزوجات، والأطفال. فالمطلوب من قوانين الأحوال الشخصية تنظيم حقوق المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، الذين يعيشون في إطار الأسرة باعتبارها إطاراً مجتمعياً من الأطر المجتمعية الموجودة في أي مجتمع.

لقد انسحب شكل الأسرة الأبوية (البطريركية) على الدولة السورية التي كانت، خلال تاريخها القريب، دولة أبوية بامتياز، فمكانة رأس الدولة تشبه “قدسية” مكانة رب الأسرة في العائلة، كما أن مكانة الدستور هي مكانة مقدسة تشبه مكانة القانون الذي يضعه الأب لتسير العائلة على هداه، وحزب رأس الدولة هو حزب مقدس لأنه يمثل مرجعية الأب “المقدس”. وهذا كله نلمسه بوضوح في دستور سوريا الذي أُقِرعام 1973 وكذلك في دستور 2012 الذي باتت صلاحيات رئيس الدولة فيه مكان الحزب فلا يجوز انتقادها أو المطالبة بالحد منها.

لذلك كله لا بد للعلمانية في سوريا من أن تنزع صفة القدسية عن هذه الأيقونات كافة، فكل إنتاج بشري، شخصاً كان أم أي شيء آخر، يجب أن يأخذ مكانه الطبيعي باعتباره بشراً أو منتوجاً بشرياً. ونعني هنا أن تُنزع القدسية عن إنتاج بشري مثل الأيديولوجيات الحزبية أو الأشخاص، خاصة القادة، أي فصل الديني عن الدنيوي.

حول علمانية النظام السوري

من الخطأ بمكان اعتبار أن النظام السوري هو نظام علماني، فليس كل نظام غير ديني هو نظام علماني، كما أن حزب البعث، الذي حكم (نظرياً) سوريا لعقود، ليس حزباً علمانياً لأنه يعتبر أن الرسالة الخالدة للأمة العربية هي الإسلام.

فعوضاً عن تشجيع العمل المدني المستقل، بنى النظام بنية شمولية تمثلت بعدد من الاتحادات والمنظمات الجماهيرية التي لا يجوز لأحد أن يعمل مستقلاً عنها أو يعمل لتحقيق أهداف تتشابه مع أهدافها[1]. وفي مناخ من التضييق على العمل المدني المستقل، أنشأ النظام الآلاف من “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”. واشتدت سياسات مغازلة التيار الديني الأصولي بعد عام 2006، العام الذي سُمح فيه للقبيسيات بالعمل شبه العلني، فجرى حل جمعية المبادرة الاجتماعية (2007) لأنها أجرت استبياناً ميدانياً حول قانون الأحوال الشخصية العام، كما صدر تعميم القيادة القطرية لحزب البعث الخاص بموقف الحزب من جماعة الشيخ عبد الهادي الباني (2009)[2]، والذي اعتبر عمل جماعة الشيخ الباني في إطار العمل الدعوي، على الرغم من أنه يدعو إلى إنشاء أمة إسلامية ويدعو إلى منع النساء من التعلم! ويضاف إلى ما سبق الكثير من الأمثلة التي لا مجال لسردها في هذا السياق.

لقد استخدم النظام شعارات العلمانية من أجل استقطاب الأقليات الدينية لدعمه في معركته ضد معارضيه ومن أجل إلباس هذه المعركة لبوساً ضد “الإرهاب الديني المتطرف” في محاولة لتحييد عدد من الدول الأجنبية وعدد من القوى اليسارية في العالم، خاصة في العالم العربي.

ولا يمكن للنظام أن يكون نظاماً علمانياً طالما أن دستوره (دستوري 1973-2012) يتضمن تمييزاً دينياً، سواء لمرجعية الفقه الإسلامي أم لاشتراط الإسلام ديناً لرئيس الدولة، إضافة إلى ضمان الأحوال الشخصية للطوائف كافة (دستور 2012).

إن ضمان الدستور للأحوال الشخصية لكل طائفة يعني تخلي السلطة الحاكمة عن واجبها بتنظيم العلاقة بين المواطنين، نساء ورجالا، ضمن نطاق العائلة. كما ويعني أن السلطة تترك هذه الوظيفة لمرجعيات دينية يختلط فيها البشري مع الإلهي، وهذا يجعل الاحتجاج على التمييز[3]الموجود في هذه الأحكام يصطدم بما يسمى بـ “المقدس”،  ويصبح تعديلها أمرا محفوفا بالمخاطر، خاصة في ظلّ وجود التفسيرات التقليدية للمرجعيات الدينية الخاصة بقوانين الأسرة في سورية.

أما بعد الانتفاضة/ الأزمة فقد روج النظام لـ “فقه الأزمة” الذي أصدرته وزارة الأوقاف، ودعم الفريق الديني الشبابيالذي شكلته وزارة الأوقاف أيضاً، والتي وقعت اتفاقية مع “جامعة البعث” الحكومية من أجل “تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح، الأمر الذي سيساهم في بناء مجتمع بعيد عن كل أشكال التطرف الديني”!.

في علمانية بعض قوى المعارضة

لقد استخدمت المعارضة العلمانية شعارات العلمانية لتحقيق أهداف سياسية، فتحدث ائتلاف القوى العلمانية في بيانه الأول عن “انتصار الثورة، والتحول إلى بناء دولة مدنية حديثة على أسس من المواطنة الكاملة وغير المنقوصة لأي مكون من مكونات الشعب السوري[4].” ولم يذكر مساواة النساء بالرجال، وهي شرط رئيسي لتحقق العلمانية، ولم تتصد هذه التيارات المعارضة لمحاولات أسلمة “الثورة” ولا للأسماء الطائفية التي أطلقتها كتائب “الجيش الحر” على فصائلها.

العلمانية وحقوق النساء

كانت حقوق النساء ضحية الصفقة التي أبرمتها السلطة الحاكمة في سوريا مع التيار الديني الاجتماعي، فقد كانت كل القوانين التي تعمل وفقها الدولة مدنية باستثناء القوانين التي تخص مكانة المرأة في الأسرة[5]، حيث كانت، وما تزال، ذات مرجعيات دينية في جميع الموادالتي تتحدث فيها عن أدوار النساء في الأسرة وعن حقوقهن. وعلى سبيل المثال “تمنح جميع قوانين الأحوال الشخصية حق الولاية “مطلقاً” لذكور الأسرة “الأب، الزوج، الابن، الجد ..” ولا تمنحها للنساء، حتى أن قانون الأحوال الشخصية للكاثوليك الذي سمح، بعد تعديله 2006، بنقل الولاية إلى الأم قد اشترط سقوط حق الأب في الولاية، ومن ثم تكون الولاية للأم وفق شروط حددتها المادة 91 منه. وكذلك أعطى قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس الحق لعائلة الأم بالدرجة الثانية، في الخطبة فقط.”[6]ويستند حق ولاية الرجال على النساء في العائلة إلى مبدأ قوامة الرجل على المرأة المعترف به في جميع الأديان والطوائف المعترف بها في سوريا.

أما على الصعيد غير الحكومي، فلم تتصد القوى العلمانية مثل الأحزاب الشيوعية والحزب القومي الاجتماعي للدفاع عن حقوق النساء الإنسانية في سوريا إلى أن حصل الصدام بين القوى الأصولية والقوى العلمانية جراء النقاشات المحتدمة التي رافقت مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في سورية عام 2009، فانبرى الكثير من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية للتصدي للمشروع الأصولي الذي يستهدف النهوض بأوضاع النساء، وقد نجح الحراك النسوي وقتها في استنهاض مجموعة كبيرة من هذه القوى للتصدي لهذا المشروع. وكان الرد على هذا المشروع سيلاً من المقالات[7] والبيانات[8]التي أكدت على الموقف المناهض لهذا المشروع، بالإضافة إلى جرأة كبيرة في طرح مقترحات لتشريع الزواج المدني[9]، وتشديد العقوبات على “جرائم الشرف”. إلا أن دفاع القوى العلمانية عن حقوق النساء لم يستمر بهذا الزخم، خاصة بعد اندلاع النزاع المسلح في سوريا، حيث تركز الخطاب العلماني على مناهضة ما سُميّ بالتيار “الإسلامي الوهابي” و”المؤامرة” و”الفاشية الدينية”… حتى أن ردود أفعال القوى العلمانية[10]الداعمة للنظام على قانون وزارة الأوقاف الجديد كانت أعلى وأقوى بكثير من ردود أفعالها على التعديلات المحدودة لقانون الأحوال الشخصية العام وعلى استمرار التمييز ضد النساء في الكثير من القوانين السورية؛ كما أن الكثير من العلمانيين تعامل مع قضية “الأطفال مجهولي النسب” باعتبارها قضية تخص أبناء “الدواعش” وليست قضية تخص أبناء لنساء سوريات متزوجات من غير سوريين.

ويدل هذا على أن الخطاب العلماني في سوريا ليس خطاباً علمانياً عميقاً بل هو خطاب رد فعل سياسي، خاصة أن القوى السياسية العلمانية، مثلا القوى الشيوعية والقوى القومية الاجتماعية، لا تذكر العلمانية إلا ما ندر ولا تروج لها أبداً.

إن علمانية القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون علمانية حديثة وعميقة، ولا يمكن فصلها عن ضمان حقوق النساء كافة وعن ضمان الديمقراطية بكل استطالاتها، وكأننا أمام مثلث يقود كل ضلع فيه إلى الضلعين الأخريين في ترابط لا يمكن فصل عراه.

فيعلمنةالخطابالدينيالإسلامي

لقد عاش الإسلام في عصره النبوي ثلاث عشرة سنة في مكة دون أن يكون له نظام حكم[11]، بينما فرض الانتقال إلى المدينة(دام الحكم النبوي فيها عشر سنوات) احتياجات كبيرة لتنظيم الحياة الجديدة للمسلمين، ويمكن أن يستنتج الباحث أن الإسلام النبوي زمن مكة كان أشبه بالحركة العلمانية. حتى أن السور المكية تختلف اختلافاً كبيراً عن السور المدنية، فالسور المكية[12]تبدأ بـ “يا أيها الناس” وتدعو آياتها إلى توحيد الله وعبادته وإلى الإيمان بوجود الجنة والنار والبعث والحساب. بينما السور المدنية[13] يكثر في آياتها أسلوب خطاب “يا أيها الذين آمنوا” وتفصل آياتها بعضاً من أحكام الدين الإسلامي كالميراث وفريضة الحج وحد السرقة وغيرها، وتدعو آياتها إلى الجهاد وتتحدث عن تشريعات متعددة كالزواج والطلاق.

كما أن الإسلام شهد عدداً من المحاولات لفصل الديني عن السياسي، لعل أبرزها كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ الأزهري علي عبد الرازق الذي صدر في 1925م، والذي رفض فيه عبد الرازق فكرة الخلافة وتبنى الدعوة إلى مدنية الدولة، وأعمال الباحث د. محمد شحرور ونصر حامد أبو زيد.

وإضافة إلى ما سبق، هناك خمس عشرة دولة[14]معظم سكانها من المسلمين وتنص دساتيرها على علمانية الدولة، هي تركيا، السنغال، ألبانيا، بوركينا فاسو، كوسوفو، مالي، أوزبكستان، تشاد، قرغيستان، غينيا، تركمانستان، بنغلاديش، أذربيجان، كازاخستان، طاجيكستان. كما أن إندونيسيا[15]، وعدد سكانها: حوالي 258 مليوناً، وحوالي 85% من سكانها مسلمون، لا يعترف دستورها بأي دين رسمي للدولة، ولكنه أيضاً لا يقول صراحة بأن الدولة علمانية ولا يذكر كلمة “العلمانية”.

وبالمحصلة فأن يكون الإنسان علمانياً في سوريا يعني أن يكون ديمقراطياً ومع المساواة الكاملة بين الجميع بغض النظر عن الدين أو الجنس أو النوع الاجتماعي أو الإثنية أو العرق. وختاماً أود تقديم الشكر الجزيل للجهات الداعية إلى فتح هذا الملف الهام جدا في السياق السوري وفي التحضير لبناء سوريا المستقبل.

الهوامش:

[1]-البند 14 من التعليمات الإدارية ذات الرقم (9/ د/ 62)، التاريخ 8/ 8/ 1974: على المكاتب التنفيذية التقيد بما يلي عند البت بطلب شهر أنظمة الجمعيات:

  • رفض طلب شهر أنظمة الروابط والجمعيات والأندية ذات الأهداف المتماثلة مع أهداف المنظمات الشعبية.
  • عدم شهر أي جمعيات نسائية عملاً بالمرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970.

[2]– تعميم حزب البعث الصادر عن مكتب الإعداد والثقافة والإعلام القطري برقم 63 تاريخ 23/8/2009

[3]– أظهر بحث لرابطة النساء السوريات 2009 (التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا) أن جميع قوانين الأحوال الشخصية المطبقة في سوريا والتي تستند إلى مرجعيات دينية هي قوانين تميز ضد النساء وتستند إلى قوامة الرجال على النساء

 البيان الختامي للمؤتمر التأسيسي لائتلاف القوى العلمانية الديمقراطية السورية، 28/1/2012-[4]

[5]-قوانين الأحوال الشخصية كافة، قانون الجنسية لا يسمح للمرأة السورية المتزوجة بغير السوري بنقل جنسيتها لأبنائها، قانون العقوبات في المواد الخاصة بما يسمى بجرائم الشرف وعقوبة الزنا والمواد الخاصة باستخدام وسائل تنظيم الأسرة، قوانين العمل والتأمينات التي تشجع النساء على ترك العمل للقيام بالأعباء الأسرية وتحرم الزوجة والأطفال العاملين في الاستثمارات الأسرية من الاستفادة من أي مظلة قانونية حمائية.

[6]– بحث لرابطة النساء السوريات 2009 (التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا)

[7]-www.kassioun.org › ، سياسة، Jun 23, 2009، مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد قفزة إلى الوراء أم قصور قانوني ووطني؟!

[8]http://www.zaidal.com/229/showthread.php?t=9574، الحزب السوري القومي الاجتماعي يرفض مشروع الاحوال الشخصية الجديد

[9]-” يعلن السوريون القوميون الاجتماعيون في الشام، رفضهم التام لهكذا مشروع، ويطالبون بإصدار قانون مدني للأحوال الشخصية في سورية”، المصدر السابق

[10]-التجمع العلماني السوريالذي أطلقه النائب بالبرلمان السوري نبيل صالح

[11]-حديث عن ابن عباس: ” بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ

[12]-آية ياسر نجار، آخر تحديث: ٠٦:٥٥، ١٧ مايو ٢٠١٧، https://mawdoo3.com/السور_المكية_والمدنية

[13]– المرجع السابق

[14]-مبارك بلقاسم،  https://www.hespress.com/writers/316166.html

[15]-مبارك بلقاسم، المرجع السابق