العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

1 – سؤال الإمكان وسؤال الوجوب

يدل عنوان هذه المقاربة على أن العلمانية ممكنة، في سوريا، كما في غيرها. ومن ثم، إن البحث  يتجه نحو الشروط التي تجعلها ممكنة. لكنَّ في العنوان مصادرة على المطلوب: العلمانية ممكنة؛  لذلك، يجب أن نبدأ بالسؤال: هل العلمانية ممكنة في سوريا؟ لا يحتمل هذا السؤال سوى إجابة واحدة من إجابتين: نعم هي ممكنة / لا هي غير ممكنة. هل نقع في القطعية اليقينية، إذا لم نجد غير هذين الجوابين، هل هناك حالة وسط بين الإمكان وعدم الإمكان؟

هناك صيغة أخرى لسؤال العلمانية: هل العلمانية واجبة في سوريا؟ هذا سؤال يحتمل إجابتين: العلمانية واجبة / العلمانية غير واجبة، بل يحتمل أكثر من إجابتين إذا أضفنا دواعي الوجوب وشروطه ودواعي عدم الوجوب: العلمانية واجبة إذا كانت تعني كذا أو كذا .. وإذا كانت تهدف إلى كذا أو كذا .. إلخ؛ العلمانية غير واجبة لأنها كذا أو كذا، وتؤدي إلى كذا أو كذا.

السؤال الأول، سؤال الإمكان أو عدمه، يحيل على المعرفة، وهذه لا تنفصل عن الأخلاق، ويعيِّن نموذجين مختلفين من نماذج التفكير: الأول نموذج إمكاني أو احتمالي، يتسق مع منطق الواقع  ومعنى  التاريخ ومعقولية العالم، وبكلمة واحدة: عقلاني. والثاني نموذج ثبوتي أو يقيني، قطعي مطابق لنزوع ذاتي، عاطفي أو وجداني، وبكلمة واحدة: إيماني.

والسؤال الثاني، سؤال الوجوب أو عدمه، يحيل على الأيديولوجية، بصفتها تعبيراً عن رؤية هذه الفئة الاجتماعية أو تلك لواقع المجتمع، وتفسيرها أو تأويلها لتعارضاته الملازمة، ويحيل على  السياسة، بصفتها ممارسة، تهدف إلى تحقيق مصالح معينة وغايات معينة.

لو نظرنا في الإجابتين المحتملتين عن السؤال الأول لوجدنا أن الإجابة بالإيجاب (نعم العلمانية ممكنة في سوريا)، تنفي الحتمية واليقين القطعي، وتنبثق من إدراك خصائص الواقع ومعنى التاريخ، بصفته “توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى”[1]، وبهذا تتسق مع منطق الواقع  ومعقولية العالم، كما أشرنا، وتعين حدود الحرية. أما الإجابة بالسلب أو النفي (العلمانية غير ممكنة في سوريا) فتصادر على الإمكان أو تنفيه ذاتياً، فقط، ووهمياً إذا شئتم، فتنفي الحرية؛ إذ  ليس هنالك قوة تستطيع أن تمنع حركة الواقع وحركة التاريخ أو توقفها، أو تستطيع أن تقف في  وجه الإمكان؛ البشر يستطيعون توجيه الحركة، فقط، سواء حركة الواقع أم حركة التاريخ، ولكنهم  لا يستطيعون وقفها، لأنهم، هم أنفسهم، لا يتوقفون عن الحياة والنشاط والعمل والتبادل والتعاون  والتدافع والنزاع والصداقة والعداوة والزواج والطلاق والحرب والسلم … إلخ،  والتاريخ هو حياتهم  ونشاطهم وعملهم ومبادلاتهم وتعاونهم وتدافعهم ونزاعاتهم وصداقاتهم وعداواتهم وحروبهم  وموادعاتهم، القائمة منها والممكنة .. إلخ. وهذا معنى أن “البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم”، حسب المأثور الماركسي.

الفرق بين السؤالين السابقين: سؤال الإمكان وسؤال الوجوب، والإجابات المحتملة عن أي منهما  يبين أن الحقل الأيديولوجي – السياسي لا يتطابق مع الحقل المعرفي – الأخلاقي، في أي مجتمع، وأن درجة انحراف أحدهما عن الآخر هي التي تحدد مدى تماسك الاجتماع المدني والاجتماع السياسي، أو مدى هشاشتهما، أو مدى تنثُّرهما، كما هي الحال في سوريا، ومدى إمكان تشكل روابط وطنية، أو مدى تعذر ذلك أو صعوبته.

نريد من هذه المقدمات أن نقول: العلمانية ممكنة في سوريا، كما في غيرها؛ هذا الإمكان مؤسَّس  على كونية العقل، أي كونية الإنسان العاقل والأخلاقي، وعلى أن كل تجربة إنسانية خاصة تنطوي على عنصر عام، هو لبها العقلاني، الإنساني، أو النوعي، فإن تحقق العلمانية في مكان  وزمان معينين يفتح إمكان تحققها في أمكنة – أزمة أخرى. ولكن العلمانية ليست واجبة، وليست حتمية، وليست غاية الغايات وسدرة المنتهى.

الموقف الثاني، (العلمانية غير ممكنة في سوريا) يتأسس على اعتبار الخصوصية، (خصوصية  مجتمعنا وثقافتنا وقيمنا … إلخ)، هي المعيار الوحيد للحقيقة والمعنى الوحيد للتاريخ. الخصوصية، هنا، تنفي العمومية ذاتياً، فتنفي ذاتها وذاتيتها موضوعياً، أي تنفي إنسانيتها، ومن ثم حريتها. ولهذا تظل إما منعزلة ومنكفئة على ذاتها، وإما تابعة ومستباحة، لأنها “هوية بلا ذات“، بتعبير  فتحي المسكيني، أو “نحن” بلا أفراد مختلفات ومختلفين، حرائر وأحرار.

هذا على صعيد الاستدلال العقلي، أما على الصعيد العملي أو الأخلاقي، الواقعي والتاريخي، فيتأسس الموقف الإمكاني على أن إمكان تحقق العلمانية مرهون بنمو المجتمع المدني ونشوء دولة سياسية (وطنية)، أو دولة حديثة. أي إن العلمانية تتموضع في سياق تطور المجتمع ونموه وتقدمه، وفي سياق “رفع السحر عن العالم”، وليست مرهونة بإرادة ذاتية لحزب أو طبقة. ويمكن أن نسميها “علمانية موضوعية”، تتحقق من دون قصد، وفقاً لحاجات النمو والتقدم، ومن دون معارك كلامية وضجيج أيديولوجي، وهذا ما كانت عليه الحال في سوريا، قبل اغتيال جنين  المجتمع المدني والدولة الوطنية.

2 – العلمانية والمسألة الوطنية

في الظروف السورية الراهنة، يبدو لنا أن إمكان العلمانية مشروط بالتحولات التي جرت، والتي تجري في بنى “المجتمع الأهلي”، وتتجه نحو مجتمع مدني حديث، نعني التحولات التي جرت وتجري في بنية العائلة الممتدة والعشيرة والجماعة الإثنية والطائفة الدينية، وتشكُّل الأسر النووية، وتراخي روابط القرابة، (قبل الحرب)، وتغير أساليب العمل والإنتاج وأساليب الاستهلاك وأنماط السلوك والقيم الحاكمة للعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات ولا سيما بين الذكور والإناث… وكلها تحولات تمهد لعملية الانتقال من أحكام الأعراف والعادات والتقاليد والشرائع الدينية إلى  حكم القانون. هذا الانتقال العسير والبطيء والقابل للانعكاس هو الشرط الضروري الحاسم لتعلمن  الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا لعلمنتها، على اعتبار حكم القانون، الذي يسري على جميع المواطنين والمواطنات، بلا أي تفرقة أو تمييز .. هو جوهر الدولة الحديثة وأساس المواطنة  الحديثة. (انزعوا القانون الوضعي من الدولة ومؤسساتها لا يتبقى منها شيء).

أجل، التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية قابلة للانعكاس، وهذا أي الانعكاس لا يظهر في  المدى القصير، ربما يظهر في المدى المتوسط. ومن المؤكد أنه يظهر في المدى البعيد، وقد  بين إخفاق الثورة السلمية، ثورة 2011، أن الروابط المدنية، نعني الروابط الوطنية، كانت تتفكك  شيئاً فشيئاً، منذ وحدة سوريا ومصر (1958)، ثم ثورة الثامن من آذار 1963، واغتيال جنين  المجتمع المدني (النقابات والأحزاب السياسية والجمعات والنوادي … إلخ، واغتيال جنين الدولة الوطنية، الليبرالية.

من جانب آخر، تعلمنا التجربة التركية القريبة منا أن العلمنة، التي فُرضت من فوق، لم يكن ممكناً أن يقبل بها مجتمع شديد التدين، أكثريته من المسلمين السنة، ولم يكن لها أن تستمر، وتتجذر في مؤسسات الدولة ودستورها وقوانينها لولا اقترانها بالمسألة الوطنية، وحرب الاستقلال وإلغاء نظام الخلافة، من اللحظة الأولى. الدرس التركي يؤكد، اقتران العلمانية بالمسألة الوطنية.

والمسألة الوطنية لا تقتصر على الاستقلال السياسي، أو التحرر من الاستعمار، كما جرى اختزالها دوماً، من دون أن يتحقق الاستقلال.

 المسألة الوطنية هي الانتقال من حكم الأعراف والعادات والتقاليد المحلية المختلفة، والشرائع الدينية الخاصة المختلفة إلى حكم القانون الوطني العام، الذي تضعه مؤسسة تشريعية منتخبة  انتخاباً صحيحاً. هذا الانتقال هو انتقال نوعي في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية، انتقال من نظام الامتيازات وتسلسل الولاءات الشخصية والعائلية والعشائرية والإثنية  والمذهبية إلى نظام الحقوق المتساوية، الذي ينطوي على اعتراف مبدئي ونهائي بتساوي الأفراد  ذكوراً وإناثاً في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق. المسألة الوطنية، بعبارة أخرى، هي الانتقال من الرعوية  إلى المواطنة، أي من القطيعية والجماهيرية إلى المجتمعية، بحيث تسمو الرابطة الاجتماعية (الوطنية) على جميع الروابط الطبيعية أو الأولية وجميع الروابط الفرعية.

الذين وصفوا نظام البعث في سوريا بأنه نظام علماني، وبأن سلطته الشمولية والعنصرية علمانية، تجاهلوا ويتجاهلون حتى اليوم حقيقة أنه نظام امتيازات وولاءات مقابلة لها، منها امتيازات  متفاوتة لهذه الطائفة أو تلك، ولا سيما الطائفة العلوية، وولاءات طائفية، وامتيازات متفاوتة  لهذه العشيرة أو تلك. وهذا التجاهل ناجم إما عن جهل وإما عن مكر.

نظم الاستبداد والتسلط القديمة والحديثة جوهرها الامتيازات والولاءات المقابلة لها؛ و”احتكار الثروة  والسلطة ومصادر القوة”؛ فإنه من قبيل التناقض في التعريف اعتبار النظام التسلطي القائم على  الامتيازات والولاءات علمانياً، واعتبار النظام العنصري الذي يميز الأفراد والجماعات بحسب انتماءاتهم الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الجنسية نظاماً علمانياً. وإنه من قبيل مرض الفاهمة وعطب العاقلة، واعتلال الضمير، اعتبار العلمانية أداة للتسلط والاستبداد. هل يعقل أن يكون  تساوي البشر في الكرامة الإنسانية وتساوي المواطنين والمواطنات في الحقوق المدنية والسياسية أداة للتسلط والاستبداد، هل يعقل أن تكون حرية الفرد وحقوق الإنسان أدوات للاستبداد، هل يمكن  أن يكون تساوي النساء والرجال في الحقوق أداة من أدوات الاستبداد؟

العلمانية لا تتعلق بموقف سلبي من الدين، فرب رجال دين كان لهم فضل كبير في تأسيس العلمانية، بل تتعلق بالتمييز الذي يقيمه كل دين بين البشر، وبالسلطة / السلطات، التي تنتج  من هذا التمييز وتمارسه، وتتعلق بالتفاضل بين الأفراد وتفضيل الذكور على الإناث، أي إنها تتعلق بعدم المساواة وعدم العدالة. العلمانية لا تتعلق بموقف سلبي من الدين، بل بتضافر السلطات الدينية والسلطات السياسية على الاستبداد والتسلط وما ينجر منهما.

لا يفيدنا كثيراً تعريف العلمانية ومكان ولادتها وتاريخ ميلادها وهل هي بكسر العين أم بفتحها، فالمفاهيم، التي تنتقل من مكان ولادتها، تتحول غالباً إلى مفاهيم عالمية مشتركة بين جميع الثقافات الحية، كالديمقراطية، على سبيل المثال، ويصيبها ما يصيب الأشخاص الذي يهاجرون  من مساقط رؤوسهم إلى بلدان  أخرى مختلفة، تكتسب في كل مجتمع دلالات خاصة، تزيدها غنى وثراء، أو تفقرها وترذِّلها وتعزلها، بحسب كيفية استقبالها، ودرجة إدماجها واندماجها في البيئة المعرفية والثقافية الجديدة.

فلعل مفهوم “الدهريَّة” القدحي ينبئنا بكيفية استقبال العلمانية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، كما ينبئنا مفهوم “الشورى” بكيفية استقبال الديمقراطية، في ظل تواطؤ العسكر والإسلامويين الذين يسيطرون على الثقافة ومؤسساتها، ويحاصرونها، في سوريا وغيرها، ويحجبون عنها الشمس والهواء النظيف. في بلاد يسيطر عليها عسكر وإسلامويون، لا سبيل إلى علمانية أو ديمقراطية ولا سبيل إلى حياة إنسانية.

3 – علمانية الأقليات وديمقراطية الأكثرية

أنتج تفكك الروابط الوطنية تباعاً، في سوريا، حالة ثقافية وأخلاقية مزرية، من مظاهرها أطروحة “علمانية الأقليات وديمقراطية الأكثرية”. القائلون بهذه الأطروحة يفترضون أن العلويين والدروز  والإسماعيليين ومن في حكمهم من “أهل التأويل”، إضافة إلى المسيحيين علمانيون (بالولادة)، وموالون لسلطة الأسد “العلمانية”. بالمقابل يفترض القائلون بهذه الأطروحة أن المسلمين السنة  ديمقراطيون (بالفطرة). حسب هذا المنطق، ينقسم المجتمع السوري قسمين: علمانيين وديمقراطيين، فنكون قد ودعنا التأخر التاريخي، ونعاني من فائض ديمقراطي، لدى السنة، وفائض علماني، لدى “الأقليات”.

ترتبط هذه المقولة المتهافتة منطقياً وواقعياً برؤية خاصة (أجل خاصة) للديمقراطية، تحصرها، أي تحصر الديمقراطية في صندوق الاقتراع، الذي يفضي بالضرورة إلى حكم “الأكثرية” (= حكم الشعب). وفق هذه الرؤية، يتطابق مفهوم الأكثرية ومفهوم الشعب: الأكثرية هي الشعب، والشعب  هو الأكثرية، و”الأقليات كسور الأمة” بتعبير ياسين الحافظ، وغيره (والله محيي الجيش الحر).

مقولة علمانية الأقليات أسست لمقولة “تحالف الأقليات”. والأرجح أن سلطة “تحالف الأقليات” صارت ممكنة في سوريا ما بعد الحرب، إن لم نقل مرجحة. ولكن، لنفكر في المعطيات الإحصائية: تبلغ نسبة العلويين من سكان سوريا، حسب بعض التقديرات، نحو 12% ونسبة المسيحيين 8% والدروز 3% والإسماعيليين 1%، إضافة إلى نسبة قليلة من الشيعة، ومن ثم إن تحالف نحو ربع عدد السكان، أكثر قليلاً أو أقل قليلاً، ضد الأكثرية؛ لا يمكن أن يقوم، ولا يمكن أن يصمد في حال قيامه، إلا بدعم قوى خارجية. لذلك، لا نستبعد أن تكون المقولة إياها من  منشأ إيراني، لأن لإيران مصلحة جذرية في تحالف من هذا النوع والروس لا يعارضونه. وهذا يعني استئناف الحرب بوسائل أخرى، ليست سياسية بالتأكيد.

4 – علاقة الدين بالدولة

المسألة في سورية لا تنحصر في علاقة الدين بالدولة، لا سيما في الأوضاع الحاضرة، التي تبددت فيها الدولة كلياً، إذ الهياكل القائمة، التي تسمى دولة، ليس معترفاً بها من قبل ثلاثة أرباع السوريات والسوريين، ومن يعترفون بها دولة هم مجرد شبيحة، مهما علا شأن بعضهم. لأن اعتبار هذه الهياكل دولةً يقتضي إلغاء العلوم السياسية، وتخدير العقل والأخلاق. ليس هنالك صفاقة عربية ودولية أكثر من كذبة “الحفاظ على مؤسسات الدولة” وعلى “وحدة سوريا أرضاً وشعباً”. المسألة في سوريا إذن هي مسألة الافتراضات السياسية للدولة، التي سيحدد الدستور المرتقب ملامحها الأساسية، في مقابل افتراضات غير سياسية، أو شروط غير سياسية، كالعائلة  والعشيرة والطائفة والقوم أو الجماعة الإثنية والطبقة الاجتماعية أيضاً. في ظل افتراضات أو شروط غير سياسية للدولة السياسية، سيان أن تكون الدولة “جمهورية عربية سورية” أو “جمهورية إسلامية سورية” أو “جمهورية عربية إسلامية سورية عظمى”.

التحدي التاريخي في سوريا هو الإلغاء السياسي للعروبة والإسلام، الإلغاء السياسي للأقوامية (الإثنية) والدين، وقد تبين أن خطر الإحيائية القومية (البعثية) ليس أقل من خطر الإحيائية الإسلامية. وهذا الإلغاء أو النفي الإيجابي، أمر ليس في المستطاع تحقيقه في المدى المنظور، إذ ليس في سوريا بعد من يَبرز لهذا التحدي (من المبارزة)، ويحظى بهذا الشرف. أجل هذه  مبارزة مع التاريخ، أي مواجهة مع الذات، تحت مقولة: نكون أو لا نكون، والشرف قيمة من قيم المبارزة. العلمانية في سوريا ليست في أمر اليوم ولا في أمر غدٍ قريب، وكذلك الديمقراطية بالطبع. قد يكتشف مناهضو العلمانية من السوريين، إذا ثابوا من طائفيتهم إلى وطنيتهم، أن الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى الديمقراطية، وأن الثورة الديمقراطية بلا علمانية هي أي شيء سوى ثورة ديمقراطية. تجربة الثورة السلمية ومآلاتها شاهد لا يدحض.

الذين يمارسون نقد الثورة ونقد الذات لا يلتفتون إلى هذه المسألة، بحكم مناهضتهم الضمنية أو الصريحة للعلمانية. وما زال كاتب هذه السطور يعتقد أن مناهضة العلمانية هي مناهضة المواطنة المتساوية ومناهضة الوطنية السورية، التي لا تكون وطنية إن لم تكن علمانية.

ما كان للدولة الحديثة أن تقوم في الغرب، في نظر كارل ماركس، وما كان للمواطنة المتساوية أن تتجذر فيها، قبل الإلغاء السياسي للملكية الخاصة، والإلغاء السياسي للدين[2]، ويجب أن نضيف اليوم الإلغاء السياسي للإثنية (القومية الشوفينية، العرقية – اللغوية، والعنصرية)، لأن الشعبوية التي تتنامى في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تعبر عن محاولة التراجع عن الديمقراطية إلى ماضي الدولة الديمقراطية القريب، أي إلى ما كانته “الدولة القومية” وسياساتها الحمائية ونزعاتها الاستعمارية وميولها العنصرية.

حين قلنا إن العلمانية ممكنة، وليست واجبة، وليست كذا وكذا، كنا نريد أن نقول إنها ليست مطلباً ثقافياً أو سياسياً، وليست بالأحرى شعاراً، وليست أيديولوجية لفئة اجتماعية بعينها… بل هي بالضبط سيرورة نمو وتقدم، بل سيرورات نمو متآنية أو متزامنة، في مجالات مختلفة، قد تتجه في لحظة معينة نحو مجتمع مدني ودولة سياسية حديثة. ولذلك نولي تنظيمات المجتمع  المدني، ولا سيما النقابات والأحزاب السياسية أهمية تستحقها، ونعتبرها، في حال استقلالها عن  السلطة التنفيذية وأدواتها، الأطر التي تجري فيها التربية على المواطنة المتساوية، لأنها، في  واقعها الفعلي، الأطر التي يمارس فيها الأفراد حياتهم العامة، مقابل حيواتهم الخاصة. والحياة  العامة مهما يكن مدى عموميتها (في قرية أو في حي أو في مدينة .. أو في حزب أو نقابة أو ناد أو جمعية) هي الحياة النوعية، أي الحياة الإنسانية، بتعبير كارل ماركس. تنظيمات المجتمع  المدني هي النوى (جمع نواة) الأساسية للمدنية، مقابل المؤسسات الطبيعية وشبه الطبيعية، كالأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة … إلخ. الرهان في سوريا اليوم معقود على هذه التنظيمات، بما  لها وما عليها. وقد دعونا مراراً إلى تشكيل فيدرالية لمنظمات المجتمع المدني في بلدان اللجوء الأوروبية خاصة، لعلها تسهم في ما نسميه “وحدة الاتجاه” نحو مواطنة متساوية، لاعتقادنا أن المواطنة هي التي تنتج الوطن، وتنتج الوطنية.

5 – وحدة العقل والإيمان

سؤال الإمكان، الذي بدأنا به هذه المقاربة يطرح سؤالاً آخر: هل ثمة مبدأ يعبر عن المغزى الأعمق للعلمانية باعتبارها سيروة نمو وتقدم تاريخية، و”موقف منفتح للروح إزاء قضايا المعرفة  وقضايا الواقع”، ويقتنع به جميع العقلاء والعاقلات؟ على سبيل الافتراض و”التجريب” نقترح وحدة  العقل والإيمان، مبدأً جامعاً، لا يستفز أحداً، ولا يستبعد أحداً، ولا “يهدد ثقافتنا وهويتنا” المزعومتين، وجنبنا ويلات “الغزو الثقافي”.

من البدهيات، التي لا جدال، فيها أن غير العاقل لا يؤمن ولا يكفر، لا يوحِّد ولا يُشرك… إلخ؛  الإيمان مشروط بالعقل؛ بل هو مشروط بالصحة العقلية، أو بسلامة العقل، لا بت “العقل السليم”[3]. غير العاقل ليس مسؤولاً، بالتعبير القانوني، وغير مكلف بالتعبير الفقهي، وليس مواطناً بالتعبير  السياسي، وإن كان موضع رعاية واهتمام، وغير العاقلة كذلك بالطبع.

العقل والإيمان صفتان للشخص الإنساني، الكلي، تعيِّنان وجهين من وجوه ماهيته؛ وإن من  زاويتين مختلفتين؛ إذ يمكننا أن نقول: الإنسان كائن يؤمن (حيوان مؤمن)، مثلما نقول: الإنسان كائن يعقل، (حيوان عاقل)، على الرغم من التناقض الظاهري في هاتين الصيغتين، نعني الحيوان المؤمن والحيوان العاقل، ويمكن أن نضيف الحيوان الأخلاقي. يزول هذا التناقض الظاهري حين ندرك أن العقل مؤسس على اللاعقل، أي على طبيعية الكائن، أو فطرته أو غريزته، والإيمان مؤسس على اللا إيمان، أي على طبيعية الكائن مرة أخرى.

بهذا المعنى فقط يمكن أن نتحدث عن “دين الفطرة”، على نحو ما تحدث جان جاك روسو، حين قال: “بما أننا نرفض الخضوع لأية سلطة بشرية، لا نصادق على أي عقيدة متوارثة في بلد مولدنا، كل ما يمكن أن يهدينا إليه نور العقل، في حدود الطبيعة، هو دين الفطرة”[4].

الإيمان، بوجه عام، أشمل من الاعتقاد الديني، أو الإيمان الديني، لأنه يدل على معرفة يقينية، موضوعية أو ذاتية، ليست موضع شك. الإيمان الديني مُستغرَق في الإيمان، كما يقول المناطقة.  يمكن للشخص الإنساني أن يؤمن بنظيمة فكرية أو “حقيقة علمية”، مثلاً، مثلما يؤمن بعقيدة دينية.

فالعقل والإيمان ليسا مجالين متخارجين ومتنافيين بصورة مطلقة، بل هما حدان جدليان، متعارضان، وجود كل منهما هو شرط وجود الآخر، وانتفاء أي منهما هو انتفاء الآخر، وينتج من تعارضهما في كل مرة مركب جديد ليس أياً منهما، يمكن أن نسميه هنا، العقل المؤمن أو الإيمان العاقل. العلاقة بين العقل والإيمان، هنا، أكثر من علاقة تضايف[5]؛ إنها علاقة تجادل، يتحول بموجبها العقل إلى إيمان والإيمان إلى عقل، أي إن عملية/ عمليات التعقل تنتهي إلى يقين، وهذا يتحول إلى موضوع للعقل النافي مرة أخرى، وهكذا، أي إن اليقين يتحول إلى موضوع للتفكير والتساؤل والشك والنفي، وفقاً لمقدرات الأفراد المتفاوتة وشروط حياتهم المختلفة.

وحدة العقل والإيمان، مفهومةً على هذا النحو، هي، في اعتقادنا، مبدأ معرفي وأخلاقي في الوقت  نفسه، من المبادئ التي تضمن الطمأنينة للفرد والوحدة والاستقرار للمجتمع، وتستأصل جذور التعصب المغروزة في الجهل والهوى.. ومن ثم، إن العقل هو الذي يؤمن. ولكي لا يلتبس الأمر، نقول إن القوة العاقلة في الإنسان هي التي تؤمن، فتلبي حاجة الإنسان إلى يقين. لكن القوة العاقلة لا تؤمن إلا بعد شك، ولا تشك إلا بعد إيمان.

الشك والإيمان يتناوبان على الروح الإنساني، أو الروح الإنسانية. فحين يضعف الروح، ويستكين،  يميل إلى إيمان ثابت، لا يتزعزع، ولا يستنير بنور العقل، ولا يتطرق إليه الشك؛ فلا ينمو ولا يتجدد، يسمى “الإيمان الأعمى”، ويسميه بعضهم “إيمان العجائز”[6].

حين يؤمن العقل (أي الإنسان العاقل، الفرد الإنساني العاقل، الأنثى والذكر على السواء) إنما يؤسس عالمه الداخلي، ويؤثِّثه، فلا يشك الشخص إلا بمقدار ما يعمل على تعرُّف عالمه الخارجي، كما هو وإنتاج ذاته فيه، ويعود، في كل مرة، بأفكار جديدة و”حقائق” جديدة، يعيد ترتيب عالمه الداخلي، أو “تجديد أثاثه”، بمقتضاها. وهذه هي الطريق الملكية لتصالح الإنسان مع عالمه ومع ذاته، والطريق الملكية لتجديد المعرفة والثقافة. العلمانية هي هذا التصالح مع العالم ومع الذات، وهذا التجديد.

هذا، في اعتقادنا، يخرج العلمانية من دائرة السجال الأيديولوجي، ويضعها في سياق التطور التاريخي للمجتمع، الذي لا ينمو ولا يتقدم إلا بمقدار ما يجدد معرفته وثقافته، وهاتان المعرفة والثقافة من عوامل تجديد المجتمع كله.

الهوامش:

[1]– هذا، في نظرنا، أفضل تعريف وأوجز تعريف للتاريخ، يبين أن معنى التاريخ لا ينصرف إلى الماضي، ولا يعني التأريخ، أو سرد أحداث الماضي، لأن عمله هو النفي ونفي النفي، بلا توقف، وهو بالضبط وحدة الزمان والمكان.

[2]– راجع/ـي، ماركس وباور، حول المسالة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت،  بلا تاريخ نشر، ص 178.

[3]– العقل السليم معيار ذاتي، هو ما يعتبره المتكلم وما تعتبره الجماعة أو ما يعتبره المجتمع سليماً. والسلامة العقلية معيار علمي، من معايير الطب والطب النفسي.

[4]– جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة عبد الله العروي، المركز الثقافي العربية، الدار البيضاء وبيروت، 2012، ص 16.

[5]– علاقة التضايف تعني أن كل تغير يطرأ على أحد العنصرين المتضايفين يطرأ على الآخر.

[6] – كلما تقدم الإنسان في السن تتقوى لديه النزعة الإيمانية، وقد يزداد تشدداً وتعصباً.

 

العلمانية، الأفق الممكن

العلمانية، الأفق الممكن

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

لا يتوقف الانشغال في موضوع العلمانية حتى في البلدان التي تتبنى منذ أكثر من قرن من الزمان علمانية جذرية أو ما يسمى أحياناً بالعلمانية الصلبة، مثل فرنسا. لا يهدأ النقاش بشأن العلمانية التي تواجه على طول الخط تحديات تطال قدرتها على استيعاب المستجدات، وحفاظها على التوازن بين حقوق المساواة وقضايا الهوية. لكن انشغالنا بالعلمانية، نحن أبناء البلدان المفقرة، والتي لم تعثر على آليتها الخاصة في الاجتماع وفي إنتاج الشرعية السياسية بعيداً عن منطق الغلبة بالعنف، يتعلق بشكل العلمانية التي نريد، وبكيفية وحدود الفصل بين الدين والسياسة، وباستكشاف قدرة العلمانية، أو عدم قدرتها، على المساعدة في الخروج بالمجتمع المسلم، أقصد الذي يشكل الإسلام دين غالبية السكان فيه، من وهدة الصراعات العقيمة التي تستهلك طاقاته وموارده وتهدد وجوده.

ما شهدناه في السنوات الأخيرة في سورية وغيرها من البلدان العربية، من اتجاه واسع نحو التطرف الديني والسعي للعودة بالمجتمع إلى حكم ديني (خلافة وإمارات ومحاكم شرعية ..الخ) مع تكفير الديموقراطية والعلمانية، هو إحدى نتائج تعثر تطور مجتمعاتنا. الفشل أرض خصبة لشتى أنواع التطرف واللاعقلانية، ولا سيما في الأمم المكسورة، والتي ترى إلى نفسها، مع ذلك، على أنها متميزة ومصطفاة و”ذات رسالة”، كما هو حال “الأمة العربية”. التطرف الديني الإسلامي الذي شهدته السنوات الأخيرة والارتداد نحو ماض غابر، سواء في الأحكام أو في الرموز والتسميات، هو احتجاج طفولي ضد الشطر المسيطر من العالم، أو ضد النظام العالمي الذي “يهملنا” مع أننا “الأعلون”، وهو احتجاج أو ارتداد ضد الذات أيضاً بالقدر نفسه. نقصد إن فشل هذا التطرف الديني أو هذه الجهادية الدينية العالمية أو المحلية هو أمر محتوم في هذا العصر، وما الإصرار والتضحيات المقدمة في سبيلها سوى تعبير عن إدراك عميق بالعقم والاستحالة. لا مكان في العصر الحديث لحكم الدين الذي يبشر به منظرو الجهادية، وليست هذه قناعة بعيدة عن عقول المتطرفين الإسلاميين أنفسهم، إنها فقط طريقتهم في استجلاب الاعتراف لأنهم لا يمتلكون طريقاً آخر للاندماج في العالم من موقع الشريك والتابع (طالبان في أفغانستان، وربما جبهة النصرة في سورية). وقد نقول أيضاً إن هذه الجهادية العنيفة هي طريقة غير واعية في الانتقام من الذات “الفاشلة”.

قد نجد أشخاصاً أنجزوا انفصالاً واسعاً عن الواقع إلى حد القناعة التامة بإقامة حكم ديني في العصر الحالي، غير أن السؤال الحقيقي اليوم لا يتعلق بالموقف من الدولة الدينية، السؤال الحقيقي ليس المفاضلة بين دولة دينية ودولة علمانية، بل أي دولة علمانية نريد؟ وكيف نفهم العلمانية؟ هل هي فصل الدين عن الدولة أم فصل المؤسسة الدينية عن الدولة؟ وماذا يبقى من الدين في ظل الدولة العلمانية؟ ..الخ. مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من السوريين باتوا ينفرون من كلمة “العلمانية” بسبب ارتباطها بنظام الأسد من جهة، وبسبب الدعاية الإسلامية التي ازدهرت مؤخراً في إطار الصراع الجاري في سورية، من جهة أخرى. وبات كثير من العلمانيين السوريين يفضلون تفادي اللفظ مع الاحتفاظ بالمضمون، وهناك من يقترح استبدالها بلفظة أخرى تعطي دلالة مشابهة مثل “الوطنية”. لكن بعيداً عن اللفظ، يبقى، في تقديرنا، أن غالبية السوريين “علمانيون” في المضمون، أي لا يميلون إلى الحكم الديني كما يطالب به أصحابه، الذي هو حكم إسلامي سني بطبيعة الحال. يبرهن على ذلك الرفض الواسع الذي لاقته الدولة الإسلامية (داعش)، وتلقاه جبهة النصرة، في مناطق سيطرتها. وقد يكون بروز وسيطرة هذه التنظيمات السلفية الجهادية وانكشاف محدوديتها وطبيعتها القائمة على العنف المحض، من النتائج الإيجابية القليلة التي أدت إليها المأساة السورية.

بين العلمانية والمذهب العلماني

ينبغي التمييز منذ البداية بين العلمانية (secularity) والعلمانوية أو المذهب العلماني (secularism)، المفهوم الأول ينتمي إلى المجال السياسي ويعرض تصوراً لطريقة تبدو لمناصريه، ونحن منهم، أكثر عدلاً وجدوى في تنظيم الشؤون العامة في المجتمع وإدارتها، لأنه يحرر إدارة المجتمع من المجال القدسي حين يبعد التقديس والإطلاق عن عالم السياسة، فيما ينتمي المفهوم الثاني إلى المجال الإيديولجي فيحول “العلمانية” إلى ما يشبه الدين الدنيوي، حين يقوم أتباعه بنقل “التقديس” من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فينتج ظاهرة “المقدس الدنيوي”، ويحول “العلمانية” إلى إيديولوجيا لسلطة مطلقة.

يمكن الحديث عن نسختين من المذهب العلماني، الأولى هي النسخة السوفييتية التي تطابقت مع الإلحاد. لا تكتفي هذه النسخة بتحرير السياسة من سلطة المؤسسة الدينية، بل تحظر الأديان نفسها، وتقيد حرية المتدينين، وتضخ ثقافة “مادية” في كل مفاصل المجتمع بغرض استئصال الدين .. الخ. تستند النسخة السوفييتية إلى فلسفة مادية محددة ترى في الدين عائقاً في وجه تحرير المجتمع، وترى أن الدين تعبير عن طفولة البشرية أو مرحلة عابرة من تطور البشرية. وقد ترافقت هذه النسخة مع قمع سياسي معمّم وبناء اقتصادي وعسكري مهم. لم تخف النسخة السوفييتية عداءها للأديان، وكانت جزءاً من مشروع تنموي يهدف إلى التحرر من “الإمبريالية” لكنه انتهى إلى الانهيار، وتبين من هذه التجربة أن سبعين سنة من الإلحاد العام لم تستطع استئصال الدين من المجتمع، وأن ربط التحرر أو التنمية بمعاداة الأديان هو ضيق أفق يتجاهل المكانة الثابتة للدين في النفس البشرية.

النسخة الثانية من العلمانوية كانت جزءاً من إيديولوجيا سلطات “تقدمية” مستبدة، سرعان ما تحولت إلى سلطات منحطة فارغة من أي مشروع تنموي أو تحرري وممتلئة فقط بإرادة الديمومة أو التأبيد، فعملت على صياغة كل آليات إدارة المجتمع لتكون موجهة إلى تأبيد سلطتها. إلى هذا النوع تنتمي “علمانية” نظام الأسد. هذه النسخة، على خلاف النسخة الأولى، لا تقف ضد الدين، ولا تفصل الدين عن الدولة، بل تتحول إلى ما يشبه دين دنيوي مجاور تحل فيه السلطة، أو رأس السلطة، محل الله في الدين الديني الذي تتواطأ مؤسساته الرسمية مع “دين السلطة” هذا، وتصبح خادمة له من موقعها كممثلة للدين الإلهي.

يتأتى انحطاط هذه النسخة العلمانوية من انحطاط السلطات التي تعتمدها. الحق أن صلة هذه السلطات مع العلمانية تقتصر على أنها سلطات ليست دينية، بمعنى أنها لا تفرض تطبيق الشرع (وإن كانت تفرض أن يكون رئيس الدولة متحدراً من دين أو مذهب معين)، وبذلك فإنها تحمي جوانب من الحرية الفردية مثل عدم فرض الحجاب وعدم فرض تحريم الخمر .. الخ. ينظر كثيرون إلى هذه “الحريات” بوصفها علامات تقدم، في الوقت الذي أنتج ترافق أمثال “الحريات” المذكورة مع سيطرة سلطة مفروضة على المحكومين وتعمم القمع والفساد وأشكال التمييز الضمني والمعلن، رد فعل ضد هذه الحريات نفسها التي غدت في الوعي العام جزءاً من منظومة الاستبداد. وقد لوحظ في سورية ميل شعبي لرفض هذه الحريات في العودة إلى الدين والعودة للباس الديني وعودة الالتزام بالطقوس الدينية والمطالبة بفصل الجنسين ..الخ، في السنوات الأخيرة السابقة لاندلاع الثورة. وقد كان لهذه العودة إلى الدين “الإلهي” حضور صريح في جسد الثورة السورية منذ بداياتها، عودة إلى الدين الإلهي كشكل لرفض “الدين الدنيوي” أو “دين السلطة” الذي سخر الدين الإلهي لصالحه عبر سيطرته على مؤسساته الرسمية التي تأقلمت بدورها مع هذه السيطرة من موقع المصلحة المشتركة. على هذا كانت العودة إلى الدين الإلهي نوعاً من رفض السلطة السياسية ورموزها. يلفت النظر التركيز على “الرموز” في الهدف الثابت (الكليشي) الذي استخدمته وكررته مؤسسات المعارضة السورية لفترة طويلة وهو “إسقاط النظام بكامل مرتكزاته ورموزه”، وكانت هذه المفردة الأخيرة تشمل العلم والنشيد الوطني والأغاني الوطنية التي كان يستخدمها النظام ..الخ، كما لو أن هذه الرموز انعكست في وعي الثائرين على أنها طقوس لدين السلطة “العلمانية”.

اصطفافات غريبة

هكذا أبرزت الثورة السورية اصطفافات غريبة وسط نخبة المثقفين والناشطين والمهتمين بالشأن العام، فالقمع الوحشي الذي لجأ إليه النظام “العلماني” دفع إلى التطرف في رفضه جملة وتفصيلاً بما في ذلك “علمانيته“. وبالمقابل، فإن الطابع الديني الذي راح يسيطر أكثر فأكثر في المظاهرات ثم في التحول المسلح، دفع آخرين إلى رفض الثورة “الدينية“.أولوية الموقف ضد النظام دفعت علمانيين إلى الاقتراب من قوى غير علمانية في مواجهة النظام، وأولوية الموقف ضد الإسلام السياسي، دفعت معارضين تاريخيين للنظام إلى الاقتراب من النظام في مواجهة قوى إسلامية غير علمانية أو في مواجهة “الفاشية الإسلامية”،كما يسمونها. هكذا أصبحت لوحة الصراع مركبة وغريبة، وأغرب ما فيها أن قوى إسلامية دينية تتصدر ما يفترض أنه ثورة ديموقراطية، وأن علمانيين ديموقراطيين يجدون أنفسهم بجانب قوى تكفّر الديموقراطية والعلمانية، فيما يجد علمانيون ديموقراطيون آخرون أنفسهم بجانب نظام مستبد وحشي يشن حرب إبادة ضد شعبه. ومهما يكن المنطق السياسي لكلا الطرفين، ولكل منهما منطقه الخاص وحججه الثابتة، فإن الخاسر الأكبر في هذا الاصطفاف هو هؤلاء العلمانيون الديموقراطيون أنفسهم، مع قضيتهم المهملة.

بماذا تتميز العلمانية عن الحكم الديني؟

العلمانية تتضمن أمرين جوهريين، الأول هو إنشاء مرجعية انتماء موحدة لكل أبناء البلد، وهي مرجعية الانتماء إلى البلد (الوطن)، وجعل هذا الانتماء أولياً في الشؤون الدنيوية أو السياسية، أي جعله فوق كل الانتماءات من الناحية الدستورية والقانونية. والثاني هو تحصين المجال السياسي من هيمنة الدين وحماية هذا المجال من “ممثلي الله على الأرض”، الذين يحاسبون الناس على عقائدهم الروحية، ويفرزونهم بحسب ذلك، فلا يبقى مكان في البلاد لملحد مثلاً. ينتج عن هذين الأمرين أن أهل البلد متساوون أمام القانون بصرف النظر عما يحملون في رؤوسهم من عقائد روحية أو دينية، وأن شأن إدارة بلدهم يعود لهم، ولما يرونه مناسباً لتطورهم، دون ارتهان لأي مرجعية سوى مرجعية العقل وإرادة الغالبية. من الطبيعي أن هذا يوحد أهل البلد بوصفهم مواطنين بدلاً من أن يفرقهم بوصفهم أتباع مذاهب وأديان، كما هو الحال في الحكم الديني. ومن شأن هذا، أيضاً، أن يفتح أمام أهل البلد كل إمكانات التفكير الحر في حل المشاكل التي تواجههم، مع الاستفادة من تجارب العصر دون الحاجة إلى “جواز مرور” من نصوص أو من جهات “فقهية” تستقر فوق الدستور بدعوى زائفة هي احترام الدين والهوية.

من ناحية أخرى، تميز العلمانية بين مجال عام (المجال السياسي) يتساوى فيه أهل البلد بوصفهم مواطنين بحقوق وواجبات يحددها الدستور والقوانين، وبين مجالات خاصة يتمايز فيها الناس بحسب معتقداتهم الخاصة، فيمارسون في مجالهم الخاص سلطاتهم الدينية وأنشطتهم الروحية وطقوسهم وتقاليدهم بكامل الحرية. هذا يعني أن العلمانية ليست ضد الدين إلا بقدر ما يسعى الدين إلى اقتحام المجال العام، أي بقدر ما يتحول إلى إيديولوجيا لسلطة سياسية. “الدين دين في حدوده، وهو إيديولوجيا خارجها”، بحسب تعبير عزمي بشارة في كتابه (الدين والتدين)، الجزء الأول من ثلاثية بعنوان (الدين والعلمانية في سياق تاريخي)، يدافع فيها بشارة عن فكرة أساسية تقول إن العلمنة هي عملية تاريخية طويلة من التمايز بين الدين والدنيا.

غير أن عقدة مناقشة العلمانية في المجتمع المسلم هي أن الإسلاميين لا يقبلون التمايز بين الدين والدنيا. يصر الإسلاميون على أن الإسلام دين ودنيا، وأنه لا يمكن الفصل في الإسلام بين العبادات والشريعة، وأن العلمانية تعتدي على الإسلام لأنها تستبعد الشريعة (يوسف القرضاوي). ينتهي هذا القول الثابت عند الإسلاميين إلى نتيجة واحدة تقول، إذا استعرنا من شعر لبيد: “ألا كل شيء ما خلا (الحكم الديني الإسلامي) باطل”.

هل يمكن علمنة الخطاب الديني الإسلامي؟

حاول عدد من المفكرين حل العقدة السابقة بأن يقبلوا بارتباط الدين والدنيا في الإسلام وأن يعملوا على توسيع الدين إلى الحد الذي يجعله قادراً على استيعاب الدنيا في تطورها وتطلباتها المتزايدة، والعلمانية من متطلباتها. أي حاول هؤلاء “علمنة” الخطاب الديني الإسلامي، مرة بالاعتماد على علوم اللغة، كما فعل السوري محمد شحرورفي كتابه “الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة”، ومرة بالاعتماد على استخلاص المعنى من الخطاب الديني برده إلى ظروف نشأته “أسباب النزول”،وبالتالي أخذ العبرة والمعنى دون التقيد بحرفية النص، كما فعل المصري نصر حامد أبو زيدفي كتابه “مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن”، ومرة بالعودة إلى الإسلام المكي دون المديني كما فعل السوداني محمود محمد طه. وهي محاولات توفيقية يصعب أن تنافس التيار الإسلامي السائد على الجمهور، لأنها تسعى إلى محاربته في ساحته وبأسلحته.

هذه المحاولات تنطوي على تناقض عميق هو الجمع بين المقدس غير الخاضع للعقل، والعقلاني. فهي تقر بقداسة النص وإعجازه من جهة، وتنتصر للعقلانية من جهة أخرى. هذا مسعى معاق، فهو يريد أن يزرع العقلانية في ما هو غير عقلاني، يريد من الدين أن يتخلى عن دينيته بقدر ما يريده أن يكون عقلاً.

لا يمكن حل هذه المشكلة إلا بفصل المجال السياسي (النسبي والمشترك والمتغير والدنيوي) عن المجال الديني (المطلق والثابت والخاص والروحي). وتبقى حدود الفصل بين المجالين محلاً للبحث والتداول لأنها تتعلق بالمجتمع المشخص وتاريخه وتركيبته، حتى يمكن القول إن لكل مجتمع علمانيته الخاصة.

علمانية أرضية مقابل علمانية سماوية

ما أنجزته الدعوة المحمدية من الناحية السياسية، وما شكل أساس نجاحها، هو إنشاء رابط واحد بين أبناء القبائل العربية المختلفة، استطاع من خلاله توحيد الجميع والظهور بهم على العالم في تلك الحقبة. الجميع متساوون في هذا الرابط الذي هو “الإسلام”، والذي شكل قاسماً مشتركاً للجميع لا يتعارض مع الروابط والانتماءات القبلية. كان ذلك، قبل أن يصبح الإسلام نحلاً وفرقاً عديدة، ويتحوّل بالتالي إلى مصدر تقسيم وليس مصدر وحدة، كما كان عليه الحال في مطلع الدعوة.

على هذا كان الفعل السياسي للانتماء الجامع الذي جاء به محمد، هو تماماً ما نريده نحن من العلمانية. أي تحييد الانتماءات الدينية (الانتماءات القبلية) أمام الانتماء إلى الوطن (إلى الإسلام)، ومساواة الجميع في الدستور وأمام القانون بصرف النظر عن منابتهم الدينية والمذهبية. هذا يقول إنّ “أتباع” محمد اليوم، من أنصار الحكم الديني، وهم يعملون، في الحقيقة، على الضد مما عمله محمد، فهم يقسمون أبناء البلد الواحد، بحسب مذاهبهم وأديانهم، ويقودون إلى تشتيت الناس بدلاً من توحيدهم. التمسك بقاسم مشترك بين الناس يحميهم من صنوف التمييز فيما بينهم، مع احترام القواسم الخاصة بكل جماعة، هو ما يكافئ الفعل السياسي الذي أنجزه الرسول، بفارق أن الرسول ربط الانتماء بالسماء، فيما العلمانية تربطه بالأرض.

أما التمسك بالانتماءات الدينية في هذا العصر وإعلاؤها على غيرها، فإنه يكافئ التمسك بالانتماء القبلي في زمن الرسول وإعلاءه على الانتماء الإسلامي الذي كان جامعاً في حينها.

علمانية الأقليات الدينية والمذهبية

الأقليات المذهبية الموجودة في سورية لا تمتلك “شريعة” ولا تنتج تعبيرات سياسية تتكلم باسم “الأمة”، فهي غير مؤهلة لذلك، لا من حيث التكوين العددي ولا من حيث البنية المذهبية. لا يوجد مشاريع حكم ديني لدى هذه الأقليات. مشروع الحكم الديني في سورية هو مشروع إسلامي سني بالتحديد، ولذلك فإن أبناء الأقليات المذهبية يؤيدون العلمانية في وجه الحكم الديني، ذلك لأن هذا الأخير يجعل منهم رعايا أو محميين أو ذميين أو مواطنين من درجة ثانية في بلدهم. هذا مفهوم وثابت.

في مواجهة سعي الإسلاميين إلى إقامة “حكم الشرع”، سوف تميل الأقليات إلى القبول بأي خيار آخر، حتى لو كان التمسك بنظام يستبد بهم، ولو كان يقيم “ديناً دنيوياً” يكرس فيه إلها ملموساً ومشخصاً اسمه “السلطة“. يقبلون أن يتساووا مع الجميع تحت سيف قمع “علماني”، على أن يطالهم سيف التمييز الحتمي للحكم الديني الإسلامي الذي سوف يميزهم بحسب ولادتهم. فما بالك إذا كانوا يشعرون أن السيف “العلماني” أقل قسوة عليهم من قسوته على أهل الأكثرية التي يخشى دائماً من أن تقوم للمطالبة بحكم الشرع؟ ولن يكون مفاجئاً أن تميل الأقليات إلى القبول حتى بالأجنبي، في مواجهة محاولة “حكم الشرع” الوصول إلى السلطة، كما نرى في الموقف من التدخل الإيراني والروسي.

على هذا، حين يصبح مشروع الحكم الديني في حالة هجوم، ويدخل في نزاع مباشر على السلطة، سوف تتحول الأقليات إلى قوة محافظة ضد هذا المشروع، وسوف يصبح المذهب العلماني وسيلة إيديولوجية تعتمدها في موقفها ضد الإسلاميين. وقوف الأقليات مع الاستبداد السياسي “العلمانوي” ضد محاولة التغيير الإسلامية، لا تنبع من “تقدمية” جوهرية لدى الأقليات، كما يمكن أن يقال، بل من موقف دفاعي ينتهي، في الحالة العيانية السورية، إلى تكريس الاستبداد وخنق العلمانية نفسها، بقدر ما نفهم العلمانية على أنها مقدمة ضرورية للمساواة. الموضوع لا يتصل إذن بتقدمية أو رجعية الأقليات، بقدر ما يتصل بحسابات مصلحية واضحة.

لاحظنا في سياق الثورة السورية، أن الأقليات عموماً، بدرجات متفاوتة فيما بينها، (العلويون بصورة أبرز لأسباب كثر تناولها والحديث عنها وباتت معروفة كما أعتقد)، توجست منذ البداية، وراحت تستقصي اللون الإسلامي منذ الأيام الأولى، واصطفت إلى جانب النظام أكثر مع بروز الطابع الإسلامي للثورة أكثر. كان هذا الاصطفاف نهائياً، بمعنى أن الأقليات تخلت بالكامل، بتأثير الخوف من تقدم المشروع الإسلامي، عن موقفها النقدي من النظام، أو، بدقة أكبر، حصرته تحت سقف دعم النظام باسم دعم الدولة أو دعم الجيش الوطني أو دعم “العلمانية” ..الخ. ولم يكن لهذا الموقف أن يتبدل رغم كل شيء، رغم تمادي النظام في القمع والقتل والتدمير، ورغم الارتهان لدول خارجية مثل إيران وروسيا، ورغم التواطؤ المتبادل بين النظام ومؤسسة الدين الإسلامي الرسمي المتحالف مع النظام. لم تجرؤ الأقليات على مراجعة جدية لموقفها من النظام حتى حين مارست أجهزة النظام البطش والتشبيح ضد أبنائها أنفسهم، وحتى حين أعطى النظام وزارة الأوقاف سلطات غير مسبوقة في الرقابة على التعليم وعلى مؤسسات الدولة. لقد أصبحت الأقليات، والعلويون بوجه خاص، مرهونة للنظام بقدر ما هو مرهون لها.

الواقع يقول إن علمانية الأقليات لا تعبر عن تقدمية أقلياتية، فهي دعمت استبداداً “علمانياً” ولم تدعم ديموقراطية علمانية، كما أن لا علمانية الإسلاميين لا تعبر عن رجعية أكثرية، فهؤلاء قاموا ضد استبداد يتاجر بالعلمانية ويدوس مبادئها بممارسات طائفية مستورة ومعلنة.في الحالتين يندفع كل طرف وراء ما يعتقد إنه يحمي وجوده ومصالحه. في الانقسام الحاد الذي أفرزه الصراع الجاري في سورية، أظهر الطرفان احتقاراً لكرامة الإنسان ولمبادئ حقوق الإنسان. والواقع أن الجمهور السوري منقسم اليوم ليس على أساس علماني ومضاد للعلمانية، بل على أساس مع أو ضد النظام، مع أو ضد الإسلاميين. لا حضور للحديث العلماني في الأمر، ولا يوجد في سورية اليوم طرف مؤثر يعبر بشكل حقيقي عن المبادئ الديموقراطية والعلمانية.

إذا صح وصفنا السابق، فإن مهمة المثقفين والمهتمين بمستقبل سورية، إنقاذ العلمانية من التشويه الذي يمارسه النظام السوري، والتعبئة المضادة التي يمارسها الإسلاميون، لأن الديموقراطية العلمانية هي، في اعتقادنا، الأفق الوحيد الممكن لسورية موحدة وكريمة.

 

أي علمانية تناسب سوريا

أي علمانية تناسب سوريا

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

يُعد التساؤل عن إمكانية علمنة الدولة في سوريا من أهم الأسئلة وأكثرها تعقيداً في السياق السوري، خاصة بسبب التعددية الدينية والعرقية والثقافية السائدة في المجتمع السوري. إلا أنّ هذه التعددية، ذاتها، هي التي تمنح المطالبة بعلمنة الدولة شرعيتها من أجل ضمان المساواة بين مكونات هذه التعددية، وحتى لا يتمكن مكون واحد من الهيمنة على بقية المكونات. مع التأكيد على أنه لا يمكن استخدام مفاهيم الأكثرية والأقلية في هذا السجال، طالما أنه ليس مسموحاً للأقلية بأن تتحوّل إلى أكثرية، وطالما أنّ الأكثرية ليست مهدّدة بأن تتحول إلى أقلية.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: ما هي العلمانية التي تناسب سوريا بنسائها ورجالها وبأشكال تعدديتها المتنوعة؟!

تُعرّف الدولة بأنها إطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني مع الشعب ومع الأرض أيضاً، وأعتقد أن فصل الدين عن مكونات الدولة الثلاثة هو أمر غير ممكن مع شعب مؤمن، (ونقصد هنا ثقافة الشعب التي تشكل الأديان رافدا أساسيا لها، ولا نقصد هنا حق الفرد بأن يكون مؤمنا وعلمانيا في الوقت ذاته)، مع اختلاف الديانات التي يؤمن بها، ومع أرض حفظت تاريخاً مسيحياً وتاريخاً إسلامياً موغلين في القدم.

وهذا يعني أن العلمانية التي يمكن أن تناسب سوريا هي الفصل بين الدين وإطار الحكم السياسي والاقتصادي والقانوني بجميع استطالاته بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية التي يجب اعتبارها جزءاً من إطار الحكم القانوني لأنها تنظم العلاقة بين أفراد الخلية المجتمعية الأساس، وهي الأسرة.

ولطالما وقع الكثيرون في خطأ اعتبار قوانين الأحوال الشخصية تقع في إطار الحيز الخاص، فالحيز الخاص هو الحيز المتصل بالفرد، رجلاً كان أم امرأة، وليس هو الحيز الخاص بالرجل كرب أسرة يدور في فلكه الزوجة، أو الزوجات، والأطفال. فالمطلوب من قوانين الأحوال الشخصية تنظيم حقوق المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، الذين يعيشون في إطار الأسرة باعتبارها إطاراً مجتمعياً من الأطر المجتمعية الموجودة في أي مجتمع.

لقد انسحب شكل الأسرة الأبوية (البطريركية) على الدولة السورية التي كانت، خلال تاريخها القريب، دولة أبوية بامتياز، فمكانة رأس الدولة تشبه “قدسية” مكانة رب الأسرة في العائلة، كما أن مكانة الدستور هي مكانة مقدسة تشبه مكانة القانون الذي يضعه الأب لتسير العائلة على هداه، وحزب رأس الدولة هو حزب مقدس لأنه يمثل مرجعية الأب “المقدس”. وهذا كله نلمسه بوضوح في دستور سوريا الذي أُقِرعام 1973 وكذلك في دستور 2012 الذي باتت صلاحيات رئيس الدولة فيه مكان الحزب فلا يجوز انتقادها أو المطالبة بالحد منها.

لذلك كله لا بد للعلمانية في سوريا من أن تنزع صفة القدسية عن هذه الأيقونات كافة، فكل إنتاج بشري، شخصاً كان أم أي شيء آخر، يجب أن يأخذ مكانه الطبيعي باعتباره بشراً أو منتوجاً بشرياً. ونعني هنا أن تُنزع القدسية عن إنتاج بشري مثل الأيديولوجيات الحزبية أو الأشخاص، خاصة القادة، أي فصل الديني عن الدنيوي.

حول علمانية النظام السوري

من الخطأ بمكان اعتبار أن النظام السوري هو نظام علماني، فليس كل نظام غير ديني هو نظام علماني، كما أن حزب البعث، الذي حكم (نظرياً) سوريا لعقود، ليس حزباً علمانياً لأنه يعتبر أن الرسالة الخالدة للأمة العربية هي الإسلام.

فعوضاً عن تشجيع العمل المدني المستقل، بنى النظام بنية شمولية تمثلت بعدد من الاتحادات والمنظمات الجماهيرية التي لا يجوز لأحد أن يعمل مستقلاً عنها أو يعمل لتحقيق أهداف تتشابه مع أهدافها[1]. وفي مناخ من التضييق على العمل المدني المستقل، أنشأ النظام الآلاف من “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”. واشتدت سياسات مغازلة التيار الديني الأصولي بعد عام 2006، العام الذي سُمح فيه للقبيسيات بالعمل شبه العلني، فجرى حل جمعية المبادرة الاجتماعية (2007) لأنها أجرت استبياناً ميدانياً حول قانون الأحوال الشخصية العام، كما صدر تعميم القيادة القطرية لحزب البعث الخاص بموقف الحزب من جماعة الشيخ عبد الهادي الباني (2009)[2]، والذي اعتبر عمل جماعة الشيخ الباني في إطار العمل الدعوي، على الرغم من أنه يدعو إلى إنشاء أمة إسلامية ويدعو إلى منع النساء من التعلم! ويضاف إلى ما سبق الكثير من الأمثلة التي لا مجال لسردها في هذا السياق.

لقد استخدم النظام شعارات العلمانية من أجل استقطاب الأقليات الدينية لدعمه في معركته ضد معارضيه ومن أجل إلباس هذه المعركة لبوساً ضد “الإرهاب الديني المتطرف” في محاولة لتحييد عدد من الدول الأجنبية وعدد من القوى اليسارية في العالم، خاصة في العالم العربي.

ولا يمكن للنظام أن يكون نظاماً علمانياً طالما أن دستوره (دستوري 1973-2012) يتضمن تمييزاً دينياً، سواء لمرجعية الفقه الإسلامي أم لاشتراط الإسلام ديناً لرئيس الدولة، إضافة إلى ضمان الأحوال الشخصية للطوائف كافة (دستور 2012).

إن ضمان الدستور للأحوال الشخصية لكل طائفة يعني تخلي السلطة الحاكمة عن واجبها بتنظيم العلاقة بين المواطنين، نساء ورجالا، ضمن نطاق العائلة. كما ويعني أن السلطة تترك هذه الوظيفة لمرجعيات دينية يختلط فيها البشري مع الإلهي، وهذا يجعل الاحتجاج على التمييز[3]الموجود في هذه الأحكام يصطدم بما يسمى بـ “المقدس”،  ويصبح تعديلها أمرا محفوفا بالمخاطر، خاصة في ظلّ وجود التفسيرات التقليدية للمرجعيات الدينية الخاصة بقوانين الأسرة في سورية.

أما بعد الانتفاضة/ الأزمة فقد روج النظام لـ “فقه الأزمة” الذي أصدرته وزارة الأوقاف، ودعم الفريق الديني الشبابيالذي شكلته وزارة الأوقاف أيضاً، والتي وقعت اتفاقية مع “جامعة البعث” الحكومية من أجل “تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح، الأمر الذي سيساهم في بناء مجتمع بعيد عن كل أشكال التطرف الديني”!.

في علمانية بعض قوى المعارضة

لقد استخدمت المعارضة العلمانية شعارات العلمانية لتحقيق أهداف سياسية، فتحدث ائتلاف القوى العلمانية في بيانه الأول عن “انتصار الثورة، والتحول إلى بناء دولة مدنية حديثة على أسس من المواطنة الكاملة وغير المنقوصة لأي مكون من مكونات الشعب السوري[4].” ولم يذكر مساواة النساء بالرجال، وهي شرط رئيسي لتحقق العلمانية، ولم تتصد هذه التيارات المعارضة لمحاولات أسلمة “الثورة” ولا للأسماء الطائفية التي أطلقتها كتائب “الجيش الحر” على فصائلها.

العلمانية وحقوق النساء

كانت حقوق النساء ضحية الصفقة التي أبرمتها السلطة الحاكمة في سوريا مع التيار الديني الاجتماعي، فقد كانت كل القوانين التي تعمل وفقها الدولة مدنية باستثناء القوانين التي تخص مكانة المرأة في الأسرة[5]، حيث كانت، وما تزال، ذات مرجعيات دينية في جميع الموادالتي تتحدث فيها عن أدوار النساء في الأسرة وعن حقوقهن. وعلى سبيل المثال “تمنح جميع قوانين الأحوال الشخصية حق الولاية “مطلقاً” لذكور الأسرة “الأب، الزوج، الابن، الجد ..” ولا تمنحها للنساء، حتى أن قانون الأحوال الشخصية للكاثوليك الذي سمح، بعد تعديله 2006، بنقل الولاية إلى الأم قد اشترط سقوط حق الأب في الولاية، ومن ثم تكون الولاية للأم وفق شروط حددتها المادة 91 منه. وكذلك أعطى قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس الحق لعائلة الأم بالدرجة الثانية، في الخطبة فقط.”[6]ويستند حق ولاية الرجال على النساء في العائلة إلى مبدأ قوامة الرجل على المرأة المعترف به في جميع الأديان والطوائف المعترف بها في سوريا.

أما على الصعيد غير الحكومي، فلم تتصد القوى العلمانية مثل الأحزاب الشيوعية والحزب القومي الاجتماعي للدفاع عن حقوق النساء الإنسانية في سوريا إلى أن حصل الصدام بين القوى الأصولية والقوى العلمانية جراء النقاشات المحتدمة التي رافقت مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في سورية عام 2009، فانبرى الكثير من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية للتصدي للمشروع الأصولي الذي يستهدف النهوض بأوضاع النساء، وقد نجح الحراك النسوي وقتها في استنهاض مجموعة كبيرة من هذه القوى للتصدي لهذا المشروع. وكان الرد على هذا المشروع سيلاً من المقالات[7] والبيانات[8]التي أكدت على الموقف المناهض لهذا المشروع، بالإضافة إلى جرأة كبيرة في طرح مقترحات لتشريع الزواج المدني[9]، وتشديد العقوبات على “جرائم الشرف”. إلا أن دفاع القوى العلمانية عن حقوق النساء لم يستمر بهذا الزخم، خاصة بعد اندلاع النزاع المسلح في سوريا، حيث تركز الخطاب العلماني على مناهضة ما سُميّ بالتيار “الإسلامي الوهابي” و”المؤامرة” و”الفاشية الدينية”… حتى أن ردود أفعال القوى العلمانية[10]الداعمة للنظام على قانون وزارة الأوقاف الجديد كانت أعلى وأقوى بكثير من ردود أفعالها على التعديلات المحدودة لقانون الأحوال الشخصية العام وعلى استمرار التمييز ضد النساء في الكثير من القوانين السورية؛ كما أن الكثير من العلمانيين تعامل مع قضية “الأطفال مجهولي النسب” باعتبارها قضية تخص أبناء “الدواعش” وليست قضية تخص أبناء لنساء سوريات متزوجات من غير سوريين.

ويدل هذا على أن الخطاب العلماني في سوريا ليس خطاباً علمانياً عميقاً بل هو خطاب رد فعل سياسي، خاصة أن القوى السياسية العلمانية، مثلا القوى الشيوعية والقوى القومية الاجتماعية، لا تذكر العلمانية إلا ما ندر ولا تروج لها أبداً.

إن علمانية القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون علمانية حديثة وعميقة، ولا يمكن فصلها عن ضمان حقوق النساء كافة وعن ضمان الديمقراطية بكل استطالاتها، وكأننا أمام مثلث يقود كل ضلع فيه إلى الضلعين الأخريين في ترابط لا يمكن فصل عراه.

فيعلمنةالخطابالدينيالإسلامي

لقد عاش الإسلام في عصره النبوي ثلاث عشرة سنة في مكة دون أن يكون له نظام حكم[11]، بينما فرض الانتقال إلى المدينة(دام الحكم النبوي فيها عشر سنوات) احتياجات كبيرة لتنظيم الحياة الجديدة للمسلمين، ويمكن أن يستنتج الباحث أن الإسلام النبوي زمن مكة كان أشبه بالحركة العلمانية. حتى أن السور المكية تختلف اختلافاً كبيراً عن السور المدنية، فالسور المكية[12]تبدأ بـ “يا أيها الناس” وتدعو آياتها إلى توحيد الله وعبادته وإلى الإيمان بوجود الجنة والنار والبعث والحساب. بينما السور المدنية[13] يكثر في آياتها أسلوب خطاب “يا أيها الذين آمنوا” وتفصل آياتها بعضاً من أحكام الدين الإسلامي كالميراث وفريضة الحج وحد السرقة وغيرها، وتدعو آياتها إلى الجهاد وتتحدث عن تشريعات متعددة كالزواج والطلاق.

كما أن الإسلام شهد عدداً من المحاولات لفصل الديني عن السياسي، لعل أبرزها كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ الأزهري علي عبد الرازق الذي صدر في 1925م، والذي رفض فيه عبد الرازق فكرة الخلافة وتبنى الدعوة إلى مدنية الدولة، وأعمال الباحث د. محمد شحرور ونصر حامد أبو زيد.

وإضافة إلى ما سبق، هناك خمس عشرة دولة[14]معظم سكانها من المسلمين وتنص دساتيرها على علمانية الدولة، هي تركيا، السنغال، ألبانيا، بوركينا فاسو، كوسوفو، مالي، أوزبكستان، تشاد، قرغيستان، غينيا، تركمانستان، بنغلاديش، أذربيجان، كازاخستان، طاجيكستان. كما أن إندونيسيا[15]، وعدد سكانها: حوالي 258 مليوناً، وحوالي 85% من سكانها مسلمون، لا يعترف دستورها بأي دين رسمي للدولة، ولكنه أيضاً لا يقول صراحة بأن الدولة علمانية ولا يذكر كلمة “العلمانية”.

وبالمحصلة فأن يكون الإنسان علمانياً في سوريا يعني أن يكون ديمقراطياً ومع المساواة الكاملة بين الجميع بغض النظر عن الدين أو الجنس أو النوع الاجتماعي أو الإثنية أو العرق. وختاماً أود تقديم الشكر الجزيل للجهات الداعية إلى فتح هذا الملف الهام جدا في السياق السوري وفي التحضير لبناء سوريا المستقبل.

الهوامش:

[1]-البند 14 من التعليمات الإدارية ذات الرقم (9/ د/ 62)، التاريخ 8/ 8/ 1974: على المكاتب التنفيذية التقيد بما يلي عند البت بطلب شهر أنظمة الجمعيات:

  • رفض طلب شهر أنظمة الروابط والجمعيات والأندية ذات الأهداف المتماثلة مع أهداف المنظمات الشعبية.
  • عدم شهر أي جمعيات نسائية عملاً بالمرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970.

[2]– تعميم حزب البعث الصادر عن مكتب الإعداد والثقافة والإعلام القطري برقم 63 تاريخ 23/8/2009

[3]– أظهر بحث لرابطة النساء السوريات 2009 (التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا) أن جميع قوانين الأحوال الشخصية المطبقة في سوريا والتي تستند إلى مرجعيات دينية هي قوانين تميز ضد النساء وتستند إلى قوامة الرجال على النساء

 البيان الختامي للمؤتمر التأسيسي لائتلاف القوى العلمانية الديمقراطية السورية، 28/1/2012-[4]

[5]-قوانين الأحوال الشخصية كافة، قانون الجنسية لا يسمح للمرأة السورية المتزوجة بغير السوري بنقل جنسيتها لأبنائها، قانون العقوبات في المواد الخاصة بما يسمى بجرائم الشرف وعقوبة الزنا والمواد الخاصة باستخدام وسائل تنظيم الأسرة، قوانين العمل والتأمينات التي تشجع النساء على ترك العمل للقيام بالأعباء الأسرية وتحرم الزوجة والأطفال العاملين في الاستثمارات الأسرية من الاستفادة من أي مظلة قانونية حمائية.

[6]– بحث لرابطة النساء السوريات 2009 (التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سوريا)

[7]-www.kassioun.org › ، سياسة، Jun 23, 2009، مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد قفزة إلى الوراء أم قصور قانوني ووطني؟!

[8]http://www.zaidal.com/229/showthread.php?t=9574، الحزب السوري القومي الاجتماعي يرفض مشروع الاحوال الشخصية الجديد

[9]-” يعلن السوريون القوميون الاجتماعيون في الشام، رفضهم التام لهكذا مشروع، ويطالبون بإصدار قانون مدني للأحوال الشخصية في سورية”، المصدر السابق

[10]-التجمع العلماني السوريالذي أطلقه النائب بالبرلمان السوري نبيل صالح

[11]-حديث عن ابن عباس: ” بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ

[12]-آية ياسر نجار، آخر تحديث: ٠٦:٥٥، ١٧ مايو ٢٠١٧، https://mawdoo3.com/السور_المكية_والمدنية

[13]– المرجع السابق

[14]-مبارك بلقاسم،  https://www.hespress.com/writers/316166.html

[15]-مبارك بلقاسم، المرجع السابق

في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

مقدمة

تحاول هذه المادة سريعاً إلقاء بعض من الضوء على إحدى أهم المقولات التي تسود الدرس الغربي في مسألة علمانية نظام البعث السوري وتسأل عن أصول هذه المقولة، وبخاصة حينما تُدعم من بعض الدارسين بدعوى أنّ الخطاب الديني، خاصة السني الرسمي منه (الكنيسة السنية)، لم يمثل فحسب دعامةً علمانية للنظام، بل أيضاً ساهم في علمنة الخطاب نفسه ومعه مجتمعه الإسلامي. تحاول المادة تقديم رؤية مختلفة عن هذا من خلال تحليل بعض من العلائم الأساسية، وترى أنّ الخطاب الديني السوري قد مثل الحدّ المنيع في وجه العلمانية، مدعوماً بالطبع بنظام الأسد. المقال، ومن خلال تناوله للعلائق البنيوية بين النظام السوري وكنيسته السنية في مسألة العلمانية، يرى أنه إذا قُبلت لفظة العلمانية، في أحسن الأحوال، فإنما يتم تفصيلها وفقاً للبنى الذهنية “الجمعيّة” المسيطرة، الأمر الذي كان، وما زال، يقود لأنْ تُفصّل العلمانية بما “يجب” أن تكون عليه، ليس انطلاقاً من خصوصيات ثقافية ودينية مفترضة فقط، وإنما أيضاً انطلاقاً من سياق تصفية حساب مع استحقاقها الثقافي الحداثي وما يمكن أن يؤثر به هذا الاستحقاق على المجتمعات السورية. وبالتالي، إشكاليّة ما “يجب” أن تكون عليه العلمانيّة، تحيل بالضرورة إلى إشكاليات أخرى ربما أكثر تعقيداً، بمعنى تحيل إلى: ما “يجب” أن يكون عليه “المعنى الديني” (وفقاً لـ”الكنيسة السنية” السورية)، مع خلق تفصيلات بهلوانية لـ “الدولة” لكي تتناسب مع شكل محدد زائف من العلمانيّة المراد منها أن تكونه. وهذا بالضبط ما كان يتم من خلال عمليات سوسيولوجية وسياسية ودينية بهدف تنميط “المجتمع والدين” بقوالب ثقافية أيديولوجية تتوافق ومسطرة السلطةالسورية.

في “أسطرة العلمانية” السورية

إحدى أهم المهام التي لا يزال الإصرار عليها قائماً، هو الدعوة لتفكيك المفردات البنيوية، وخاصة الأيديولوجية منها، التي كان يستند عليها نظام البعث، وبخاصة حين تناول موضوعة العلمنة التي كان يتغلف بها؛ ذلك أنّ حالاً من التخبط ما يزال يسود الدرس الغربي، دعك من المشرقي والعربي، إلى الآن في وضع الأيديولوجية القومية لبعض الأنظمة العربية، وخاصة النظام السوري منها، في فضاء العلمانية، من جهة، والإصرار في المقابل، من جهة ثانية، على وضع منافساتها الإسلامية، كمقابل ديني وروحي. إنني أجد أنّ الحاجة البحثية ما زالت ملحة في تفكيك هذه النظيمة الفكرية في الدرس، رغم الإشارات الكثيرة بين هنا وهناك، وخاصة من قبل مثقفين سوريين، التي تحاول التأكيد على كذب نظام الأسد في مقولة العلمانية([1]). لكنها مع ذلك تبقى مجرد تأكيدات تفتقر في معظم الحالات إلى أي تحليل عميق في ضبط مقولة العلمانية في السياق السوري، والأهم أنّ كثيراً منها ينطلق من خلال لغة متخشبة لا تختلف كثيراً عن لغة النظام السوري، الأمر الذي ساهم، ومازال، في عدم إنتاج فضاء بديل عن نظيمة النظام.

والحال، أنّ مقولة علمانية النظام السوري، ليست تماماً اختراعاً بعثياً، طالما أنّ البعث نفسه لم يكن يشغله على الإطلاق التفكر في مقتضيات العلمانية والتشديد عليها، سوى إشارات متناثرة من قادته (مثل من من قادته مثلا؟) تخدمهم في سياقات محددة وخدمة لأهداف استراتيجية وسلطوية أمام الغرب، طبعاً مع الإبقاء على ضبابية هذا المفهوم. وبالفعل، فقد ورثنا هذه المقولة في المشرق من باحثين غربيين أرادوا عنوة رؤية مسارات الحركات القومية العربية والدينية بنفس مناظير درسهم للقوميات الغربية وصعود الدولة هناك بفضل الحداثة([2]). وفي الوقت الذي كان فيه القادة القوميون العرب (ميشال عفلق على سبيل المثال لا الحصر)يشددون في السابق، وما زالوا، على عامل الإسلام في أدلوجتهم “العلمانية” (؟)([3])، كانت الأدبيات الغربية تعج بالتشويهات في إلباس هذه الحركات القومية لباس العلمنة. وحقيقةً، فإنّ الشطر الأكبر من الخط الدرسي الغربي ما زال مصراً إلى اليوم على تلك “الثنوية” العرجاء في فرضها على الواقع السوري في مسألة العلمانية: نظام علماني/حركات إسلامية. لهذا أجد أنّ أسئلة من قبيل: ما هو بالضبط الإسلامي، وما هو العلماني، مازالت تكتسي راهنيتها البحثية، هذا إذا ما أردنا بالفعل فهم العلمانية في سورية.

ونظراً لتعقد هذه النقطة وامتدادها عميقاً في الأدب الغربي وعلاقته بالمشرق وماذا يريد من هذا المشرق من خلال إلباسه بهذه الثنائيات، فإنه سيتم التوقف عند هذا الحد في هذه الإشكالية، لنتناولها من منظور آخر سيتم فيه التطرق إلى علائق الخطاب الديني نفسه بالنظام في مسألة العلمنة، ودور الاثنين في وأدها.

في إشكالية “الكنيسة السنية” السورية والعلمنة

بداية أجد من الضروري التوقف سريعاً حول ما أعنيه بـ”الكنيسة السنية” في السياق السوري، وبخاصة ضمن علائقها المعقدة بفضاء العلمنة. لقد سبق للسوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم أنْ علمنا من خلال مخطوطه ذائع الشهرة “الأشكال الأولية للحياة الدينية“، بأنه من المحال على دينٍ ما الاستمرار في صيغته الدنيوية من غير التمترس بالجماعة؛ فهو يؤكد: “لم نجد في التاريخ ديناً من دون كنيسة([4])“. الحال هذا يمكن سحبه أيضاً، في كثير من استحقاقاته السوسيولوجية، على الإسلام، وخاصة في المعاني التي امتد بها دوركايم في تجاوز مفهوم الكنيسة ضمن الإطار المسيحي الضيق إلى أفق الرابط السوسيولوجي بين أفراد الجماعة([5]). وعلى الرغم من تشديد المسلمين على غياب دينهم من الكهنوت أو الكنيسة، فإننا نجد من الصواب كذلك التأكيد على عمق النمط الكنسي-الجماعاتي فيه، والذي لولاه لما كان هناك أصلاً استمرار تاريخي يُدعى بـ”الإسلام” (وهذا الأمر ينطبق كذلك على الذات الجماعية لأيّ طائفة إذا ما أرادت كتابة البقاء لاسمها). طبعاً نقول هذا الكلام ونحن على وعي باستحالة وجود كنيسة سنية جامعة في العالم الإسلامي طالما أنّ ثيمات الخطاب السني عموماً تخضع لميكانيزمات وتجسدات تاريخية معقدة وتكتسب فرادة من بين طوائف الإسلام، وخاصة على المستوى الفقهي والسياسي، وهو الأمر الذي ساهم، ويساهم في وجود كنائس إسلامية متعددة، كل منها تخضع لمساراتها التاريخية الخاصة (أنثروبولوجياً، سوسيولوجياً، سياسياً…الخ).

لكن إذا كانت تلك الكنائس الإسلامية تلفظ إسلامها من خلال قنوات السياسة والاجتماع السوسيولوجي الدنيوي والتاريخ، فإنّ نمطاً آخر من الكنائس حاولت الأنظمة القمعية “اصطناعه” أيضاً، وذلك بالضبط بهدف ضبط ومكافحة هذه الكنائس، وخاصة تلك التي أخذت أشكالاً سياسية تهدد وجود هذه الأنظمة (“الجماعات” الإسلامية مثلاً. ولنتفكر هنا ماذا تعنيه لفظة “الجماعة” عند هذه التيارات. إنها لفظة تكتسي، إضافة إلى محمولها السياسي المعاصر، بُعداً دينياً أنثروبولوجياً). لنخصص الآنْ الحديث أكثر:

لقد شهدنا في عدد من البلدان الإسلامية أنّ الجماعات الإسلامية لم تخرج من القاع الرسمي العلمائي الديني المرتبط بالدولة، بل على الضد من الدولة، وبالتالي على الضد من كنيسة العلماء. هذه الحال تنطبق تماماً على الإخوان المسلمين في مصر (الإخوان والأزهر، رغم محطات من التعاون السطحي بينهما)، ولا نريد هنا الدخول بها. في سورية كانت الحال عكس ذلك: فعلماء دمشق أنفسهم هم الذين ساهموا في خلق كنيسة سنية لها طابع سياسي واجتماعي([6])، سميت كذلك بـ “جماعة الإخوان”. وهذه الكنيسة لم تكن على الضد من الدولة، بل جزءاً من الدولة([7])، وهي التي كان لها المساهمة الكبرى في التصدي لأي مسار علماني([8])وهذا ما يمكن قراءته، مثلاً، من خلال تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق من خلال سواعد مصطفى السباعي، المراقب الأول لـ “كنيسة الإخوان” السورية. ولنتذكر هنا سريعاً كذلك الجهود الإخوانية في إجهاض مسألة علمانية الدستور السوري سنة 1950 حول مسألة دين الدولة فيما سيعرف بـ”معركة الدستور”. حيث تجسد وقوف الإخوان ضد العلمانية من خلال إصرارهم على تضمين الدستور مادة الإسلام بصفته الدين الرسمي للدولة وليس ديناً لرئيس الدولة. وبعد أنْ تم لهم ذلك، عارضت معظم الكتل البرلمانية، ثم ليقوم مصطفى السباعي نفسه بتعديل المادة رقم 3 لتصبح كما يلي: 1- دين رئيس الجمهورية الإسلام. 2- الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. ثم لتتكرر بعض من معالم هذا الحراك الإخواني حينما أعلنَ حافظ الأسد في 31 كانون الثاني/يناير من سنة 1973 عن دستور سلطته، الأمر الذي أشعل أزمة عميقة في سورية بسبب عدم اشتراطه في أن يكون الرئيس مسلماً، مما قاد إلى مظاهرات كبرى في عدد من المدن السورية بقيادة الإخوان الذين نادوا بالجهاد ضده([9]).

والحال، أنّ هذه الكنيسة السنية السياسية كانت أحد أهم العوائق الكبرى أمام نظام البعث بعد سيطرته على السلطة 1963 في مد سيطرته على الشارع السني. وبصرف النظر عن الدخول في تفاصيل الصراعات بينهما، إلا أنه كان واضحاً منذ البداية أنّ المعارك بينهما التي ابتدأتها هذه الفترة لم تكن تدور على الأرض الأيديولوجية ولم تكن على الإطلاق لأنّ هذا الطرف (الإخواني) إسلامي جداً، وذاك الطرف (البعثي) علماني جداً. مسألة العلمانية لم تكن أساساً مطروحة للنقاش، طالما أنّ الطرفين يدينان للفضاء الثقافي نفسه: الإسلام العروبي. وبكلمة: فإنّ السلطة هي التي جسدت بوصلة الصراع، وليست العلمانية، كما ترغب أدبيات الإخوان في تلك الفترة أنْ تقنعنا.

وهنا نشدد أنّ تدمير هذه السلطة السنية الكنسية من خلال سلطة البعث لم يكن يعني، بوجه منه، خلق بديل علماني حداثي، بل السيطرة على المعنى، وهنا في سياقنا: “المعنى السني” أو إعادة خلق معنى إسلامي جديد. وهذا بالضبط قد تم من خلال المساهمة في خلق بناء عُلمائي سني جديد تجسد في التدخل السلطوي الهائل في فضاءات سيطرة كثير من العلماء السنة على الخطاب الديني السوري. من هذه الزاوية يمكن أنْ نقرأ عزل أبو اليسر عابدين من منصب المفتي (تاريخ العزل) (والذي استمر به لتسع سنوات) بعد ثلاثة أشهر فقط من صعود البعث إلى السلطة واختيار الشيخ أحمد كفتارو بدلاً منه والذي سيكون السادن “الرسمي” الأول للكنيسة السنية-البعثية لمدة أربعين سنة. وقد كانت هذه الفاتحة، التي رافقها إغلاق مساجد وبعض المدارس الشرعية([10])، بداية لتفتت البناء العلمائي السني القديم، والشروع بمنهاجية جديدة في مأسسة قاعدة كنسية سنية ذات رؤوس متسلطة جديدة (صالح الفرفور في دمشق ومعه محمد سعيد رمضان البوطي، وبعض تلامذة محمد النبهان في حلب) ستخدم النظام السوري في بقائه في السلطة.

لم يساهم خرق السلطة السنية القديمة وخلق أخرى بديلة في تشتيت الخطاب الديني وإنتاج تطرف إسلامي (سنشهد اشتداده مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات) فحسب، بل في قتل بعضٍ من المعاني الليبرالية العلمانية التي سادت عند بعض من النخب السورية. لربما يُقال هنا أنّ سيطرة حافظ الأسد وبعثه على السلطة، قد ساهمت في إحدى دلالات مسارات العلمانية، أي: “مأسسة الخطاب الديني” وخضوعه للدولة (وخاصة في مجال التعليم وإنشاء وزارة للأوقاف وتأسيس معاهد شرعية ومدارس جديدة والسيطرة على الأوقاف الإسلامية وإخضاع المساجد للسلطة السياسية…الخ). إذا اقتصر هذا الحديث على الإعادة السطحية لترتيب البيت الإسلامي، فهذا صحيح؛ لكن لا يجب أنْ ننسى أنّ هذا النمط من العلمنة ليس سوى استكمالاً للخطوات التي طالت المشرق العربي أواخر الإمبراطورية العثمانية وبعد انهيارها. ثم وإنّ هذه العلمنة لم تطل البنى العميقة للخطاب الديني بمقدار ما ساهمت في تطويع هذه البنى لتتناسب ومسطرة السلطة السياسية.

من هنا لا يمكن الحديث عن مساهمة النظام السوري في علمنة الكنيسة السنية السورية. إنّ صعود نمط جديد للكنيسة السنية لم يكن الهدف منه سوى مواجهة المعنى السياسي الذي كانت تحتله هذه الكنيسة الإخوانية التي كانت آخذة بالتآكل، فضلاً عن تقديم معنى إسلامي جديد سيطرت عليه طبقة من الكهنة الأصوليين، طبقة كانت جزءاً ركيناً في عمق نظام البعث.

الأسد والكنيسة السنية أو في ضرب العلمانية

هكذا، فإذا كان صعود الحركات الإسلامية في سورية يأتي في مقابل “الكنيسة السنية” التي رعاها نظام البعث، فإنّ كلاً من المسارين ساهم في ضرب أية حركة علمانية: المسار الأول بادعائه أنه يسعى للجهاد ضد نظام علماني وطائفي، والثاني من خلال إعادة أدلجة الإسلام، لا بل والتحدث باسمه ضد الذين “شوهوا” صورة “الدين الحنيف”. مقولة علمانية نظام البعث تعود في جزء منها، كما ذكرنا، إلى عامل الأدب الغربي في قراءة الحركات القومية العربية. وهنا يمكن أنْ نضيف عاملين آخرين، الأول: هو الترويج الإخواني لجهاد ضد نظام علماني متخيل (وهو الأمر الذي ساهم في هذا الترويج)؛ والثاني: هو سيادة أصوات غربية حديثة على ميدان كثير من الدرس الغربي في إعادة قراءة العلمانية بما تشتهيه أصوات كثيرة من الأصوات الدينية الأصولية نفسها.

شارلز تيلور C. Taylor هو أحد أهم الأصوات الغربية المعاصرة التي تحاول تقديم فهم جديد للعلمانية على عكس كثير من المفاهيم الغربية الحداثية التي سادت سابقاً([11]). إنني لن أتطرق لرؤى تيلور هنا، بسبب ضيق المساحة؛ بيد أن ما يهمنا هو اتكاء بعض الباحثين في الدراسات الغربية (منهم بالأصل من العرب) على تيلور وتقديم خلطة سحرية في رسم صورة للدين الإسلامي وعلمائه وعلاقة هؤلاء بالعلمانية؛ سأشير إلى مثال واحد فقط: لين الخطيب، الباحثة التي سبق لها أنْ كتبت في الصعود الإسلاموي في سورية وعلائق ذلك بصعود وسقوط البعث([12])، واليوم تتحفنا بمقال بحثي تظن به أنها ترسم صورة دقيقة للعلماني والإسلامي في سورية المعاصرة([13]). وهذا ما سنمر عليه سريعاً.

استناداً إلى تيلور في أنّ الدين يمثل اليوم “خياراً فردياً” من بين خيارات أخرى وبأنّ السمة البارزة للمسار الغربي نحو العلمانية هي بالضبط “تشابكها منذ البداية مع الدين الشخصي” وبأنّ “الدافع إلى الدين الشخصي هو نفسه جزء من الزخم نحو جوانب مختلفة من العلمنة”([14])، نقول استناداً إلى مثل هذه الرؤى تقدم لين خطيب قراءتها إلى العلمنة السورية(Khatib, More Religious, 54). مخيالية هذه الكاتبةفي قراءة الواقع العلماني المفترض في سورية تبعث حقيقة على التساؤل، ما إذا كانت الكاتبةتتحدث فعلاً عن بلد اسمه “سورية” أم عن كوكب آخر. إنها لا تكتفي بتنميط المجتمعات السورية إلى صورة نمطية سوسيولوجية أحادية وفق مما تتخيله، بل تجعل حتى هذه النمطية الأحادية وكأنها مرآة للمسيرة الغربية. فهي ترى أنّ النظام السوري قد عزز تقديم رؤية دينية تتلاءم مع الرؤية العلمانية (التي تحدث عنها تيلور)، وبأنّه في مجتمع كـ “المجتمع السوري” لا يمكن لنا التصنيف بين العلماني والديني، ذلك أنّ كلا هاتين الرؤيتين متداخلتان وبأنّ العلمانية كانت دائماً تكتسي حيويتها فيه، رغم عملها في خطاب سني(Khatib, More Religious, 41-42).

بالطبع، أحد الأخطاء الجوهرية التي تنطلق منها خطيب هي الخضوع لنفس الخط الغربي في النظر إلى القومية البعثية بكونها أساساً علمانية وبأنّ الأمة التي تخيلتها، من بين الحركات القومية، كانت أمة “علمانية”! (هكذا بالحرف الواحد) وبأنّ النموذج العلماني السوري كان شديداً منذ البداية على “الفصل الحاد بين الكنيسة والدولة وقصر الدين على الفضاء الخاص”  (Khatib, More Religious, 44)، وهو الأمر الذي اشتد به البعثيون في أوائل مسيراتهم السلطوية؛ بل كذلك حتى أنّ العلماء المسلمين في سورية قد ساهموا أيضاً من جانبهم في نمط من العلمنة من خلال نزع السحر والنزعات الباطنية عن الدين، كما يفهم تيلور ذلك (طبعاً هنا يتبين الجهل الشديد من خطيب في فهم الخطاب الديني الإسلامي نفسه في نقل التجربة المسيحية الغربية وتطبيقها حرفياً على الإسلام).أما مسألة التداخل بين العلمانية والإسلام، التي ستقتضي بعدم إمكانية الفصل بينهما، ستبدأ مع فترة حافظ الأسد من خلال عمل رجال الدين في ظل نظامه (Khatib, More Religious, 52).

وفي الواقع، فإنّ خطيب تدرك أنّ الأجواء التي من المفترض أنْ تكون علمانية، قد تدهورت كثيراً مع بشار الأسد حينما بدأ الرجل مرحلة أخرى في التعاون مع العلماء المسلمين بهدف مواجهة خطر التطرف. لكن، ورغم هذا الإدراك فما زالت هذه الكاتبةمصرة على أنّ ما كان في سورية “آخذاًبالتآكل هو “شكل” من العلمانية، وليس الثقافة السياسية العلمانية نفسها” (Khatib, More Religious, 53)[التأكيد من عندي]. فالنظام هو نظام علماني والعلمانية ما زالت في سورية تكتسي حيويتها السابقة. إنني لا أشك أنّ خطيب لا تعرف عن هذا النظام وسياساته وما يصدر عنه من مواقف وما يقوده من سياسات تخريبية تقف بالسر والعلن ضد العلمانية. لكن، إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا تعمد الكاتبةإلى هذه الصورة؟ إذا كان نظام بشار الأسد بالفعل يساهم بالعلمانية، كما تريد خطيب إقناعنا، فماذا يمكن أنْ نصف به مقارنة بشار الأسد لسورية بإيران، طالماً أنّ كلا البلدين يستندان إلى الشريعة الإسلامية. لقد جاءت هذه المقارنة في أحد اللقاءات مع علماء دين من طوائف مختلفة. إننا نفهم هنا ما هو الهدف العميق من هذه المقارنة مع إيران([15])، وماذا تريده الأخيرة من سورية، وكيف يمهد بشار الأسد لذلك. لكن لنترك هذه النقطة جانباً. الأسد نفسه، وفي نفس اللقاء، سيعارض رؤية خطيب قلباً وقالباً حينما يؤكد نفسه بأنّ دولته سورية نفسها هي “دولة إسلامية“. يقول بشار الأسد: “على ماذا يستند الدستور السوري؟ على الشريعة الإسلامية…الفقه الإسلامي تماماً. على ماذا تستند كل قوانين الأحوال الشخصية في سورية؟ على الشريعة الإسلامية. طبعاً وللمسيحيين والطوائف خصوصية في هذا الموضوع… طيب نحن أيضاً دولة بهذا المنطق هي دولة إسلامية. هذا بديهي”([16]). تماماً هذه هي عين البداهة! وليس بالإمكان إنكارها، سواء أشاءت خطيب رؤيتها أم لا.

طبعاً إعلان الأسد عن “إسلامية” الدولة السورية، لا يعني بالتأكيد الذهاب للتخلي عن لفظة العلمانية نهائياً، وخاصة حين التوجه للعالم الغربي. ليست المسألة في الواقع ما إذا كان يذكرها أم لا، بل ماذا يريد أنْ يفهم منها. فهو يكاد لا يترك فرصة إلا ويحاول إفراغها لجعلها مفهوماً أجوفاً. إنه نفسه، وفي سياق تفسيراته الخلبية للعلمانية، يذكرنا بجهود نظامه في إعادة تديين المجتمع السوري، إذ يقول الأسد: “ففي سورية بني منذ عام 1970 حتى اليوم ثمانية عشر ألف مسجد.. فلو كانت العلمانية ضد الدين أو نمارسها ضد الدين.. كيف نسمح ببناء 18 ألف مسجد.. بني 220 مدرسة شرعية وثانوية شرعية وغيرها.. بني العشرات من المعاهد لتأهيل الدعاة([17])“، لا بل نجده كذلك يبرر لـ”دينية النظام السوري” لأنّ المجتمع السوري نفسه هو مجتمع متدين وهو مرآة لهذا المجتمع: “وإذا كان المجتمع ملتزم بدينه فلا بد أن تكون الدولة مبنية على الأسس الدينية حتى وإن كانت علمانية.. لا يمكن أن تكون الدولة لا دينية والمجتمع متدين.. والعكس صحيح.. لا يمكن أن تكون دولة ذات شكل ديني والمجتمع غير ملتزم بدينه.. فإذا نحن مرآة للمجتمع([18])“.

خاتمة

الناظر لمنظر عمائم سدنة النظام السوري وديانته الإسلامية (ومعهم كذلك سدنة الطوائف الأخرى) الملتفة حول رئيسها في ذلك اللقاء يدرك تماماً ما الذي رمينا إليهمن خلال تعبيرنا “الكنيسة السنية” السورية ومساهمة هذه يداً بيد مع نظامها السياسي في تدمير المعنى العلماني، ذلك المعنى الذي ولد بالأصل يتيماً أوائل القرن العشرين وقضى عليه نظام البعث لاحقاً نهائياً. إنها كنيسة مخيفة في الواقع. إنها هذه الكنيسة السنية التي أصعدها الأسد من جديد، والتي تستشهد السيدة خطيب ببعض رجالها بأنهم مساهمون في مسار العلمنة السورية والمبشرون بها، من خلال تصريحات جوفاء هنا وهناك (على رأسهم تلك التي تخرج من فم المفتي السوري أحمد بدر الدين حسون)، تصريحات لا تحمل من مدلولات سوى الجعجعة لكي يحمي بها سدانته الدينية-السلطوية فضلاً عن نظامه([19]). لقد وصل مدى صلابة “علمانية” المفتي حسون إلى درجة دعوة الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني (الذي تنتمي له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) للتخلي في اسمهم عن حرف “C” الذي يشير إلى لفظة “المسيحي” في عنوان اتحادهم(CDU، Christian Democratic Union).

هذه هي الدرجة التي وصلت بها “علمانية” حسون المفتي، التي تستشهد بها خطيب(Khatib, More Religious, 58)، وهي “العلمانية” نفسها التي جعلت الجهاد في سورية “فرض عين” دفاعاً عن النظام السوري([20])، وهي “العلمانية” نفسها التي وعد بها الرجل أوروبا بإمطارها بالمجاهدين([21])!والحال، أنْ تستشهد السيدة خطيب من خلالها للتدليل على مساهمة هذا الخطاب الديني بالعلمانية في سورية، فهذا بالضبط استمرار في لوي شديد للحقائق (على القارئ الغربي قبل العربي)، فضلاً عن كونه تدليلاًتزييفياًيمثل “سدرة المنتهى” في الخداع.

الهوامش:

([1])انظر مثلاً الخطيب، علاء الدين: الكذبة الكبرى: عَلمانية‏ نظام الأسد، 2018: http://www.infosalam.com/syria/syria-studies/fallacy-assad-regime-secular     .

([2])يمكن بالفعل تتبع هذه النظيمة حتى أوائل القرن العشرين وما بعدها في عشرينياته في تناول الحركات القومية العربية بكونها انطلقت أساساً من مسلمات علمانية في مقابل الحركات الإسلامية الأخرى، إصلاحية كانت أم سياسية.خذ مثلاً هانز كون في درسه تاريخ الحركات القومية في الشرق:

 Hans Kohn, Geschichte der nationalen Bewegung im Orient, Berlin 1928.

([3])   يشدد ميشيل عفلق مثلاً: “تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الإصطلاحية”، انظر له: في سبيل البعث، دار الطليعة، 1978ـ ج1، ص175. ومن النادر إتيان عفلق على اصطلاح العلمانية الذي لا يوليه وزناً، ويتخبط في توضيحه، كأن يقف أمامه موقف المتشكك أو يضعه ضمن السلة الغربية التي تغزو أبناء العربية في سبيل انتزاعهم من تراثهم، أو أنْ يرادف بينه وبين مفهوم الوطنية المنحصرة في «قطر» دولة ما في مقابل القومية العربية الكبرى…الخ. وهذا ما سيذمه ويستنكره (مثلاً قوله: “فإنّ هذا المفهوم للعلمانية الذي كان في وقت ما خطوة تقدمية، أمسى عامل تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني” ج3، ص45). وعموماً يمكن النظر إلى إشاراته السريعة في هذا السياق في نفس الكتاب، ج3، ص42-45. والرجل له أيضاً إشارة غامضة أخرى في إلباس العلمانية بمفهوم ديني وروحي غير مفهوم: “وما دام الدين منبعاً فياضاً للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة”، ج1، ص176.

([4]) Durkheim, Emile 1995 (1912): The Elementary Forms of Religious Life. Translated and with an Introduction by Karen E. Fields. New York: The Free Press (Simon & Schuster), P.41.

([5])دوركايم يشدد في نفس السياق (ebda, P.41): “إنّ الأفراد الذين يشكلون الجماعة يشعرون بالاتحاد الواحد تجاه الآخر وذلك بواسطة حقيقة الإيمان المشترك. إنّ المجتمع الذي يكون أعضاؤه متحدين بسبب تخيلهم، بنفس الشكل والأسلوب، عالماً مقدساً مع علاقاته بالعالم المدنس، وبسبب ترجمتهم هذه التمثيلات [الاعتقادية] المشتركة في ممارسات مماثلة بينهم، هذا ما يدعى بـ”كنيسة[التشديد من عندي].

([6])انظر هنا حول الدور الهائل للعلماء الدمشقيين في صناعة الفضاء الثقافي السوري نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين (والذي كما أعتقد أنه بتراثه القوي كان له دور حاسم في صناعة الإخوان السوريين مع نهايات النصف الأول من ذلك القرن) Commins, David 1990, Islamic Reform Politics and Social Change in Late Ottoman Syria.

([7])أستخدم هنا لفظة الدولة من ناحية إجرائية كما تجسدت في سورية، ولا أقصد هنا الدولة بمعناها الحداثي السياسي، فهؤلاء بعيدون عن هذا المفهوم، بل هم يمثلون الضدية الكبرى التي تقف في مقابل الدولة.

([8])انظر: مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإخوان المسلمون في سوريا ممانعة الطائفة وعنف الحركة، ويمكن الاطلاع على البحث: https://www.goodreads.com/book/show/13530526

([9])حول بعض من معالم الجدل وتحركات الإخوان من حلب وحماة وحمص انظر:

Pierret, Thomas (2013): Religion and State in Syria The Sunni Ulama from Coup to Revolution, Cambridge Middle East Studies, P. 184f.

([10])الأتاسي، أحمد نظير: البعث والإسلام في سوريا: سلالة الأسد في مواجهة العلماء: http://alaalam.org/ar/religion-ar/item/321-البعث-والإسلام-في-سوريا-سلالة-الأسد-في-مواجهة-العلماء         .

([11])وخاصة في درسه الكبير:

Taylor, Charles (2007): A Secular Age, Belknap Press of Harvard University Press.

([12])انظر لها:

Khatib, Line (2011): Islamic Revivalism in Syria: The Rise and Fall of Ba’thist Secularism, Routledge.

([13])نعني تماماً بحثها:

Khatib, Line (2016): More Religious, yet still Secular? The Shifting Relationship Between the Secular and the Religious in Syria, Syria Studies 8 (1), 40-65.

وفيما يلي ستكون الإشارة إلى هذا البحث في متن النص.

([14])Taylor, Charles (2011): Western Secularityin: Rethinking Secularism,eds. Craig Calhoun, Mark Juergensmeyer, and Jonathan Van Antwerpen, New York, NY: Oxford University Press, P.38

 ([15])انظر الجانب من اللقاء: https://www.youtube.com/watch?v=ZczHkDXKrHg&t=11s

([16])مصدر سابق.

 ([17])«لقاء السيد الرئيس /بشار الأسد/ مع قناة الاخبارية السورية» 17.04.2013: http://www.presidentassad.net/index.php?option=com_content&view=article&id=1112:17-2013&catid=305&Itemid=469

([18])مصدر سابق.

([19])لا يتسع المجال أمامنا في تناول هذه التصريحات الهائلة التي تصدر عن رؤوس هؤلاء فيما يخص العلمانية. وأتمنى أنْ تكون هناك مناسبة أخرى في مناقشة المفهوم الجوهري للعلمانية ضمن سياق الخطاب الديني السوري نفسه. لكن نشير مثلاً سريعاً إلى أحد تلك التصريحات، التي تستند خطيب إليها بكونها مثالاً على علمانية الخطاب الديني السوري، قول أحمد حسون: «العلمانية ليست ضد الدين وأنا مسلم علماني»  (https://www.dw.com/ar/مفتي-سوريا-الأول-العلمانية-ليست-ضد-الدين-وأنا-مسلم-علماني/a-2851007     )؛ لا بل أنه يرى نفسه في لقاء مع دير شبيغل الألمانية (November 08, 2011) بأنه، أي حسون، مفتياً «لجميع السوريين البالغ عددهم 23 مليونًا ، وليس فقط المسلمين ، بل أيضًا المسيحيين وحتى الملحدين» (Interview with Syrian Grand Mufti ‘Assad Could Step Down After Free Elections, on: https://www.spiegel.de/international/world/interview-with-syrian-grand-mufti-assad-could-step-down-after-free-elections-a-796363.html                    ‘)

([20])مجلس الإفتاء السوري: الجهاد دفاعاً عن النظام “فرض عين”: https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2013/03/11/مفتي-سوريا-يعلن-الدفاع-عن-النظام-فرض-عين-ويدعو-لقتل-الثوار.html    .

([21])https://www.youtube.com/watch?v=1GfL-9dVxQU.

طاولة مستديرة: آفاق العلمانية في سوريا

طاولة مستديرة: آفاق العلمانية في سوريا

قبل اندلاع انتفاضات العالم العربي، كانت مسألة العلاقة بين الدين والدولة والعلمانية والحداثة تحتل الحيز الأكبر من النقاشات والمناظرات، سيما وأنّ نقد أو تحليل البنية التسلطية الأمنية للأنظمة الحاكمة كان من المحظورات، على الأقل علناً

تسعى هذه الطاولة المستديرة/ الملف إلى طرح أسئلة عن آفاق العلمانية في مستقبل سوريا. كيف يمكن تحديد علاقة الدولة والمجتمع بالأديان ودرجة حضور الدين في الخطاب العام والحيز العام؟ 

ليست العلمانية مشروعاً مكتملاً أو منجزاً حتى في معظم الديمقراطيات الغربية التي حاولت حصر مشكلة الدين في الحيز الخاص. وقد ظهر ذلك جلياً مؤخراً مع صعود تيارات اليمين المتطرف في كثير من الدول الغربية التي تدّعي تطبيق العلمانية، مما يبرهن أن الحيز العام في معظم دول العالم ظل مُشرّباً بالدين ومظاهره ورموزه، وإن بدرجات مختلفة

أما في العالم العربي، وفي السياق السوري، فقد تجلت حدة استقطاب طرح مسألة فصل الدين عن الدولة في المجال العام بصدور عدد كبير من الكتب حول هذا الشأن، بالإضافة إلى النقاشات المحتدمة التي رافقت سابقاً مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في سورية عام 2009، ومقترحات تشريع الزواج المدني، وتشديد العقوبات على جرائم الشرفوغيرها.

 بعد اندلاع الانتفاضة السورية وتحولها إلى نزاعٍ دمويٍ مزق النسيج الاجتماعي السوري، خسرت الدولة مواردها الاقتصادية وأصبحت مرتهنة سياسياً للدول الإقليمية والكبرى، فيما النظام السوري يدّعي العلمانية من جهة، ويقتل ويعتقل ويسجن الناس باسمها من جهة أخرى، كما أنّ معظم تيارات المعارضة الحالية ارتهنت لأجندة خارجية بعيداً عن فضاء الوطنية السورية، خاصة الجماعات المسلحة التي وُظفت لخدمة دول إقليمية ومخططات لها علاقة بالتوازنات أكثر مما لها علاقة بالمصلحة الوطنية السورية. هذا أدى إلى انتشار الخطابات الطائفية المدعومة من قوى ذات شعارات مذهبية مرتبطة بدول إقليمية على الأرض السورية. في هذا السياق الحربي، كيف يمكن أن نفهم دور العلمانية، وهل يمكن تطبيقها بعيداً عن تحويلها إلى أداةٍ قمعية وقناعٍ سلطوي، كما هي الحال في الأنظمة الشمولية العربية، بما فيها النظام السوري الذي حولها إلى مجرد تكتيكٍ يشكل امتداد لخطاب الحرب على الإرهاب؟

بعد سنواتٍ طويلة من الصراع ظهرت حقائق جديدة على الأرض، وبات الوضعُ مفتوحاً على احتمالاتٍ كثيرة، قد يكون التفكك ومأسسته أحدها، مما يُهددّ مستقبل سوريا والسوريين، كما تجدّدت النقاشات حول مسألة علاقة الدولة (المستقبلية) بالدين، خاصةً مع صعود الحركات الجهادية والطائفية وما خلّفه التدخل الخارجي والإقليمي في الوضع السوري من انقسامات وكراهية تعمل على تعميق الهوة بين السوريين.

ورغم الواقع المرير، مازال العديد من السوريين يبحثون عن حلولٍ ولو نظرية للخروج من الوضع المأساوي الناجم عن الفشل الذريع للحراك المدني وقمع الانتفاضة والكارثة التي خلفها النزاع.

في ظل هذا الوضع المأساوي:

(1): آخذين بعين الاعتبار تاريخ العلمانية وإشكاليتها ومرجعياتها، وخصوصية نشأتها، هل يمكن التفكير بصيغة أو خطاب علماني مثمر في السياق السوري، الذي يتسم بتعددية دينية وعرقية وثقافية؟

(2): يرى البعض أن الخطاب العلماني الذي كان سائداً قبل الانتفاضة، كان متمحوراً فقط حول فكرة العلمانية بمواجهة الدين، ما هي الأسئلة التي يجب طرحها والتعامل معها في سياق علاقة الدولة بالدين الإسلامي، وعلاقته بالأديان الأخرى؟ بعد كل ما جرى في سورية، باسم الإسلام والدين، هل يمكن علمنة الخطاب الديني؟ وماذا عن رجال الدين وعلاقتهم بالعلمانية، هل ساهم هؤلاء في تشويه فكرة العلمانية؟ وهل ما جرى باسم الدين ساهم في كشف زيف ما يستخدم سياسياً باسم الدين بما يصب في خدمة العلمانية مثلاً؟

(3): كيف يمكن للمواطنة التي تقوم على المساواة في الحقوق، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، وتحت حماية القانون، أن تغدو بديلاً عن الطروحات الدينية والإيديولوجية الأحادية؟ وهل من الضرورة أن تغدو كذلك ولماذا؟ وهل من بدائل عن العلمانية حال كانت غير ضرورية، سورياً وعربياً، وما هي؟

(4): ما هي الخطوات الضرورية للتمهيد لبناء نظام علماني تعددي في سوريا، تتمتع فيه النساء بحقوقهن الإنسانية الكاملة دون اختزالهن للجندر الذي ولدن به؟

(5): ما هي التيارات الكفيلة بتطبيق العلمانية وكيف يمكن إغناؤها؟ مع تزايد خطر مأسسة الطائفية والتغيرات التي رافقت النزاع المسلح، هل يمكن للعلمانية أن تكون منطلقاً لحلٍ مستقبلي في سوريا قد يخرج بها من مخاطر تداعيات الوضع الراهن؟

(6): كيف يمكن أن يلعب المثقفون/ات السوريون/ات دوراً في التمهيد لنشر ثقافة علمانيةيمكن أن تشكل أساساً لنظامٍ علمانيٍ جديد؟ وكيف يمكن ردم الهوة بين الداخل والخارج، فلا يكون مثلاً الإنتاج الثقافي في دول اللجوء معزولاً عن التغيرات والتحديات التي يوجهها السوريون في الداخل؟

(7): في كثير من الحالات، ظهرت إشكالية المثقف/ة العلماني/ة الذي يدعو لخطاب العلمانية لكن بلغة إقصائية تُنكر الحق بالإيمان والالتزام الديني. كيف يمكن تجاوز خطر الوقوع في فخ الاستبداد واستغلال القوى السياسية المهيمنة لخطاب العلمانية؟ وكيف يمكن المناداة بمشروع العلمانية بطريقة تحترم العلاقة مع الإيمان/الدين وما هي سبل وشروط التعايش معهما؟ 

(8): في ظل الانتفاضة/ الحرب وإلى الآن، ثمة سردية سائدة تزعم أن “بعض العلمانيين” يقفون في صف النظام السوري لأنه “أفضل السيئين” ورغبة منهم بالحفاظ على ما تبقى من مؤسسات “الدولة” و حمايتها من مخاطر وصول الإسلام السياسي إلى الحكم. إلى أي حد يمثل هذا الخطاب سنداً للاستبداد وفق مقولة البعض أو سنداً للحقيقة وفق البعض الأخر؟ هل ساهم خطاب كهذا في “تشويه” فكرة العلمانية، ولماذا؟

(9): ماذا عن الخطاب العلماني عند بعض المنحدرين من أقليات دينية وإثنية في سوريا، إذ تسود مزاعم بأنّ أغلب الأقليات السورية تُعتبر افتراضاً مؤيدة للعلمانية وإن كان الواقع مغايراً لذلك؟ ماهو برأيك سبب رواج هذه المزاعم وهل تستند إلى حقائق أم أنها جزء من الحرب الخطابية بين السوريين\ات؟

يدعوكم كلٌّ منصالون سوريا” وحكاية ما انحكت” و”جدلية التعبير عن آرائكم وتصوراتكم حول الأسئلة المطروحة أعلاه، وتقديم وجهات نظركم لإغناء الموضوع وتوسيع دائرة الحوار.

 

سينشر موقع ”صالون سوريا“ المساهمات التي ترده تباعاً ويقوم بتفعيل الروابط:

في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

حمّود حمّود

أي علمانية تناسب سوريا!

سوسن زكزك

العلمانية، الأفق الممكن
راتب شعبو

العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

جاد الكريم الجباعي

في تفكيك الخطاب العلماني ونقائضه

د. كريم أبو حلاوة

سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية

حسيبة عبد الرحمن

حال العلمانية في سوريا بعد تسع سنوات من الدمار
وائل سواح

العلمانية في سوريا ضرورة وطنية وديمقراطية
منى أسعد

العلاقة بين الدولة العلمانية والدولة المدنية

سحر حويجة

 

المنهج الماركسي لا يزال حياً وقابلاً للحياة

المنهج الماركسي لا يزال حياً وقابلاً للحياة

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

 تشكلت التيارات والأحزاب السياسية في سوريا في سياق النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وقادت النضال والعملية السياسية قوى تمثل البرجوازية والتجار وأصحاب الأملاك. أول الأحزاب الأيديولوجية  التي تشكلت، كان الحزب الشيوعي السوري في عام 1924، والحزب القومي السوري في1932، والإخوان المسلمين في 1932 وحزب البعث في 1940 والحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في 1940. اندمج الأخير مع حزب البعث وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1952. لم يبرز دور الأحزاب الأيديولوجية إلا بعد الاستقلال، مع اتساع الفئات الوسطى، ممثلة بالجيش والمعلمين والمحامين والمثقفين وقادة الحركة الطلابية والنقابات وغيرهم، من خلال الاستفادة من الحريات المكتسبة حينها.

في الخمسينات كان الحزب الشيوعي السوري يمثل اليسار، ويحظى بشعبية حقيقية خاصة بين الأقليات والأكراد. تعاون مع الوطنيين في النضال ضد الاستعمار وربط بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الإقطاع والبرجوازية، وقاده الجمود العقائدي إلى الاعتقاد أن الطبقة العاملة قادرة ومستعدة لإسقاط البرجوازية، واعتبر القضية القومية من قضايا البرجوازية وتقود إلى التعصب. وتشكلت منذ 1948 رابطة النساء السوريات واتحاد الشباب الديمقراطي، وهي منظمات رديفة للحزب مستقلة تنظيمياً عنه، وهي جزء من فروع اتحادات دولية.

 بدأت الانقلابات العسكرية المتتالية، منذ عام 1949 وتحولت سوريا مسرحاً للصراع بين العسكر والحكم المدني، حيث كانت القوى التقليدية ممثلة بحزب الشعب والكتلة الوطنية تُعارض دخول العسكر في السياسة، بينما وجدت أحزاب البرجوازية الصغيرة ضالتها في الجيش بسبب عجزها عن الحصول على النفوذ الجماهيري، خاصة بين الفلاحين، وفي مرحلة الخمسينات ساد مناخ شعبوي وسيطر المد القومي وبدت المسألة الديمقراطية بوصفها إطاراً للمسألة القومية، حتى أن خالد بكداش غير موقفه من المسألة القومية في عام 1957.

تُوج المد القومي بموافقة الحكومة والقوى السياسية الممثلة بالبرلمان على الوحدة مع مصر في عام 1958، غير أن حل الأحزاب السياسية وقمع الحريات، والتدهور الاقتصادي قادوا إلى الانفصال، وتركوا وراءهم نفوذ الاشتراكية الناصرية في الجيش والسياسة. وقد كان حزب البعث من المدافعين عن الحياة البرلمانية لكن جاء انقلاب الجيش بغطاء سياسي من حزب البعث، تحت مسمى ثورة ضد الرجعية؛ فتم  حل البرلمان وأممت الصناعة وأعلنت الأحكام العرفية وأصبحت القيادة بيد مجلس اسمه مجلس قيادة الثورة يتم تعيينه. وبعد انقلاب 1963 حصلت صراعات وتصفيات بين الأجنحة العسكرية مختلفة الولاءات السياسية وبين الجناح العسكري والسياسي في حزب البعث والتي انتهت بانقلاب 1970 مما منح القوة للعسكر على حساب السياسيين، ويمين حزب البعث على حساب يساره، وتحول السياسيون إلى واجهة للعسكر لا أكثر.

دخلت البلاد في مرحلة جديدة واستطاع النظام من خلال تشكيله الجبهة الوطنية التقدمية، الهيمنة وإلحاق الأحزاب السياسية المكونة لها بسياسته. ومع تشكيل هذه الجبهة انشطرت الأحزاب المكونة لها إلى قسمين قسم مؤيد وآخر معارض. وتشكل اليسار المعارض من الرافضين للدخول في جبهة النظام، إضافة الى الانشقاقات المتلاحقة  في صفوف الحزب الشيوعي. وأدى عدم شرعية وجود أحزاب خارج الجبهة، إلى جعل أي انشقاق في صفوف القوى الرسمية، يُوصف كمعارضة.

تميزت هذه المرحلة بأزمة اليسار السوري على أكثر من مستوى؛ فعلى الصعيد التنظيمي أشارت طبيعة الانشقاقات من القمة إلى القاعدة إلى غياب الديمقراطية في الحياة التنظيمية لهذه القوى. وعلى صعيد برامج وشعارات وأهداف المعارضة اليسارية فقد تقاطعت مع جبهة النظام في قضايا رئيسية كمناهضة الإمبريالية وتحرير الأراضي المحتلة والاشتراكية، وهذا أدى إلى أن القاعدة الجماهيرية التي   سعت المعارضة اليسارية لاكتساب دعمها، كانت نفس القاعدة التي يعتمد عليها النظام.

دفعت عدة أسباب كـ(التطورات الداخلية، وتزايد أعداد المغادرين صفوف أحزاب اليسار بسبب أزمته  السياسية والنظرية والتنظيمية، والتطورات التي طرأت على الحركة الشيوعية العالمية) باتجاه تشكيل الحلقات الماركسية على أساس من السجال السياسي والنظري بين أعضائها. هذه السمة ميزت مرحلة الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي، وضعفت مع تشكيل الحزب في عام 1981 بسبب الاعتقالات المستمرة أو انسحاب  كوادر التنظيم، الذي تشكلت قواعده الأساسية من الشباب، خاصة الطلاب وأغلبهم يفتقر الى تجربة سياسية، ويتميزون بالحماس والاستعداد النضالي العالي. وفي حقيقة الأمر لم يخرج الحزب في فهمه الديمقراطي عن الأصولية الماركسية، ودعا لتشكيل الجبهة الشعبية التي تضم القوى المعبرة عن الطبقات الشعبية من أجل الوصول إلى السلطة.

في عام 1979 شهدت الساحة السورية تطورات هامة فتحت آفاقاً جديدة، قوامها مواقف وسجال وحراك سياسي، على خلفية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين  نذكر منها تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي من الأحزاب المنشقة عن جبهة النظام. ونشير إلى الإضراب العام الذي عم معظم المدن السورية عدا دمشق خلال النصف الثاني من شباط والنصف الأول من آذار عام 1980. هدف التجمع الوطني الديمقراطي حينها إلى تطوير الإضراب حتى يصل إلى عصيان مدني عام، يتم من خلاله فرض التحول الديمقراطي. غير أن الإخوان المسلمين استطاعوا تحويله الى حركة وتمرد وأحداث شغب، وانتهى الإضراب بزج كبار المحامين والقضاة والنقابيين في السجن، وعلى إثره كانت آخر مظاهر الاستقلالية للحركة النقابية في سوريا قبل تحويلها الى أبواق للسلطة.

وبدأ العنف المتبادل بين السلطة والإخوان. وبعد القضاء على الإخوان قامت السلطة بملاحقة الأحزاب اليسارية بهدف تجميدها، أو تصفيتها.

توجهت المعارضة اليسارية مجبرة بسبب القمع السافر إلى العمل السري، الذي شكل طوقاً خانقاً حجمّ من دورها، وفرض قيداً شديداً على التنظيمات السياسية وحدّد آليات عملها قسرياً، على حساب المبادئ التي يدعو التنظيم إليها، سواء في حياته التنظيمية الداخلية، أم في علاقته بالآخرين، حيث تتقدم العلاقات الشخصية المبنية على الثقة على حساب العلاقات التنظيمية، ويسيطر هاجس الرقابة الأمنية، والمخاوف المستمرة من الخروق الأمنية، التي يلعب النظام على وترها.

وانعكس تأثير النزيف المستمر للكوادر والقيادات نتيجة الاعتقالات على صعوبة تجديد البنى التنظيمية وصعوبة عقد الاجتماعات والمؤتمرات. وفي ظروف الملاحقة أو حملات الاعتقالات، تحولت العلاقات التنظيمية إلى علاقات خيطية، لنقل آخر الأخبار. وفي حال الملاحقة أو التعرض للمراقبة، كان أمام الأعضاء خيارين إما التخفي أو تجميد العضوية.

وهذا أدى إلى اقتصار النشاط السياسي في ظروف العمل السري على دائرة ضيقة من العلاقات الوثيقة مع أشخاص مقربين، لذا فقد اتخذ النشاط طابعاً عائلياً يعزز العلاقات الشخصية، وأثر هذا التغيير على بنية الأحزاب وأدائها السياسي. فتح العمل السري المجال للتشكيك، وإلقاء التهم والتخوين لأتفه الأسباب، مما وتّر العلاقات بين هذه القوى وبين الأفراد في التنظيم الواحد.

  شكل السجن مكاناً ملائماً بين المعتقلين للحوار والتواصل، سواء بين أعضاء الحزب الواحد أو بين الأحزاب المختلفة. وعانى المعتقلون من غياب الدعم المعنوي نتيجة حالة الانحسار الجماهيري، ولم يطالب أحد بهم، سواء من الناس أو المنظمات أو الأحزاب. وكان الدعم المادي يقتصر على دعم الأهل، والكثير من الحالات فقدت دعم أهلها لأسباب مختلفة منها: عدم القدرة المادية أو لاعتراض الأسر على مواقف أبنائها السياسية. هذه الأسباب إضافة لظروف السجن القاسية، والاعتقال لمدة طويلة، وتراجع دور الأحزاب ونشاطها خارج السجن، دفعت مجموعات من المعتقلين، للتململ والمساومة مع النظام.

 وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي دور مؤثر على صمود الكثير من المعتقلين اليساريين وعلى تحولهم الفكري من موقع لآخر. وبدأ النظام بإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين بعد سنين  ليبرر اعتقالهم، ومن سخرية القدر أن تتم محاكمتهم بتهمة  مناهضة النظام الاشتراكي .

 شكل عقد التسعينات، مرحلة مخاض صعبة لمرحلة ما بعد السجن، حيث بدأت الأحكام تنتهي، وعلى التوالي خرج المعتقلون من السجن بعد سنوات طويلة، وكانت واضحة المتاهة التي آلت اليها الأمور، حالة الفوضى في الأفكار والرؤى، ظاهرة الندم على سنين ذهبت سدى، والعمل بأقصى ما يمكن و بكل المتاح لتعويض ما فات من خسارات في العمل والدراسة والحياة الخاصة. لمس الكثير من الأشخاص عدم التقدير والاحترام لتجربتهم، وعانى الكثير من الضغط الاجتماعي والحصار الأمني بعد خروجهم من السجن من دون أن يتلقوا أي حماية، وكانت مرحلة أشبه بالكمون السياسي. كما برزت حالات من الشللية للثرثرة بعيداً عن السياسة والهم العام، وكان من الواضح التوجه والنكوص الى التكوينات الأولى الطائفية والعائلية، وانتشرت المهاترات والإساءات الشخصية، إضافة إلى التشكيك والإقصاء وغيره من العوامل الضاغطة.

 أما الموقف من المرأة فقد سيطر عليه عقل ذكوري، بإقصاء النساء قصداً عند بعض القوى اليسارية، بذريعة الخوف عليهن وحماية لهن من الاعتقال، ولتكون مهمتهن تربية الأطفال ودعم الزوج في حال اعتقاله. اختلف الوضع عند حزب العمل حيث شكلت النساء ثقلاً في عداده منذ الحلقات الماركسية، وزادت في فترة تشكيل الحزب. وكان لتوجه الحزب للشباب وخاصة الطلاب دور في اكتساب النساء كما أنه تميز بخطاب ثوري ضد العادات والتقاليد والدفاع عن المساواة بين المرأة والرجل، وكنا نلحظ الاحترام والتقدير من قبل الذكور للنساء المناضلات في صفوفه سواء المتخفيات أو المعتقلات، مما شجع على التحاق النساء بالحزب، إضافة الى نشاط النساء في صفوف الحزب، لكن أعتقد أن الدور الكبير لموقف حزب العمل المختلف من النساء يُعزى لبنية الحزب المكونة من الشباب\الطلاب التي تميزها عن الأحزاب الأخرى. لكن آثار النظرة الذكورية التقليدية للنساء عادت للظهور بعد خروج كثير من المعتقلين\ات الذين كانوا من جيل الشباب من السجن.  أسمح لنفسي بالقول إن تلك كانت المرحلة الأسوأ في تاريخ اليسار الثوري العاجز عن نقد ذاته وتجربته، والذي اتبع سياسة الهروب إلى الأمام.

جاء ربيع دمشق الذي حرك الساكن وأعاد الروح بعد موت وقام الناس من جديد، وكان اليسار جزءاً هاماً من المشهد. وكان من سمات هذه المرحلة الانتقال إلى العلنية، مع الاستعداد لتحمل كلفة ذلك، وبروز دور الأشخاص وليس الأحزاب، وساد خطاب تم التركيز فيه على الحوار مع النظام من أجل الانتقال الديمقراطي. وكانت دعوات الحوار تتجه إلى جهاز الأمن وليس لطرف سياسي من النظام،  وإلى جانب المنتديات نشطت حركة معارضة في الكتابة والإعلام. وصارت الديمقراطية هي البند الوحيد الذي تدعو له المعارضة بكافة أطيافها، كما ظهرت للوجود هيئات ومنظمات حقوقية تدافع عن قضايا المرأة وحقوق الإنسان والمعتقلين لمؤسسيها جذور أو انتماءات يسارية.

كان ربيع دمشق حركة نخبوية ضمت رموزاً وأصحاب تجارب سياسية أو اعتقالية سابقة، وكان اهتمام الشباب بها ضعيفاً، لكن كان هناك مشاركة واسعة لليسار الثوري المعارض. ونظراً لغياب رؤية واضحة فقد وقع اليسار ورموزه في فخ التحالفات والمشاركة في إعلان دمشق عام 2005، الذي غاب عنه مشروع مجتمعي وتم التركيز فيه على الديمقراطية في الوقت الذي انتشرت فيه مقولة انتهاء عهد الأيديولوجيات، حيث تحولت الديمقراطية إلى إيديولوجيا تغيب عنها التحديات التاريخية الموضوعية وتغيب عنها الرؤية المستقبلية للقضية الاجتماعية.

 واعتبرت القضايا الأخرى ثانوية، ومنها، الصراع الاجتماعي، والحداثة وقضية الحريات، هذه القضايا في واقع الأمر تتقدم وتتراجع معاً، ضمن الفهم الجدلي لحركة التاريخ.

جاءت انتفاضة الشعب السوري في غفلة عن الأحزاب السياسية، ومثلت هيئة التنسيق بمكوناتها اليسار، لكن لم يبرز دور أحزابها كأحزاب قادرة على تصويب الشارع أو قيادته ولم تتميز بشعارات خاصة، باستثناء شعاراتها ضد العسكرة وضد التدخل الخارجي بعد فوات الأوان، ولم تستطع أن تعبئ الشارع ضمن أطرها التنظيمية، بل انقسمت على ذاتها أكثر من مرة، لكنها اكتسبت شرعية ما دولياً.

وفي نفس الوقت تشكلت منظمات مجتمع مدني على هامش الهيئة أو بمبادرة من أعضائها، لكن كانت بمعظمها لا تمثل في الواقع نضال المجتمع المدني، بل استخدمت من أجل اكتساب مواقع أو تعزيز أدوار شخصية.

نحن بحاجة ليسار عقلاني يحتل مكانة مرموقة لا أن يكون على هامش المجتمع، وأن يكون دوره الكشف والقبض على المشكلات الأساسية في المجتمع، حيث إن ضعف اليسار لا يعود إلى شدة نفوذ قوة الإيديولوجيا التقليدية فحسب، بل بسبب عجزه التاريخي عن وضع الديمقراطية في العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة الوطنية. وجاء إخفاق المشروعين اليساري والقومي بسبب النخبوية وعدم كشف الروابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، من أجل وضع الديمقراطية في سياق المشروع النهضوي.

 يمكن القول إن الكثير من المقولات الماركسية التي أنتجها واقع وعالم مغاير لواقع وعالم اليوم أصبحت شائخة يجب استبدالها بما يلائم واقع اليوم، ولكن يبقى المنهج الماركسي (القائم على الجدل والتفاعل بين الظواهر والقوى) حياً وقابلاً للاستفادة منه في حل التناقضات القائمة في المجتمع الإنساني سعياً لغد أفضل.