في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية

مقدمة

تحاول هذه المادة سريعاً إلقاء بعض من الضوء على إحدى أهم المقولات التي تسود الدرس الغربي في مسألة علمانية نظام البعث السوري وتسأل عن أصول هذه المقولة، وبخاصة حينما تُدعم من بعض الدارسين بدعوى أنّ الخطاب الديني، خاصة السني الرسمي منه (الكنيسة السنية)، لم يمثل فحسب دعامةً علمانية للنظام، بل أيضاً ساهم في علمنة الخطاب نفسه ومعه مجتمعه الإسلامي. تحاول المادة تقديم رؤية مختلفة عن هذا من خلال تحليل بعض من العلائم الأساسية، وترى أنّ الخطاب الديني السوري قد مثل الحدّ المنيع في وجه العلمانية، مدعوماً بالطبع بنظام الأسد. المقال، ومن خلال تناوله للعلائق البنيوية بين النظام السوري وكنيسته السنية في مسألة العلمانية، يرى أنه إذا قُبلت لفظة العلمانية، في أحسن الأحوال، فإنما يتم تفصيلها وفقاً للبنى الذهنية “الجمعيّة” المسيطرة، الأمر الذي كان، وما زال، يقود لأنْ تُفصّل العلمانية بما “يجب” أن تكون عليه، ليس انطلاقاً من خصوصيات ثقافية ودينية مفترضة فقط، وإنما أيضاً انطلاقاً من سياق تصفية حساب مع استحقاقها الثقافي الحداثي وما يمكن أن يؤثر به هذا الاستحقاق على المجتمعات السورية. وبالتالي، إشكاليّة ما “يجب” أن تكون عليه العلمانيّة، تحيل بالضرورة إلى إشكاليات أخرى ربما أكثر تعقيداً، بمعنى تحيل إلى: ما “يجب” أن يكون عليه “المعنى الديني” (وفقاً لـ”الكنيسة السنية” السورية)، مع خلق تفصيلات بهلوانية لـ “الدولة” لكي تتناسب مع شكل محدد زائف من العلمانيّة المراد منها أن تكونه. وهذا بالضبط ما كان يتم من خلال عمليات سوسيولوجية وسياسية ودينية بهدف تنميط “المجتمع والدين” بقوالب ثقافية أيديولوجية تتوافق ومسطرة السلطةالسورية.

في “أسطرة العلمانية” السورية

إحدى أهم المهام التي لا يزال الإصرار عليها قائماً، هو الدعوة لتفكيك المفردات البنيوية، وخاصة الأيديولوجية منها، التي كان يستند عليها نظام البعث، وبخاصة حين تناول موضوعة العلمنة التي كان يتغلف بها؛ ذلك أنّ حالاً من التخبط ما يزال يسود الدرس الغربي، دعك من المشرقي والعربي، إلى الآن في وضع الأيديولوجية القومية لبعض الأنظمة العربية، وخاصة النظام السوري منها، في فضاء العلمانية، من جهة، والإصرار في المقابل، من جهة ثانية، على وضع منافساتها الإسلامية، كمقابل ديني وروحي. إنني أجد أنّ الحاجة البحثية ما زالت ملحة في تفكيك هذه النظيمة الفكرية في الدرس، رغم الإشارات الكثيرة بين هنا وهناك، وخاصة من قبل مثقفين سوريين، التي تحاول التأكيد على كذب نظام الأسد في مقولة العلمانية([1]). لكنها مع ذلك تبقى مجرد تأكيدات تفتقر في معظم الحالات إلى أي تحليل عميق في ضبط مقولة العلمانية في السياق السوري، والأهم أنّ كثيراً منها ينطلق من خلال لغة متخشبة لا تختلف كثيراً عن لغة النظام السوري، الأمر الذي ساهم، ومازال، في عدم إنتاج فضاء بديل عن نظيمة النظام.

والحال، أنّ مقولة علمانية النظام السوري، ليست تماماً اختراعاً بعثياً، طالما أنّ البعث نفسه لم يكن يشغله على الإطلاق التفكر في مقتضيات العلمانية والتشديد عليها، سوى إشارات متناثرة من قادته (مثل من من قادته مثلا؟) تخدمهم في سياقات محددة وخدمة لأهداف استراتيجية وسلطوية أمام الغرب، طبعاً مع الإبقاء على ضبابية هذا المفهوم. وبالفعل، فقد ورثنا هذه المقولة في المشرق من باحثين غربيين أرادوا عنوة رؤية مسارات الحركات القومية العربية والدينية بنفس مناظير درسهم للقوميات الغربية وصعود الدولة هناك بفضل الحداثة([2]). وفي الوقت الذي كان فيه القادة القوميون العرب (ميشال عفلق على سبيل المثال لا الحصر)يشددون في السابق، وما زالوا، على عامل الإسلام في أدلوجتهم “العلمانية” (؟)([3])، كانت الأدبيات الغربية تعج بالتشويهات في إلباس هذه الحركات القومية لباس العلمنة. وحقيقةً، فإنّ الشطر الأكبر من الخط الدرسي الغربي ما زال مصراً إلى اليوم على تلك “الثنوية” العرجاء في فرضها على الواقع السوري في مسألة العلمانية: نظام علماني/حركات إسلامية. لهذا أجد أنّ أسئلة من قبيل: ما هو بالضبط الإسلامي، وما هو العلماني، مازالت تكتسي راهنيتها البحثية، هذا إذا ما أردنا بالفعل فهم العلمانية في سورية.

ونظراً لتعقد هذه النقطة وامتدادها عميقاً في الأدب الغربي وعلاقته بالمشرق وماذا يريد من هذا المشرق من خلال إلباسه بهذه الثنائيات، فإنه سيتم التوقف عند هذا الحد في هذه الإشكالية، لنتناولها من منظور آخر سيتم فيه التطرق إلى علائق الخطاب الديني نفسه بالنظام في مسألة العلمنة، ودور الاثنين في وأدها.

في إشكالية “الكنيسة السنية” السورية والعلمنة

بداية أجد من الضروري التوقف سريعاً حول ما أعنيه بـ”الكنيسة السنية” في السياق السوري، وبخاصة ضمن علائقها المعقدة بفضاء العلمنة. لقد سبق للسوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم أنْ علمنا من خلال مخطوطه ذائع الشهرة “الأشكال الأولية للحياة الدينية“، بأنه من المحال على دينٍ ما الاستمرار في صيغته الدنيوية من غير التمترس بالجماعة؛ فهو يؤكد: “لم نجد في التاريخ ديناً من دون كنيسة([4])“. الحال هذا يمكن سحبه أيضاً، في كثير من استحقاقاته السوسيولوجية، على الإسلام، وخاصة في المعاني التي امتد بها دوركايم في تجاوز مفهوم الكنيسة ضمن الإطار المسيحي الضيق إلى أفق الرابط السوسيولوجي بين أفراد الجماعة([5]). وعلى الرغم من تشديد المسلمين على غياب دينهم من الكهنوت أو الكنيسة، فإننا نجد من الصواب كذلك التأكيد على عمق النمط الكنسي-الجماعاتي فيه، والذي لولاه لما كان هناك أصلاً استمرار تاريخي يُدعى بـ”الإسلام” (وهذا الأمر ينطبق كذلك على الذات الجماعية لأيّ طائفة إذا ما أرادت كتابة البقاء لاسمها). طبعاً نقول هذا الكلام ونحن على وعي باستحالة وجود كنيسة سنية جامعة في العالم الإسلامي طالما أنّ ثيمات الخطاب السني عموماً تخضع لميكانيزمات وتجسدات تاريخية معقدة وتكتسب فرادة من بين طوائف الإسلام، وخاصة على المستوى الفقهي والسياسي، وهو الأمر الذي ساهم، ويساهم في وجود كنائس إسلامية متعددة، كل منها تخضع لمساراتها التاريخية الخاصة (أنثروبولوجياً، سوسيولوجياً، سياسياً…الخ).

لكن إذا كانت تلك الكنائس الإسلامية تلفظ إسلامها من خلال قنوات السياسة والاجتماع السوسيولوجي الدنيوي والتاريخ، فإنّ نمطاً آخر من الكنائس حاولت الأنظمة القمعية “اصطناعه” أيضاً، وذلك بالضبط بهدف ضبط ومكافحة هذه الكنائس، وخاصة تلك التي أخذت أشكالاً سياسية تهدد وجود هذه الأنظمة (“الجماعات” الإسلامية مثلاً. ولنتفكر هنا ماذا تعنيه لفظة “الجماعة” عند هذه التيارات. إنها لفظة تكتسي، إضافة إلى محمولها السياسي المعاصر، بُعداً دينياً أنثروبولوجياً). لنخصص الآنْ الحديث أكثر:

لقد شهدنا في عدد من البلدان الإسلامية أنّ الجماعات الإسلامية لم تخرج من القاع الرسمي العلمائي الديني المرتبط بالدولة، بل على الضد من الدولة، وبالتالي على الضد من كنيسة العلماء. هذه الحال تنطبق تماماً على الإخوان المسلمين في مصر (الإخوان والأزهر، رغم محطات من التعاون السطحي بينهما)، ولا نريد هنا الدخول بها. في سورية كانت الحال عكس ذلك: فعلماء دمشق أنفسهم هم الذين ساهموا في خلق كنيسة سنية لها طابع سياسي واجتماعي([6])، سميت كذلك بـ “جماعة الإخوان”. وهذه الكنيسة لم تكن على الضد من الدولة، بل جزءاً من الدولة([7])، وهي التي كان لها المساهمة الكبرى في التصدي لأي مسار علماني([8])وهذا ما يمكن قراءته، مثلاً، من خلال تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق من خلال سواعد مصطفى السباعي، المراقب الأول لـ “كنيسة الإخوان” السورية. ولنتذكر هنا سريعاً كذلك الجهود الإخوانية في إجهاض مسألة علمانية الدستور السوري سنة 1950 حول مسألة دين الدولة فيما سيعرف بـ”معركة الدستور”. حيث تجسد وقوف الإخوان ضد العلمانية من خلال إصرارهم على تضمين الدستور مادة الإسلام بصفته الدين الرسمي للدولة وليس ديناً لرئيس الدولة. وبعد أنْ تم لهم ذلك، عارضت معظم الكتل البرلمانية، ثم ليقوم مصطفى السباعي نفسه بتعديل المادة رقم 3 لتصبح كما يلي: 1- دين رئيس الجمهورية الإسلام. 2- الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. ثم لتتكرر بعض من معالم هذا الحراك الإخواني حينما أعلنَ حافظ الأسد في 31 كانون الثاني/يناير من سنة 1973 عن دستور سلطته، الأمر الذي أشعل أزمة عميقة في سورية بسبب عدم اشتراطه في أن يكون الرئيس مسلماً، مما قاد إلى مظاهرات كبرى في عدد من المدن السورية بقيادة الإخوان الذين نادوا بالجهاد ضده([9]).

والحال، أنّ هذه الكنيسة السنية السياسية كانت أحد أهم العوائق الكبرى أمام نظام البعث بعد سيطرته على السلطة 1963 في مد سيطرته على الشارع السني. وبصرف النظر عن الدخول في تفاصيل الصراعات بينهما، إلا أنه كان واضحاً منذ البداية أنّ المعارك بينهما التي ابتدأتها هذه الفترة لم تكن تدور على الأرض الأيديولوجية ولم تكن على الإطلاق لأنّ هذا الطرف (الإخواني) إسلامي جداً، وذاك الطرف (البعثي) علماني جداً. مسألة العلمانية لم تكن أساساً مطروحة للنقاش، طالما أنّ الطرفين يدينان للفضاء الثقافي نفسه: الإسلام العروبي. وبكلمة: فإنّ السلطة هي التي جسدت بوصلة الصراع، وليست العلمانية، كما ترغب أدبيات الإخوان في تلك الفترة أنْ تقنعنا.

وهنا نشدد أنّ تدمير هذه السلطة السنية الكنسية من خلال سلطة البعث لم يكن يعني، بوجه منه، خلق بديل علماني حداثي، بل السيطرة على المعنى، وهنا في سياقنا: “المعنى السني” أو إعادة خلق معنى إسلامي جديد. وهذا بالضبط قد تم من خلال المساهمة في خلق بناء عُلمائي سني جديد تجسد في التدخل السلطوي الهائل في فضاءات سيطرة كثير من العلماء السنة على الخطاب الديني السوري. من هذه الزاوية يمكن أنْ نقرأ عزل أبو اليسر عابدين من منصب المفتي (تاريخ العزل) (والذي استمر به لتسع سنوات) بعد ثلاثة أشهر فقط من صعود البعث إلى السلطة واختيار الشيخ أحمد كفتارو بدلاً منه والذي سيكون السادن “الرسمي” الأول للكنيسة السنية-البعثية لمدة أربعين سنة. وقد كانت هذه الفاتحة، التي رافقها إغلاق مساجد وبعض المدارس الشرعية([10])، بداية لتفتت البناء العلمائي السني القديم، والشروع بمنهاجية جديدة في مأسسة قاعدة كنسية سنية ذات رؤوس متسلطة جديدة (صالح الفرفور في دمشق ومعه محمد سعيد رمضان البوطي، وبعض تلامذة محمد النبهان في حلب) ستخدم النظام السوري في بقائه في السلطة.

لم يساهم خرق السلطة السنية القديمة وخلق أخرى بديلة في تشتيت الخطاب الديني وإنتاج تطرف إسلامي (سنشهد اشتداده مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات) فحسب، بل في قتل بعضٍ من المعاني الليبرالية العلمانية التي سادت عند بعض من النخب السورية. لربما يُقال هنا أنّ سيطرة حافظ الأسد وبعثه على السلطة، قد ساهمت في إحدى دلالات مسارات العلمانية، أي: “مأسسة الخطاب الديني” وخضوعه للدولة (وخاصة في مجال التعليم وإنشاء وزارة للأوقاف وتأسيس معاهد شرعية ومدارس جديدة والسيطرة على الأوقاف الإسلامية وإخضاع المساجد للسلطة السياسية…الخ). إذا اقتصر هذا الحديث على الإعادة السطحية لترتيب البيت الإسلامي، فهذا صحيح؛ لكن لا يجب أنْ ننسى أنّ هذا النمط من العلمنة ليس سوى استكمالاً للخطوات التي طالت المشرق العربي أواخر الإمبراطورية العثمانية وبعد انهيارها. ثم وإنّ هذه العلمنة لم تطل البنى العميقة للخطاب الديني بمقدار ما ساهمت في تطويع هذه البنى لتتناسب ومسطرة السلطة السياسية.

من هنا لا يمكن الحديث عن مساهمة النظام السوري في علمنة الكنيسة السنية السورية. إنّ صعود نمط جديد للكنيسة السنية لم يكن الهدف منه سوى مواجهة المعنى السياسي الذي كانت تحتله هذه الكنيسة الإخوانية التي كانت آخذة بالتآكل، فضلاً عن تقديم معنى إسلامي جديد سيطرت عليه طبقة من الكهنة الأصوليين، طبقة كانت جزءاً ركيناً في عمق نظام البعث.

الأسد والكنيسة السنية أو في ضرب العلمانية

هكذا، فإذا كان صعود الحركات الإسلامية في سورية يأتي في مقابل “الكنيسة السنية” التي رعاها نظام البعث، فإنّ كلاً من المسارين ساهم في ضرب أية حركة علمانية: المسار الأول بادعائه أنه يسعى للجهاد ضد نظام علماني وطائفي، والثاني من خلال إعادة أدلجة الإسلام، لا بل والتحدث باسمه ضد الذين “شوهوا” صورة “الدين الحنيف”. مقولة علمانية نظام البعث تعود في جزء منها، كما ذكرنا، إلى عامل الأدب الغربي في قراءة الحركات القومية العربية. وهنا يمكن أنْ نضيف عاملين آخرين، الأول: هو الترويج الإخواني لجهاد ضد نظام علماني متخيل (وهو الأمر الذي ساهم في هذا الترويج)؛ والثاني: هو سيادة أصوات غربية حديثة على ميدان كثير من الدرس الغربي في إعادة قراءة العلمانية بما تشتهيه أصوات كثيرة من الأصوات الدينية الأصولية نفسها.

شارلز تيلور C. Taylor هو أحد أهم الأصوات الغربية المعاصرة التي تحاول تقديم فهم جديد للعلمانية على عكس كثير من المفاهيم الغربية الحداثية التي سادت سابقاً([11]). إنني لن أتطرق لرؤى تيلور هنا، بسبب ضيق المساحة؛ بيد أن ما يهمنا هو اتكاء بعض الباحثين في الدراسات الغربية (منهم بالأصل من العرب) على تيلور وتقديم خلطة سحرية في رسم صورة للدين الإسلامي وعلمائه وعلاقة هؤلاء بالعلمانية؛ سأشير إلى مثال واحد فقط: لين الخطيب، الباحثة التي سبق لها أنْ كتبت في الصعود الإسلاموي في سورية وعلائق ذلك بصعود وسقوط البعث([12])، واليوم تتحفنا بمقال بحثي تظن به أنها ترسم صورة دقيقة للعلماني والإسلامي في سورية المعاصرة([13]). وهذا ما سنمر عليه سريعاً.

استناداً إلى تيلور في أنّ الدين يمثل اليوم “خياراً فردياً” من بين خيارات أخرى وبأنّ السمة البارزة للمسار الغربي نحو العلمانية هي بالضبط “تشابكها منذ البداية مع الدين الشخصي” وبأنّ “الدافع إلى الدين الشخصي هو نفسه جزء من الزخم نحو جوانب مختلفة من العلمنة”([14])، نقول استناداً إلى مثل هذه الرؤى تقدم لين خطيب قراءتها إلى العلمنة السورية(Khatib, More Religious, 54). مخيالية هذه الكاتبةفي قراءة الواقع العلماني المفترض في سورية تبعث حقيقة على التساؤل، ما إذا كانت الكاتبةتتحدث فعلاً عن بلد اسمه “سورية” أم عن كوكب آخر. إنها لا تكتفي بتنميط المجتمعات السورية إلى صورة نمطية سوسيولوجية أحادية وفق مما تتخيله، بل تجعل حتى هذه النمطية الأحادية وكأنها مرآة للمسيرة الغربية. فهي ترى أنّ النظام السوري قد عزز تقديم رؤية دينية تتلاءم مع الرؤية العلمانية (التي تحدث عنها تيلور)، وبأنّه في مجتمع كـ “المجتمع السوري” لا يمكن لنا التصنيف بين العلماني والديني، ذلك أنّ كلا هاتين الرؤيتين متداخلتان وبأنّ العلمانية كانت دائماً تكتسي حيويتها فيه، رغم عملها في خطاب سني(Khatib, More Religious, 41-42).

بالطبع، أحد الأخطاء الجوهرية التي تنطلق منها خطيب هي الخضوع لنفس الخط الغربي في النظر إلى القومية البعثية بكونها أساساً علمانية وبأنّ الأمة التي تخيلتها، من بين الحركات القومية، كانت أمة “علمانية”! (هكذا بالحرف الواحد) وبأنّ النموذج العلماني السوري كان شديداً منذ البداية على “الفصل الحاد بين الكنيسة والدولة وقصر الدين على الفضاء الخاص”  (Khatib, More Religious, 44)، وهو الأمر الذي اشتد به البعثيون في أوائل مسيراتهم السلطوية؛ بل كذلك حتى أنّ العلماء المسلمين في سورية قد ساهموا أيضاً من جانبهم في نمط من العلمنة من خلال نزع السحر والنزعات الباطنية عن الدين، كما يفهم تيلور ذلك (طبعاً هنا يتبين الجهل الشديد من خطيب في فهم الخطاب الديني الإسلامي نفسه في نقل التجربة المسيحية الغربية وتطبيقها حرفياً على الإسلام).أما مسألة التداخل بين العلمانية والإسلام، التي ستقتضي بعدم إمكانية الفصل بينهما، ستبدأ مع فترة حافظ الأسد من خلال عمل رجال الدين في ظل نظامه (Khatib, More Religious, 52).

وفي الواقع، فإنّ خطيب تدرك أنّ الأجواء التي من المفترض أنْ تكون علمانية، قد تدهورت كثيراً مع بشار الأسد حينما بدأ الرجل مرحلة أخرى في التعاون مع العلماء المسلمين بهدف مواجهة خطر التطرف. لكن، ورغم هذا الإدراك فما زالت هذه الكاتبةمصرة على أنّ ما كان في سورية “آخذاًبالتآكل هو “شكل” من العلمانية، وليس الثقافة السياسية العلمانية نفسها” (Khatib, More Religious, 53)[التأكيد من عندي]. فالنظام هو نظام علماني والعلمانية ما زالت في سورية تكتسي حيويتها السابقة. إنني لا أشك أنّ خطيب لا تعرف عن هذا النظام وسياساته وما يصدر عنه من مواقف وما يقوده من سياسات تخريبية تقف بالسر والعلن ضد العلمانية. لكن، إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا تعمد الكاتبةإلى هذه الصورة؟ إذا كان نظام بشار الأسد بالفعل يساهم بالعلمانية، كما تريد خطيب إقناعنا، فماذا يمكن أنْ نصف به مقارنة بشار الأسد لسورية بإيران، طالماً أنّ كلا البلدين يستندان إلى الشريعة الإسلامية. لقد جاءت هذه المقارنة في أحد اللقاءات مع علماء دين من طوائف مختلفة. إننا نفهم هنا ما هو الهدف العميق من هذه المقارنة مع إيران([15])، وماذا تريده الأخيرة من سورية، وكيف يمهد بشار الأسد لذلك. لكن لنترك هذه النقطة جانباً. الأسد نفسه، وفي نفس اللقاء، سيعارض رؤية خطيب قلباً وقالباً حينما يؤكد نفسه بأنّ دولته سورية نفسها هي “دولة إسلامية“. يقول بشار الأسد: “على ماذا يستند الدستور السوري؟ على الشريعة الإسلامية…الفقه الإسلامي تماماً. على ماذا تستند كل قوانين الأحوال الشخصية في سورية؟ على الشريعة الإسلامية. طبعاً وللمسيحيين والطوائف خصوصية في هذا الموضوع… طيب نحن أيضاً دولة بهذا المنطق هي دولة إسلامية. هذا بديهي”([16]). تماماً هذه هي عين البداهة! وليس بالإمكان إنكارها، سواء أشاءت خطيب رؤيتها أم لا.

طبعاً إعلان الأسد عن “إسلامية” الدولة السورية، لا يعني بالتأكيد الذهاب للتخلي عن لفظة العلمانية نهائياً، وخاصة حين التوجه للعالم الغربي. ليست المسألة في الواقع ما إذا كان يذكرها أم لا، بل ماذا يريد أنْ يفهم منها. فهو يكاد لا يترك فرصة إلا ويحاول إفراغها لجعلها مفهوماً أجوفاً. إنه نفسه، وفي سياق تفسيراته الخلبية للعلمانية، يذكرنا بجهود نظامه في إعادة تديين المجتمع السوري، إذ يقول الأسد: “ففي سورية بني منذ عام 1970 حتى اليوم ثمانية عشر ألف مسجد.. فلو كانت العلمانية ضد الدين أو نمارسها ضد الدين.. كيف نسمح ببناء 18 ألف مسجد.. بني 220 مدرسة شرعية وثانوية شرعية وغيرها.. بني العشرات من المعاهد لتأهيل الدعاة([17])“، لا بل نجده كذلك يبرر لـ”دينية النظام السوري” لأنّ المجتمع السوري نفسه هو مجتمع متدين وهو مرآة لهذا المجتمع: “وإذا كان المجتمع ملتزم بدينه فلا بد أن تكون الدولة مبنية على الأسس الدينية حتى وإن كانت علمانية.. لا يمكن أن تكون الدولة لا دينية والمجتمع متدين.. والعكس صحيح.. لا يمكن أن تكون دولة ذات شكل ديني والمجتمع غير ملتزم بدينه.. فإذا نحن مرآة للمجتمع([18])“.

خاتمة

الناظر لمنظر عمائم سدنة النظام السوري وديانته الإسلامية (ومعهم كذلك سدنة الطوائف الأخرى) الملتفة حول رئيسها في ذلك اللقاء يدرك تماماً ما الذي رمينا إليهمن خلال تعبيرنا “الكنيسة السنية” السورية ومساهمة هذه يداً بيد مع نظامها السياسي في تدمير المعنى العلماني، ذلك المعنى الذي ولد بالأصل يتيماً أوائل القرن العشرين وقضى عليه نظام البعث لاحقاً نهائياً. إنها كنيسة مخيفة في الواقع. إنها هذه الكنيسة السنية التي أصعدها الأسد من جديد، والتي تستشهد السيدة خطيب ببعض رجالها بأنهم مساهمون في مسار العلمنة السورية والمبشرون بها، من خلال تصريحات جوفاء هنا وهناك (على رأسهم تلك التي تخرج من فم المفتي السوري أحمد بدر الدين حسون)، تصريحات لا تحمل من مدلولات سوى الجعجعة لكي يحمي بها سدانته الدينية-السلطوية فضلاً عن نظامه([19]). لقد وصل مدى صلابة “علمانية” المفتي حسون إلى درجة دعوة الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني (الذي تنتمي له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) للتخلي في اسمهم عن حرف “C” الذي يشير إلى لفظة “المسيحي” في عنوان اتحادهم(CDU، Christian Democratic Union).

هذه هي الدرجة التي وصلت بها “علمانية” حسون المفتي، التي تستشهد بها خطيب(Khatib, More Religious, 58)، وهي “العلمانية” نفسها التي جعلت الجهاد في سورية “فرض عين” دفاعاً عن النظام السوري([20])، وهي “العلمانية” نفسها التي وعد بها الرجل أوروبا بإمطارها بالمجاهدين([21])!والحال، أنْ تستشهد السيدة خطيب من خلالها للتدليل على مساهمة هذا الخطاب الديني بالعلمانية في سورية، فهذا بالضبط استمرار في لوي شديد للحقائق (على القارئ الغربي قبل العربي)، فضلاً عن كونه تدليلاًتزييفياًيمثل “سدرة المنتهى” في الخداع.

الهوامش:

([1])انظر مثلاً الخطيب، علاء الدين: الكذبة الكبرى: عَلمانية‏ نظام الأسد، 2018: http://www.infosalam.com/syria/syria-studies/fallacy-assad-regime-secular     .

([2])يمكن بالفعل تتبع هذه النظيمة حتى أوائل القرن العشرين وما بعدها في عشرينياته في تناول الحركات القومية العربية بكونها انطلقت أساساً من مسلمات علمانية في مقابل الحركات الإسلامية الأخرى، إصلاحية كانت أم سياسية.خذ مثلاً هانز كون في درسه تاريخ الحركات القومية في الشرق:

 Hans Kohn, Geschichte der nationalen Bewegung im Orient, Berlin 1928.

([3])   يشدد ميشيل عفلق مثلاً: “تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الإصطلاحية”، انظر له: في سبيل البعث، دار الطليعة، 1978ـ ج1، ص175. ومن النادر إتيان عفلق على اصطلاح العلمانية الذي لا يوليه وزناً، ويتخبط في توضيحه، كأن يقف أمامه موقف المتشكك أو يضعه ضمن السلة الغربية التي تغزو أبناء العربية في سبيل انتزاعهم من تراثهم، أو أنْ يرادف بينه وبين مفهوم الوطنية المنحصرة في «قطر» دولة ما في مقابل القومية العربية الكبرى…الخ. وهذا ما سيذمه ويستنكره (مثلاً قوله: “فإنّ هذا المفهوم للعلمانية الذي كان في وقت ما خطوة تقدمية، أمسى عامل تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني” ج3، ص45). وعموماً يمكن النظر إلى إشاراته السريعة في هذا السياق في نفس الكتاب، ج3، ص42-45. والرجل له أيضاً إشارة غامضة أخرى في إلباس العلمانية بمفهوم ديني وروحي غير مفهوم: “وما دام الدين منبعاً فياضاً للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة”، ج1، ص176.

([4]) Durkheim, Emile 1995 (1912): The Elementary Forms of Religious Life. Translated and with an Introduction by Karen E. Fields. New York: The Free Press (Simon & Schuster), P.41.

([5])دوركايم يشدد في نفس السياق (ebda, P.41): “إنّ الأفراد الذين يشكلون الجماعة يشعرون بالاتحاد الواحد تجاه الآخر وذلك بواسطة حقيقة الإيمان المشترك. إنّ المجتمع الذي يكون أعضاؤه متحدين بسبب تخيلهم، بنفس الشكل والأسلوب، عالماً مقدساً مع علاقاته بالعالم المدنس، وبسبب ترجمتهم هذه التمثيلات [الاعتقادية] المشتركة في ممارسات مماثلة بينهم، هذا ما يدعى بـ”كنيسة[التشديد من عندي].

([6])انظر هنا حول الدور الهائل للعلماء الدمشقيين في صناعة الفضاء الثقافي السوري نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين (والذي كما أعتقد أنه بتراثه القوي كان له دور حاسم في صناعة الإخوان السوريين مع نهايات النصف الأول من ذلك القرن) Commins, David 1990, Islamic Reform Politics and Social Change in Late Ottoman Syria.

([7])أستخدم هنا لفظة الدولة من ناحية إجرائية كما تجسدت في سورية، ولا أقصد هنا الدولة بمعناها الحداثي السياسي، فهؤلاء بعيدون عن هذا المفهوم، بل هم يمثلون الضدية الكبرى التي تقف في مقابل الدولة.

([8])انظر: مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإخوان المسلمون في سوريا ممانعة الطائفة وعنف الحركة، ويمكن الاطلاع على البحث: https://www.goodreads.com/book/show/13530526

([9])حول بعض من معالم الجدل وتحركات الإخوان من حلب وحماة وحمص انظر:

Pierret, Thomas (2013): Religion and State in Syria The Sunni Ulama from Coup to Revolution, Cambridge Middle East Studies, P. 184f.

([10])الأتاسي، أحمد نظير: البعث والإسلام في سوريا: سلالة الأسد في مواجهة العلماء: http://alaalam.org/ar/religion-ar/item/321-البعث-والإسلام-في-سوريا-سلالة-الأسد-في-مواجهة-العلماء         .

([11])وخاصة في درسه الكبير:

Taylor, Charles (2007): A Secular Age, Belknap Press of Harvard University Press.

([12])انظر لها:

Khatib, Line (2011): Islamic Revivalism in Syria: The Rise and Fall of Ba’thist Secularism, Routledge.

([13])نعني تماماً بحثها:

Khatib, Line (2016): More Religious, yet still Secular? The Shifting Relationship Between the Secular and the Religious in Syria, Syria Studies 8 (1), 40-65.

وفيما يلي ستكون الإشارة إلى هذا البحث في متن النص.

([14])Taylor, Charles (2011): Western Secularityin: Rethinking Secularism,eds. Craig Calhoun, Mark Juergensmeyer, and Jonathan Van Antwerpen, New York, NY: Oxford University Press, P.38

 ([15])انظر الجانب من اللقاء: https://www.youtube.com/watch?v=ZczHkDXKrHg&t=11s

([16])مصدر سابق.

 ([17])«لقاء السيد الرئيس /بشار الأسد/ مع قناة الاخبارية السورية» 17.04.2013: http://www.presidentassad.net/index.php?option=com_content&view=article&id=1112:17-2013&catid=305&Itemid=469

([18])مصدر سابق.

([19])لا يتسع المجال أمامنا في تناول هذه التصريحات الهائلة التي تصدر عن رؤوس هؤلاء فيما يخص العلمانية. وأتمنى أنْ تكون هناك مناسبة أخرى في مناقشة المفهوم الجوهري للعلمانية ضمن سياق الخطاب الديني السوري نفسه. لكن نشير مثلاً سريعاً إلى أحد تلك التصريحات، التي تستند خطيب إليها بكونها مثالاً على علمانية الخطاب الديني السوري، قول أحمد حسون: «العلمانية ليست ضد الدين وأنا مسلم علماني»  (https://www.dw.com/ar/مفتي-سوريا-الأول-العلمانية-ليست-ضد-الدين-وأنا-مسلم-علماني/a-2851007     )؛ لا بل أنه يرى نفسه في لقاء مع دير شبيغل الألمانية (November 08, 2011) بأنه، أي حسون، مفتياً «لجميع السوريين البالغ عددهم 23 مليونًا ، وليس فقط المسلمين ، بل أيضًا المسيحيين وحتى الملحدين» (Interview with Syrian Grand Mufti ‘Assad Could Step Down After Free Elections, on: https://www.spiegel.de/international/world/interview-with-syrian-grand-mufti-assad-could-step-down-after-free-elections-a-796363.html                    ‘)

([20])مجلس الإفتاء السوري: الجهاد دفاعاً عن النظام “فرض عين”: https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2013/03/11/مفتي-سوريا-يعلن-الدفاع-عن-النظام-فرض-عين-ويدعو-لقتل-الثوار.html    .

([21])https://www.youtube.com/watch?v=1GfL-9dVxQU.

طاولة مستديرة: آفاق العلمانية في سوريا

طاولة مستديرة: آفاق العلمانية في سوريا

قبل اندلاع انتفاضات العالم العربي، كانت مسألة العلاقة بين الدين والدولة والعلمانية والحداثة تحتل الحيز الأكبر من النقاشات والمناظرات، سيما وأنّ نقد أو تحليل البنية التسلطية الأمنية للأنظمة الحاكمة كان من المحظورات، على الأقل علناً

تسعى هذه الطاولة المستديرة/ الملف إلى طرح أسئلة عن آفاق العلمانية في مستقبل سوريا. كيف يمكن تحديد علاقة الدولة والمجتمع بالأديان ودرجة حضور الدين في الخطاب العام والحيز العام؟ 

ليست العلمانية مشروعاً مكتملاً أو منجزاً حتى في معظم الديمقراطيات الغربية التي حاولت حصر مشكلة الدين في الحيز الخاص. وقد ظهر ذلك جلياً مؤخراً مع صعود تيارات اليمين المتطرف في كثير من الدول الغربية التي تدّعي تطبيق العلمانية، مما يبرهن أن الحيز العام في معظم دول العالم ظل مُشرّباً بالدين ومظاهره ورموزه، وإن بدرجات مختلفة

أما في العالم العربي، وفي السياق السوري، فقد تجلت حدة استقطاب طرح مسألة فصل الدين عن الدولة في المجال العام بصدور عدد كبير من الكتب حول هذا الشأن، بالإضافة إلى النقاشات المحتدمة التي رافقت سابقاً مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في سورية عام 2009، ومقترحات تشريع الزواج المدني، وتشديد العقوبات على جرائم الشرفوغيرها.

 بعد اندلاع الانتفاضة السورية وتحولها إلى نزاعٍ دمويٍ مزق النسيج الاجتماعي السوري، خسرت الدولة مواردها الاقتصادية وأصبحت مرتهنة سياسياً للدول الإقليمية والكبرى، فيما النظام السوري يدّعي العلمانية من جهة، ويقتل ويعتقل ويسجن الناس باسمها من جهة أخرى، كما أنّ معظم تيارات المعارضة الحالية ارتهنت لأجندة خارجية بعيداً عن فضاء الوطنية السورية، خاصة الجماعات المسلحة التي وُظفت لخدمة دول إقليمية ومخططات لها علاقة بالتوازنات أكثر مما لها علاقة بالمصلحة الوطنية السورية. هذا أدى إلى انتشار الخطابات الطائفية المدعومة من قوى ذات شعارات مذهبية مرتبطة بدول إقليمية على الأرض السورية. في هذا السياق الحربي، كيف يمكن أن نفهم دور العلمانية، وهل يمكن تطبيقها بعيداً عن تحويلها إلى أداةٍ قمعية وقناعٍ سلطوي، كما هي الحال في الأنظمة الشمولية العربية، بما فيها النظام السوري الذي حولها إلى مجرد تكتيكٍ يشكل امتداد لخطاب الحرب على الإرهاب؟

بعد سنواتٍ طويلة من الصراع ظهرت حقائق جديدة على الأرض، وبات الوضعُ مفتوحاً على احتمالاتٍ كثيرة، قد يكون التفكك ومأسسته أحدها، مما يُهددّ مستقبل سوريا والسوريين، كما تجدّدت النقاشات حول مسألة علاقة الدولة (المستقبلية) بالدين، خاصةً مع صعود الحركات الجهادية والطائفية وما خلّفه التدخل الخارجي والإقليمي في الوضع السوري من انقسامات وكراهية تعمل على تعميق الهوة بين السوريين.

ورغم الواقع المرير، مازال العديد من السوريين يبحثون عن حلولٍ ولو نظرية للخروج من الوضع المأساوي الناجم عن الفشل الذريع للحراك المدني وقمع الانتفاضة والكارثة التي خلفها النزاع.

في ظل هذا الوضع المأساوي:

(1): آخذين بعين الاعتبار تاريخ العلمانية وإشكاليتها ومرجعياتها، وخصوصية نشأتها، هل يمكن التفكير بصيغة أو خطاب علماني مثمر في السياق السوري، الذي يتسم بتعددية دينية وعرقية وثقافية؟

(2): يرى البعض أن الخطاب العلماني الذي كان سائداً قبل الانتفاضة، كان متمحوراً فقط حول فكرة العلمانية بمواجهة الدين، ما هي الأسئلة التي يجب طرحها والتعامل معها في سياق علاقة الدولة بالدين الإسلامي، وعلاقته بالأديان الأخرى؟ بعد كل ما جرى في سورية، باسم الإسلام والدين، هل يمكن علمنة الخطاب الديني؟ وماذا عن رجال الدين وعلاقتهم بالعلمانية، هل ساهم هؤلاء في تشويه فكرة العلمانية؟ وهل ما جرى باسم الدين ساهم في كشف زيف ما يستخدم سياسياً باسم الدين بما يصب في خدمة العلمانية مثلاً؟

(3): كيف يمكن للمواطنة التي تقوم على المساواة في الحقوق، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، وتحت حماية القانون، أن تغدو بديلاً عن الطروحات الدينية والإيديولوجية الأحادية؟ وهل من الضرورة أن تغدو كذلك ولماذا؟ وهل من بدائل عن العلمانية حال كانت غير ضرورية، سورياً وعربياً، وما هي؟

(4): ما هي الخطوات الضرورية للتمهيد لبناء نظام علماني تعددي في سوريا، تتمتع فيه النساء بحقوقهن الإنسانية الكاملة دون اختزالهن للجندر الذي ولدن به؟

(5): ما هي التيارات الكفيلة بتطبيق العلمانية وكيف يمكن إغناؤها؟ مع تزايد خطر مأسسة الطائفية والتغيرات التي رافقت النزاع المسلح، هل يمكن للعلمانية أن تكون منطلقاً لحلٍ مستقبلي في سوريا قد يخرج بها من مخاطر تداعيات الوضع الراهن؟

(6): كيف يمكن أن يلعب المثقفون/ات السوريون/ات دوراً في التمهيد لنشر ثقافة علمانيةيمكن أن تشكل أساساً لنظامٍ علمانيٍ جديد؟ وكيف يمكن ردم الهوة بين الداخل والخارج، فلا يكون مثلاً الإنتاج الثقافي في دول اللجوء معزولاً عن التغيرات والتحديات التي يوجهها السوريون في الداخل؟

(7): في كثير من الحالات، ظهرت إشكالية المثقف/ة العلماني/ة الذي يدعو لخطاب العلمانية لكن بلغة إقصائية تُنكر الحق بالإيمان والالتزام الديني. كيف يمكن تجاوز خطر الوقوع في فخ الاستبداد واستغلال القوى السياسية المهيمنة لخطاب العلمانية؟ وكيف يمكن المناداة بمشروع العلمانية بطريقة تحترم العلاقة مع الإيمان/الدين وما هي سبل وشروط التعايش معهما؟ 

(8): في ظل الانتفاضة/ الحرب وإلى الآن، ثمة سردية سائدة تزعم أن “بعض العلمانيين” يقفون في صف النظام السوري لأنه “أفضل السيئين” ورغبة منهم بالحفاظ على ما تبقى من مؤسسات “الدولة” و حمايتها من مخاطر وصول الإسلام السياسي إلى الحكم. إلى أي حد يمثل هذا الخطاب سنداً للاستبداد وفق مقولة البعض أو سنداً للحقيقة وفق البعض الأخر؟ هل ساهم خطاب كهذا في “تشويه” فكرة العلمانية، ولماذا؟

(9): ماذا عن الخطاب العلماني عند بعض المنحدرين من أقليات دينية وإثنية في سوريا، إذ تسود مزاعم بأنّ أغلب الأقليات السورية تُعتبر افتراضاً مؤيدة للعلمانية وإن كان الواقع مغايراً لذلك؟ ماهو برأيك سبب رواج هذه المزاعم وهل تستند إلى حقائق أم أنها جزء من الحرب الخطابية بين السوريين\ات؟

يدعوكم كلٌّ منصالون سوريا” وحكاية ما انحكت” و”جدلية التعبير عن آرائكم وتصوراتكم حول الأسئلة المطروحة أعلاه، وتقديم وجهات نظركم لإغناء الموضوع وتوسيع دائرة الحوار.

 

سينشر موقع ”صالون سوريا“ المساهمات التي ترده تباعاً ويقوم بتفعيل الروابط:

في «الكنيسة السنية» سورياً: بين صعود وسقوط أو أسد العلمانية

حمّود حمّود

أي علمانية تناسب سوريا!

سوسن زكزك

العلمانية، الأفق الممكن
راتب شعبو

العلمانية وشروط إمكانها في سوريا

جاد الكريم الجباعي

في تفكيك الخطاب العلماني ونقائضه

د. كريم أبو حلاوة

سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية

حسيبة عبد الرحمن

حال العلمانية في سوريا بعد تسع سنوات من الدمار
وائل سواح

العلمانية في سوريا ضرورة وطنية وديمقراطية
منى أسعد

العلاقة بين الدولة العلمانية والدولة المدنية

سحر حويجة

 

المنهج الماركسي لا يزال حياً وقابلاً للحياة

المنهج الماركسي لا يزال حياً وقابلاً للحياة

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

 تشكلت التيارات والأحزاب السياسية في سوريا في سياق النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وقادت النضال والعملية السياسية قوى تمثل البرجوازية والتجار وأصحاب الأملاك. أول الأحزاب الأيديولوجية  التي تشكلت، كان الحزب الشيوعي السوري في عام 1924، والحزب القومي السوري في1932، والإخوان المسلمين في 1932 وحزب البعث في 1940 والحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في 1940. اندمج الأخير مع حزب البعث وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1952. لم يبرز دور الأحزاب الأيديولوجية إلا بعد الاستقلال، مع اتساع الفئات الوسطى، ممثلة بالجيش والمعلمين والمحامين والمثقفين وقادة الحركة الطلابية والنقابات وغيرهم، من خلال الاستفادة من الحريات المكتسبة حينها.

في الخمسينات كان الحزب الشيوعي السوري يمثل اليسار، ويحظى بشعبية حقيقية خاصة بين الأقليات والأكراد. تعاون مع الوطنيين في النضال ضد الاستعمار وربط بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الإقطاع والبرجوازية، وقاده الجمود العقائدي إلى الاعتقاد أن الطبقة العاملة قادرة ومستعدة لإسقاط البرجوازية، واعتبر القضية القومية من قضايا البرجوازية وتقود إلى التعصب. وتشكلت منذ 1948 رابطة النساء السوريات واتحاد الشباب الديمقراطي، وهي منظمات رديفة للحزب مستقلة تنظيمياً عنه، وهي جزء من فروع اتحادات دولية.

 بدأت الانقلابات العسكرية المتتالية، منذ عام 1949 وتحولت سوريا مسرحاً للصراع بين العسكر والحكم المدني، حيث كانت القوى التقليدية ممثلة بحزب الشعب والكتلة الوطنية تُعارض دخول العسكر في السياسة، بينما وجدت أحزاب البرجوازية الصغيرة ضالتها في الجيش بسبب عجزها عن الحصول على النفوذ الجماهيري، خاصة بين الفلاحين، وفي مرحلة الخمسينات ساد مناخ شعبوي وسيطر المد القومي وبدت المسألة الديمقراطية بوصفها إطاراً للمسألة القومية، حتى أن خالد بكداش غير موقفه من المسألة القومية في عام 1957.

تُوج المد القومي بموافقة الحكومة والقوى السياسية الممثلة بالبرلمان على الوحدة مع مصر في عام 1958، غير أن حل الأحزاب السياسية وقمع الحريات، والتدهور الاقتصادي قادوا إلى الانفصال، وتركوا وراءهم نفوذ الاشتراكية الناصرية في الجيش والسياسة. وقد كان حزب البعث من المدافعين عن الحياة البرلمانية لكن جاء انقلاب الجيش بغطاء سياسي من حزب البعث، تحت مسمى ثورة ضد الرجعية؛ فتم  حل البرلمان وأممت الصناعة وأعلنت الأحكام العرفية وأصبحت القيادة بيد مجلس اسمه مجلس قيادة الثورة يتم تعيينه. وبعد انقلاب 1963 حصلت صراعات وتصفيات بين الأجنحة العسكرية مختلفة الولاءات السياسية وبين الجناح العسكري والسياسي في حزب البعث والتي انتهت بانقلاب 1970 مما منح القوة للعسكر على حساب السياسيين، ويمين حزب البعث على حساب يساره، وتحول السياسيون إلى واجهة للعسكر لا أكثر.

دخلت البلاد في مرحلة جديدة واستطاع النظام من خلال تشكيله الجبهة الوطنية التقدمية، الهيمنة وإلحاق الأحزاب السياسية المكونة لها بسياسته. ومع تشكيل هذه الجبهة انشطرت الأحزاب المكونة لها إلى قسمين قسم مؤيد وآخر معارض. وتشكل اليسار المعارض من الرافضين للدخول في جبهة النظام، إضافة الى الانشقاقات المتلاحقة  في صفوف الحزب الشيوعي. وأدى عدم شرعية وجود أحزاب خارج الجبهة، إلى جعل أي انشقاق في صفوف القوى الرسمية، يُوصف كمعارضة.

تميزت هذه المرحلة بأزمة اليسار السوري على أكثر من مستوى؛ فعلى الصعيد التنظيمي أشارت طبيعة الانشقاقات من القمة إلى القاعدة إلى غياب الديمقراطية في الحياة التنظيمية لهذه القوى. وعلى صعيد برامج وشعارات وأهداف المعارضة اليسارية فقد تقاطعت مع جبهة النظام في قضايا رئيسية كمناهضة الإمبريالية وتحرير الأراضي المحتلة والاشتراكية، وهذا أدى إلى أن القاعدة الجماهيرية التي   سعت المعارضة اليسارية لاكتساب دعمها، كانت نفس القاعدة التي يعتمد عليها النظام.

دفعت عدة أسباب كـ(التطورات الداخلية، وتزايد أعداد المغادرين صفوف أحزاب اليسار بسبب أزمته  السياسية والنظرية والتنظيمية، والتطورات التي طرأت على الحركة الشيوعية العالمية) باتجاه تشكيل الحلقات الماركسية على أساس من السجال السياسي والنظري بين أعضائها. هذه السمة ميزت مرحلة الحلقات الماركسية ورابطة العمل الشيوعي، وضعفت مع تشكيل الحزب في عام 1981 بسبب الاعتقالات المستمرة أو انسحاب  كوادر التنظيم، الذي تشكلت قواعده الأساسية من الشباب، خاصة الطلاب وأغلبهم يفتقر الى تجربة سياسية، ويتميزون بالحماس والاستعداد النضالي العالي. وفي حقيقة الأمر لم يخرج الحزب في فهمه الديمقراطي عن الأصولية الماركسية، ودعا لتشكيل الجبهة الشعبية التي تضم القوى المعبرة عن الطبقات الشعبية من أجل الوصول إلى السلطة.

في عام 1979 شهدت الساحة السورية تطورات هامة فتحت آفاقاً جديدة، قوامها مواقف وسجال وحراك سياسي، على خلفية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين  نذكر منها تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي من الأحزاب المنشقة عن جبهة النظام. ونشير إلى الإضراب العام الذي عم معظم المدن السورية عدا دمشق خلال النصف الثاني من شباط والنصف الأول من آذار عام 1980. هدف التجمع الوطني الديمقراطي حينها إلى تطوير الإضراب حتى يصل إلى عصيان مدني عام، يتم من خلاله فرض التحول الديمقراطي. غير أن الإخوان المسلمين استطاعوا تحويله الى حركة وتمرد وأحداث شغب، وانتهى الإضراب بزج كبار المحامين والقضاة والنقابيين في السجن، وعلى إثره كانت آخر مظاهر الاستقلالية للحركة النقابية في سوريا قبل تحويلها الى أبواق للسلطة.

وبدأ العنف المتبادل بين السلطة والإخوان. وبعد القضاء على الإخوان قامت السلطة بملاحقة الأحزاب اليسارية بهدف تجميدها، أو تصفيتها.

توجهت المعارضة اليسارية مجبرة بسبب القمع السافر إلى العمل السري، الذي شكل طوقاً خانقاً حجمّ من دورها، وفرض قيداً شديداً على التنظيمات السياسية وحدّد آليات عملها قسرياً، على حساب المبادئ التي يدعو التنظيم إليها، سواء في حياته التنظيمية الداخلية، أم في علاقته بالآخرين، حيث تتقدم العلاقات الشخصية المبنية على الثقة على حساب العلاقات التنظيمية، ويسيطر هاجس الرقابة الأمنية، والمخاوف المستمرة من الخروق الأمنية، التي يلعب النظام على وترها.

وانعكس تأثير النزيف المستمر للكوادر والقيادات نتيجة الاعتقالات على صعوبة تجديد البنى التنظيمية وصعوبة عقد الاجتماعات والمؤتمرات. وفي ظروف الملاحقة أو حملات الاعتقالات، تحولت العلاقات التنظيمية إلى علاقات خيطية، لنقل آخر الأخبار. وفي حال الملاحقة أو التعرض للمراقبة، كان أمام الأعضاء خيارين إما التخفي أو تجميد العضوية.

وهذا أدى إلى اقتصار النشاط السياسي في ظروف العمل السري على دائرة ضيقة من العلاقات الوثيقة مع أشخاص مقربين، لذا فقد اتخذ النشاط طابعاً عائلياً يعزز العلاقات الشخصية، وأثر هذا التغيير على بنية الأحزاب وأدائها السياسي. فتح العمل السري المجال للتشكيك، وإلقاء التهم والتخوين لأتفه الأسباب، مما وتّر العلاقات بين هذه القوى وبين الأفراد في التنظيم الواحد.

  شكل السجن مكاناً ملائماً بين المعتقلين للحوار والتواصل، سواء بين أعضاء الحزب الواحد أو بين الأحزاب المختلفة. وعانى المعتقلون من غياب الدعم المعنوي نتيجة حالة الانحسار الجماهيري، ولم يطالب أحد بهم، سواء من الناس أو المنظمات أو الأحزاب. وكان الدعم المادي يقتصر على دعم الأهل، والكثير من الحالات فقدت دعم أهلها لأسباب مختلفة منها: عدم القدرة المادية أو لاعتراض الأسر على مواقف أبنائها السياسية. هذه الأسباب إضافة لظروف السجن القاسية، والاعتقال لمدة طويلة، وتراجع دور الأحزاب ونشاطها خارج السجن، دفعت مجموعات من المعتقلين، للتململ والمساومة مع النظام.

 وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي دور مؤثر على صمود الكثير من المعتقلين اليساريين وعلى تحولهم الفكري من موقع لآخر. وبدأ النظام بإصدار أحكام قاسية بحق المعتقلين بعد سنين  ليبرر اعتقالهم، ومن سخرية القدر أن تتم محاكمتهم بتهمة  مناهضة النظام الاشتراكي .

 شكل عقد التسعينات، مرحلة مخاض صعبة لمرحلة ما بعد السجن، حيث بدأت الأحكام تنتهي، وعلى التوالي خرج المعتقلون من السجن بعد سنوات طويلة، وكانت واضحة المتاهة التي آلت اليها الأمور، حالة الفوضى في الأفكار والرؤى، ظاهرة الندم على سنين ذهبت سدى، والعمل بأقصى ما يمكن و بكل المتاح لتعويض ما فات من خسارات في العمل والدراسة والحياة الخاصة. لمس الكثير من الأشخاص عدم التقدير والاحترام لتجربتهم، وعانى الكثير من الضغط الاجتماعي والحصار الأمني بعد خروجهم من السجن من دون أن يتلقوا أي حماية، وكانت مرحلة أشبه بالكمون السياسي. كما برزت حالات من الشللية للثرثرة بعيداً عن السياسة والهم العام، وكان من الواضح التوجه والنكوص الى التكوينات الأولى الطائفية والعائلية، وانتشرت المهاترات والإساءات الشخصية، إضافة إلى التشكيك والإقصاء وغيره من العوامل الضاغطة.

 أما الموقف من المرأة فقد سيطر عليه عقل ذكوري، بإقصاء النساء قصداً عند بعض القوى اليسارية، بذريعة الخوف عليهن وحماية لهن من الاعتقال، ولتكون مهمتهن تربية الأطفال ودعم الزوج في حال اعتقاله. اختلف الوضع عند حزب العمل حيث شكلت النساء ثقلاً في عداده منذ الحلقات الماركسية، وزادت في فترة تشكيل الحزب. وكان لتوجه الحزب للشباب وخاصة الطلاب دور في اكتساب النساء كما أنه تميز بخطاب ثوري ضد العادات والتقاليد والدفاع عن المساواة بين المرأة والرجل، وكنا نلحظ الاحترام والتقدير من قبل الذكور للنساء المناضلات في صفوفه سواء المتخفيات أو المعتقلات، مما شجع على التحاق النساء بالحزب، إضافة الى نشاط النساء في صفوف الحزب، لكن أعتقد أن الدور الكبير لموقف حزب العمل المختلف من النساء يُعزى لبنية الحزب المكونة من الشباب\الطلاب التي تميزها عن الأحزاب الأخرى. لكن آثار النظرة الذكورية التقليدية للنساء عادت للظهور بعد خروج كثير من المعتقلين\ات الذين كانوا من جيل الشباب من السجن.  أسمح لنفسي بالقول إن تلك كانت المرحلة الأسوأ في تاريخ اليسار الثوري العاجز عن نقد ذاته وتجربته، والذي اتبع سياسة الهروب إلى الأمام.

جاء ربيع دمشق الذي حرك الساكن وأعاد الروح بعد موت وقام الناس من جديد، وكان اليسار جزءاً هاماً من المشهد. وكان من سمات هذه المرحلة الانتقال إلى العلنية، مع الاستعداد لتحمل كلفة ذلك، وبروز دور الأشخاص وليس الأحزاب، وساد خطاب تم التركيز فيه على الحوار مع النظام من أجل الانتقال الديمقراطي. وكانت دعوات الحوار تتجه إلى جهاز الأمن وليس لطرف سياسي من النظام،  وإلى جانب المنتديات نشطت حركة معارضة في الكتابة والإعلام. وصارت الديمقراطية هي البند الوحيد الذي تدعو له المعارضة بكافة أطيافها، كما ظهرت للوجود هيئات ومنظمات حقوقية تدافع عن قضايا المرأة وحقوق الإنسان والمعتقلين لمؤسسيها جذور أو انتماءات يسارية.

كان ربيع دمشق حركة نخبوية ضمت رموزاً وأصحاب تجارب سياسية أو اعتقالية سابقة، وكان اهتمام الشباب بها ضعيفاً، لكن كان هناك مشاركة واسعة لليسار الثوري المعارض. ونظراً لغياب رؤية واضحة فقد وقع اليسار ورموزه في فخ التحالفات والمشاركة في إعلان دمشق عام 2005، الذي غاب عنه مشروع مجتمعي وتم التركيز فيه على الديمقراطية في الوقت الذي انتشرت فيه مقولة انتهاء عهد الأيديولوجيات، حيث تحولت الديمقراطية إلى إيديولوجيا تغيب عنها التحديات التاريخية الموضوعية وتغيب عنها الرؤية المستقبلية للقضية الاجتماعية.

 واعتبرت القضايا الأخرى ثانوية، ومنها، الصراع الاجتماعي، والحداثة وقضية الحريات، هذه القضايا في واقع الأمر تتقدم وتتراجع معاً، ضمن الفهم الجدلي لحركة التاريخ.

جاءت انتفاضة الشعب السوري في غفلة عن الأحزاب السياسية، ومثلت هيئة التنسيق بمكوناتها اليسار، لكن لم يبرز دور أحزابها كأحزاب قادرة على تصويب الشارع أو قيادته ولم تتميز بشعارات خاصة، باستثناء شعاراتها ضد العسكرة وضد التدخل الخارجي بعد فوات الأوان، ولم تستطع أن تعبئ الشارع ضمن أطرها التنظيمية، بل انقسمت على ذاتها أكثر من مرة، لكنها اكتسبت شرعية ما دولياً.

وفي نفس الوقت تشكلت منظمات مجتمع مدني على هامش الهيئة أو بمبادرة من أعضائها، لكن كانت بمعظمها لا تمثل في الواقع نضال المجتمع المدني، بل استخدمت من أجل اكتساب مواقع أو تعزيز أدوار شخصية.

نحن بحاجة ليسار عقلاني يحتل مكانة مرموقة لا أن يكون على هامش المجتمع، وأن يكون دوره الكشف والقبض على المشكلات الأساسية في المجتمع، حيث إن ضعف اليسار لا يعود إلى شدة نفوذ قوة الإيديولوجيا التقليدية فحسب، بل بسبب عجزه التاريخي عن وضع الديمقراطية في العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة الوطنية. وجاء إخفاق المشروعين اليساري والقومي بسبب النخبوية وعدم كشف الروابط بين الديمقراطية والمجتمع المدني، من أجل وضع الديمقراطية في سياق المشروع النهضوي.

 يمكن القول إن الكثير من المقولات الماركسية التي أنتجها واقع وعالم مغاير لواقع وعالم اليوم أصبحت شائخة يجب استبدالها بما يلائم واقع اليوم، ولكن يبقى المنهج الماركسي (القائم على الجدل والتفاعل بين الظواهر والقوى) حياً وقابلاً للاستفادة منه في حل التناقضات القائمة في المجتمع الإنساني سعياً لغد أفضل.

اليسار التائه بين شعارات متنافرة

اليسار التائه بين شعارات متنافرة

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

تحول اليسار إلى مصطلح فضفاض ضبابي، دون محددات نظرية وسياسية ومنظومات فكرية أو ومرتكزات اجتماعية، وعليه أصبح من الصعب تحديد اليسار بمروحته الواسعة. ولأن المصطلح يحمل لغزاً سحرياً غامضاً مازال يجذب إليه بعض الفئات الشابة المتنورة رغم أن مساحة حضوره تضاءلت، فأضحت كواحة فاتتها الأمطار زمناً، ولم يبق منها إلا شجر خريفي باهت. وكان سقوط الاتحاد السوفيتي كسهم أصاب اليسار، وأضعفه  في العالم ككل، وفي سوريا، بغض النظر عن إيمانك بالتجربة السوفيتية أو كفرك بها، قربك وبعدك عنها، فرمزية الخزان الاشتراكي تشظت، وكأن التاريخ يخرج لسانه لنا كما فعل الله على مسرح البولشوي (تفاحة آدم)، فانقلب  اليسار على رأسه ماشيا، ليصل المنقلبون إلى من هزمهم، ويعلنوا التوبة وطلب الرحمة سواء في الخارج أو الداخل، قبل أن يستظلوا بظل رايات المنتصرالحضارية” و”الإنسانية” والديمقراطية “. أما من  بقي مغرداً خارج هذا السرب، فلا تزال خطواته متعثرة، وهو ماض  في طريق متعرج مليء بالأفخاخ والحفر، ليصل إلى كوة مشكاة ضوء خافت، لا يعلم إن كانت حقيقة أم سراباً، محاولاً شق طريق غامض من جديد.

وشكل سقوط الاتحاد السوفيتي المفصل والمنعطف الرئيس فى مسار نكوص اليسار العالمي (1990)، فالكثير من الظواهر والمواقف والتوهان والتفكك ترتب على هذا التاريخ، رغم أن بعض الظواهر والانشقاقات سبقت هذا التاريخ وشقت طريقها نحو مقاربات نظرية وسياسية جديدة، بما فيها اليسار السوري بشقيه الكلاسيكي، أو ما عرف باليسار الجديد (آنذاك) رابطة العمل الشيوعي. فأصبحنا أمام عودة ضالة إلى التنوير، ومرحلة الدعاوة مشفوعة بتجربة الشعوب النضالية في العالم ككل، من نجاحات وإخفاقات بعد الهزائم المتكررة له بفعل موضوعي وذاتي.

ولكن من بقي يسارياً؟ ووفق أي تعريف ومنظومات تتحدد هويته؟ هل هو انتماؤه الفكري؟ أم نهجه السياسي ؟ برنامجه ؟  لمن يتوجه وما هي استهدافاته الطبقية ؟ ولذا أضحى من الصعب تحديد تعريف اليساري  الجديد، هل هو الاشتراكي؟ الماركسي؟ الشيوعي؟ القومي؟ ورغم ذلك فالأسئلة المطروحة تدور في الفلك الفلسفي الماركسي وتعبيراته السياسية الواسعة، وهي تعبر عن أزمة اليسار ككل، والأدق غيابه عن الفعل النظري والسياسي، وتحديدا في منطقتنا العربية، ونخص سورياإذ شكل اليسار السوري طوال عقود خلت واحة غناء للجدل الفكري والسياسي والثقافي ووسمها بمفرداته ورؤاه،  نتيجة حضوره ووزنه، حيث استطاع  نقل قوى وأفراد من ضفة لأخرى خلال مرحلة  الصعودنتيجة الانتصارات الكبرى للفكر الاشتراكي، إثر هزيمة السوفييت لألمانية النازية  وحرب كوريا، ومن ثم حركات التحرر ضد الاستعمار أواسط الخمسينات  وستينات القرن الماضي، مروراً بظاهرة تشي غيفارا للعمل الثوري المسلح، والحركات الطلابية (1968)  في فرنسا وأوربا وأمريكا وتشيكوسلوفاكيا (ربيع براغ)، وانتهاء بانتصار الفيتناميين (1975) وتمدد اليسار الجديد الذي عبر عن أزمة في الفكر الاشتراكي السوفييتي والمركز الأممي.

و تراجع اليسار العالمي بدءاً من مرحلة السبعينات وبشكل خاص في الدول  العربية، رغم ظهور قوى سياسية وفكرية جديدة بعد هزيمة حزيران (1967)  كرد عليها، إلا أن قوى اجتماعية واسعة من الطبقة الوسطى والفقيرة عادت إلى ملاذات تقليدية (كما تظن) آمنة وأبرزها الدين. وذلك استكمالا لهزيمة القوميين (الناصريون والبعثيون) التي توّجت بمجيء السادات والأسد وسياستهما ضد القوى اليسارية من قمع واضطهاد، وفتح الرتاجات لنشاط الإسلاميين وبناء الجوامع وغير ذلك كجزء متتم للسياسات الغربية للانقضاض على المد الاشتراكي بأموال الخليج العربي، مما أعاد الروح ثانية للقوى الإسلامية التي أفاقت من غفوة طويلة، كي تكبر وتتجبر وتتوعد، وكان لنجاحها الكبير في هزيمة السوفييت بأفغانستان، صدى تردد  في البلدان الإسلامية ككل، فانتعشت هذه القوى واشرأبت برؤوسها.

و تزامن ذلك مع انتفاضة إيران وسقوط الشاه وصعود الإسلام السياسي الثوريواليمين المحافظ والمعولم في بريطانيا (تاتشر) وأمريكا (ريغان)، ليتراجع اليسار بعد مرحلة ازدهار، ويأفل نجمه مع تداعي الاتحاد السوفييتي، ويغادر جزء من قواه مواقعه إلى الضفة الأخرى التي حاربوها زمنا، وفي طليعتها الضفة النيوليبرالية والدفاع  والانتصار لكل سياسات الغرب الاقتصادية والسياسية والنيوكولونيالية والعولمة المتوحشة، بحجة مسميات حقوق الإنسان ومجتمع مدني (الشعارات التي سوقها للعالم من أجل مصالحه).

و بهذا فقد اليسار بوصلته ومعاييره التي نشأ عليها، وأهمها مناهضة الغرب الاستعماري ومركزه الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي الحواضر الغربية، والدفاع عن الفقراء والمهمشين والاستقلال الوطني  في حالة تغريبية عجيبة ،  وأصبح حلم معظم هذه القوى وحتى الأفرادالعمل  كوكلاء مؤجرين وأحيانا بالمجان عن مصالح  تلك البلدان بوجه شعوبهم المقهورة والمسحوقة،  والجزء الثاني التحق بالإسلام سواء السياسي أو الدعوي، ولم يبق خارج الاتجاهين سوى تجمعات وأفراد يتعثرون في قناعاتهم.

كل هذا يعني أن اليسار فقد برنامجه الثوري التغييري، ولم يعد أداة تمثل مصالح الطبقات الفقيرة، وما كان ينشده ويعمل لأجله من تعليم مجاني وصحة ومساواة قد تغير إلى الفكر الليبرالي واقتصاد السوق، وكيف يمكن الإثراء أجيراً ووكيلاً لدى الليبرالية والنيوليبرالية؟ حاملا ومدافعا عن برنامجها، في ارتكاسة على منجزات اليسار، إذ لم يعد لديه سوى كلمات محددة، كالديمقراطية، متناسيا أنها مرتبطة بالمحتوى الاجتماعي، في استنساخ ممسوخ لشعارات عدوه الطبقي والسياسي إلى وقت قريبمتعاطيا مع الديمقراطية  كحل سحري لكافة المشاكل والأزمات، كما كان يسوق للاشتراكية من قبل دون قراءة للواقع ومعطياته .

وإذا أردنا القيام بمراجعة لأهم مواقف اليسار السوري وتحديدا مع بداية الانتفاضة السورية نجد:

 الحزب الشيوعي السوري الرسمي وهو حليف النظام السوري إلى الآن، وقد تعرض لانشقاقات متعددة عبر تاريخه، كما غادر تلك الأحزاب معظم  الكوادر والأعضاء متجهين إلى المجتمع المدني وسواه كـرابطة النساء السوريات، وانسلخوا عن الفكر الشيوعي، و أمسوا سياسيا عند الائتلاف السوري بعصبه الإيديولوجي الإخواني  (إثر انتفاضة 2011)  ومن تبقى منهم في  الأحزاب الرسمية، لا يزال لديهم مصالح مع البرجوازية البيروقراطية في دمشق، ويدافعون عن النظام

أما حزب الشعب أو المكتب السياسي (سابقاً) وهو انشقاق الحزب الشيوعي السوري (1972)، فقد انخرط بالحراك السلمي ودافع عن التسليح والتطييف، و جاء موقفه  متسقاً مع التطورات العالمية والمحليةويسجل للحزب  كحزب شيوعي (حتى ذلك الحين) أنه أول من دعا  للتحالف مع القوى الإسلامية الجهادية المتشددة الصاعدة عام (1980) في مرحلة الصراع المسلح مابين هذه القوى و النظام السوري، وكان رد الإسلاميين واضحاً، إذ صدر عنهم بيان وزع في مدينة حلب بعنوان عودوا إلى أوكاركم أيها الشيوعيون، وقد تعرض الحزب آنذاك لحملة اعتقالات واسعة. وفي ذات التاريخ صدر موقف شهير للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو تجمع المعارضة اليسارية القومية والماركسية، وصف ما يجري من صراع  في سوريا  بالانتفاضة الشعبية والليبرالية،  وقد خرج عن هذا النسق رابطة العمل الشيوعي، التي اختطت لنفسها طريقاً ثالثاً بعيدا عن القوى الإسلامية الظلامية وعن النظام القمعي الديكتاتوري الشمولي.

وبالتالي لا عجب  من تحالف حزب الشعب مع الإسلام السياسي والمتطرف إثر الانفجار السوري الكبير (2011) وبعد مغادرة التنظيم التجمع الوطني الديمقراطي، والالتحاق بالمجلس الوطني والائتلاف الوطني  (مركز الثقل فيه للإخوان المسلمين والباقي يدور في فلكهم) لأسباب سياسية، براغماتية، قائمة على الحقد على النظام، إضافة لتوجهات إقليمية ودولية، وبالنتيجة هو تحالف ما يدعى ببعض قوى اليسار مع الإسلام السياسي وحتى الراديكالي. وقد سبق ذلك، التنسيق بينهم وبين الإخوان المسلمين فيما يعرف بإعلان دمشق ، وتبادل رسائل الإعجاب بالتوجهات المدنية  للإخوان. فحزب الشعب غير رؤيته لطبيعة الثورة وقواها وبرنامجها، وأصبحت القوى المضادة  للثورة ثورية وحليفة، لأنها تريد إسقاط النظام بكل الوسائل والأدوات، ورغم ذلك لم يستطع الحزب توسيع قاعدته الجماهيرية وإعادة إنتاج ذاته كحزب قوي وفعال.

هناك أيضاً تنظيم حزب العمل  الشيوعي (رابطة العمل) الذي سبق وشكل المعارضة اليسارية الأساسية في سوريا منذ تأسيس الرابطة (1976) وإلى حين تصفية التنظيم (1992) إثر حملات الاعتقال  المتتالية، والذي أعاد نشاطه ثانية عام 2005،  فقد انخرط بالانتفاضة السورية  عندما كانت سلمية، ورفض السلاح والتطييف كباقي أحزاب هيئة التنسيق باعتباره مكونا أساسيا بها، والتنظيم يتأرجح بين ماضيه الشيوعي(بما يتضمن من برنامج لصالح الفقراء والديمقراطية) وبين وجوده في الهيئة العليا للتفاوض، حيث القوى المضادة للثورة من إسلاميين ومسلحين  ومرتزقة، ودول مناهضة لحرية واستقلال الشعوب. واستطاع التنظيم في بداية الانتفاضة استقطاب كتلة شبابية، لكن متغيرات الشرط السوري من حرب وقمع  وتهجير هجرت معظمهم ، كما أدت الحرب المجنونة إلى انكفائهم، كما حصل للشعب السوري ككل، وبقي القليل منهم في التنظيم، وبهذا فشل الحزب  في التحول إلى حزب جماهيري  رغم رمزيته النضالية. وفي سياق ذكر حزب العمل الشيوعي ونتيجة حيويته الفكرية والسياسية، لابد من التطرق إلى توجهات بعض أعضائه السابقين ممن لهم السبق في مغادرة الشيوعية والمراجعة النظرية داخل معتقلات النظام، والتي بدأت مع حركة  (ليش فاليسا) واستكملت بناءها النظري بحروب أمريكا في المنطقة، فأصبح بعضهم منظر الاحتلال التقدمي” الإنساني لقتل مئات آلاف البشر للتخلص من ديكتاتور و المجيء بواجهات حضارية من أحزاب وقوى طائفية تدمر ما تبقى من بلدان وأوطان، وتكاثر المريدون لهذا التوجه من ماركسيين وقوميين، وأصبح  حزبا كبيرا دون تنظيم ببرنامج واضح، وهو انتظار الغزو القادم من الغرب، ليهللوا له، وشكل البعض منهم تجمعيمواطنةو حركة معاًوكلاهما يصب في الطاحونة الغربية.

بقيت القوى القومية (المهزومة أيضاً) وبالأحرى الاتحاد الاشتراكي الذي انخرط ا بالانتفاضة الشعبية، وشكل العصب الرئيسي لهيئة التنسيق،  ولكن بعض أعضائه  لم يشذ عن السياقات العامة، فترك التنظيم و التحق بالائتلاف وبالقوى الإسلامية الجهادية، واعتنق أيديولوجيتهم . وبعد أن استطاع الإسلام السياسي استثمار طرق اليسار في الاستقطاب الجماهيري  بتقديم الخدمات وبناء شبكات أمان اجتماعي، وباستخدام العنف (عنف القوى المضادة للثورة) الجهادي الذي أخذ حرب العصابات ووظفها لتحقيق أهدافه المتساوقة مع الغرب بمعظم الحالات . أما اليسار فوجوده بقي رمزيا بلا حضور ولا برنامج ، لأنه لم ينهض من كبوته بعد، ولم يعد إنتاج نفسه وفق برنامج وآليات عمل جديدة ، ولذا فشل في الاستثمار بالانتفاضة السورية وتوسيع قاعدته الشعبية، خصوصا وهو مكشوف الظهر، بل عار، في حين يفتح الإعلام، و تتدفق الأموال إلى القوى الإسلامية المسلحة للاستثمار فيها  من الخليج العربي وتركيا بدعم أمريكي غربي، ليغير موقع سوريا التحالفي من الشرق إلى الغرب، وهذا كله طبعاً ليس من أجل حرية الشعب السوري الذي  قتل الكثير منه بنيران السلاح السوري الروسي الغبيوالسلاح  الأمريكي الذكي؟

اليسار السوري وسؤال الفعالية

اليسار السوري وسؤال الفعالية

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

تبدو قوى اليسار السوري المتعددة، ضعيفة تتسم بالتشرذم والتيه الفكري، رغم أن حدثًا تاريخيًا -وهو انتفاضة السوريين بعد عدّة عقود من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة والمتفاقمة، وغياب الحريات العامة وتكميم الأفواه- كان ملائمًا لتطور هذه القوى اليسارية وتبوئها موقع الصدارة في تاريخ سوريا الحديث، غير أن ذلك لم يحدث! ما دفعنا لسؤال عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية والإعلامية السورية من مختلف المشارب، عما تبقى الآن من “يسارية” اليسار السوري، وعن حضوره في المشهد السياسي السوري منذ نصف قرن، والقمع الذي تعرض لهبعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهل كان فاعلًا في أوساط السوريين بمختلف أعمارهم وشرائحهم في العقد الأخير، وماذا عن موقفه من الأزمة السورية المشتعلة منذ نيف وسبع سنوات؟

شعبوقوى اليسار السوري ضعيفة ومعزولة

يقول الطبيب والكاتب راتب شعبو والذي قضى 16 سنة متّصلة في سجون النظام السوري: “حين رفع السوريون صوتهم في المظاهرات تكلموا لغة وطنية ويسارية، تكلموا عن شعب سوري واحد وعن ديموقراطية وحرية وكرامة وعدل، غير أن القوى اليسارية مع ذلك لم تستطع قيادة الحراك، ولا حتى أن تكون جزءًا مؤثرًا في قيادته. تصدرت الحراك قوى تكفر بالديموقراطية وبالحرية وبوحدة الشعب السوري، وهذا يقول إن الحاجة الفعلية والعميقة للشعب السوري (يسارية)، وإن القوى الفاعلة تشد الدفة إلى اليمين ثم اليمين المتطرف. لكن لماذا يفشل اليسار في أن يكون قوة فاعلة في ثورة (يسارية) في العمق؟”.

يضيف صاحب رواية «ماذا وراء هذه الجدران»: “لا يكفي “سوء اليسار السوري لتعليل هذه المفارقة، وإنما يجب توسيع دائرة البحث، فمن الملاحظ أن اليسار السوري بكامل طيفه قد فشل، من كان منه مبدئيًا ومن كان براغماتيًا، من كان واقعيًا ومن كان نصوصيًا، من تحالف مع الاتحاد السوفييتي ومن مال إلى الشيوعية الأوروبية ومن استهدى بأصولية ماركسية، من عارض السلطات القائمة وطالب بإسقاطها، ومن هادن السلطات القائمة وتحالف معها، من قبل العمل مع المعارضين الإسلاميين ومن رفض العمل معهم.. إلخ. كما لو أن تربتنا غير صالحة لنبتة اليسار”.

وبهذا يرى شعبو أن مشكلة اليسار السوري “ليست في صواب أو خطأ خياراته، المشكلة في أن خياراته لا تجد- بفعل القمع المستمر- فرصة كافية لتموت، أو لتختبر قابليتها للحياة. هذا الواقع لم يؤد فقط إلى تهميش مزمن للقوى اليسارية المعارضة، بل أدى إلى حرمان هذه القوى من تطوير ذاتها، فبقيت ضعيفة ومعزولة، ولم تراكم أية خبرة يعول عليها، فلم تكن في ثورة 2011 أفضل حالًا منها في سنوات الصراع العنيف على السلطة الذي شهدته سوريا بين 1979 و1982، الاصطفافات نفسها، والتنافر نفسه، والفشل نفسه”.

الأتاسي: جردة حساب لمسيرة انحدارية

من جهته، يقول المهندس نشوان الأتاسي: شكّل مصطلح اليسار في سوريا – على غرار مصطلح الاشتراكية- عباءة فضفاضة انضوت تحت غلالها فرق وجماعات وأشباه أحزاب، كما شخصيات، متنافرة ومتناقضة؛ من يسار البعث (بأجنحته المتعددة والمتصارعة)، إلى اليسار الناصري الهيولي، إلى اليسار القومي العربي المتمركس، وأخيراً وليس آخراً، اليسار الماركسي المتفتت الذي تشظى إلى فرق شتى”.

ويردف صاحب كتاب «تطور المجتمع السوري 1831 – 2011» مضيفاً “المشترك الوحيد بين كل تلك الأجسام كان رفع ذات اللافتة/الشاخصة، بيد أنها اختلفت وتباينت وتصارعت في كل ما عدا ذلك، بل إنها عمدت إلى تصفيات بينية، كلما سنحت لها فرصة ذلك، بطرق أشد عنفًا وهمجية من تلك التي مارستها مع من يفترض بهم أن يكونوا أعداءها (الطبقيين)، وقد تمظهر ذلك في أشد صوره وضوحًا إثر اندلاع ثورة السوريين عام 2011، الحدث الذي ساهم في استكمال تشظي هذا اليسار وانقسامه عموديًا ما بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام على أسس، أبعد ما تكون عن الفكر والثقافة أو النهج السياسي، إن لم نقل على نقيضهما!”.

ويتابع الأتاسي: “بناء على هذا وفي التحليل النهائي، يتعذر القول بوجود (أيديولوجية) أو فكر محدد كان يحكم مسارات تلك الأجسام وأساليب عملها السياسية، الأمر الذي لم يكن خافيًا على معظم (الجماهير) التي ادعت تلك الأجسام تمثيلها، ولهذا لم يكن لها من تأثير يذكر عليها، لا من الناحية الفكرية والأيديولوجية، ولا من الناحية التنظيمية. لقد كان اليسار السوري في المحصلة محاولة مبتسرة ومشوهة لتقليد روح عصر ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، لهذا لم يتمكن من الصمود أمام تحديات الداخل والخارج، ولا أمام الضحالة الفكرية والسياسية للذين حملوا لواءه والأهم، أمام المغريات التي قدمتها السلطة لمن تمكنوا من الاستيلاء عليها لاحقًا باسمه، فانقلبوا عليه إثر استيلائهم عليها…. بل على مجمل الشعب”.

ويختم الأتاسي بقوله: “قد يجد البعض في شبه التطابق الزمني بين اضمحلال اليسار السوري والأزمة التي يعاني منها اليسار العالمي، نوعًا من الإغراء الذهني في تجنب تحميل الذات مسؤولية ما حصل، لكن ما يدحض هذا التطابق هو أن يسارنا لم يكن يوماً جزءاً عضوياً من اليسار العالمي ولا امتداداً له” مستدركاً “ما سبق ليس تحميلًا للمسؤولية لأحد ولا جلداً للذات، إنما هي مجرد (جردة حساب) لمسيرة انحدارية امتدت على مساحة زمنية قاربت نصف القرن”.

سعدو: تمزيق التابوات اليسارية (البكداشية)

بدوره قال الصحافي والمحلل السياسي أحمد مظهر سعدو: “إن اليسار السوري يشبه في واقعه وحركته إلى حد كبير اليسار العربي عموماً، بما عاشه وتعرض له من قمع وعسف، ويلتقي معه أيضاً في مسألة تقبل الشارع لطروحاته، وقيمه وأيديولوجيته التي حملها، لكن (اليسار السوري) إن صحت التسمية، جاء بالأساس كإيديولوجيا بعيدة عن موروث المجتمع، ومنفرة في بعض الأحيان، للكثير مما يحمل الناس من قيم لاهوتية يصعب تجاوزها، خاصة وأن منظري اليسار الأُوَل لم يستطيعوا هم أنفسهم الخروج من هذه الإشكالية، فكانوا في حالة تصادم واضح المعالم مع قيم وعادات ومنتجات الأديان في الشارع السوري كما العربي”.

ويتابعسعدو قائلًا: “كل ذلك لم يحل دون ولوجهم (الثوري) إلى غير منعطف من منعطفات الواقع المتحرك في سورية، ودون تمظهر العديد من نخبهم ذات التوجه الوطني الديمقراطي التي استوعبت المرحلة، وفكت ارتباطها أمميًا، مدركة أنه ليس بالضرورة إذا ما غيمت في موسكو أن تنزل مطرًا في سورية. فعرفت بعض النخب ومن اصطف إلى جانبها كيف تتعامل مع الواقع عبر رؤيا حداثية، ممزقة التابوات اليسارية (البكداشية) وخارجة كلية من اليسار التقليدي، بل وخرجت عليه، أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ ورياض الترك وعبد الله هوشة وآخرين، ممن أنتجوا حالة جديدة ومتجددة، ساهمت في كشف المسارات (البكداشية) الانتهازية، الوصولية، التي لم تعد تعنيها ديكتاتورية البروليتاريا، بقدر ما يعنيها الوصول إلى السلطة بأي ثمن، وبأي طريق، فأصبح اليسار السوري إبان ذلك يسارين، يساراً مدجناً كلاسيكياً وموالياً للاستبداد، ويساراً ثورياً وطنياً ديمقراطياً، بأفكار جديدة متنورة، إلا أنه مقموع مسحوق، تعج به أقبية النظام السوري القامع لكل الأفواه المعارضة، وهو من ألغى السياسة من المجتمع أصلًا، مع ظهور حراك الأخوان المسلمين أواخر السبعينات من القرن الفائت، حيث زج معظم قادة اليسار الثوري في السجون، كما جرت تصفيات للكثير منهم، ومن ثم اتهامهم بالانحياز إلى جانب الإخوان المسلمين زوراً “.

قرقوط:تشظي اليسار السوري من داخله

الكاتب والسيناريست حافظ قرقوط يقول: “لم تستفد قيادات الأحزاب الشيوعية من التجارب وكرست الديكتاتورية حتى في قيادة أحزابها، وللأسف بشكل عام، الأحزاب الشيوعية المختلفة رأت في الإنسان الفرد مجرد أداة لأجل المنظومة السياسية الأممية، وليس هدفًا للتنمية والعمل على نيله حقوقه كونها لب الموضوع في سبيل نيل المجتمع حقوقه، وبالتالي بنية الدولة والإدارات”. ويتابع قرقوط: “تشظى اليسار السوري من داخله بسبب تركيبته الصماء، ولم يبق من عمله السياسي الطويل سوى ذكريات، يعتقد ورثته بأنها ذات قيمة نضالية في مسيرته، بينما هي جزء من منظومة فكرية ساهمت ككل الأيديولوجيات بتهميش الإنسان كقيمة فاعلة، ولهذا لم ينل شعبية كافية تحميه من بطش السلطات، التي عاملت عدداً من أفراده بقسوة شديدة في المعتقلات”.

ويضيف الكاتب: “الكثير من الشخصيات التي عبأت جعبتها الثقافية بالفكر اليساري رأت في نفسها أنها نخبة، وتعاملت مع المجتمع بفوقية المثقف لا بعقلية السياسي الذي عليه أن يكون لسان حال مجتمعه، وبعضهم أصبح بوقاً للاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا لم يتجاوز الفعل السياسي بأحسن حالاته لتلك الأحزاب العشرات من الشباب الحالمين بعالم أفضل بين ركام الشعارات التي جعلته منفصلاً عن الواقع، وغريبًا عن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين ممن ادعى نضاله لأجلهم”.

ويختم قرقوط بالقول: “أظن أن الأحداث التي رافقت الثورة السورية أثبتت أن اليسار العربي كان على صراع مع الأنظمة للوصول إلى السلطة، وليس نضالًا لأجل مجتمع مسحوق، ولهذا كان اليسار بعيداً عن فهم قيمة الثورة السورية وشعبيتها، وانحاز لصف النظام بدلاً من المظلومين، وهذا يعيدنا إلى بدايات تشكيله وغربته عن الواقع الذي كان عليه أن يترسخ به، وأظن أن موقفه هذا سيؤثر كثيراً على سقف نموه السياسي في المستقبل، كون كلمة يسار أصبحت مرادفة لكلمة ديكتاتورية، في حال لم يعدل من رؤيته الفكرية والسياسية”.

سفر: اليسار في مرحلة جديدة

أماالصحافي والكاتب بسام سفر، وهو معتقل سابق، فيقول:”تاريخياً في سوريا، أحزاب اليسار بعضها داعم للنظام السوري عبر الجبهة الوطنية التقدمية، والآخر منها ضد سياسة النظام في القمع والديكتاتورية والحريات السياسية والإعلامية وحقوق الإنسان، وعدم الاهتمام بمصالح الفئات الفقيرة والمهمشة من السوريين”.

ويتابع سفر، عضو المكتب السياسي في “حزب العمل الشيوعي” وعضو المكتب التنفيذي في “هيئة التنسيق الوطنية”، حديثه قائلًا:لعب القمع والسجن الطويل لأحزاب اليسار السوري منها (حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، حزب البعث العربي الديمقراطي (23 شباط/فبراير).. إلخ)، دوراً كبيراً أضعف وأنهك هذه الأحزاب، حيث قُدم أفرادها إلى محاكم استثنائية حكمتهم لسنوات طويلة، وأبعدوا عن الفعالية السياسية والاجتماعية والتأثير بالناس، وجعل القمع منهم هياكل تنظيمية غير قادرة على إقناع الأجيال الجديدة في دخول معترك الحياة السياسية، خصيصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهزيمة الاشتراكية المحققة فيه. فيما بعد، صار حضور هذا اليسار أكثر واقعية عبر خطاب سياسي واقعي بعيدًا عن الخطاب واللغة الخشبية”. ويستدرك سفر ” لكن فعاليته الجماهيرية ضعيفة بين الناس نتيجة اللغة السياسية العالية التي يستخدمها هذا اليسار، وجاءت محاولات تجديد لغته وخطابه السياسي مع الثورة السورية في العام 2011، وما بعده حيث جدد هياكله التنظيمية ليصبح ملائمًا للمرحلة الجديدة، ولم يوفق بذلك حتى الآن، رغم حضوره السياسي في الهيئات السياسية السورية من هيئة المفاوضات العليا، وهيئة المفاوضات الحالية الممثلة للمعارضة السياسية التي تفاوض النظام وذلك عبر القرارات الأممية التي اتخذها مجلس الأمن الدولي، لتكون الأساس للحل السياسي عبر مسار جنيف التفاوضي”.

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

حين استسلم الحزب “الشيوعي السوري” لامتيازات “الجبهة الوطنية التقدمية” التي أنشأها الرئيس حافظ أسد في 7 مارس/ آذار 1972، بقيادة حزب البعث وتشجيع من القيادة السوفيتية آنذاك، كان رياض الترك يعدّ للانشقاق الأول في تاريخ الحزب، ليقوده بعد شهر من ذلك رافضاً التحالف مع النظام.

وبهذا أعلن الترك خروجاً عن طاعة الكرملين، تنظيمياً وبرنامجياً، مؤكداً على التيمة الرئيسية لموضوعات الخلاف التي أثيرت في المؤتمر الثالث للحزب 1969، والقائمة على متلازمة الديمقراطية والمسألة القومية وخفض سقف التبعية للكرملين، وهي القضايا التي سبق سماع أصدائها في بعض أروقة الأحزاب الشيوعية الأوربية، بُعيد ربيع براغ.

لم يتأخر رياض الترك بعقد المؤتمر الرابع للحزب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث حافظ فيه على اسم الحزب الشيوعي مع إضافة لاحقة “المكتب السياسي”، تعبيراً عن شرعية تمثيله أغلبية أعضاء المكتب السياسي بهذا الانشقاق، إضافة لشرعية انتخابه أميناً عاما للحزب القديم/ الجديد.

وقد شكلت هذه التجربة، حالة نضالية فارقة في مسيرة اليسار السوري عموماً،تميزت بالراديكالية والكفاحية العالية في مواجهة النظام، وبشكل خاص بعد التدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن هذه الراديكالية لم تحمِ الحزب الشيوعي- المكتب السياسي من الهزات القادمة، بل ربما بسببها، خرجت مجموعة يوسف نمر وصبحي أنطون من المكتب السياسي للحزب قبيل المؤتمر الخامس عام 1978، ليشكلوا منظمة باسم “اتحاد الشيوعيين”.

بالتوازي مع ذلك، كان الترك يطور هوية الحزب الفكرية والأيديولوجية مبتعداً عن الماركسية اللينينية، باتجاه تكريس خطاب شعبوي عروبي وإسلامي، انعكس بالضرورة على خطه السياسي، وعلى تحالفاته في تلك الفترة. وبدأت تتضح ملامح هذا الخط السياسية تدريجياً، منذ أن اكتفى الحزب بإدانة النظام في تعليقه على مجزرة مدرسة المدفعية في حلب حزيران/ يونيو 1979، باعتبار أن “رد فعل الإخوان العنيف، إنما هو بسبب قمع واستبداد النظام”، رافضاً بذلك توجيه أية إدانة لجماعة الإخوان، في سياق العنف المتبادل بينها وبين النظام على أساس الانقسامات العمودية والطائفية في المجتمع، وصولاً إلى مطالبة اللجنة المركزية لحزبه، في رسالة داخلية بتاريخ حزيران/ يونيو 1980، بتشكيل “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”.

مقابل هذا الإصرار على التحالف مع الإسلاميين، أبدى الترك تشنجاً ورفضاً قاطعاً للتحالف أو التنسيق مع رابطة العمل الشيوعي في تلك الفترة، رغم أنها الأقرب إليه بالمعنى الراديكالي والنضالي والاستعداد للتضحية، وبالمعنى السياسي أيضاً في موقفهما الرافض للتدخل السوري في الحرب الأهلية اللبنانية. حدا هذا الموقف بالرابطة لتقديم تقريظ عالي للمكتب السياسي ضمن كراس “جدل بناء الحزب الشيوعي الثوري في الساحة السورية” 1977، اعتبرت فيه أن المكتب السياسي هو الفصيل الأقرب إليها سياسياً وبرنامجياً، مشيرة إلى حديث عن مبادرة للانضمام كأفراد فقط إلى “المكتب السياسي”، لكن قيادة “المكتب” رفضت المبادرة، وأوقفت الحوار دون أي تعليل، مكتفية ببث اتهامات سيئة في كواليس العمل السياسي، لا تتعلق بالتحليل المادي والتاريخي للواقع والسياسة.

رغم هذا، سحب المكتب السياسي الفيتو على أي تعاون أو تنسيق مع رابطة العمل، إلى مطبخ المعارضة السورية، والتي كانت بصدد تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” عام 1979، حيث أصرّ رياض الترك على إقصاء الرابطة من التجمع، وفرض رأيه بقوة التعنت الديمقراطي على فرقاء التجمع الآخرين، كما أكدت عدّة حوارات لاحقة في “سجن صيدنايا العسكري”، مع أشخاص قياديين ساهموا مباشرة في تلك النقاشات التي أفضت إلى تأسيس التجمع.

انتظر المكتب السياسي طويلاً خروج كوادره، ومن ثم الأمين العام من السجن في أيار/ مايو 1998، ليبدأ التحضير لانعقاد المؤتمر السادس للحزب في نيسان/ إبريل 2005، وفجر هذا المؤتمر مفاجأة في أوساط اليسار السوري تحديداً، حيث تخلى الحزب عن تسميته الشيوعية ليصبح “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، وتخلى رياض الترك عن الأمانة العامة للحزب لينتخب عبد الله هوشي أميناً عاماً له، تزامن هذا مع خروج مجموعة جديدة من صفوفه بقيادة محمد سيد رصاص وجون نسطه، حافظت بدورها على مسمى “الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي”.

جاءت مع ذلك ولادة “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، والذي لقي ترحيباً من أغلبية قوى المعارضة السورية والشخصيات الوطنية، كما رحبت به قيادة الأخوان المسلمين.

إلا أن رياض الترك، وبعكس نتائج المؤتمر، بدأ يعمل على تعطيل دور القيادة الجديدة وأغلب المؤسسات، من خلال الهيمنة على اللجنة المركزية للحزب، مما دفع الأمين الأول المنتخب عبد الله هوشة لتقديم استقالته بعد أشهر على انتخابه، وهو الذي سبق له قيادة العمل السري للحزب و”التجمع الوطني الديمقراطي” لعشرين سنة حين غيبت السجون رفاقه، كما كان لهوشة دور مهم في الإعداد للمؤتمر السادس للحزب الذي صنع التحول باتجاه “حزب الشعب الديمقراطي السوري”، لكنه”لم يستطع التكيف مع بقايا العقلية الستالينية في الحزب، فاستقال من الأمانة ومن اللجنة المركزية” على حدّ تعبير رفيقه في التجربة عبد الله تركماني، في نعوته للرفيق عبد الله هوشه، الذي وافته المنية في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2018.

أعتقد أن سنوات الاعتقال المديد لرياض الترك ولفيف من رفاقه، حولته إلى إحدى أهم أيقونات المعارضة السورية، التي كان يمكن أن تبني خطاً يسارياً وطنياً للحراك الثوري الذي اندلع في آذار 2011، لكنه فشل في الاستجابة لحراك السوريين العفوي في تلك اللحظة، وخاض حرب إشاعات ضد “لجان التنسيق المحلية”،وكان قد تخلى عن “التجمع الوطني الديمقراطي” ليتركه في هشاشة “هيئة التنسيق الوطني”، ذاهباً بإعلان دمشق إلى خياره الأول للتحالف مع الإسلاميين، عبر تشكيل “المجلس الوطني السوري” في اسطنبول صيف 2011.

وبهذا قاد معه “إعلان دمشق” إلى ذات الفشل الكارثي، مما اضطر كوادر “الحزب” وقيادات “إعلان دمشق” لتدارس مأزق عجزها التاريخي عن بلورة آليات عمل ديمقراطية، وطبيعة تحالفاتها الكارثية، وهو ما بدأ يظهر للعلن مع تشكيل “قيادة مؤقتة” منذ عام 2014، طالبت بإسقاط الشرعية عن قيادة أو هيمنة رياض الترك، وحملته كامل المسؤولية عن سنوات الثورة العجاف.

لكن القائد -الذي لا يقبل النقد- سارع إلى معاقبة “الخراف الضالة في حزبه”، بأوامر التنبيه والإنذار، وتعليق العضوية وإسقاطها عن بعضهم، متهماً إياهم بالتآمر و”التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”، ولم ينس الترك أن يستعير من النظام -الذي أمضى حياته في مقارعته- الإشارة إلى تورط أطراف خارجية تدّعي تمثيلها للثورة.

إثر ذلك ذهبت “القيادة المؤقتة” إلى “لجنة التحكيم الوطنية” للاعتراض على قرارات القيادة بحقّهم، باعتبارها صاحبة الاختصاص للفصل في المنازعات الحزبية، وفقاً للنظام الداخلي، وأعلنوا قبولهم المسبق بما تصدره اللجنة من أحكام أياً كان مضمونها.

لكن القيادة التاريخية استعارت ثانية من نظام البعث مبرراً لكل تجاوزاتها للنظام الداخلي/ الدستور، بحالة الطوارئ، وفق المادة 59 من النظام الداخلي، حتى أنها فرضت إجراءاتٍ عقابية بحق “لجنة التحكيم الوطنية” نفسها، المنتخبة من قبل المؤتمر.

يكاد الحزب الآن أن يتشظى، فيما لازال يُصر رياض الترك على شرعيته البائدة، منكراً كل ما يوجه له من اتهامات، وفي أول حوار له مع صحيفة “القدس العربي:3/9/2018″ بعيد وصوله إلى فرنسا، يتنصل الترك من العسكرة والأسلمة التي حصلت في الثورة السورية بقوله:”نحن من جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشق لم ننخرط في أي عمل مسلح، ولم نرتبط بأي جهة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية”!

هل نسي رياض الترك أن جورج صبرا هو الذي ردّد في لحظة انتخابه “رئيسا للمجلس الوطني السوري” مساء 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012: “نريد سلاحاً نريد سلاحاً نريد سلاحاً”! وأنه في لحظة انسحاب “لجان التنسيق المحلية” من المجلس الوطني رفضاً لسيطرة الإخوان المسلمين، كان صبرا يُصرح بأن المجلس يضم أهم مكونات المعارضة السورية للنظام؟

بالتأكيد لم يكن جورج صبرا في يوم ما قاذف آر بي جي في “جبهة النصرة”، لكنه هو الذي دافع عن “جبهة النصرة” وعن سلاح النصرة، باعتباره “جهداً عسكرياً كبيراً في دعم مسيرة الثورة لإسقاط النظام والدفاع عن السوريين”.

وهل نسي رياض الترك أن صبرا مُنح الجنسية التركية لعلمانيته؟ وهل سمع بأن صبرا ما زال يراهن باسم “حزب الشعب” و”إعلان دمشق” على “المجلس الإسلامي السوري” لمهمّة إعادة إحياء “الوطنية السورية”، وأن يكونوا “المظلة التي تُنبت القيادة السورية الجديدة”؟

أليس هذا الصوت رجع الصدى لما حاكه رياض الترك سنيناً طويلة؟

أليس مفاجئاً أن يتابع الترك حملته على “لجان التنسيق المحلية” وأيقونتها رزان زيتونة، بمغالطات كالحديث عن حضور مؤتمر “أنطاليا”؟ فيما كان هو يشرف على دور ممثليه من “إعلان دمشق” في هذا المؤتمر، أنس العبدة وعبد الرزاق عيد؟

يبدو أن علينا الاعتراف ولو متأخرين، بأن الكفاحية العالية والنضالية التي تميزت بها بعض تجارب اليسار، كانت عقيمة بكل أسف، لأنها لم تقترن بالديمقراطية في مستوى التعامل مع أعضائها كأفراد ومنظمات أيضاً، أو فيما بينها كقوى سياسية، مما يفسر جزءاً من أسباب تصدعات هذه التجارب وانقساماتها المتكررة، وعجزها عن مواكبة زخم الحراك الثوري الذي اجتاح سوريا.