نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!

نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

“يُقال: إنَّ الظلامَ هو غيابُ النُّور،

 ولكن في النورِ الخالصِ

 لا نرى أكثر ممّا نرى في الظلامِ الخالصِ”

(لينين، خلاصة علم المنطق لهيغل)

 يجب من أجل فهم القيمة الحقيقيّة للتجربة الماركسيّة في العالم العربيّ استحضار الياس مرقص؛ ذلك أنَّ طريقة تفكيره داخل اليسار العربيّ تُعَدُّ ثورة ثقافيّة على هذا اليسار نفسه، فكيف يكون الأمر إذن بالنسبة إلى بقية الاتجاهات أو التوجّهات؟

 إنَّ الماركسيين العرب في رأيه مثاليون لم يعرفوا المعنى الحقيقيّ للماديّة، لذلك فشلوا في تغيير الواقع العربيّ، لكن لم يفشلوا فقط بسببٍ من عجزهم عن تحقيق أيِّ تغييرٍ سياسيّ؛ بل بسبب عجزهم أيضاً عن فهم الماركسيّة بصفتها فلسفةً تنبني، أساساً، على تغيير العالم. لذلك اضطر مرقص إلى العناية بالتفسير عوضاً عن العنايةِ بالتغيير، أي وجد نفسه مرغماً على العودة إلى موقف فلسفيّ كلاسيكيّ تناقضه الماركسيّة نفسها، أعني به التفسير؛ لكن وجدَ هذا المفكّر مسوّغاً لنزعته الماركسيّة التفسيريّة في تجاوز النزعة المثاليّة عند الماركسيين العرب، ولئن كانت تسمية الماركسيين العرب ذات عموميّة كبيرة تفتقد إلى التحديد، إلا أنها كانت مصطلحاً اعتاد مرقص على استخدامه، وهدفه من ذلك الإنباه إلى فشل الماركسيّة العربيّة بعامّة، والماركسيّة السوريّة بخاصّة.

 هذا، ومن أجل الإقدام في موقف تفسيريّ عميق لم يجد مرقص ضالته في ماركس؛ بل في هيغل، أي آثر الرجوع إلى ينبوع دافق من ينابيع الماركسيّة، أعني به المثاليّة الهيغليّة، أو بالأحرى الجدل المثالي الهيغليّ، إذ اكتشفَ مرقص أنَّ ذلك ملائمٌ للواقع العربيّ، بمعنى أنّه ينبغي على الماركسيين العرب أن يتدرّبوا على فلسفة هيغل قبل التمسّك بأهداب ماركس؛ ذلك أنَّ ماركس عصيٌّ على فهمهم بمعزل عن هيغل؛ غير أنه يمكن القول: إنَّ مرقص وجد في فلسفة هيغل أمراً مناسباً لأنطولوجيا الواقع العربيّ، على أساس أنَّ هيغل فهم العالم الشرقيّ ومنه العالم العربيّ على أنّه ملكوت العهد الحيوانيّ للروح المطلق أو للفكرة الشاملة.

 إذن، العالم العربيّ هو المطلق في حيوانيته، في مقابل العالمِ الجرمانيّ الذي هو المطلق في إنسانيته، علماً أنه لا قيمة للمطلق نفسه في فلسفة هيغل إذا لم يرتقِ إلى الإنسانيّة، أي إذا لم يثبت أو يُحقّق أو يؤكد ذاته في الإنسانيّة، وبما أنَّ المطلق في حيوانيته في عالم العرب، فإنَّ الماركسيّة ليست صالحة في هذا الاتجاه، لأنها متقدّمة على الثقافة العربية، إذ إنَّ الماركسيّة، أساساً، قوّضت تاريخ الفلسفات المثاليّة الغربيّة، ومنها فلسفة هيغل عندما قلب ماركس الديالكتيك الهيغليّ المثاليّ المعبّر عن عقل الألوهيّة، ليجعله ديالكتيكاً ينبثق من أعماق المادّة وينظم العالم على أساس هذا الانبثاق.

هذا، ورغم انقلاب ماركس على هيغل، إلا أنَّ مرقص عاد إلى هيغل، لكن مُؤوَّلاً على طريقة لينين في “الدفاتر الفلسفيّة”. إذن، وكما يقول مرقص نفسه في مقدمة ترجمته لكتاب روجيه غارودي فكر هيغل: “هيغل هو الماديّ، وخلفاء بوغدانوف العرب وأقرانهم في أوروبا وعلى امتداد العالم الثالث هم مثاليون ذاتيون، حاملو المثالية الأسوأ..” (١).

 لم يقتنع مرقص بتنظيرات الماركسيين العرب ولا بفهمهم لمعنى الماركسيّة، إذ إنَّ تعويلهم على المنهج الماركسيّ، في حركيّة تكامله، استناداً إلى الماديّة الديالكتيكيّة والماديّة التاريخيّة والاقتصاد السياسيّ العلميّ، -أقول: إنَّ تعويلهم على هذا المنهج نفسه ليس إلا ادعاءً فارغاً؛ ذلك أنهم خدعوا أنفسهم باعتقادهم أنهم صاروا ماديين بمجرد اتخاذهم موقفاً إلحاديّاً إزاء الدِّين. غير أنّهم وقعوا في شِراك أكثر خطورة. يقول مرقص في مقدمته نفسها: “لنعترف بأنَّ أصحابنا “الماركسيين العرب صورة (كاريكاتوريّة، مضخّمة، نوعيّة، جاهلة، شرقيّة) عن وضعٍ دوليّ”(٢).

يعني كلام مرقص هنا أنَّ الماركسيّة العربيّة ضربٌ من المستحيل، إذ إنَّ مصطلح “ماركسيّة عربيّة” ينطوي على ضربٍ من السُّخرية، إذ إنّه لا يمكن تكوين أيّة ماركسيّة في مجتمعات ليست إلا انعكاساً لملكوت العهد الحيوانيّ للروح المطلق!

إنَّ مرقص يسخر سخرية مريرة من أعرق التجارب الماركسيّة في العالم العربيّ، سخرية تثير مشاعر اليأس والقنوط وفقدان الرجاء، إذ إنَّ سخريته تنبعُ من موقفٍ نقديّ لا يُعنى بأعداء الماركسيّة من العرب بقَدْر ما يُعنى بنقد الماركسيين العرب أنفسهم. ويمكن أن نجازف بالقول: إنَّ مشكلته الرئيسة تكمن في الماركسيين العرب، وليس في أعداء الماركسيّة من العرب. إنّه يواجه أبناء جِلدته من الماركسيين العرب، لأنّه معجب جداً بعبارة عميقة جداً للفيلسوف اليونانيّ هِرقليطُس قال فيها: “إنَّ العيون والآذان شهود سيئون عندما تكون النفوسُ بربريّةً”، بمعنى: أنه لن يثق بحواس أو بماديّة الماركسيين العرب، لأنَّ نفوسهم أو عقولهم مثاليّة؛ لذلك ذهب في نقده للماركسيين العرب إلى حدّ بعيد-قد يكون غير مقبول أحياناً-إذ قال في كتابه “نقد العقلانيّة العربيّة” عن خالد بكداش: “…بكداش إمام الماديّة والعلميّة والإلحاد. بكداش يجهل موقف ماركس من هذا المصطلح…-”ماديانيّة“…”(٣).

إنَّ الماركسيين العرب لم يعرفوا ماركس، لأنهم لم يفهموا معنى الوجود في جملته الجامعة على أساس لفظة بسيطة ومُركّبة في آن، أعني بها، استناداً إلى مرقص “العمل”. إذ إنَّ “العمل الخلّاق” وفقاً لاصطلاح ماركس نفسه، هو المعنى النهائيّ لوجود الإنسان، ولا يوجد، ماركسيّاً، ما هو أبعد من ذلك.

إنَّ ما يريد مرقص تأسيسه عند العرب هو أنطولوجيا ماركسيّة للعمل، أو علم وجود ماديّ للعمل، فإذا كانت الأنطولوجيا، وفقاً لتعريفها الكلاسيكيّ، هي علم الوجود بما هو موجود، فإنَّ الوجود لا يتجلّى إلا إنسانيّاً، ولأنّه كذلك، فإنّه موجود بوساطة العمل، لذلك لا يوجد مكان هنا للحديث عن علل أو أسباب أو ماهيّات يمكنَ إرجاع الوجود إليها، ذلك أنَّ الوجود في مُختلف درجاتِ تَنَاسُبِهِ أو هرميته، لا معنى له بمنأى عن الإنسان، لذلك هو-أعني الوجود-بذاته وفي ذاته ومن أجل ذاته ليس إلا إنسانيّاً، وما هو إنسانيّ لا قيمة له، إلا على أساس العمل، أو على حدِّ تعبير إلياس مرقص “الشُّغل”. إذن ما يشغلني بصفتي إنساناً هو العمل؛ ذلك أنَّ الإنسان هِرمينوطيقيّاً أو تأويليّاً، هذا إذا أخذنا التأويل بالمعنى الماديّ، أي بمعنى تفجُّر ينابيع الحقيقة الأنطولوجيّة للمادّة، هو في نهاية المطاف مادة تعمل، أو عمل يصير مادة، أي مادة تعمل على تكوين نفسها، وهنا تتجلّى نزعة مرقص الهيغليّة –هذا إن أصاب كاتب هذه السطور- أعني أنّها تتجلّى في فهم هيغل للمعنى النهائيّ للوجود: موضعة الذات وتذويت الموضوع، أي وفقاً لقلبٍ ماركسيٍّ للهيغليّة، بوساطة لينين، لا بدّ من ترسيخ العمل، أنطولوجيّاً، في الثقافة العربيّة، في أفق الصياغةِ الماركسيّة لها؛

 لكن مرقص، انطلاقاً من هيغليته، يريد أن يُبيّن فشل الماركسيين العرب، لأنهم لم يؤصّلوا العمل أنطولوجيّاً، كما يريد في الوقت نفسه أن يُبيّن فشل الإسلامويين العرب، لأنهم أيضاً لم يؤصّلوا الله أنطولوجيّاً، يقول مرقص: “الله مُغيّب! لا سيما في خطاب “الأصوليين الرجعيين” الذين قرروا البقاء أو التفاعل مع الفكر القوميّ” (٤). إذن، هناك فشلٌ متضافر عند العرب، ماديّاً ومثاليّاً، أو بالأحرى، ماركسيّاً ودينيّاً، وهنا تظهر ثقافة مرقص الضاربة بجذورها عميقاً في حقيقةِ الأمور، إذ إنّه يتوسّل المعطيات كلّها، انطلاقاً من مَرجِعِيَّتيه الهيغليّة واللينينيّة، فالعالمُ العربيّ منسوجٌ بالمثاليّة والماديّة معاً، لكن الماديّة، كما فهمها لينين الذي يعاني من الطبيعة الإقطاعيّة لروسيا التي تجعله، أحياناً، يعمل على تعديل المنهج الماركسيّ الذي يحتاج لتطبيقه، ثوريّاً، إلى دولة مثل بريطانيا وليس مثل روسيا، لذلك العالم العربيّ في رأي مرقص بحاجة إلى هيغل بقدْر حاجته إلى ماركس، ولذلك هو أساساً بحاجة إلى لينين. يقول مرقص معبِّراً بذكاء بالغ عن هذا التداخل بين الماديّة والمثاليّة في العالم الشرقيّ: ” براهما (“الإله-الكلمة “) يُخيم علينا (وعلى غيرنا). واللوجوس هو، نوعاً ما، كلّ الفلسفة. اللوجوس أي الربط، العقل، النطق، الكلام، الحساب. هيراكليت، وهيبوقراط، أفلاطون وأفلوطين، القبالة اليهوديّة Kabbalah والصوفيات والباطنيات، وعرب هذا الزمان وثوارهم“(٥) .

الهوامش

١- مقدمة الياس مرقص لترجمة كتاب روجيه غارودي، فكر هيغل، دار الحقيقة، بيروت، بدون تاريخ، ص:8-9.

٢ -المصدر نفسه، المعطيات السابقة نفسها.

٣ -الياس مرقص، نقد العقلانية العربيّة، دار الحصاد، دمشق، 1997 ص:462.

٤ -مرقص، نقد العقلانيّة العربيّة، مصدر سابق، ص: 374.

٥ -مقدمة ترجمة مرقص لكتاب روجيه غارودي: فكر هيغل، ص:50.

(نايف بلوز /الماركسي المختلف (1931-1998

(نايف بلوز /الماركسي المختلف (1931-1998

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

كان من أوائل الشيوعيين السوريين الذين اتسموا بثقافة موسوعية وامتلكوا منهجاً نقدياً متطوراً نقدوا من خلاله سياسة الحزب، داخلياً وخارجياً، ومواقفه من مجمل القضايا الملحة آنذاك، كما أنه من الأوائل الذين انتقدوا “عبادة الفرد”. لقد كان يحاضر في جامعة دمشق بكل ثقة دون القراءة من أي كتاب، وكان أستاذاً متميزاً مختلفاً على صعيد المعرفة والسلوك، وكان له الدور البارز في تشكيل الوعي الفلسفي لجيل من الأساتذة والطلاب، وهو من الأوائل الذين أدخلوا المنهج الجدلي الماركسي إلى قسم الفلسفة، جامعة دمشق، دون أية نزعات أيديولوجية شيوعية، وكان يسخر مما كان يسميها (النزعة التخطيطية للمنهج الماركسي المتداول)، وكان نهماً للقراءة ومقلاً جداً بالكتابة، إن مسيرته تشبه مسيرة الفلاسفة الكبار الذين لم تستوعبهم أحزابهم، مثل الياس مرقص، وروجيه غارودي وهنري لوفيفر.. وغيرهم الذين طردوا من أحزابهم الشيوعية نظراً لسعة آفاقهم المعرفية والفلسفية والعلمية والتي لا يمكن أن تتكيف مع الأطر الضيقة للأحزاب الأيديولوجية ولا لأي أيديولوجية دوغمائية.

درس في ألمانيا في مطلع الستينات من القرن الماضي، وأنجز أطروحة الدكتوراه في الفلسفة في (جامعة هومبولدث)، وهي بعنوان “الإسلام ونشأته وفرقه ومدارسه” مهتماً بالمرحلة الأولى من الإسلام، حيث كانت تتسم بالحيوية، قبل مرحلة التقديس والانقسامات، مستخدماً المنهج الماركسي بمرونته من أجل قراءة التراث العربي الإسلامي عبر تطوراته التاريخية، معتقداً أن الإسلام جاء ضمن الظروف الموضوعية التاريخية في وقته الطبيعي، وحين ظهر الإسلام في مجتمع الجاهلية العربية في أوائل القرن السابع الميلادي، لم يظهر بشكل مفاجئ منقطع الأسباب والصلات عما كان يعتمل في حياة تلك الجاهلية، أو كما كان يتحرك في ذلك المجتمع بشكل ظاهرات اقتصادية واجتماعية ودينية وبيانية، شعر، خطب، وقد آن الأوان كي يتغير ذلك المجتمع القبلي من الأساس، وكانت تلك الظاهرات، إيذاناً بالأمر المنتظر الذي سيخرج من رحم الواقع الجاهلي نفسه، لينطلق نحو العالم كله خارج شبه الجزيرة العربية، ومن هنا لم تكن المفاجأة التي حدثت، بظهور الإسلام، والتي لم تقتصر على صعيد شبه الجزيرة العربية فقط، وإن ما حدث، شكل اقتحاماً واختراقاً لأسس النظام القبلي البدائي الذي يعيش في ظله مجموعة من قبائل مبعثرة، وإن هذا التبعثر القبلي سيتحول بحكم الضرورة الموضوعية إلى كيان آخر مختلف كلياً، أي إلى زمن يتأطر فيه عرب الجزيرة بإطار من التوحيد يجمعهم نواة لشعب عربي أو يشكل إرهاصاً لأمة عربية، بهذا المعنى كان يرى أن الإسلام الأول في سياقه التاريخي شكّل نقلة نوعية تقدمية في تاريخ الفكر الديني، ومن خلال رؤيته المنهجية النقدية كان يرى بلوز، العمق الثوري للإسلام وهو ينطلق انطلاقته الكونية، منذ أربعة عشر قرناً، مستجيباً للضرورات التاريخية لحاجة أهل الجاهلية  العرب، في شبه الجزيرة إلى ذلك التحول الكبير.

كان يعتقد أن الإسلام في عصرنا لا يمكن أن يقدم أجوبة على التساؤلات التي يطرحها هذا العصر، ولا يمكن أن يكون هو الحل، للقضايا الشائكة المعقدة التي تواجه الإنسان المعاصر، ربما نستطيع تكثيف مأثرته في المحاور: السياسي والمعرفي والعلمي الأكاديمي، من خلال منهجه النقدي، المفعم بطرح التساؤلات والشك في كل شيء، في زمن -عبادة الفرد- والاستكانة إلى ما يبدو أنها حقائق نهائية، وكان موقفه نقدياً من الفكر والفلسفة والدين، وحتى من نفسه، حيث كان ناقداً لاذعاً، وقد قدم دراسة نقدية عالية الأهمية لكتاب حسين مروة “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” حيث كان يتساءل دوماً، بعد قراءته لذلك الكتاب، عن مدى “حيازة التقدميين العرب لكفاءة نظرية وحرية في التحرك ورحابة في الرؤية تسمح لهم بوضع منجزاتهم الفكرية ولاسيما ما يدور منها على قضايا التاريخ الإسلامي. والحاضر العربي موضع التحليل والنقد العلميين”١. وهو يرى ضرورة مواجهة الصعوبات النظرية والسياسية مواجهة صريحة غير عابئة بشيء سوى مقتضيات الدقة العلمية ومطلب الحقيقة المضيئة للفكر والعلم، وإن هذه المراجعة النقدية البناءة التقدمية، وهذا الانصباب على الذات ليس أمراً مرغوباً فحسب بل إنه حاجة ضرورية على المستوى الفكري والسياسي، وقد يكون المستقبل مرتهناً لدرجة إسهام كل من السجال النظري الديمقراطي، والانفتاح الحي على الواقع، في صنع الوعي التنويري وصياغة الاستراتيجية العربية التقدمية، بهذه الرؤى، احتل بلوز موقعه المتميز بين المفكرين العرب، من خلال سعيه إلى ربط الفكر بالسياسة، وربطهما معاً بالواقع، عقلنة الفكر العربي وتحديثه من أجل عقلنة السياسة العربية وتحديثها، من أجل عقلنة المجتمع العربي وتحديثه مؤكداً على الدور النقدي التجديدي للفلسفة كي تكون بديلاً عن النظريات التقليدية التي تسعى لفهم الواقع وامتلاكه معرفياً فقط، بينما المطلوب هو تغيير هذا الواقع، ومن هذا المنظور النقدي قرأ العلاقة التي تربط جدل هيغل وجدل ماركس، معتقداً أن نظرية ماركس الاجتماعية ليست منفصلة عن فلسفة التاريخ الهيغلية. ومفردات العقل والحرية والتقدم تدلل على وجود التقاطعات بينهما، فالفكرة القائلة بأن التاريخ العالمي له علاقة بتوغل الحرية والعقل وتطور البشرية يمكن أن نلمح لها درجة من الترابط بين ماركس وهيغل، وقد نستطيع القول “إن الفيلسوفين يؤكدان على أن العقل يسود العالم في النهاية، وإن بأشكال مختلفة، هيغل يدع العقل والحرية يحددان العملية التاريخية، لكن ماركس يعتقد وحده أن قضاء البروليتاريا على البرجوازية يمكن أن يفهم بمثابة انتصار العقل على اللاعقل والظلم في العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية” ٢.

وقد كان بلوز يلح على الأهمية الخاصة للنشاط النقدي في دراسة النصوص ودراسة الواقع، خصوصاً في تناوله النقدي للنصوص الماركسية، فمن المعروف أن التأويلات الماركسية في الواقع العربي يمكن إجمالها في مسارين، تمثل المسار الأول في النزعة الميكانيكية التي تمظهرت من خلال التأكيد الحاسم لدور البنى التحتية (الاقتصادوية)، وينظر إلى التاريخ على أنه تقدم مطلق لا مكان للإنسان فيه، لأن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للتاريخ، بحسب هذا المنظور. والمسار الثاني يتمثل في النزعة الإرادوية، تلك التي تجعل من إرادة الإنسان محركاً للتاريخ.

وقد سعى بلوز من خلال منظوره النقدي إلى تجاوز ثنائية الاقتصادوية والإرادوية، وإلى الكشف عن علمية النظرية الماركسية بوصفها منهجاً للبحث وعبر تميزها عن الفلسفات الميتافيزيقية، المثالية الأخرى، وأراد أن يؤكد تميز الماركسية بوصفها علماً، وهذا ما بدا واضحاً في كتابيه مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، ومناهج البحث في العلوم الطبيعية، إضافة إلى كتابه، علم الجمال، الذي قدم فيه محاضرات من كتابه المترجم لجورج لوكاتش عن الألمانية (دراسات في الواقعية 1972).

وقد كان يطرح السؤال ما أهمية المنهج الماركسي، وماذا يمكن أن يقدم اليوم لليسار، وكان يظن أن الفكر الماركسي لا يزال محافظاً على طموح الشباب وقوتهم الحاسمة ولا يزال يمتلك حيوية وقدرة كبيرة على الإلهام والسعي للتغيير، وإن هذا الفكر ينطوي على حافز يهيب بنا أن نواجه مشاكل عصرنا كما واجه ماركس مشاكل عصره، حيث أن دور ماركس يتضمن منهجاً عاماً يكمن خلف المشكلات المعالجة ورؤية نظرية توجه أسلوب معالجة هذه المشكلات. إن المشاكل الملتهبة اليوم هي التي يمكن أن نسترشد بالمهنج المادي الجدلي من أجل معالجتها بروح الماركسية المعاصرة (ويمكن اعتبار الماركسية اليوم موقفاً معاصراً للثقافة الأوربية المحدثة) ٣، وقد تكون عودة ماركس بقوة الآن إلى المسرح الثقافي العالمي مؤشراً على موقف نقدي من الرأسمالية المعاصرة.

انطلاقاً من رؤاه السابقة جعل من الواقع السوري موضوع معرفة منطلقاً من علاقة الفكر بالواقع، زاعماً أن هذه العلاقة ليست ذاتية فحسب، بل هي علاقة ديالكتيكية بين الذات والموضوع، وقد سعى إلى تفكيك مقولات ترسخت في الثقافة السورية، ورؤانا الفلسفية والسياسية، من أجل النهوض بالمجتمع عبر كل مؤسساته وجامعاته من خلال التنوير والنقد، ورأى أن الكتابات الماركسية الدوغمائية مقولات روج لها على أنها تقدمية ومحايثة لروح العصر، بينما التمحيص الدقيق لها يكشف أنها أيديولوجية جامدة، تدعم سلطة النص المدافع عنه على حساب الفهم النقدي والمثمر للنص وللواقع، فالأساس النظري الذي انطلق منه بلوز هو المفاهيم الماركسية التي أعاد إنتاجها وأنتجها بوصفها أدوات بحثية، فتحولت لديه إلى دليل يكشف من خلاله، تجدد المفاهيم، ومنطق حركة التاريخ ومحاولة الإجابة على أسئلة الواقع المتجددة والمتجدد أبداً، كما أنه كان يعتقد أن ماركس في رؤيته لم يكن يهدف إلا إلى تحقيق حرية الإنسان، وهذا الهاجس نفسه هاجس بلوز، وانعتاقه من عبودية العمل، وجعله حقاً من حقوقه لا فرضاً عليه.

الهوامش

[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980، ص167.

[2] – النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا” ص103.

[3] – النهج، مرجع مذكور، ص130.

مراجع البحث

[1] – بلوز وآخرون، الماركسية والتراث العربي الإسلامي، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروتـ لبنان، 1980.

2- النهج، صيف 1998، السنة 14- العدد 51، بحث د. نايف بلوز بعنوان “البيان الشيوعي وعصرنا”.

سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”

سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”

*ينشر هذا الحوار ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

لا شك أنّ انهيار المنظومة الاشتراكيّة، وخصوصًا الاتّحاد السوفيتيّ، شكّل مفصلاً هاماً في التحوّلات التي شهدتها تيّارات اليسار العربيّ عامّة، والسوريّ على وجه الخصوص. لدرجة أنّ المفكر اليساريّ الراحل سلامة كيلة رأى أنّ هذا اليسار دخل “أزمة موت.” وفي سوريا التي انتفض شعبها ضدّ الاستبداد والطغيان في آذار/ مارس 2011 بقي اليسار “في الهامش”، وتجاوز الربيع السوريّ اليسار القائم في البلاد، خاصّة بعد انحدار وضع الأغلبية المجتمعية نحو الفقر والبطالة والتهميش ما أدى إلى أن تكون كلّ قوى اليسار في سوريا بعيدة عن الشعب.

وللوقوف على واقع الحال وأسبابه ومآلاته التقينا مع الكاتب والباحث الأكاديميّ في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة سلام الكواكبي، المدير التنفيذي للمركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، ومدير بحوث ونائب مدير سابق في «مبادرة الإصلاح العربيّ» المهتمة بحركة المجتمع المدني.

 

غسان ناصر: أبدأ معكم بسؤالكم: ما الذي تبقى اليوم من “يساريّة” اليسار السوريّ؟ 

سلام الكواكبي: أخشى أن أجيب بأنّ مختلف العوامل تكاتفت على إجهاض التيّار اليساريّ السوريّ بمختلف تنويعاته منذ أمد بعيد نسبيًّا. وكذلك يؤسفني أن أشدّد على أنّ من ساهم بشكل فاعل في هذه العمليّة، هو البنية التكوينيّة هشة التقاليد الديمقراطيّة للأحزاب والجماعات اليساريّة من جهة، وكما هم بعض رموز اليسار نفسه من جهة أخرى. فالبنية الأساسيّة، قامت على قواعد غير متمكنة من المفاهيم الأساسيّة المكونة لحركة اليسار تاريخيًّا عدا استثناءات بأسمائها تم تهميشها أو القضاء عليها رمزيًّا. وصارت التجارب التوتاليتاريّة في الدول التي اغتصبت مفاهيم اليسار، وطوّرت له ممارسات شاذة، هي المرجعيّة لدى الكثير من اليسار السوريّ. أما وقد مرّ على البلاد عقود من الممارسات الأمنوقراطيّة، فقد صار اليسار مهجّرًا أو مسجونًا أو شهيدًا. ومن تبقى في المشهد العامّ، فقد كان إمّا مستقطبًا سلطويًّا أو مصابًا بنخبويّة مرضيّة عزلته عن حس وحراك المجتمع.

غسان ناصر: برأيك إلى أيّ مدى كان هذا اليسار فاعلًا في الحياة السياسيّة العامّة في سوريا بعد انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970؟

سلام الكواكبي: لقد كان مفعولًا به ومقسّمًا ومشتتًا في الإطار العامّ. أمّا الحديث عن يساريّة الحزب الحاكم، فهو يخرجنا من الجديّة في الطرح لما من ممارساته من صفات متعدّدة لا يمكن أن تكون اليساريّة إحداها. فهي رأسماليّة الدولة الأمنوقراطيّة الزبائنيّة. ولا يمكن ربطها باليسار بأيّة صورة ولو ساهم في ذلك كتّاب السورياليّة الكبار.

أمّا الشيوعيّون الرسميّون، فإضافة إلى فساد جزء لا بأس من قياداتهم، وانصياع الجزء الآخر للخوف المهيمن، وانشقاق الجزء النقيّ ليجد نفسه مسجونًا أو منتهكًا بكلِّ الأساليب، فتجربتهم السوريّة تحتاج إلى مجلدات لا تفوح منها روائح مريحة البتة للأسف الشديد. من ظلَّ متمسكًا بمبادئه، كالماسك على الجمرة براحة الكف، فألمه لا يمكن وصفه، وتشفّي “رفاقه” النظريين به يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الثقافة السياسيّة التي هيمنت على المشهد السوريّ. وعلى الرغم من هذا المشهد السلبيّ للغاية، إلّا أنّ الحراك الداخليّ الوحيد الفاعل سلميًّا بعيدًا عن التجربة العسكريّة للإخوان المسلمين، كان يعتمد على الأنقياء في المجموعات اليساريّة التي غلب عليها طابع العمل السريّ والهروب المستمر من الرقابة الأمنيّة. ولكن فعاليّته لا تُذكر إلّا من خلال الإنتاج الفكريّ المتميّز. لبعض رموزه وعلى الرغم من محدوديّة انتشاره.

 

غياب ممارسة النقد..

غسان ناصر: ماذا عن حضور اليسار النظريّ، بعد كلِّ القمع الذي تعرض له، والفشل الديمقراطيّ العلمانيّ المتراكم في سوريا؟ والعلاقة غير السويّة بين الأحزاب اليساريّة خاصّة رابطة العمل الشيوعيّ (صار اسمها “حزب العمل الشيوعيّ”) والحزب الشيوعيّ السوريّ – المكتب السياسيّ (صار اسمه “حزب الشعب الديمقراطيّ”)؟

سلام الكواكبي: في الأساس، فإنّ العلاقة غير السويّة والتنافسيّة بطريقة الإلغاء وغير الديمقراطيّة بين مختلف رموزه ساهمت بشدة في إضعافه وفي إستضعافه. أمّا الحضور النظريّ، فقد عابه عدم ممارسته النقد، ليس الذاتيّ، فهو مطلب كبير في الثقافة المشرقيّة، بل نقد تجارب الدول التي شوهت اليسار عبر الممارسات الشموليّة المكتنزة فسادًا وقمعًا في بلدان مرجعيّته كالاتّحاد السوفييتيّ ومن دار في مساره. ومن تمت ملاحقتهم وسجنهم، فإن كان ليس من الانصاف انتقادهم عمومًا، لكنّهم في المشهد السوريّ يستحقون الإشارة إلى ممارساتهم الفرديّة وسعيهم لفرض آرائهم على مجمل المشهد الحزبيّ الذي انتموا إليه. كما برز ضعف هيكلي في عمليّة تطوير الفكر اليساريّ النظري ليُجاري الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والدينيّ المحليّ.

غسان ناصر: هل كان لقوى اليسار حضور في الأوساط العماليّة والفلاحيّة ما قبل الثورة، أم كانت بعيدة عن القاعدة الاجتماعيّة في عموم سوريا؟

سلام الكواكبي: اُحيل إلى كتابات المؤرخ المُجدّ أطال الله في عمره الدكتور عبد الله حنا للسعي إلى الحصول على إجابة دقيقة لا أمتلكها حول هذا التصنيف. لكنّني أعتقد بتحفّظ شديد، بأنّ الحَضور، ولأسباب موضوعيّة متشابكة، كان ملموسًا أكثر في الأوساط العماليّة عمومًا، وفي بعض الأوساط الفلاحيّة المتميّزة دينيًّا واثنيًّا.

غسان ناصر: هل استطاعت قوى اليسار أن تؤثر فكريًّا في الثقافة وتجذب الأجيال الجديدة؟

سلام الكواكبي: الجزء الأكبر من المثقّفين السوريّين يعرف نفسه باليساريّ ولكن دون أن يعرف جزء منهم ربما ما هي المعايير الدقيقة لهذا التعريف. وعمومًا، فاليسار السوريّ أنتج أدبًا وفنًا أكثر مما أُتيح له أن يُنتج فكرًا لخضوعه لمناخ مهيمن تمتزج فيه التسلطيّة السياسيّة والأمنيّة مع التركيبة الدينيّة المحافظة التي ارتاح لانهماكها في العبادات وتفاصيلها أهل الحلّ والعقد من أصحاب الرتب أو أصحاب اللحى.

 

اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة..

غسان ناصر: أسألكم عن موقف اليسار من الأزمة السوريّة. وماذا عن الأحزاب اليساريّة التي أعلنت عن ميلادها خلال سنوات الثورة مثل (حزب اليسار الديمقراطيّ السوريّ)؟

سلام الكواكبي: ضعف اليسار السوريّ أدى به إلى خيارين أحلاهما مرّ: الأوّل، القبول بإملاءات قوى محافظة والخضوع لها في محاولة غير ذكّيّة لتبنّي الواقعيّة السياسيّة من جهة. والثاني، رفض الانخراط في العمل العامّ تأنفًا أو ترفّعًا أو تكبّرًا، والقفز في كلِّ شاردة وواردة لادّعاء امتلاك الحقّ ومعرفة مآل الفشل المتوقع وتقريع الآخرين بالقبول بفتات الموائد. وعمومًا، فالتشكيلات السياسيّة اليساريّة الجديدة لا يمكن أن يكون لها أيّة فاعلية في ظلِّ الانسحاب الجماعيّ للشباب من المشهد الحزبيّ والتوجه أكثر فأكثر نحو التجمعات المدنيّة. الانتماء إلى أيّ حزب صار أمرًا غير مغري على الصعيد الفكريّ والصعيد السياسيّ.

غسان ناصر: أين اليسار العربيّ الدوليّ من دعم الثورة السوريّة؟

سلام الكواكبي: اليسار كونيًّا في أزمة نظريّة وعمليّة، وعندما نتابع بعض مواقفه من قضايا تحرر الشعوب من الطغيان، نكاد نقول بأنّ الجانب الأخلاقيّ يمكن أن يُضاف إلى مكوّنات أزمته. فالتجربة البافلوفيّة المرتبطة بتصرفات الحيوان الجائع، وجدت لها مرتعًا خصبًا في مواقف وردود أفعال الكثير من أصحاب اليسار الأوروبيّ عمومًا والعربيّ خصوصًا تجاه الثورة السوريّة. يكفي أن نراجع في عجالة مواقف اليسار التونسيّ أو المغربيّ أو الجزائريّ، لنجد منطقًا بافلوفيًّا هائل التخلي عن المعايير الأخلاقيّة والإنسانيّة، ليتشبث بمفاهيم حجريّة تربط أوتوماتيكيًّا بين نظريّة المؤامرة وبين الإمبرياليّة وبين الإسلاميّة. وكما أنّ السعي إلى الحرّيّة والعدالة يُعتبر نظريًّا من ركائز فكر اليسار، إلّا أنّ النوم تحت بسطار العسكر والطغيان أثبت بأنّه الأكثر ممارسة ممن يدّعون وصلًا باليسار في الدول العربيّة. ما هو منتظر نظريًّا من المنتمين إلى اليسار في أن يكونوا مؤمنين بمفاهيم الحرّيّة والعدالة لأنفسهم ولأقرانهم، غاب تمامًا عن تصريحات وأفعال اليسار العربيّ الذي طالما تناول زعماؤه الطعام على موائد الطغاة من صدام حسين وصولًا إلى القذافي. وأكاد أن أجد في اليسار الأوروبيّ تميّزًا عن اليسار العربيّ في هذا المجال بحيث نجد فئات تروتسكيّة أو يساريّة معتدلة أو من ينتمون إلى “الخضر” هم من مناصري الربيع السوريّ الموؤد. في حين، من النادر أن نجد مجموعات سياسيّة يساريّة عربيّة تتبنى هذا الموقف. ربما نجد أفرادًا.

غسان ناصر: أخيرًا، برأيكم هل يمكن اليوم تأسيس يسار سوريّ جديد يحاكي تطلعات وآمال الشعب السوريّ الذي يواصل نضاله من أجل الحرّيّة والعدالة والمساواة في سوريا الجديدة؟

سلام الكواكبي: الحلّ الوحيد، إن كان من حلّ يومًا ما، هو أن يُعيد اليسار إنتاج نفسه من خلال التبنّي الكامل للديمقراطيّة، رغم عدم مثاليّتها وإشكاليّاتها وضرورة إعادة إنتاجها هي نفسها في ظلِّ الخيبات الجديدة في المشهد الكونيّ. قيم الحرّيّة والعدالة والمساواة، كما قيم الحقوق البشريّة والدفاع المبدئيّ، وليس الانتقائيّ، عنها، هي من صلب تعريف اليسار كما أراه. إنّ النمط القائم على احترام الحرّيّات وتطوير العدالة الاجتماعيّة قانونًا وممارسةً هو الأفضل لإنقاذ ما تبقى من يسار.

اليسار الفرنسيّ الذي حكم لعشرات السنين، انهار بصورة كرتونيّة في السنوات الأخيرة، فانبثق عنه متطرفون شعبويّون سرعان ما انضمّ جزء منهم إلى يمين متطرف عنصريّ لضعف تكوينيّ وهشاشة في الوعي. واليوم، تنطلق حركات يساريّة مزجت في مبادئها الحرّيّة والعدالة وحماية البيئة الكونيّة وليس الوطنيّة فحسب، وذلك على اكتاف مجموعات شبابيّة تستند إلى مقومات فكريّة واعية كحركة الفيلسوف الشاب رافائيل غلوكسمان الجديدة.

أختم بالقول بأنّ اليسار الديمقراطيّ الاجتماعيّ هو الحلّ الأنسب لمشاكل المجتمعات قاطبة.

اليسارالمتجدد سيظل موجوداً

اليسارالمتجدد سيظل موجوداً

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

اليسار السوري ليس طارئاً تماماً ولكنه مستعار. ولا عيب في الاستعارة في بعض المجالات. الديمقراطية مثلاً مفهوم مستعار وكذلك الصحافة والأحزاب والتكنولوجيا، فلا عيب إذن أن يكون السوريون قد استعاروا مفهوم اليمين واليسار من الغرب الذي أعارنا السيارة والتلفزيون والكمبيوتر والفايسبوك. ثمّة من يستعير ثوبا فيكون كبيرا جدا أو يكون ضيّقا عليه. السوريون (ومعهم المصريون) كيّفوا ما استعاروه على قياسهم، فبدت الأمور عليهم وكأنها أصيلة. ولعلّ نظرة إلى الوراء ترينا كيف أجاد السوريون لعبة الديمقراطية والبرلمان والصحافة والأحزاب، وأيضا اليسار، من دون أن نغرق في نوستالجيا فارغة.

مشكلتان رئيسيتان طرأتا على كلّ ذلك، فغيّرت من وجه اليسار السوري. الأولى كانت حين تنطّح مجموعة من العسكر لقيادة ما يسمّى بحركة التحرر الوطني، التي دمجت ما بين الطبقي-الاجتماعي والوطني-القومي. وهو ما أدى إلى ضياع هوية اليسار واليمين معا. أما المشكلة الثانية فهي الصراع العربي-الإسرائيلي الذي حول القضية برمتها من جهة إلى جهة أخرى.

وإثر هزيمة حزيران 1967، حدث انقلابان كبيران في الحركة السياسية السورية والعربية عموما، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووُجِدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسي للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد في سوريا تدريجا إلى الفكر الماركسي-اللينيني تدريجيا، حتى تبناه نهائيا في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” كأداة لها وأن كافة الأنظمة العربية، سواء منها الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة” عاجزة عن مواجهة هذا العدو.

في المنقلب الآخر، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجيا عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. كان جورج حاوي معجبا بعبد الناصر ولينين، وقد باتت هذه المزاوجة أحد معالم الخلاف في الحزب الشيوعي بين «الأمميين» و«القوميين»، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار «القوميين» وبدء الرحلة الجديدة للحزب الشيوعي من خلال مؤتمره الثالث 1972. أما المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري فانعقد في 1969 وشكّل بداية الخلاف بين أكثرية المكتب السياسي للحزب بقيادة رياض الترك من طرف وقيادة خالد بكداش من طرف آخر. وفي كلا المؤتمرين لعبت القضية الفلسطينية والوحدة العربية دورا بارزا.

هزيمة حزيران وتزاوج التيارين القومي والماركسي، أدى إلى جعل بوصلة اليسار السوري هي القضية الفلسطينية و”الإمبريالية العالمية”، وبات اليساريون السوريون يبنون سياساتهم ليس على واقع سوريا بل على مواقف الإمبريالية الأمريكية، حيث يتجلّى موقفهم ببساطة بمعارضة المواقف الأمريكية واتخذا مواقف معاكسة.

والأسوأ أن ذلك جعل الحدود بين السلطة السورية والمعارضة واهية جدا. والحال أنه منذ وصول البعث إلى السلطة في سوريا، اختفت الحدود الفكرية والسياسية بين الفئتين. فعلى الضد من معظم التجارب الدولية، ينتمي كلا السلطة والمعارضة إلى الجذور الاجتماعية والفكرية ذاتها. وهما، متكاملين، يشكلان جزءا مما يسمى بحركة التحرر الوطني التي ندين لها بالتغيير القسري للمجرى الطبيعي للتاريخ في العديد من الدول الآسيوية والأفريقية، والتي تقبع الآن، مصادفة، في أسفل السلم الحضاري والاقتصادي العالمي. وتعود السلطة السورية، في جذورها التاريخية على الأقل، إلى البنية الاجتماعية التي نشأت عليها المعارضة. فهي ترجع إلى الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية الذين كانوا يبحثون عن حلول اجتماعية لمشاكلهم الروحية؛ ولقد وجدوا تلك الحلول، وهم الذين درسوا في فرنسا ودولا أوروبية أخرى، في النظريات التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك.

***

فاجأت الانتفاضة السورية المعارضة الغافية على حدود فلسطين، ولذلك تجدها فشلت في اللحاق بركب الثورة، وانقسمت بين من زايد عليها ومن بقي في منطقة الحكومة. وقد رأينا الانقسام يحدث في اليسار السوري وفي الحزب الواحد نفسه، فكثير من قواعد الشيوعيين انضمت إلى الانتفاضة بينما كان قادتها يجلسون في مكاتب الجبهة الوطنية التقدمية ويقارعون الاستعمار من هناك. وكذلك انقسم حزب العمل الشيوعي بين تيارين، انتقل أحدهما إلى صفوف الانتفاضة، بينما بقي الآخر في منطقة “الدفاع عن الوطن”.

وكما فاجأتنا الانتفاضة، فاجأنا تحوّلها إلى العنف واستخدام السلاح. ويمكن القول ثقة أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى في اللجوء إلى السلاح كحلّ، من خلال القمع الدموي العنيف للمحتجين السلميين، ولكننا لا يمكن أن نغض الطرف عن تدخلات القوى إقليمية التي كان من مصلحتها عطف الثورة باتجاه حرب أهلية.

ويسود اليوم سؤال: أكان الأمر يستحقّ كلّ ذلك؟ في مسرحية “يعيش يعيش” للرحابنة تسأل هيفا (فيروز) السؤال نفسه: “اللي بيندفع حقه ناس هو أغلى من ه الناس؟” والحال أن هذا سؤال وجودي أكثر منه سياسيا. وقد سألت نفسي هذا السؤال منذ إطلاق أول رصاصة. وانقسمت داخليا في الجواب: فالقسم الإنساني كان يؤكد بوضوح على أن لا شيء يستحقّ التضحية بطفل أو صبية أو رجل أو امرأة لهم أسرة وأصدقاء ومحبون. السياسي الذي داخلي كان يقول إن الثورة لو لم تحدث اليوم لحدثت بعد سنوات، ولكان وقعها اشد مرارة. وأعتقد اليوم أن ذلك ما سيحدث بعد سنوات أو عقود.

***

لم تقسم الحرب السورية اليسار السوري فحسب، بل واليسار العربي والعالمي أيضا. وقد رأينا في تونس مؤخرا متظاهرين يساريين يرفعون صور الرئيس السوري بشار الأسد أثناء احتجاجاتهم على حكومتهم. ومعظم اليسار الحاكم في أمريكا اللاتينية وغيرها يؤيد ما يرونه “ممانعة” سورية للإمبريالية العالمية. بالمقابل، ثمّة العديد من اليساريين والمثقفين في العالم والدول العربية الذين يقفون إلى جانب حقّ السوريين في تقرير مصيرهم وفي رفضهم لحكم أو نظام معين.

ووجد قسم آخر من اليسار، الذي يستند إلى البوصلة ذاتها، نفسه في مواقع يتحالف فيها مع تيارات إسلامية متطرفة، منها حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. ولعلّ مرد ذلك أن هذا القسم لا يزال يهتدي بنجم الشمال الذي هو موقف هذه القوى “المعلن” من القضية الفلسطينية وإسرائيل والإمبريالية.

والآن، هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري”؟ لا يمكن للحياة السياسية ولا المجتمعية أن تتقدّم بدون حوار وجدال وصراع بين المحرك إلى الأمام والقوّة التي تريد المحافظة على الواقع. ولئن اتفق على تسمية الفئة الأولى يسارا، فإن هذه القوّة ستظلّ موجودة وستظلّ تلعب دورا في عملية التغيير. غير أن المفاهيم لن تكون ذاتها، واليسار التقليدي (وخاصة اليسار الشيوعي الذي لا يستطيع التمييز بين روسيا بوتين وبين الاتحاد السوفييتي) سيتحوّل إلى معاقل اليمين بدون خجل. أما اليسار المتجدّد الذي يرى في الحركة إلى الأمام قدر السوريين، فسيظلّ موجودا، وسوف يجمّع نفسه قريبا في حركة واضحة المعالم تسير على طريق واضح ومحدّد.

اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى

اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى

*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

يلحظ الباحث المهتم بشؤون وأوضاع التيارات اليسارية مفارقة تستحق التفكير، وهي أنه مقابل الحضور الهام والمتميز لليسار العربي ثقافياً وفكرياً، إلا أنه بقي هامشياً وتابعاً بالمعنى السياسي. فضلاً عن قابليته الكبيرة للانقسام. ومثل غالبية الأحزاب العربية لم تعرف الحياة الحزبية الداخلية لليسار السوري أي مرونة وديمقراطية في الحراك والتمثيل، ولا في الانتخابات الداخلية أو العامة، وهذا تقليد موروث من أدبيات اليسار العالمي عموماً، الذي يمتلك مواقف مسبقة من كل أشكال الدمقرطة بدعوى أنها ليبرالية وغربية وصورية … إلخ.

أما موضوعياً، فإن مستوى تطور البنية الاجتماعية قد غلب عليه طابع العلاقات الزراعية وأنماط الملكية الفردية للحيازات الزراعية إلى جانب ضعف الإنتاج الصناعي وغلبة طابع الخدمات على الإنتاج السوري، ما يعني أن الأنصار العضويين لأفكار وتنظيمات اليسار، وهم العمال، لا يشكلون سوى نسبة قليلة من أفراد المجتمع. مع إن تاريخ الحركات الفلاحية في سورية يبيّن أن الفلاحين في غالبيتهم العظمى ينتسبون إلى الفئات والشرائح الكادحة في المجتمع السوري.

وعلى صعيد السيكولوجيا الجمعية والطابع الغيبي للذهنية السائدة، يمكن فهم دوافع مقاومة الأفكار اليسارية والثورية ذات الطابع التغييري، ذلك أن الذهنية الإيمانية والقدرية تعتبران التفاوت في الغنى والفقر أمر طبيعي لا يحتاج إلى تعديل، فالدنيا نصيب، ويمكن من خلال التبرعات والصدقات والزكاة التي يقدمها الأغنياء للفقراء أن تقلص الفوارق وتحسن الأوضاع، لكنها بالتأكيد لا تستطيع إلغاء الفوارق الطبقية ولا العوامل الموضوعية لتوزيع الثروة وامتلاك وسائل الإنتاج، باعتبارها هي العوامل المفسّرة لوجود الفقر المدقع والغنى الفاحش في مجتمع واحد.

ومقابل الحضور الهامشي لليسار السوري بالمعنى السياسي، لا بدّ من ملاحظة ألقه وتفوقه فنياً وثقافياً وتميزه فكرياً. وليس أدل على ذلك من مؤلفات وكتابات بو علي ياسين، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، ومعها كتابات صادق العظم وطيب تيزيني وياسين الحاج صالح قبل أن يتخذوا مواقف ملتبسة ومن ثم منحازة في فهم وتفسير “الحراك” والأحداث التي جرت في سورية بعد عام 2011. فإنتاج هؤلاء في مجالات الفلسفة والفكر والأدب المسرحي والروائي المتنوع وبسويّة فنية عالية شاهدٌ آخر على الهامشية السياسية لليسار السوري مقابل تفوّقه الإبداعي.

ولعلّ ما يفسر ذلك جزئياً أن معظم المثقفين السوريين من ذوي الميول اليسارية هم في غالبيتهم ممن تركوا الأحزاب الشيوعية واليسارية أو لم ينتسبوا إليها أساساً، لكنهم في توجهاتهم الفكرية والفلسفية ورؤاهم الثقافية أقرب إلى اليسار من خلال استلهامهم لقيم العدالة ومقاومة الظلم ونظرتهم المساندة للتغيير الاجتماعي والسياسي والقيمي. فمواقف اليسار العربي عموماً من التراث مثلاً، مكّنت بعض من أبرز قرّاء التراث من إعادة التفكير فيه، وبناء صورته الفعلية أو المتخيلة استناداً إلى ميل راديكالي تجاوزي مستلهم من بعض اللحظات الإسلامية، ومن ثورة القرامطة والزنج، ومن كتابات المتصوفة كالحلاج وابن الفارض والخيّام والسهروردي وابن عربي، وبعض أفكار المعتزلة وعلماء الكلام، وصولاً لكتابات ابن رشد العقلانية ونقده العميق لأفكار الأشاعرة والتيار النقلي السلفي تاريخياً. مثلما عبّر مفكرو عصر النهضة العربية مثل سلامة موسى وفرح أنطون ومحمد عبده ومن ثمّ طه حسين ونصر حامد أبو زيد والجابري وعبد الإله بلقزيز ومهدي عامل وحسين مروة وجورج طرابيشي وغيرهم، والذين وظفوا وبدرجات متباينة مناهج النقد الحديث لإعادة قراءة التراث العربي من وجهة نظر حداثية. أي أن هذا التباعد عن المواقف الإيديولوجية لأحزاب اليسار العربي تاريخياً وراهناً قد أعطى هؤلاء المفكرين هوامش أوسع للتفكير والتعبير خارج القوالب الإيديولوجية المسبقة، وأعطى لمساهماتهم بعداً تجاوزياً يقع في صميم فلسفة التغيير.

لكن التفاوت في أداء اليسار بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي والثقافي، يحيل على خلل وقصور أبعد من الالتزام الحزبي التنظيمي والتقيد بالمبادئ والشعارات، ليصب في خانة قصور تيارات اليسار عن متابعة التطورات الفلسفية والفكرية التي طرأت على الماركسية، سواء على يدي غرامشي ومدرسة فرانكفورت النقدية، عند كلّ من أدرنو وهابرماس وأريك فروم، أو التجديدات اللاحقة على انهيار المنظومة الاشتراكية والتي تحدثت عما وراء الشيوعية والرأسمالية، وانحازت إلى مقولات الديمقراطية الاجتماعية ودولة الضمان الاجتماعي والرفاه، وصولاً إلى أطروحات الطريق الثالث التي دعت إلى إعادة النظر بأدوار الدولة والمجتمع المدني والأسرة، ونقد البعد الإيديولوجي المسيطر على فهم اليمين واليسار لهذه الأدوار كما تجلّت في كتابات “أنتوني غيدنز” في تنظيره للطريق الثالث والذي يدعو فيه لإعادة تجديد الديمقراطية الاجتماعية بوصفها النموذج الواقعي والممكن لتحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها الأعمق.

وليست التحولات التي أصابت الاقتصاد العالمي وانكشاف دعاوى الليبرالية المتوحشة وازدياد الاستقطاب والتفاوت بين الأغنياء والفقراء محلياً وعالمياً سوى ظروف موضوعية يفترض بها أن تجدد دماء الحركات اليسارية عالمياً وتمنح للتيار النقدي اليساري الكثير من الوجاهة والمشروعية في مواجهة أشكال الخلل وتزايد الاستغلال والعبوديات المعاصرة والتي أخذت تلقى العديد من أشكال الاحتجاج والمقاومة في المراكز الغربية نفسها.

هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى التضييق على العمل السياسي وهوامش الحريات المتاحة والقمع والسجن الذي تعرضت له كوادر اليسار في سورية ومصر بشكل خاص، تفسّر ضعف اليسار العربي عموماً والسوري على نحوٍ خاص، وهي إلى جانب الانقسامات الإيديولوجية والتناحر العقائدي وضعف تجديد بنى ومقولات أحزاب اليسار أسهمت في تكريس ضعفه وبقاءه جزراً معزولة في المحيط التقليدي المحافظ عربياً، فضلاً عن تدني قدراته السياسية والتنظيمية في مواجهة مد الإسلام السياسي الذي أعاد إنتاج البنى الاجتماعية والسياسية المحافظة والتقليدية بصورة كاريكاتورية أشبه ما تكون بما أسماه مهدي عامل بالحداثة الرثة أو ما نسميه بالأدبيات السوسيولوجية المعاصرة بحداثة التخلف ذات الطبيعة السياسية المحافظة والعلاقات الاجتماعية المحدثنة شكلاً والتقليدية مضموناً ووظيفةً وأداء.

لكنّ الدلالة الأكثر سلبية من وجهة نظر التحليل السوسيولوجي برأينا، تكمن في غياب الشباب والمرأة وضعف تواجدهما في ساحات اليسار، مع ملاحظة امتلاك اليسار بمختلف أطيافه لتصورات تنتقد الثقافة الأبوية السائدة وتعلي من مكانة المرأة في المجتمع وتدعو إلى تحررها وتمكينها، أي أن الطاقة المستقبلية الشبابية والبشرية التي تنتسب أو تملك ميولاً يسارية آخذة في النضوب والتلاشي، وهي ظاهرة تستحق التحليل وتستدعي مراجعة تجارب اليسار السوري نقدياً وبصورة شجاعة تكفل التعرف على نقاط الخلل والضعف والاعتراف بأشكال التقصير المتعددة فكرياً وتنظيمياً وسياسياً، وإلا سيتحول اليسار السوري بمختلف أطيافه وتلاوينه ورموزه إلى مجرد إرث أو ذكرى لا مكان لها في التقاط التغييرات والتحولات المجتمعية ولا في التعبير عنها والنطق باسمها. وهو أمر سوف يفقر الحياة السياسية والثقافية السورية التي تكاد تخسر أحد مكوناتها الذي امتلك في لحظات فاصلة الكثير من الدينامية والحيوية، وما انفك يبشر بغدٍ أفضل.

فرص ضائعة وسياسة انكار… “حزب الشعب الديمقراطي” نموذجاً

فرص ضائعة وسياسة انكار… “حزب الشعب الديمقراطي” نموذجاً

كلما فكرت باليسار السوري قفزت إلى ذهني الجملة التي قالها لي رياض الترك في برلين، لدى زيارته الأولى لأوربا بعد خروجه من سجنه الثاني، عندما قدمت له ورقة بعنوان “هل بقي لليسار من دور يلعبه؟”. كانت الجملة: “لا يوجد يسار”. يومها اعتقدت أنّه حكم وجود واقعي. الآن، وبعد أن صار ما صار، أعتقد أنه كان حكم إعدام.

لخّص، بالنسبة لي، هذا التصريح من شيخ اليسار السوري آنذاك الجانب الذاتي من أزمة اليسار السوري. إنّه الفقدان المطلق للثقة بالنفس. وعندما يفقد المرء الثقة بنفسه يلتحق بأحد أولئك الشجعان الذين مازالوا يحتفظون بتلك الثقة. ويفترض المنطق أن يكون ذلك الملتَحَق به قريباً فكريّاً من المسكين الفاقد للثقة بنفسه. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي لا علاقة له على ما يبدو بهذا المنطق، فاختار الإخوان المسلمين، أو لعلّه التحق به لهذا لسبب إيّاه؟

وعندما يرتكب المرء هذه الحماقة فلماذا نستغرب أن ينزلق إلى ما هو أكبر منها؟ كأن يدافع جورج صبرة عن جبهة النصرة مثلاً، في كلمته التي أصبحت من الشهرة بحيث لا أحتاج هنا لذكرها. فالتعاون مع الإخوان المسلمين يمكن تبريره بأنهم سبق أن شاركوا في انتخابات برلمانية ديمقراطية ذات يوم على الأقل، كما هو معروف، رغم كل ما يمكن أن يُقال عن ديمقراطيّتهم بأنها “ديمقراطية أدواتية”، أي أنها مجرّد أداة للوصول إلى الحكم، بدليل غيابها الكامل عن بنية الحزب وعلاقاته الداخلية المبنية على مبدأ الولاء المبني على البيعة الشرعية..الخ. أما جبهة النصرة فقد كانت وما زالت تعتبر الديمقراطية وحكم الشعب شركاً بالله، وهو منطق السلفية الجهادية نفسه الذي أعاد صياغته سيد قطب في كتبه الكثيرة وخاصة “معالم في الطريق” الذي أصبح “إنجيل الثورة الإسلامية” وخاصّة في فرعها الجهادي. وهنا أذكّر باختصار شديد أن الكتاب المذكور كان أحد أكثر ما يقرأه الإخوان أنفسهم، إلى درجة أنهم كانوا يختصرون العنوان بكلمة “المعالم” في أحاديثهم بسبب شهرته بينهم.

خيبتي تلك مع الرفيق رياض الترك تكرّرت مضاعفةً، عندما قرأت نص الكلمة التي ألقاها في احتفالية الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بتاريخ 14/12/2018 حيث يتحدّث عن “صدمات صغرى” سبّبها النظام بإطلاق مئات السلفيين من سجونه ودفعه لهم لمصادرة الثورة وأسلمتها، لكنّ صدمته الكبرى كانت عدم التدخّل الدولي. إذن فالرجل لم يتعلّم من سبع سنوات فشل لإحدى أكثر الثورات مأساوية في التاريخ الحديث أي شيء.

ولكن ماذا كان يمكن لليسار أن يفعله واقعياً، حتى ولو لم يكن متأثّراً ب”مانديلا سوريا” الذي جعله السجن، على ما يبدو، يعتقد أن كل ما كان هو نفسه يدعو إليه من برنامج اجتماعي ووطني وقومي هو كلام نافل أو مؤجّل في أفضل الحالات وأن النضال الوحيد الذي يستحق التضحية بكل شيء هو القضاء على السجّان الحالي، حتّى ولو كان السجّان المقبل هو والي اردوغان في سوريا مثلاً؟

كان يمكن له أن يتعلّم من دروس جيرانه في إيران مثلاً، فيرى كيف يمد الإسلاميون يدهم للجماعات اليسارية قبل الثورة فإذا استلموا السلطة تخلّصوا منها، واحدةً بعد الأخرى. وقد كان من شأن هذا الدرس أن يجعل الرفاق يتذكّرون قصة “التخوم” التي كان لينين يركّز عليها باعتبار تحديدها قبل أي تعاون مع الآخرين شرطاً مُسبقاً لأي تعاون من هذا النوع. حتّى هنا كان اليساريون الثوريون السوريون يفتقدون لعذر كبير تمتّع به رفاقهم الإيرانيّون وهو أن الشاه كان صنيعة للإمبريالية الأمريكية بالمعنى الملموس (دور السي آي إي في الانقلاب ضد مصدق..الخ). هذا البعد العالمي للنضال لم يختفِ فقط من الخطاب اليساري الثوري السوري، بل ظهر عكسه بالضبط، أي الاستنجاد بالتدخّل العسكري الإمبريالي، إلى درجة أن عدم ذلك التدخّل شكّل “الصدمة الكبرى” للرفيق رياض الترك، كما قال هو نفسه.

أيّ يساري حقيقي كان يُفتَرَض أن تكون “صدمته الكبرى” هي هذا التصريح مثلاً في العام الثاني للثورة: ففي 13 كانون أول 2012 نشرت الحياة ما يلي على لسان معاذ الخطيب : “..كون الحراك العسكري إسلامي اللون بمعظمه هو شيء إيجابي..”. بالنسبة لمعاذ الخطيب كان ذلك إيجابياً طبعاً فالرجل نفسه “إسلامي”، لكنّ التصوّر العام عن مفهوم “اليساري” يجعل أي مراقب محايد يتوقّع من يساريي الثورة السورية في ذلك الوقت أن يعيدوا حساباتهم ويواجهوا جماهيرهم بالحقيقة المرّة وطرق التعامل معها. فماذا فعل هؤلاء فعلاً؟ لقد لجأووا إلى التكتيك النفسي المعروف “الإنكار”. وهو تكتيك يصنّفه المحلّلون النفسيون في خانة “آليات الدفاع النفسي”، كما نعلم. ولكي ينجح هذا الإنكار كان يجب اللجوء إلى “لغة إنكارية” بالكامل بحيث نستبدل عبارة “المجاهدين” بعبارة “الثوار” في المرحلة الأولى ثم بعبارة “المعارضة” في المرحلة التالية. فكلمة معارضة تنطبق على جبهة تحرير الشام تماماً كما تنطبق على “تيار اليسار الثوري” التروتسكي. ومن جهة أخرى نقتصر عندما نتحدّث عن أهداف الثورة على هدف إسقاط الدكتاتورية الحاكمة في دمشق، فهو أيضاً هدف الجولاني كما هو هدف رياض الترك.

هل كان اليسار يستطيع أن يفعل غير ذلك؟

لا شك. وهذا الجواب القطعي سببه ظروف اندلاع الثورة السورية: ممهّداتها (ربيع دمشق ودور المثقّفين الأقرب إلى اليسار فيه)، المسار الذي بدأت به الثورة السورية (شكل الحراك السلمي وشعاراته، الغياب التنظيمي شبه الكامل للإسلاميين في كوادر الثورة في مرحلتها الأولى، حسب كافة الباحثين)، طبيعة القيادة التي قدّمت أولى المبادرات السياسية في مرحلة مشاورات الدوحة المبكّرة، وأخيراً السمعة النضالية الخاصة التي كان رياض الترك يتمتّع بها بسبب تاريخه وشجاعته في مواجهة الديكتاتورية من داخل سوريا وليس من خارجها، والتي شكّلت له “رأسمالاً رمزيّاً” لدى الجماهير كان يمكنه استغلاله للمساهمة في ترجيح الكفّة في صفوف المعارضة لصالح اليسار..

فلماذا لم يفعل الحزب ذلك؟

أظنّ أنني أجبت على ذلك في بداية هذا المقال بشكل غير مباشر. فاليساري الذي يفقد الثقة ب”الرسالة البنيوية” لليسار، سيخدم اليمين في النهاية.

أما عن ماهية تلك “الرسالة البنيوية”. فهي يمكن استنتاجها فقط من مصدرين: الأول نظري يتناول تاريخ الصراع الاجتماعي ودور الذات الثورية فيه، والثاني تطبيقي يحلّل بنية المجتمع السوري في مستوياتها الثلاثة الكبرى الاقتصادية والسياسية والايديولوجية وكيف تتطوّر هذه المستويات الثلاثة أو كيف يعرقل تخلّف أحدها تطوّر الآخر، كما حصل ويحصل فعلاً وما هو “موقع” الذات الثورية في تلك البنية وكيف تعزّز موقعها في سبيل تحقيق برنامجها، الذي هو في النهاية برنامج “القوى الاجتماعية الساعية للتطوير” التي تمثّلها. وهذا كلّه موضوع دراسة يضيق هذا المجال عنها. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي السوري فوّت على نفسه فرصة هذه الطريقة في “البرمجة” منذ مؤتمره السادس في أواخر نيسان 2005. رغم أنّ الدافع الواضح وراء مغادرة الأدلجة الماركسية اللينينية إلى غير رجعه كان يكمن خلف كل كلمة من كلمات برنامجه السياسي الصادر عن ذلك المؤتمر. وقد غادر الحزب تلك الأدلجة فعلاً وسار في اتجاه آخر. لكنّه كان إلى اليمين للأسف وليس إلى يسار جديد. وقد كان استمراراً لمسار بدأ في الثمانينات وسار ببطء إلى أن سرّعته الثورة السورية. الهدف السياسي الإجرائي المحدّد والملموس لذلك المسار كان التعاون مع الإخوان المسلمين (الحاضرين الغائبين في كل من مؤتمري حزبي البعث والشيوعي-المكتب السياسي في أواخر 1979 وفق تعبير ياسين الحاج صالح). وهذا التعاون هو المقصود بهذه الفقرة التي ننقلها هنا من البرنامج السياسي للمؤتمر السادس للحزب: ” لقد وضعنا هذا البرنامج، آخذين في الاعتبار الانفتاح على المجتمع وعلى الحركة الديمقراطية في سوريا بطيفها المتنوع، وضرورة الوصول إلى برنامج مشترك في أيّ لقاء أو مؤتمر وطني لأطرافها”.

أخيراً سأسمح لنفسي بهذه الملاحظة غير السياسية: لقد أثبتت خبرتي مع السياسيين العلمانيين العرب عموماً أنّ التصوّر الذي كان كامناً في لاشعورهم حول الإسلاميين كان دائماً يعاني من التشوّه. فهم إمّا يرونهم كمجموعة من الدراويش أو كحزب إسلامي تماماً كما أن الحزب الديمقراطي المسيحي في المانيا حزب مسيحي، أو كمجموعة من الأصوليين المتخلّفين والخطرين (وهو تصوّر حديث متأثر بسلوكيّات الجهادية السلفية). كل هذه التصوّرات لا تنطبق على موضوعها كما أصبح واضحاً بعد سبع سنوات من الثورة السورية، وإن كان ثمة ما هو صحيح في تلك التصوّرات جميعها في الوقت نفسه. أما ما هو التصوّر الأقرب إلى الواقع فمعرفته تتطلّب دراسة بنية التنظيمات الإسلامية وخاصة الجانبين التثقيفي والتنظيمي. ولكن ذلك بالذات هو ما لم يكن من الممكن لمعظم المناضلين ذوي الماضي الشيوعي أن يعرفوه، بحكم البيئة السياسية المختلفة كلّياً التي ترعرعوا فيها. لكنّ الممكن فعلاً، حتّى لمناضل لم يعرف في حياته غير الأوساط الشيوعية هو دراسة تجارب الآخرين من شيوعيي هذا العالم عندما تعاونوا مع الإسلاميين، كتجربة الإيرانيين مع الخميني مثلاً.

لكنّنا على ما يبدو لا نتعلّم إلاّ من كيسنا.