حول الهويات في سوريا

حول الهويات في سوريا

لا أعتقد أنه لدينا في سوريا فعلاً هوية وطنية، رغم توفر بعض شروطها من أرض ولغة وعادات وتاريخ مشترك، وذكريات متشابكة…الخ. أعتقد أننا كنا نعيش في مجتمع هش للغاية سطحه عبارة عن صور براقة للقائد يتوسط مجموعة رجال دين وقوميات وإثنيات، بينما أعماق هذا المجتمع هي مجموعة براكين قد تنفجر بين بعضها البعض بأي لحظة، وقد جاءتْ هذه اللحظة في عام 2011 لتنفجر صراعات دموية لهويات لم تعمل هذه الأنظمة على انسجامها من خلال المواطنة فتضمن استمرار مصالحها الضيقة مع مصالح الوطن والشعب، صراعات تبدو وكأنها متناقضة بين انتماءات و ولاءات متعددة لكنها في الوقت ذاته تمثل مصالح متعددة ومتنوعة لجهات خارجية وداخلية.

مع بداية الثورة السورية، كانت الهوية الوطنية السورية في مواجهة امتحان تاريخي صعب للغاية، وأعتقد أنها قد فشلت في هذا الامتحان فشلاً مؤلماً، يدل على حجم الكذبة والخديعة التي كان يعيشها الشعب، لأن الوطن أصلاً كان بلا مواطنة حقيقية تعمل على تهذيب هوياته وتداخلها وتفاعلها معاً بشكلٍ ايجابي، يخيلُ لي أننا في سوريا بعد سنوات الحرب هذه، أننا أمام موت وطن قديم ونشوء وطن جديد، الوطن القديم جثم بكل ثقله فوق أنفاس الناس وخنقهم لعقود طويلة، أما عن الوطن الجديد: هو الآن في حالة نشوء، لكن، ما مدى إيجابية هذا الوطن الجديد؟ لا نعرف، ثمة من يتحكم خارجياً بهذه الولادة الجديدة محاولاً اختصارها إلى ما يتناسب مع مصالحه وانتماءاته الخاصة، وأعتقد أنه من المبكر تبلور جواب واضح حول الوطن الجديد.

غياب المواطنة والديمقراطية وتفاعل الهويات في المجتمع السوري، مع بداية النظام الاستبداي، أدى حالياً إلى حرب كارثية كانت بمثابة مستنقع تنمو فيه الجوانب المظلمة من كلّ الهويات، وهذه الجوانب المظلمة للهويات قضت على كل جانب مضيء بكل هوية ودخلت فيما بينها بصراع مرير.

كان يمكن للمواطنة والديمقراطية خلال عقود (لو أنها وجدت كما حدث في بعض التجارب العالمية التي خاضتها بعض الشعوب المشابهة لشعبنا بمجرد تحررهم من الاستعمار الخارجي) من أن تعلي القيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر وتقبله والتفاعل معه ضمن هوية جديدة جامعة تضمن مصالح الكل، إلا أن أنظمة الاستبداد، كانت جداراً صلباً أمام مثل هكذا مشروع لأنه لا يتناسب مع مصلحتها، وبالتالي غيبت هذه الأنظمة الاستبداية مفاهيم وقيم الديمقراطية والمواطنة إلا من الشعارات التي تُكتب على حيطان المؤسسات الحكومية، وحافظتْ على الجدران بين الهويات، وافتعلت أحياناً هذه الأنظمة بعض المشكلات بين هذه الهويات، لتطمئن أنه لا يوجد انسجام بين هويات الوطن، وبالتالي تكون الحاجة لهذه الأنظمة الاستبداية ضرورية لأنها وحدها من يحمي المجتمع من صراع الهويات.

تراجع الوعي خلال هذه العقود، مما أدى بشكل غير معلن وواضح قبل الحرب، وبشكل معلن وواضح بعد الحرب، إلى  النكوص إلى هويات قديمة، تشكلت منذ عصور بعيدة ضمن مصالح وتطورات خاصة بأزمنتها لا تتفق مع هذا الزمن.

وطبيعي أن القتل والدمار والانهيار والنزوح والتشرد والجروح لن تسمح للوعي ضمن هذه الشروط القاسية بأن يعيد تشكيل مفهوم حديث للهوية الوطنية.

دولة بلا سيادة على جزء واسع من أرضها، بنظام شمولي استبدادي، دون عقدٍ اجتماعي واضح يعكس مصالح الفئات الاجتماعية ويضمن الحريات ويحميها، كل ما سبق أدى إلى تلاشي الشعور بالوطنية الذي يقوم عادة على هوية عصرية متناسبة مع عصرها ومفاهيمه العلمية.

لم تستطع هذه الأنظمة الاستبدادية خلال عقود من ترسيخ شعور المواطنة لدى الإنسان، لهذا لم تستطع أن تنتج مفهوماً أخلاقياً جديداً للهوية الوطنية، ينافس وينسجم ويتفاعل مع الهويات القومية والدينية والطائفية والإثنية.

وحتى المعارضات لم تخرج عن التصور الخاص بالنظام للهوية، إنما أعادتْ إنتاجه بشكلٍ جديد. لتظل بهذا عاجزة (غالباً) عن إنتاج مفاهيم جديدة للهوية الجديدة (باستثناء نخب لا تمثل الواقع إلى حدٍ كبير)، وبهذا ظلتْ المعارضات مجرد (رد فعل سلبي) على فعل سلبي (نظام استبدادي) فقط لا غير.

الآن لدى السوريين مقاربات مختلفة ومتناقضة ومتصادمة حول الهوية، وكل طرف فصل ولبس هوية على قياس أحلامه وأوهامه وآلامه ونكوصه، وصار لكلّ سوري تعريف خاص نوعاً ما لسوريته الخاصة به.

أعتقد أن الأطراف المتصارعة تُمثل جزءاً جيداً من الشعب السوري، من نظام وميلشياته حتى الفصائل الإسلامية.

أعتقد أن كلّ السوريين رغم كل الاختلافات يتفقون معاً على ضرورة إنهاء الحرب، بالقوة لدى البعض أو بالمصالحات أو بالتقسيم لدى بعضهم الآخر.

ثمّة طموحات غير متشابهة لدى السوريين، لكن هناك جزءاً ليس بقليل يطمح لدولة عادلة وديمقراطية تقوم على المواطنة واحترام الإنسان.

الصراع في سوريا هو بالدرجة الأولى صراع مصالح ومشاريع مختلفة يتم إلباسها مفاهيم دينية أو قومية أو وطنية بغية تلميعها لاستمرار تسويقها لدى الناس لجني المكاسب على حسابهم، لا يمكن حصر دوافع الصراع في سوريا لأنها متعددة ومختلفة، ثمّة هدف لكل فئة ولكلّ طرف، وبعض هذه الأهداف قد تكون نبيلة لبعض هذه الأطراف.

لا يوجد الآن في سوريا إجماع على هوية معينة، هذا يحتاج لعقد اجتماعي جديد… يوجد الآن مجموعة هويات منقسمة على بعضها ـ متناحرة أحياناً متحالفة أحياناً أخرى، بحسب الحرب وتشعبها.

لا أعرف كيف سيكون شكل الهوية مستقبلاً في سوريا، من الصعوبة التنبؤ بهذا، لكن على الأقل أتمنى أن تكون هوية وطنية ديمقراطية متعددة، وألا نصل إلى ما يشبه نموذج الهوية الوطنية الطائفية كما هو الحال في لبنان و العراق الآن.

جزء جيد من الفصائل الإسلامية المعارضة تقاتل في سبيل هوية إسلامية وفي سبيل فرضها على البلاد كلّها، ثمّة فصائل أخرى قد تقاتل تحت عنوان الهوية الإسلامية، لكنها فعلياً تقاتل في سبيل منفعة سياسية واقتصادية (أمراء الحرب مثلاً).

ليس لدى النظام أي تصور مستقبلي لمفهوم الدولة سوى تصوراته القديمة والسلبية، التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، لأنه بتخليه عنها يلعن نهايته، ويدق في تابوته المسمار الأخير.

كما قلتُ منذ قليل، ثمّة شيء يجمع عليه أغلب السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم وتوزعهم الجغرافي، وهو إنهاء الحرب وإعادة الإعمار(طبعاً باستثناء قلة من أمراء الحرب وتجار الحرب لأن إيقاف الحرب يضر بمصالحهم الاقتصادية والربحية).

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة

من بين الأسئلة التي تطرحها الحرب، تبرز إلى السطح وبشكل محايد ومستمر أسئلة الهوية، المواطنة، المصير، الانتماء، الذات، الآخر، العدالة والكرامة الإنسانية. ورغم أن هذه المصطلحات/الأسئلة، تبدو وكأنها صياغات لغوية أو فكرية تستمد بعدها المعرفي من علمَيْ الاجتماع والنفس، إلا أنها على أرض الواقع تأخذ دلالاتها المعنوية من خلال القتل، التهجير، تدمير المنازل، الاعتقال، غياب الاحترام، الطرد من العمل، غياب الفعل الثقافي، أزمات معيشية مستدامة والعيش على خط الصفر الحياتي دون ضامن والمستقبل، حتى الآنيّ منه، في حكم ضمير مجهول. وسيتلخص ذلك كله في “تفكك الهوية”.

وإن كنا ندرك بأن ما يشكل هوية شعب، هو انتماء هذا الشعب إلى أرض وثقافة أرض يبني عليها أحلامه وطموحاته، وثقافة يستمد منها عناصر القوة لدعم هذه الأحلام والطموحات. ضمن إطار مجتمعي محكوم بقانون يضمن الحقوق ويملي الواجبات، فإن هذا الانتماء سوف يشكل الميزة التي تجعل من هذا الشعب صاحب هوية، ويجعل من أفراد هذا الشعب مواطنين في وطن قائم على الاحترام. غياب هذا الانتماء سيؤدي إلى غياب المواطنة وبالتالي فقدان الهوية أو تفككها. أو ما أطلقت عليه الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل: “اقتلاع الجذور”.

الهوية السورية: من ضعف الانتماء إلى غيابه

إن كانت وحدة الأرض، وهي الشرط الأول للانتماء، متوفرة قبل عام 2011 في سورية، فنظرة بسيطة الآن إلى الخارطة ستكشف ليس غياب وحدة التراب الوطني فحسب، بل تشظيه فيما يشبه التقسيم غير المعلن وبشكل أقسى من تقسيمات الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو. وذلك ما تُرجمَ على الأرض من مناطق نفوذ محلية ودولية وتقسيمات مفيدة وغير مفيدة! إن هذا التجزيء هو العرَض الأول لتفكك الهوية السورية.

إن من نافل القول أن نتحدث عن تنوع اثني وقومي في سورية، فثمة أديان، طوائف وقوميات مختلفة. لكن ثمة مرجعيات ثقافية لكل دين وطائفة وقومية، فكل دين هو ثقافة وكل فرط تدين هو سياسة، وإذا كنا عانينا، وما زلنا نعاني، من فقر ثقافي عام فليس سببه هذا التنوع، بل العكس وجود هذا التنوع هو دليل صحة، وهذا الفقر الثقافي مرده إلى الفقر في التكامل بين الثقافات المتنوعة في مجتمعنا الذي صُبغ ولعقود بثقافة وحيدة هي ثقافة السلطة.

يقول عبد الرحمن الشهبندر: “كل خنق للفردية قضاء على الارتقاء، والتجانس التام معناه الركود المؤذن بالتعفن والانحلال”. هذا الانحلال هو ما نعنيه بتفكك الهوية. وهذا يعني فيما يعنيه أيضاً أن الاختلاف لا التماثل هو المحرك لسيرورة المجتمع، أنا أختلف معك حول قضية إذاً أنت توسع زاوية الرؤية لهذه القضية، فأنت تكملني. لأن كل رؤية أحادية هي رؤية غير كاملة بالضرورة.

وإذا كانت التعددية السياسية تُلزم وجود أحزاب وقوى مجتمع مدني متباينة في الرؤى لتحقيق سياسة بالغة، وهي غير متوفرة، وإذا كانت التعددية الاقتصادية تُلزم وجود قطاعات اقتصادية عامة وخاصة متكاملة لتحقيق عدالة اجتماعية ورفاه مجتمعي، وهي غير متوفرة أيضاً، فهل عشنا تعددية ثقافية في سورية، وهي ما تحيل إلى الشرط الثاني للانتماء؟

في غياب التعدديتين السابقتين سيكون الجواب: لا. فعندما تكون ثمة رؤيا سياسية واحدة، ورؤيا اقتصادية واحدة سينتج لدينا مجتمع مكبوت، مجتمع يعاني من أنيميا حضارية وضعف في الانتماء.

يبدو من الإجحاف، الوصول إلى هذه النتيجة، فالمواطن السوري رغم تضافر كل العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسلبه حق المواطنة، إلا أنه بقي سورياً وبقي متطلعاً لتحقيق وطن يكون فيه محترماً ويحيا بكرامة، ويمكننا أن نقول بأنه مُنع من تحقيق انتمائه، ونظرة سريعة إلى الأرقام التي نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هذه النظرة، وإن كنا نعيش واقعياً هذه الأرقام، ستكشف لنا عن عمق ما عاناه المواطن السوري المهدَّد بفقدان هويته: “بلغ عدد القتلى جراء الصراع (470 ألف حتى فبراير2016). (6.1) مليون نازح.(4.8) مليون طالب لجوء. في منتصف 2016 مليون نسمة يعيشون في مناطق محاصرة. (12679 لقوا حتفهم أثناء الاعتقال بين آذار 2011 وحزيران 2016).” رغم البرود المعلوماتي لهذه الأرقام، إلا أنها حارة جداً على الأرض، حارة وأكثر ظلماً وأسى. ماذا تعنيه هذه الأرقام بالنتيجة؟ فإذا كان الانتماء تعريفاً هو “الارتباط بالمكان”، المكان الذي يعني: وطن، الوطن الذي يكوّنه مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات ويحكمهم دستور، فهذه الأرقام تعني فقدان الحياة وفقدان المكان وفقدان القدرة على تحقيق الانتماء الذي يعني فقدان الهوية.

الهوية السورية: العنف والعنف المضاد

إن ما عنيناه بالانتماء هو الانتماء إلى وطن، وما عنيناه بالهوية هو عيش الشعور بالمواطنة، وما عزوناه إلى غياب التعددية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي هو نقص المواطنة وحالة الاستلاب والقهر والظلم والشعور بالعجز.

وهنا سنسأل: هل العنف الذي مورس على السوريين جعلهم يخشون من تفكك هويتهم، وبالتالي جعلهم يتمترسون خلف هويات مختلفة؟ أم الخوف من فقدان هويتهم هو من دفعهم إلى العنف وحرض الروح القتالية لديهم؟ أم أنه تم استغلال قضية الهوية من قبل أشخاص لاستغلال مجاميع عريضة من الشعب السوري لتحقيق غايات سياسية أو حربية؟ عندها يصبح من المشروع أن نسأل: هل يمكن للهوية أن تكون وسيلة عنفيّة؟

مما لا شك فيه أنه تم استخدام الخوف من الآخر، والخوف على الهوية لتغذية الصراع في سورية ولتعميم الكراهية. إن تصوير الصراع على أنه صراع هويات هو إرهاب بلباس إعلامي.

لكن أية هوية تلك التي تقوقع حولها السوريون؟ أية تصانيف تم حشرهم بها؟

عندما نسمع شخصاً يقول: فلان سني سوري، أو علوي سوري، مسيحي سوري، درزي سوري إلخ… فمن البديهي أن نقول إن هذا الشخص بتصنيفه ذلك هو شخص طائفي وإن التحريض على العنف يبدأ من هنا: من التسمية. إنه يحدد هوية معينة.
إن التصنيف الذي نودي به في بداية الأحداث حول مكونات الشعب السوري هو تصنيف عنفيّ و صنف السوريين أولاً حسب المعتقد الديني (سني، شيعي، علوي، مسيحي، درزي، إلخ)، وثانياً حسب الانتماء القومي (عربي، كردي، آشوري، أرمني، إلخ…) لأن هذه التصانيف تجعل من المنتمي إلى دين أو طائفة أو قومية، تجعله يتمترس خلف دينه وطائفته وقوميته. إنها تحريض على الدفاع عن ذاته تجاه من يعتقد بأنه سيسلبه ذاته وهويته الضيقة وتجاه من يعتقد أنه في الطرف الآخر الذي هو دين آخر وطائفة أخرى وقومية أخرى.

لقد استخدمت هذه الآلية بشدة وقذارة في الصراع في سورية، فعندما يقول أحد مسؤولي السلطة بأنه يدافع عن أقليات بلده، فهذه مقولة تبطن عنفاً طائفياً. وعندما تقوم قطاعات عريضة من المعارضة بتبني صيغة مذهبية بعينها واستخدام شعارات واضحة المنشأ (التكبير مثلاً) أو تبني أسماء كتائب واضحة المدلولات، فهذا عنف طائفي أيضاً أو تحريض عليه. وعندما ترفع الميليشيات العراقية واللبنانية المقاتلة في سورية شعار “لكي لا تسبى زينب مرتين” فهذا يعني أنهم يقاتلون مدفوعين بهوية دينية طائفية وإن كانت ظاهرية إلا أنها ضرورية لحشد قطاعات من الشعوب من السهولة بمكان استثارتها دينياً. وما حدث من افتعال للقتال بين السنة والمسيحيين في حي الأرمن في حمص، أو بين السنة في درعا والدروز في السويداء، فلا شك أن هذه الحوادث ليست بريئة ومشغول عليها من قبل أشخاص طائفيين.

فالهوية الوطنية بقدر ما هي روح جامعة، تغدو الهوية المذهبية مدعاة لعنف وإرهاب أعمى.

الهوية السورية: الذات، الآخر ولعنة الإقصاء

ثمة نوع من الأسئلة يُثار دائماً، إلا أن الحرب جعلته أكثر استفزازاً وأكثر حضوراً واقعياً على المستوى الفردي وعلى مستوى التجمعات السكانية: ما الذي يحدد شكل علاقتي بالآخر، وما الذي يحكم نظرتي تجاه الآخر؟

في يوم ما من عام 2007 كنتُ في ميكروباص في ضاحية مشروع دمر، جلستْ إلى جانبي امرأة متوسطة العمر وتحمل عدادة تسبيح صينية، وتسبّح بصوت مسموع مشوّش خليطاً من بسبسة وتمتمة. شعرتُ بالضيق فطلبتُ منها بلطف أن تخفض صوتها أو أن تسبح بقلبها. نظرت إلي باشمئزاز واضح، لم تتكلم. وعندما كنتُ أغادر الحافلة، نظرت إلي وقالت: كافر. وتابع الميكروباص طريقه.

في حادثة أخرى في ذات الفترة، وتحمل ذات الدلالة، كنتُ عائداً من درعا في حافلة وأطالع كتاباً، خلفي جلس شاب يرتدي زياً باكستانياً وهو من أهل المنطقة وكان يقرأ القرآن بصوت عال ويتحرك إلى الأمام والخلف. عندما نظرتُ إليه طالباً تخفيض صوته فقط، ترفع عن الرد، هز برأسه مع نظره تحمل معنى الاشمئزاز أيضاً وتابع القراءة والاهتزاز.

في عام 2012 روى لي صديق كيف أجبر عنوةً على بيع بيته ومغادرة الحي الذي يسكنه، كان الحي أغلبية سكانه من الطائفة العلوية وكان هو سنياً، وفُهم ضمناً أنه من أنصار الحراك في سورية. بالمقابل كان هو ذات الشخص الذي اشترك في مظاهرة واشترط على المجموعة التي خرج معهم بأن لا يشتموا العلويين. نُظر إليه كشخص ضد الثورة وضد الحراك.

في الحرب الأهلية اللبنانية ظهر مفهوم: القتل على الهوية، مما أعطى معنى واحد للهوية: دينية أو مناطقية.

في المثالين الأولين، تأخذ الهوية شكلها الفردي في البعد بين الذات والآخر. فكوني أظهرتُ اختلافاً عوملت كمنبوذ مع القبول الصامت لركاب الحافلتين. الأمر الذي تعمم في المثالين الآخرين، فمن جهة أدى شعورهم الجماعي بانتمائهم إلى هوية واحدة إلى تعزيز التضامن ومن جهة أخرى أدى هذا الشعور إلى استبعاد الشخص الذي يعيش ضمن الجماعة السكانية نفسها ونُظر إليه كأنه يحمل هوية أخرى. ونفس الأمر ينطبق على المجالس الخالية من النساء، أو المدارس ذات الجنس الواحد. وهذا بالنتيجة لا يعني إلا أمراً واحداً: الإقصاء ولعنة المختلف.

الهوية السورية: هويات بديلة

لا شك بأن تعزيز قيم ومنظمات المجتمع المدني، وإيجاد بيئات تحتضن العلم وتؤمن به، ودعم توجه ديني معتدل، سيكون من شأنه تقليل أو الحد من مظاهر العنف الديني (الهوية الدينية). ومن جهة أخرى فإن إيجاد صيغ تعددية سياسية واقتصادية وثقافية أي ممارسة الديمقراطية ستحد أيضاً من مظاهر العنف السياسي (الهوية الحزبية) والذي يأخذ صيغته الواقعية بالحرب. لكن! هل هناك بالفعل هوية واحدة؟

لا أعتقد. فأنتَ صحفي ومثقف، وأنتِ مدرسة وباحثة اجتماعية، وأنا طبيب كاتب ومثقف، وهو…وهي …أليست هذه هويات؟ أليس هذا تصنيفاً سلمياً لأفراد المجتمع؟ أليست هناك هوية موسيقية، هوية رياضية، هوية علمية… ما أعتقد به هو أن مفهوم الهوية الواحدة الفريدة المتفردة هو وهم. فكل شخص يمكن أن يختار الهوية التي تلائمه. إلا أن الحرب والسياسة والدين والسيطرة هي من يجعل من “الهويات القاتلة” هويات مفردة ومتفردة يتم التمترس خلفها خوفاً من الضياع. وأنا شخصياً لستُ أخشى على الهوية الوطنية السورية من الفقدان بل أخشى على السوريين أنفسهم.

الحرب، تعطل البنادق والحل السحري

لطالما فكرتُ بأن أصحو على نبأ عاجل مفاده: تعطلتْ جميع الأسلحة في لحظةٍ واحدة في سورية. وفي غياب كل رؤية ممكنة للحل، هذا ما أستطيعه: أن أحلم.
قد يكون هذا الكلام اعتراضاً ساخراً من حربٍ ونجومها، قد يكون آليةً كلامية للرفض، وقد يكون إمعاناً متعالياً في إنكار الهزيمة. نحن المهزومين جميعاً، الجالسين على حافة كل شيء، فوق هاوية كل شيء، العالقين في المصيدة، النازفين على الأفق، الطاعنين في الصراخ، المطعونين بوجوهنا، اللاعنين الملعونين المتفرجين على اللعبة.

هذا شعر. ما الذي يستطيعه الشعر؟ ماذا نستطيعه نحن السوريين جميعاً؟ هل يمكننا تحقيق انتصار مرحلي على الحرب؟ داخلياً على الأقل؟ قد تكون الكتابة سلاحاً أزرق في وجه الاستلاب. هذا ما أجيده وما أحاول فعله. علينا أن نقيس درجة صراخنا الجوفيّ وأن نملّحَ جراحنا كي لا تفسد.

بيان من أجل الهوية السورية

بيان من أجل الهوية السورية

سأبدأ بنتيجة ماثلة وعكسية من فكرة البحث عن الهوية السورية وحقيقة التعاطي معها كواقع مادي سياسي لا يقبل المقايضة بالمعنى المبدئي المتعلق بالثمن الباهظ الذي دفعه وما زال يدفعه السوريون من أجل التعاطي بشكل جدي ونقي وذي كفاءة مع إمكانية الحصول على جوهر الهوية الجديدة وفق رؤية العام 2011.

بصراحة الذين يتحدثون عن التقسيم مثلاً هم -ومن دون القصد في تخوينهم- ممن يسعون أو يبررون التقسيم بقصد أو بدون قصد وذلك يحصل عندما يتقبلون أو يبررون شرعية المصالح الإقليمية داخل سوريا بتعريفها كجهات مزعجة للنظام ومساعدة للهدف السوري الثوري النقي، وتلك القناعة تمثل وهماً مزدوجاً سياسياً وفكرياً. دولٌ تعيش داخليا حالات قمع غير متناهية، كيف بأي حال من الأحوال ستؤمن بالمشروع الديمقراطي؟ أو أن يكون لديها رغبة بإنهاء الصراع السوري من دون أن يكون لها أجندتها الخاصّة؟ علينا أن نستيقظ من توهمنا هذا. مع العلم أن فكرة التقسيم بمعنى أن تُحوّل سوريا لدويلات، فكرة هشّة ولا تنسجم مع طبيعة أو واقع الصراع في سوريا بالرغم مما تعيشه من تمددات عسكرية توحي بذلك، ومع ذلك يبدو البت في هذا الأمر بشكلٍ جذري صعباً، والأيام المقبلة ستشي بالكثير.

ضرورة التمرّد في هذه المرحلة

أرى ضرورة بناء الثقة وتبني الشجاعة الأخلاقية التي تجعل البيئة الرافضة للنظام السوري تقوم بمراجعة شاملة مبنية على رغبة جادة في التغيير الجذري لقوى المعارضة الناطقة باسم الشارع المعارض عموما بوصفها جزءاً من المشكلة، وليست مسبباً لها،

وبالتالي اعتبار بشكل واضح وصريح وعلني أن الائتلاف السوري المعارض والتيارات السياسية الأخرى لم تستطع أن تقدم إضافة يخدم المشروع المتمدن الحضاري الذي يطمح ويؤمن به السوريون.

وأرى أنه من الضروري في هذه المرحلة تحديداً البحث عن كيان معارض منظم أكثر فاعلية وبالتالي تحديد معنى الهوية القادمة التي تلبي طموح مفكري ومثقفي الحراك السوري ممن يؤمنون حقيقةً بمشروع 2011 كواجهة حضارية قادرة وجديرة تقوم لاحقاً بتصدير أفكارها بوصفها تكريساً لكل ما هو حر في العالم كله.

إذا دققنا النظر فسنلحظ أن الصراع السوري لم يعد بكافة تبعياته ملكاً للسوريين وحسب، بل بات ملكاً لكل من يفكر بنقاء وبوجع في الوضع السوري، كلٌ منّا سيلحظ من موقعه وفي أي بلد يعيش به كلاجئ أو مقيم –حجم التفاعل مع عدد ليس بقليل من بعض الشبان والمهتمين بشأن السوري لكونه حدثاً عالمياً يفرض نفسه بقوة على الفكر السياسي العالمي شاء أم أبى والبحث عن الكيان المعارض الذي قصدته يتم عبر الإصرار على رفض الكيان الموجود حاليا بشكل علني وعبر خطاب موحد، حتى لو لم يتسن خلق كيان معارض آخر كبديل جاهز.

حقيقة لا مفر منها

من الناحية الواقعية لن يستطيع الشخص السوري المعارض أو المؤيد على حدٍ سواء تقديم طموحاته السياسية من منطق اختيار “فيدرالية مركزية” ومن باب حقه في المواطنة بينما يتم الآن في اللحظة اجتياح الشمال السوري من قبل الأتراك، مثلما تمَ ويتم سيطرة الروس والإيرانيين على مناطق دمشق وريفها، وغوطتيها، يأتي هذا بالتزامن مع تصريحات تخرج من زبائنة النظام من هنا وهناك تقول إنهم لم يعودوا يحتاجون أصلاً للحل السياسي في ظل الانتصارات العسكرية التي يحققونها.

بالتأكيد لا أبتغي تكريس حالة التشاؤم في أوساط المعارضة من دون طرح حلول أو تقديم رؤية تسترجع حالة التعبير الرافض النقي التي باتت في الحضيض، برأيي الحل يكون في تبني مبدأ -الفكرة الصادمة – بمعنى القول علنا بأن المعارضة المتواجدة وكذلك الجيش الحر الذي بات فصيلاً تركياً أكثر من أي شيء آخر، هما فصيلان معارضان رافضان للنظام السوري، ولكن لا ينتميان للبيئة الثورية العادلة التي سعينا ونسعى إليها – وهي بيئة 2011، بمعنى ليس كل من يعارض النظام له الحق بأن يمثلني…

لماذا يقاتلون مع الأتراك؟

لماذا علينا على الدوام تقبل أي تحول سياسي من دون أن نعرض أفكارنا وطموحاتنا -نحن كتيارٍ غير مرئي لكنه لم يمت هل علينا تصديق بأن الفصائل الإسلامية المتشددة تقاتل من أجل إحلال دولة القانون بسوريا! كلنا يعلم إيديولوجية هذه الفصائل ومشروعها، لماذا علينا الرضوخ والاقتناع بأنه يجب أن نبقى تابعين لبرنامج سياسي دولي لا يمت لقِيمنا الثورية ببصلةٍ؟ لنسأل أنفسنا ماذا سنترك للجيل القادم داخل سوريا؟ يجب أن يعلموا بأن ثمة جيلاً كان فعليا يطالب بحقوقٍ مشروعة.

“النظام إذا انتصر” فهو لم ينتصر على حراك 2011 وإنما على محاكاة ذلك الحراك، انتصر –إذا انتصر- على معارضة لم تعد تمثلنا عندما تبتعد عنا لذلك الحد، معارضة لم تعد جامعة، معارضة لم تعد تملك القدرة على إصدار بيان يطالب بحماية المدنيين مثلما جرى بحالة مدينة عفرين السورية، بات الائتلاف السوري المعارض جزءاً من مشروع تركي ولم يعد مشروعا يمثل كل السوريين -كغاية لـ 2011!

إحياء مبادئ 2011من جديد

سيسأل سائل من نحن كي نفرض رأينا على المجتمع الدولي، أو على الآلة العسكرية؟ هذا تساؤل منطقي… ثم يضيف ذلك التساؤل من السذاجة التحدث عن مبادئ في ظل الخراب والدمار وانعدام كل ما يمت بِصلةٍ للقيم بسوريا.

ولكني أرى بما لا يقبل الشك أن الإصرار، وتبني الفكرة الصادمة القائمة على الرغبة بالتغيير الثوري والجهر بها، وتهريب الأفكار التي تنتمي –لإحياء الثورة النقية – وتبني مبدأ الفكرة الصادمة وتشريبها إلى الداخل السوري وبكل مكان يتواجد فيه السوريون والمؤمنون بالقضية السورية في العالم، عبر كافة القنوات المتاحة كي يطلع عليها الجيل السوري الذي يحاول النظام تأليبه علينها بوصفنا إما إرهابيين أو عملاء!

فالتصميم هو أن مصطلح التمرد النقي لم يَمت، وأننا ما زلنا خصوم النظام الذين يخشاهم أكثر من غيرهم من خلال تأثيرينا على تأليب الرأي العام بسوريا في أي وقت، من خلال أرشفة الكتابات وتمريرها على الداخل، وعبر الندوات والمناقشات، وعبر الضغط الثقافي في كل مناسبة تؤكد على قيم2011، لا نطالب هنا النسق الاحتجاجي التقليدي بتأليب الشارع المنهك من جديد، نحن نطالب أنفسنا بألا نتخلى عن هدفنا المشروع وعدم الإيمان بقناعات المجتمع الدولي عبر التسليم باطنيّاً بأن النظام انتصر فكريا. ربما يقول رأي أخر بأن هذا الطرح متفقٌ عليه وأنه يتسم بطابع نظري وغير واقعي؟

أقول: لا ليس متفقاً عليه! أي عندما لا نسعى للشيء الذي نتفق عليه جميعاً فإننا غير متفقين عليه من حيث المبدأ، إذا لم نسع للحظتنا الخاصة بنا فإن هذا هو الشيء النظري وليس عكسها، علينا أن نصدّق حلمنا وأملنا وألا نخذله عبر إهماله وعدم السعي خلفه وبالتالي تدميره بتركه للبديل الذي يمثل محاكاة لحلم الأمس.  بمعنى، لماذا علينا أن نتوقع حدوث كل ما هو غريب وعبثي وسيء، وهذا يحدث في سوريا بطبيعة الحال، ولا نتوقع تحقيق شيء بسيط من الذي نؤمن به؟

عندما تشهد البلاد كل هذه الاحداث فمن الطبيعي أن يتحقق الهدف الأساسي المسبب لكل ما جرى، وهذا سيحدث بالضرورة، لكنه يحتاج لصبرٍ ووقتٍ وعمل بصمت، ولا يمكن الطلب في خضم ذلك من المناطق السورية التظاهر من جديد بينما نحن ننظّر من خارج البلاد كما يُقال، وإنما الهدف إنجاز ورقة يتم الاستناد عليها داخلياً لاحقاً على الأقل بعد رحيل الدفعة الأولى من نظام دمشق.

أرى أن الطريقة الوحيدة لنبذ ورفض حالة –الاحتلالات- التي تعيشها سوريا – روسيا-إيران-تركيا، والنظام كاحتلال داخلي، -هو العودة لإحياء الفكرة الأساسية التي خرجت الجموع من أجلها وهي: سوريا الجامعة – عبر تبديل النظام السياسي، ورفض الجيوش الإقليمية الموجودة عبر صوت واضح غر مقسّم يدعو عبر تعريف واضح ومكرر للعودة إلى الرفض النقي.

كيفّية تجاوز الحساسيات السورية

أعتقد واقعياً أنه سيتم تجاوز الحساسيات والصراعات السورية عبر صُدف وأحداث سياسية فجائية تدفع الأزمة السياسية إلى حافة سيتم عبرها فرض حل سياسي يتأقلم الجميع معه خاصة بعد الإنهاك الذي طال الناس في الداخل السوري تحديدا، وبالتالي ربما لا يكون تجاوز الصراع لدى السوريين خياراً بقدر ما هو حاجة للهدوء والأمان والتخلص من شبح الموت، على الرغم من خصوصية المسألة السورية عموماً ومكانة المنظومة الثورية سابقاً فيها إلا أنه ثمة تجارب سابقة عاشتها المنطقة تحاكي ما يحدث الآن في سوريا “كحرب لبنان مثلا” إذا فشلت محاولتنا كمتمردين نتطلع للعدالة فهذا لا يعني أننا فشلنا فعليّا بقدر ما يعني بأننا سننجح يوما ما.

السوريون وصراع الهوية والانتماء

السوريون وصراع الهوية والانتماء

” الشعب السوري” العبارة الأكثر حضوراً في جميع الجلسات والمؤتمرات الدولية التي عُقدت لأجل سورية. جميع الأطراف السورية كانت ومازالت تفاوض وتتحدث باسم الشعب السوري وباسم الوطن السوري، ولكن كل طرفٍ يرى الشعب من منظوره فقط ووفقاً لسياسته الخاصة، ويختصر الوطن بمناطق نفوذه وبالأراضي التي تهمّه وتفيده.

هل فكر أحدهم بإيجاد تعريفٍ صادقٍ وموضوعيٍ للشعب السوري؟ هذا الشعب الذي صار اليوم بمعظمه منقسماً إلى عدة شعوبٍ وغاب عنه مفهوم الشعب الواحد، فهناك الشعب المؤيد والمعارض واللاجئ والنازح… وكل شعبٍ من هؤلاء بات ينتمي إلى وطنه الخاص، بعد أن تبدل مفهوم الوطن أيضاً. فبعض المؤيدين صاروا يرونه محصوراً بمناطق سيطرة الجيش، وبعض المعارضين يرونه بمناطق سيطرتهم أو ما يعرف بالمناطق المحررة، أما بعض اللاجئين فقد وجدوا وطنهم في بلدان لجوئهم في أوروبا وغيرها، حيث نالوا نصيباً من حقوق الإنسان والمواطنة، بينما ضاق الوطن عند كثيرٍ من ضحايا الحرب والنازحين ليقتصر على منزلٍ ورغيف خبزٍ وشيءٍ من الأمان، آخرون اختصروا وطنهم بعائلتهم أو ببضعة أصدقاءٍ أو بمجرد حبيب.

إن هذا الانقسام الشعبي الوطني، بات اليوم يشكل تهديداً واضحاً لموضوع الانتماء الوطني الجمعي ولمستقبل الهوية السورية الواحدة.

انقسام في التوجه الواحد والرأي الواحد

لم يعد الانقسام السياسي محصوراً بين تيارٍ مؤيدٍ وآخر معارض، بل تخطى ذلك ليدخل إلى قلب التيار الواحد والتوجه الواحد. فالخلافاتُ والسجالاتُ في جهة المعارضة باتت تندلع في كثيرٍ من الأحيان على أبسط الأشياء، ليتحوّل منشورٌ “فيسبوكيّ” لا يُغني ولا يُزيد إلى موضوع جدلٍ وشِجارٍ مرفقٍ بالتخوين والاتهامات. مثلاً، هناك من يجد الحلَّ الأمثل للقضية السورية في الخيار السياسي، بينما يجدهُ آخرُ في الخيار العسكري، وثمة من يرى في مناطق المعارضة مناطق محررة، بينما يراها مخالفٌ مناطقَ للموت والحصار.

الخلافات طالت مواضيع كثيرة أخرى… لنتذكر السجال الذي حصل بشأن منتخب كرة القدم، فالبعض نزعَ عنهُ هويّته السورية ووضعه تحتَ تصنيف (منتخب النظام) فهاجم مشجعيه واتهمهم بالخيانة وفي الجهةِ المقابلةِ تماماً اصطفَّ من نادى بفصل السياسة عن الرياضة ووهب المنتخب هويةً سورية ورأى فيه منتخباً يمثِّل كل السوريين.

لم تنج حقول الثقافة والفن من تلك الخلافات أيضاً، إذ كثيراً ما تحول حدثٌ فني أو ثقافي، إلى مناسبةٍ للجدل والاختلاف بين منتقدين ومخوَنين وبين مدافعين ومبررين، وذلك تبعاً للمكان والجهة المنفذة. فإقامة معرضٍ فني أو أمسيةٍ شعرية في مكانٍ ما من دمشق، قد تفتح البابَ لفئةٍ ما كي تنزع الصفة الوطنية عن صاحب المعرض أو الأمسية، بحجّة أنّه يدعم النّظام بتقديم أنشطةٍ وفعالياتٍ في مناطق محسوبة على الأخير، بينما تصرُّ فئةٌ أخرى على الهوية السورية للمكانِ والحدثِ وصاحبِه.

تلك الخلافات خوّنَت كتاباً وصحافيين واتهمتهم بمحاباة النظام والتخلي عن مبادئ الثورة، لأن كتاباتهم خالفت رأي البعض في مسائل وطنية قد تخضع للنقاش وتقبل التأويل.  

الانقسام ذاته يتكرر على ضفة المؤيدين، فهناك من يرحب بقصف مناطق المعارضة وقتل وتهجير من فيها، في حين يرفض آخرٌ تلك السياسة ويدافع عن فكرة الحوار والتفاوض السياسي. أخٌ يخوِّن أخاه الذي رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية والأخير يرفض أن ينخرط في تلك الحرب. صديقٌ يتهم صديقه بالعمالة لأنه يتواصل مع سوريين معارضين في الخارج وآخرُ يرى أنَّ السّوريّ سوريّ مهما اختلف رأيه وموقفه… وبين هنا وهناك هويّةٌ تُنتَزع وهويّةٌ تُعطى وهويّاتٌ تُبتَكر على مقاسِ صانعيها.  

السؤال المطروح في ظل هذا: إذا كان أصحاب التيار الواحد لا يستطيعون الإجماع على رأيٍ موحدٍ لخطابهم الوطني أو رؤية مشتركة لنهجهم السياسي أو تعريف واضح للهوية الوطنية ومن يمثِّلها فعلاً، فهل سيمكنهم الإجماع على شكل هوية سورية واحدة؟

صراع الهوية بين الداخل والخارج

لعل التهديد الأبرز لمستقبل الهوية والانتماء في سورية يتمثل بانسلاخ مكوناتٍ كبيرةٍ من أبنائها عن وطنهم الأم لصالح أوطانٍ أخرى، فكثيرٌ من السوريين الذين رحلوا عن البلاد محوا فكرة العودة إليها أو فقدوا شعورهم بالانتماء إليها، وحسب تصورهم الهوية الإنسانية التي يحملونها قد رأت في الهجرة طوق نجاةٍ لهم، لثقافتهم وإنسانيتهم، بينما قد يحولهم البقاء في البلاد إلى قتلةٍ ومجرمين أو أرقاماً بانتظارِ رصاصةٍ أو قذيفة، فمن بقي في سوريا قد اختار الانتحار أو الموت البطيء. فيما يرى آخرون أن هذه البلاد لم تعد لهم، وأن وجودهم فيها لن يغير شيئاً، فليس بإمكانهم إنقاذها أو إيجاد حلٍ قد ينهي الحرب.

إن واقع الانسلاخ هذا سيؤثر حتماً على شكل الهوية السورية ونسيجها المتنوع، خاصة إذا ما تم تجنيس السوريين في الخارج، فربما حينها سيضيّع الكثير منهم بوصلة انتمائه وماهية هويته.    

من جهةٍ أخرى، فئاتٌ ممن مازالوا في الداخل، باتت تشعر بالخذلان واليأس وبالعجز عن القيام بدور وطني فاعل، بعد أن أُخمد صوتها وشلَّ حراكها وخارت قواها، لذا أصبح السفر خارج جحيم البلاد حلماً لمعظمها، والرّضوخُ والتّماهي في اللامعنى هما الفعلان الوحيدان لها، ولعل هذا خطرٌ آخر سيحدق في موضوع الهوية، لاسيما وأن بعض تلك الفئات صار يشعر بالكره نحو بلده وبالحقد عليها بعد أن دمرت  برأيه- كل ما يحبه وينتمي إليه ونبذته حتى وهو لايزال في أحضانها.

بالمقابل يصرُّ كثيرٌ من السوريين، الذين كان لهم دور وطني فاعل، على البقاء في سوريا ويجدون في الأمر صموداً ومقاومةً؛ بل وموقفاً نضالياً وبطولياً، ويرون أن بعض من رحلوا غير وطنين وإنهزاميين، ولم يقوموا بالدور المنوط بهم تجاه بلدهم حتى وهم خارجها؛ بل دمروها ورحلوا مفضلين مصالحهم ومشاريعهم الفردية على مصالح الثورة والبلاد وخذلوا السوريين الذين دفعوا فاتورة الحرب والدم لوحدهم.

إن هذا الصراع بين سوريي الداخل والخارج قد يشكل عائقاً مستقبلياً كبيراً أمام الإجماع على تشكيل هويةٍ سوريةٍ واحدة، بالنظر إلى حجم الخلاف والإختلاف الحالي بين الطرفين على مفاهيم وقضايا شائكة ومعقدة، كمفهوم الصمود والوطنية أو التخوين والإنسلاخ عن الوطن.

هل يمكن توحيد شكل الهوية السورية والانتماء إلى وطنٍ واحد؟

حتى اليوم، حاول أغلب المصطفين إلى جانب النظام حصر شكل الانتماء الوطني بالولاء لرموز هذا النظام وأدوات سلطته وفصّلوا سوريا على مقاسهم، ونزعوا عن كل من لم يتبع نهجهم سوريَّته وحاولوا تقزيمه ومعاقبته بشتى السبل، بالمقابل حوَّلت بعض قوى المعارضة المسلحة بوصلة الانتماء من الانتماء الوطني لسورية الثورة إلى الانتماء الديني والمناطقي، فراحت تشكل فصائل ذات ايديولوجيات دينية بحتة، وصارت تسعى لتحقيق مكاسب فردية وسلطوية بدلاً من المكاسب الوطنية.

ومع ارتفاع وتيرة الصراع في سورية وتقطع أوصال البلاد، تشرذمت معظم القوى الوطنية المؤثرة في المجتمع إلى كيانات سياسية ودينية وطائفية وعسكرية وقبلية، فبات من الصعب في المدى القريب توحيد شكل الانتماء والهوية والشعور الوطني الجمعي؛ خاصة بعد فشل جميع الأطراف السورية بإنتاج خطاب وطني موحد يؤسس لهوية سورية جامعة، كما إن إفراغ سورية من أهم رموزها الوطنية وأبرز عقولها ونخبها الفكرية والعلمية والثقافية، قد ترك الساحة السورية للعسكرة وتجار الحروب، فقد تحتاج البلاد لتلك الرموز والنخب للنهوض بها وبهويتها، لكنها ربما لن تجد من يقف إلى جانبها. وما زاد الأمر تعقيداً وضبابيةً، هو أن الصراع في سوريا قد استقطب إليها قوىً خارجية صارت فاعلة على الأرض بقوة، وهذه القوى لها أجنداتها ومصالحها الاستراتيجية وربما الاستعمارية التي ستتحكم في مصير ومستقبل البلاد، كما أن القوى الإقليمية والعالمية التي أصبحت معنيةً بالشأن السوري سيكون لها دور فاعل في مآلات الحرب، وبالتالي ستؤثر تلك القوى جميعها في موضوع الهوية والانتماء، فقد تجر البلاد إلى التقسيم أو الحكم الفيدرالي أو غيرهما من السيناريوهات المؤلمة المتوقعة، فقذارة التاريخ أقرت بأن العالم بأكمله يمكنه التحكم بمصير سورية وهويتها أكثر من السوريين أنفسهم.

بارقة أمل

لو استطاع الشعب في الداخل والخارج أن يقرر مصيره بنفسه بعيداً عن سلطة الأوصياء عليه، لو أقيم استفتاءٌ نزيهٌ برعايةٍ نزيهة لمعرفة رأيه ورغباته، فربما حينها سيستطيع إنقاذ الهوية السورية من الضياع، تلك أمنية، ولكن ثمة واقعٌ يزهر منه الأمل، فرغم مأساة هذا الشعب وتشتته وانقساماته وتمزُّق شعوره الوطني، هناك فئات كبيرة منه بقيت مخلصة للمبادئ الوطنية الجوهرية ومتمسكة بانتمائها الثقافي والفكري والحضاري لسورية كوطن وهوية. فئاتٌ قدمت نماذج رائعة في المواطنة وقبول الآخر ونبذ الطائفية والتصدي لأفكار الحرب ومفرزاتها، كما حافظت على مفهوم التعايش والتآخي بمساعدة النازحين وإيوائهم ومد يد العون لكل ما هو سوري، وأخرى حافظت على هويتها، رغم خروجها من سورية، فحاولت نشر ثقافتها وأصالتها، وعرَّفت العالم بثقافة البلاد وفنونها وحضارتها وتاريخها.

إذن، يبقى الأمل الوحيد لمستقبل الهوية السورية بالرهان على وعي تلك الفئات الوطنية بضرورة بناء شخصية سورية متجانسة لأنها الضامن الوحيد لتلك الهوية، وبالرهان على عودة سوريي الخارج المؤمنين بوطنهم وبضرورة دعمه لينهض من جديد. قد يحتاج الشعب وقتاً حتى يرمم جراحه ويعود إلى فطرته الوطنية الأصيلة، وربما سيحتاج مستقبلاً إلى نضالات وثورات جديدة على السياسة والدين والسلطات التي أفرزتها الحرب، حتى يستطيع الإجماع مستقبلاً على شكل هويةٍ وطنيةٍ واحدة.

التباس الهوية السورية وتعدديتها الفاسدة

التباس الهوية السورية وتعدديتها الفاسدة

يتجدّد النقاش تباعاً بموضوع الهوية في سورية، قبل الثورة والآن. الموضوع ذاته يتكرّر في البلدان غير المتطورة؛ بينما لا يُناقَشُ بكل هذه الحدّة في أوربا مثلاً، باستثناء موضوع هوية الوافدين إليها؟ السؤال هنا، لماذا يَحضر موضوع الهوية لدينا بينما يغيب في أوروبا؟ لن أناقش الموضوع في هذا المقال، ولكن طرح هذه المفارقة أساسي بسبب أن بلداننا وأوروبا تعيش في المرحلة التاريخية ذاتها.

تعددية فاسدة

المشكلة التي تُجدّد النقاش هي أنّه ليس من هويةٍ مهيمنة في مجتمعاتنا؛ فهناك الهوية القبلية والدينية والطائفية والقومية، وهناك من يُوسّع النقاش ليشمل هوية الفرد ذاته، فهي متعددة “بيولوجياً ونفسياً وفكرياً ودينياً وقومياً…” الإشكال هنا يكمن في اعتبار التعددية تماثل الشكل الطبيعي “التاريخي” لقضية الهوية، وأن كل محاولة لابتسار الهوية بالقومية المهيمنة مثلاً هي مصادرة على تعدّدية الهوية وإفقار لغنى الفرد أو المجتمع من ناحية الهوية.

إذاً هناك أطروحات متعددة تتناول قضيتنا، وهي قضية مطروحة عالمياً ومحلياً. سوريّا؛ هناك كلام كثير عن هوية ملتبسة، أي هناك هويات متعددة، وتبدأ مما تنتجه القبيلة والطائفة والدين والقومية والدولة، وكذلك مما يقوله تيار ثقافي ما بعد حداثي يُشيد بهويات فردية متمايزة بتمايز الأفراد وبما يفسد موضوع الهوية ذاته لتتعدد بتعدد الأفراد. لو تجاوزنا موضوع الهوية الفردية بنقاشنا، وذهبنا لما هو عام، فهناك الآن هويات متساكنة طوراً ومتضاربة طوراً أو”حربية” طوراً أخر؛ الحالة الأخيرة، تظهر في الحرب الدائرة، وفي النقاش “القاتل” للآخر، أي السني يجتث العلوي والعكس صحيح، وكذلك العربي ضد الكردي، وهكذا؛ هذا يوضح أن هناك تعدّدية هوياتية مُتشظية وملتبسة ومتداخلة للمجتمع السوري.

هوية الدولة المستبدة

هنا نتساءل، ما هي المشتركات بين السوريين وقد انفرط عقدهم السياسي المُقام بواسطة الدولة الأمنية قبل 2011، ولماذا لم تستطع الثورة والمعارضة تشكيل هوية جامعة للشعب، وبما يحدّد للأديان والطوائف بل وللقوميات مكاناً هامشياً، مقابل إعلاء الهوية الوطنية لكل الأفراد في سورية، وهل هذا ممكن من أصله؟

الدولة السورية الاستبدادية لم تستطع تشكيل هوية وطنية، بل الأدق إنّها لم تطرح على مهماتها هذه القضية، فهي دولة السلطة الحاكمة، وبالتالي أيّة هويّة سورية تشكلت تحت سيطرتها؟

هنا لا يمكن نقاش موضوع الهوية دون العودة لما قبل استقرار الدولة السورية في بداية السبعينات، وبداية تحكّم الأجهزة الأمنية بالدولة؛ سورية بلد تابع، وليس فيه تطور صناعي خارج المدن الرئيسية يدفع نحو تشكيل هوية قومية، ويساهم في تشكيل رابطة جديدة للأفراد، وبالتالي بقيت تتواجد في سورية، هويات متعددة، ولم تستطع الهوية القومية الهيمنة بشكل كامل، فأضيفت للهويات الماقبل حداثية هوية قومية وبشكل أقل “هوية وطنية”. هذا يوضح فساد الهوية في سورية، فهناك تعددية تشتتية للمجتمع.

هوية قومية قبل السبعينيات

إن سورية قبل السبعينات كانت تشهد نمواً مسيطراً للهوية القومية، وبشكل أقل الهوية الإسلامية والهوية الشيوعية وهويات إقليمية مرتبطة بالحزب القومي السوري. أقصد أن الهوية تعبر عن التطور المجتمعي وحدوده التاريخية، وكان التطور يستدعي القومية منها بالتحديد؛ إن وجود اللغة والعادات والثقافة لم يفرض تشكيل هوية جامعة وحداثية، وتهميش بقية الهويات. الهوية القومية البازغة اختلطت بالهوية الإسلامية مع خروج سورية من مظلة الدولة العثمانية، وهذا بسبب أن الهوية الدينية تناسب المجتمع الزراعي والقروسطي خاصة، وهي تعتمد على تعاليم مقدسة ترسم للمجتمع رؤيته بشكل فوقي. بتقدم المجتمع، ظهرت الضرورة لهوية قومية تُعلي من شأن الفرد والعقل والشعب، وتحدّد للدين والقبيلة والعائلة مجالاً خاصاً، أي هوية فرعية. الإشكالية هنا، لماذا لم تستطع الهوية القومية أن تصبح هي هوية المجتمع الأساسية، رغم أن الفكرة القومية “هيمنت” في كل الدول العربية وتشكّل لها أنصار وأحزاب، بل وتشكل وعي شعبي يُعرّف ذاته في كثير من المسائل قومياً.

حتى السبعينات كانت الهوية المهيمنة هي القومية، وهي ذاتها في أغلبية الدول العربية، وإن كان شكل طرح القومية مختلف من هذه الدولة إلى تلك. سورية والعراق وليبيا ومصر والجزائر وكذلك السعودية والمغرب مثلاً؛ نقول  إن جميع هذه الدول عَرّفت نفسها قومياً، الفارق في سورية أن الدولة تبنت الأيديولوجيا القومية، كما حال مصر والعراق وليبيا خاصة. الإشكالية هنا أن سورية كما في هذه الدول أصبحت القومية فيها أيديولوجيا رسمية، وهمشت من المجتمع، وبمقدار ما تضخمت الدولة الأمنية بمقدار ما ضعفت الرابطة القومية، وراحت تحلّ مكانها الهوية الدينية والقبلية والطائفية والفردية. السؤال لماذا لم تتجذّر الهوية مجتمعياً رغم أن النظام يطرحها، ورغماً عن طبيعته الاستبدادية كحال الصين مثلاً؛ إذا الهوية الحداثية القومية لم تستطع نفي القديمة، ولكن أيضاً لم تستطع الهويات الفرعية، وليس بمقدورها أن تشكل هوية لكلية المجتمع الحديث، فالهوية القبلية أو الدينية هي هويات قديمة، وتناسب المجتمعات البشرية في مراحل سابقة عن الدولة الحديثة، والأخيرة تُعرّف عادة كدولة قومية أو دولة عدة قوميات، وكذلك لم يعد ممكناً للدين أن يشكل هوية واحدة لقوميات متعددة كما الحال حينما تشكلت دولة عربية إسلامية في العصور الوسيطة!

هوية ما بعد السبعينات

أين المشكلة إذاً؟ فالدولة السورية ومنذ السبعينات شكّلت هويات فرعية، وأعادت إنتاجها، وهمشت الهوية القومية.

الهوية العامة للمجتمع تتشكّل عبر صيرورة تاريخية، وبما يعكس التطور المجتمعي، وبالتالي غياب الهوية الجمعية للشعب يصبح مفهوماً في الدول المستبدة ومنها دولتنا السورية، حيث لا يمكن التكلّم عن دولةٍ وطنية، فهي مستبدة وتخص الحاكم. القومية في الدولة المستبدة المخلفة والتابعة أصبحت أيديولوجيا للنظام وللدولة، أي أصبحت علاقة تكاذب مع المجتمع وبين الأفراد؛ فالسلطة والدولة عامة، وفي الوقت الذي تدعي القومية، أعادت إنتاج المجتمع وفقاً للهويات الدينية، وتمّ كل ذلك بواسطة الأجهزة الأمنية والنظام السياسي الحاكم، ووفقاً للقرب من مراكز السلطة، وبالتالي لم تكن الهوية القومية المرجعية، ولكن أيضاً لم تصبح الهوية الماقبل الحداثية طاغية، وهذا غير ممكن من أصله، فالهوية الدينية تمييزية وانقسامية للمجتمع، أي لا يمكنها أن تكون هوية جامعة إلا عبر الطغيان، وهذا غير ممكن في المجتمع الحديث، وإن كان ممكناً في العصور الوسطى القائمة بأغليتها على التمييز الديني.

الهوية ما بعد ثورة 2011

إذاً، النظام فتّت الهوية القومية والقطرية وأعاد إنتاج الهويات الماقبل الحداثية، ولكن الأخيرة ليست مهيمنة، وبالتالي هناك تعدّد هوياتي مُقسِم للمجتمع. بتفجر الثورة 2011، مالت أغلبية المدن الثائرة إلى تشكيل هوية وطنية، وطرحت “لا سلفية ولا إخوان” أي تريد تشكيل هوية تتجاوز أزمة الثمانينات (التي أخذت شكلاً طائفياً)، وأن لا أسباب تاريخية أو ثأرية أو دينية للثورة، وأنها تنتمي لقضايا مجتمعية مختلفة، أي كان الهدف تشكيل هوية جامعة للسوريين، ولكن ما هي هذه الهوية؟ هنا لم تستطع الثورة وعبر شعاراتها طرح تصوّر محدّد للهوية، سيما أن المناخ العربي العام مضاد للهوية القومية؛ إن الثورة برزت بمناخ يُعلي من شأن الهويات الماقبل الحداثية. الإشكالية تعقدت هنا، فالنظام والثورة لم يمتلكا هوية جامعة للسوريين.

لا بد من التمييز بين المعارضة والثورة؛ فالثورة لم تطرح هوية وطنية لكل السوريين، وإن كانت واعية لطبيعة السلطة ولأزمة الثمانينيات، وراغبة بإعادة تشكيل المجتمع وطنياً. لكن هناك فارق كبير بين الرغبات، وبين الرؤية المدروسة لقضية الهوية ولكل أهداف الثورة وللرؤية الاستراتيجية لها. المعارضة بدورها، والتي كانت نشاطاتها تتحرك في إطار رد الفعل، أي تريد السلطة بديلاً عن السلطة القائمة، ولهذا التبست كل شعاراتها وأهدافها، ووصلت بمواقفها للارتهان للدول الخارجية، ولدفع الثورة نحو خيارات الهويات التي شكلتها السلطة من قبل. نستخلص هنا أن السلطة توافقت مع المعارضة في دفع الثورة نحو هويات ما قبل حداثية. نعم تلاقت السلطة والمعارضة في تطييف المجتمع ومحاولة إعادته للقبلية والدين والطائفية والاثنية، وكذلك نحو الهوية القومية، ولا سيما بما يخص الأكراد المسيسين قومياً بسبب صراعهم مع السلطة “القومية”، وبسبب غياب حقوقهم الاجتماعية الأوليّة.

أخطاء في نقاش الهوية

من أكبر الأخطاء في نقاش الهوية الاكتفاء بالمستوى السياسي، أي وفقاً لمنظور الدولة أو المعارضة لها، وكذلك من خلال تسكينها بلحظةٍ تاريخيّة محدّدة، أو النظر إليها من خلال واقع الحرب، كما واقعنا السوري منذ 2013 بشكل أساسي، وطبعاً من الخطأ تجاهل تأثير واقع الحرب واستخدام التطييف فيها، وتحولها كما يرى البعض إلى حربٍ طائفية. قلت ذلك، لأعيد تشكيل فكرتي السابقة، فالثورة غير المعارضة ومتناقضة مع السلطة. الثورة هذه لم تنطلق فقط لتشكل هوية وطنية، رغم الالتباس بذلك، وكذلك لا يمكن بنهاية الحرب الاكتفاء بما تشكلت عليه الهوية خلالها، أي لا بد من إعادة طرح الهوية مجتمعياً مجدداً، والانتقال نحو هوية وطنية مهيمنة.

من أهداف الثورة الانتقال بسورية إلى حالٍ أفضل للجميع، أي هناك عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية تؤكد ضرورة هوية جامعة للسوريين. الفكرة هنا: طُرحت سورية كهوية نهائية قبل الثورة، ولكن لم يتم التوافق على ذلك، وطرحت أثناء الثورة وأيضاً لم يتحقق ذلك. وعكس ذلك تمّ دفع الأوضاع لإعادة إنتاج الهويات الماقبل الحداثية ولكنها لا يمكن أن تكون هوية عامة للشعب ولا أن تتشكل الدولة وفقها، وبالتالي هل يمكن أن تتشكل هوية وطنية وتكون مهيمنة ونهائية لسورية؟

قصدت من فكرتي السابقة، أن الوطنية لم تستطع أن تكون هوية كل السوريين، ونافستها كما ذكرت الهويات ما قبل الحداثية وهويات ما فوق قطرية كالقومية والدينية، وبالتالي سكان سورية مفتتون بهويات متعددة، وهذا سيشكل عائقاً أمام تشكيل الدولة بالمعنى الحديث. وربما تدفع هذه الهويات نحو تشكيل دولة تتوافق مع بروز هذه الهويات، كما حال العراق وربما لبنان، أي دولة طائفية أو دينية وربما عشائرية كحال الخليج مثلاً، وهي وصفة الحرب الأهلية والطائفية المستمرة، أي صراع هوياتي قادم.

دول الخليج شُكلت بسياق الهيمنة الاستعمارية، وكذلك حدود سورية والعراق وسواها، وفشلت الدولة المستبدة في تشكيل هويتها الوطنية، أو تخطي الهوية الكولونيالية. هوية الدولة المستبدة أنّها تعبر عن سلطة مافياوية ناهبة للمجتمع ومفتتة لكل تقدم حقيقي فيه، ودافعة له نحو هويات ما قبل حداثية؟

دولة ما بعد السبعينيات، كانت سبباً مركزياً في تراجع الهوية القومية في الدولة الوطنية، وهذا تحقق في كل الدول العربية باختلاف أنظمة “تقدمية، ملكية.” والآن أية هويةٍ قادرةٍ على تحقيق توافق مجتمعي، في إطار الدولة الوطنية والتي شكلتها الدول الاستعمارية قبل الخمسينيات، وثبتتها الدولة العربية المستبدة ومنها سورية ولا سيما بعد السبعينيات؟ ربما سيكون الجواب التلقائي والصحيح هنا، إنّها الهوية المبنية على المواطنة وشرعة حقوق الإنسان والقومية ودولة الأمة، وهذا صحيح، ولكن كل النقاش أعلاه، ليوضح العقبات التي تمنع تحقّق ذلك.

البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل

البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل

الشارع السوري المتآكل تُغرقه ثلاثة قلوب!

تصدعت الرؤوس من كلمة فسيفساء سورية  واللحمة الوطنية الممتدة على أراضيها لآلاف السنين وما شهد السوري ذاته من هذا ولا ذاك أي إثبات لما سمعه وردده ولربما آمن به، فانقضت الأعوام الثمانية الهرمة باستحقاق طرف على حساب الآخر و كينونته التس سيفردها عرض الطريق وطوله، وما تحمله من الأحقيّة (العمياء) التي تفضي بابتلاع الضفّة الأخرى بمن فيها بالحديد والنار أم بالرايات السوداء والصفراء لا فرق أبداً فغايتهم جميعاً ذاتها
(نحن أو لا أحد).

زاوية الاختلاف كانت تحمل في أضلعها المنكسرة بداية الحرب مؤيداً ومعارضاً فقط  إلى أن التصقت بكلا الصفتين اصطلاحات تخوينية، تشبيحية، اندساسية وغيرها، لمس المواطن من خلالها تبعات مؤلمة للغاية لازالت تلذعه حتى اللحظة، رغم كل ذلك كان الأمر غاية في البساطة وقابلاً للفرز برفة عين وتحليل سياسي لشخصية اعتبارية في بداية النشرة المسائية التي تتناول الملف السوري مع إرفاق كلمة (خلصت) بينما يضغط المشاهد على زر جهاز التحكم الأحمر!

ليتضح فيما بعد أن سورية كالأخطبوط تماماً تضخّ النار على نفسها بأمرة من القلوب الثلاثة (الطائفية، الديموغرافية، العلاقات الدولية) المتناحرة كل على حدة فتتحول أذرعه الدفاعية  إلى مجسات ناريّة تجتذب كل الخراب إلى محيطها إلى حضن الوطن الذي بات لا يتسع إلا للمغلوب على أملهم وأغنياء الحرب، البعض هاجر إلى الله (سكارسا) بقوارب الموت و البعض الآخر استطاع أن ينجو من رحلة الفناء مرتين على الأقل ليرسو أخيراً في إحدى الدول الأوروبية حطاماً هيّنا ترمّم شيئاً فشيئاً في بلاد تحترم الإنسان بما يحمله من فكر أو معتقد  دونما أن يلتفت من حوله خشية الإفصاح عنها باللغة العربية أو الأجنبية فله الحق والحرية بما يحلو له تحت سقف الإنسانية، وقد حظي البعض بامتيازات إضافية في الخارج كالسريان في السويد، الأرمن في بلدهم الأم، حتى العائلات ذات الأصول التركية صبّت جهودها كاملة للحصول على الجنسية التركية وإن كلفها الأمر العودة لأصول الجد الثالث لأسرتها علّها تجد أخيراً هويتها المفقودة في البلاد التي لطالما اعتبرتها إرثها الحقيقي أما المهجّرون داخلياً فحكاياتهم لم تنته.

نازحون بأمتعة الذعر!

بدأت حركة النزوح الداخلية من المناطق الملتهبة إلى المدن والبلدات (الأكثر أمناً) خلال الحرب فضمّ الساحل السوري على امتداده أعداداً كبيرة من هؤلاء المهجرين ليصل إلى مليون ونصف نازح  أي بزيادة 50 % على التعداد السكاني للساحل السوري على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والبيئة المحيطة بهم التي جبلتهم من أول صرخة لهم حتى ثالث أو رابع قذيفة سقطت في حيّهم الذي أصبح حجارة مدماة وركاماً سحق الزواريب المندّاة ومحال الخضرة بمن فيها والكثير من  شتلات الحبق على شرفاتهم المتهاوية، هذه العائلات رغم مصابها الكبير تخطط وهي في طريق النزوح أي حارة ستتخذ فيها مسكنها الجديد؟ هل ستسد المعونات الإنسانية أفواه أولادها الذين اعتادوا أكل المشاوي كل ليلة جمعة؟ الجيرة في الأحياء الملغومة سينفجرون بنظرات هجينة لمن سيشاركهم الجدران أم سنصبح من “أهل البيت”؟ الأسئلة تطول وفجوة الغربة الداخلية تكبر…

أهالي منطقة الجميلية في حلب على سبيل المثال لا الحصر يبحثون عن أقرانهم في مدينة اللاذقية إبّان الأهوال التي شهدتها المدينة فتلقائيا تموضعت نسبة كبيرة منهم في أحياء الطابيات الصليبة والشيخ ضاهر ومن المعروف أنه يوجد في هذه الأحياء أشهر المساجد في المدينة وأقدمها وهذا يشكّل لهم ارتياحاً نفسياً لامتناهياً كون سكّان تلك المناطق يؤدون الواجبات الدينية على نهجهم ذاته وكأن جميع الأهالي هناك يندرجون تحت رتبة الأنبياء بقليل!

في المشهد المقابل لنازحي الفوعة من إدلب تراهم اتخذوا من حييّ الزراعة وسقوبين خانتهم الجديدة كلّ حسب يسره المادي، المهم في الأمر الهيمنة السلطوية التي جمعّت أطراف متعادية مذهبياً لقرون ولّت، لتأتي المصالح السياسة وتجمعهم على حين غرّة من جديد.

هذه الشرذمات طالت حتى الطفل الذي ولد في وطيس الاقتتال ولم يتسن له نور السلام بعد. ابراهيم، بائع البسكويت على قارعة أحد شوارع اللاذقية (حارة العامود)التي تلفّها قوات حفظ النظام بالحواجز الطيارة في أي لحظة، دنوت منه وسألته عن اسمه ومدينته وبعض الأسئلة الحشرية التي يطرحها الصحفي كعادته دون أن أشعره بذلك، حقيقة لم أستطع أن أحدد لون عينيه وبصعوبة شديدة سمعته يرد قائلاً “أنا من إدليب وصرلنا سنتين هون” لم يجب إن كان طالباً للعلم أم لا ، لربّما أخذ ركناً من الطريق واستحضر به غرفته الدافئة ولا زال يتخصص بفن المبيعات على طاولته المزفّتة  (بالفراطة وقشر البسكويت).

وبالعودة للوراء قليلاً، شهدت بعض العائلات الساحليّة الأصل نزوحاً معاكساً بعد أن اختير عديد منها للانتقال إلى مناطق أخرى بما فيها الشمال الشرقي، حلب، دمشق، وذلك لأسباب مهنية، كوّنوا أسراً متّزنة مثقّفة وأنجبوا أبناء لأمهات وآباء مختلفي الطوائف الأمر الجميل والمبشر بارتفاع معدل هرمونات المحبة السورية بين بعضها إلى أن بدأت الأحداث في 2011  تركت هذه الأسر كل شيء خلفها وباعت عقاراتها وأصولها وحولت أموالها إلى الساحل وهرعت إليه دون أي تأن أو وعي لما تفعله وكل ذلك قبل أن تتحول الأزمة إلى صراع مسلح ولا زالوا حتى اليوم يطلّون على الكورنيش البحري بعين السائح من خلف شرفاتهم المظللّة!

وجعلناكم شعوباً وقبائل لتناحروا!

شرائح قليلة جداً لعشرات الهويات السورية المتعاركة التي فرقت ما بينهم المرجعيات والألوية الدينية التي جمعت ثلل منهم تحتها (فعلاً تحتها)! فقد شُرّعت لها الأبواب على اتساع أرض -الفينيق- لتتمكن من عواطف السوريين المنحازة للانتماء الديني ومن لفّ لفيفهم من أولئك الذين ينادون بنصرة دين أو مذهب لا يفقهون عنه شيئا، كل هذه الضعضعة السورية السورية مهدت طريق الإرهاب للمقاتلين من العراق، لبنان، أفغانستان، إيران، السعودية، روسيا (الشقيقة) وغيرهم.

التعصب المقيت هذا ليس بحصاد عام أو اثنين، هو ذرائع انتمائية مخزية لا تمت للهوية السورية المعتّقة بالتمدن الصافي بصلة، هو وباء تطرفي محدث جعل من قلوب السوريين عفناً لا موسم له على أيدي السلطة قبل الحرب، هذه حقيقة تعايشنا معها ولكن لم نستطع أن نعيش بها على الاتساق ذاته بعد الآن ولعلّ أهل الساحل أكثر من مرّوا بذلك، فمن توقف تعيينه الوظيفي بسبب اسم أبيه المستفز طائفياً لرب العمل أو للجهات الحكومية المسؤولة عن ذلك الأمر سوف يحمل الحقد الطائفي ويعمل به بل وسيورثه أيضاً لا محالة، ومن توقف تخرجها من الطالبات لأنها لم تأخذ العلامات الإضافية المساعدة عند التخرج والتي تعتبر من أبسط الحقوق الدراسية وذلك بسبب عدم انتسابها للحزب اليتيم في سوريا من المؤكد أنها إما ستنجر في موكب الفاسدين لاحقاً أو سترضع أبناءها التطرف الذي لبسها عنوةً بعد الموقف ذاك، من المفترض عليها أنها انتسبت إليه مسبقاً وبشكل أوتوماتيكي كحال أهلها وجيرانها، كيف تجرأت على الدولة ولم تنتسب أساساً!

النسيج السوري المهترئ

هذه النماذج البسيطة وغيرها تكررت آلاف المرات يومياً ما قبل الحرب أما اليوم فأصبحت أكثر فجوراً ووحشية حتى الضّمنيّة منها، فأحداث الغوطة الأخيرة التي راح ضحيتها الكثير من الأطفال والنسوة اللواتي لا حول لهن ولا قوة بسبب الحصار المطبق عليهم وحملات التطهير التي لم تفرق بين مدني وإرهابي , يكافئهم

نسيج “أ”  بمنطقة x السورية  بكلمة أبيدوهم هؤلاء هم الخونة ونسلهم العاهر عار علينا! هكذا ملء أفواههم القذرة ولم تتوقف القذارة على هؤلاء أبداً بل باقية وتتمد لتصل إلى النسيج “ب” الذي يشرعن قتل الكرد في عفرين واتهامهم بالتواطؤ الإرهابي مثلاً، أو مصرع الطلاب العزّل وضح النهار بحجة حق الرد، هؤلاء تلقائياً عادوا إلى عصور الجاهلية وحقبة الأخذ بالثارات.

وإن كلّاً من “أ” و”ب”  يهللّون بالانتصارات على جثث بعضهم البعض وقلوبهم الملطّخة بالوحشية مدانة…مدانة!

أما نسيج “ج” وهو الأقل غلظة بينهم يشير للإجرام بعين الحق متجرداً بذلك من أي عباءة شيطانية، يحلل بحكمة كل خطط التنمية والسلم بين شظايا القذائف والجثث وهم في الغالب فنانون، كتّاب وشعراء  هذه الفئة الغير قادرة على حمل السلاح وإن كان دفاعاً عن النفس.

“د” ذاك النسيج القطني الذي يتمدد ويتقلص حسب درجات التأذي وتبعات الخراب والذي ضم أعداداً كبيرة وانحاز للسلطة بشكل مستميت لفترة ليست بقليلة إلى أن خسر ثلثي أبناء قراه متسائلاً لأجل ماذا ضحينا بأبنائنا مصفقين؟ وبالمقابل حظيت الجهات المؤيدة للتغير انقلاباً على مواقفها المعارضة بعدما فقدت أقرانها دون أي سبب أو لأسباب محتمة في حالة الحرب التي وقعت نتائجها الكارثية على كاهلهم الاقتصادية منها والاجتماعية والأمنية قبل أي شيء، والآن ماذا حققنا من المطالبة بالتغيير؟ هكذا يقولون…

ولعل الأربعة وعشرين حرفا المتبقين لن يكفوا لتصنيف الأنسجة السورية وهوياتها التي قد تجزئ مفهوم الإنسانية حسب ميولها السياسية.

مجتمع مدني في أخطر بقعة في العالم!

مصيبة الخلط العجيبة بين حقوق وواجبات السوري بشكل عام والمدلل نسبياً في المناطق الآمنة بشكل خاص، تخوّله أن يتمتع ويمارس المواطنة بشكلها السليم والبعيد كل البعد عن أي انتماء ديني أو سياسي إلا أن هذه الشعارات الرنانة لا تليق بالسوري في الأحوال الطبيعة فكيف لمساعي الفاعلين في تفعيل المواطنة أن تنجح على أرض صنّفت أنها الأخطر في العالم؟ فعلى مدار السنين تأطرت مخرجاتها الأساسية النبيلة تحت قبّة سلطوية واحدة لا ثانية لها  حدّت ما تهدف له، وما حصده السوري (كسوري) مجتمعيّاً حفنة ضئيلة في كل هذه المعمعة.

“الكشاف” على سبيل المثال أحد المعالم المنعشة لجميع المناسبات والأعياد والتي تهدف إلى (مساعدة الغير في كل حين) بالمرتبة الأولى وبالفعل هناك من يعمل بإخلاص و تفان بها، أنت كسوري تتشجع  للالتحاق بهذه الحركة العالمية والتي تعمل وفق معايير سامية ومحددة، تقدّم طلب الانضمام لأحد أفواجها وإذ تكتشف أن هنالك فوجاً كشفياً كاملاً لطائفة معينة دون سواها ومن غير المنطقي أن تكون الوحيد من الزمرة y!

الجمعيات كأسماء ومواقع وكهوية بصرية حتى دائماً ما توحي بالجهة التي تدعمها وتتخيل تلقائياً طبيعة الأشخاص الذين يديرونها، هذه المحاولات التجميلية بما فيها من جمعيات ومنظمات لا تأتي بحجم حجر في بركة تعجُّ بالجوامع والمزارات الدينية التي لا حسيب عليها ولا رقيب والمنتشرة بطريقة غير مقبولة، أكثر ما في الأمر استفزازاً أن الأهالي تسعد كثيراً لتزايدها وإن لم تطأ أقدامهم أي وجهة دينية منها أو من غيرها، ربما يستمدون قوتهم الواهية من كثرتها ؟ ما السبب الجوهري الذي يستدعي بناء 12 جامعاً في مدينة صغيرة كجبلة؟

ستنتهي الحرب السورية عام …20!

مرحلة إعادة الإعمار في سوريا لن نستطع تنشّق رائحة بيتونها طالما الأقطاب السورية والدولية متبدلة ومتشابكة بهذا الشكل والملفات الفاعلة لإخماد هذه الحرب الشنعاء توقّع وتمضي وتتلف تحت الطاولة وإنه لمن الأنجع لتشييد سوريا من جديد  بناء الإنسان على أراضيها فوق جروحه الملتهبة وآلامه التي فاقت طاقة تحمّله النفسية لينال شرف حصوله على الهوية السورية الحقيقيةً بشموخها وحرّيتها أخيراً علّها تستفيق من هذا الوهم الأحمر الذي استنزف 22 مليون (سوري ).