سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة

سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة

تتميّز الهوية الوطنية بارتباطها الوثيق بمفهوم الدولة الحديثة وحقوق المواطنة المتساوية التي تصنع شعبا، عن مفهوم الهوية بشكل عام والتي تنداح بين الهوية الشخصية أو العائلية التي تقوم على النسب وتستمر في القبيلة والعشيرة وصولا إلى القومية، مرورا بالعصبيات التي تقوم على انتماءات مناطقية ما دون الدولة الحديثة، أو تلك الانتماءات ذات البعد الديني المذهبية والعقائدية، وصولا لانتماءات أيديولوجية وسياسية ليس بالضرورة أن تتوافق مع الهوية الوطنية.

والهوية بشكل عام تميّز مجموعة بشرية عن المجموعات الأخرى، وبداية التميّز التي عرفتها الشعوب وجدت في عصبية النسب أو الدم، التي تطورت داخل مفهوم العشيرة أو القبيلة للوصول إلى عصبية القوم، وفق ابن خلدون “1332- 1406” الذي درس في الجزء الثالث من مقدمة كتابه الأول “الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية”، نشوء العصبية كرابطة نسب أو قرابة، وقد تكون بالولاء أيضاً، مؤكدا أن مفهوم العصبية يتصل أو ينتهي بالضرورة إلى السلطة، حتى قبل نشوء الدولة بالمفهوم الحديث للعقد الاجتماعي، مرورا بكل التطورات اللاحقة التي تطرأ على العمران البدوي أو الحضري، معتبرا أن جميع هذه الصيرورات تمر بأربع مراحل هي الدورة الزمنية التي تستغرقها العصبية بين طور النشوء وطور النهاية، والتي جاءت وفق تقديراته بأربعة أجيال متعاقبة، حسبها بقرابة 120 سنة.

المهم في اجتهاد ابن خلدون، وبغض النظر عن دقة التقدير الزمني، تأكيده على مفهوم الدورة الزمنية، بحيث أن تلك العصبيات التي تتخلق وتؤسس سلطاناً وممالكَ، ستضمر لاحقا وتتلاشى في ظرف ما، مع اضمحلال أو تلاشي تلك العصبية، بمعنى أنه لاوجود لعصبيات أو هويات ميتافيزيقية ثابتة، كالتي نادى بها حزب البعث في شعاره “أمة عربية واحدة … ذات رسالة خالدة”، فهذا الخلود الميتافيزيقي الذي شكل هوس أيدولوجيا وحزب ورئيس خالد، هو مسألة خارج المنطق أو البرهان العلمي، ككل المشاعر والعواطف الشخصية والأيديولوجية.

الهويات في بلاد الشام

ولو نظرنا بمعيار التاريخية إلى “مفهوم العروبة” كهوية مثلا، سنلاحظ أنها اقتصرت في التاريخ القديم على شبه الجزيرة العربية، مع اختلاف التفسيرات في كون اللفظة تشير إلى معنى “البداوة” في اللغات السامية، بينما ينسبها البعض إلى “يعرب بن قحطان” في اليمن، باعتباره وفق الأسطورة الشفاهية أول من نطق العربية، وهذا تعبير خاطئ لمفهوم اللغة وتطورها بالمعنى العلمي والتاريخ أيضا، فيما جاءت لفظة “العرب” في الكتابات العبرية باعتبارها مرادفاً لأولاد إسماعيل وفق الأسطورة التوراتية.

في حين جاءت كلمة “العربية” أوضح في الثقافة الإغريقية “Arabia أو Aravia”، من خلال ربطها بالجغرافيا، إذ استخدمت كبادئة لثلاث مناطق في شبه الجزيرة العربية، وهي: الصحراء العربية “Arabia Deserta”، ومنطقة البتراء “Arabia Petraea” جنوب سوريا، والعربية السعيدة “Arabia Felix”ويقصد بها اليمن السعيد.

لكن الفتح الروماني لبلاد الشام عام 64 ق.م، ساهم بإحلال الهوية السورية مكان الهوية العربية فيما يتعلق بهذه الجغرافيا، حيث تأسست ولاية “سورية “SYRIA، والتي استمرت في ظل الدولة الرومانية ومن ثم البيزنطية لسبعمائة سنة، حتى جاء الفتح الإسلامي عام 637 م، الذي أرخى بظلاله الأيديولوجية الإيمانية على المنطقة، والتي لا تزال تحكم الكثير من الديناميات والصراعات السياسية والاجتماعية فيها.

شكل الفتح الإسلامي قوة صاعدة، استطاعت أن تسيطر إضافة إلى المنطقة العربية المعروفة حاليا، على أجزاء واسعة من افريقيا وآسيا وحتى داخل أوربا أيضا، وشكل الإسلام كدين هوية صاعدة حاولت جبَّ الكثير من الهويات السابقة لها، وأصبح الانتماء للعقيدة الدينية/الأيديولوجيا هو الأساس، “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.”

غير أن الكثير من العصبيات القبلية والعشائرية والأقوامية استمرت داخل الثقافة الإسلامية، بل حكمت الكثير من الصراعات السياسية والمذهبية في فضائها، وما تزال حتى عصرنا الراهن. فالكثير من التناقضات الطائفية والصراعات السياسية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، ليست أكثر من أصداء تلك العصبيات التي حافظت على مكوناتها ما قبل الدولة الحديثة.  

ولو توقفنا مع الخلافة العثمانية التي حكمت المنطقة باسم الإسلام لأربعمائة عام تقريبا، نجد أنها اتكأت على الهوية الدينية/ الإسلام، كما اتكأت على الهوية الجغرافية/ تركيا، لكنها احتفظت بالعصبية القبلية/ العثمانيين، وكانت الجزيرة العربية في عهدهم تكنى باسم “بلاد العرب أو عربستان”، والتي تضم كلاً من بلاد الشام وبلاد اليمن وبلاد العراق. بينما أغلب سكان بلاد الشام كانوا يُعرفون بالهوية السورية.

إشكالية أغلب الإمبراطوريات ومنها العثمانية، أنها حكمت أقواما ودولا وشعوبا غير متجانسة، لذلك كانت العصبية دوما للسلالة الحاكمة التي تمتلك سلطة إخضاع الجميع، وإن استظلت في حالة الدولة العثمانية بالخلافة الإسلامية، حيث كانت كبقية الهويات الكبرى تُخضع أو تؤوي في أحشائها الكثير من الهويات الصغرى كبعض الطوائف والمذاهب، أو بعض الإثنيات والشعوب الأصلية أو المهاجرة، ناهيك عن الانتماءات القبلية والعشائرية، التي تعايشت جميعها في إطار الهوية الإسلامية حتى يومنا.

قررت الخلافة العثمانية في أواخر أيامها عام 1865، دمج ولاية صيدا مع ولاية دمشق لتشكيل ولاية كبيرة، استعادت فيها لأول مرة في العهد العثماني اسم “ولاية سورية”، التي ضمت معظم سورية الحالية وفلسطين وشرق الأردن، والتي تشكل مجتمعة ما يعرف ببلاد الشام، فيما أطلق على المهاجرين من بلاد الشام الذين قصدوا العالم الجديد، وبشكل خاص أمريكا الجنوبية، في ذات الحقبة، لقب “تركو” بمعنى التركي، نسبة إلى دولة الخلافة في تركيا، بينما كان العرب داخل الدولة العثمانية يتوزعون على الكثير من الهويات الصغرى، بعض منها الهوية العربية والسورية، وبعض منها عشائري وقبلي، إضافة لوجود العديد من الأقوام الأخرى التي استقرت في المنطقة تاريخيا بحكم الهجرات أو بدواعي الحروب.

والمفارقة أن أغلب سكان بلاد الشام في تلك الفترة كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين، مستعيدين اسم ولاية سورية العثماني، ومن قبله الروماني/ البيزنطي، الذي شكل انتماء لجغرافيا أكثر منه ارتباطا بدولة، ففي ذلك الزمن لم تكن قد عرفت بعد الدول الحديثة في المنطقة، وأغلب سكانها كانوا يكنون بالسوريين أو بالشاميين، فهذا التاريخ أصبح معطى سابقاً، يمكن أن نقرأه أو نحاول تفسيره، لكن لن نستطيع تغييره قط.

الدولة الحديثة

نضطر في حديثنا عن الهوية لاستخدام تعبير “الدولة الحديثة”، والمقصود به هو الحداثة السياسية، وليس الحداثة الزمنية أو العمرانية فقط، لأن السلطة في الدولة الحديثة تستمد مشروعيتها من الشعب الذي يمارس حق الانتخابات والديمقراطية في اختيار ممثليه وحكوماته، وليس من قوة العصبية أو من القوة العسكرية التي تفرض على السكان الطاعة والولاء، لذلك لا يمكن النظر إلى أي من الامبراطوريات أو الممالك التي فرضت ولاء السكان بالقوة، أو أخضعت شعوبا ودولا أخرى لسلطانها، وحتى دول المنظومة الاشتراكية التي حكمت بظل النفوذ الشيوعي، ومن ضمنها مجموعة الدول التي أُلحقت بهيمنتها تحت يافطة حركات التحرر العالمي كدول حديثة، لأن شرعية هذه الدول والأنظمة كلها – تُستمد من القوة التي تُخضع السكان والشعوب، إذ لم تعرف مفهوم الشعب إلا باعتباره رعية أو قطيعاً، لا حق له في الحرية في التعبير أو في الانتخاب، ولم تعترف بمبدأ تداول السلطة، أو دور الانتخابات في التعبير عن الإرادة السياسية.

ظهرت الدولة الحديثة في كنف البرجوازية التي حطمت العلاقات الإقطاعية القديمة في أوروبا، وشكلت رافعة للتحولات الليبرالية الاقتصادية والسياسية لاحقا، وفي إطارها جرى فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها، لتبدأ صيغة من الديمقراطية تقوم على تبادل السلطة عبر الانتخابات، والاعتراف لأول مرة بالشعب كمصدر للشرعية، وإحلال علاقات المواطنة التي تنص بالدستور على حقوق وواجبات كل الأفراد والجماعات المنضوية في كنف الدولة، التي تحولت إلى دولة مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات، وبذلك يصبحون شعبا، وبالتالي فإن الدولة الحديثة هي دولة المواطنة بامتياز، بعكس كل الدول البائدة أو المعاصرة التي تستمد شرعيتها من سلطة القوة التي تُخضع بها الرعية أو السكان.

تقوم الدولة الحديثة أيضا على ضمان الحياد تجاه المكونات الدينية أو العرقية أو الثقافية، من خلال تأكيد مفهوم الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة التي أبرزتها نظرية “العقد الاجتماعي”، فيما ظلت دولة الخلافة العثمانية بعيدة عن هذه التأثيرات، بل قاومت رياح التغيير والتحديث حتى بعد هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وشهدت تردياً مزرياً في الأوضاع الاقتصادية والأمنية بشكل عام.

في لحظة تردي الخلافة العثمانية نشطت الجمعيات والأحزاب التي تعبر عن يقظة الشعوب المنضوية بالقوة تحت سيطرتها، لمقاومة الاستبداد الحميدي، ومن ثم سياسة التتريك التي قادتها الحكومة الاتحادية، واستفادت من المتغيرات السياسية ونشاط البعثات التبشيرية ودور القنصليات التجارية، وصولا إلى المدارس الأجنبية أو الوطنية، وكانت أبرزها الكلية الإنجيلية في لبنان والتي تحولت عام 1922 إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وبدأ وَسْمُ “السورية” أو “العربية” يظهران في الكثير من المطبوعات والكتب، وحتى في أسماء الجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية التي طورت بسرعة من أنشطتها الثقافية المتعلقة بنشر الكتب والمخطوطات العربية، إضافة للاهتمام باللغة العربية والتعليم وإحياء التراث، إلى أنشطة تنويرية وتحررية تذهب باتجاه المطالبة بالاستقلال، وهو ما ساهم ببلورة الوعي القومي لدى السوريين والعرب، دون تناقضات تذكر بين الهويتين السورية والعربية اللتين اتفقتا في مواجهة الدولة العثمانية وسياسة التتريك، كما تميزت هذه اليقظة القومية بإجماع كل رموزها على نبذ الطائفية والتفرقة الدينية، إذ كنت تجد بين أعضائها مختلف الانتماءات المذهبية.

لكن، توجب على تلك الجمعيات والأحزاب التي طالبت بالاستقلال عن الخلافة العثمانية، أن تنتظر نهاية الحرب العالمية الأولى، كي تنطلق باتجاه أحلامها التي أجهضتها محاولات الاستعمار الأنكلو فرنسي الذي جاء يتقاسم تلك البلدان وفق خرائط سايكس بيكو المعدة سلفا، بحيث لم تعرف أغلب هذه الدول الاستقلال الحقيقي إلا مع نهاية الحرب الكونية الثانية.

سورية بعد الاستقلال

خلال ذلك سعت الدول العربية المستقلة حديثا لإقامة مؤسساتها الوطنية ورموزها، فاكتسبت كل منها خريطة وعلما، إضافة للنشيد الوطني والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووضعت الدساتير، كما سنت القوانين الخاصة بها، والتي تمنح الحقوق وتعيّن الواجبات على كل مواطني هذه الدول، ليصبحوا شعبا تستمد الدولة شرعيتها منه، فتلك المؤسسات والرموز هي التي تغذي الانتماء، وتخلق هوية وطنية للسكان الذين يفترض أن يتحولوا إلى شعب، فالدولة الحديثة كما رأينا تحتاج إلى مؤسسات ودستور يضمن حقوق الأفراد وجميع المكونات، ويسهم بتحولهم إلى شعب في دولة المواطنة المتساوية.

الاستعصاء الذي عرفته سورية وبعض دول المنطقة، أنها انزلقت سريعا باتجاه الانقلابات العسكرية، مؤسسةً شرعيتها على قوة العسكر، الذين دخلوا سوق السياسة كجيش عقائدي مهمته حماية سلطة وهيمنة الحزب الواحد، والذي انتهى إلى سلطة فرد وعائلة حاكمة، تتبنى أيديولوجية قومية شوفينية، رفضت الاعتراف بالأقليات القومية الأخرى التي تتعايش معها داخل الدولة، وابتدعت دمجا مريعا بين القومية والجنسية، بحيث يكتب في خانة الجنسية على هوية أي شخص في سوريا عبارة “عربي سوري”، وهو ما اتكأ عليه وزير الإعلام السابق مهدي دخل الله ليقول على الفضائيات: نحن في سورية لا توجد عندنا بالأساس مشكلة كردية، لأننا نكتب على الهوية لكل السوريين عبارة: “عربي سوري”! وكأن هذه العبارة تكفي لمحو الانتماء الأصلي لكل المكونات في سوريا كالكرد والتركمان والآشوريين والسريان وصولا للأرمن والشركس وسواهم بحيث يصبحون جميعهم عرباً؟

هذا الدمج بين القومية والجنسية قضى أول شيء على إحساس المواطنة، دون أن ندخل في الكثير من التفاصيل الإجرائية، التي حرمت جزءا من السكان، الكرد تحديد، حتى من الهوية الشخصية، بالمقابل نجد أغلب الدول العربية الأخرى تكتفي بذكر اسم الدولة في خانة الجنسية، وهذا يجعل الأرمني على سبيل المثال في دولة كلبنان، ودون الدخول في تفاهة المحاصصة السياسية طائفيا، قادرا على الاعتزاز بهويته اللبنانية، دون أن يضطر لإنكار كونه أرمنياً، فالمواطنة تحوّل الدول إلى وعاء يستوعب كل المكونات. كما الحال في سويسرا مثلاً، فالمواطنة هي تعبير عن انتماء الأفراد للدولة، وهذا الانتماء لا يسلب أيا من الأفراد أو المجموعات المكونة للشعب هوياتهم القومية، وانتماءاتهم الأخرى.

الهوية الوطنية ليس بالضرورة أن تتطابق مع الهوية القومية، كما هو حال الشعب الألماني أو العربي، وحتى الشعب الكردي، فهذه الهويات تتوزع على أكثر من دولة، بالمقابل نجد في كثير من الدول تعدد الهويات والانتماءات، وهذه التعددية لا يمكن صون وحدتها وتحويلها إلى شعب إلا بالمواطنة التي يقرها ويحميها الدستور، بحيث يكون لزاما أن يصون الدستور حقوق جميع الأفراد والقوميات والأديان بغض النظر عن النسب العددية لهم، وهذا ما يُعرف بحياد الدولة تجاه جميع مكوناتها.  

إشكالية الأيديولوجيا البعثية أنها لم تستطع أن تطور “عصبية النَسبْ” التي تحدث عنها ابن خلدون، بل مسختها إلى “النظرية الرحمية” على يد زكي الأرسوزي، المنظر الأول للبعث، الذي اشتق “الأمة” من لفظ “الأم”، واعتبر علاقة الفرد بالأمة كعلاقم الجنين بأمه في “الرحم”، لا يريد له ولادة وعيشا مستقلا، ولا يريد له خيارات واعية ومستقلة بعد الولادة.

الأخطر من ذلك أن هذه الأيديولوجيا الشوفينية، وجدت فضاء يحميها في لحظة صعود حركات التحرر الوطنية في العالم، فمنحها ذلك القدرة على ادعاء أنها ثورية وتقدمية، الأمر الذي يَسّر لها ارتكاب كل موبقات الفساد والدكتاتورية تحت غطاء الشرعية الثورية، المدعومة من الاتحاد السوفيتي السابق في ظل الحرب الباردة، بحيث تحولت تلك الشرعية إلى سلالة حاكمة استولت بقوة الجيش العقائدي على السلطة، ومنحت لذاتها كل الحقوق في الوصاية على البلاد والعباد، والتحكم بهم.

فبررت سلطة البعث ممارساتها الديكتاتورية، كونها تقود مشروعا تحرريا، ألغى حرية الشعب لصالح الحاكم فقط، وبررت الفساد كونها تبني وطنا وجيشا عقائديا، لكنها في الحقيقة لم تبنِ أكثر من آليات نهب لخيرات البلد، ورفعت شعار الديمقراطية الاجتماعية مقابل الديمقراطية الليبرالية، وحرية الأمة مقابل حرية الأفراد، لتتمكن من قمع كل صوت لا يدخل في جوقة الفساد البيروقراطية التي عممتها باسم الدولة والقانون، وأي مطالبة خارج ذلك تعتبر خيانة وطنية!

ولم تحل الأيديولوجيا البعثية دون اتكاء سلطة الأسد على كل موروث التخلف والطائفية، وآليات الفساد والبيروقراطية، في سبيل إخضاع المكونات الاجتماعية وأي صوت معارض لديكتاتوريتها، كما هربت من كل استحقاقات التنمية والتحديث وتطوير البنى الاجتماعية والسياسية إلى فضاءات المقاومة الأيديولوجية والشعاراتية التي أفرغت البلد من كل طاقاتها، ونهبت خيراتها واستنزفت قدراتها الاقتصادية، فأثرت العائلة الحاكمة وحاشيتها، فيما اُفقر باقي الشعب، حتى كادت تتلاشى الطبقة الوسطى باعتبارها خزان الطاقات الشعبية القادرة على التغيير، وغابت الهوية الوطنية لصالح أوهام أيديولوجية وقومية تحلق في فضاءات لا تنتمي للواقع السوري.

تحتاج الهوية إلى شعور بالانتماء والقبول، الأمر الذي لا يمكن فرضه بالقوة، فالقوة العسكرية يمكن لها أن تخضع الآخرين شعوبا وأفرادا، لكنها تبقى عاجزة عن تخليق هذا الانتماء والقبول بالمشروع السلطوي، وهذا يفسر فشل كل محاولات النظام الشوفينية لصهر المكونات القومية الأخرى وقمع معارضيه، بل يمكن التأكيد أن فساد النظام وتعسفه في التعامل مع المعارضة أديا إلى عكس ما أراد بالضبط، حيث ساهم ذلك الفساد والتعسف مع سياسات الافقار والتهميش في إيقاظ وتعزيز تلك النزعات القومية والتحررية المقموعة لدى باقي السوريين، وأعتقد أن هذا الأمر شكل أحد أهم أسباب الانفجار الذي حصل في آذار عام 2011، بالتزامن مع الانفجارات التي حدثت في تونس ومصر وامتدت لاحقا إلى كل من ليبيا واليمن.

ما حدث في هذا الانفجار الذي عُرف بـ”الربيع العربي” هو ثورة شعب هبّ بكل أطيافه يطالب بالحرية والعدالة وإسقاط أنظمة الاستبداد التي حكمته لعقود طويلة، ثورة شعب أراد أن يتظاهر بسلمية مطلقة ضد الفساد والديكتاتوريات التي ألغت كل الحقوق في سبيل الحفاظ على سلطتها بالقوة، ونقول عنها ثورة، ونحن ندرك المآلات المأساوية التي قاد نظام الأسد وحلفاؤه إليها عبر فرض العسكرة والتطييف على سورية والسوريين، نظام لم يتورع عن استخدام كل أسلحة القتل والتدمير وما زال، وأخطر هذه الأسلحة كان تمزيق النسيج الاجتماعي للسوريين، لأنه كنظام لم يكن في يوم ما معنيا ببلورة الهوية الوطنية فحسب، بل على العكس، كان يستشعر الخطر على سلطته من تعبيرات الشعب أو الديمقراطية أو الحقوق. وأكبر خطأ يمكن لباحث أن يقع فيه هو مجرد النظر إلى هذه المآلات التي نتابعها يوميا في سورية، بغض النظر عن القوى والآليات التي دفعت باتجاهها.

لم تكن سلطة البعث في سورية معنية بتطوير الهوية الوطنية وحمايتها كإحدى وظائف الدولة، بل على العكس حاربتها بقوة، كما حاربت كل الانتماءات الدينية والقومية، باعتبارها سلطة حزب تقدمي وعلماني، وكانت تمنع في إعلامها أي ذكر للطوائف أو الطائفية، لكنها كسلطة ديكتاتورية عجزت عن بناء وحماية هوية وطنية جامعة لكل مكونات الدولة، بل هي لم تُرد ذلك أصلا، وليس سرا أن انتخابات حزب البعث والمنظمات الملحقة به وحتى تشكيل الوزارات وتعيين رؤساء التحرير كانت تدار كلها على أسس المحاصصة الطائفية أولا، والقبلية أو العشائرية في بعض المحافظات والمدن.

وبعد أن دمر الأسد الصغير سورية، وقتل وشرد نصف السوريين، عملا بشعار “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكتف بالاحتماء في كنف الطائفية، كحامي للأقليات، بل استورد كل المخزون الطوائفي في المنطقة والعالم، ليقاتل معه وضده أيضا، من أجل إثبات أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة يقودها متطرفون إسلاميون للقضاء على نظامه العلماني التقدمي.

وبكل أسف كانت استجابة الإسلاميين عالية في سوريا لخوض صراع عسكري مع هذا النظام ال، وكانت أغلب، إن لم يكن كل الفصائل المقاتلة في سوريا مع النظام وضده دون الهوية الوطنية، فالأسلمة والعسكرة أخرجت السوريين نظاما ومعارضة وشعبا من المعادلة، وبات الصراع في سورية وعلى سورية رهن الإرادات والمصالح وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، وإن كان ثمن هذه الصراعات دمار سورية ودماء السوريين.

السوريون كأي شعب ليس لهم مصلحة باستمرار القتل في كل الجغرافيا السورية، والنظام الذي ارتهن لموسكو وإيران لا يطمح لأكثر من بقائه في السلطة، والمعارضة بكل فصائلها السياسية والعسكرية الآن، بما فيهم وحدات حماية الشعب P.Y.D لم يرتقوا لتمثيل سوريا ومصالح السوريين بالمعنى الوطني، رغم رفضنا القاطع لدخول تركيا إلى عفرين، فإذا كان لتركيا مشاكل مع أكرادها، فإن كرد عفرين سيبقون جزءاً من الشعب السوري، رغم أن الصراعات الدموية التي باتت عنوانا لما يحدث في سورية، أفقدت الناس أية أوهام بشأن الانتصار، حتى الانتصارات العسكرية التي يحققها الروس والإيرانيون، لن تمنح النظام أي أمل  يعيد له شرعية حكم سورية، إذ بات ذلك شبه مستحيل في هذا الصراع المتشابك إقليميا ودوليا في المدى المنظور. والسوريون وحدهم، وبكل مكوناتهم، من يدفع ثمن هذه الحرب وتلك الصراعات.

هذه الرمادية المحبطة دفعت الكثير من السوريين للبحث عن هويات أصغر أو أكبر، ودخل بعضهم في تحالفات خارجية لم تزد أمرهم إلا تعقيدا، ولن يجدينا استجداء الحلول من روسيا أو أمريكا أو تركيا، لا بخصوص وقف الحرب، ولا بشأن الدستور أو غيره، فالسياسة بالنسبة للدول الخارجية هي مجرد مصالح، وهذا مازال يعرقل حتى الآن ظهور أي مشروع وطني حقيقي يعيد لسورية وللسوريين انتماءهم وأحلامهم التي صدحوا بها في بداية الثورة “واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد”.

هل يمكن للسوريين استعادة ذلك المشروع الوطني السلمي الذي يطالب بدولة المواطنة والمساواة والديمقراطية، التي تحترم حقوق كل مكوناتها الفردية والقومية، وتؤسس لدستور يصون حياد الدولة تجاه تلك المكونات وتجاه الأفراد؟ وهل يملك السوريون بعيدا عن هذا الحل أية إمكانية حقيقية لوقف القتل والدمار؟ وهل يمكننا بعيدا عن الهوية الوطنية الواحدة أن نستعيد إمكانية العيش المشترك في سورية؟

الهوية مسألة تنمو مع الأفراد والشعوب، وتتخلق في مشاعر وانتماءات وجدانية يصعب القضاء عليها بالعنف، وإن تم كبتها لفترة ما، وهي غير عقلانية بمعنى أنها لا تخضع لمعيار الصح والخطأ، فلكل منا هوياته المتعددة الصغرى والكبرى، ابتداء بالهوية الشخصية والعائلية والقبلية، واستمرار بهويات مناطقية أو هويات مذهبية دينية وعقائدية أو أيديولوجية، وفي كثير من الأحيان تتصارع هذه الهويات في دواخلنا وأفكارنا، وتتصالح أحيانا، كما تتشابك في العالم الموضوعي فتتناقض وتتصارع أو تتصالح.

ربما في لحظة الصراع التي أشرنا إليها يخال البعض أن بمقدوره التخلي عن هوية ما، وكثيرا ما يحدث ذلك، إلا أن المعيار الجمعي يُصر على إبقاء هؤلاء الأفراد ضمن منظور الهوية المسبقة التي اكتسبت عبر الزمن، فهويتك ليس ما تعتقده أنت فقط، بل ما يُنظر به إليك، وكثيرا ما يُعاني المثقفون من هذه الأزمة، وحتى بعض الدول التي غادرت قطار الماركسية قبل أن يصل غودو، كما حصل في روسيا الاتحادية، إذ نجد الكثير من اليسار الدوغمائي لايزال يعتبرها وريثة الاتحاد السوفيتي!  

الحل لا يكون بإلغاء الهويات الكبرى أو الصغرى، بل يكون باحترام كل الهويات والانتماءات والعقائد في إطار دولة المواطنة المتساوية والمشروع الوطني الوحيد الذي يحيلنا من مجموعات إلى شعب، عندها فقط يمكن لنا أن نفكر جديا ببناء مستقبل أفضل.

بعض موت

بعض موت

في كلّ صباح أكتب لك رسالة

أعرف أنها لا تصل باليد

لقد كسر الجليد قلبَ ساعي البريد أيضاً

يا لدماثة الأمس!

كنت أنجذب إليك كما لو كنتَ ناراً متّقدة!

يؤلمني أنك تراني على هذه الحال

وترى بؤسي يتهاطل ويجرف ما كان حبا.ً.

*

الان لديَّ أسى وموتى

وها نحن أولاء ندور في أفلاكنا نبحث عن نهايةٍ ما

نسأل عن إمكانية أن تذرونا الرياح

فننتهي بذرة لا تعرف أمّها ولا أباها

برغم ذلك لا نجرؤ على القفز في الهوة المعتمة.

*

لا تظن أنّ رسالتي يائسة،

إنها بعضُ موتٍ يتنفّس.

الأبدية قطعة من أرضك

ثلج أخرس

وصمت لا يتوقف عن الثرثرة

هناك دائماً عصفور لا يشعر بالبرد

يخفف من جزعنا

عندما أشعر بالعوز أبحث عن فتات الخبز.

*

لم يكن حلماً:

جبل

أصدقاء يرعون تحت الشمس،

واد التقيته صدفة في قرية بعيدة

ساقية تتناوب عليها الحياة بالضفادع واليعاسيب

حب يغمر حقول الأرز.

*

إنما تلك بلاد وهذي بلاد

حياة اليقظة بلاد ثلجها أعمى

والأبدية قطعة من أرضك.

*

تدفعني الريح بهذيان وصفير لايبالي

اتمسك بالشجرة:

كلتانا تسند الحياة

حتى لا تطير في غفلة منا، غباراً

بعض خيال

أنت تراني من الداخل

قلت لي هذا ثم تركت قلبي ينهشني

أنا التي حلمت مراراً بالعذوبة تعصر كل ما أملك تحت جلدي

لم أعش من الحب سوى بعض خيال

لم يزرني الثلج هذه السنة

برغم كل شيئ،

مازلت أفرك يديّ  وأنتظر.

كهفٍ صغير

…..

من مشاكسة المطر لنا

لجأنا إلى كهفٍ صغير،

ماذا لو كنتَ معي،

أيّها البعيد،

أما كنّا وقعنا في حبّ الكهفِ معاً؟

*

الطريق تحتضن مسافرينَ غيري،

وأنا وحيدة بصحبة الأفكار

بعضها أفكارُك،

وبعضها يرفعنا معاً فوق غيمة

*

وأعرفُ كم سأُعاني بعد عودتي

فالفرحُ لا يكون أخضرَ إلّا في أوَّله.

جسارة أولى

ريح هذا الصباح شريدة على آخرها

حمّالة أرواح الأولين

أحياناً تربك اللغة بصفعاتها

وأحياناً تئن مثل عذراوات المعابد

طفل طري الملامح

مذهول الحواس

يدور حول نفسه في الحي   

لا بأس فالريح تعدي

ولابد من جسارة أولى

الشجر ينفخ في خفة وريقاته دونما اتجاه

والصغير

يلاحق هياج قطعانها

محاولاً احتضانها بين ذراعيه

لكنه لا يدرك أنها من روحه ولو بعد حين

وأنه منذ صرخته الأولى، فصل من فصول الخريف.

محاذاة النهر

يصدح النهر بأجمل موسيقاه كلما حاولت الصخور كسره.

*

إن حملت في إحدى يديك رغيفاً ترفق باليد الثانية، ربما تكون باردة.

*

بينما يتهادى نهرٌ ويتباهى فوقه جسرٌ عتيق

أنحني على صفحة الماء،

فأراك.

*

التشبث،

يالها من كلمة مؤلمة.

هويتنا القاتلة

هويتنا القاتلة

 مطار مدينة فرانكفورت- ألمانيا، موجودة للعبور لمدينة أخرى، وبعد انتظار قصير للوصول إلى نافذة ختم العبور Check in، ميلان صغير للرأس مع ابتسامة في صورة جواز السفر تثير الشكوك والقلق، لأنها لا تناسب المعايير الدولية لصور جوازات السفر التي تتطلب جديّة وحياديّة في النظرة في آن معا، بالنسبة لي الأمر في غاية الصعوبة فهويتي كأنثى لا تسمح لي بأن أكون قبيحة ولو لدقيقة واحدة، فما بالكم في صورة سترافقني لمدة لا أعلم أقصاها؛ يدقّق الشرطي في جواز السفر لأكثر من عشر دقائق، وأخيرا سأل:

هل معك نقود؟ أجيب: نعم، يطلب المحفظة… يرى فيها بعض الدولارات الأميركية، هنا المصيبة الكبرى! كيف أحمل دولارات وأنا عربية؟ أو بمعنى أدّق كيف يحق لي امتلاك الدولارات؟ شرحت له أنني قمت بتبديلها منذ مدة في مدينة بيروت، يسأل مرة أخرى: “لكنها تحمل أرقاماً متسلسلة” أنا لا أعرف ما القصد أو التهمة الكامنة في الأرقام المتسلسلة؟ لأن ما يهمني كما الآخرون أن يكون في حوزتي مال ليس إلّا، وبذلك نكون بوضع آخر مثير للشك: بيروت مدينة عربية وليست أوروبية أو أميركية لتكون عملتها الدولار! فمن أين لي هذا؟ هو لم يسأل لكن التعجب يقول مافي صدره، و لحسن الحظ كانت تقف خلفي امرأة من لبنان فأجابت بالنيابة عني وأنقذت الموقف وقالت: “نعم نحن نتعامل بالدولار وهذا أمر طبيعي في بلدنا” وبعد أن تبدّدت الشكوك وتبيّن أن جواز السفر نظامي بالرغم من الابتسامة- وأن المال ليس مسروقاً أو مزوّراً، خُتِمَ جواز السفر وعبرت المطار بمعادلة بثلاثة مجاهيل: صورة جواز سفر جميلة، نقود بأرقام متسلسلة، و بيروت مدينة عربية تتعامل بالدولار! ولا دليل للإدانة للتهم المذكورة آنفا.

الحمدالله أن الشرطي لا يملك صلاحية تتعدى حدود الختم وإلا كنا علقنا بشرح أسئلة عمر أجوبتها عشرات السنين، و اضطررنا لشرح آلية عمل شؤون الهجرة والجوازات في سوريا منذ عام 1970 وصولا لصورة جواز السفر الخاص بي، وتعليل قيام وفصول الحرب الأهلية في لبنان وصولا لهبوط الليرة اللبنانية أمام الدولار.

كيف كُسِرت الهوية السوريّة؟

 أكاد أقارب ما حصل في مطار فرانكفورت في ذات المعطيات، ذات الحالة و ذات الخوف والاضطراب مع اختلاف الأشخاص وفقر المكان على حواجز النظام في سوريا، عندما يفتح باب الحافلة أحد جنود جيش النظام و يطلب البطاقات الوطنية من المواطنين، بما يُعرف في لغة المواطن بالـ “هَوية”، وبلغة العسكر “الهواوي” أو “الهوايا” كلمتين لا معنى لهما في قواميس اللغة العربية، وفي الحقيقة أصبحت الهوية السورية على الحواجز العسكرية التابعة وغير التابعة للنظام لا معنى لها، الانكسار الأوّل للهويّة السوريّة كان مع بداية العام 2011 وبداية العام 2012 عندما نصح الشيخ “عدنان العرعور” الثوار بكسرها -البطاقة الوطنية- كشكل من أشكال التعبير عن رفض النظام الحاكم، لتصبح فيما بعد ذريعة لجنود النظام بالتمييز بين من هو معارض ومن هو مؤيد للنظام، و حجّة للذل والاعتقال الذي لا يُعرف متى ينتهي.

الانكسار الثاني

عبور البحار والمحيطات للحصول على الأمان، في أوروبا غيرها من القارات، لتصبح الهوية السوريّة أعلى سعراً في عقليّة تجّار البشر و “المهربين”، ومن قِبَل من لديه الرغبة من غير السوريين الراغبين في تغيير حياتهم لتكون جواز سفرهم إلى أوروبا.

الحاصِل وما حصَل هو أنّ السوريين عبروا البر والبحر والجو بأوراق أوروبيّة أو ماشابه ذلك ليصلوا لبر الأمان، وذلك بسبب رفض الحكومات الأوربيّة منحهم تأشيرة الدخول “الفيزا” مما اضطرّهم أن يبدّلوا في اليونان -غالباً- وجودهم من مواطنين سوريين إلى مواطنين X أو Y.

أمّا غير السوريين فدفعوا الغالي والنفيس من أجل البطاقة الوطنيّة السوريّة قبل جواز السفر السوري لأنّ هذا ما يضمن بقاءهم الحتمي في البلد الذي يريدون الوصول إليه.

ترنّح الهوية أمام الهجرة

طبيعة المجتمعات الأوروبيّة يرفضها أغلب العرب المهاجرين عمومًا و السوريين خصوصاً، ولا سيما ممّن يتمسّكون بطبيعة دينيّة أو اجتماعيّة محافظة، وفي الوقت ذاته يرفضون غالباً الاجتماع بأبناء بلدهم أو دينهم أو قوميتهم لعدم شعورهم بالراحة أو لأسباب أخرى اجتماعية منها أو سياسيّة، ورغبةً منهم بعدم الاقتراب من المجتمع الذي دفعهم للاغتراب؛ عندما وصلت أوروبا كانت أوّل النصائح الموجّهة لي هي أن أتجنّب الاحتكاك بالسوريين خوفا من الأذى أو الإزعاج أو لأسباب أخرى يرفض الناصح الإفصاح عنها، وبهذه الحالة لم يحقق السوري شروط الاندماج الاجتماعي مع المجتمع الأوروبي، ولا يستطيع أن يحافظ أو يعبّر عن هويته بالاجتماع مع أبناء بلده في اجتماعات ثقافيّة أو عائليّة، وبالتالي شكله كوافد جديد في المجتمع الأوروبي مجهول المعالم تماما، فلا هو بظرف اجتماعي يسمح له بممارسة لغته وثقافته، و لا هو متقن للغة وعادات البلد المضيف، ممّا يجعل الطرف الآخر (المضيف) يتعامل بحذر لأنّه أمام معادلة مجهولة من كل الأطراف، فعلى سبيل المثال المهاجرون الأتراك أثبتوا أنفسهم بقوة في أوروبا فلم يغيّروا عاداتهم الاجتماعيّة و جعلوا هويتهم حاضرة من خلال تصديرها عن طريق الفن أو المطاعم المنتشرة بكثرة و اندمجوا وأتقنوا لغة وقوانين المجتمع المضيف.

أمّا السوريون في غالبيتهم فيعانون من الاغتراب بكافة النواحي، مع العلم أنّنا كسوريين أبناء حضارات مختلفة ومتنوّعة وإذا صدّرنا هويتنا بالطريقة الصحيحة فغالبًا نضيف لأي ثقافة نندمج معها، وأكبر دليل على ذلك هو الإقبال الأوروبي الكبير على الموسيقى والمسرح العربي ولا سيما من المغرب وسوريا.

أمّا من جهة أخرى و التي تعتبر أحد أهم المشاكل التي يعاني منها السوريون في أوروبا هي الانشقاق الأسري، المتمثّل في حالات الطلاق والعنف الذي يصل للقتل أحياناً، كما حصل خلال الشهر الجاري عندما استفاق السوريون على جريمة “أبو مروان” الذي طعن زوجته بطريقة وحشيّة وظهر معلنا عن جريمته ببث مباشر على موقع ” الفيس بوك”، وسبقته بأشهر حادثة في السويد مع عائلة سوريّة عندما سحبت الحكومة السويديّة الوصاية منها على أطفالها، نتيجة الضرب المبرح للأطفال من قبل الوالدين، ممّا أثار حفيظة السوريين وغيرتهم على عاداتهم وتقاليدهم في التربيّة الصارمة أو العنيفة واعتبروها تعدّياً على ثقافتهم وخوفاً بأن يتعلّم أطفالهم الثقافة الأوروبية، مع العلم أنّ أغلب العائلات السورية المحافظة الموجودة في أوروبا لا تمارس ثقافتها العربيّة أو السوريّة فلا أدري أين العائق أو المشكلة بأن تتعلّم الأجيال القادمة عادات المجتمع الذي ستعيش فيه وتصبح من مكوناته الأساسية؟

الهويّة الهجينة

الشعوب العربيّة بعد أن صارعت أشكالاً كثيرة من الاحتلال وتأثّرت بثقافات جزء منها تركي وجزء منها فرانكفوني، أنتجت اضطراباً عند عدة أجيال حيال البحث عن نفسها، فلنأخذ سوريا ولبنان كمثال، فبعد انتهاء فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا لم تستطع أن تصيغ دستوراً وقوانين جديدة بشكل كلّي، بل اكتفت بترجمة القانون الفرنسي وممارسته بطريقته الخاطئة حتّى اليوم، إضافة إلى المناهج المدرسيّة التي لم تكرّس الهويّة الاجتماعية بقدر ما كرّست الهوية الدينيّة والقوميّة التي تعلّم الولاء للقائد الخالد، فعاش الشعب السوري على مدى عقود يجهل هويته و قومياته ودياناته ولغاته الجميلة المختلفة، حتى أصبح اليوم وبعد حرب داميّة، إمكانيّة مناقشة تدريس اللغة السريانيّة في برلمان النظام أمر متاح، في حين كان قبل سنوات جرماً يعاقب عليه القانون بتهمة الخيانة للعروبة، ممّا أدّى لانقطاع طويل مع الهوية الأم، والميول لتعلّم لغات أخرى كالفرنسيّة والانكليزيّة كشكل من أشكال التباهي بقدرة الفرد على تحدّث لغة أخرى.

أمّا في لبنان فالحالة أعقد، هناك تعطّش غريب لإتقان اللغتين الفرنسيّة الإنكليزيّة في تغييب شبه كامل للغة العربيّة وذلك لميل اللبنانيين بطبيعتهم إلى الغرب وذلك لاعتبارهم أن لبنان هو باريس الشرق من الناحيتين الجغرافية والثقافيّة. كذلك الأمر في المغرب العربي لكن مع فارق أن الهويّة الهجينة بين الغرب والشرق ظاهرة بأوضح أشكالها، مع وضوح ملامح كل واحدة منها.

التفكير في هذه النقطة يجعلني أتّخذ من القوميّة الكرديّة في سوريا مثالا مهماً للهوية المزدوجة إذا صح التعبير، فهي من أكثر قوميات المنطقة وضوحاً في المعالم، ويجمع الأكراد بين إتقان اللغة العربيّة وتعصبّهم للغتهم الأم، فرفضهم وحرمهم في آن معاً من حمل الجنسيات العربية جعلهم يحافظون على جمالية ثقافتهم وتميّزها، و “اللكنة” السوريّة الكردية المميزة أبرز ملامحها.

حالة الأنا

في النهاية كل شخص يحدد هويته بالطريقة والظروف الذي نشأ وترعرع فيها، لأنه بطبيعة الحال التجربة هي كلمة الفصل في تقرير الإنسان لمصيره، أنا عن نفسي أتحدّث كأنثى تشكّل حالة استفهام لدى الأشخاص المحيطين بي، فأنا عربيّة غير محجّبة تتحدث لغات بلباس قصير.

غير تقليديّة ومتمرّدة بالنسبة للمجتمعات العربيّة، لأنّني أبدي رأيي الصريح في السياسة والحريّة، ولباسي غير محافظ بالقدر المطلوب، وبالنسبة للأوروبيين امرأة محافظة لأنني أحتفظ بملامح شرقيّة شكلا ومضموناً، ولا أستسيغ فكرة المساكنة، و أحرص أن أصدّر أصولي في الدرجة الأولى، ومن ثمّ تحصيلي العلمي، لأنّي ببساطة بين يدي ثقافة تقيمني على أساس ثقافتي.

أمّا أنا شخص عربي سوري، نشأت في بيئة أقليّة دينيّة محافظة أحملها داخلي للآن، مستعدة للتأقلم والاندماج عن طريق ثقافتي و أناي بأي مجتمع كان…  وهذه هويتي.

الهوية السورية المقتولة

الهوية السورية المقتولة

تشكل الهويات ما قبل الوطنية، في سوريا، كما في غيرها من البلدان ذات التنوع، عقبةً كبرى في طريق تشكيل هوية وطنية جامعة، فسياسات ما يسمى بـ”الهويات الجزئية”، إثنية كانت أو قومية أو دينية، تنطوي على التطرف وإقصاء الآخر المختلف وشيطنته وإنكار كرامته الإنسانية، تبريرا للعنف الموجه ضد هذا الآخر، بغية إلغائه وتدميره حسبما يحدده صراع المصالح، قاطعة بذلك السبل المؤدية لانضواء الأجزاء المتعددة تحت سقف وطني واحد.

الهوية نوعان، هوية ثابتة تخلق بالولادة، ينسب إليها أفرادها عنوة، مضطرين لا مختارين، كالهوية الجنسية أو الدينية أو القومية أو المذهبية، حتى لو عمد الإنسان إلى “تغييرها”سيبقى هناك ماضٍ يُحبس فيه، في كلمة “الأصل” على أقل تقدير، كالإنسان الذي يجرى عملية تحول جنسي، يبقى أبداً “المرأة التي كانت في الأصل رجلاً” أو العكس، أو المسيحي/ة عند تغيير دينه/ا تصبح “المسلم/ة من أصل مسيحي.”

وهوية متغيرة يصنعها الفرد بإرادته الحرة، من خلال تجاربه، فتأتي معبرة عن فرديته واستقلاله، هوية اختيارية، واعية، منفتحة على الآخر، مستزيدة من غناه، ومتسعة لأفق رحب يتسع للمختلف، بل يطالب لأنه يعتبر وجوده إثراء له لا تهديداً يخشاه، هذه الهوية تتطور، تتخذ أشكالاً أكثر غنى تنظر إلى المستقبل وتشد أفرادها إليه، فالمحدد الأساسي فيها هو الإنسان المستقل المسؤول عن اختياراته، بغض النظر عن انتماءاته الأولى.

في غياب الذات الإنسانية المتفردة والحرة، تعزز العلاقات الاجتماعية كالقرابة والنسب والعقيدة الهويات الأولية، وتتحول إلى عصبيات، ملبية الحاجة إلى الانتماء، وإن اتخذت أشكالاً جديدة كالهوية العقائدية والإيدولوجية، إلا أنها تبقى منغلقة على ذاتها، الأمر الذي يجعلها تشبه نفسها في كل وقت، وتكمن الكارثة في بقائها مُحدداً أساسياً للعلاقات بين أفراد المجتمع رغم تغير الزمن وتطور الحياة، تشدهم إلى الماضي وتعيد إحياء موتاه، رافضة أي انفتاح على الآخر، ومعتبرة أي تغير جديد مهدد لكيانها فلابد من محاربته ودحره حماية لوجودها.

كشفت الثورة السورية في آذار عام 2011 وجود كل من الهويتين لدى السوريين في تعيينهم لذواتهم، ولكن تبين للأسف أن سنيناً طويلة من الاستبداد والقمع الممنهج أتت أُكُلها السام، فالانطواء على الهويات الأولية هو ما استسلمت له الغالبية العظمى بدلالة مآلات الثورة السورية بحد ذاتها، وكذبة التعايش السلمي والشعب السوري الواحد باتت نيسانية ممجوجة، ورغم معرفة وقناعة كثير من السوريين بتعدد أشكال الهوية واختلاف معانيها، وتعاملهم مع الآخرين في محيطهم اليومي، على أسس أخرى مختلفة للهوية كالأنماط الشخصية، أو العلاقات الإنسانية، أو حتى الموقف السياسي من الثورة ، إلا أن الهويات الأولية “القاتلة” تحضر بقوة عند أول نزاع أو صراع مصالح ، لتسحق وجه الهوية الوطنية ومعانيها تحت بسطار الطائفة أو الانتماء السياسي أو القومي أو الديني…الخ

يقول أمين معلوف: “إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، في أغلب الأحيان. ونظرتنا هي القادرة على تحريرهم أيضاً.”

الآراء والنظرة المسبقة حول هوية الآخر الغريب غالباً ما تؤدّي دوراً حاسماً في رفضه أو قبوله، ولغة التعميم السائدة في المجتمع تساهم في حصر كل “آخر” في جزء محدد من هويته الأولية، وهي غالباً ما تنحصر بأصوله الدينية أو الطائفية، هذا ما تشهده مناطق عدّة من سوريا خلال الصراع الدائر حالياً وموجات النزوح الداخلي، كأن يصبح في لحظة ما “كل السنة القادمين من حلب إلى اللاذقية هم متزمتين دينياً ومتطرفين”، وفي المقابل يغدو “كل العلويين في اللاذقية مؤيدين للنظام ومستفيدين منه”، على سبيل المثال لا الحصر.

وإن لعب النزوح الداخلي دوراً مهماً في فتح إمكانية التعارف والتواصل بين أبناء البيئات السورية المختلفة، لكن هذا التواصل والتعارف لم يكن في ظروف طبيعية ومشجعة على تقبل الآخر، وإنما حدث وسط حرب تستنزف الطاقات والأرواح وبسببها تزداد مآسي الناس يومياً، مما عزز الشعور بالخوف من هذا الآخر ورفضه، وفي مواقع شتى بالاغتراب والقلق الوجودي والانزواء في الهوية الأولية، ورغم تنبه الجميع  لخطورة خطأ التعميم، إلا أن الغالبية تقع فيه مختارة.

في ظل المعطيات الحالية  تتمايز الهويات المختلفة أكثر في سوريا وتتصارع محاولة إلغاء بعضها بعضاً، حيث يسعى النظام لقسر هويته على السلطة، وفرض طابعها على جميع مناحي الحياة، في حين يؤمن  أصحاب الهويات الجزئية الآخرى وأفرادها المحتميين بعصبياتهم، أن التخلي عن الهوية الأولية التي يختصرون ذواتهم فيها، يعني ضياعهم ودمارهم، الأمر الذي سيستمرون بالحرب من أجله في صراع يقتل أي بارقة أمل في تحقيق هوية وطنية سورية جامعة.

لابد من عقد اجتماعي جديد يضع المواطنة والعدالة الاجتماعية كأساسٍ لا بديل عنه، ويعتمد آليات العدالة الانتقالية لإعادة بناء هوية وطنية جامعة، في دولة يحكمها القانون وتقوم على أسس العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وبالتالي يُلغى التنافس بين الهويات الأولية العصبية، وتتاح الفرصة لتطوير الهويات المتغيرة الديناميكية، من خلال تشكيل مجتمع مدني يعمل على تأصيل وتجذير ثقافة الديمقراطية والمواطنة، محل المجتمع التقليدي البطركي بهوياته الثابتة الموروثة وسلطاته المستبدة.

رائحة البرتقال

رائحة البرتقال

رائحةُ البرتقال مع البرد تذكّرني بالحقل

الذي يمتدُّ خلفَ بيتنا

فقط في فصل الشتاء

رائحةُ البرتقال مع البرد جرحٌ

كلُّ رائحة يمكنُ أنْ نتذكّرها هي جرحٌ في الزمن

أولئك الذين يمشونَ من دون أنْ يتوقفوا عند الروائح يمضُون نحو الغد

عمياناً.
الجرحُ عينٌ

وأنا محاطةٌ بكلّ أصنافِ العميان

أحياناً أشعرُ بأني وحدي مجروحةٌ

ولا أعرفُ كيف أنقلُ صوتي من تلك البُحّة العميقة إلى البُحّة التي يتكلّمون بها

بلا خلفيةٍ

وبلا سماءٍ

بلا ذلك الجرح الذي يحدثُه البردُ في البرتقال

أو تلك اللذة.

* * *

قـش

لي أختٌ محبوسةٌ خلف قضبانٍ من حديد

تنمو فوق المجازر

تبقرُ بطنَها بيديها ثم تملؤهُ بالقشّ

انقطعَ حليبُها

وامتلأ صدرُها بالدم

تنامُ قربي الآن

أنا أغفو

وهي تحفرُ الحلمَ بأسنانها

* * *

النساءُ الأوروبيّات

النساءُ الأوروبيّات

على الفِراشِ الرقيق أتمدّدُ بحزنٍ

أديرُ وجهي نحو الحائط

أبتسمُ

أرسمُ اسمكَ بإصبعي على الجدار

أُغمضُ عينيَّ مع صوتِ انفجارٍ بعيدٍ،

أستطيعُ الآن النوم دون أنْ أحلم بشيء

دون أنْ أنتظر شيئاً.

أعلمُ أنّ كثيرينَ مثلكَ

رحلوا إلى أوروبا

رحلوا لأجل الذلّ والموت،

لكن بعد سنين

حين سيسألُ أطفالهم عن سببِ قدومهم

سيقولون:

لأنَّ أجسادَ الأوروبياتِ أكثرُ دفئاً من نسائنا،

نسائنا اللواتي مُـتْـنَ وحيداتٍ هناك.

* * *

حين يأتي الموت

حين يأتي الموتُ

سيسحبُ كلَّ الرجال

الواحدَ تلو الآخر من أصواتنا

لننكسرَ كغصنٍ طريٍّ تحت قدميّ عصفور،

حين يأتي الموتُ

لن تكونَ لهُ عيناكَ

ولن يتلمّس أجسادنا

بحثاً عن شهوة مخبّأةٍ في البطن،

سنكون نساء قبيحاتٍ

بأصواتٍ مشوّهة

تُخرِجُ طيوراً مُختنقة

وأوجاعاً باردة.

كلُّ الرجال الذين عرفناهم

وخبّأناهُم في خلايا صوتِنا

ليرمّمُوا جُملَنا الناقصة في الوحدة

سيسحبونَ ما تبقّى من الكلام داخلنا.

حين يأتي الموتُ كاملاً

أو ربما بلا ثقلٍ

حين يأتي في وقته أو بعده

أو متأخراً جداً..

سيكون حنوناً

أكثر من كلِّ الرجال في أصواتنا

سيضمُّنا ويزجرهم بعيداً..

لنبتسمَ بخبثِ النساء

حين يطردنَ رجُلاً ويستبدلنَ آخرَ به.

* * *

الرجال وحسب

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ،

الظهورُ أحواضُ وردٍ

وعشبٌ تحت أقدامِ الرجال،

في المساء تتمدّدُ النساءُ على ظهورهنّ

ينظرنَ إلى فوق

الطائرةُ تستعدُّ لقصفِ مدينة

السماءُ تشدُّ أطرافها

كفتاةٍ تستحييْ من عُريٍ أسودَ كهذا،

يتابعنَ النظرَ إلى ما فوقهنّ

الرجالُ يمرّون

والطائراتُ

والألمُ الذي يزحفُ

كدبابةٍ تجعلُ الأرضَ تحتَها أكثرَ قسوةً

هكذا أدركتُ أنّ كلَّ الرجال

يتحوّلونَ فجأةً

إلى آلةٍ ضخمةٍ

بعضُهم يُسمّيها دبابةً

وآخرونَ طائرةً

وقليلونَ مثلي

يعرفون أنهم الرجالُ وحسب.

* * *