في البدء كانت السكين

في البدء كانت السكين

في البدءِ كانت السكين

منذ قابيل

وإلى آخر مجزرة،

الكلماتُ لم تكن ولدتْ بعدُ

الكلمات التي تحفظونها عن الأمل

لن تمنح الحياةَ لوردةٍ صغيرة

مرّتْ من فوقها دباباتُ الوطن،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الفرح

لن تمسحَ دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت رُكام المنزل،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحلم

لن تُقنعَ النائمين تحت سماءِ الحزن المدلهمّ

بالنظرِ إلى السماء،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحبّ

لم تعد تصلُح لحديثٍ مسائي بين عاشقين

على مقعدٍ في حديقة

في زمن “الأندرويد” و “دونالد ترامب”.

أيتها الكلماتُ المغدورة

ماذا سنقولُ لـ “كريم” (*)

– وقد انطمسَتْ قصائدُنا التي لم تُكتَبْ بعدُ –

عن العيونِ والأنهار

عن البحار والمدى

عن الردى!

وحدَها السكينُ

ووحدنا الحنجرة،

وحدها البندقية

ووحدنا الظهر،

وحدَهُ الذئب

ووحدنا الحملانُ الضعيفة.

هلِّلُويا

هلِّلُويا

في البدء كانت السكين.

* * *

(*) كريم: من أطفال غوطة دمشق، اقتلعت عينه جراء القصف.

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كانَ ورداً أقلَّ الذي نامَ ما بيننا في السرير

أكُنّا سنحلُم أكثرَ بالنوم في شُرفات البلادْ؟

وما الحبُّ إنْ لم يكن عارضاً للحديث عن الريحِ

أو جمرةً تتباهى بأحلامنا كلّ صبحِ

وتأخذنا من يدينا لكيلا نموتَ إذا جاء وقتُ الرمادْ!

وما الشوقُ إنْ لم يكن مؤلـِماً وغريباً كصبّارةٍ

وانتظاراً يغيّـرُ أقدارَنا لو أرادْ؟

وحين أفكّرُ فيكَ يهبُّ من المزهريةِ صوتُكَ

يسقطُ قلبي على درجِ البيتِ مني

وأنسى تماماًكأيةِ عاشقةٍ–  كيف يشتدُّ عودُ الغريبة في البرد

أصعدُ نحو هلاكي رويداً رويداً

فيجعلني الوقتُ أغنيةً لا تُعادْ

ولو كان ورداً أقلَّ أكنتَ ستمضي بعيداً لتبحثَ عن وطنٍ آخرٍ

أو نشيدٍ جديدٍ؟

أكنتَ ستكسرُ قلبي كما فعلَ الآخرون به،

أم ستبقى جميلاً كأيّ غريبٍ يرى في المنافي ملاذاً من الحرب

والتركاتِ البخيلة من شجرِ النار أو كذبِ الأصدقاءْ؟

كبرنا كثيراً على أنْ نكون سوانا

وهذا الرحيلُ الذي كان محضَ اتفاقٍ مع الشمس كي نمسكَ الغيم

أصبحَ كلَّ الذي تركتْهُ لنا الأرضُ من سِـيَـرِ الأنبياءْ

* * *

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليكِ كتبتُ قصيدةً على الجدار

هدمتْها القذيفةُ

.وسالَ الدمُ من حروفها

حين اشتقتُ إليكِ بحثتُ عن أطفالٍ غير جياعٍ

.فلم أجدْ

حين اشتقتُ إليكِ صعدتُ إلى الجبال

ونظرتُ إلى المدن

.فلم أجدْها

حين اشتقتُ إليكِ أشعلتُ شمعةً

وفضحتُ تشرّدي الأخير.

حين اشتقتُ إليكِ لمستُ جثّةَ مقاتلٍ جانبي

.وشعرتُ به يبتسم

حين اشتقتُ إليكِ نسيتُ قصيدةيطير الحمام.. يحطّ الحمام

وتذكرتُ قصيدةفي البالِ أغنيةٌ يا أختُ عن بلدي

فأحسَسْتُ بحَلْقي طعمَ العِتاب.

حين اشتقتُ إليكِ نزلتْ طيورٌ خضراءُ في حَنجرتي

.وماتتْ من قلّةِ الماءِ والخبزِ في هذا الحصار

.حين اشتقتُ إليكِ كانت الرصاصةٌ قد غيّرت اسمي

حين اشتقتُ إليكِ تنفّستُ هواءً نقيّاً

.وكأنني لستُ في ثلاجة الموتى

حين اشتقتُ إليكِ سمعتُ الملائكة يحصونَ أهل الجنّة

.ويكذّبون نشرة الأخبار

.حين اشتقتُ إليكِ كان الشعراءُ يلصقونالنعواتعلى أعمدة الكهرباء

حين اشتقتُ إليكِ دخلتُ مغارةً

.ونمتُ بهدوء طفلٍ لم يعرفْ أنه على هذه الأرض

…إلخ

.ليست خيانةً أنْ أشتاقَ إليكِ في هذه اللحظات الأخيرة

* * *

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

كان هذا الشتاء غزير التوابيت

فتاةُ القرى

وهي تلمحُ بين التلال القطار البعيد

وأعوامَها وهي تعبرُ مثل ثلاثٍ وعشرين غيمةْ

تحدّثُ جارتها عن ذهابِ الجنود إلى الحرب تحت المطرْ

تقول لقد كان هذا الشتاء غزيرَ التوابيت

والأرضُ تزهرُ في كل يومٍ مئاتِ الضحايا

ولي عاشقٌ غاب من سنتين

ولكنه يتلفّظُ باسمي إذا ما اعتراهُ الرصاص

..فينجو

هو ابنُ ثلاثٍ وعشرين نجمةْ

يهاتفُني من قرى الآخرين

ويلمح بين التلال القطار البعيد..

فتاةُ القرى لا تقول لجارتها

إنّ عاشقها لا يهاتفُها منذ عام..

وجارتُها لا تقولُ لها إنها لمحتْ

نجمةً سقطتْ

.منذ عامٍ وراء التلال

* * *

لم يعد أحدٌ منذ عام وأكثر

لم يعُدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

:قيلَ لنا

“مرّ هذا الشتاءُ على أهلِنا قاسياً

والذي سوف يأتي به الصيف أقسى”

خرجنا سريعاً من الباب

بابِ المدينة

كانت خيوطُ الدماءِ تسيلُ على الجانبين

هبطْنا بأثقلِ أحزانِنا فوق أرضِ الهزائم

ثم انتظرنا

انتظرنا طويلاً وراء التلال

ومرّ الشتاءُ

ومرتْ بنا العرباتُ محمّلةً بالجنود

ذئابٌ رماديةٌ

ونساءٌ يضعنَ قلائدَ مسبوكةً من رصاصٍ

رأينا على صفحةِ النهرِ أجسادَنا وهي تطفو

وراياتِنا تتمزّقُ قبل المغيب

وقيل لنا لن نعود كما لم يعدْ أحدٌ منذ عامٍ وأكثرَ

لكننا كلما اهتـزّ من تحتِ أرجُلِنا الجسرُ

مدّ إلينا الشتاءُ حبالَ الحنينِ

وعُدنا إلى ضفّةِ الحزن..

هذا خرابٌ عظيم

تجاعيدُ أحلامِنا باتتِ الآن أكثرَ عمقاً

وصارتْ ضفائرُ أشجارِ هذا الطريقِ رماديةٌ

لم يعُدْ أحدٌ

لم تلوّح لنا من وراءِ الجدارِ يدٌ

لم يصلْ طائرٌ

والخيولُ الثلاثون تلك التي انطلقتْ بالرجالِ الثلاثينَ

لم ينجُ منها صهيلٌ على الجرفِ

لكنّ ضوءً خفيفاً فقطْ

شعَّ في عتمةِ الليل..

قيل لنا إنّ نجماً هوى

قيل نبعٌ تفجّرَ

قيل حريقٌ خَبَا

..قيل سيفٌ أطاحَ برأس الملكْ

لم يكنْ غيرَ نصلٍ فقطْ

..شعَّ في عتمةِ الليل

.ثم سقطْ

 * * *

نماذج من الشعر السوري الجديد

نماذج من الشعر السوري الجديد

ملف أعده لصالون سوريا: أسامة إسبر

رغم أن الحرب هدمت سوريا عمرانياً وفكّكتْها اجتماعياً لا يزال الشعر يمثل فضاء مشتركاً للسوريين، وهو يكتسب أهمية كبيرة، كونه فناً غير قابل للتوظيف، ويمثل اللغة في أرقى وأعلى أشكالها التعبيرية، كما أنه يلوِّن اللغة ويُغنيها بألوان الشعراء المختلفين، وبرؤيتهم وبنائهم للعلاقة بين اللغة وعوالم الواقع وأشيائها. والشعر، يضيءُ عتمات، ويقود أضواء فيها، تظلُّ تبحث عن الخفي، والذي يظل هارباً، ولهذا لا تُستنفد اللغة الشعرية، بل تظلُّ مقترنة بالمستقبل، لأنها غوصٌ فيه، واستكشافٌ له، ورحلة في تقلبات الذات.

وفي هذا الملفّ الذي يمثّل جانباً مميزاً، وليس شاملاً، من الشعر السوري الجديد، يتفرد الشعراء المشاركون، كلٌّ بلغته الخاصة ورؤيته المختلفة، في بناء قصيدة تعيش غير مستقرة، لا وطن لها، فلا المنفى بكل مغرياته يخلق الطمأنينية، ولا الأوطان. وهكذا، يعيش الشاعر في وطن بديل، هو وطن الفن، العالم الشعري الذي يبنيه ويوسعه، والذي هو نافذة للآخر كي ينظر إلى الأشياء بطريقة جديدة، كي يرى نفسه ومحيطه خارج نطاق السائد والمألوف، هذا هو عالم الشعر، وتلك هي مغرياته، وهنا تكمن فرادته، في أنه دوماً يولد مع كل قصيدة جديدة، ويتشكل في كل تجربة شعرية، وبالتالي فإن كل شاعر كوكب يدور في فلك الشعر، أحياناً تكون الإضاءة خفيفة وفي أحيان أخرى يشتدّ السطوع. وفي هذه المختارات التي ينشرها صالون سوريا، ثمة رسالة عميقة، وهي أن ما يوحّد السوريين، يكمن في الإبداع، وفي أفق العلاقات الجديدة التي يبنيها الأدب والفن بين الذات والآخر، بين الروح المبدعة والروح المتلقية، في هذا التفاعل يولد الأمل، ويتوهّج ضوء الحضور.

في الأيام القادمة سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها:

١: كان هذا الشتاء غزير التوابيت
تمام التلاوي

٢: حين اشتقتُ إليك
حكمة شافي الأسعد

٣: ولو كان ورداً أقلّ
سُرى علّوش

٤: الغريب
عبد الكريم بدرخان

٥: تقطيع المشاهد بالاختناق
عمر الشيخ

٦: في البدء كانت السكين
صلاح إبراهيم الحسن

٧: لا يحزنني الموت
لينة عطفة

٨: قصائد
محمد شعبان

٩: فيلُولوجيا الأزهار
أمارجي

١٠: النساءُ الأوروبيّات
مناهل السَّهْوي

١١: رائحة البرتقال
ميس الريم قرفول

نجوم شباك نشرات الأخبار

نجوم شباك نشرات الأخبار

الحرب السورية التي هبت كالريح حملت معها عوامل تعرية حقيقية للمجتمع، والظاهرة الأسوأ التي قامت الحرب السورية بتعريتها، هي أنّ كل مواطن سوري كان يحمل داخله ديكتاتوراً صغيراً يمارس مساحة ديكتاتوريته بحسب حجمه (الأب الذي يقمع ابنته، الزوج الذي يخرس زوجته، الصديق الذي يقصي صديقه و لا يسمح له بالتعبير عن رأيه و هكذا…). هذا الديكتاتور الصغير بيّن لنا أنّ البلاد بحاجة ل23 مليون حراك ومن بعدها حراك واحد كفيل بإنهاء الديكتاتورية بكل أشكالها، كما عرّت الحرب مقدار المناطقية والطائفية والانفصالية والتشبيح والتدعيش الكامن في وجداننا الذي تمّ إفساده مع الزمن مما يكشف أنّ أمراض قرن لا بل قرون بحاجة لقرن ربما للتخلص منها، ذلك الذي كان من شأنه إعادة إنتاج الديكتاتوريات في كل أطراف البلاد، فقامت داخل سوريا سوريات صغيرة لكلّ منها فرع أمن الدولةو فرع فلسطينوفرع الأمن العسكرييضاف لها فرع حماية الطقوس الدينيةوفرع تنفيذ أوامر الله في أرضهوغيرها! ومن الملفت للنظر أنّ الشعب ذاته هو الذي يؤيّد خانقيه، فتجد كل ديكتاتور له شبيحتهمن الشعب، ومن تراه وسطياً إذا ذكر هذا تجده شبيحاً فيما لو ذكر ذاك، و طرق القمع و الإقصاء والإبعاد هي ذاتها، والاتهامات جاهزة وسريعة والمبررات سهلة، فمن السهل أن يتهم أحدهم مشجعي منتخب كرة قدم بالخائنين، وأن يجد آخر مبرر لقصف دمشق لأنّ قرية ما تقصف، بينما يصرخ آخر أنّه سيحاسب سكان دمشق وحلب وحماة المدينة والسويداء والساحل ونصف سكان حمص المدينة والعشائر والأكراد…..، يريد أن يحاسبهم كلهم باسم الشعب السوري بينما ينسى أنّه ذكر في فحوى كلامه الشعب السوري كله، هذا لا يصدر عن مؤسسات أو قوى أو أحزاب أو فصائل عسكرية، إنّه يصدر عن شاعر و سائق تكسي و صاحب مطعم وعامل نظافة وبائع خضار.

عرّت هذه الحرب كثيراً من الديكتاتورية والإقصائية والقمعية والتوحش و التسلط و الطمع في دواخلنا، على أنّ أسوأ ما طغى على السطح الفكر الراديكالي الذي لم يبرأ منه رقم يدعو للتفاؤل، فالواقع الديني الراديكالي حاضر في جميع الطوائف (جبهة النصرة، داعش، حزب الله، كتائب أبو الفضل العباس، فرق الشبيحة إلخ) ولكنّه مفيد لمن يريد التحكم به لدى الأكثرية أكثر منه عند الأقليات لأنّه قادر على خلق ما يسمّى بفوضى الجمهور التي تنتشر كالنار في الهشيم وتحصد كل ما يمكن زرعه لذلك تم استغلالها ودعمها استخباراتيّاً من الخارج والداخل معاً ليظهر الجمهور بالصورة التي ظهر بها، فمن الضروري جداً إظهار الجمهور بهذه الصورة فهذا من شأنه أن يترك حجة للدول الغربية لإعادة تموضعها في بقعة جغرافية يشكل شعبها الخطر وليست الحكومة، ومفيد للحكومة التي تريد إطفاء الشرعية على نفسها من جديد، ومفيد كل من يريد استباحة هذه الأرض التي لا حق فيها إلّا لشعبها إن كان هذا المستبيح مستبداً أو غازياً على أنّ المصيبة أنّ القاعدة الأساسية لهذا التطرف كانت قاعدة شعبوية والتسويق الأول هو تسويق شعبوي و كأنّ الشعب ينتحر بمحض إرادته!

وهذا كلّه يقودنا إلى أنّ سوريا تتجه لإعادة تركيز للسلطة المركزية في دمشق بيد النظام الحاكم كحالة شكلية محضة مع تقسيم للنفوذ على المحتلين والمستفيدين كلّ حسب حصته كمّا أنّها تتجه لمكان سيفاجئ كل مراقب لوضعها لأنّ ما يحدث من تورم يزيد بشكل مركب فالمشكلة تجر مشكلة والعنف يجر عنفاً أكبر والانهيار يجر انهياراً أعم هذا على المستقبل القريب، وتتجه لنهضة واسعة المجالات، وقد يظن البعض هذا الكلام ضرباً من الخيال أو محض مبالغة إلّا أنّ سوريا تحمل اليوم مقومات النهوض بشكل لا يمكن تصوره:

1- خبرات عملية متوزعة على دول العالم ولغاته فكل سوري حالم يحمل داخله تجربة واسعة تعلمها طوعاً أو كرهاً لا بد وأن ينقلها طوعاً أو كرهاً حين يعود إلى بلاده.

2- الشعب السوري عاش الأسوأ وهذا من شأنه أن يجعله أكثر سعادة مع الأقل سوءاً مما سيحفز على الإنتاج وتحرك عجلة الاقتصاد.

3- سوريا أصبحت دولة عالمية كما لم تكن منذ قرون فهي خبر أوّل وخيار أوّل ونجم شبّاك نشرات الأخبار مما يعطي لها الفرصة للظهور على أنّ الصدق يُلزمني أن أقول أنّ هذا البند غنيمة بقدر ما هو غريمة على البلاد.

4- النهر السياسي والاجتماعي لا يمر من نفس المجرى مرتين إذ أنّه لا عودة لركود الماضي وروتينه فلا بد للمستقبل أن يفرض معاييره شاءَ من شاءَ وأبى من أبى.

5- لو تعلم الشعب السوري 10% فقط من أخطائه لكان هذا أجمل ما في الأمر فكما يتوجب فإن الشعب السوري الآن يعرف من عدوه ومن صديقه ولم يعد عاطفياً يسخر منه من شاء الانتفاع والطمع أو يضحك عليه حاكم ما بممانعة أو استعداد لحرب لن تحصل.

هذا كله يؤكد أنّ جيلنا خسر سوريا للأبد بينما ستكون الأجيال القادمة محظوظة بسوريا أفضل من سوريتنا وأفضل من سوريّة آبائنا.