بواسطة Ahmad Mohamad El Sahh | يناير 10, 2018 | Roundtables, غير مصنف
قدّم خريجو هندسة الحواسيب في جامعة حلب عام 2010 مشاريع التخرج البحثية والتطبيقية التي أبهرت عدداً من الدكاترة المختصين حيث قال الدكتور المهندس محمد سعيد كريّم : (هذه دفعة قوية من المهندسين، يمتلكون الفرادة والتميّز)، لكن جاءت الحرب التي غيرت كل شيء لتنأى بطموح الشباب بعيداً. فأصبح هناك قوانين جديدة مفروضة على الجميع سواء رضوا بها أم رفضوها، وأصبح كل فرد يبحث عن نفسه من جديد. ومفاهيم العمل الجماعي والتعاون والصداقة وغيرها من الأطر التي أسست لها الحياة الدراسية لهؤلاء الشباب باتت ضرباً من الماضي.
كان أحد هذه المشاريع يتناول مسألة نظام الإدارة المتكامل، القادر على ربط جميع مؤسسات الدولة عبر مدخلات ومخرجات مترابطة تجعل الهيكلية موحّدة تخفض من التدخلات الشخصية وتشكّل الأرضية الأساس للحكومة الإلكترونية لتختصر الوقت والجهد وعدد الموظفين وعدد الأماكن مع وجود فرص عمل متنامية مع الزمن إلى آخره من الميزات. هذا المشروع جمع حوله عدداً من الأصدقاء الذين عرفوا بعضهم جيداً من خلال التعاون خلال سنوات الدراسة. سألقي الضوء هنا على عينة من هؤلاء المهندسين الذين عاشرتهم وكنت على صلة مباشرة معهم.
مهندسة الأمس، طبّاخة اليوم
سهاد مهندسة وإحدى خريجي تلك الدفعة، صديقة الجميع والتي كان يعتمد على معلوماتها ودفاترها الجامعية من قبل كل أبناء الدفعة، ومن العناصر الفاعلة في مشروع نظام الإدارة المتكامل، وصاحبة المعدل 75% ( وهو معدّل من الصعب تحقيقه لخريجي الهندسات ) والتي كان طموحها المتابعة في مسيرة البحث الأكاديمي لنيل شهادة الدكتوراه، وهذا ما عبّرت عنه لأصدقائها دوماً، وحين وصلت الحرب إلى حلب عام 2012 انقطعت المعلومات عن رغداء وأهلها، وبعد مرور عدد من السنوات، عادت عام 2015 للتواصل مع أصدقائها الذين تساءلوا عنها كثيراً لتخبرهم أنها لاجئة في ألمانيا وأنها غيرت اختصاصها لتصبح طباخة معروفة في سلسلة مطاعم هناك، قال لي زملاؤها إنها لا تمتلك الوقت للتواصل معهم كما كانت أيام الدراسة وذلك لأنها رهن المرحلة الجديدة التي تعيش فيها، وقد عبّرت لهم عن ضيقها وتعبها.
أصدقاءٌ ذهبوا، وافتراضيون حضروا
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي عبر مجموعاتها الافتراضية الدور الأبرز في مقدرة الأصدقاء على متابعة أخبار بعضهم البعض بعد أن فرقتهم الحرب، سليم الذي بقي في سوريا وأحد خريجي تلك الدفعة، ماكان ليعرف أياً من المعلومات عن أصدقائه لولا مجموعات الواتساب والفيسبوك. يقول سليم: (منعتني ظروف الحرب من متابعة عملي الهندسي، وتركت وقتاً فارغاً أمامي، فوجدت نفسي في حالة متابعة دائمة لوسائل التواصل الاجتماعي وبصورة طبيعية أتساءل عن الزملاء والأصدقاء ومن خلالها عرفت أخبار القسم الأكبر منهم، ولكن بعضهم لم أحصل على أي معلومة عنهم، سواء كانوا على قيد الحياة أم لا!) لكن هذا الفراغ أيضاً عرّف سليم على أشخاص جدد يشك ببعض منهم ويشعر بالتوجس على الرغم من حالة الصداقة الافتراضية التي يغرقونه بها، من خلال كثرة التواصل والاطمئنان.
لغة الطائفية ماذا تفعل؟
محمد أحد أصدقاء سليم وسهاد، الذي وصلني معه سليم، التحق بخدمته الإلزامية ضمن القوانين السورية للخدمة الإجبارية يقول: (آخر أصدقاء طفولتي ودعتهم في أيلول عام 2015 مهاجراً إلى أوربا كما فعل الكثيرون، وقد عزّ علي كثيراً أنه بعد إصابتي في إحدى المعارك لم أتلقَّ أي اتصال من هؤلاء الأصدقاء فهم لا يعرفون عني شيئاً، ربما لو وجدت صديقاً يطمئن عني لكان ذلك سباً أن تبرأ جراحي بشكل أسرع). يبدو أنّ محمد الذي تنقل بين عدة جبهات خلال سنوات الحرب قد تعرّض لكثير من التجارب التي جعلته قليل الكلام، لكنه يحمل في ذاكرته جراحاً كثيرة فهو يضيف لنا بعد عدة أسئلة أن أشكال الطائفية التي لمسها عبر تنقله على عدة جبهات كانت مفاجئة له، بعد أن قضى سنوات مع لغة المنطق الحاسوبي!
الريف يصنع أصدقاء جدد
بعثرت الحرب الأصدقاء وعملت على توزيعهم بطريقة مختلفة عن مبنى حياتهم السابقة، فقد أفقدتهم صداقاتهم القديمة وولّدت طبقات جديدة جعلت الاحتكاك فيما بينهم مصادر جديدة لولادة الأصدقاء.
مازن أحد خريجي الدفعة وابن مدينة حلب، اقتصرت حياته على البيت والجامعة والانتقال بينهما، وبعد نزوحه إلى إحدى قرى مصياف، اختلفت عاداته وتقاليده فيقول: (لم أكن قادراً أن أتصور العيش في بيئة مختلفة جذرياً عن بيئة حلب، اليوم أذهب مع أحد سكان هذه القرية والذي أعده صديقاً إلى الحقل للقيام بأعمال الزراعة ونمضي ساعات النهار معاً، للعمل وكسب الرزق. يبدو أن هذه الحرب منحتني ثقافة جديدة وأصدقاء لن أنسى فضلهم علي).
هذه التجربة التي مر بها مازن تعرّض لها الكثيرون من أبناء سوريا بعد كثير من الكوارث التي ضربت مدناً رئيسة وبالتالي أصبحت قاعدة العودة للجذور والأرض والريف هي المنجاة بالنسبة لهم.
تغّيرت مجريات الأحداث في سوريا كثيراً ورؤوس الأصدقاء الحامية قلّ عددها حين اكتشف الجميع خسارتهم الكبرى. لن ينسى الأصدقاء أنهم خافوا في بداية الأحداث أن يسأل بعضهم البعض عن مواقفهم السياسية، ولكن الصدمة توسعت حين تصادموا بالسلاح، كانت الصداقات تنهار بسرعة انهمار الرصاص في البلد، وكان الفقد والغربة والعزلة والانكفاء تجاه الأقلية التي ينتمي إليها الفرد تبدو عاصماً له مما يحدث، لكن الأمور اليوم تنفتح على مستوى جديد، بعض الصداقات عادت، وبعضها اختفى كأنها لم تكن يوماً وبعضها تشكل من جديد بآراء مغايرة بعد أن نسفت الحرب رأي كل شخص قبل أن تنسف رأي خصمه السياسي.
بواسطة Malak Bitar | يناير 10, 2018 | Roundtables, غير مصنف
دقّت الساعة الأولى للحرب، ولم تُكسر عقاربها بعد سبع سنوات، فمنذ أن قرعت أجراسها وحتى الآن، لازال الشارع السوري يتراشق اتهامات الخراب التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، متناسين “التطّرف” الذي ولّد شرارة الدمار، ولم تخمدها حتى اللحظة أرواح “الشهداء“.
وأثناء هذه الأعوام النّارية، عاود العمل الثقافي بحلّة جديدة وبانتشار غير مسبوق تضاعفت خلاله نسبة المطالعة بين الشباب السوري، بنسبة كبيرة جداً على المستوى الفردي وعلى الصعيد المجتمعي عن طريق أندية القراءة التي استقطبت الفئات المهتمة بالأدب والشعر والروايات الملامسة للواقع العبثي المفروض على أحلامهم و تطلعاتهم المستقبلية بواقع أفضل، وعلّ رائحة الورق المُستعار و الروابط الإلكترونية للكتب الحمراء منها والزرقاء عززت شعور الطمأنينة في خوالجهم الملتهبة لما تحمله من إجابات منطقية لأسباب التطرّف الذي يلبس “سوريانا” من حلب إلى درعا، والذي حلّ في البلاد وانفجر بميعاد لم يتوقع حدوثه أبداً أقله في القرن الحالي!
فالهدف الأساسي من إقامة الصالونات الفكرية والندوات الثقافية في سوريا، حمل القارئ إلى طريق “الانتماء الوطني” وزيادة شريحة الفئة القارئة لما تبثّه من قيم تنويرية مضافة تتشربها النفس البشرية، مع كل غلاف يُغلق وبهذا النشاط يتلاقى ابن الساحل مع شباب السويداء بأمسية في دمشق بعد أن وثب كل منهم عتبة “التطرّف المذهبي” وتجاوز الحواجز العشائرية الأخطر من نقيضتها العسكرية ثلاثة أضعاف، أقله لساعات معدودات، وما أن تبدأ مناقشة الكتاب المقترح تتعرى الوجوه من كل الملامح الدالة على الهوية السورية، ليتطبع مكانها بصمة مغبرّة عمرها آلاف السنين على هيئة إيمان ومعتقد، فالبعض يدخله بمجرى الحديث بطريقة أو بأخرى ليدافع عنه الدفاع المستميت بغض النظر عن علاقته بالكتاب من عدمه إما بإشارة حاجب ببسمة ساخرة أو هزة رأسٍ ليست بمؤيدة، خصيصاً إذ ما عرّج النقاش إلى الحرب في سوريا هنا تتهافت الجمل –المنمّقة– والتي تشير بأصابع الاتهام إلى إثنية ما وتخوينها بالمطلق، والتشجيع على إجرام تكتل معين، دفاعاً عن قضية لا زالت في رحم الظلمة لا تحرّك ساكناً، بل تستخدم هذه المعتقدات شمّاعة لتبرير كل جرم، ولتفض الجلسة أخيراً ليعاود أغلب الحضور صومعته المتطرفة ومن أخذته خطوات اللانتماء فذنبه ذنبان.
و من أحد المعالم الثقافية التي جمعت ألوان الطيف السوري تحت سقف المعرفة، دورات التنمية البشرية، لتحقيق الغاية المنشودة منها في نشر المهارات السلوكية بالطريقة السليمة، و التي تعزز من عمليات التواصل بين الفرد وذاته من جهة وبين الفرد وبقية شرائح المجتمع على الصعيد الاجتماعي والمهني. ومن هذا المنطلق لاقت إقبالا للنهل منها عن طريق الورشات المجانية أو المأجورة، وخلال ذلك فقدت الكثير من المراكز التدريبية المصداقية إما في قيمة المادة المطروحة أو منافاة عنوان الدورة لفحواها الحقيقي! إضافة لإطلاق لقب “مدرب” على كل شخص أتمّ دورة إعداد مدربين دون رقابة فعالة لاستحقاقهم هذا اللقب حتى الأمس القريب. أعدادهم صارت بالآلاف بعضهم زاول المهنة وتوقف نظراً لتخمة المدربين في الساحة والنسبة الأكبر منهم وأدت المنحى الخلقي والأخلاقي للمهنة بابتذال تجاري منفّر، على الرغم من نُبل قيمها وفعالياتها في تغيير مصائر شعوب بأكملها إذ ما طبّقت ونشرت بالطرق الصحيحة.
و على الرغم من الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد، والذي يستدعي حقيقة مواربة الشاب السوري إلى بوابة متطلبات الحياة اليومية، إلا أنه لم ينكفئ عن إحياء “الروح الإبداعية” لديه تحت أي ظرف كان، ففي الآونة الأخيرة تفجرت مواهب السوريين مع كل قنبلة ورصاصة، بشكل منظم على مواقع التواصل الاجتماعي جمعت المبتدئ بذي الخبرة، إضافة إلى إنشاء منصات إعلامية من قنوات يوتيوب وغيرها لتغطية الفعاليات الشبابية من اختراعات وأبحاث اقتصادية وغيرها إلى جانب الحس الفكاهي التي يميز بعضها وذلك منظور الشباب أنفسهم، وبأسلوبهم المغيب جزئياً عن السياسات الإعلامية التي تعمل وفقها “القنوات السورية” والتي لاقت تحسناً لا بأس به في العام السابع (للحرب في سوريا، الحرب السورية، الحرب على سوريا !!)
وحتى هذه اللحظة لم يدرك هذا الشعب –الطيب– أن بمساومته على مفهوم “الشهادة” نسبة لقرية ومذهب سيتجرد من جلد الإنسانية قبل أي شيء فأعداء الوطن هم التعصب و الطائفية السوداء، وإن المنظمات المجتمعية والجمعيات الثقافية التي تعنى ببناء الإنسان لم تأتِ بالنفع المرجو على أرض الواقع، و إلا لتصدى السوريين جميعاً لأي “تجييش” أيّاً كان نوعه، ولكانت الحرب محض كابوس بادئ ذي بدء، وإنه لمن المجحف حقاً صب اللوم على مبادري هذه المنظمات لما يحمله مفهوم المواطنة من هشاشة، إذ ما نُظر للأمر إلى ما قبل الحرب حتى استنزاف المواطن بتأدية واجباته المستحقة و يزيد، في وطن لم يمنحه سوى قلة قليلة من حقوقه.
بواسطة Amer al-Aboud | يناير 8, 2018 | Roundtables, غير مصنف
كان الرِّهان على وعي وترابط المجتمع السوري في بداية الحرب رهاناً خاسراً بكل المقاييس، بل لم يكن أكثر من وهمٍ إعلامي ومحاولةٍ لتمييع الحقيقة وغضِّ النَّظر عن الأزمات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع السُّوري وعن تأصُّل الحساسيات الطَّائفيَّة والمناطقيَّة بين أبناء الوطن الواحد.
والحرب تؤدي بالضرورة إلى إخراج ما هو مظلم في كلِّ مجتمع، فالودعاء البسطاء أيام السِّلم هم ذاتهم الذين لم يتأخروا عن حمل السِّلاح وانزلقوا بسلاسةٍ وخفَّةٍ إلى الخندق الأقرب إليهم على ضفتي الصِّراع، وهُمْ ذاتهم الذين أحرقوا بيوتاً ونهبوا ممتلكاتٍ ودمروا عائلاتٍ بأكملها؛ ففجأةً أصبح الجَّارُ صاحب الابتسامة العريضة جلاداً بذقنٍ تلامس سرَّته، والصَّديق الذي قاسَمَنا رغيفنا طواعيَّة بالأمس القريب، ارتدى المموَّه وأصبح يسرق الرَّغيفَ عنوةً.
كان واضحاً خلال الشُّهور القليلة الأولى أنَّ السِّلاح سيتحوَّل إلى سلعة متوفرة ومتاحة للجميع تباع كما تباع الخضراوات على النواصي، والأكثر وضوحاً أنَّ الدبابات التي غادرت مواقعها والطائرات التي فارقت مرابضها كانت تنذر بسنينٍ عجاف، وأنَّ مسار الحِراك قد تحدد ليكون حِراكاً عسكرياً دينياً بغيضاً وحرباً ضروساً بين جيشين سيقف فيها العامَّة على الحياد ريثما تمتد لهم يدٌ لتجرَّهم إلى جبهةٍ أو إلى زنزانة، وعلى الرغم من هذا السقوط الكبير لحلمنا بحراكٍ مدنيٍّ قادرٍ على رسم مستقبل بلادنا بقيَ الرِّهان على نبذ العنف من المجتمع قائماً، وبعنادٍ لا طائل منه أصرَّ المؤمنون بميل السُّوريين للسِّلم –وأنا منهم– على هذا الرِّهان، وخسرنا جميعاً.
للأمانة؛ لقد خاننا حدسنا، فلم نتوقع أنَّنا نمتلك كلَّ هذه المقوِّمات لتدمير أنفسنا، ولم نتوقع أنَّنا نمتلك هذا القدر من الطَّائفيَّة والعنصريَّة تجاه بعضنا، بل كنَّا مخدوعين بالدِّعاية البراقة التي سوَّق لها الإعلام “الرَّسمي” حول الوعي واللُّحمة الوطنيَّة والتَّعايش، أمَّا اليوم فقد أصبحنا على يقين أن الحديث عن التَّعايش واللُّحمة الوطنيَّة يتناسب طرداً مع افتقاد هذه المعاني.
لا تعايش الآن في بلادنا ولا لُحمة وطنية ولا مجال لاستخدام هذه الخدعة ثانية على الأقل في المدى المنظور، هذا الواقع الذي يخبرنا به الشارع السُّوري المنقسم بشِدَّة والمصطفِّ في خنادق أملتها عليه الطوائف والمناطق والمصالح قبل أن تصبح الحرب مهنة وننقسم ببساطة إلى محارب وهدف، ولكم أن تتخيلوا كمية الكراهية التي تعاظمت في نفوسنا خلال سنين الحرب الطويلة والقاسية، لكن السؤال الجوهري: هل كانت هذه الكراهية وليدة الحرب ونتيجتها أم أنَّها سابقة على الحرب وكانت تنتظر فرصة لتعبر عن نفسها بالطريقة البشعة؟!.
لم أدرك مدى الكراهية التي نخبئ إلَّا عندما رأيت المشاجرات بين الهاربين السُّوريين إلى لبنان والتي كادت أن تصل حدَّ القتل، هذه المشاجرات كانت ناتجة بالظاهر عن اختلاف في الانتماء السياسي، لكنها في الباطن كانت نتيجة مباشرة لاختلاف الطوائف أو المناطق أو الطبقات الاجتماعية.
هناك في بيروت في مشروع أبراجٍ سكنية قيد الإنشاء يشكِّل السوريون 60% من عماله كنت أنا هارباً أعمل كعاملٍ غير محترف، وعلى جدران المراحيض – التي هي عبارة عن مستوعبٍ معدنيٍّ قذر تم تثبيته على عَجلٍ فوق قطعٍ من الطوب الاسمنتي وتركيب ثلاثة مراحيض لتكفي أكثر من ألف عامل– عرفت إلى أيِّ مدى نحن محمَّلون بالغل!
هؤلاء العمال الذين يعانون الأمرَّين نتيجة استغلالهم وقسوة ظروف العمل لم يتمكنوا من التخلي عن انتماءاتهم حتَّى في المراحيض، فافتتحوا نقاشاً ساخناً على الجدران، كلُّه شتائم وعبارات حملوها معهم من دمشق على غِرار الأسد أو نحرق البلد، جايينك، يلعن روحك … إلخ، إلى جانب مجموعة كبيرة من العبارات الطائفية التي تساعد في فهم التركيبة الطائفية للمتحاورين، ووصل الأمر عند بعضهم إلى تحديد موعد للخصم للنزول إلى الحلبة!
هذا الاحتقان غصَّت به الحناجر فلم يترك الغاضبون سبيلاً لتفريغ غضبهم إلَّا وسلكوه، والمشكلة الأكبر أن الحقد بين المدنيين على بعضهم لاعتبارات سياسية في الظَّاهر هو أكبر بكثير من العداء الذي بين المسلحين على الجبهات، فالمصالحات تسير على قدمٍ وساق بين الدَّولة والمعارضة المسلَّحة في غير منطقة، بينما تتسع الفجوة بين الأهالي دون أن يعبأ أحدٌ باتساعها.
كنَّا نتمنى وما نزال لو أنَّ دعاية الوعي والتَّرابط واللُّحمة والتَّعايش حقيقة، لكن سطحية هذا الطَّرح تجبرنا على مواجهة الواقع والتَّفكير بجدية بالطريق الذي يجب أن نسلكه لتقليص الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، وهي فجوة تتسع دون حدود ما لم تجد رغبة تعاكسها وتجبرها على الانكماش، أو توقف اتساعها على الأقل، فنحن الآن لسنا معنيين بتطبيب جراحات الحرب وحسب، بل أمامنا إرث ثقيل من الكراهية التي حملناها معنا عقوداً طويلة، وكنا كمن يخفي الأوساخ تحت السّجادة ويدَّعي نظافة بيته.
بإنكارنا البريء لوجود الطائفيِّة والعنصريَّة ومحاولتنا التهرب من مواجهة الحقيقة بتجميلها والتعتيم على المناطق المعتمة من واقعنا كنَّا ودون أن ندري نجهِّز أنفسنا لننفجر كراهيَّةً حين تتاح الفرصة؛ وقد أتيحت، وأكثر ما نحتاجه الآن هو أن نتعرَّف على بعضنا من جديد، وأن نعترف أنَّ الأمان لم يكن إلَّا وهماً، وأنَّ الوعي لا يمكن أن يتولد بمجرد ادِّعائنا أنَّه موجود، بل يحتاج إلى جهدٍ وإرادة جبَّارة لإعادة خلق المفاهيم التي من شأنها أن تنحِّي الكراهية جانباً وتعيد بناء الشَّراكة التي افتقدناها.
بواسطة عامر فياض | يناير 8, 2018 | Roundtables, غير مصنف
لم يَكُن صوت آلاتنا يخبو، بل كان يَصدحُ دائماً بالفرحِ والشغف، برفقة أصدقائنا الموسيقيين الكثر. نتنقّل ضمن فرقٍ موسيقية عدة في دمشق ومدنٍ أخرى، تتآلف ألحاننا على خشبات المسارح المختلفة، في الأروقة والمقاهي، في الغاليريهات الفنية والصالونات الثقافية، في الحدائق وعلى أرصفة الطرقات. كان هاتفي لا يهدأ، اتصالات من كلِّ حدبٍ وصوب تدعوني لإحياءِ حفلاتٍ هنا وأمسيات هناك، كانت الموسيقى بالنسبة لنا هي الحياة.
أما اليوم، بعد الحرب، فلم يبقَ في البلاد من عازفي تلك الفرق سوى أنا واثنين من الأصدقاء، وآخر حفلةٍ خجولةٍ أقمناها كانت منذ ستة أشهر، في مقهى صغيرٍ موحشٍ وغريبٍ عنا.
اليوم نجلسُ في حِصارنا، ونتابع أخبار الحفلات التي يقيمها أولئك الرّفاق في لبنان وتركيا وأوروبا وما يحصدونه من نجاح وتطور وانتشار؛ نتابع ذلك بينما نحن الذين آثرنا البقاء في دمشق مازلنا نراوح في مكاننا، وتقتصرُ موسيقانا على بعض السهرات التي نقيمها مع من تبقى من أصدقاءٍ نُدامى، وكلّما زاد الفارقُ بين من في الداخل وبينَ من غادر، يعود السؤال الوجودي اليومي إلى الإلحاح: هل ارتكبنا خطأً في البقاء؟
لم ينجُ الفن في سوريا من أذى الحرب ولعنتها، فهي تتجلى في كل خطوةٍ لتعرقل المسير نحو أي هدف، لم تكتفِ بقتل معالم الفن وآثاره، بل راحت تحاصر كل من يحاول أن يصنع الفن ويرتقي به، لتشّل حركته، لتقتله أو تلفظه خارج البلاد.
السفر طوق نجاةٍ للموسيقي
في السنوات الماضية أُفرِغت دمشق من أهم فنانيها لتخسر ثروةً فنية كبيرة ستدفع مقابلها فيما بعد أثماناً باهظة. فبينما كانت البلاد تقذف بموسيقييها، كانت دول الخارج تتلقفهم وتحتضنهم ليشكلوا فِرقاً متميزة، من أبرزها (أوركسترا المغتربين السوريين في المانيا وأوركسترا أورنينا) وغيرهما من الفرق التي ضمَّت خيرة العازفين الذين رحلوا لينقذوا فنهم وأنفسهم من الدمار، فمن كان منهم سينجو من القذائف والتفجيرات لن ينجو حتماً من السَوق إلى صفوف الجيش ليحمل سلاحاً عوضاً عن آلته الموسيقية.
صار من النّادر في الآونة الأخيرة أن تجد أحداً من خريجي المعهد العالي للموسيقى يفضل البقاء هنا، باستثناء من كان وحيداً أو معفى من الخدمة العسكرية أو من المستفيدين. كثيرون ركبوا قوارب الموت وعبروا البحر، تاركين آلاتهم خلفهم وحيدة، بعضهم سافر دون أن ينهي دراسته خوفاً من رفض أوراق تأجيله عن الجيش، آخرون سافروا لإقامة الحفلات ولم يعودوا، وكان آخر سفرٍ جماعي ملفت منذ عدة أشهر، عندما سافر عدد من أعضاء أوركسترا الموسيقى العربية في جولة موسيقية إلى أوروبا وتركيا، ولم يعد منهم سوى النصف بينما بقي النصف الآخر في أوروبا طالباً للجوء، والأكثر إيلاماً أن أغلبهم كانوا مدرسين في المعهد العالي.
إذا أردتَ البقاء.. عليكَ أن تصارع القدر دفاعاً عن فنِّك
منذ قرابةَ الشهر، قدِّم لي ولبعض أصدقائي عرضٌ للعزف يوميّاً في أحد مقاهي دمشق القديمة، هذه فرصةٌ لا بأس بها للعودةِ للحياة الموسيقيّة، لكن كيفَ يمكننا قبوله وأحدنا مطلوبٌ للخدمة العسكرية الإلزامية والثاني للخدمة الاحتياطية أما الثالث فيعاني من رهاب الحواجز؟!.. رفضنا العرض كسابقيه من عروض، وأصبحت جميع محاولاتنا في تشكيل فرقةٍ موسيقية أو إحياءٍ حفلٍ ما تبوء بالفشل. رغمَ ذلك، فقد كانت رغبتنا بالقول للجميع إننا ما زلنا ننبض بالموسيقى وإننا على قيد الحياة، أقوى من أيّ ظرف، فلجأ بعضنا للعزف أمام الكاميرا وتسجيل بعض المقطوعات الموسيقية لبثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلا عن الواقع الحقيقي.
لقد ضاقت المنابر بالعازفين وسُدت في وجوههم الآفاق فحتى العزف في الشارع صار يحتاج إلى موافقةٍ أمنية، ومن كان محظوظاً وبعيداً عن قائمة المطلوبين استطاعَ إقامةَ تجمعات موسيقية خفيفة تقتصر على بعض المقاهي والبارات. وإذا ما انتقلنا إلى المنابر المعنية بالفن كدار الأوبرا والمراكز الثقافية فسنرى أنها أضحَت حكراً على فئةٍ معينة تحكُمها الشللية والحسابات السياسية ومافيات الحروب، فإن لم تكن مؤيداً أو خاضعاً لأصحاب القرار أو مقرباً من السلطة والمتنفذين فلن تحظى أبداً بفرصة العزف هناك، لذا صرنا نجد الكثير من الهواة وغير الأكفاء يعتلون خشبات المسارح بين صفوف الأوركسترا، في حين يحارَب فنانون موهوبون وأكفاء نتيجة لمواقفهم السياسية ولرفضهم الإذعان لسطوة المتنفذين ولخروجهم من دائرة الشللية المقيتة.
الحواجز تتربص بالموسيقيين
كثيرٌ من الموسيقيين يعانون يومياً من الإهانة والمضايقات حين يعبرون بعض الحواجز المنتشرة في كل مكان، لأسباب مختلفة يرتئيها بعض العناصر من أصحاب العقليات القمعية المتحجرة… فقد تعرَّض أحد الموسيقيين للتوقيف لعدة ساعات مع كيل الإهانات والسخرية لأنّ العسكريَّ لم يستسِغ مظهره المختلف وشعره الطّويل ولباسه الخارج عن المألوف، وآخر تعرض للموقف ذاته مع الشتم والتهديد لأنه كان يرتدي قرطاً في أذنه وقد أجبر على خلعه. صديقي عازف التشيلو أوقفه أحد العناصر بلؤم شديد حين رآه يحمل آلته على ظهره وتحدث إليه بسخرية: “ما هذه الخزانة التي تحملها على ظهرك؟” ثم سلبه الآلة وراح يتفحصها وهو يتحدث بتهكم واحتقار عن الموسيقيين والموسيقى. في مشهد مشابه أجبر عازف باصون على إخراج آلته من حقيبتها وتركيبها والعزف عليها أمام عناصر الحاجز ليثبت لهم أنها آلة موسيقية بعد أن ظنوها نوعاً من السلاح، بينما اضطر أحد عازفي العود إلى العزف للعناصر الساهرين ليتسلوا قليلا ريثما يقرّرونَ تركه يمضي بسلام.
فقر في الكوادر التدريسية
خلال عملي كمدرس موسيقى في عدة معاهد، لاحظت في السنوات الأخيرة أن معظم الإدارات تعتذر عن استقبال أعدادٍ كبيرة من الطلاب، لعدم توفر مدرسين لبعض الآلات المطلوبة، وكثيراً ما تتعرض برامج الحصص للتغيير أو الإلغاء نتيجة التغيُّب المفاجئ للمدرسين الذين يعيشون ظروفاً قلقة وغير مستقرة. فقد يحصل هذا على فرصة سفرٍ مفاجئة فيحزم حقائبه ويرحل، وقد يعتكف ذاك في بيته بعد تبليغه للالتحاق بالخدمة العسكرية. وآخر يجُزَّ به في الجيش بعد أن يقع في قبضة الحواجز. ناهيك عن مأساة الحياة اليومية القاهرة التي يعانونها، كالتنقل في ظروف الازدحام المروري الخانق والتوقف على الحواجز لفترة طويلة قد تُفَوت عليهم مواعيد الدروس.
فراغ كبير خلَّفه غياب الخبرات والكوادر الموسيقية أجبر معظم المعاهد والمراكز التعليمية على الاستعانة بالهواة والطلبة لتأمين كوادرها… فأصبح الطالب المتدرّب يدرِّس زملاءه، فلا عجب أن تجد فتاةً في السادسة عشرة تعمل كمدرِّسةٍ لآلة القانون في المعهد الذي كانت تَدرُس فيه، وشاب هاوٍ في العشرين يعمل كمدرسٍ لآلة الكمان، ومدرس آلةٍ ما يدرِّس آلات أخرى لا يجيد العزف عليها، وآخرٌ يُعِّلم أصول الغناء رغم جهله بقواعده، ومن أراد تعلم الموسيقى من الجيل الصاعد فسيكون ضحية للتجارب التي ستمارس عليه.
هل يستطيع الفنان مقاومة الحرب؟
غالباً ما لعب الفن في الحروب دور بارزاً في تضميد الجراح وكان سلاحاً وطنياً ووثيقةً تاريخية، لكن الحرب في سورية لا تشبه أي حرب، فهي نهرٌ من الحروب. لكن، رغم هول الكوارث والخسائر، مازال بعض الفنانين في سورية يقاومون بشتى السبل لينشروا رسالة الفن والجمال. فبعضهم يقاوم عبر تأليفه لأعمال موسيقية هامة تحاكي الواقع السوري وتعبِّر عن أوجاعه، وبعضهم يرفعُ صوتَ موسيقاه لتصدح متحدّيةً صوت الرصاص فيقيم الحفلات دون كللٍ أو ملل فيما تبقى من أماكن متاحةٍ للفرح، ليُدخِل التفاؤل والأمل إلى قلوب الناس المتعطشة للحياة، وهناك من يقاوم عبر نشر الموسيقى بين الناس وتعليمها لكل راغب، مضحياً بوقته وجهده دون تعبٍ أو تذمر وأحياناً بأجور رمزية أو دون مقابل حتّى. وفي مكان آخر ثمة موسيقيين دخلوا إلى عمق المعاناة فتوجه بعضهم إلى مراكز الإيواء لنشر الفن والموسيقى بين أوساط الأطفال النازحين لتمكينهم من تعلم وتذوق الموسيقى وحفظ الأغاني واختراع آلات موسيقية بسيطة من مواد متاحة وغير مكلفة، ليبقوا على تواصل مع الفن. كما قام موسيقيون آخرون بجمع الأطفال المشردين من الشوارع ليقيموا لهم ورشات تعليمية ترفيهية تنسيهم مرارة الحرب وتزرع في أرواحهم شيئاً من الجمال والفرح. ولعل المقاومة الأهم تتجلى في بقاء كثير من الموسيقيين في البلاد رغم مغريات السفر المتكررة، فيكفي أن آلاتهم ما زالت تنبض بالحياة وتقف في وجه وحشية السلاح، ويكفي أنهم مازالوا يمدّون البلاد بطاقاتٍ من الحب والسلام بعد أن تحولت إلى ساحة للقتل والدمار.
لم تكن الموسيقى السورية في أوجها قبل الحرب، بل لطالما كانت تعاني من أزمة فقدان الهوية الواضحة والبصمة الفريدة، وكانت تتخبط في خضم البحث عن أصالتها في عصر ساده الانحلال والانحطاط الفني على كافة الأصعدة، ولكنها اليوم في ظل الحرب تواجه وستواجه صراعات وتحديات مريرة فقط لكي تتعافى ولتعود، على الأقل، إلى حيث كانت من قبل. فالفن في الحرب هو أول من يمرض وآخر من يتعافى.
بواسطة أسامة إسبر | يناير 8, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
ملف أعده عمر الشيخ وأسامة إسبر
ننشر المساهمات التالية لكتاب وشعراء وصحفيين وموسيقيين سوريين شباب في إطار ملف يركز على رؤية جيل الشباب في سوريا لتأثيرات الحرب الدائرة حالياً على كافة المستويات. سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها.
وقد عالج الكتاب المساهمون قضايا مختلفة في إطار أجوبتهم على الأسئلة التالية:
1- ماهي برأيك أكثر الظواهر الإنسانية التي كانت في الظل وعرتها الحرب في سورية وبات حلّها ليس متوقفاً على توقف الحرب وحسب، بل وعلى تغيير شامل وحقيقي.. سياسي فكري.. اجتماعي؟
2- هل كانت غلبة الحضور الديني في المجتمع أساسية ومسيسة، كيف برأيك انعكست على الأحداث في البلاد ومن أثر بها واستثمرها؟
3- كيف ترى الثقافة كمصدر تنويري يمكن أن ينشر الوعي في المجتمع في مواجهة أي تطرف اجتماعي أو ديني أو عسكري أو اصطفاف عقائدي أو مناطقي…؟!
4- كيف تنظر إلى ما يجري في سوريا في الوقت الحالي؟
5- كيف أثرت الحرب على حياتك؟ كيف عشت\تعيش حياتك في ظل الحرب؟
6- كيف أثرت الحرب على علاقتك بأصدقائك؟
7- هل تتصل مع شباب آخرين من طوائف أخرى؟ هل تشعر بأن الطائفية صارت علنية في سوريا؟
8- برأيك إلى أين تتجه سوريا؟
9- هل هناك أنشطة أو مشاريع في ظلّ الحرب تشعر أنها تعبّر عنك؟
10- هل هناك أفعال يجب أن يقوم بها الشباب في ظل الحرب كي يحافظوا على ما يمكن المحافظة عليه؟
11- برأيك من المسؤول عن إيصال سوريا إلى هذا الوضع الحالي؟
12- كشاب\شابة ما هي الأولويات بالنسبة لك في ظل الأوضاع الحالية؟
13- كشاب\شابة كيف يمكن أن يلعب جيل الشباب دوراً لإنقاذ سوريا وهل هذا ممكن؟
14- –برأيك كيف يمكن التخلص من الطائفية في سوريا، كيف يمكن محاربة هذه الظاهرة والمنظومات التي تحاول أن تغذيها؟
الكتاب المساهمون في الملف
١: رهانات خاسرة
عامر العبود
٢: الموسيقيون السّوريون في نفق الحرب
عامر فياض
٣: تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة
أحمد محمد السح
٤: تناقضات فكرية في الحرب تضيق وتتسع في آن معاً!
ملك بيطار
٥: أن تتعلّق بقشّة
شمس حمود
٦: صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ!
علا حسامو
٧: مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة
عمر الشيخ
٨: مشاهد في ظلّ الحرب
قصي زهر الدين
٩: نجوم شباك نشرات الأخبار
فريد حسن ياغي
١٠: ماذا عن الوطن؟
لبنى أبو خير
١١: كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي
يارا عيسى
بواسطة Hussam Jefee-Bahloul | نوفمبر 30, 2017 | Roundtables, غير مصنف
“تعرّفتُ على (غيرهارد) فوراً من مجموعة الصور“، تقول (جادڤيكا) وهي تدلي بشهادتها أمام الرائد (آرثر كيث مانت). “هو الرقم 3. رأيته في الردهة قبل أن أُجبَرَ على الدخول إلى غرفة العمليات، و رأيته بعدها مرتين مع الأطباء عند تغيير ضماد رجلي اليمنى.” تكمل قائلة: “ذلك الصباح، كانوا قد أخذونا إلى مكان العمليات ولم نكن نعرف السبب. كان السؤال الوحيد الذي يدور في أذهاننا هو: ما الذي سيحصل لنا الآن؟ جعلونا نستحم و نبدل ثيابنا إلى ثياب مستشفى. حاولتُ أن أقاوم، أن أركل، و لكن ممرضتين قامتا بتقييدي أرضاً. لا أذكر ما الذي جرى بعدها، و لكن سرعان ما أصابتني الحمى في الأيام الثلاثة التالية. كانوا قد أجروا عملا جراحيا على رجلي اليمنى. كنت مضمدة من القدم إلى الركبة اليمنى. لم تكن تلك المرة الوحيدة التي يقومون فيها بِبَضْعِ رجلي اليمنى. قاموا بعملية ثانية بعد عدة أسابيع“.
في شهادة رسمية بتاريخ 12 آب عام 1946 تحدثت (جادڤيكا كامينسكا) عن تفاصيل العمليات الجراحية التي أُجبرت عليها من قبل النازيين، هي ومجموعة من المعتقلات الشابات في رافنسبروك. قصة جادڤيكا تبدأ باعتقالها في 24 سبتمبر 1941، حتى وصولها إلى رافنسبروك حيث بقيت خمس سنوات قبل خروجها من المعسكر في نيسان 1946. في الشهادة تفاصيل مرعبة عن عمليات استئصال تجريبية لعضلات وعظام وأنسجة عصبية من المعتقلات الإناث السليمات جسدياً. في الشهادة لطخات دم من جرح بطول 10 سنتيمتر وعرض 5 سنتيمتر تمَّ بأمر من الغستابو. من يقرأ الشهادة لن يعرف الكثير من التفاصيل. و لكن صورة الانتهاك وتفاصيله جليّة بشكل يصبح أمامها السؤال عن التفاصيل الجانبية أمرا غير ذي أهمية. فمن هو (غيرهارد) مثلاً، غير شخصية ربما شاركت في انتهاك الكثيرات و قسرهنّ. شبح لشخص يختصر منظومة أخلاقية محددة.
التهتُّك
بقلم حبر عريض علّم الجرّاح مكان انتهاكه على الجلد. وعندما لامس المبضع سطح الجلد المتألق الرطب انساب عبر الأنسجة، طبقة طبقة وابتعدت نقاط الحبر المرسومة على الجلد عن بعضها البعض. انكمشت أطراف الجرح وابتعدت. تقطبت الدماء في جهتين كانتا من قبل على خط التحام. انتزاع اللحم وسّع المسافة بين هذه الأقطاب. مثل جسد جادڤيكا، شقّت الحرب العالمية الثانية أنسجة المجتمعات. تجمّعت عناصر الطيف المتجاورة سابقا، في معسكرين. صار “الاستئصال” الفكري والجسدي عادة. ولكن كيف يمكن لأي مجتمع أن يتبنّى فكرة ضد–المجتمع كهذه، أي فكرة أن يصير المجتمع متجانساً؟
إنّ “التجانس” القسري حاضر ضمن الجماعات السورية اليوم، وهو يعكس غياب هوية تمتد تفرّدها من الطيف المركّب، المعقد، والمتنوع تشريحياً. السنوات السبع الماضية وما حملته من تغيير في الهوية السورية، أرخت، ولا شك، بظلالها على مفهوم الأنا ومفهوم الوطن عند السوري وتأثيرها سيستمر لعقود. لدى مراجعة ما كتبه (آرثر كلاينمان) و دعاه بـ “المعاناة الجمعّية” خاصة في ما يتعلّق باستجابة المجتمعات للفظائع والكوارث والحروب، تُرهِقُني كمية الشغل الذي نحتاجه لنحلل “معاناتنا الجمعية” هذه، ونؤسس لمقاربتها. وحتى لو تراجع تواتر العنف الجسدي مستقبلاً، فهذا لن يعني بالضرورة أن مظاهر العنف أو الإنشقاق أو الصراع على القوة، المتبدّي على شكل صراع بين منظومتين من القيم الأخلاقية (أو أكثر)، سيكون في تراجع.
بالعودة إلى (جادڤيكا)، قد يتساءل البعض عن فائدة استعراضنا لقصص مماثلة؟ فما علاقة معاناة عمرها عقود مع عالمنا اليوم؟ وما جدوى إسقاطتها على سوريتنا؟ الجواب بسيط: ربما لا شيء، وربما كل شيء. لعلّ ما سيسمح لنا اليوم ومستقبلاً بالتفكُّر في حالتنا هو تلك المسافة الفاصلة بين “ذاك الذي يمسّنا مباشرة” و“ذاك الذي لا يمسّنا.” ما أقصده هنا هو الهامش السرّي الموجود في المخيلة والذي تفتحُ له قصة (جادڤيكا) أو قصص وشهادات مماثلة. فالانتهاك هو نفسه. والقهر هو نفسه. الخراب هو ذاته، برتابته، ويوميّته. بعناده و قسوته. لم يتغيّر شيء اليوم إلا نحن، البشر.
الخسارة
تختم (جادڤيكا) شهادتها القانونية المسجّلة في أرشيف جامعة هارڤارد بالقول:” رجلي الآن شفيت، ولكنها سريعاً ما تصاب بالضعف. في الأشهر الثلاثة الماضية انتابني الكثير من نوبات الحمى التي يعتقد أنها ناتجة عن تكرر الإنتانات.” بعيدا عن الجسدي إلى النفسي، لم أجد شهادات ومتابعات لحالة (جادڤيكا) خاصة، ولم أعثر على ما يدل على نوع الحياة التي عاشتها بعد خروجها من معسكر الاعتقال النازي. كيف تعايشت مع خساراتها؟ كيف كان شكل حياتها، عائلتها، ما شكل غرفة معيشتها، ومن تجمّع حول سرير موتها؟
في الحديث عن “الخسارة“، لا يسعني إلا أن أسترسل في أفكاري من (جادڤيكا) إلى شكسبير و “تاجره“، الذي طالب برطل من لحم (أنتونيو) –كفيل بطل المسرحيّة– شرطاً جزائياً في حال عدم رد القرض المالي الذي استلفه (باسانيو) منه، و لم يستطع أن يَرُدَّهُ في الوقت المناسب. ينتهي المطاف بالغريمين في المحكمة حيث تُدحَضُ القضية بحجة داهية؛ حيث أنه من غير الممكن اقتطاع رطل من اللحم من دون خرق واضح للعقد. ذلك لاستحالة اقتطاع اللحم من دون “إراقة قطرة واحدة من الدم“، و من دون “انتهاك” هذا الإنسان. رطل اللحم ذاك يضفر ويفك التخوم بين اللغة والمنطق. فالخسارة لم تكن يوماً “مجرد” رطل من اللحم. الخسارة هنا تتجاوز معناها المادي. أي أنّها ليست مجرد أعداد قتلى، ونازحين أو لاجئين، أو أطنان اسمنت مكدّس، أو تشريح لشظايا في الأطراف. خسارة (أنتونيو) –الموشكة– في تاجر البندقية، كخسارة (جادڤيكا)، و إذا سمحتم لي، كخسارة السوري اليوم، تتجاوز حدود الجسدي إلى ما هو أكثر ضبابية و أقل تحديداً. إلى بعد ميتافزيقي آخر. إذاّ، ما الذي ينتهك بشريتنا، وما الذي يترتب على خسارة النفس، أو المعنى؟ ما الذي يخصص لقيمة الإنسان؟ هو ربما نفسه الذي تكتب عنه (سيلفيا بلاث) ، وهي تتأمّل معصمها وشرايينها غير المنتهكة بعد، و سكينها في اليد، وتفكّر في ماهو أبعد من شرايينها ودمها، في ما يتجاوز جسدها الفيزيائي إلى جوهرها الإنساني، في ما هو “أعمق، أكثر سريّة، و عصيّ على الوصول.”
بين الصوت و الصمت
إن الكلام عن “حلّ” للنفس السورية غير مفيد و يؤدي إلى تشتيت الانتباه عن ما هو مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى. الكلام عن حلول؛ يقضي بوجودها، و يحفز عملية البحث عنها، و صرف الطاقة في تحرّيها وتجريبها، والانتكاس عند فشلها. هل حقاً ثمّة حلول للخسران؟ ما حلّ (جادڤيكا) لخسرانها طبقات اللحم والعضل؟ ما حلها لفقدانها إنسانيتها؟ بعد سنوات من الفقد لا مكان لحلّ إلا محاولة إعطاء الوقت لفهم ما حصل ويحصل. السوري اليوم ثكلان ووحيد بالمعنى المعنوي. فقد ما هو أكثر من لحم. تعرّض لزلزال –بالمعنى الرمزي– انهارت تحت وطأته الحدود بين الفردي والمجتعي. حيث لا يجدي أن نضع خسارتنا (كسوريين) في أخبية معدّة مسبقة. هذا خباء المادي، وهذا خباء المعنوي. هذا للمجتمعي، وذاك للفكري، إلخ. تضرب الخسارة هنا عبر كل هذه الأبعاد وتتجاوزها في تجربة البشر. ربما من المفيد أن نستوعب هذه الخسارة أولاً، أن نحللها، و أن نأخذ وقتنا في الحزن قبل أن نعيد التفكير بما يترتب علينا في المستقبل. عملية التعافي من خسارة كهذه ستكلّفنا الكثير من الوقت و الجهد. و لكنّنا محكومون بها. في عملية التعافي هذه يمكن لنا ككتّاب وشعراء وروائيين أن نساعد من خلال الانفتاح على مأزق الناس و جرحهم، والنزول عن منصة النخبوية المتوارثة. يمكننا التفكير بالأدب و الفن كوسيلة ( والاعتراف بعدم وحدانيتها) لتسيير وتنشيط التعافي. يمكن النظر إلى تأثير الشعراء، والكتاب، والفلاسفة في المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، أو في المجتمعات الإفريقية والآسيوية واللاتينية بعد تجربة الاستعمار، كنموذج، فكتابتنا لن تكون وحيدة في مكتبة الشقاء. كَتَبَ والتر سلاتوف: “ربما من غير المبالغ فيه القول أنّ أكثر موضوعات الفنّ شيوعاً هو المعاناة والألم، بشكل أو بآخر.” التحدّي الكامن أمامنا هو كيفية التعامل مع أشكال التعبير المختلفة. فهل “ينبغي” علينا الكتابة؟ هل نجبر الضحيّة على الكلام؟ هل نفرض “الصوت” كحل وحيد، أوحد، متوحد في ذاته؟ أليس هناك حدود للصوت؟ أليس هناك بدائل؟
عادة ما نفهم “الصوت” وخصائصه عندما نضعه جنبا إلى جنب مع “الصمت“. ديفيد موريس كَتَبَ عن تجاوز المعاناة لحدود اللغة. فاللغة عاطلة، وخاصة عندما يقف الأمر على إيصال تجربة المعاناة. غالباً ما يكون الصمت أبلغ تعبير عن قسوة الحياة. “المعاناة بكماء بالمعنى الرمزي” يقول ديفيد موريس “أي يصبحُ الصمتُ رمزاً لشيء غير قابل للكشف. الصمتُ يكشف عن تجربة، أكثر من مجرد مزعجة أو مقيتة، بل عصيّة على الفهم“. و أنا أتساءل إذا ما كانت المعاناة لا تسكن بالضرورة في الصوت أو الصمت فحسب، و إنما في المسافة الفاصلة بينهما. بين المكتوب و المخفي، بين المحكي و المسكوت عنه. هناك، في هذا الحيّز يمكن للصمت أن يفعل مثل المحكيّ فيما يتعلّق بالتعافي. لعلّ الوقت هو الذي عجّل شفاء (جادڤيكا) الروحي. الوقت و وجود من استمع إليها تروي قصّتها، حتى ولو خلف الجدران المصمتة لمكتب وحدة التحقيقات عن جرائم الحرب. بلا أضواء الفلاشات و لا ميكروفونات الصحف. ربما هذا ما يحتاجه السوري اليوم. من يستمع له وهو يروي قصته، أو يترك له المسافة وهو يصمت عنها.
هوامش