ثورة لم يكتمل نضوجها

ثورة لم يكتمل نضوجها

-I-

برأيي إنها ثورة قامت دون اكتمال نضوجها وجاهزيتها وهذا ما حوّل الوضع إلى استنزاف طويل الأمد ولكن التخاذل الدولي واللامبالاة ساهمتا في بقاء الحال الذي نراه  بسورية.

لا أرى أي أفق واضح المعالم أبداً، بل أخشى أن تصبح حالة العراق مثالاً ونموذجاً. لقد دفع الشعب السوري ثمنا كبيراً من القتل والدمار والتهجير والمنافي هروباً من جحيم القتال والموت الهمجي والمنظم الذي يجري هناك. إنه تطهير البلاد من كل من ينادي بالحرية والكرامة.

لا أنفي أسوأ الأدوار  هناك وهو الدور الإيراني وعوالقه، إلا أن الدور الروسي المفضوح  والذي ينفذ مهمة أمريكية بالوكالة دور واضح ومعروف، وهناك من طرف آخر التخاذل والتدخل السلبي العربي، كل ذلك مؤشر كارثي  لمستقبل  سيء للبلاد.

-II-

إن الحل هو الوحدة الوطنية، وهذا يتمثل على الأرض بتمثيل أطياف الشعب في إدارة للبلاد تزيح القيادة الحالية  وتبدأ بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، لا يمكن الحل بوجود من يقف بالحكم الآن والمسؤول الأول عن جر البلد إلى هذه الهاوية.

أما قوى الظلام الأخرى ما أن تنقطع أسباب تغذيتها حتى تبدأ بالزوال وهذا مع عمل كبير على اجتثاثها.

-III-

أتمنى أن يكون هناك استقرار في المدى المنظور، لكن أرى أن البلاد ستبقى تمر بأطوار معقدة  وصيغ غريبة في القتال والمعارك، وإن تداعى جزء كبير منها من طرف المعارضة الآن إن السطوة والجبروت الروسيين سيعملان على مزيد من القتل والتفظيع لوأد كل من يخالفهم مع موافقة ضمنية غربية  أو عدم اكتراث.

 أظن أنه لو توفرت رغبة وإرادة أمريكية  لوضع حل في سورية سيحصل ذلك، لكن ليست هناك رؤية واضحة أو ربما رغبة أو اهتمام في ذلك. وأيضا لا أرى تعارضاً في الدورين الروسي والأمريكي بل هي أدوار مقسمة، وأكرر أنني أخشى من تكرار تجربة العراق وبالتالي فكرة التقسيم ستكون واقعاً، فالكرد سيقتطعون جزءاً من سورية بمباركة أمريكية. إن تجربتهم بالعراق تنم عن انتهازية، وليست المسألة مسألة حرية و ديمقراطية، كل ذلك مسرحية لتمزيق البلاد.

لست ممن يعتقدون بنظرية المؤامرة لكن هناك مؤشرات كبيرة على توافق أمريكي كردي وبالتالي إسرائيلي  ولو إلى حين.

-IV-

ربما يلعب المثقفون في الغرب ويمارسون دوراً في التوعية حول معاناة السوريين. وقد شهدت وساهمت في أماكن كثيرة في الغرب شخصياً وخصوصا في ألمانيا في أنشطة كثيرة لشرح معاناة الشعب و مشاكل الهجرة وفكرة المواطنة  والمشاركة، وآخرها كان في kuntlerforum bonn  حيث قمت بعمل جداري كبير عن الاندماج والتفاهم في المجتمعات الجديدة والخلافات الثقافية والاجتماعية، كل ذلك أراه مهماً لكن على صعيد السوريين أنفسهم يجب أن يكون الجهد أكبر لأن الهوة كبيرة  وهناك مسألة الدم والخسارات الكبيرة من جهة والخلافات الفكرية والدينية والثقافية تعمقت من هنا يجب القيام بعمل كبير على إعادة اللحمة بين أطياف الشعب.

سورية بلد مُستباح

سورية بلد مُستباح

صحيح أن سورية كانت تنعم بشيء من الاستقرار بعد أحداث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وصحيح أنّها شهدت تطوّراً في بعض الصناعات خاصّة منها التحويلية، ومشاريع بناء سدود التي شكلت ركيزة مهمة في مجال الزراعة وتربية الحيوان، وصحيح أنّ المديونيّة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانت صفراً، لكنّ الصحيح هو أنّه كان هناك إلغاء للعمل السياسي والاجتماعي خارج إطار الدولة، فتشكّلت طبقة اقتصادية تعتمد على الاستغلال وعلى النهب دون أن يكون هناك من يستطيع ردعها، فازداد الفقر والأمّية في ريف دمشق وريف الداخل أضعافاً وفرص العمل قلّت إلى حدّ كبير، وبلغ الفقر ذروته حين اضطرّت كثير من ورشات صناعة الأثاث والأخشاب إلى أن تُغلق أبوابها أمام موجة الاستيراد المجنونة من تركيا والصين. وهكذا وجدت آلاف العائلات نفسها عاطلة عن العمل وبلا أيّ دخل.

وقد سمعنا التحذيرات التي أطلقها بعض المفكّرين السوريين والعرب، الذين حذّروا من مغبّة الاعتماد على الأمن ومن اضمحلال الطبقة الوسطى الحامل الأساسي للتغيير العقلاني اجتماعياً وسياسياً ومن انعدام الحرّيات. وأتذكّر مؤتمر تجديد الفكر القومي، الذي عُقد في دمشق عام  2008 بمبادرة ورعاية من الدكتورة نجاح العطّار، وأتذكّر أنّ ما قيل في ذلك المؤتمر كان يمكن أن يُشكّل برنامج عمل للتغيير وقطع الطريق أمام الانفجار الذي لم يلبث أن وقع.  لقد قيل فيه كلّ الذي كان يجب أن يُقالَ تقريباً، لتفادي الانفجارات المجتمعية. لكنّ أحداً لم يولِ ما قيل أدنى أهمّية. طبعت المحاضرات في كتاب صدر عن وزارة الثقافة وأعتقد أنه ما يزال مركوناً في مستودعاتها ولم يقرأه أحدٌ من المعنيين بقراءته. عندما انفجر الشارع في درعا وحاولت بعض الأصوات المثقفة أن تقول كلمتها بما يمكن أن يُجنّب البلد ما حدث في ليبيا كان قد فات الأوان، فالردّ كان واحداً، كلّ شيء تحت السيطرة، في الوقت الذي بدأ كثير من الأماكن يخرج من تحت السيطرة وتدخّل من كان ينتظر المناسبة كي يتدخّل وبدأ التسليح وهكذا بدأت المطالبة بالحرية وبالديمقراطية والكرامة الإنسانية تتحوّل إلى تكبير إلى مواجهة كان يتمناها كلّ عدّو لبلد خرج أهله يطالبون بحقوقهم ولم يخرجوا ليحملوا السلاح، وبدأ يُرد على العنف بعنف أشدّ وأدهى وتشيطن الجميع وبدأ كلّ بلد من بلدان المنطقة والعالم يتبنى فريقاً ويُسلّحه ودخلنا في لعبة المحرّم: الدم السوريّ لم يعد حراماً على السوري، صار مباحاً. تدخلت دول كبرى وبدأت توظّف دولاً صغرى تابعة لها في  توريد إسلامويين من كلّ حدب وصوب. ولم تعد الديمقراطية ولا الكرامة ما يُبحث عنها. صار إسقاط النظام هو التكتيك والاستراتيجية. لم نتعلّم من درس العراق، الذي ساهمت الدول العربية التي دعمته في حربه ضدّ إيران في الحرب ضدّه وإسقاطه وليس إسقاط نظامه الدكتاتوري، فهم لم يسقطوه لأنّه كان ديكتاتورياً، فالدول التي تعاونت معهم في إسقاطه أسوأ من النظام الدكتاتوري، فهي لا تعرف أيّ نوع من الحرّية، ولا حتى في الطعام، بل للانتقال إلى أجنداتهم المريعة في المنطقة من حيّز النظرية إلى حيّز التنفيذ، لكن هذه المرّة دون تدخّل مباشر، تقسيم المقسّم وزرع الطائفية  والعرقية والأضغان الداخلية، والمحاصصة الطائفية والعرقية.

لقد بدأ مشروع الفوضى الخلاّقة وبدأت طاحونة القتل والتدمير العبثيّة تطحن شعوب المنطقة وها نحن اليوم في أتونها. الديمقراطيّة التي لم نستطع تجذيرها بل قاومناها وحاربناها، لم يعد لها وجود. فالقوى الديمقراطية ضعيفة، ضعيفة إلى حدّ أنّها لم تستطع أن تنتج مشروعها وأُلحقت أو التحقت بقوى دينية رجعية وانتقامية، فغاب صوتها وغابت. ولم تتمكّن هذه القوى من أن يكون لها صوتها المسموع وبقيت أصواتاً مشتتة، بعضها يدعو إلى اللاعنف وإدانة العنف من أين ما جاء، لكنّها فقط تدعو. لو نظرنا إلى المؤتمرات التي عُقدت وتعقد بدءا من مؤتمرات جنيف وحتى مؤتمرات أستانة هي مؤتمرات لقوى متصارعة متشرذمة، هناك أكثر من ألف فصيل مسلح يعمل في سورية، صار لها مصالحها ما تحت الوطنية فكيف بالديمقراطية. لا يهمّها إلا ما يهمّ مموليها وجيوبها.

لم يعد في سورية قرار وطني مستقل، لقد صار رهينة القوى الداعمة للمتصارعين. آفاق المستقبل ليست في منظار السوريين، بل في منظار الغريب، في منظار من أقاموا قواعد عسكرية لهم سواء أكانت شرعية أم غير شرعية. صار الوطن ملعباً اللعب فيه بالسلاح الفتّاك.

لا بد كي نستطيع أن نُضمّد جراحنا من أن نطرح مشروع الديمقراطية والفصل بين السلطات الأربعة، التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافية وفصل الدين عن الدولة ونعمل على ترسيخه في وعينا، وتشكيل لجنة غير جهوية للبحث العلمي المقترن بالمعلومة الدامغة حول كلّ من ساهم في تمويل وتسليح وتوريد الإسلامويين داخلياً وخارجياً للقتال في سورية وإقامة دعوى ضدّهم أمام المحاكم الدولية وتغريمهم بإعادة بناء ما دمّر وهو كثير في البلد. وهذا ليس أمراً سهلاً على الإطلاق. لكن لا بدّ من عمله.

الحل في سوريا هو ثورة ثقافية

الحل في سوريا هو ثورة ثقافية

-I-

ما يجري في سوريا الآن (ثورة مصنَّعة)، بدأتْ متقَنة ومحبوكة بشكل ذكي للغاية. ولا يمكن النظر إليها كحدث منفصل عن التغيرات العالمية: صعود قوى جديدة وانهيار قوى عملاقة تعجز عن استنهاض ذاتي داخلي لاقتصاداتها المتهاوية، فكان لا بدّ لهذه القوى الثانية من زعزعة أطراف الإمبراطوريات الناشئة بادئةً بالأطراف وليس بالمراكز، لأسباب تتعلق بارتباط كلٍّ من الاقتصادين. ولأسمِّ الأشياء بأسمائها: ليست الرأسمالية العالمية التقليدية، وعلى رأسها أميركا، في أزمة بقدر ما هي في حالة انهيار، ولا يسعها القيام بحروب عسكرية ضد غريمها الصيني المتنامي، على الأقلّ الآن، بسبب زواج اقتصاداتها بهذا الاقتصاد الصيني ومديونيتها له بسبعة آلاف مليار دولار على شكل سندات خزينة. إذاً لا بدّ من تقليص المسافة بين النّموّين (أميركا -9% والمؤشر إلى نزول، والصين +13 % والمؤشر إلى صعود) –ولتكن (الحرب) بشكل غير مباشر، وبأرخص الأكلاف: إحراج اقتصاديات وزعزعة نمو الإمبراطورية الصاعدة عن طريق تجييش الأكثريات في مجتمعات الأطراف، وليكن الممر السوري/ العراقي/ الإيراني إحدى هذه المحاولات، مع الأخذ بالاعتبار أن الخلقة العراقية في هذا الممر ليست جديرة بالذكر لأنها قد تحولت إلىدولة فاشلةبطبيعة الحال.

نعود إلى الأكلاف: استخدام الإسلام السنّي كمطية سهلة ورخيصة ووضعه في مواجهة الإسلام الشيعي والأقلياتِ التي يرى معظمها أن لا فائدة ترتجى من وراء المواجهة المباشرة، ولو كانت سلمية، مع نظام فاسد في بنيته الذاتية وفي تبعيته، لأسباب جيوسياسية معروفة، للشمال الصاعد. وترى، كما يرى الكثيرون أن الإصلاح البطيء، التراكمي، هو الحل الذي يجنب البلاد الدم والخراب.

لم يدرك أحد هذين العاملينالقدَرَين الرئيسين: النظام الذي يمتلك البلاد بجيشها واقتصادها، والتصاقه العضوي الذي تكرس منذ أكثر من نصف قرن بروسيا والصين، وبالتالي استحالة انفكاكه عنه ولو كلّف ذلك تهشيم كلّ شيء. وليس أدل على ذلك من أن أول فيتو صيني في التاريخ كان لصالح سوريا، وأن روسيا تستميت الآن في حماية النظام السوري.

مع (تحريك) كوريا الشمالية، قد تتغير المعادلات ويفقد إغلاق الممر السوري/ الإيراني أهميته، فمعظم الولايات الأميركية باتت تحت مرمى الصواريخ الكورية الآن، وبالتالي ستربح روسيا الحرب، ولا بأس من إعطاء الشركات الأميركية بعض المكاسب النفطية والاستثمارات في إعادة الإعمار.

-II-

لا بد من التغيير في بنية النظام الفاسد القائم الآن، أو تغييره. ويبدو أن (قدر) سوريا الجيوسياسي سيأتي بنسخة تكاد تكون مطابقة للنظام القائم. لذلك فإن (الثورة) البديلة للإسلام معطوب الرأس والقلب هي (ثورة ثقافية) تعمل على تفكيك المقدس السلفي وفصله عن الدولة وإنجاز مشروع علماني مكتمل يكون فاتحة عدالة اجتماعية، وإطلاق الحريات دون شروط، وإغلاق السجون السياسية مع تفعيل القضاء المدني المنفصل عن المؤسسة الحاكمة، وترسيخ ثقافة القانون وفكرة أن النظام، ورأسه، هم موظفون لخدمة الشعب السوري وليس ملاكاً لمزرعة وأقنان.

-III-

كلّ شيء يشير إلى أن البلاد تسير نحو الحلّ. ويبدو أن هذه الحرب هي حرب وجود أو لا وجود بالنسبة للأطراف المعنية، وهي: النظام السوري وإيران وروسيا والصين. أكتب هذه العبارة وأنا أسمع الآن الأصوات المكتومة الدائمة للصواريخ الروسية التي تخرج من القطع الحربية البحرية باتجاه مواقع المعارضة المسلحة في الداخل، ما يشير إلى أن أميركا قد سحبت يدها من القضية السورية لصالح الدول آنفة الذكر، وأن المعارضة (أو المعارَضات) المسلحة قد انحصرت في جيوب تتضاءل يوماً إثر آخر. ربما كان بعض ثمنِ انسحاب أميركا الاعتراف بنفوذ لها في إقليم كردي، والتخلي عن شطر من إدلب متاخم لتركيا، كجائزة ترضية.

-IV-

قلتُ أعلاه إن الحل هو ثورة ثقافية. ولن يقيض لهذه الثورة النجاح ما لم تطحْ بثقافة المحسوبيات وتتجاوز المؤسسات الثقافية الرسمية البيروقراطية. هناك مطلب إلغاء الرقابة، والسماح بصحافة حرة، ودعوة المثقفين السوريين للعودة من منافيهم الإجبارية أو الاختيارية ليقولوا ويكتبوا كما يفعلون الآن في تلك المنافي.

على المثقف أن يكون صوتَ ضميره وضمير شعبه، وليس زلمة سلطة فصامية فاسدة.

-V-

العدالة الاجتماعية، تفعيل القضاء النزيه، إلغاء المحسوبيات والمحاصصات الطائفية، الزواج المدني، بناء مؤسسة جيش وطني يُنصَّبُ قادته وضباطه على أساس الجدارة لا على أساس الطائفة أو العشيرة.

ومع الإقلاع في مشروع علمنة ومدننة المجتمع السوري، ووضع المقدس الديني على طاولة البحث، سيُمنى الفكر الديني برمته بالخسارة بالتأكيد، ما يفسح المجال أمام الجيل الجديد لأن يختار شريك حياته دون الأخذ بالاعتبار منبت وطائفة هذا الشريك.

-VI-

رؤياي قاتمة بعض الشيء.

سيبقى الجرح الطائفي ينز صديدَه إلى أمد طويل. ربما يتخامد مفعوله رويداً رويداً مع (أريحية) اقتصادية ينعم بها الشعب السوري مع عودة انتعاش هذا الاقتصاد والبدء باستثمار النفط الموعود.

ستبقى الأحزاب القومية التي أخرجت من أرحامها الفاشية، مع تغيير طفيف في الأسماء والواجهات. وسيبقى المعارض الوطني مقصىً إذا تجاوز الخطين الأحمرين: النظام، والواقع الجيوسياسي للبلاد.

ما يلطف هذه الرؤيا، إيماني بأن شعب حضارة الـ 7000 سنة لا يمكن خصيه، أو وقف روحه الخلاقة بطبيعتها عن إعادة بعث نفسه من الرماد، ليطير من جديد نحو آفاق الإبداع في العلم والفن.

الشعب السوري هو طائر الفينيق القادم.

الخروج من عقدة الأكثرية والأقليات

الخروج من عقدة الأكثرية والأقليات

-I-

لا يخفي المشهد الحالي في سورية أبعاده، وإلى حد كبير مآلاته المتوقعة، فهو احتلال من جيوش جنسيات متعددة، الواضح أن النظام متحالف مع بعض أطرافه تحالفا عضوياً، يحاول أن ينتزع لنفسه البقاء على أكبر قدر من مساحة سورية، ولو كان مجرد منتدب عليها، فالاحتلالات لا تسمح بأكثر. بالنسبة لما يزيد عنها، يراهن النظام على الوقت وتغير الظروف الدولية، بعدما استعاد قدرته على الإيحاء بأنه اجتاز مرحلة الخطر نهائيا، وحان الوقت ليضع اللمسات الأخيرة لسورية الأسد؛ دولة متجانسة. أما عن مدتها فيأمل أن تكون أبدية بموجب حق التوريث. ليس في هذا التشخيص مبالغة، النظام يعمل جاهدا على زرعه في رؤوس السوريين، أشبه بقدر لا منجاة لهم منه.  

ما دام السوريون مغيبين عن طاولة المفاوضات، فالأمور السيئة، تتجه نحو الأسوأ؛ الطاولة لن تكون سوى طاولة مساومات حول حصص النفوذ. يديرها الروس بموافقة الأمريكان، أو عدم موافقتهم، سيتولون توزيع الحصص آخذين بعين الاعتبار مصالح كل دولة وما بذلته من جهد في عدم سقوط النظام، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، سواء كان بميليشياتها، أو تحالفها سراً أو علناً، وربما بدعمها أو بصمتها. والاتجاه الراهن ينحو إلى ألا يكون للسوريين وجود فعلي على الطاولة لئلا يتعقد الحل.

يستحيل استعادة سورية إلا إذا كان للسوريين الدور الأكبر في تقرير مصير بلدهم، وان تكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة في رسم مستقبله. ولا يمكن تمرير هذا الحل إلا برفع أيدي الدول الأجنبية عن سورية، وألا يكون لهذا النظام مكان سوى قاعات المحاكم الدولية الجنائية.  

أما الادعاء بأن السوريين عاجزون عن تولي أمورهم، فعجزهم ليس إلا منعهم عن ممارسة حقوقهم السياسية منذ ما يقارب خمسة عقود.   

-II-

إذا كان هناك حل، فلا شك أن يعي السوريون الدروس المؤلمة للسنوات الست الأخيرة، إضافة إلى ما قبلها؛ السنوات الأربعين من حكم الأسد الأب والأبن. فالبقاء الذي سعى إليه كلاهما أظهر انه استمر بجيش عقائدي من دون أية عقيدة سوى الدفاع عن الأسرة الحاكمة ضد الشعب، والأجهزة الأمنية التي كانت أدوات للقمع والابتزاز والقتل، والاستعانة بشبيحة النهب.

رأيي أن الحل ليس غائباً عن أذهان السوريين، ثمة شبه إجماع على مجتمع مدني ودولة القانون، تقوم على أسس من العدالة والمساواة، تحفظ لهم حياتهم وممتلكاتهم وأديانهم من التعدي عليها.

-III-

إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، وهو المتوقع، فلا استقرار، والانفجار أو الانفجارات قادمة لا محالة. الجرائم القديمة أضيفت إليها جرائم جديدة، تعتبر الأسوأ في تاريخ العالم: نحو مليون شهيد (دونما تمييز بين ضحايا المعارضة والموالاة، كلهم سوريون)، وما يزيد عن ستة ملايين نازح ومشرد ولاجئ، وخراب شامل (حتى لو استثنينا شوارع وأحياء بعض المدن مع باراتها ومطاعمها ودور اللهو العامرة، والمعارض المفبركةالخ).

إنها جرائم يجب المحاسبة عليها، لا أن تبقى معلقة، أو يجري تزويرها. مأساة حماه انتظرت ثلاثين عاما حتى تفجرت. أما المأساة السورية الحالية، فلن تنتظر طويلاً الحل العادل الذي لن يأتي تلقائياً. لذلك المستقبل مفتوح على حرب عصابات، والصوملة، أوأفغانستانسورية.  حرب ستدوم عشرات السنين ما دام وقودها متوافراً؛ المظالم والسلاح.

إن فرض حل قسري تغيب عنه العدالة، لن يمر إلا بإغفال المسبب الأكبر لهذه المآسي التي طالت شعبا بأسره. ما جرى لا يمكن لفلفته بأوامر، ولو كانت دولية.

-IV-

لم تقدم الأغلبية من المثقفين شيئا جيداً للربيع الذي صنعه الناس وحدهم، سوى هذا اللغو المتواصل منذ بداياته حتى انقلابه إلى جحيم.  كانوا مشتتين ومشرذمين ينشدون الأمان، فقادهم إلى تأييد النظام. كان الصمت أجدى.

ما يجب قوله هو، قبل أن يسهم المثقف بتحرير شعبه، عليه التحرر من التبعية، تبعية الدول والأحزاب والشعاراتولذلك لم يكن دفاعه عن مواقفه المخاتلة، إلا بالتذرع بعلمانية مطاطة، والإسلام السياسي، واليسار المريض، والقوميات المتشنجة، والإيديولوجيات المغلقة، ودعاوى مكافحة الإرهاب باستراتيجيات تفوقه إرهاباً يدفع أثمانها المدنيون.

السؤال: هل نريد سورية موحدة، سورية من دون دكتاتور؟ عدا هذا تعتيم على قضية الوطن. الإجابة عنه تكون بالتفكير جذرياً بعدم إيجاد المبررات لنظام قام على الانقلاب، أوصلنا الى الدكتاتورية ومسلسل التوريث وعبادة الرئيس، وإرهاب الدولة، وحرب أهلية وطائفية، كانت حرب إبادة، استعين بها بالميليشيات الدينية والمذهبية بإطلاق، دونما استثناء.

لا يمكن لمثقف ان يقدم لسورية شيئاً إن لم يقلع عن التبرير، والتذرع بالحياد، وادعاء التأمل والتنظير، والاختباء وراء الإنسانية بينما البشر يذبحون أمام عينيه. لا بد من اتخاذ موقف واضح، إن التحرر من ارتباطاته المنفعية ومخاوفه، ليست بتسويغ التعذيب والقتل بدعوي الأمن والأمان، ولا الحذاقة في كونه معارضاً وموالياً في آن واحد، كل هذا في النهاية ليس إلا خيانة للثقافة والبشر.

المثقف اليوم  أحوج ما يكون إلى الضمير.  

-V-

إذا اردنا معرفة منشأ التشنج الطائفي، فلنذهب إلى التاريخ، فهو حافل بمظلوميات السنة والشيعة والعلويين والإسماعيليين، والمسيحيينمظالم أصبحت في عهدة التاريخ، وحده يفصل فيها، ولن يكون بعثها على الأرض إلا لاستغلالها، بعدما أصبحت ملكاً لتاريخ لا يمكن التنصل منه، مهما يكن فهو تاريخنا، لسنا مسؤولين عنه جزائياً، ولا التطوع لحمل أعبائه الثقيلة المتوهمة. بالتالي لماذا يكون حاضرنا، أو يرسم مستقبلنا؟

المشكلة الطائفية موجودة هنا في داخلنا، وهناك من يستثمرها. يستفيد منها النظام بالتخويف من الأكثرية السنيةبتعاضد تحالف الأقليات، والميليشيات المذهبية لإشعال الفتنة. يتعيش كلاهما على مظلوميات تاريخية بابتداع مظلوميات جديدة، هي وصفة مضمونة لحرب أهلية تقوم على الذبح والتهجير.

على هذا الأساس، لا يمكن استبعاد أي فئة من السوريين من مستقبل سورية، بدعوي أنها أقلية، أو أكثرية يستحسن تهجيرها لتتساوي مع غيرها. إن وجود أي دين أو مذهب، ليس مرتبطاً بطائفيته ولا بتعداده، بقدر ما هو جزء لا يتجزأ من البلد.

سورية موحدة لن تكون بلا طوائف ولا بإلغائها أو التعتيم عليها، أو طمسها، وإنما بالخروج من عقدة الأكثرية والأقليات، والتذرع بالمظالم لارتكاب أبشع الجرائم. إن النظر إلى المختلف طائفيا على أنه الآخر، يوقعنا في أسر طائفية تحجب ما يجمعنا معاً وهو أننا بشر، لدينا انتماءات مفروضة علينا، أحدها الطائفة، لكنها لا تحدد أصدقاءنا ولا أعداءنا، ولا تؤثر في خياراتنا.

-VI-

المشكلة الكبرى أن انتزاع سورية من السوريين يلغي آفاق الحل، ولا يضع تصوراً قابل للحياة. وحتى إذا تجاوزنا الواقع السياسي المهلهل، والاحتلالات الناشئة عنه، واردنا اجتراح تصور ما، فنحن مضطرون الى تأمل الحاضر. المحبط، انه لا يبشر بتسوية تسمح لنا بالانتقال الى مستقبل لا يعيد الماضي، فالأوضاع الحالية تكرس تكراره. هذه الوصفة المريرة، يستحيل التكيف معها إلا باستبعادها كلية.

التفكير بسورية أخرى، هي سورية التي أردناها دائماً، قد تبدو اليوم أشبه بحلم، دولة ديمقراطية علمانية، يسود فيها القانون، لكن يجب ان نجعلها أمراً واقعاً، نعمل له ونسعى اليه. لذلك لا بديل عن متابعة الثورة السلمية، الحل الوحيد لسورية المستقبل.

المجتمع الدولي شارك في تدمير سوريا

المجتمع الدولي شارك في تدمير سوريا

-I-

ما جرى في سوريا ثورة بكل معنى الكلمة، والأحداث الدموية التالية ليوم 15 آذار 2011 والمستمرة حتى اليوم تؤكد ذلك ولا تنفيه، بل إن كل ما جرى دليل على أن الثورة تأخرت ما لا يقل عن ثلاثين سنة.

أكثر من ذلك، كل أحداث عام 2017، وما يبدو أنه تحول جذري في موازين القوى، وبوادر انتصار النظام الأسدي وحلفائه، هو دليل على أحقية الثورة حتى لو استبق بعضنا الأحداث وقرر أن الثورة هُزِمت.

صحيح أن وقائع ما بعد سيطرة النظام الأسدي على حلب في نهاية العام الماضي أثبتت أن هذه الثورة يتيمة، ومستحيلة، لكنها بدأت ثورة شعبية، بغض النظر عن عدم الإجماع عليها من كامل المجتمع السوري، وعدم الإجماع على تمثيل المعارضة للثورة. وساهم إصرار النظام الأسدي على الحل الأمني منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة، واتهامها بالطائفية، بتأجيج الغضب الشعبي على النظام الأمني، خاصة مع الأداء الإعلامي الهزلي، والفشل حتى في إدارة العمليات الحربية ضد مجموعات متفرقة من الفصائل المسلحة؛ كل ذلك دليل جديد على أن سوريا كانت تستحق دائماً نظام حكم، وقيادة، أفضل من المافيا التي ظلت تبيع الشعب السوري شعارات طوال 41 سنة منذ 1970 حتى 2011، فيما تعتقل أصحاب الرأي، وتوزع المكاسب والمحسوبيات على المؤيدين لها، وتقبض الأتاوات من رجال الأعمال السوريين، والرشاوى من رجال الأعمال العرب، وغير العرب، في سلسلة فساد لم تعد أي معالجة تفيد في لجمها.

لكن لابد من الاعتراف بذكاء النظام، ومهارته في إدارة معركة الشر، وشيطنة الثائرين عليه، حين صنع ظاهرة داعش والنصرة، وبدأ بتصديرها إلى العالم الغربي، قبل أنصاره، لوضعهم أمام خيارين: إما داعش أو أخواتها، أو بقاء النظام، في ترجمة حرفية لما أطلقه شبيحته منذ الأيام الأولى للثورة الأسد أو لا أحد.”

أما عن الوضع الحالي، أو الوقائع على الأرض، ومع اقتراب الثورة من إتمام سنتها السابعة، فلا يوجد ما يثير التفاؤل، على الرغم من تحجيم قوة المعارضة العسكرية إلى درجات دنيا، والسعي إلى سوق مؤسسات: الائتلاف المعارض، والهيئة العليا للمفاوضات، إلى التسليم ببقاء النظام حتى عام 2021، مع إمكانية ترشيح بشار الأسد لفترة رئاسية جديدة، والاعتراف بدستور 2012. هذا يعني أن الآلام التي عاناها السوريون كانت بلا ثمن، وأن تحطيم المجتمع السوري بالطريقة التي تم فيها سيعني أن النظام الأسدي سيحكم إلى الأبد، بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس بالمجاز الذي حاولت ثورة الشعب السوري تحطيمه.

-II-

من الصعب توقع حسم عسكري لأي من طرفي الحرب على سوريا، فلا النظام وحلفاؤه في إمكانهم استطاعوا حسم المعركة عسكرياً، ولا المعارضات بشقيها المدني والعسكري قادرة على ذلك.

هذا يعني أن الحل سياسي برعاية روسية أمريكية بالضرورة تبدأ بإجبار الطرفين على إيقاف القتال. وفي ما يتعلق بروسيا، عليها إجبار النظام الأسدي على سلوك طريق الحل السياسي، وليس كمناورات لكسب الوقت كما فعل في اجتماعات جنيف منذ صيف 2012. أما المعارضة فلا تحتاج إلى إقناع بجدوى الحل السياسي، بعد أن أدركت استحالة حسم القتال لمصلحتها منذ خسارتها معركة حلب أواخر عام 2016، خاصة اليوم بعد تجفيف مصادر الدعم المالي والعسكري عنها.

لكن الحل الأكثر عدالة لمستقبل ما تبقى من السوريين هو تشكيل مجلس رئاسي مهمته تشكيل لجنة لكتابة دستور موقت للبلاد، والإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة. يليها حوار وطني شامل غايته المحافظة على وحدة البلاد، إن كان بصيغة فيدرالية، أو لا مركزية إدارية.

لكن ذلك لا يكون إلا بإيقاف الحرب أولاً، وتيسير عودة النازحين، وما أمكن من اللاجئين، وتقديم كل ما يلزم لهم من مساعدات في بيئة خالية من السلاح، ومن الشبيحة، ومن الميليشيات.

-III-

الحل يبدأ بإيقاف الحرب، بع اتفاق سياسي على جدول زمني لإزاحة النظام بكل رموزه من حكم سوريا. يلي ذلك ترتيبات لسحب سلاح الميليشيات من الطرفين، كبداية لاستقرار قد يستغرق سنوات قبل أن ينسى السوريون تفاصيل الحرب، وقبل أن تختفي آثارها من عيونهم ونفوسهم.

لكن هذا الأمر لن يسمح النظام بمروره دون ضغط روسي أمريكي عليه.

ولأن النظام يريد تصديق أنه انتصر على الفصائل المسلحة، متناسياً الدور الروسي الأمريكي في الضغط على الفصائل، وسحب تسليحها للقبول بـمناطق تخفيف التصعيد، ينبغي على موسكو وواشنطن إعادة النظام إلى الواقع، خاصة أن ظاهرة تنظيم داعش، كـدولة، في آخر فصولها، وبعدما تكشفت أوراق ارتباط النظام بداعش بوضوح بعد ترحيل أكثر من 300 من عناصره باتفاق بين حزب اللهوالتنظيم السلفي القاعدي، وعبور هؤلاء العناصر غرب سوريا إلى شرقها تحت نظر وسمع النظام، وحليفه الروسي، وحليفه الإيراني، بل وانضمام 113 من هؤلاء إلى ميليشيات النظام بشرط ألا يقاتلوا في ديرالزور. هذه النقطة الأخيرة تعني أن هؤلاء مستعدون فقط لقتال فصائل الجيش الحر، وربما جبهة النصرة، كما كان يفعل داعش منذ ظهور في سوريا قادماً من العراق عام 2013.

ولأن النظام لا يقبل سوى بـنصر كامل، واستسلام المعارضة دون قيد أو شرط، وربما محاكمة المعارضة بتهمة الخيانة، فإن الوضع مرشح للتفجر لشهور أو سنوات، كون المعارضة لا تنوي الاستسلام، وتقاوم الآن الإملاءات السعودية للتسليم ببقاء الأسد، فضلاً عن مقاومة الجيش الحر للإملاءات الأمريكية، وغرفة موكبالانسحاب إلى الأردن وتسليم المناطق التي يسيطرون عليها لقوات النظام الأسدي والميليشيات الداعمة له.

ورقة داعش في يد النظام لم تحترق كلياً، بدليل أن المدن التي دمرتها غارات طيران التحالف ومدفعية قوات سوريا الديموقراطيةأصبحت خالية من داعش، بل من جثث عناصر التنظيم، ولا يوجد لدى قسدأسرى من داعش. هذا يعني أن عناصر داعش غيروا مقرات إقاماتهم في انتظار أوامر النظام، في حال رغبت روسيا أو أمريكا، أو كليهما، فرض حل سياسي يزيح النظام من حكم سوريا، وعندها سيلقي النظام بوصفته السحرية في وجه أمريكا وروسيا، وهو على استعداد لمحاربة إرهاب داعش لألف سنة قادمة على أن يتخلى عن مزرعته السورية.

-IV-

اصطف المثقفون السوريون في أغلبهم بين مؤيد ومعارض، على عكس فئة وازنة من السوريين التي اختارت الصمت.

ومعيار الاصطفاف هنا أخلاقي أولاً، دون أن ننفي وجود جانب سياسي لدى بعض المثقفين من الطرفين. أخلاقياً، لا شك أن المثقفين الذين اختاروا الثورة ولم يغيروا من موقفهم تبعاً لتسلسل الوقائع الدموية هم الذين فازوا، على عكس مثقفين غيروا موقفهم من الثورة بحجة التسلح، على الرغم من أن وحشية النظام أعطتهم مئات الفرص كي يراجعوا موقفهم الأخلاقي.

سياسياً، ليس في يد المثقف المعارض، أو المؤيد، أن يفعل شيئاً. وربما عليه ألا يفعل شيئاً في السياسة، وأن يقتصر دوره النقدي على تقديم شهادته الأخلاقية والإنسانية تجاه البلاد، والناس، ومستقبل الأجيال الصغيرة. السوريون طالبوا بكرامتهم، كشعار وحيد لثورتهم،  وكخطوة في اتجاه الديموقراطية، وحكم القانون الذي يساوي بين كل السوريين، فهل يبرر هذا الطلب قتل أكثر من نصف مليون سوري، وجرح أكثر من مليون، ومعاناة أكثر من 750 ألفاً من إعاقات دائمة، واعتقال أكثر من 300 ألف سوري، ومقتل عشرات آلاف المعتقلين تحت التعذيب، وتشريد أكثر من 12 مليون بين نازح ولاجئ. مآسي هذه الفئات جميعاً جرى أغلبها على يد النظام الأسدي. والمثقفون في الجهتين يعلمون بذلك، لكن فئة من المثقفين المنحازين للنظام تصمت عن إطلاق إدانة أخلاقية ضد النظام، ربما لأن الإدانة الأخلاقية تستتبع إدانة سياسية، ومطالبة بمحاكمة المجرم على جريمته، وهذا ما يحاول هؤلاء تجنب التورط فيه.

-V-

على الرغم من كل الدم الذي دفعه السوريون، وتدمير جزء كبير من البنية التحتية للبلاد، وخروج أكثر من خمسة ملايين طفل من المدارس منذ أكثر من ست سنوات، لا أعتقد أن المشكلة بين السوريين، بل بين فئة من السوريين والنظام الأسدي، الذي اختطف الدولة والمجتمع السوريين ورهنهما لمصلحة عائلة تريد احتكار السياسة والاقتصاد إلى الأبد.

واليوم، لم يتغير شيء عن 2011 وما قبل في ما يتعلق بالعلة السورية، كون النظام لا يزال يسيطر على العاصمة، ويتقدم بدعم حلفائه، وتخاذل حلفاء المعارضة، ولن يتغير شيء مادام النظام يجد الدعم الروسي غير المحدود. أما السوريون، في المعارضة والموالاة، والفئة الصامتة، فلن يجدوا الوقت للتلاقي ومحو الأحقاد ما دام النظام، بمخابراته، ودساتيره التي تفرق بين السوريين، وممارساته التي تعطل الدساتير التي يفصلها على مقاس الرئيس وعائلته.

لكن بزوال النظام الأسدي، ومحاسبته على جرائمه، سيلتقي الناس، ويتم وضع دستور مدني مرحلي، ثم دائم، وتتم محاسبة مرتكبي جرائم الحرب من الطرفين. ولا أشك أن التسامح سيسود، بصفته حقاً وخياراً فردياً، على الرغم من تخوف بعض السوريين من انتقامات فردية قد تحصل دون أن تشكل قاعدة.

-VI-

أخطر ما قد ينتج عن تأجيل العملية السياسية في سوريا هو استقرار قسم كبير من اللاجئين في أوروبا، ودول الجوار، ودول عربية، وهذا هو الأرجح. بالطبع، قد نستثني سكان المخيمات، وخاصة في لبنان والأردن، فهؤلاء سيعودون خلال وقت قصير بعد وقف إطلاق نار حقيقي.

ومصدر هذا الخطر، في رأيي، أن إعادة الإعمار لا معنى لها دون عودة السوريين، وكل حديث عن مؤتمرات للمانحين لإعادة الإعمار غير مجدية دون مشاركة أصحاب المصلحة في الإعمار. أما الإعمار الذي يتولاه فساد الداخل والخارج، كما جرى في العراق، وفي أفغانستان، فسيبتلع كل المليارات، إن أتت، من خلال دورة فساد ستسير في قنوات سرية يعلمها المجتمع الدوليلأنه شارك في تدمير سوريا، وسيطالب بحصته من أموال المانحين، وسيأخذها على شكل مقاولات لن تتم، وبالتالي لن تصل تلك الأموال إلى النازحين أو اللاجئين، هذا إذا قرروا العودة أصلاً.

المثقفون انحازوا لهذه الطائفة أو تلك

المثقفون انحازوا لهذه الطائفة أو تلك

-I-

كلما نظرتُ إلى ما يجري في سورية الآن يُخيل لي أنني أشاهد كابوساً فظيعاً، فيلم رعب وأكشن طويلاً.. مع هذا أعتقد أننا قد تخطينا ما هو الأسوأ في هذه الحرب نحو السيء وهذا ضمن الظروف الحالية أمر جيد نوعاً ما.

أعتقد أن الاستعمار مطلع القرن الماضي اشتغل بذكاء على إرباك هذه المنطقة لزمن طويل منذ تقسيمها بشكل غير منطقي، والتلاعب بحدودها، دول تم ابتكارها من خلال شخوطة أقلام على أوراق الخرائط مراعاة لمصالح دولية ذات أبعاد اقتصادية بالدرجة الأولى، وخلق كيان سرطاني (اسرائيل) مع ظهور النفط ونهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع مجموعة ألغام تنفجر تواً في هذه الدول (ألغام دينية وقومية وجغرافية، ويمكن مائية أيضاً)، ثم وأد الديمقراطيات الأولى في هذه الدول، وتمكين العسكر عليها، والأحزاب الشمولية ذات العقلية الإلغائيةالخ مما أدى بنا لنصل إلى دول دونما ديمقراطية ومواطنة ومجتمعات متقدمة.. مهددة بأي لحظة تاريخية بالانهيار (كدول وكمجتمعات).

– II-

حالياً وبالدرجة الأولى على المدى القصير: يجب العمل على إيقاف إطلاق النار بشكلٍ نهائي وذلك من خلال قيام الجهات الخارجية المعنية بالحرب بالضغط على النظام والفصائل المسلحة، وثم مساعدة كل الأماكن المنكوبة وإعمارها وعودة أهلها لها.

على المدى البعيد، إخراج كل الأجانب من سوريا، ثم مرحلة انتقالية يتم خلالها انتقال السلطة وتداولها عبر انتخابات ديمقراطية، تقوم على أسس المواطنة وعلمانية الدولة وفصل الدين عن الدولة ضمن دستور جديد حديث يحترم كل أطياف المجتمع.

-III-

لا أعتقد أنه سوف يحدث أسوء مما حدث، أظن أن المرحلة الأسوأ قد مرتْ، من الوارد أن تظل الأوضاع سيئة لكن الأسوأ قد مضى.

-IV-

أعتقد أنه في الحروب لا يمكن للمثقف أوللثقافة عموماً لعب دور مهم، الأدوار الأهم هنا تكون للأسلحة والمسلحين من كافة الأطرافالخ.

وأظن أن عدم وجود دور فعال إيجابي للمثقف وللثقافة في وجه الحرب، يظل أفضل من الدور السلبي الذي برز مع بداية الحرب وخلالها كان يعلو ويعلو، دور سلبي لمثقفين كثر، عجزوا لأسباب عدة من الانحياز لبرنامج وطني ديمقراطي ينقذ البلد، قولاً وسلوكاً وتفكيراً، وإنما ــ بدور سلبي غريب ــ انحازوا لهذه الطائفة أو تلك.

عموماً، الثقافة تلعب دوراً مهماً في المجتمعات المستقرة، أعتقد حالياً أننا نحتاج لمؤتمر واسع للمثقفين السوريين من كل البلاد، من أولئك الذين لم ينحازوا للديكتاتورية، وأولئك الذين لم يشاهدوا في الفصائل المتطرفة حركات تحرر أو خلاص أو حرية.

-V-

هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون إيقاف الحرب، ودون انتقال تدريجي للسلطة، ودون لجم كل الفصائل المتطرفة.. إن عبرنا كل هذه المعوقات يمكن العمل على بناء مجتمع جديد تسوده ثقافة التسامح من كل الأطراف التي تأذت من الحرب من هذه الطائفة أو تلك، من هذه القومية أو تلك، تماماً كتجربة جنوب أفريقيا، التي أوصلتها ثقافة التسامح لأن تصبح في مدة زمنية متواضعة لأن تكون أحد أكثر دول العالم تقدماً، بعد حرب وديكتاتورية عانتْ منها طويلاً.

-VI-

لا أستطيع أن أجزم بشكل نهائي كيف سوف يكون مستقبل سوريا، لا يقين لدى أحد في هذا الأمر، يمكن التقسيم، من الوارد كونفدراليةالخ.

يمكن للواحد هنا أن يتمنى فقط..

أنا أتمنى بعد كل هذا النزيف والخراب والدمار والتشرد والآلام والعذابات، أن نصل إلى دولة سورية تعوض إنسانها و مجتمعها عن كل ما مر به من كوارث في هذه السنوات السوداء القليلة.. تعويض بأن تنهض به وترتقي فيه بكل المجالات، دولة سيدة نفسها، ومجتمع سيد نفسه، وإنسان سيد نفسه.