أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

 أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

على امتداد عقود شغل الأستاذ أنطون مقدسي وظيفة هامة في وزارة الثقافة السورية، كمدير للتأليف والترجمة، حتى جاز القول  إنه طبع الوزارة بطابعه الشخصي والثقافي خلال فترة وجوده. 

 في سنواته الأخيرة، وفي طريقه إلى عمله اليومي في وزارة الثقافة الواقعة في حي الروضة الدمشقي، كان يمكن للمهتمين بالثقافة أن يلحظوا هذا الرجل المحني الظهر، الضئيل الذي يشبه أباطرة أو كبار كتاب اليابان، مثل يوكوشيما أو كاواباوتا، يسير بخطوات  بطيئة، وكأنه يخشى أن يتعثر، وكانت ابتسامة خفيفة ترتسم على محياه وهو يستقبل ضيوفه، وإذا أطال الزائر أو تمادى في الثرثرة فسرعان ما تختفي الابتسامة ليُظهر وجهاً صارماً له مهابة عظمى.

إنه “الأستاذ” في ذهابه وغدوه الذي يحمل إرثاً معرفياً شاملاً، ويلم بمعارف شتى، إنه الفيلسوف الذي يفكر فلسفياً دون أن يترك خلفه كتباً فلسفية، رجل الثقافة الكبير الذي قصده الكتاب والمترجمون والشعراء والنقاد والفنانون التشكيليون من كافة الأجيال والمناطق، من المدن والأرياف.  

ولد أنطون مقدسي في بلدة  يبرود الصغيرة من قرى القلمون في محافظة ريف دمشق، في قرية قديمة عثر فيها المنقبون على آثار لإنسان الكهوف تعود إلى العصر الحجري. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في بلدته ودرس الفلسفة فترة قصيرة بين عامي 1933و 1934 في جامعة دمشق ثم سافر إلى باريس وحصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من جامعة مونبيلييه، ثم حصل على إجازة في الحقوق وأخرى في العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت وكانت تابعة لجامعة ليون الفرنسية في ذلك الوقت. وبعد عودته إلى سورية عمل مدرساً للفلسفة في ثانويات حمص وحماه وحلب ودمشق منذ عام 1940 وعمل مدرساً أيضاً لعلم النفس والتربية، ثم مدرساً للفلسفة اليونانية في جامعة دمشق على مدى عشرين عاماً، وعمل مدرساً  للفلسفة السياسية في المعهد العالي للعلوم السياسية أربع سنوات.

كان أنطون مقدسي أستاذاً ومربياً شارك في وضع المناهج التعليمية وكانت له بصمته في ذلك، وعلى صعيد الجامعة كان أستاذا في تدريس الفلسفة تخرج على يديه، أهم أساتذة الفلسفة، وتعد الفترة التي كان يدرس فيها في جامعة دمشق إلى جانب رفاقه هي المرحلة الذهبية للتعليم الجامعي فهو من جيل الأساتذة الذهبيين: عبد الكريم اليافي، وعادل العوا، وجميل صليبا، وحافظ الجمالي، وسامي الدروبي، وبديع الكسم.

أثناء عمله الدؤوب في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، كان يدير فريقاً من خيرة المثقفين والمؤلفين والمترجمين والخبراء الذين أوصلوا الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة السورية إلى كل العواصم العربية على أنه كتاب يعتدُّ به، تأليفاً وترجمة.

وعلى الرغم من عمله مديراً للتأليف والترجمة والنشر منذ عام 1965 حتى عام 2000م، وكانت أهم وأنشط جهة للنشر في سورية، وموقعة البارز في اتحاد الكتاب العرب، وعلاقاته الواسعة مع مؤسسات وشخصيات ثقافية عربية وعالمية إلا أنه لم يطبع كتاباً، وله عشرات المقالات الهامة، ومقدمات طويلة وهامة لبعض الكتب إلا أنه لم يجمع مقالاته بين دفتي كتاب في حياته، وكل مقال أو مقدمه كتبها الأستاذ مقدسي تعادل كتاباً في موضوعها، وهذا أمر محير، جعل بعض الصحفيين اللبنانيين يشبهونه بسقراط الذي لم يعرف له كتاب ألفه في حياته، و لا أحد يستطيع إنكار مكانة سقراط في تاريخ الفلسفة وكذلك لا أحد يستطيع إنكار تأثير وحضور الأستاذ أنطون في الثقافة العربية المعاصرة.

على الصعيد السياسي، ربما قلة يعرفون أن أنطون مقدسي كان قريباً جداً من السياسي السوري أكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي، ويقال إنه وضع النظام الداخلي لهذا الحزب وبرنامجه السياسي، وكان له دور في اندماج الحزب العربي الاشتراكي مع حزب البعث وصياغة وثيقة الاندماج عام 1953 ليصير اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم سورية منذ عام 1963. ولم يسعَ أنطون مقدسي ليكون له أي امتيازات أو منصب سياسي، وحافظ على مكانته كمفكر قومي اشتراكي مستقل وصاحب عقل نقدي طيلة حياته. كان يمتلك ثقافة موسوعية شاملة، وتؤكد كتاباته واهتماماته على ذلك، فله مقالات في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأدب والفن التشكيلي والنقد الأدبي وفن الشعر وأنماط السرد، وكل مجالات الثقافة، وفي الدين واللاهوت والتحليل النفسي ونظريات علم الاجتماع والتربية والفكر الماركسي والوضعي، وكان فاعلاً في كل مراحل حياته وكل أدواره التي تمثلها وعمل بها، وليست هذه من المبالغات بل كانت واقعاً لمسه معاصروه وعايشوه معه عن قرب. إنه من الموسوعيين العرب بعمق، وبانحياز واضح نحو الحداثة وبعدها النقدي. وكان في سنواته الأخيرة حين ينكب على عمله ينحو إلى الصمت والنفور من الثرثرة المعتادة في أوساط المثقفين، ولم يعرف عنه حب الزيارات ومجالسة المثقفين في المقاهي أو النوادي، كان أشبه بكاهن تنويري، ومن المؤكد أنه على الرغم من اشتراكيته ونشره للفكر العلماني كان مؤمناً بعمق أيضاً وهذا ما أشار إليه صديقه الأب الياس زحلاوي، وقد اشتركا معاً  في إصدار كتاب  مشترك ديني المحتوى والشكل بعنوان” الصوفانية” عام 1982.

 ولأنه رجل فكر منخرط بقضايا أمته، ويعرف دور المثقف النقدي في إصلاح المجتمع كان مؤمناً بالإصلاح السياسي لبلده سورية حتى رحيله، وكان قد وجه رسالة مفتوحة إلى القيادة السورية على صفحات جريدة السفير اللبنانية  نشرت عام 2000عبَّر فيها عن رؤيته وأمله في تحقيق إصلاحات جوهرية. كما وقع مع مثقفين سوريين بيانين من أجل الإصلاح، وهما ما عرف ببيان الـ99 مثقفاً ثم بيان الـ1000 مثقف اللذين طالبا في الإسراع بالإصلاح وإطلاق الحريات السياسية وإلغاء قانون الطوارئ، قبل الانفجار السوري الكبير بحوالي عقد من الزمن.

هوامش

نشر أنطون مقدسي مقالاته في كبريات الصحف والمجلات العربية، ومن أشهر مقالاته في الأدب:

١- قضايا الأدب وضرورة إنتاجه، نشرت عام 1972  من / 90/ صفحة في سلسلة الدراسات الأدبية، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية.

٢- مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا، من 50 صفحة نشرت في مجلة الموقف الأدبي السورية عدد /12/ نيسان 1973.

٣- وطن ألفه الكلام، مجلة المعرفة السورية عدد /147/ أيار 1974.

٤- الحداثة والأدب، الموجود من حيث هو نص: رؤياه وإبداعه /20/ صفحة الموقف الأدبي عدد /9/ 1975.

٥- مقاربات في الحداثة، مجلة مواقف عدد 35 ربيع 1979في 60 صفحة. 

٦- كما أعدَّ مقدسي عدداً من مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق العدد 286 عام 1985 بعنوان” أدونيس في باريس“.

أهم مقالاته في الفلسفة:

١-من الوجود إلى الوجودية، نشر في مجلة المعرفة عدد 85 عام 1969.

٢- لينين والفلسفة المادية المعرفة عدد 99 أيار عام 1970.

٣- في البدء كان المعنى، مجلة المعرفة عدد 113، تموز 1971.

٤-الفلسفة تبحث، مقدمة لكتاب عن الفلسفة لـ: إبراهيم الفاضل صادر عن اتحاد الكتاب العرب عام  1979.

٥- العقل وغير العقل، عقلانية في موقع البحث، مجلة الوحدة عدد 55 عام 1988. 

٦- من المنطق إلى الميتافيزيقيا، مجلة المعرفة عدد 334 عام 1991.

٧- ما هي الماركسية؟ قراءات الياس مرقص في أسفار الماركسية اللينينية، مجلة المعرفة 

٨- الفلسفة تحاور الأدب، المعرفة عدد 350 تشرين الثاني 1992.

٩- أهم مقالات أنطون مقدسي في الاقتصاد:

١٠- الفن الحديث عام1976

١١- ديالكتيك للاقتصاد ومنهجه لدى كارل ماركس، مجلة المعرفة عدد 112 عام 1971.

مقالاته في الفكر العربي المعاصر:

١- في الطريق إلى اللسان، بحث في زكي الأرسوزي واللغة نشرت في الموقف الأدبي عدد 3و4 عام 1972 ومقدمة للأعمال الكاملة للأرسوزي.

٢- الحصري يُعرّف الأمة، المعرفة عدد 204 عام 1970.

٣- صدقي إسماعيل مفكرا، مع تأملات في الفكر والأدب، المعرفة عدد 164 عام 1984

  • الرواية والأصل، مراجعة وتقديم لكتاب: رواية الأصول وأصول الرواية تأليف مارت روبير ترجمة : وجيه أسعد. 

مقالته في الفن التشكيلي:

١- العقلي واللامعقول من بودلير ؟إلى الفن الحديث، الموقف الأدبي.

٢- الفن والإنسان والياس الزيات، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.

٣- ساعات مع الفاتح، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة بدمشق.

٤-ذلكم هو الإنسان، عن الفنان مروان قصاب باشي، الحياة التشكيلية.

  • أن تكونوا مع الأطفال، عن رسوم الأطفال اللبنانيين، نشرت في الموقف الأدبي عدد 4 عام 1974.

مقالاته في القضايا العربية:

١- حرب الخليج، اختراق الجسد العربي.

٢- المثقف العربي والديموقراطية، مجلة المعرفة عدد 1139 عام1979. 

٣- الديموقراطية في مواجهة العنف، الموقف الأدبي عدد 211 عام 1988. 

يذكر أنه ترجم عن الفرنسية رواية مكسيم غوركي” مأساة جليزنوفا” صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1981 

وبعد رحيله بعام  جمع الأستاذ علي القيم مقالات أنطون مقدسي في كتاب بعنوان ” الأستاذ”  ضم أهم مقالاته المنشورة بين 1968و 1992 إعداد وتقديم د. علي القيّم – وزارة الثقافة عام 2006 .

كما جمعت له محاضرات في الفلسفة تحت عنوان: ” الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية” تقديم المفكر السوري أحمد حيدر مراجعة الدكتور علي القيم صادر عام 2008م

إن قراءة مقالات أنطون مقدسي تعد متعة معرفية وأسلوبية، ومقالاته كلها طويلة بمنزلة كتاب شامل، يلحظ القارئ فيها الوضوح والدقة في الوصف والعمق في التحليل والاستنتاج، وهو يكتب كما يتحدث، إنه أشبه بأكاديمية فكرية، تشع منها الأفكار، مؤمناً حتى العظم بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي، منقطعاً إلى الثقافة، يطل من خلالها  نحو العالم ونحو الإنسان العربي المعاصر بشكل خاص. وكان متشبعاً بالفلسفة اليونانية والأوروبية ولديه اهتمام لا يستكين بالآداب والفنون  وبفلسفة اللغة.

حصل الأستاذ أنطون مقدسي على بعض الجوائز:

  • جائزة الأمير كلاوس 2001م
  • جائزة تكريمية من وزارة الثقافة السورية 2002
  • جائزة تكريمية من وزارة الثقافة الفرنسية عام 2003/ تقديراً لنشره الثقافة والآداب. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

 ملف حول المنعطف السوريّ

 ملف حول المنعطف السوريّ

         يُعنى صالون سوريا، بتقديم قراءة تأويليّة مُعمَّقة لشخصيات حققت انعطافات جوهريّة في التاريخ الثقافيّ للشعب السوريّ في القرن العشرين، وكان معيار انتقاء هذه الشخصيات قائماً على استنساب خيطه الهادي الوحيد هو الأصالة الفرديّة، إذ الهدف المنشود من هذا التوجُّه هو تبيان إلى أي مدى استطاع سوريون أُصلاء أن يحققوا، بصفتهم أفراداً، تأثيراتٍ حقيقيّة في بلادهم، على نحوٍ أسهم في تغيير طبيعة الوعي الاجتماعيّ في سوريا.

    لقد كانت بداية القرن العشرين فاتحة حقيقية لإثبات الإنسان السوريّ ذاتَه، سواء أكان رجلاً أم امرأة، إزاء العالم كلِّه، فما كادت سوريا تخرج من ظلام الاحتلال العثماني التركيّ حتى دخلت تحت أغلال الاستعمار الفرنسيّ، فكان ضروريّاً جداً أن تنبثق هُويّة سوريا بإشعاعات كثيفة لا تنضب من أعماق أبناء شعبها.

   وهنا نجد تجليات رائعة للعقل السوريّ في مختلف ميادين الحياة، تحديداً الثقافيّة منها، ولا شك في أنَّ هناك أسماء معروفة للمبدعين السوريين في هذه الحقبة؛ ولكن في المقابل توجد أسماء مجهولة لا تعرفها إلا قلّة قليلة من المهتمين. غير أنَّ الأسماء المعروفة أنفسها تحتاج إلى قراءات جديدة تكشف جوانب خفيّة أو غير مكتشفة في تجاربها.

   من هنا يجد هذا المشروع مسوِّغاته، فإرجاع روح الحضارة السوريّة إلى ينابيعها الأصيلة الحقيقية أمر تقتضيه ليس فقط الأمانة التاريخيّة؛ بل تفرضه ضرورة محاولة إعادة الثقة للإنسان السوريّ بقدراته الإبداعيّة الخلاقة التي توجد الآن على هيئة إمكانيّة في كل شاب وشابة سوريين، لذلك لا بدّ من إعادة اللهب المتوقد لنار الإبداع السوريّة بإحياء ذكرى مبدعين كبار رفعوا راية سوريا إلى أعلى ذروة، وهكذا يتصل الماضي المضيء بحاضر يبحث عن الاستنارة.

     وستكون منهجيّة تقديم هذه الشخصيات السوريّة متجاوزة للتوثيق والأرشفة والعرض على الطريقة الأكاديمية الكلاسيكيّة؛ لأنها ستتجه نحو التركيز على أعماق جوهريّة معاكسة للقراءات السطحيّة المعتمدة على المنهج التأريخيّ على نحو تامّ. وبذا يمكن إعادة تكوين فهم-رؤياويٍّ للهُويّة الثقافيّة السوريّة.

عناوين المواد المنشورة ضمن الملف:

أنطون مقدسي: كاهن التنوير ١٩١٤- ٢٠٠٥

استعادة حنّا مينة

نازك العابد (1887-1959): تأثيرها في الفضاء العمومي السوري في النصف الأول من القرن العشرين

عبد الكريم اليافيّ: عالم الفيزياء متصوِّفاً

فيلسوف سوري مجهول

أحمد برقاوي والطَّريقُ الفلسفيُّ المُستحيل

الشحرور الذي غرّد خارج السرب

ماري عجمي:رائدة الصحافة النسوية السورية

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

سعد الله ونوس: مسرحي بحجم وطن

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

محمد الماغوط الحداثي الساخر من الحداثة

سَاطِع الحُصْريّ أو مأساة الجُذُوْر

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

حليم بركات طائر الحوم الذي لم يعد

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

أنطون سعادة: جُرح في الزوبعة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إله الحرب الجديد

إله الحرب الجديد

” الحرب تحررنا من الوهم”

فرويد

أحد عشر عاماً من الحرب، إنها حقبة زمنية، كفيلة بأن تفرض سلوكاً وأخلاقاً وثقافة جديدة على الكائنات التي تعيش على تماس مباشر مع الحرب وما يتمخض عنها، أي الإنسان داخل سورية بشكل خاص. مع التأكيد على أن جيلاً من شباب اليوم قد شبَّ مع الحرب، هؤلاء يطلقون عليهم شعبياً صفة: “أولاد الحرب” لهؤلاء سلوك خاص ونمط حياة يختلف عن المألوف.

بعد كلِّ هذه السنوات من الدمار المادي والنفسي، والهجرة الخارجية والداخلية، تشكلت في المدن الكبرى تجمعات من المهاجرين الذين جعلتهم القرابة واللهجة والزي والثقافة البيئية يكونون شكلاً من أشكال )الغيتو (المغلق أو المندمج نسبياً في أحياء فقيرة في المدن و حول المدن.

في السنوات الأخيرة، أي منذ قرابة الثلاث سنوات تراجع الحديث عن جبهات القتال ونقاط التماس حتى صار قسم كبير من الناس يكاد لا يبالي بها، ولا بما يجري من معارك أحياناً في شمال سوريا أو مناوشات في الجنوب السوري. ربما اعتاد الناس هذا الإيقاع الإخباري الممل الذي لا يحمل أي جديد، إنها المراوحة في المكان التي لم تعد تستحق عندهم حتى أن يلتفتوا إليها، وكأن الحرب قد استقرت على ما هي عليه، وما حدث قد حدث، ومن المفارقات أن النتائج الكارثية التي ترتبت عن الحرب، تمَّ القبول بها على انها أمر اعتدنا عليه، فانقطاع الكهرباء الطويل، قال لي أحد سكان دمشق عنه: لو أنهم ينظمون الانقطاع حتى نعرف أن نتكيف مع هذا الانقطاع. حتى غلاء الأسعار والفساد الإداري يريد قسم كبير من الناس أن تتدخل المؤسسات الحكومية لوضع ضوابط له، أو بالأحرى يريدون أن يشعروا أن الدولة تحسُّ بهم حتى ولو لم تفعل لهم شيئاً نافعاً، حتى بات يُخشى أن يكون كل هذا الخراب، والسلوك الغريزي المنفلت أصبح أمرا مألوفاً يمكن المساكنة معه وقبول مساوئه!

لقد كشفت سنوات الحرب عيوباً كثيرة وأوهاماً كثيرة أيضاً، وتبين أن أنشودة التناغم والانسجام الوطني لم تكن حقيقية، وسرعان ما انكشف رأس جبل الثلج وانفك عقد هذا الانسجام، ليتبين أننا داخل هذا الوطن الصغير مجموعات متنافرة متهادنة؛ طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية وكل شيء يذهب إلى التفتيت! ولكن لحسن الحظ أن قسماً كبيراً من السوريين، مثلهم مثل كل الشعوب، لا يحبون الحروب، ولا يحبون حمل السلاح، ولا يتأثرون كثيراً بالميديا، ولا يحبون أن يهاجروا أو يغامروا قاطعينً البحار في قوارب الموت، هؤلاء كثيرون وهم الباقون الآن في الداخل السوري تحت إدارة الحكومة، يعانون من آثار الحرب التي فتكت بأولادهم ودمرت مساكنهم وممتلكاتهم، ويعانون اليوم من الحصار الدولي الجائر واللاأخلاقي والمحكم جدا والمفروض عليهم! ويعانون من مافيات الفساد المحلية الأخطبوطية التي لا تقل فتكاً وشراسة من أطراف الحرب، ويعتقد قسم كبير من الناس أن هذه المافيات ليست فقط أنانية وجشعة تبحث عن مصالحها، بل هي مجرمة وخائنة. وهذا ما يقوله الناس العاديون في المقاهي أو حتى في أماكن عملهم وفي منازلهم.

لقد فرضت الحرب حالة استقطاب حادة جداً بين السوريين؛ مؤيد ومعارض، سوريين في الداخل وسوريين في الخارج، وسوريون تحت سيطرة الحكومة الرسمية، وسوريين تحت سيطرة المعارضين، تحت رايتين وسلطتين، وكل طرف أو فصيل من المعارضين له حلفاؤه وممولوه الإقليميون والدوليون، كما للحكومة حلفاؤها الإقليميون والدوليون! وهذا )الستاتيكو (القائم منذ سنوات، قد يستمر لسنوات! لكن ما لبث الناس في الداخل والذين يعيشون آثار الحرب والمعاناة مع الفساد ومع الحصار أن انقسموا عمودياً من الناحية الاقتصادية بين من يملكون ومن لا يملكون قوت يومهم، وتشكلت شريحة من أثرياء الحرب البطرين، والذين لا يعانون من أي حصار ولا ينقصهم شيء بل يعيشون في خيلاء، ويستهلكون أحدث وسائل الترفيه التي لا تتوفر حتى لأثرياء العالم الرأسمالي!

وهناك شريحة أخرى من المواطنين الذين يتلقون التحويلات الخارجية التي تصلهم من أولادهم أو أقاربهم، هؤلاء يترفهون وينعمون بنمط من الاستهلاك والوفرة التي تزداد نهماً كنوع من غريزة الحياة في مواجهة غريزة الموت. ولكن القسم الأعظم من السوريين، لا يصلهم تحويلات من الخارج ولا من الداخل، ولا يملكون شيئاً ويعيشون في أقصى حالات البؤس والحرمان والقهر، ويبدو أن الدولة التي يلوذون بها وكانت تشكل لهم أملاً وحماية لم تعد قادرة على القيام بواجبها حيالهم وتبدو وكأنها تتخلى عنهم، وهي بالكاد توفر لبعض العاملين والمتقاعدين الحد الأدنى من المعاش الذي لا يصمد البتة أمام انهيار العملة الوطنية والفساد وغلاء الأسعار اليومي الذي يشمل كل المواد وارتفاع ضرائب الخدمات الضئيلة! 

الدولار، أو “مارس” إله الحرب الجديد والمتجدد! هو أكثر ما يحسّ به السوريون اليوم، هذا الوثن الجديد الذي منعت الحكومة الحديث فيه والتداول العلني به، إلا أنه أقوى من كلِّ منع. إنه أكثر حضوراً من أي شيء، يتحدث به الناس اليوم بالجد وبالهزل، من التاجر الكبير إلى أصغر حانوتي في أبعد قرية! لقد دخلت هذه اللفظة في لغة الحرب بقوة، وأصبحت المفردة تحمل دلالات رمزية وواقعية، وتهكماً على المنع الفاشل بالتحدث ولو لفظياً بهذه المفردة، اخترع الناس أسلوبهم المتهكم الذي راح يطلق على الدولار لغة مقنعة وبارعة، كأن يقول أحدهم، وهو يغمز بعينه:”اللي ما بيتسمى”  أو “اللي شو كان اسمو” أو “هداك اللي بالك منو” و”الأخضر”…

بين من يملك الدولار ومن لا يملك أي دولار توجد هوة شاسعة ولا تزال تتسع، وكأن لسان حال الفساد يقول إن الذين يستطيعون الشراء والاستهلاك هؤلاء هم المحترمون،  والذين لا يستطيعون الشراء دعهم يموتون.

إن الزائر لمدينة دمشق من الخارج سيدهش وهو يرى المطاعم الفخمة تكتظ بالرواد وبالزبائن والسيدات اللواتي يدخن المعسل ويرتدين أجمل الثياب، وسيقول في نفسه مندهشا: هل حقاً هذه البلد عاشت قرابة 12 سنة حرباً؟! وهو الذي كان يعتقد أنه لن يرى سوى الخرائب والدمار. لكن حقيقة الأمر هذه صورة خادعة ومزيفة، وإن ملايين السوريين حياتهم مختلفة وعلى العكس من ذلك، فهم يعانون من الحرمان ويعانون من انعدام الموارد، ومن الأمراض وعدم المقدرة على العلاج أو شراء الدواء، يعانون من الانقطاع الجائر للكهرباء والماء ووسائل العيش   والتدفئة والغاز والمواد الضرورية التي قلما تتوفر لهم، بينما لا ينقص أخوتهم من الحي الآخر الذين يعيشون في كنف الإله مارس أي شيء من مستلزمات الحياة.

في ظل هذه الظروف القاسية، تعيش المرأة العاملة أصعب ظروف العيش، تقول واحدة من المعلمات التي فرضت عليها القوانين أن تُعلّم بعيداً عن سكن أهلها إن معاشها الشهري مئة وعشرون ألف ليرة سورية، وهي تستأجر غرفة في الأحياء البائسة بمئتي ألف ليرة!

إن حياة الفقراء أشبه بالجحيم الأرضي، إنهم أكثر ضحايا الحرب والحصار والفساد تعرضا للدمار النفسي والأخلاقي. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع نسبة الجريمة الأسرية وغير الأسرية، وارتفاع عدد المنتحرين بشكل غير مسبوق!

ومع ذلك، وعلى الرغم من قتامة المشهد، وتناقضات الصورة والواقع إلا أن نوعاً من التهكم الذكي والمرح لا يزال موجوداً تعبيراً عن حيوية الناس وشكلاً من أشكال المقاومة للكآبة،  ولكن جنباً إلى جنب مع  البذاءة اللفظية والكذب والخداع، والبذاءة التي عدّها تروتسكي يوماً بنية فوقية، مصدرها النخب الحاكمة وتنعكس على الطبقات الشعبية التي تتلقفها تنفيساً للكبت والقهر، هذه البذاءة  تنتشر على كافة المستويات والشرائح الاجتماعية، وفي كل الأجناس والأعمار وبشكل علني وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الحفلات الخاصة والعامة.

إن الحرب ضربت كل أشكال التحفظ، وضربت البنى التقليدية، وحطمت كثيراً من الأوهام، وكشفت أنبل ما في الناس وأسوأ ما فيهم!

أما بالنسبة للأطفال، فتتحدث التقارير عن التسرب من المدارس وعن عمالة الأطفال والتشرد والتعرض للعنف والاعتداء… هذا عدا عن سوء التغذية التي تصيب الأسر الفقيرة. إن آثار الحرب السلبية تسري في المجتمع كالطاعون، ومن المحال ومن الكذب أن نغفل تأثيرات هذه الحقبة من الزمن التي انصبت على رأس السوريين ودمرت حياتهم وأمنهم، وجعلت حالهم المأساوي يتحدث عنه العالم كنوع من الكوارث التي يتوجب تجنبها وعدم الوقوع فيها.

الوجود منبثقاً من أعماق العدم: تأويل أنثروبولوجي للبقاء حيّاً مدّةَ يوم في سوريا

الوجود منبثقاً من أعماق العدم: تأويل أنثروبولوجي للبقاء حيّاً مدّةَ يوم في سوريا

أستيقظُ في الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت السوريّ، وأنا أكاد أتجمّد من البرد، والشمس لم تشرق بعد، فعن أي صباح يتحدّثون؟ أبحث في العتم عن صنبور المياه لأغسل وجهي المتحجّب بطبقاتٍ من الظلمة لا نهاية لها، فأصل إليه متعرّفاً على موقعه بصعوبة، فالتيار الكهربائيّ مقطوع دائماً، وبطارية السيارة التي اشتريتها لأعتمد عليها في إضاءة محل سكني بعد تركيب وصلات ومصابيح عليها فارغة تماماً، وذابت آخر الشموع التي كانت عندي. وها أنا الآن أصبحتُ البصير –الضرير، إذ رغم امتلاكي لعينين حادتين أو لآلة باصرة –على حدّ تعبير الفلاسفة-إلا أني بدأت أتعلّم كيف أسلك سلوك الأعمى، وكان الأفضل منذ طفولتي أنَّ أسلك سلوك إنسان مثل أبي العلاء المعرّي، فهو لم يكن ليعلّمني فقط البقاء حيّاً على المستوى الفيزيولوجي في مثل هذه الظروف اللعينة؛ بل كان ليعلّمني أيضاً ألا أتحطّم على المستوى النفسيّ؛ لأنه يعرف كيف يدرّب العقل على مواجهةِ شناعة الحياة.

أصلُ إلى صنبور المياه، أتحسّسه ثم أفتحه، فأجد أنَّ حظي كان جيداً، لأنَّ المياه غير مقطوعة، تتدفق المياه، أضعُ يدي فيها، فيقشعرُ جسمي من شدّة برودتها، أقرّر التراجع، ثم أتردّد، فأقول في نفسي: لا بدّ من إزاحة غبار الظلمات عن وجهي فأخاطر بغسل رأسي ووجهي…أرتدي ملابسي، راقصاً، من هولِ البرد…أفتحُ باب منزلي وأخرج، في سِفْرِ خروجٍ لا خروج فيه… أقف على الرصيف منتظراً مرور أيّ وسيلة نقل…لا شيء …وفجأةً تمرّ سيارة أجرة…ألوِّح له بيدي …يقف سائقها…أسأله: كم تريد أجرة للوصول بي إلى مكان عملي…إنّه يبعد 16 كيلو متراً؟ أجاب: أريد خمسين ألف ليرة سورية…قلت له: إنَّ راتبي 150 ألفاً…فهل من المعقول أن تأخذ مني هذا المبلغ….شَخَرَ بسيارته وابتعد عني دون أن يتكلم كلمة…فَقَفلتُ راجعاً إلى منزلي، وجلست على الكرسي الخشبي واضعاً كفي الحائرة على ذقني وقارعاً سنّ نادمٍ على هذه الحياة المريرة التي اخترتُ أن أعيشها.
هذا ما قاله لي “محمد” الشاعر وأستاذ الأدب العربي حينما سألته عن أحواله؛ ولكن ربما كان “محمد” أقلّ صلابةً من غيره، نظراً إلى أنَّ مشاعره مرهفة بصفته شاعراً ولغويّاً.

غير أنّي حينما التقيتُ مع “عبد الله” الخرِّيج الجامعيّ وسألته عن أيامه، فقال لي: أنا أعمل الآن في سوق الهال في بيع الخضار…وهذا أفضل عمل استطعت أن أحصل عليه…وعندما سألته عن سبب عدم رغبته في الاستفادة من شهادته الجامعيّة. قال بسخرية مريرة: إنّ ما أُحصّله من مال في يوم واحد هنا يعادل الراتب الحكوميّ بناء على تعييني في وظيفة حسب شهادتي… الشهادة الجامعيّة أمر تافه وسخيف من الناحية الماديّة. وتابع قائلاً: لولا عملي في سوق الهال لتحطّمت حياتي كلّها، فقد استأجرت غرفة في إحدى العشوائيات بمبلغ قدره 200 ألف ليرة سورية، وأسكن فيها أنا وزوجتي وابني، فعملي في سوق الهال يسهّل عليّ الحصول على الطعام، فالخضار يعطيني إياها ربّ العمل كجزء من أجرتي عن عملي معه، وهنا أتعرّف على أناس جَيِّدين من جيراني في المحلات المجاورة، فيمكن أن أشتري اللحم والحبوب والمنظِّفات وإلى ما هنالك بأسعار مقبولة مقارنةً مع غيري، لأنه بسبب العمل في مكان واحد توجد مراعاة لي من قِبَلِ التُّجار. وبعد أن سألته عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي. قال: لقد اعتدنا أن تكون لنا عيون خفافيش، ولكن من أجل زوجتي وابني اشتريت بطارية درّاجة نارية، ومددت لها أسلاكاً ومصابيحَ مناسبة، مع شاحِنٍ كهربائيٍّ لها، والأمور تسير على ما يرام…وحاولت أن أفهم منه كيف يؤمّن التدفئة في منزله….ضحك بأعلى صوته وقال: هذا أمر نسيه الناس كلّهم، لقد بلغ سعر ليتر المازوت عشرة آلاف ليرة سورية في السوق السوداء، ولا يمكن لنا أن نشتريه إطلاقاً!! نحن نضع علينا فوق اللباس السميك أغطيةً تحمينا من البرد، ونبقى أياماً طويلة غير قادرين على الطبخ أو شرب أي مشروب ساخن، لأنَّ أسطوانات الغاز مفقودة، وننتظر دورنا أحياناً للحصول على أسطوانة غاز شهرين أو ثلاثة أشهر…وليس أمامنا أي حلّ، إلا أنه كنت قد اقتنيتُ أسطوانة غاز من الحجم الصغير يمكن تركيب قاعدة لشعلة اللهب عليها وأحياناً عندما يتوافر معي مال زائد أقوم بتعبئتها من أجل الطبخ؛ أما إذا لم يتوافر معي المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله…ثم سألته: ماذا بالنسبة إلى الثياب والأحذية كيف تؤمّن لعائلتك هذا النوع من المتطلبات؟ فقال: عليك بـ”البالةِ” يا صديقي ففيها ألبسة أوروبية من أجود الأنواع، ولا يهم إن كان أصحابها الأصليون موتى أو أحياء، مرضى أو أصحّاء، فنحن نغسلها ونلبسها..

أما محمود وهو مزارع قويّ شديد البأس، فجاء كلامه غريباً عندما سألته عن طريقة تدبيره لأحواله المعاشية. قال: أنا أعيش في قرية جبلية عالية جداً، والبرد هناك شديد جداً يكاد يفتك بالمرء، ولذلك أذهب قبل حلول الشتاء إلى الأحراش المجاورة لقريتي وأحفر في الأرض بحثاً عن جذور الأشجار، لأنه لم تبق جذوع وأغصان أشجار على الإطلاق، إذ بسبب حاجة الناس إلى التدفئة تم القضاء على غابات بأكملها. المهم أني أحفر بحثاً عن الجذور العميقة للأشجار مدة طويلة حتى أجمع ما أستطيع جمعه وأقوم بتخزينه من أجل برد الشتاء. كما أقوم بزراعة قطعة الأرض الصغيرة قرب منزلي في الصيف بأنواع مختلفة من الخضار، وتقوم زوجتي بتخزين ما يمكن تخزينه منها بعد تعريضه لأشعة الشمس. وقد قمتُ بتربية الدجاج في “قُنٍّ” قربَ منزلي، فيمكن أن أحصل على اللحم والبيض في بعض الأحيان وليس دائماً. ويهمني أن أخبرك عن أمرٍ هو أنني أذهب في موسم صيد الأسماك إلى بعض سدود المياه القريبة من قريتي، واصطاد ما أقدر عليه من أسماك وأقوم ببيعها للناس في قريتي، لأنهم غير قادرين على شراء لحم الدجاج والضأن والأبقار، وهكذا أحصل على بعض الدَّخل الماديِّ. كما أنني أذهب في موسم قطاف الزيتون إلى بعض القرى لأعمل عند بعض مالكي أشجار الزيتون، فأحصل على ما يكفيني من ثمار الزيتون والزيت كأجرة لي على عملي في قطاف الزيتون…وإذا توقفت عن العمل بهذه الطريقة سأعجز تماماً عن الاستمرار في الحياة…

أما “شادي” وهو طالب جامعيّ، فقد أخبرني أنه متزوج وعنده ثلاثة أبناء، وهو يعيل أمه، بسبب موت والده…أشار إلى ثيابه وقال لي: انظرْ هل هذا لباس يليق بإنسان؟ إني أعمل، ليلاً ونهاراً، من أجل الصمود في الحياة، فأنا الآن ملتزم بالعمل في “كشك” على الشارع وأبقى موجوداً فيه طوال الليل، أبيع للعابرين التبغ والكحول وإلى ما هنالك. وأعمل في النهار في “العتالة”. نعم أذهب إلى أي مكان فيه هذا النوع من الأعمال، وأحمل على ظهري الأشياء الثقيلة من مختلف الأنواع من أفران وبرادات وغسالات…وما إن أنتهي من العمل في “العتالة” وألبث قليلاً في المنزل حتى يأتي موعد ذهابي إلى الكشك؛ غير أني أكون سعيداً لأنَّ زوجتي قادرة على طبخ وجبات مقبولة وهي تعطي لأمي حصتها منها كلّ يوم…وتابع قائلاً: ماذا في مقدوري أن أفعل أكثر من ذلك؟ إني أفعل كلّ ما في وسعي من أجل البقاء حيّاً مع أمي وزوجتي وأبنائي…ولكن كلّ ما أجنيه من مال لا يسد الرمق، فالأسعار مرتفعة جداً ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو…إنَّ الفقر ينخر في عظامي وروحي…وهناك أناس يقبعون في شققهم الفاخرة مثل الرخويات في قواقعها دون أن يكترثوا بمعاناة الناس.

ودّعت شادي ودخلت في صمت عميق، متفكِّراً في هول المعاناة التي يمرّ فيها السوريون، ولكن يمكن هنا أن نكتشفَ بنيةً عميقةً ومباطنةً موجودةً في الإنسان بصفته إنساناً، وليس في الإنسان السوريّ وحدَه، وهي أنَّ الرجوع إلى “البدائيّة” بالمعنى الأنثروبولوجيّ قد يصبحُ حلّاً لمشكلة الإنسان في أزماتٍ معيّنة، أي أنَّ الإنسان السوريّ هنا في أزمته عاد إلى مواجهة الطبيعة بأساليب بدائية ولكن مبتكرة، عوضاً عمّا خسره من تقنيات حضارية حديثة، ولذلك تحوّل الإنسان السوريّ من تحديد هربرت ماركيوز للإنسان، بصفته ذا بُعدٍ واحد، ويقصد منه البُعد الاستهلاكيّ في المجتمعات الصناعية الأوروبيّة التي تمَّ تصديرها في نسخ مشوّهة إلى عالمنا العربيّ، إلى الإنسان الذي يمتلك “فكراً بريّاً” على حدّ تعبير كلود ليفي ستراوس؛ ولكن الفكر البريّ هنا هو فكر أعمق مما حدّده ستراوس نفسه، فهو ليس فكر القبائل البدائية القائم على الأسطورة والسحر والوثنية وطقوس الصيد في المجتمعات الأوليّةِ على نحو يكوِّن بنيةً ثقافيّة مخصوصة تضاهي، إنسانيّاً، في رأي ستراوس بنيات المجتمعات الأوروبية المعاصرة؛ بل أصبح الفكر البريّ هنا في سوريا محاولة لإعادة تجديد الذات في ظروف أشدّ صعوبة من الظروف التي يمرّ فيها البشر البدائيون، فما تزال، مثلاً في الأمازون، الأراضي والمياه والهواء تعجّ بأنواع متعددة من الحيوانات والأسماك والطيور، وبكلمة بالنسبة لقبائل الأمازون البدائيّة توجد عندهم المصادر الأساسية للحياة، لأنهم لم يعتادوا على أنماط الحياة الحديثة، لذلك هم متكيّفون تماماً مع واقعهم.
أما الإنسان السوريّ، فإنّه فَقَدَ وسائل الاستمرار الحديثة من أجل البقاء، ولا توجد حوله طبيعة غنيّة بأسباب الحياة. من هنا أصبح الإنسان السوريّ نوعاً جديداً غير الإنسان الأوروبي المعاصر وغير الإنسان البدائي. إنّه مزيج من كليهما، ولذلك لا بدّ من أن ينبثق من أعماقه ما يسمّيه نيتشه “الإنسان الأعلى” من أجل تغيير هذا الواقع الشائن، هذا الواقع الذي يتجه بكلّ قواه إلى تحويل شعب ابتكر للعالم أول أبجدية في التاريخ إلى شعب بدائي يعيش في “مجتمعات غير كتابية”، على حدّ تعبير ستراوس نفسه.

ملف حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين”

ملف حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين”

تُعنى مجلة صالون سوريا الإلكترونيّة في الوقت الراهن بإعداد ملفّ يتناول حياة السوريين اليوميّة، ويتكوّن هذا الملف من موادّ صحافيّة يقدّمها باحثون من مختلف الاختصاصات، وستكون المنهجيّة المُعتمدة ذات أبعاد ميدانية استقصائيّة من أجل استطلاع آراء عينات من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية؛ ذلك من أجل الكشف عن آليات مقاومة الظروف القاهرة من انقطاع للتيار الكهربائي أكثر من عشرين ساعة في اليوم في غالبية أنحاء سوريا، والنقص الكبير في مياه الشرب، وتوقّف المواصلات بسبب فقدان الوقود، والنضوب الشديد في المحروقات، ومعاناة سوء التغذية، والتعرّض للبرد القارص، وغياب الخدمات الطبيّة والصحيّة، وإلى ما هنالك من ظروف لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً؛ إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

أصبح الإنسان السوريّ ضحية لحصارين: داخلي وخارجيّ؛ غير أنه استطاع التكيُّف مع أوضاع لا يمكن أن يوجد ما هو أسوأ منها في العالم الآن، من هنا جاءت المواد الصحافية من أجل التعمّق في فهم كفاح شعب بأكمله من أجل الانبعاث من الرماد، ولذلك جاءت محاور الملف على النحو الآتي:

أولاً-استقصاء آراء عينات من المجتمع السوري في أسباب معاناتهم الدامية أكثر من عقد من الزمان؛
ثانياً-استطلاع وجهات النظر فيما يتعلّق بابتكار أساليب إنقاذية للحياة على مستويات مختلفة؛
ثالثاً-البحث عن تحديد خطر التأثيرات النفسية المرضية في الأطفال بسبب قسوة الظروف الحياتيّة: التوحّد-السايكوباتية-النرجسيّة-اضطراب الشخصيّة الحدّيّة وإلى ما هنالك؛
رابعاً-اكتشاف طرق تأمين الطعام والشراب والعلاج والتدفئة والنظافة الشخصيّة والعامة، وكل ما يتصل بالحياة اليومية؛
خامساً-دراسة الواقع التربويّ بأبعاده المختلفة؛
سادساً-تحليل سوية التعليم الجامعي بمرحلتيه الدنيا (الإجازة) والعليا (ماجستير ودكتوراه).
سابعاً-البحث في واقع العمال والفلاحين والحرفيين؛
أخيراً-استقصاء آراء العاطلين عن العمل.

عناوين المواد المنشورة ضمن الملف:

أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة

نهر عيشة.. حياة مزدحمة بالفقر والصّبر!

دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة

عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه

الجيل الجديد في سوريا ومفهوم الانتماء إلى الوطن

الجيل الجديد في سوريا ومفهوم الانتماء إلى الوطن

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “في العقد الجديد، إلى ماذا يشتاق السوريون؟

كانوا أطفالاً حين بدأت الحرب، كبروا وتربوا على ثقافتها التي حرمتهم من بناء ذاكرة وطنية حقيقية، فلم تحفل ذاكرتهم سوى بصور الموت والدمار وشتى أنواع المعاناة، ولم يتبلور لديهم أي انتماء راسخ لسورية الواحدة، ذات الهوية الجامعة، فسورية التي عرفوها خلال الحرب ليست كتلك التي عرفتها الأجيال التي سبقتهم، حيث ضاق مفهوم الوطن لدى الكثير منهم، وكانت سورية بالنسبة لبعضهم، خلال الحرب، لا تتعدى حدود محافظتهم، التي لم يغادروها، أو حتى حدود مدينتهم. 

“لم أتعرف إلى سورية سوى من خلال نشرات الأخبار والصور ومقاطع الفيديو. أشعر أن معظم المحافظات السورية أماكن غريبة عني، لا يربطني شيء بها وكأنها من بلاد أخرى. يتحدث أبي وأخوتي الكبار عن سورية بكثير من الحب والحنين ويسردون لي الكثير عن جمالها وسحرها وتنوعها وعن أجواء الألفة والمحبة والتآخي التي عاشوها في أغلب المحافظات، حيث زاروها مراراً وتكراراً قبل الحرب، بمدنها وقراها، التي كانوا يرونها مكاناً واحداً رغم اختلاف جغرافيتها، وبالمقابل لم أكن أشعر بالأمان، خلال الحرب، حتى في مدينتي، وكان سقف حلمي أن  أتعرف إلى أحياء دمشق القديمة”. هذا ما يقوله الطالب الجامعي أنس (22 عام) الذي كان في الصف السادس حين بدأت الحرب، ويضيف “لم أغادر دمشق سوى في رحلة سريعة إلى اللاذقية منذ عامين وكانت أول مرة أتعرف فيها على مكان خارج دمشق. الغوطة القريبة منا والتي قرأت وسمعت الكثير من الروايات عن جمالها وتغني الشعراء بها، لم أتعرف عليها سوى كمكان للموت والدمار، وأحزن حتى من ذكرها. ببساطة كبرت وأنا أشعر أن سورية هي مدينة دمشق فقط”.  

 إسراء (20 عام) التي نزحت بعمر الحادية عشر لا يذكرها اسم سورية سوى بالألم والمآسي. والوطن بالنسبة لها هو عائلتها فقط، وتبرر ذلك بقولها : ” منذ طفولتي لم أرَ سوى الحرب التي قتلت أبي والتهمت كل شيءٍ حولنا، وحين نزحت وعائلتي من الغوطة إلى دمشق، شعرنا بغربة كبيرة وعشنا ظروفاً قاهرة، من المعاناة والحرمان والسكن البائس، أجبرَت أخوتي على ترك  الدراسة والتوجه نحو العمل والتسول أحياناً، ليساعدوا العائلة في تأمين لقمة العيش المريرة”. 

وتضيف: “في المدرسة، بعد نزوحنا، لم أكن أشعر أنني كباقي الطلاب، فالفروق الطبقية كانت واضحة للغاية، بين طلاب أثرياء جداً وآخرين غارقين بالفقر، حتى أن بعض زملائي كانوا ينظرون إلي بعين الشفقة والدونية أحياناً، وهم يرون حقيبتي الممزقة وثيابي الرثة، وعجزي حتى عن شراء قطعة بسكويت أو سندويشة فلافل. تركت الدراسة وأنا في الصف الثامن وتوجهت للعمل في معمل لخياطة الألبسة، وما زلت أزاول هذا العمل حتى اليوم، في ظروف من القهر والاستغلال”. 

 ونتيجة لذلك الواقع تقول إسراء “لم أشعر حتى اليوم بأي انتماءٍ حقيقي لمكان إقامتنا الحالي  وبالمقابل حين أتذكر قريتنا في الغوطة تمتزج ذكريات طفولتي بصور الحرب فلا أشعر بأي حنين إليها”.  

عندما أهديت محمد (16 عام) عامل توصيل الطلبات، كتابين لليافعين عن حضارتي أوغاريت وتدمر، كانت صدمتي كبيرة، فحين نظر إلى صورة الغلافين تساءل: هل تقع هذه الأماكن في سوريا؟. محمد الذي نزح مع عائلته إلى مدينة جرمانا بعمر السادسة، لم يرَ منذ ذلك الوقت شيئاً من سورية سوى الحارة التي يسكنها وبعض شوارع المدينة والسوبر ماركت الذي يعمل به منذ نحو خمس سنوات، هو أيضاً لا يجيد القراءة والكتابة، فقد ترك المدرسة في الصف الثاني، حاله حال مئات آلاف الأطفال الذين تسربوا من الدراسة ليتجهوا نحو سوق العمل قبل أن يعيشوا طفولتهم التي كانت بحاجة لوطنٍ يحتضنها. 

جيل بلا بوصلة وطنية 

 جيل تعرف إلى ثقافة الانقسام السياسي قبل أن يتعرف إلى مفهوم الوطن الواحد والهوية الجامعة، إذ تشكل وعيه الوطني وهو يرى معظم من حوله من أبناء الجيل القديم يختلفون سياسياً على أبسط البديهيات والمفاهيم الوطنية، ويتبادلون الاتهامات ويوزعون أدوار الوطنية والتخوين كلٌ حسب أهوائه وتوجهاته، لذا زُرعت به آلاف المفاهيم والإيديولوجيات والقناعات الخاطئة قبل أن يتبلور لديه أي مفهوم واضح وحقيقي عن الانتماء الوطني، وذلك في ظل غياب أي مرجعيات وطنية حقيقية يمكنه أن يقتدي بها أو يستعين بخطابها وأفكارها لتكون بوصلته الوطنية، فمعظم القامات والرموز الوطنية خلال الحرب أصبحت منقسمة و ضائعة، لا تُجمع على شيء، تطغى وجهة نظرها الإيديولوجية وأجنداتها السياسية على كل ما هو وطني، وبعضها تقزم وأثبت فشله أو أُخمد صوته وأُنهكت قواه وشلّتَ أفكاره.  

” كبرت وأنا أرى أبي ومعظم أقاربي وأصدقاء العائلة يختلفون وتعلو أصواتهم كلما تناقشوا في أمرٍ يخص واقع البلاد، فيشتمون فناناً أو كاتباً سورياً نتيجة موقفه السياسي، ويخوِّنون معظم السياسيين والمفكرين، لذا كنت أكره أو أحب أحداً ما دون أن أعرف السبب. وحين كنت ألجأ  لبعض الكبار، المهتمين بالشأن السياسي والثقافي، لأسأله شيئاً عن الوضع السوري، لا يُقدم لي سوى آراء كيدية ويحاول إقناعي بوجهة نظره فقط ليبدأ بتخوين وشتم كل من لا يوافقه الرأي”. بتلك الكلمات يلخص طالب الطب فادي (23 عام) واقع حال معظم أبناء جيله، ويضيف “جيلنا لم تتشكل لديه أي قناعة وطنية راسخة إذ  تشكلت القناعات والمفاهيم السياسية والوطنية لمعظمنا من خلال المحتوى الذي تقدمه نشرات الأخبار والبرامج السياسية -التي تحكمها الأجندات والمال السياسي- ووسائل التواصل الاجتماعي التي تكتظ كل يوم بالكثير من المغالطات الفكرية والسجالات والمناكفات وتبادل الاتهامات. كل ذلك جعل منا جيلاً مشتتاً لا يمتلك أي يقين وطني”. 

جيل عاجز وناقم 

بعد تحول الأزمة السورية إلى أزمات وموت أي بارقة أمل بانتهائها، وفي ظل تردي الواقع الاقتصادي وغياب معظم متطلبات الحياة، وُلِد عند الجيل الجديد شعور دائم  بالضياع واللاجدوى وانسداد الأفق، وهو ما قَتل حماسهم وأخمد طاقاتهم، وغيَّب أي صوت أو تأثير لهم، فجعلهم عاجزين عن القيام بأي دور وطني فاعل، تمضي سنوات أعمارهم بلا أي هدف أو مستقبل واضح. كل ذلك جعلهم ينقمون على كل ما حولهم، ليفقدوا أي شعور بالمواطنة والإنتماء حتى تجاه مجتمعهم الذي تشرذمت روابطه وعلاقاته الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية.    

“أشعر اليوم أنه لا قيمة لوجودي وأنني عالة على عائلتي ومجتمعي.  أهدر أيامي في الانتظار الذي يقتل قدراتي وأحلامي وطموحاتي. بات تفكيري محصوراً فقط  بتأمين فرصة عمل والبحث عن أي طريقة لمغادرة البلاد، فمنذ مراهقتي تربيت على أن السفر هو الخيار الوحيد ولا مستقبل لدي في هذه البلاد”. هذا ما يقوله أحمد (24 عاماً) وهو واحد من مئات آلاف الشباب الذين باتت أحلامهم متعلقة بالسفر، خاصة أن الكثير من أصدقائهم وأقاربهم  سافروا من قبلهم وأصبحوا قدوة لهم. 

ويضيف أحمد: “هل نحن أبناء وطن واحد؟. كيف سأشعر بالانتماء إلى وطن لست جزءاً منه، أعيش فيه على الهامش، لا أستطيع أن أمارس إنسانيتي أو أن أقوم بأي دورٍ فاعل حتى تجاه أبناء مدينتي أو حارتي؟. لقد كبرت وأنا أعبر من جنب الأطفال النائمين في الشوارع  والحدائق  عاجزاً عن مساعدتهم. الفقراء الذين يعتاشون من حاويات القمامة أصبحت أراهم بشكل طبيعي ومألوف دون أن أحرك ساكناً. بت أشعر أنه لا جدوى من بقائي في هذه البلاد، فهي ليست سوى للأثرياء وتجار الحرب”.      

وطن بديل 

كثير ممن غادروا سورية، من أبناء الجيل الجديد، وجدوا وطنهم في بلدان لجوئهم في أوروبا وغيرها، اندمجوا بعادات البلد المضيف وبثقافته وتكيفوا مع حياتهم الجديدة، لذا قد ينسون مع الوقت ثقافتهم وذاكرتهم وهويتهم السورية. وإن طالت إقامتهم أكثر فقد ينسلخون عن سورية بشكل كامل، لاسيما أولئك الذين عاشوا في الخارج أكثر مما عاشوا فيها، وربما يلغون مع الوقت فكرة العودة إليها و يفقدون شعورهم بأي انتماء نحوها، خاصة إذا ما حصلوا على جنسية أخرى. 

وعن تجربتها تحدثنا نور (25 عام) المقيمة في ألمانيا منذ سبع سنوات: ” عشت مراهقتي في ظل الحرب وكوارثها التي أجبرتني وعائلتي على مغادرة سورية خوفاً من الموت. ومنذ وصولي إلى ألمانيا شعرت بالأمان والسلام، وتمكنت من الاندماج بثقافتها وتعلُم لغتها بسرعة فائقة، وهكذا بدأت أحقق أحلامي وأعيش كل التفاصيل التي أحبها، فلقد منحتني حياة جديدة وآفاقاً واسعة، لذا بت أشعر بكثير من الانتماء إليها وأراها وطناً بديلاً” . وتضيف نور: ” اليوم وبعد هذه السنوات لم يعد هناك شيء يربطني بسورية، سوى وجود بعض الأقارب والأصدقاء، الذين أتألم حين أفكر بالحياة التي يعيشونها، جميع الذكريات والأشياء التي كنت أحبها في طفولتي دمرتها الحرب ولم يعد لها وجود، لذا لا  أفكر في العودة إلى سورية سوى في زيارات قصيرة على المدى البعيد”.  

خلال الحرب ولد نحو  خمسة ملايين طفل في سورية، فيما ولد نحو مليون طفل سوري لاجئ في دول الجوار، وذلك بحسب تقرير اليونسف آذار 2020. اليوم إذا نظر هؤلاء الأطفال إلى جيل الشباب، الناقم على كل شيءٍ حوله والغارق في جحيم معاناته اليومية وانهزاماته وخسائره المتتالية، فماذا سيتذكرون عن بلادهم وكيف سيشعرون تجاهها، وكيف ستكون علاقتهم بها مستقبلاً؟.