بواسطة Firas Al Ali | مارس 23, 2021 | Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
يعيش عمال المياومة أزمة اقتصادية خانقة لحقت بهم خلال السنوات الماضية، فساعات عملهم المرهق الطويلة مقابل أجور لا تفك متطلبات المعيشة لنصف يوم بل أحياناً قد تلبي احتياجات أحد أفراد الأسرة فقط دون بقية الأفراد. ورغم أن الأعمال لم تنقطع إلا أن عمال المياومة كانوا من بين أوائل ضحايا الأزمة الاقتصادية في سوريا خصوصاً أن أجورهم المتدنية لم تعد تلبي متطلبات المعيشة لديهم.
وتتنوع أعمال هؤلاء العمال بين العمل في الزراعة أو نقل وتحميل الأثاث المنزلي أو مواد البنك أو قطف المحاصيل مقابل أجر يومي يتفق عليه مع صاحب العمل. وحسب ما أفاد به عدد من عمال المياومة، فإن القليل منهم تصل أجورهم اليومية إلى قرابة 7000 ليرة سورية بينما يحصل الغالبية على أجور تكاد تتوسط 3000 ليرة سورية أي باتت أجورهم لا تتعدى 2 دولار أمريكي.
ويبدو أن العديد من عمال المياومة اضطروا منذ سنوات إلى ترك أعمالهم واتجهوا إلى البحث عن وظائف تمنحهم أجوراً أفضل من تلك التي يتقاضونها لقاء أعمالهم الاعتيادية.
دخل زهيد
يضطر عمال المياومة إلى البحث يومياً عن عمل ما يوفر لهم دخلاً زهيداً بالكاد يغطي لهم المصاريف المعيشية، ويقول البعض منهم إنهم مضطرون للعمل في هذا المجال بسبب قلة فرص العمل.
وخلال إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع أمجد (38 سنة) وهو أحد عمال المياومة في شمال سوريا، حيث يقول لنا: “نعمل من أجل توفير رغيف الخبز لا أكثر، أجورنا قليلة لا تتجاوز 15 ليرة تركية (قرابة 2 دولار أمريكي) ولا تكفي لسد متطلبات الحياة خصوصاً إن كان لدى العامل عائلة”.
ويضيف، المشكلة أيضاً أن عملنا ليس مستقراً، نعمل أحياناً لعدة أيام ومن ثم نبحث عن عمل آخر وأحياناً ننقطع عن العمل لأيام فكيف لنا أن نغطي مصاريفنا اليومية مع غلاء المعيشة!
وعن طريقة تحديد الأجور، فإن عدداً من عمال المياومة أفادوا بأن صاحب العمل يعرض عليهم طبيعة العمل مثل تحميل مواد بناء أو نقل أثاث منزل أو غير ذلك والمبلغ الذي سيدفعه وإن وافقوا يأخذهم لمكان العمل، وبمجرد إنجاز العمل يتقاضون أجورهم.
ويؤكد أمجد، أنه نادراً ما يحصل البعض منهم على فرصتي عمل يومياً ليتقاضى لقاء ذلك مبلغاً جيداً قد يصل إلى ما يعادل 4 دولارات في يوم واحد.
عمل ثابت
اتجه العديد من عمال المياومة إلى البحث عن أعمال ثابتة تجعلهم على الأقل غير عاطلين عن العمل في بعض أيام الشهر محاولين توفير قوت يومهم في ظل غلاء السلع والخدمات وارتفاع تكاليف متطلبات المعيشة.
ويبدو أن الأعمال الثابتة رغم الرواتب القليلة التي يتقاضاها العاملون لقاء عملهم إلا أنها أفضل من عمل المياومة المتقطع، حسب إفادات عدد من العمال في شمال سوريا.
وفي لقائنا مع عدد من عمال المياومة ومن بينهم أبو جهاد (31 سنة) الذي يعمل الآن في أحد محال الحلويات بريف حلب، أوضح لنا تجربته: “الراتب قليل لكنه أفضل من العمل المتقطع، كنت أحياناً أعمل وأحياناً اضطر للجلوس في المنزل، على الأقل في العمل الثابت يمكنني توفير إيجار منزلي شهرياً”.
ويتابع، كان لدي سيارة قبل سنوات ولكنني اضطررت لبيعها والآن أعمل كل شهر بشهره فما أحصل عليه في شهر يكاد يوفر لي ولعائلتي مصروفنا الشهري.
وليست حالة أبو جهاد الوحيدة من نوعها بل هناك الكثير من السوريين الذين تأثروا بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي رافقها الغلاء المعيشي وقلة مدخول فرص العمل المتوفرة.
تحت خط الفقر
تشير الأرقام الواردة في الدراسات والأبحاث التي أنجزت عن الملف الاقتصادي في سوريا إلى مدى الآثار السلبية التي لحقت بالسوريين في شتى المجالات.
وفي تصريحات صدرت عن المدير الإقليمي للشرق الأوسط في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فابريزيو كاربوني، منذ أيام، قال خلالها: إن “ما يقارب من نصف الشباب السوري فقدوا دخلهم بسبب الصراع في سوريا، ونحو ثمانية من كل عشرة أفراد يواجهون صعوبات من أجل توفير الطعام والالتزامات الضرورية الأخرى” وفق ما نقلته وكالة رويترز.
وأضاف أيضاً، النساء السوريات تعرضن أيضاً لأزمة اقتصادية حيث يوجد 30% من النساء لا يمتلكن أي دخل على الإطلاق لإعانة عائلاتهن.
في المقابل، حذر برنامج الأغذية العالمي، الشهر الفائت، من تفاقم كارثة غذائية تشهدها سوريا، حيث أكدت أرقام البرنامج الأممي، أن 90% من السكان تحت خط الفقر مقابل ارتفاع أسعار السلع الغذائية لأكثر من 200% خلال أقل من عام.
وتضرر معظم السوريين من الأزمة الاقتصادية الخانقة وفي مقدمتهم العمال الذين يتقاضون أجوراً قليلة بما فيهم عمال المياومة.
هل من حلول؟
لا يبشر الواقع الاقتصادي في سوريا في أية حلول مستقبلية قريبة من شأنها أن تحسن الأوضاع المعيشية لدى السكان خصوصاً مع عدم استقرار الليرة السورية في ظل استمرار تدهور قيمتها خلال السنوات القليلة الماضية.
وفي اتصال هاتفي مع محمد أبو بلال وهو أحد السوريين المهتمين بالمشاريع الاقتصادية، يقول لنا: “لا توجد بيئة استثمارية مستقرة في سوريا وهذا يعود لأوضاع البلاد الأمنية، حيث يؤثر ذلك بالدرجة الأولى على صعوبة توفير الموارد الأولية ومتطلبات التشغيل وآليات التوزيع والتصريف خصوصاً للمشاريع الكبيرة”.
ويتابع، من الملائم للعمال السوريين أن يؤسسوا لأنفسهم في الوقت الحالي مشاريع صغيرة توفر دخلاً إضافياً لهم ولو كان محدوداً، على الأقل يغطي تكاليف معيشتهم.
وعن كيفية الوصول إلى أفكار لمشاريع صغيرة بالنسبة للسوريين المتأثرين بالأوضاع الاقتصادية يُجيب، هناك عدة عناصر يجب التركيز عليها مثل الحاجة للمنتج أو الخدمة المقدمة والقدرة على منافسة السوق وسهولة وصول المواد الأولية.
بواسطة Diala Zakaria | مارس 20, 2021 | Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
أثار انتحار شاب وفتاة سوريين خلال أسبوع واحد، جدلاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، في البلاد التي تعاني منذ عشر سنوات من حرب طاحنة، ترافقت مع أزمة اقتصادية خانقة، دفعت الأمم المتحدة للتحذير من أن 10 ملايين سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وباتوا غير قادرين على إطعام أسرهم.
وانقسم السوريون بين من يرى أن هذه الحالات طبيعية وتحدث في كل الدول، وبين من يرى أنها من مفرزات الحرب التي قلصت مساحة الأمل لدى الشباب، ولم تترك لهم سبيلاً للخلاص إلا الانتحار. سجلت العاصمة دمشق أول حالة انتحار في 3/3/2021، وتعود للشاب حسين شماس (18 عاماً) وهو طالب في المرحلة الثانوية، إذ أقدم على شنق نفسه في منزله، تاركاً رسالة مؤثرة لأصدقائه وأقاربه، طالبهم فيها بألا يشعروا بتأنيب الضمير لعدم قدرتهم على تقديم المساعدة له، لأنه هو ذاته غير قادر على تقديم المساعدة لنفسه.
وكتب الشماس على صفحته قبل أيام من انتحاره: “لم أستطع أن أفهم اللعبة لذلك قررت تسجيل الخروج”. كما شارك منشوراً جاء فيه أن: “الاغتراب ليس الابتعاد عن مسقط رأسك، بل الاغتراب الحقيقي هو شعورك بأن المكان الذي توجد فيه غير مناسب لنموك وتحقيق أحلامك”.
وغصّت صفحة الشماس على “فيسبوك” بآلاف التعليقات على منشوراته أظهرت حقيقة الانقسام السياسي والثقافي الحاد في سوريا، كما وصلت الأمور إلى حد السخرية منه، كقيام البعض باستخدام جملته الأخيرة حول عدم فهم اللعبة دون أي داع ومبرر كنوع من الاستهزاء والاستخفاف به.
لا تقتصر حالات الانتحارعلى العاصمة دمشق، ففي محافظة القامشلي مثلاً قررت الشابة مهى النزال (17 عاماً) إنهاء حياتها، بإطلاق النار على نفسها مِن مسدس حربي داخل منزلها في المدينة. وقعت هذه الحادثة بعد ثلاثة أيام من تاريخ الواقعة الأولى، فيما أكد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن حادثة انتحار الفتاة حصلت في الأسبوع الأخير من شهر شباط.
وكتبت الفتاة وصيّةً لعائلتها بخط يدها، أوضحت فيها أسباب انتحارها، وهي أن الحياة ليس جميلة ولا تحبها، وتشعر دائماً أنها على خطأ في هذا العالم، داعية من يحبها إلى مسامحتها.
حالات الانتحار هذه تركت الباب موارباً حول صحة بعض الأخبار المتداولة عن قصص مشابهة، فقد تداول السوريون المقيمون خارج البلاد صورة لشاب على أنه انتحر وترك رسالة للشعب السوري، يقول فيها إنه قرر قتل نفسه لكي تذهب حصته من الطعام إلى أخوته، ليتبين فيما بعد أن الخبر كاذب، وأن الصورة المتداولة هي لشاب مصري يدعى محمد المنشاوي، وهو يعيش في النمسا حيث ظهر على صفحته لينفي ما تم تداوله عنه.
بدوره، نفى مدير هيئة الطب الشرعي السورية الدكتور زاهر حجو في وقت سابق في تصريح رسمي له على القنوات الرسمية السورية وجود أي ازدياد في حالات الانتحار كما يشاع، مشيراً إلى وجود انخفاض في عدد الحالات المسجلة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.
وأوضح حجو أن “سورية سجلت حتى الآن 31 حالة انتحار في العام 2021، بينما سجلت في الفترة ذاتها من العام الماضي 35 حالة انتحار”، مؤكداً أن “سورية تعد من الدول ذات معدلات الانتحار المنخفضة، فالنسبة لا تتجاوز 1 من كل 100 ألف رغم الحرب التي تعاني منها وتبعاتها، في حين حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية فإن النسبة العالمية تتراوح ما بين 5 إلى 10 من كل 100 ألف”.
وأوضح حجو أن عدد المنتحرين من الذكور أكثر من الإناث، فبلغ عدد الذكور 24 في حين تم تسجيل انتحار 7 إناث، مشيراً إلى أن ” 21 منهم انتحروا شنقاً و5 بطلق ناري و2 سقوط من مرتفع شاهق ومثلهما انتحرا بالسم” مشيراً إلى أن ” أكثر المحافظات التي تم تسجيل فيها حالات انتحار هي ريف دمشق 7 حالات بعدها دمشق 6 حالات وحماة 4 وذات العدد في طرطوس.”
وأعربت العديد من الهيئات الصحية عن قلقها من تعمد العديد من الأشخاص والمواقع الإخبارية، نشر أخبار كاذبة عن ضحايا وهميين أو حوادث ملفقة، بهدف استقطاب القراء والمعجبين على وسائل التواصل الاجتماعي، محذرة من قيام البعض بتغليف أخبار الانتحار الحقيقية بقالب من التعاطف الوهمي، الذي قد يشجع المراهقين الذين يعانون من مشاكل نفسية، إلى التفكير بالانتحار والإقدام عليه، بعدما يتم تسويق هذا الفعل على أنه الحل الوحيد والبطولي.
من جهته، كتب أستاذ الطب النفسي أسعد الخليل على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي منشورا منبهاً إلى “أن حالات الانتحار ناجمة عن اضطرابات نفسية، ومن الخطير اليوم أن نرى هذا الكم من التبريرات غير الواقعية لفعل الانتحار”. وأضاف الخليل “لا شك أن الحرب وما رافقها من أزمات تركت آلاماً وكوارث كبيرة يجب معالجتها، ولكن التركيز يجب أن يكون على السبب الرئيسي وهو الاضطراب النفسي ومن ثم تقديم الدعم النفسي لكل محتاج”.
بدوره قال الطالب الجامعي جورج حنا في حديث معنا: “كم هو مؤلم أن نرى كل هذا الثناء على شاب أقدم على الانتحار بسبب مرض نفسي، ما فعله حسين ليس بطولة أو شجاعة، أو موقفاً يستحق عليه الثناء، ما فعله مأساة حقيقية”.
وقال المعارض المقيم في ألمانيا أحمد قزموز: “إن كل مواطن داخل سوريا بات قنبلة موقوتة ستفجر نفسها أو ستنفجر بوجه غيرها، وهذا كله بسبب تمسك النظام السوري بالسلطة” حسب تعبيره.
من جهتها، قالت الطالبة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق سارة بوظو “إن السبب الوحيد لتمسكنا بحياتنا المقرفة كسوريين هو أن الانتحار حرام، أيامنا مليئة بالذل والهوان، ولا مستقبل مشجع ينتظرنا”. وختمت بوظو بالقول: “بمعنى آخر لو كان الانتحار محللاً دينياً لما بقي سوري على قيد الحياة”.
بواسطة Mouaz Laham | مارس 18, 2021 | Reports, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
يرتبط مفهوم الأمان تاريخياً بالنسبة للعائلة السورية بشرط لازم وواجب وهو تأمين الخبز. وظلت عبارة “تأمين الخبزات” مزروعة في وجدان كل رب أسرة عندما يعود إلى منزله بعد انتهاء عمله. وليست من قبيل الصدفة أن يأخذ الارتباط اللفظيّ بين الأمان والتأمين ارتباطاً وجدانياً، ولن نكون مغالين إذا قلنا ارتباطاً وجودياً. وعندما يصبح هذا التأمين مهدَّداً، تظهر كل أعراض عدم الأمان من خوف وقلق ورعب يهدد الوجود نفسه.
عندما تجد بضع حبات من القمح في جرة تعود إلى ما قبل التاريخ، عندما تشاهد رجل يزيح كسرة خبز يابسة عن الطريق كي لا تدوسها الأرجل، عندما تراقب امرأة وهي بكامل الولع تلف الخبز، تعرف مدى القداسة (التي لن تكون دينية بالضرورة) بل قداسة إنسانية لهذا المنتج الإنسانيّ: الخبز.
لأجيال عديدة ظلت هذه البلاد زراعية الهوية الاقتصادية، وتنتج ما يكفي شعبها، وتصدر ما يزيد عن حاجتها، وشكل القمح المحصول الاستراتيجي للدولة. لكن المتتبع والمعايش لما يحصل في سورية اليوم من نقص حاد في المحصول وصعوبة تلبية حاجة الشعب من الخبز يدرك كم فقدت هذه البلاد من هويتها.
في الفقرات التالية سنحاول ربط الماضي بالحاضر من خلال الأرقام الإحصائية لإنتاج القمح في سورية معتمدين على إحصائيات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في سورية وأرقام منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، لا لنعمق المأساة بل لنكشف حجمها، متتبعين حركية المحصول والقرارات المتعلقة به.
اقتصاد السوء الاجتماعي
في عام 2006 وفي خطوة وصفها الاقتصاديون بـ” المتسرعة” أو “غير المدروسة”، جرى تبديل شامل في سياسة الدولة الاقتصادية. وتم الانتقال من اقتصاد مركزيّ موجَّه يعتمد على الخطط الخمسية إلى ما دعي بـ اقتصاد السوق الاجتماعي. كانت الخطوة ارتجالاً وتحولاً مفاجئاً نحو الليبرالية الاقتصادية وتحرير الأسواق، صفق لها البنك الدوليّ!
وبسرعة وُزّعت الامتيازات حسب الولاءات، وأُسّست الشركات القابضة ذات الصيغ العائلية، وبدا الانفتاح براقاً وواعداً! وأصبح الاستثمار في المشاريع السياحية والخدمية هو الموجة الجديدة. وغزت مشاريع الفنادق مراكز المدن ومشاريع القرى السياحية والفلل تلال دمشق وأخواتها. كان المنظر باهراً على أتوستراد حرستا ووزعت السيارات بالتقسيط. بينما هُمشت الزراعة والصناعات المرتبطة بها، وأغرقت الأسواق بالصناعات الصينية الرخيصة متدنية الجودة، في حين ساهم انتشار البضاعة التركية في تهميش البضاعة الوطنية. هُجرت الحقول وزادت الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وانتقلت سورية من بلد زراعيّ إلى بلد متحوِّل اقتصادياً. إن كلمة متحول لا تعني التغيير نحو الأفضل أو انتهاج تعددية اقتصادية، بقدر ما تعني انتهاج سياسات مصلحية يلعب فيها الامتياز والولاء الدور الأساسي. إنها تعني غياب النظام الاقتصادي وغياب الهوية. لم تتم خصخصة القطاع العام بل تم تأسيس قطاع خاص جداً كانت غايته الوحيدة على ما بدا إحداث شلل في القطاع العام وتهميشه وإفقاره. لقد تم إغلاق المعامل الوطنية المرتبطة بالزراعة، فأغلق معمل السكر في تل سلحب بسبب الخسائر وتراجع إنتاج الشوندر السكري تدريجياً والآن لم تعد حماه تنتج أي حبة شوندر سكري بعد أن تم إيقاف زراعة الشوندر السكري نهائياً بقرار حكومي. وأغلقت معامل الكونسروة في درعا والورق في دير الزور، ومعامل الصابون وأقلام الرصاص في دمشق، وتركتْ الدولة الساحةَ لطبقة صناعية طحلبية همها فقط الإثراء على حساب موت القطاع العام أو تمويته.
“وقمح..”
مهما قيل عن القمح السوري بأنه قمح قاس، يبقى أكثر طيبة من متخذي القرارات وصانعي السياسات الاقتصادية في هذا البلد القمحيّ بامتياز. يمتاز القمح السوري بـ”كبر الحبة وتشعب السنبلة والهيئة البلّورية واللون العنبري الأصفر وتأقلمه بشكل واسع مع البيئات المختلفة لحوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة 60% قمح قاس و 40% قمح طري” وذلك حسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية.
ومع التحول الاقتصادي جاء موسم 2007-2008 فقيراً بالأمطار ومنذراً بالجفاف، إذ سجلت محافظة الحسكة هبوطاً حاداً في معدل الأمطار بلغ 121.7 ملم بانخفاض 100ملم عن المعدل السنوي، علماً بأن الحسكة تقدم 60% من المحصول القومي للقمح في سوريا. وسجلت دير الزور معدل 56.3 ملم بانخفاض 90 ملم عن المعدل السنوي . وسجلت حماه 284 ملم بانخفاض بلغ 90 ملم.
وبالتزامن مع موسم الجفاف، قامت الحكومة في نيسان 2008 برفع سعر المازوت من 7 ليرات للتر إلى 25 ليرة، وقامت بتحرير سعر السماد. وبات المازوت يوزع عن طريق القسائم التي آذنت بظهور ظاهرة الطوابير في سوريا. وأدت هذه القرارات مع موسم الجفاف إلى نزوح عدد كبير من الفلاحين إلى المدن وهُجرت الحقول. بلغ إنتاج القمح في ذلك الموسم 2.1 مليون طن بانخفاض 2 مليون طن عن الموسم السابق. بررت الحكومة رفع سعر المازوت لسد العجز في الميزانية، لتعود وتخفض سعر اللتر 5 ليرات في بداية 2009.
سجل الموسمان التاليان معدل هطول مطري جيد، ووصل إنتاج القمح موسم 2011 إلى 3.9 مليون طن. في عام 2014 ضربت سوريا موجة جفاف جديدة متزامنة مع نقص المازوت وانقطاع الكهرباء وانعدام الأمن مما شكل صعوبة كبيرة في وصول الفلاحين إلى أراضيهم. وحسب تقرير منظمة الغذاء والزراعة FAO في 23 كانون الثاني 2013″45 % من الفلاحين لا يستطيعون الوصول” وسجل الموسم انخفاضاً قياسياً في إنتاج القمح بلغ حسب تقديرات المنظمة 1.3 مليون طن، قدرته الحكومة السورية بـ 1.7مليون طن.
ورغم الموسم المطري الجيد في 2015 فلم يتجاوز المحصول 2.4 مليون طن بعجز قدره 900 ألف طن عن الحاجة السنوية. وسجل تقرير الـ FAO في 23 تموز 2015 بأن “9.8 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي.”
وسجل عام 2016 ارتفاعاً طفيفاً بمعدل الإنتاج بلغ 2.9 مليون طن، ليعود وينخفض إلى مستويات قياسية في الأعوام اللاحقة (2017: 1.8مليون طن؛ 2018: 1.2مليون طن؛ 2019: 1.2مليون طن)، لتبدأ مسألة استيراد القمح الروسي الأقل جودة من القمح السوري وتبدأ أزمة الخبز بالظهور.
خبز ومازوت وقهر
في نيسان 2020، أُدخل الخبز على نظام البطاقة الذكية، بعد شهر على ظهور أزمة الخبز. عللت الحكومة الأزمة بعدة أسباب: عدم إرسال روسيا لكميات القمح المتفق على شرائه (بلغت كمية القمح المستوردة من روسيا 1.3 مليون طن عام 2017 و1.1 مليون طن عام 2019)؛ انخفاض كمية القمح المسلمة للدولة من قبل الفلاحين (بلغت كمية الحبوب المسلمة إلى الحكومة 500 ألف طن عام 2017؛ 1مليون طن 2019؛ 500ألف طن 2020)؛ ضبط الاستهلاك المحليّ بحجة أن الطحين يهرب إلى المخابز الخاصة والسياحية ومعامل المعكرونة وإلى مربي الحيوانات بسبب نقص مادة العلف وإلى دول الجوار، والذي يشير إجمالاً إلى حجم الهدر والفساد في مؤسسات الدولة نفسها.
على نظام البطاقة الذكية، قدرت وزارة التجارة الداخلية حصة الفرد بـ 19.5كغ شهرياً، وقسمت الأسرة السورية إلى أربع شرائح حسب عدد أفراد الأسرة المسجلين على البطاقة (1-2 شخص ربطة واحدة يومياً، 3-4 أشخاص ربطتين يومياً، 5-6أشخاص ثلاث ربطات يومياً، 7 أشخاص وما فوق أربع ربطات يومياً). لقد أدت كل العمليات الفنية من استخراج بطاقة ومن ثم تعديل البيانات العائلية إلى أزمة طوابير أضيفت إلى الأزمة الأساسية وبات المواطن السوري من طابور إلى طابور وأعيد إلى نقطة الصفر ولم تنجح البطاقة في حل الأزمة بل أصبح القهر ملازماً لكل خطوة.
في عامي 2011و2012 كان سعر ربطة الخبز 15 ل.س وتزن 1800غ بـ 8أرغفة. ارتفعت في 2013 إلى 19ل.س، بينما بيعت في المناطق المحاصرة بأرقام تراوحت بين 600إلى 2500 ل.س. في الشهر السابع 2014ارتفع السعر إلى 25 ل.س وفي الشهر العاشر 2015 إلى50 ل.س. في حين ارتفع سعر لتر المازوت إلى 135 ل.س وسعر أسطوانة الغاز إلى 1800 ل.س.
في الشهر السادس 2016 أعلنت الحكومة ارتفاع سعر المازوت إلى 180 ل.س للتر وأسطوانة الغاز إلى 2500 ل.س في حين كان سعر صرف الدولار 470 ل.س.
واعتباراً من منتصف عام 2019 سيبدأ سعر الليرة بالهبوط أمام الدولار بوتيرة متسارعة وبحلول آذار من عام 2020تم رفع سعر ربطة الخبز من 50إلى 75 ل.س ونقص وزنها إلى 1100غ. لتعود وترتفع في تشرين أول من نفس العام إلى 100 ل.س مع كيس نايلون. كان ذلك السعر على البطاقة فقط ويحتاج المواطن إلى الوقوف ساعات طويلة في الطابور، مما أدى إلى ظاهرة بيع الخبز الحر، حيث تباع الربطة أمام الفرن مباشرة ب 500 و750 ل.س. ترافق ذلك مع وصول سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء إلى 1200 ل.س ومع ذلك التدهور السريع في الخدمات من قطع جائر للكهرباء وعدم العدالة في توزيع المازوت على البطاقة وذل “تأمين الخبزات” وغلاء فاحش في الأسعار مع وصول سعر صرف الدولار إلى 4000 ل.س، بات المواطن السوري بعيد جداً عن نقطة الصفر المعيشي وأصبح تحت الصفر بدرجات. لقد أصبحت الأزمة مستدامة.
عام القمح
مع وصول الوضع المعيشي إلى مستويات متدنية، وارتفاع الأسعار غير المسيطر عليها والمتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار، بقي مستوى الدخل ثابتاً أو مجمداً عند حدوده الدنيا، وبات المواطن السوري يشعر بالضياع وهو يستسلم لكارثة تحدق به من كل الجهات. ليست تلك الأرقام التي أوردناها مجرد أرقام، هي واقع يعيشه السوري بكل تفاصيله العشرية. إن العجز الحكومي والفساد الحكومي في سوريا ظاهرةٌ تدرَّس.
ومع ذلك تطلق وزارة الزراعة، في حملة دعائية وإعلامية، على موسم 2020-2021عام القمح معلنة بأنها تخطط لزراعة 1.8 مليون هكتار من القمح، وحددت سعر شراء القمح بـ 450 ل.س للكغ مع مكافأة تسليم 100 ل.س لكل كغ. ثم عادت في آذار 2021 لترفع سعر الشراء إلى 800ل.س لكل كغ.
ويبدو أنه من المستحيل الوصول إلى الأرقام القديمة 4 مليون طن مثلاً؛ فالحسكة وأراضيها والرقة وريفها وريف حلب وريف إدلب وجزء من ريف حماه خرجت من الناتج النهائي لمحصول القمح ولا يمكن تعويضها وسهل الغاب تحول إلى زراعة التبغ ليلبي نهم معامل الدخان العائمة قبالة الساحل السوري. ويبدو أن أسعار الخبز في طريقها للتحرير، فقد خرجت مديرة التخطيط والتعاون الدولي في المؤسسة العامة للمخابز بتصريح لجريدة الوطن في 10 آذار 2021لتقول:”إن بيع الخبز المدعوم يعتبر من الصعوبات التي تعرقل العمل وتسبب خسائر مالية للمؤسسة” مبررة ذلك بأن المادة “مسعَّرة اجتماعياً”!
هذا المصطلح لا يحتاج إلى تفسير. إن عملية الخنق جارية ومحاصرة للمواطن في أعز ما يملك، أي كرامته، التي باتت هي المستهدفة. والسوق السوداء هي التي تحكم.
بواسطة Muhammad Mustafa Eid | مارس 16, 2021 | Cost of War, Reports, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
لم تكن فاطمة كردي ابنة الأحد عشر ربيعاً تعلم أن هناك على الجانب الآخر من وطنها، أطفالاً يواصلون دراستهم في غرف صفية نظيفة، ويتمتعون بالدفء، دون أن يتسلل البرد إلى عظامهم، ويحظون برعاية أسرهم ومجتمعاتهم، فهي لم تدرك، حتى الآن ماذا يعني أنها تركت المدرسة في سن صغيرة وهي التي ولدت قبل عام واحد من عمر أزمتنا السورية. تحدثنا معها، وكانت أجوبتها بسيطة وعفوية، فتكلمت عن القصف المتواصل الذي طال مناطقها، وأن صوت الطائرة، بات جزءاً أصيلاً ضمن مخيلتها، لا يحمل معه غير صفة الدمار والتشرد. وتسرد فاطمة ذكرياتها بحرقة وألم طفولي، وكيف نزحت مع أسرتها لأكثر من مكان، حتى استقرت في أحد مخيمات أريحا شمال سوريا، وتؤكد بكلماتها المتناثرة بأن توقفها عن الدراسة في الصف الثالث الابتدائي (كما أخوتها الثلاثة الآخرين) لم يكن بإرادتها، بل بسبب الظروف القاسية التي أحاطت بها، فاضطرت مع أخوتها بأن تلتحق بسوق العمل في سن مبكرة، لتساعد والدها. فعملت عند أصحاب الأراضي الزراعية في المنطقة التي تقطن بها، ورغم ابتعادها عن جو الدراسة، ما يزال لدى فاطمة حلم بامتلاك حقيبة مدرسية ودفتر وألوان، لكي تواصل دراستها كأقرانها ممن هم بعمرها. لكن يبدو أن الكارثة التي ألمت بسوريا، صنعت أطفالاً مشردين مسلوبي الحقوق والإرادة ، يعانون مرارة الحرمان والقهر.
إن الأرقام التي ترشح عن منظمات دولية وإقليمية ومحلية، لظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس أو التلاميذ غير الملتحقين بالمدرسة أساساً، تدعو للقلق، وتعطي صورة قاتمة لمستقبل هذه الشريحة الهامة ضمن المجتمع السوري. ووفق إحصائية صدرت عن منظمة اليونسف لعام 2019 تخص الجانب التعليمي للأطفال من هم في سن التعليم، فقد قدرت المنظمة الدولية عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدرسة بأكثر من 2.4 مليون طفل، منهم 40 في المائة تقريباً من الفتيات، وهذه الأرقام لم تبق على حالها، بل ارتفعت، نتيجة تأثير جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم تعطّل التعليم في سوريا، بينما تغيب عن الأطفال القادرين على الالتحاق بالمدارس، المرافق الرئيسية، كانعدام شبكات الصرف الصحي والكهرباء والتدفئة والتهوية. كما لا يقتصر التعليم على المدارس المنشأة، بل ظاهرة التعليم في الخيام باتت منتشرة بكثرة في مناطق المخيمات بعد الدمار الهائل الذي لحق بالمنشآت المدرسية، نتيجة الحرب السورية الدائرة منذ أكثر من عشرة أعوام.
وفي تحقيقنا الاستقصائي ستتمحور عينة البحث على منطقة الشمال الغربي السوري (إدلب وريفها) وتسليط الضوء على واقع ظاهرة الطلاب المتسربين من المدارس في هذه المناطق، بعيداً عن المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري التابعة إداريا لمحافظة إدلب، حيث تعيش منطقة الشمال الغربي السوري ظروفاً صعبة من حيث غياب الناحية الأمنية والوضع المعيشي الصعب، الذي يعتبر ضاغطاً على الكثير من الأسر التي عمدت على الامتناع عن إرسال أبنائها إلى المدارس وتشغيلهم في العديد من المهن وأبرزها العمل في الأرض، ما أدى إلى تعميق ظاهرة العمالة المبكرة للأطفال. وأيضاً لا ننسى أن مشكلة الزواج المبكر للفتيات من الأسباب الرئيسية للتسرب المدرسي، إلا أن جوهر المشكلة في هذه الظاهرة يبقى في الوضع الأمني والعمليات العسكرية الواقعة ضمن هذا القطاع الجغرافي، واستمرار القصف من قبل النظام السوري والقوات الروسية، ما أدى إلى تخوّف الكثير من الأهالي وامتناعهم عن إرسال أبنائهم للمدارس، علاوة على الظروف المناخية السيئة في فصل الشتاء والتي فرضت أيضاً إيقاعها على مشكلة التسرب.
النطاق الجغرافي للتحقيق
تعمل مديرية تربية إدلب (غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري) على مساحة جغرافية تتضمن مركز المحافظة وريفها إضافة إلى بعض المناطق في ريف حلب الشمالي ويوجد عدة تجمعات ونقاط تعليمية حيث المناطق التي تغطيها تعليميا المديرية هي مجمّعات: حارم، جسر الشغور، الدانه، المخيمات بأكملها، أريحا، إدلب، ومجمع معرة مصرين. وتكمن أهمية معالجة قضية التسرب المدرسي للتلاميذ السوريين وخاصة في (إدلب وريفها) في أنها تسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية خطيرة، ناتجة عن فقدان التعليم لشريحة اجتماعية هامة داخل المجتمع السوري وهي واحدة من أخطر الكوارث، لأن انهيار التعليم وغياب الحلول الاستراتيجية للقطاع التعليمي، لتدارك هذه الكارثة التي تشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة، سيضع مصير جيل كامل في المجهول.
تساؤلات مشروعة
إن أي معالجة لظاهرة داخل المجتمع، لا بد أن يسبقها مجموعة من التساؤلات قبل الخوض في تفاصيلها وتشعباتها من أجل تقديم إجابات معمقة لفهم المشكلة المطروحة:
- ما الأسباب الرئيسية وراء ظاهرة تسرب تلاميذ المدارس؟
- هل الظاهرة تقتصر على مناطق إدلب وريفها الخارجة عن سيطرة النظام السوري، أم تمتد على كامل الجغرافية السورية؟
- ما الآثار التي يمكن أن يتركها غياب التعليم عن شريحة كبيرة من أطفال سوريا؟
- أين دور المنظمات الدولية والمحلية في توفير الدعم لشريحة هامة من المجتمع السوري؟
- هل توجد استراتيجية تعليمية شاملة، لإعادة تأهيل الطلاب الذين فاتهم قطار التعليم، سواء التعليم التقليدي أو التعليم المهني الفني ؟
- متى يتحرك المجتمع الدولي، ويعي حجم الكارثة التي يعيشها أطفال سوريا في ظل مستقبل غير واضح المعالم؟
أرقام مُحبطة
قبل عام وفي شهرشباط\فبراير من العام 2020 أقرت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور أمام مجلس الأمن في حديثها عن وضع الأطفال في سوريا أن الحرب السورية سلبت فرصة التعليم بوحشية بالنسبة لـ 280 ألف طفل في الشمال الغربي السوري، وهناك حوالي 180 مدرسة لا تصلح للعمل نتيجة تدميرها أو تعرضها للضرر أو استخدامها كملاجئ. بالمقابل فإن الأرقام المحبطة التي أرسلها لنا فريق (منسقو استجابة سوريا) عن الواقع التعليمي في المناطق التي تشمل محافظة إدلب وريفها، وهي حديثة وصادرة خلال العام الجاري 2021 توضح حجم كارثة قطاع التعليم في هذه المناطق، حيث تتضمن الإحصائيات بحسب فريق منسقي استجابة سوريا مجموعة من النقاط حول عدد التلاميذ والمدارس والكادر التعليمي كما تبين الوثيقة أدناه.
وثيقة من “منسقو استجابة سوريا” توضح وضع التعليم في محافظة إدلب وريفها
ويقول الدكتور المهندس محمد حلاج مدير (منسقو استجابة سوريا) : “إن التعليم في ادلب بشكل عام يعاني من مشاكل كثيرة، حيث لا يوجد استقرار بشكل كامل فيما يتعلق بالتلاميذ ولدينا نقص كبير بوجود الكوادر التعليمية، علاوة على الدمار الكبير للمدارس حيث الكثير منها متضرر جزئياً، وهذا كان له أثر سلبي على ارتياد التلاميذ للمدارس. وبالنسبة للمخيمات فإن الوضع التعليمي أشد سوءاً ويكون مرتبطاً بالكوارث الطبيعية التي تحدث بالمخيمات نتيجة انقطاع الطرقات أثناء الأمطار. كما أن المخيمات لا يوجد فيها مدارس كافية، مما يساهم في كثافة أعداد الطلبة ضمن الغرفة الصفية الواحدة.”
216 ألف تلميذ متسرب
الأرقام التي حصلنا عليها من مديرية التربية في محافظة إدلب -التابعة للحكومة السورية المؤقتة- لعدد التلاميذ المتسربين في المناطق الجغرافية التي تغطيها التربية قد تكون مختلفة قليلاً مقارنة مع الأرقام السابقة التي تم استعراضها من قبل “منسقو استجابة سوريا”، ويمكن تبرير ذلك أنه لا يوجد مركز إحصائي متخصص في سبر الأرقام الحقيقية، كما أن المعطيات المتغيرة على الأرض في تلك المناطق وعدم الاستقرار نتيجة الظروف الأمنية المضطربة، لا تساعد في الوصول إلى رقم دقيق.
وفي حديث مع الأستاذ محمود الباشا رئيس دائرة التعليم الأساسي في مديرية التربية بإدلب أوضح أن عدد الأطفال المتسربين في المنطقة التي تشرف عليها مديرية التربية في إدلب حسب إحصائية العام الحالي 2021 يبلغ حوالي 216 ألف طفل متسرب. طبعاً هؤلاء الأطفال مسجلون في المدارس لكنهم انقطعوا عن الدوام، بينما الأطفال غير المسجلين في النفوس أو المدارس، فأعدادهم قد يتجاوز الأعداد المعلن عنها بالأساس. بينما الصعوبات التي تواجه الطلاب في هذه المنطقة هو النقص في عدد المدارس والتجهيزات، مما يسبب ضغطاً كبيراً على المدارس في منطقة المخيمات والدانة، ويوجد في الفصل الدراسي الواحد أكثر من 50 طالباً.
ويرجع الباشا أسباب التسرب لمجموعة من الأسباب أبرزها أن أهالي الأطفال يقومون بتشغيل أبنائهم بورشات للعمل من أجل مساعدتهم، كما أن الأطفال الذي يعيشون ضمن الخيم المتفرقة وهي بعيدة عن التجمعات ولا يمكن الوصول إليهم بسبب وعورة المنطقة، ولا تساعدهم على إيصال التعليم لهم، فمن المستحيل تفريغ معلم لتدريس طفل أو طفلين في هذه الخيم، فمديرية التربية تعمل على كل تجمع يوجد فيه حوالي 60 تلميذاً، ويوضع له خيمة تعليمية حيث تكفل منظمة إغاثية هذه الخيمة، الذي يدرس فيها مدرس اسمه معلم قائد أو جوال وممكن أن توفر المديرية مدرسة من الخيام إذا كان عدد التلاميذ يفوق 100 تلميذ وتكفلها منظمة تطوعية. والمنهاج الذي تدرسه مديرية التربية الحرة يتوافق مع منهاج السوريين، مع اختلاف طفيف في بعض المواد المتعلقة بالتربية القومية، وتتكفل طباعة الكتب مؤسسة قطر الخيرية.
المزيد من القصص الإنسانية المؤلمة
قصة عائلة عليوي من معرة مصرين تشبه الكثير من قصص حرمان الأطفال من التعليم، فهذه العائلة التي لديها ثمانية أطفال خارج المدرسة، وبأعمار تبدأ من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، تخبرنا عنهم أم عبادة عليوي التي تقطن مع أبيها ووالدتها في إحدى المدارس في ظل الظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها العائلة أسوة بالكثير من العائلات في المنطقة، الأمر الذي ساهم في عدم ارتياد أولاد أخيها الخمسة للمدرسة، والانتقال للعمل مع والدهم، كما أن أختها التي لديها ثلاثة أولاد ليسوا أحسن حالاً من أولاد أخيها، فجميعهم لم يتم تسجيلهم بالمدرسة، ويعيشون على المساعدات التي تأتيهم من المنظمات الدولية أو ما يتبرع به أصحاب الخير.
بينما أبو إبراهيم بكري من منطقة جسر الشغور لديه ولدان خارج المدرسة، فيبرر عدم ارتياد أولاده للمدرسة بمجموعة أسباب وأولها الوضع المعاشي الصعب، مما يضطره لأخذهم للعمل في الحقل، كما أن المسافة ما بين منزله والمدرسة تتجاوز 600 متر، وفي فصل الشتاء يكون قطع هذه المسافة صعباً، وكثيراً ما يعلق الدوام في مـدارس المخيمات، فهذه الأسباب يعتبرها غير مشجعة لإرسال أبنائه إلى المدرسة.
هجرة المدرسين
إن هذه الحالات التي تم استعراضها ليست سوى غيض من فيض، فنسبة التسرب المدرسي، في الشمال السوري عالية جداً، ويقول المدرس السابق محمد الحسين الذي ترك مهنة التدريس منذ أكثر من عام وكان يدرس ضمن مديرية التربية والتعليم في إدلب: “إن نسبة تسرب الطلاب في محافظة إدلب وريفها والمناطق المجاورة تتجاوز 35%، أي ما يزيد عن 240 ألف طالب خارج العملية التعليمية، علماً أن عدد طلاب محافظة إدلب بلغ العام الماضي بحدود 414 ألف طالب من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية.” أما عن أسباب التسرب فيرجعها الحسين إلى أسباب عديدة وأبرزها الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وخاصة عمليات القصف والتدمير التي طالت المدارس والمنشآت التعليمية المختلفة في المناطق الشمالية. كما أن المدارس المدمرة رافقها عدم استقرار في العملية التعليمية وخوف الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المدارس إضافة إلى قلة الكوادر التعليمية المؤهلة بسبب الهجرة والتشرد وعدم وجود الدعم المادي لهم وهذا عامل رئيسي. كما أن الكثير من المدرسين فصلوا من عملهم، وظلوا بدون رواتب لعدم دعمهم من المنظمات التعليمية، حيث اضطروا للذهاب إلى أعمال حرة من أجل تأمين لقمة العيش لأسرهم.
تهديد استقرار المنطقة
وفي هذه النقطة يؤكد الدكتور فايز نايف القنطار أستاذ سابق في جامعة دمشق في كلية التربية أن أول ضحايا هذه الحرب الإجرامية المستمرة هم الأطفال. ويتساءل القنطار كيف يمكن أن يعيش في القرن 21 هذا الجيل الذي حرم من التعليم وهو أبسط حقوق الطفل وهذا الخطر لا يشمل سوريا فقط بل يهدد أمن واستقرار المنطقة. ويحذر أن هؤلاء الأطفال المتسربين يمكن أن يصبحوا مرتعاً خصباً للتطرف والاستقطاب من قبل المنظمات الإرهابية؛ فالطفل الذي يترك المدرسة سيكون عرضة للاستغلال، وعرضة للعمل المبكر وعرضة لكل أشكال الإذلال والاهانة وسيكون الطفل مضّطرباً وغير متوازن ويعيش مهمشاً.
غرف صفية بدون أسقف
بينت نتائج تقرير أعدته وحدة إدارة المعلومات IMU (في وحدة تنسيق الدعم ACU) خلال عام 2019 لتقييم التعليم المشترك الخاص بالأطفال خارج المدرسة JENA في شمال غرب سوريا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري أن 66% (1.130.299 طفلاً) من الأطفال في شمال غرب سوريا ملتحقون بالمدارس؛ فيما كان 34% (582.239 طفلاً) منهم خارج المدرسة (متسربون من المدارس). كما رصد التقرير ظروف المخيمات الصعبة حيث تنقطع الطرقات في فصل الشـتاء في فتـرات هطـول الأمطار ممـا يجعـل وصول الطلاب إلى المدارس صعبـاً. وتشـير المعلومات أن ضمن مـدارس مخيمات الشـمال السـوري غـرف اسـمنتية مسـقوفة بلـوح توتيـاء (صفائح معدنيـة)؛ كما تواجدت مدارس مكونة من غرف اسـمنتية بدون أسـقف ويتم تغطيتهـا بعوازل مطريـة فقط؛ إذاً من خلال ما تقدم في معطيات التقرير، نجد أن البنية التحتية للمدارس في مناطق الشمال الغربي السوري لا تحقق المعايير الحقيقية في توفير بيئة تعليمية مناسبة للدراسة.
جيل في مهب المجهول
وبما أن البيئة التعليمية غير متوفرة في تلك المناطق، فإن للتسرب المدرسي آثاراً سلبية نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة على المجتمع. وتفشي هذه الظاهرة في سوريا، يثير قلق منظمات المجتمع الدولي، لما سوف تتركه من آثار كارثية ليس على المتسرب فقط بل على المجتمع ككل. فالتسرب يزيد من معدل البطالة وانتشار الجهل والفقر وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لذلك يرى الدكتور طلال عبد المعطي المصطفى أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً والباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة خلال حديثنا معه بأن كارثة التعليم هي واحدة من أخطر الكوارث التي ضربت المجتمع السوري، فانهيار التعليم الكمي والنوعي، وانخفاض عدد الكادر التدريسي المؤهل، وانعدام حوافز العملية التعليمية وضبابية أهدافها، بالإضافة إلى فقدان التمدرس الذي يشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة حاليا، سيضع مصير جيل كامل في مهب المجهول، ويضع مصير وطن ممزق أمام المزيد من الأزمات والانقسامات المقبلة.
ويصف المصطفى كارثة التعليم بالكارثة المزدوجة بمساريها الفردي والمجتمعي، وهي من الكوارث التي تترك آثاراً مديدة وتمتد إلى أجيال لاحقة لما يترتب عنها من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المديين القصير والمتوسط، وربما على المدى الطويل أيضاً، لذلك فردم الفجوة الحاصلة في التعليم هي من أولى المهمات لإعادة البناء البشري والمادي، وهي الاستثمار الحقيقي الأمثل القادر على ردم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق قاعدة صلبة يمكنها المساهمة الفعالة في عملية التعافي وإعادة البناء، وقهر العجز للوصول إلى حالة التنمية المستدامة.
تحديات
نحن أمام قضية خطيرة، قضية الأطفال المتسربين وجيل تم تجهيله بأكمله، وعلى ما يبدو أن هذا الأمر مقصود ومسيس بعد مرور10 أعوام على الأزمة السورية، فالأطفال الذين عاشوا الحرب بتفاصيلها وتركوا التعليم سيكونون لاحقاً عرضة للانحراف في ظل الفوضى الموجودة والسلاح المنفلت. ومن المؤكد أن الآثار التي ستنتج عن شريحة الأطفال غير المتعلمين ستكون كارثية وخطيرة وسيشكلون عالة على المجتمع في حالة عدم حصولهم على إعادة التأهيل والتدريب لهذه الفئة المتسربة من المدارس في مرحلة معينة وبالتحديد في مرحلة استمرار الحرب وتعطيل الحل السياسي، لذلك هذه الشريحة المغيبة إذا استمر الوضع على حاله سيرسخ لديها الميل إلى العدوانية والعنف الزائد، في ظل فقدان كامل للرعاية الأسرية اللازمة في هذا السن المبكر، أضف إلى غياب دور المنظمات الدولية، وعدم تخصيص شبكة ضمان اجتماعي خاصة بالأسر للحد من استغلال أطفالهم لغرض الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم وشخصيتهم. أما في حال حصول الحل السياسي وبالتالي السلام، فمن المفترض أن يكون هناك إعادة بناء في سورية على كافة الصعد ومنها الصعيد التعليمي والتأهيلي، وبهذه الحالة وبحكم العمر المتقدم لهؤلاء المتسربين من الضروري أن يخضعوا لدورات تعليمية مكثفة للكبار وتأهيل مهني حتى لا يكونوا ضمن الفئة المهمشة في المجتمع.
بواسطة الحسناء عدرا | مارس 7, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
في منتصف شهر آذار/2020 أعلنت وزارة الصحة السورية عن أول حالة إصابة بفيروس كوفيد 19، تعود لشخص قادم من خارج البلاد، وسط إجراءات صارمة للوقاية من انتشار الفيروس المستجد. هذه الإجراءات هي ذاتها أصبحت موضع شك وقلة ثقة تحكمان الشارع السوري، خاصة في ظل بلاد خرجت للتو من حرب امتدت لـ 9 سنوات، خلفت وراءها رضوضاً في الجسم الطبي واستنزفت طاقته، بدءاً من هجرة العديد من الكفاءات الطبية وصولاً إلى تدمير الكثير من المشافي والمستوصفات والبنى التحتية، لتأتي بعدها العقوبات الأمريكية لتشد الخناق على عنق الاقتصاد السوري مما حال دون استيراد جملة من الأدوية والمواد الخام الداخلة في الصناعات الدوائية.
هناك شبه إجماع لدى السوريين على عدم كفاءة وجاهزية المستشفيات العامة للتعاطي مع فيروس كورونا. وفي هذا الإطار قمتُ باجراء لقاءات مع عدة أطباء تحدثوا بشكل متضارب حول إجراءات التعقيم ونقص الأدوية والأطباء ومستوى الجاهزية وفق مشاهداتهم اليومية خلال فترة الجائحة. وتقول سهيل (طبيبة ـ 28 عاما ) التي فضلت عدم الكشف عن اسم المشفى الحكومي الذي تعمل فيه: “في بداية الجائحة كان الاهتمام ملحوظاً ومكثفاً، إذ كانت المستشفى تخضع للتعقيم اليومي والمستمر كل أربع ساعات، وجميع الأطباء والممرضين كانوا متحمسين ويلتزمون بالكمامات والقفازات مع تبديلها باستمرار، كما كان يمنع على المرضى الدخول بدون وضع الكمامة”. غير أن هذا الاهتمام خف تدريجياً نتيجة إصابة الأطباء والمرضى معاً بالملل وفقدان الحماس وسلموا أمرهم للعناية الإلهية، بالإضافة الى ترديدهم الجملة المعتادة: “لقد أصبنا بالفيروس ونجونا منه، لدينا مناعة لأشهر عديدة”، وفقاً لكلام الطبيبة.
تشير الطبيبة إلى مرور المستشفى بفترة من الفترات بمرحلة نقص في أعداد الكمامات، ما دفع الأطباء إلى شرائها على نفقتهم الخاصة، إذ تقول: “واجهت المستشفى نقصاً حاداً بكمامات نوع N95 كما كان يتم احتكارها من قبل الإداريين الذين هم أقل احتكاكاً مع المرضى، فيما وزعت الكمامات نوع 95 الأقل حماية على الأطباء ويسمح لنا بواحدة فقط مع أنه يتوجب علينا تبديلها كل 4 ساعات، وعندما اعترضنا على ذلك، كانوا يجيبون أن السبب هو وجود طلب كبير على الكمامات يقابلها عراقيل باستلام الكمامات جراء العقوبات الاقتصادية على البلاد”. أضافت أنها مرة سمعت إدارة المستشفى تقدم النصح بالمواظبة على الكمامات العادية والاكتفاء بها حالياً، لتستخدم الكمامات الأعلى حماية عند ذروة الجائحة والحالات الطارئة، وذلك حسب كلامها.
ولا تنكر سهيل وجود تعقيم على الدوام في المستشفى التي تعمل فيها، حيث يتم تغيير ملاءات السرير وتنظيف أعمدته وذلك عقب تخريج كل مريض(كورونا)، إلى جانب رمي كل الأدوات التي استعملها في القمامة. أما متابعة حالة المريض من قبل الأطباء فهذا أمر “نسبي”، إذ تقول: “هناك أطباء أنانيون كانوا يخشون على أنفسهم التقاط العدوى متجنبين الاحتكاك الكثير بالمصاب، فيكتفون بالاطمئنان عليه مرة واحدة يومياً، إلا إذا ساءت حالته، بالمقابل، يوجد أطباء يطمئنون على المريض كل ساعتين ومتأهبين طوال 24 ساعة”.
عانت معظم المستشفيات الحكومية لبرهة من الزمن من نقص في أدوية الالتهاب وفيتامين سي ودال الضروريين لرفع مناعة الجسم والكمامات والشاس المعقم وسيرومات (مَصل) طبية، إلى جانب أسطوانات أكسجين بمأخذين للهواء.
تتحدث نهاد عن تجربتها كطبيبة في مواجهة فيروس “كورونا” في مستشفى عام رفضتأيضاً الكشف عن اسمها، حيث تبدأ الشابة بالكوادر الطبية والضغط الشديد عليها، لاسيما في فترات الذروة التي شهدتها سوريا، وتقول: “في شهر 12 عام 2020، كانت الموجة الثالثةقد بدأت، فكنتُ وثلاثة أطباء في قسم العزل نواجه مشقات كبيرة من ناحية ارتفاع عدد المرضى مقابل عدد الأطباء، حيث كان لكل طبيب 5 مرضى وأكثر يتولى الإشراف عليهم، وهذا ضغط كبير علينا”، لافتة إلى قيام المستشفى في كثير من الأحيان باستدعاء أطباء من أقسام أخرى لتفادي حصول نقص في قسم عزل مرضى كورونا.
تحدي آخر واجه المستشفى عموماً، والطبيبة خاصة، هو التدهور المفاجئ لحالة المريض، ما يتطلب مهارة عالية في “التنبيب” وهو إجراء يتطلب مهارة عالية يتم من خلاله تأمين مجرى هوائي عبر إدخال أنبوب من الحنجرة إلى رئة المريض قبل وضعه واختيار إعدادات جهاز التنفس الاصطناعي المناسبة له، وتتابع حديثها: “أمر مرعب بالنسبة لنا كأطباء مواجهةمرض جديد ومجهول ومتحول، لا نعرف عنه شيئاً، خاصة في بلد كسورية ينتمي للبلدان النامية والتي خرجت منهكة من حرب طويلة، فاختيار الإعدادات المناسبة وفقاً لحالة كل مريض ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى خبرة ودقة عاليتين”.
“لقد أصبنا بالفيروس ولا داعي للتعقيم الشديد”، هذا هو المبدأ السائد لدى العديد من الأطباء في غالبية المستشفيات الحكومية وربما الخاصة أيضاً، وتقول الطبيبة جورجيت التي تعمل في إحداها متحفظة عن ذكر الاسم: “انطلاقاً من أن الجسم البشري أصيب بالعدوى، ويحتوي على أجسام مضادة تحميه لأشهر قادمة، فلا ضرورة للمغالاة في إجراءات التعقيم بالرغم من توفرها، هذا هو ما يفكر به العديد من الأطباء هنا”. وعن وضع التعقيم في المستشفى، تجيب الطبيبة بأنه: “سابقاً كانت الاجراءات صارمة وتتسم بالالتزام، لكنها الآن أصبحت عادية، لا تليق بوضع وبائي، كأننا في أيام طبيعية، وأصبح يُسمح بزيارة المصابين في قسم العزل والاختلاط معهم في الآونة الأخيرة”.
هذا الواقع الخدمي الطبي ليس معمماً بالضرورة، بل مازال شديد الصرامة لغاية الآن بالرغم من مرور عام على انتشار فيروس “كورونا”، إذ ينفي الطبيب باسل حصول إهمال وتقصير في المستشفى الذي يعمل فيه يومياً ويقول عن تجربته: “مازالت إدارة المستشفى تعاقب الكادر الطبي من غير الملتزمين بأساليب الوقاية، ويمنع منعا باتاً على الأطباء ممن يدخلون قسم العزل الاحتكاك مع زملائهم وعليهم التقيد بكافة وسائل التعقيم وعدم السماح للمصابين بمخالطة ذويهم وأقربائهم قبل شفائهم كلياً”.
بواسطة سحر حويجة | مارس 6, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
برر السفير الروسي في دمشق الكسندر يفيموف سبب عدم تقديم بلاده الدعم المالي للنظام السوري، وصرح أن الوضع صعب للغاية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، ووصف حال الاقتصاد السوري بالاستنزاف العام، وأضاف أنه رغم أهمية الدعم متعدد الأوجه، إلا أن روسيا تعمل على تعزيز جهودها العسكرية لمحاربة الإرهاب. ونوه أن روسيا نفسها تحت تأثير العقوبات، وتعاني ركوداً اقتصادياً بسبب جائحة كورونا، على الرغم من إعلان روسيا عن مشاريع استثمارية كبيرة في سوريا والتي لم تدخل حيز التنفيذ بعد.
ليس خافياً على أحد، أن سلسلة الأهداف التي تسعى لها روسيا من تواجدها في سوريا، تذهب أبعد من النظام واستمراره. ففي الوقت الذي يشكل لها النظام ضمان استمرار المصالح الروسية وتمددها، تشير الوقائع، على أنه كلما ضعف النظام واستنزف قدراته كلما قويت شوكة روسيا وازدادت مكاسبها العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث لا انفكاك ولا بديل للنظام السوري عن الدعم الروسي، خاصة مع زيادة الخناق على الدعم الإيراني للنظام، سواء بسبب العقوبات والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيران، أم بسبب الاتفاق على تحجيم الوجود الإيراني بالاتفاق بين أمريكا وإسرائيل وروسيا، عبر مسلسل طويل من الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية. هذا الواقع المعقد يجعل من حلم تمدد إيران وتوسعها في سوريا كابوساً؛ فالتواطؤ الروسي مع هذه الضربات يسعى لإضعاف وتحجيم إيران، وإعادة اقتسام الغنائم لصالح روسيا.
في الوقت ذاته تعمل روسيا على احتواء إيران، ووضعها تحت جناحيها لتدور بفلكها، بعد أن سدت جميع المنافذ بوجهها، و أضعفت هامش مناوراتها. فروسيا التي تسيطر على الأرض بقواعدها العسكرية، وتتدخل على الصعيد العسكري لخلق معادلات جديدة تزيد من نفوذها وتوغلها في مفاصل الحياة السورية وتدخلها في هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يضمن ويعزز سيطرتها.
سلم تطور العلاقات الاقتصادية الروسية مع سوريا
منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015عملت روسيا إلى جانب الدعم العسكري على تمتين العلاقات الاقتصادية التي كانت متواضعة بين الجانبين، وعملت على تأسيس علاقات اقتصادية طويلة الأمد. من المعروف أن دمشق احتفظت دوماً بعلاقات سياسية جيدة مع موسكو، لكن علاقاتهما الاقتصادية اكتسبت أهمية أكبر بعد اندلاع الاحتجاجات في 2011 ؛ فوفقاً لبيانات رسمية، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وسوريا في العام 2010 نحو مليار دولار أمريكي، لكنه ارتفع بعد اندلاع الاحتجاجات في عام 2011 إلى نحو 2 مليار دولار.
في عام 2013 وقعت الحكومة السورية اتفاقاً مع شركة “سيوزنفتاغاز” (Soyuzneftegaz) الروسية من أجل الحفر والتنقيب عن النفط والغاز، قبالة الساحل السوري، وفقاً لعقد يستمر لمدة 25 عاماً.
هذه الاتفاقية تحقق أحد أهداف روسيا للاستثمار في قطاع الطاقة السوري، حتى يكون لها حصة فيه بدلاً من التنافس معه، باعتبار أن سوريا مكان محتمل، لمرور شبكة أنابيب النفط والغاز إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، وهو ما يهدد هيمنتها على تصدير الغاز للقارة الأوروبية.
بعد أن تمكن النظام بمساعدة حليفيه روسيا وإيران، من استعادة سيطرته على نسبة 70 بالمائة من أراضي سوريا، وفي سياق عملية التفاوض المتعثرة، دخلت روسيا في سباق التنافس مع إيران، على اقتسام الكعكة السورية، وكان واضحاً أن روسيا تقبض ثمن كل خطوة تدعم بها النظام، واتجهت بقوة نحو الاقتصاد حيث استطاعت روسيا، استمالة حيتان المال، وصبت سيولتهم المالية في بنوكها، وعقدت ما شاءت من صفقات وعقود، ترهن فيها البلد لمصالحها.
أخذت تطالب النظام بمستحقاتها من الديون قبل أن يدخل قانون قيصر حيز التطبيق، وروسيا عالمة بحجم الخلاف بين حيتان المال ورامي مخلوف في الصراع على الحصص، والتنافس على النفوذ الاقتصادي. وتبين مع الوقت كيف أن روسيا أخذت تلعب على التناقضات القائمة بين مخلوف والسلطة، لتصل الى مبتغاها ليس المالي فحسب، بل السياسي أيضاً في سوريا.
واستغلت روسيا فترة السبات الانتخابي في أمريكا التي امتدت لمدة ستة أشهر، وأصابت السياسة الأمريكية الخارجية بالشلل، لتعزيز مكانتها واستثمار نفوذها وفرض وقائع جديدة، حيث زار لافروف على رأس وفد روسي دمشق وشدد حينها على أن إعادة الإعمار في سوريا لها أولوية، بعد أن انتصرت على الإرهاب بدعم روسيا.
وبالفعل، وقعت روسيا مع النظام عدة اتفاقيات استراتيجية، في مجال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر، كما وقعت “ترانس غاز” مع حكومة النظام اتفاقية لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً.
ولم تقتصر الاتفاقيات بين الطرفين على البترول والغاز والطاقة وحسب، بل شملت جوانب أخرى، منها الحبوب والأغذية، حيث بموجب هذه الاتفاقيات، أصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير مادة القمح لسوريا، إضافة إلى الاتفاق على بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص بكلفة 70 مليون يورو، ما يعني أن القمح الذي يشكل المادة الأساسية في قوت السوريين، بات بيد روسيا بشكل شبه تام.
إضافة لذلك حازت على اهتمام القيادة الروسية عقود إعادة الإعمار، وكشفت مؤسسة الإسكان على لسان مديرها “أيمن مطلق” على أنها توصلت مع شركات روسية إلى مراحل متقدمة من النقاش حول المشاريع الإسكانية. وأعلن في وقت لاحق ممثل مركز المصالحة الروسي، على أن بلاده تقوم بدراسة مشاريع، تتعلق بإعادة الإعمار، بهدف عودة اللاجئين. وهكذا استطاعت روسيا أن تعقد من الاتفاقات ما تريد، وترهن سوريا مقابل تعهدها بدعم وجود النظام، لكن لو فرضنا أنها تخلت عن النظام، ونكصت بوعدها هل بإمكان النظام أن يفعل شيئاً! إلى أين المفر! ما يراهن عليه النظام هو أن روسيا لن تجد بديلاً أفضل منه، ولن تتخلى عنه! إلا أن روسيا التي أبرمت هذه الاتفاقيات لتصبح أوراقا إضافية بيدها، فعلت ذلك لتثبت قدرتها على التحكم بالنظام والضغط عليه لتساوم المجتمع الدولي على مستقبل سوريا، بانتظار معرفة وجلاء الموقف الأمريكي الجديد، بقيادة الرئيس بايدن. نعم أبرمت روسيا هذه الاتفاقيات مع وقف التنفيذ، بحجة قانون قيصر الذي يسلط سيف العقوبات على الدول والشركات التي تدعم النظام السوري، فهي لن تستطيع إدخال المواد والأجهزة التي تمكنها من تنفيذ هذه المشاريع! أما النظام فما دفعه إلى إبرام هذه الاتفاقيات هو الأزمة السياسية والعسكرية والاقتصادية وضرورة تحقيق الاستقرار للبدء بإعادة الإعمار، خشية من تجدد اندلاع النزاعات المسلحة خاصة مع أمريكا.
استثمار روسيا للواقع الاقتصادي المزري لخدمة أهدافها
عمل النظام السوري بشكل مستمر على نقل عبء الأزمة الاقتصادية الخانقة، والعقوبات المفروضة عليه إلى عاتق الشعب السوري، حتى أصبح أكثر من 80 بالمائة منه مهدداً بالجوع، وصارت سوريا بأسفل قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. حاول النظام الاستثمار بوضع الشعب المزري، ودعا إلى زيادة الدعم والمعونات سواء من الدول على شكل مساعدات أو من اللاجئين بضخ العملة الصعبة إلى أهاليهم في سوريا لإنقاذهم من الموت جوعاً، حتى أن النظام استخدم وباء الكورونا من أجل الضغط على الخارج لدعمه ورفع العقوبات عنه. إضافة لذلك استغل النظام الوضع المعيشي الصعب وانهيار الاقتصاد وتفشي البطالة، لعسكرة الشارع والتجنيد في صفوف الجيش.
أيضاً عملت روسيا على استغلال الوضع الاقتصادي المذري، لتحقيق أهدافها في التغول أكثر في المجتمع السوري، وتعزيز نفوذها العسكري والأمني. فمنذ أن بدأت روسيا تدخّلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015 عملت على خضوع النظام السوري عسكرياً وأمنياً لقراراتها، لكن ذلك لم يمنعها من المضي في مسار موازٍ لتشكيل كيانات عسكرية تابعة لها، بصورة مباشرة، لضمان الولاء العسكري لها على المدى الطويل.
وتحقيقاً لهذه الاستراتيجية، شكلت روسيا فرقة النمر بقيادة الضابط البارز في قوات النظام سهيل الحسن، وأغدقت عليه العتاد والدعم. كما أنشأت الفيلق الخامس، الذي فتح أبوابه للمتطوعين والمنشقين سابقاً، وحتى للمقاتلين السابقين في صفوف الجيش الحر، ممن انخرطوا في التسويات والمصالحات في المناطق التي كانت يُهجَّر سكانها، وذلك كملجأ لهم يعيدهم إلى النظام، ولكنه يحميهم من انتقامه في الوقت نفسه. وبناء على ذلك يعد الفيلق الخامس تشكيلاً عسكرياً كبيراً، تابعاً للنظام السوري رسمياً، ويأتمر بأوامر قاعدة حميميم الروسية عملياً، ويتلقى من روسيا دعماً مادياً ولوجستياً وعسكرياً، ويوجد في عدة محافظات سورية.
تجنيد الشباب السوري كمرتزفة
إن البطالة والفقر المدقع والوضع الاقتصادي المزري، كانت من أهم العوامل لنجاح روسيا في تجنيد آلاف المرتزقة وإرسالهم إلى الجهة التي تريدها، بما يخدم مصالحها وسياستها التوسعية عبر العالم، حيث كشف تقرير مفصّل صادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، عن قيام شركات أمنية روسية بتواطؤ مع النظام السوري بتجنيد ما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل سوري، لغرض القتال في ليبيا، دعماً لقوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، ضد قوات “حكومة الوفاق”.
انتشرت عمليات التجنيد في كافة المحافظات السورية، ولاقت رواجاً كبيراً بدءاً من مدينة السويداء وانتقالاً فيما بعد إلى القنيطرة ودرعا ودمشق وريفها (جنوباً)، وحمص وحماة (وسط)، والحسكة والرقة ودير الزور (شمال شرق البلاد)
ورغم المصير الأسود الذي ينتظر هؤلاء المرتزقة، والنيل من سمعتهم وانتمائهم الوطني إلا أن الظروف الاقتصادية المزرية، والرواتب المغرية التي قدمتها روسيا لهم، كانت كفيلة بجذبهم وتجنيدهم ليشكلوا ظهيراً عسكرياً لدعم روسيا ليس في الداخل السوري فحسب، بل خارج الحدود.
الخلاصة
استنزفت روسيا النظام رغم الأزمة الخانقة التي يعيشها، حين طالبت بديونها ثمناً للسلاح الذي استخدم لاستعادة المناطق وحماية النظام. ورهنت سوريا عبر الاتفاقات والعقود والقواعد العسكرية، بالمقابل كان دعمها المالي والاقتصادي محصوراً بالقوى الموالية لها التي تأتمر بأمرها كقوات نمر والفيلق الخامس والمرتزقة. وبعد كل ما حصلت عليه وكل الوعود التي قدمتها لدعم النظام، أخذت تُحمل النظام مسؤولية الوضع الاقتصادي القائم، وتتخلى عن التزاماتها اتجاهه، لتترك الباب مفتوحاً على المساومات والضغوط بما يناسب مصالحها.