بواسطة طارق علي | يونيو 26, 2023 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
“العمل؟ اعمل؟ فرص؟، لا، لا، هذا لا يوجد في سوريا الجميلة، هنا تصل ليلك بنهارك، وتشحذ أنت وأهلك لتتخرج من الجامعة ثم أكبر عملٍ تقوم به هو أن تختار الجدار الأفضل في منزلك لتعلق شهادتك الجامعية عليه”. بحسرة بادية على وجهه يشكو المهندس المعماري علي غنوم (الذي تخرج قبل أربعة أعوام ولا زال دون عمل حتى الآن) من هذا الوضع خلال حديثه مع “صالون سوريا”. يحاول أن يخفي حسرته بابتسامة يبدو تعليلها ممكناً في السياق النفسي للسوريين الذين ذاقوا مرارة عيشٍ لم يشهده تاريخهم الحديث.
جيلا الثمانينيات والتسعينيات وجدا نفسيهما في مهب ريحٍ عاتية لم تسمح لهما بالحلم أساساً، ومن تمكن من خلق حلم لنفسه، لم يستطع تحقيقه.
من نافلة القول إنّ البلد التي ترزح تحت وطأة حرب غير مسبوقة دمرت معها أجيالاً كاملةً بمفاهيمها وعلومها وقدرتها على التغيير، وإن كانت نيّة التغيير تلك قائمة، ولكنّ ظروفاً أشد حجبتها وأرسلتها نحو عوالم يحكمها تأجيل المراد.
لم يكن الطريق أمام “صالون سوريا” صعباً خلال البحث بملف البطالة المتنامية، ولكن ما عقده هو احتدام التفاصيل المتشابهة بين أولئك العاطلين، فالجميع يملك القصة نفسها والأسباب والموجبات والشروط التي قادت إلى هذا الحال، ليصبح الخوض في الموضوع متطلباً لبحث أكثر تركيزاً لقراءة يوميات الناس بتأنٍ يكون معادلاً لحجم عذابهم في تأمين لقمة عيشهم.
لقمة مغمسة بالدم
مريم اسم مستعار لشابة من دمشق تخرجت قبل أعوام من كلية الآداب، قسم الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، سعت بصورة يومية متواصلة لتأمين فرصة عمل تواكب اختصاصها، ولكن دون نتيجة، حتى تمكنت من الظفر بوظيفة سكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة.
تقول مريم عن تجربتها: “كانت رحلة بحثي عن العمل مضنية، فيها من الذل والمصاعب والبشاعة الكثير، ولكن لا بد أن أعمل، أولاً أنا خريجة جامعية، وثانياً أنا وأسرتي نحتاج المال مثل كل أسرة في هذا البلد، علينا أن نعين بعضنا لئلا نموت من الجوع، حقيقةً لا أدري إن كنا متنا من الجوع أساساً، لكني أعرف جيداً أنّ الدمعة التي لا تفارق عيني أبي لأنّه لا يستطيع إطعامنا تعادل كل قهر الكون”.
رغم أنّ مريم وجدت فرصة عملٍ، ولكنّ الأمور لم تسر لاحقاً على ما يرام، وبالمناسبة فقلةٌ من السوريين يعملون باختصاصهم الأكاديمي، وهذا كان حال مريم، وعملها ذاك ظفرت به بعد أن أكلت شوارع دمشق من قدميها لشدة ما مشت وتنقلت وبحثت حسب وصفها؟
بعد أقل من شهرٍ تعرضت مريم للتحرش اللفظي والجسدي من قبل مديرها في العمل، انهارت أعصابها وقتذاك كما تشرح لنا، وعانت الأمرّين، وحوصرت بين نارين، نار مرارة الحاجة للعمل، ونار صعوبة إبلاغ أهلها بما حصل، وفوق ذلك كرامتها التي هدرت على مذبح الراتب الشحيح.
وتصف معاناتها: “في الفترة الأولى كان يتعامل معي بشكل أخوي ومهذب جداً، وفجأة حاول الاقتراب مني ولا أريد الحديث بالتفاصيل، حصل ذلك في مكتبه، خرجت باكيةً ورحت هائمةً على وجهي في الشوارع، أنا الآن خائفة، خائفة كثيراً، خائفة من أي عمل آخر ومن الناس”.
استعباد مهني
تبدو رواية قصة مريم ضروريةً في السياق، فأحياناً تتخطى المشكلة نفسها، وتتجاوز حدودها المنطقية وتتعداها لتصل إلى تبعاتٍ تشكل عقداً نفسيةً مستحدثةً تصيب الباحثين عن العمل، أو الظافرين به. أليس غريباً أنّه حين يُسأل أي سوريٍّ عن عمله، يقول إنّه غير مرتاح؟.
قد يبدو الأمر شمولياً في طرحه بهذه الطريقة ولكن في الحقيقة إنّ قطاعات العمل المتنوعة على قلتها في الداخل السوري لا تؤمن ارتياحاً وظيفياً للعامل، فهناك مشاكل لا حصر لها تواجه العاملين، ليس بدءاً من الراتب الذي يعادل متوسطه الشهري نحو 11 دولاراً وصولاً لمشاكل الإدارات القائمة على الأعمال والشركات والمؤسسات والصراعات الوظيفية المطردة، مروراً بشروط الاستعباد المهني، وعدم التقدير، وغياب العدالة، ومشاكل التأمينات الاجتماعية.
وفوق ذلك القانون الذي يتعامى عن ضبط السوق الضيق لحماية حقوق موظفيه على صعيد القطاع الخاص الذي يعاني موظفوه أكثر من القلق الوظيفي حيث أنّ غالبية العاملين لا تبرم معهم عقود واضحة تضمن حقوقهم.
إجحاف وظيفي
هناك شركات رائدة كمثل شركة مابكو للأجهزة الخلوية والصيانة تجعل موظفيها الجدد يوقعون على أوراق ومستندات فارغة، وتلك المستندات كفيلة بسجنهم لسنوات. القائمون على العمل يرون في ذلك الإجراء حماية لحقوقهم هم من السرقة والإساءة والخيانة المهنية، أما عن حقوق موظفيهم، فلا إجابة!.
وثمة شركات كبرى أخرى تجبر الموظف على توقيع استقالته في يومه الأول بالعمل وترفقه ببقية الأوراق لتتمكن لاحقاً، في أي وقت، من الاستغناء عن موظفها دون مشاكل، ضامنةً ألّا يطالب بأيٍّ من حقوقه التي تنازل عنها سلفاً باستقالته المسبقة.
هذان الإجراءان على الرغم من إجحافهما وعدم قانونيتهما وإمعانهما في الإساءة الوظيفية للعاملين، يبدوان اليوم مقبولين جداً دون اعتراضات تذكر لدى المتقدمين للوظائف.
القبول بأية شروط
فايز الحسين (خريج قسم التاريخ وموظف سابق في شركة لا يرغب بذكر اسمها لأسباب خاصة) كان قد وقّع على أوراق فارغة واستقالة مسبقة.ويشرح فايز ظروفه: “كنت مضطراً للقبول بذلك، ثلاثة أعوام بعد التخرج ولم أظفر بعمل، هذه الظروف تتكاتف عليك لتقودك نحو خيارات غير آدمية وعليك أن تقبل بها أو أن تظل في منزلك لتسند جدرانه وتستدين ثمن الدخان من الناس”.
خرج فايز من الشركة بعد أكثر من نصف عام لعدم تمكنه من الانسجام بعد أن أعطى نفسه عدة فرص، وخرج دون أية حقوق أو امتيازات أو تعويضات، وكان يعرف ذلك سلفاً، ويستدرك قائلاً: “الشركات السورية لو تستطيع لكانت أخذت منا المال أيضاً بدل أن تعطينا”.
دراسات تبدو وهمية
توقفت إحصاءات الموقع الرسمي لمركز الإحصاء السوري (التابع لرئاسة مجلس الوزراء والمعني بتقديم بيانات وإحصائيات تتعلق بمجالات متعددة من بينها تعداد السكان والنمو الاقتصادي والسياحة والبطالة وغيرها) عند الفترة الممتدة ما بين 2001 و2011. وهذا بحدّ ذاته يثير الاستغراب على اعتبار أنّ المركز يصدر إحصائيات بين وقت وآخر، ولكن ليس على موقعه الرسمي المعني بذلك أساساً، إحصائيات متباعدة زمنياً والعثور عليها يتطلب بحثاً معمقاً عبر محركات البحث على الانترنت.
بعد بحث مضنٍ توصل “صالون سوريا” لدراسة أصدرها المركز العام الماضي تتحدث عن انخفاض كبير في نسبة البطالة التي تراجعت من 31.2 عام 2019 إلى 20.9 بالمئة عام 2020، وهي الدراسة الأخيرة التي صدرت عن المركز في هذا الشأن، ولكنّ ما جاء فيها من أرقام يبدو غير منطقي بالنسبة لاقتصاديين كثر، سيما أنّ المركز قال في وقت سابق إنّ ذروة البطالة كانت في عام 2015 ووصلت حتى 50 بالمئة.
لا أحد يدري كيف وصل المركز إلى هذه الأرقام، وعلى ماذا بنى في استنتاجاته ومسحه إن كان أجراه فعلاً، فخريجو الجامعات صاروا أكثر عدداً من أن يستوعبهم سوق العمل مهما أجريت عليه من تعديلات وتحديثات وهي لم تجرَ عملياً.
يكفي في هذا الإطار الاستدلال بخريجي كلية الإعلام كأنموذج، فالكلية على مدار سنوات الحرب كانت تخرج مئات الطلبة، بيد أنّ في سوريا قناة واحدة تتبع للقطاع الخاص، فعملياً مجموع كل القنوات بين خاص وعام في سوريا هو 6 قنوات، مع عدد قليل من الإذاعات والمواقع الإلكترونية والصحف الرسمية، إذن، خريجون جامعيون في تخصص لا سوق عمل له عملياً، وعلى هذا يمكن القياس.
يقبلون بأيّ عمل
يعمل أحمد معتز (خريج كلية الاقتصاد) محاسباً في سوبر ماركت صغير بدمشق، يجد أنّ عمله لا يتماشى بأي شكل مع طموحه، ويبدو هذا طبيعياً، فلا شك أنّ أحمد لم يدرس الاقتصاد أكاديمياً ليعمل محاسباً في محل صغير. ورغم ذلك، فهو عانى كثيراً حتى وجد هذا العمل الذي اضطر لقبوله في ظلّ شح فرص العمل بل وشبه انعدامها أحياناً، بحسبه.
ومثله سمية مؤنس الحائزة على درجة الماجستير في الأدب العربي، بيد أنّها تعمل في مجال المبيعات في محل ألبسة لقريبها، تقول سمية: “لم أجد عملاً يتوافق مع اختصاصي ولا حتى لا يتوافق معه، أقصد عملاً جيداً، وتحت اشتداد ظروف الحياة والقهر المعيشي كان لا بدّ أن أعمل بأي شيء”.
وعلى سوء حال أحمد وسمية إلّا أنّ حظهما يبدو أفضل بكثير من آلاف الخريجين الجامعيين الذين لم يجدوا عملاً رغم تخرجهم منذ سنوات. وهذا حالٌ عام في سوريا، فالسوق الضيق مكتظٌ لدرجة الانغلاق، أقلّه أنّ الحرب جعلت ذلك السوق عاجزاً عن تلبية متطلبات الدارسين مهنياً، وإلّا ما الذي كان سيدفع كل تلك الأعداد من الشبان والشابات للهجرة براً وبحراً وجواً!
هذا كلّه دون الحديث عن غير الخريجين الجامعيين، أولئك الذين لسبب أو لآخر لم تتح لهم الظروف إكمال تعليمهم، وهو حال قائم كنتيجة ضرورية للحرب القاسية، أولئك الأشخاص لا سوق عمل لهم من الأساس، باستثناء المصالح المهنية التي يمكن أن يشغلوها، ورغم ذلك، فتلك المصالح حتى وصلت حالاً متردياً لا يمكن التعويل عليه.
توزيع الثروات بعدل
تبدو العقوبات الغربية كمثل قانون قيصر وغيره إضافة إلى سوء إدارة الملف الاقتصادي حكومياً والتشعب الميداني والسياسي في الملف السوري وفقدان سوريا لمقدرات اقتصادية أساسية، كلّها عوامل أسهمت في صياغة الواقع الحالي على الأرض، والذي انعكس بطالةً متناميةً في ظلّ معدل تضخم غير مسبوق وتراجع هائل بمستوى التنمية، أشياء دفع ثمنها جيل سوريا الشاب.
لا يمكن الحديث عن البطالة دون الحديث عن الأثر النفسي المصاحب لها، والذي جعل المجتمع السوري أكثر ألماً مع تتالي السنوات، فمن كان يتوقع أن يعمل مهندسٌ على بسطة لبيع الملابس! حصل ذلك مع المهندس جابر الخير ولتكتمل معه مشهدية الغرابة في بلده أزيلت بسطته ضمن قرار إزالة البسطات الذي نفذته محافظة دمشق في العاصمة مطلع شهر أيار/مايو الفائت.
وما بين عامل بغير اختصاصه وباحث عن عمل روايات كثيرة تحكى، روايات عنوانها: نريد أن نشعر بمواطنتنا وبالقليل من حقوقنا أمام ذاك الكمّ الهائل من الواجبات، ومع ذلك الشعور مطالب يصفها أصحابها بالأحلام، مطالب على شكل توزيع الثروات بعدلٍ أمام كل ما يكتنزه أمراء الحرب من امتيازات وثروات.
بواسطة رهف حبوب | يونيو 22, 2023 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
بين رأس المعري ومدينته التي تغنّى بها وولد فيها وحضنته بعد وفاته آلاف الكيلومترات، حيث يلجأ رأسه الآن في بلدة “مونتروي” في ضواحي باريس، بينما يرقد رفاته وما تبقى من تمثاله في معرة النعمان في ريف إدلب شمالي غرب سوريا. فكيف كانت رحلة الشاعر الفيلسوف بين ريف إدلب وضواحي باريس متكئاً على أكتاف سورية حتى لا يضل الطريق؟
قصة مدينتين.. معرّة النعمان وباريس
في عام 973 وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في معرة النعمان. محطته الأولى مع المآسي التي سترسم خطوط حياته كانت منذ الصغر حين أُصيب حين كان بين الثالثة والرابعة من عمره بمرض الجدري الذي أصابه بالعمى، ذلك لم يغير من سعيه لطلب العلم في كنف عائلته التي ضمت القضاة والشعراء والعلماء.
درس في حلب علوم الأدب والإسلام وسرعان ما بدأ مسيرته الأدبية قبل أن يتركه خبر وفاة والده مفجوعاً. استمر بعدها في مشواره الأدبي لكنه لم يغامر في الرحلات كما اعتاد الشعراء من معاصريه، بل لم يبتعد المعري عن مدينته إلا حين درس في حلب ثم سافر في شبابه إلى بغداد ومكث فيها نحو عام ونصف حتى بلغه خبر مرض والدته لكنها رحلت في طريق عودته.
اعتكف بعد ذلك المعري وهجر الناس وانصرف إلى أدبه وعكف عن الزواج ولُقب بـ “رهين المحبسين” وهما منزله وبصره المفقود، كما أنه امتنع عن أكل اللحوم وعاش في زهد حتى وفاته عام 1057 في معرة النعمان بعد أن أصبح أحد أشهر الأدباء في عصره وأبرز الشعراء السوريين على الإطلاق، تاركاً إرثاً أدبياً ضخماً من عشرات الدواوين والكتب ليرقد مثوى المعري في منزله الذي احتضنه كل حياته وذلك بعد أن أوصى بأن يكتب على ضريحه: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”.
علاقة الشاعر بمدينته وانتمائه إليها لم ينتهِ برحيله، بل امتد الارتباط الوثيق ولم يُفك الحبل السري بينهما وخاصة بعد أن عاد إلى رحمها. فعلى امتداد القرون اللاحقة حجّ كثير من أصحاب العلم والمهتمين بالآداب إلى البناء المجاور لضريح الشاعر حيث ترك أعماله وكتبه كاملة، ولم يسمّ ذلك المكان بمركز أبي العلاء المعري الثقافي إلا في عام 1944 خلال المهرجان الأدبي في ذكرى مرور ألف عام على مولد أبي العلاء المعري، والذي دُعي إليه أقطاب العلم والأدب من العالم العربي أبرزهم طه حسين. خلال ذلك المهرجان رُفع النقاب عن التمثال النصفي للشاعر المعري والذي كُلّف بصنعه حينها النحات السوري فتحي محمد ليوضع أمام المركز الثقافي في قلب المعرّة.
الواقع المرير
الإهمال ترك بصمته على المكان كما على المنطقة بأسرها خلال الفترات اللاحقة، لكن ابن المدينة بقي أحد أبرز معالمها والشكل الأبرز لهويتها التي اعتادت المآسي. ومع انطلاق الثورة السورية في آذار -مارس عام 2011 كانت المدينة من أوائل المنضمين إليها ما جعلها تواجه عنف النظام وبطشه الذي طال قصفه ضريح المعري عدة مرات وأحدث أضراراً فيه، لكن الحدث الذي سيعيد المعري إلى خارطة أذهاننا الحالية كان في عام 2013 حين قطع متطرفون رأس تمثال المعري في حركة وصفها كثيرون بالاغتيال المعنوي للمفكر الذي اتهمه كثيرون بالزندقة بسبب انتقاداته ومواجهاته مع المتطرفين في زمانه.
جسد تمثال المعري لم يسلم أيضاً حيث استقرت فيه عدة رصاصات أرادوا خلالها أن يضعوا نهاية لمكانة الشاعر في قلوب سكان مدينته واغتياله بعد مئات السنين على وفاته. بقي تمثال المعري مقطوع الرأس شاهداً على ما مر في واحدة من أكبر مدن إدلب، فيما استعاد المركز الثقافي خلال السنوات اللاحقة بعضاً من مكانته بمساعدة مبادرات فردية ومجتمعية للحفاظ على تراث المنطقة وإرث الشاعر الضخم.
عمر خشّان، مدير المركز الثقافي السابق في معرة النعمان، كان قد صرح في تقارير إعلامية عن قيمة أبي العلاء لمدينته وأهلها أنها قيمة روحية ولا تتجسد في قبر أو ضريح. في عام 2020 سيطرت قوات النظام السوري على معرة النعمان بعد حملة عسكرية دمّرت أجزاء واسعة منها وتسببت بتهجير أغلب سكانها ليبقى المعري في حضن مدينته لكن ضريحه والبناء الذي كان يوماً أحد أهم المراكز الثقافية في المنطقة تحول إلى بناء مهجور، لتتحقق مقولة شاعر الفلاسفة عن مدينته يوماً “إن المعرة والذي فلق النوى هي للغريب وأهلها الغرباء”.
شحّت الأخبار عن المدينة بعد نزوح أغلب أهلها فلم يصل إلينا إلا بعض التقارير والشهادات التي تتحدث عن إهمال المركز الثقافي والضريح رغم مكانته الرمزية بين الأهالي، كما تحدث أحد السكان السابقين للمدينة الذي نزح إلى إحدى القرى القريبة من المعرة إلى موقع صالون سوريا قائلاً: “إن المعرة تعرضت للنهب والدمار وغياب الحياة وتدمير البنى التحتية والذي لم يسلم منه ضريح المعري أو المركز الثقافي التابع له”.
بالتزامن مع ذلك وعلى بعد آلاف الكيلومترات تحديداً في باريس انطلقت في عام 2018 مبادرة مؤسسة “ناجون” التي يرأسها الفنان فارس الحلو لإعادة الاعتبار والمكانة الرمزية للشاعر أبي العلاء المعري، الحملة بدأت بجمع المساهمات من العديد من الأشخاص بينهم ناجون من المعتقلات السورية وفنانون ونشطاء وشعراء وغيرهم، ثم عهدت المؤسسة بصنع تمثال رأس المعري الضخم للنحات عاصم باشا في غرناطة حيث نُصب هناك لسنوات قبل أن ينتقل إلى وجهته الجديدة.
المحطة الأخيرة حتى الآن في رحلة تمثال رأس المعري كانت في بلدة مونتروي الفرنسية حيث نُصب العمل الفني الضخم الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3 أمتار في ضواحي باريس مؤخراً، بعد أن وافقت البلدة على لجوئه إليها، فارس الحلو صرّح أن العمل علامة ثقافية سورية على أن ينقل إلى مسقط رأس الشاعر معرة النعمان بعد إحلال السلام والعدالة في سوريا.
المنظمة تقول إنها اختارت المعري الذي قال يوماً “لا إمام سوى العقل” كونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير ومركزية العقل، إضافة إلى كونه مثالاً للمثقف الذي لا يخضع لأي سلطة، كما أرادت المنظمة التركيز على دعوته إلى ضرورة النقد الاجتماعي والثقافي ومواجهة المتطرفين.
كما أن المؤسسة تسعى من خلال المبادرة إلى تأسيـس بصمة ثقافية ســورية في الخارج، لتكون إحدى عوامل الضغط من أجل تحقيق العدالة في سوريا، كما تم إهداء التمثال إلى كل المناضلين والمغيّبين في كافة المعتقلات السورية والعالم، في محاولة أن يكون تمثال نجاة المعري ومعه أمل بنجاتنا جميعاً.
قيمة في مكانين
ربما يتساءل البعض عن أهمية مثل هذه الخطوة الرمزية، وكيف لرأس شاعر الفلاسفة -كما يلقبه البعض أن يترك أثراً على خطوط الهوية الثقافية السورية؟
في حديثنا مع الصحافي السوري المهتم بالشأن الثقافي السوري معتز عنتابي، أكّد أن نقل رأس المعري إلى باريس أعاد الاعتبار للشاعر وغيره من المفكرين الذين تعرض إرثهم الثقافي لمحاولات طمس متكررة حيث أن التمثال هو أول عمل فني سوري طوعي بهذا الحجم ويرسخ أهمية الرموز السورية التي تدعو إلى حرية السؤال والتفكير والتعبير، كما ركز عنتابي على أن تلك الخطوة تسلّط الضوء من جديد على التاريخ الفكري لهذه البقعة الجغرافية، حيث أراد القائمون على هذه المبادرة التذكير بإرث سوريا الثقافي والرموز الفكرية المعبرة عن هذا الإرث، في ظل ارتباط اسم البلاد خلال العقد الأخير بالنزاعات المسلحة والأزمات المعيشية، كما أن اختيار مدينة باريس الفرنسية مكانًا لعرضه يعبّر عن هروب ملايين السوريين نحو دول اللجوء وسعيهم للمحافظة على تراث بلادهم من النسيان.
في النهاية حصل السوريون على رصيد فني وثقافي في أوروبا في وقت يسعون فيه إلى أن يكون ذلك التمثال بمثابة “رسالة الغفران” للمعري عن المآسي التي عايشها ضريحه وتمثاله في بلده الأم.
بواسطة نادر عقل | يونيو 19, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
مع بداية كل موسم جديد، يفكِّر الفلاحون بتهيئة قطع صغيرة من الأرض متناثرة هنا وهناك في القرى الجبلية الساحليّة، من أجل زراعة شتلات التبغ استعداداً لتنميتها للحصول على موسم قد يُساعد هذه الطبقة الكادحة في مواجهة زوابع الفقر والجوع والحرمان.
تبدأ العمليّة بفلاحة الأرض، إما بوساطة الحيوانات أو جرّار زراعي، ثم تترك إلى شهر آذار حيث تُوضع كميات من السماد الطبيعيّ على وجه الحصر؛ لأنَّ السماد الكيماوي يُفقد التبغ نكهته ومذاقه الفريد، وتتفاضل أنواع السماد الطبيعيّ فأفضل الأنواع هو “بعر الماعز” ثم “بعر الغنم” وأخيراً “روث الأبقار”. وترجع جودة بعر الماعز كسماد للتبغ؛ لأنَّ غذاء الماعز من الأشجار الجبليّة التي يكون بعضها عطراً، فتعطي فضلات الماعز شتلات التبغ غذاء ممتازاً، فتصبح أوراق النبات ناعمة وممتعة للمدخنين؛ ولذلك أصبحت تجارة السماد الطبيعيّ ناجحة إلى حدّ بعيد، نظراً إلى حيويتها وأهميتها في يتعلّق بزراعة التبغ.
بعد أن يُفرش السماد الطبيعيّ على قطعة الأرض المُراد زراعتها في شهر آذار كما سبق القول، يقوم الفلاح بحراثة أرضه مرة أخرى من أجل أن يختلط السماد بالتربة على نحوٍ جيد، ويكون الفلاح قد جهّز ما يُسمّى باللغة الدارجة “المساكب”، وهي مكان من الأرض الزراعية يتراوح عرضه بين متر أو أكثر وطوله بين مترين أو أكثر، يقوم الفلاح بتكويم التراب فيه ليعلو فوق سطح التربة الطبيعية للأرض، ويبذر فيه بذور التبغ، ثم حينما تنمو الشتلات وتبلغ قدْراً معيناً من الحجم “يقلعها” من “المسكبة” ويزرعها في الأرض التي كان قد حضّرها مسبقاً في خطوط متلاحقة على امتداد الأرض، وتبعد عن بعضها بعضاً مسافات متناسبة، ويقوم الفلاح بسقاية التبغ والعناية به ومكافحته من الآفات على نحو مستمر، وإلا خسر موسمه.
ولقد قال لي أحد المزارعين إنَّ حبّات البَرَد تساقطت مرة على حقله، فتلفت شتلات التبغ كلّها؛ ولكنه ابتسم ابتسامة ماكرة، وقال: لم يستطع الطقس العنيف أن يدفعني إلى اليأس، فقد وجدتُ حلّاً، إذ قمت بقصّ شتلات التبغ كلّها من على وجه الأرض، ثم عادت ونبتت من جديد، وكان موسمي منها من أفضل مواسمي على الإطلاق.
حينما يأتي موسم قطاف أوراق التبغ في شهري تموز وآب يبدأ الفلاح هو وأسرته بقطفها ووضعها في سلال ثم نقلها إلى فسحة خاصة أمام منزل الأُسرة، يجلس بعد ذلك أفراد العائلة ويستخدم كلّ واحد منهم ما يُسمّى باللغة الدارجة “مِسَلَّة” وهي سيخ حديدي رقيق عرضه 1 سم وطوله 20 سم فيه ثقب من جهته الخلفيّة ومدبّب الرأس من جهته الأمامية مثل الإبرة، يوضع فيه خيط من القنّب ويُعقد ويتمّ شكّ أوراق التبغ بهذه “المِسلَّة”، ويُمرّر فيها خيط القنّب من رأس الورقة فتتخاصر الأوراق على الخيط، وتُراعى في عملية الشك أمور منها حجم الأوراق، فالأوراق القريبة الحجم من بعضها بعضاً تُشك في خيط واحد، وتستمر العمليّة حتى ينتهي استيعاب الخيط، ويتراوح طوله بين المتر أو المترين أحياناً. ومن هنا جاء اسم أحد أجود أنواع التبغ في سوريا وهو “شَكّ البنت”. إذ كانت البنات في القرى يساعدن أهاليهن على شك هذا النوع وهو المعروف أيضاً باسم التبغ البلدي؛ ولكن غلب عليه هذا الاسم الجميل “شك البنت”.
بعد أن تنتهي عملية شك أوراق التبغ وهي عملية مرهقة تستمر عدّة أيام، إذ إنَّ الفلاح لا يقطف الأوراق دفعة واحدة بسبب تفاوت نضوجها، فما يجب قطافه هو الأوراق التي أصبح لونها أصفر؛ أما الأوراق الخضراء، فتُترك إلى حين إصفرارها ثم تقطف. إذن، بعد أن تنتهي عملية شك الأوراق تُنقل خيوط التبغ، أي الخيوط التي تمَّ تعليق أوراق التبغ عليها إلى الخارج من أجل تعريضها لأشعة الشمس: فإما أن تُسطَح على الأرض ويتم تقليبها كلَّ يوم أو أو تعلّق بطرق مختلفة فوق الأرض، أو أن تُدلّى من أغصان الأشجار بحيث يشملها الظل، وهذه هي الطريقة الأفضل كما قال أحد المزارعين، وتبقى الأوراق على الأرض أو معلّقة حتى يتحوّل لونها من الأصفر إلى لون بني مُشرب بالحمرة، وتحتاج إلى شهر ونصف أو إلى شهرين من أجل بلوغ ذلك.
يقوم الفلاح بعد ذلك بجمع خيوط التبغ ويُشترط في ذلك أن يجمعها عند الفجر حتى تكون الأوراق طريّة مرنة، بسبب قطرات الندى، أما إذا جمعها الفلاح في الظهيرة مثلاً، فيمكن أن تتفتت الأوراق لأنها تكون يابسة بفعل حرارة الشمس فيخسر موسمه كلّه. هذا، وبعد أن يجمعها يقوم بترتيبها وتصنيفها ووضع خيوط التبغ فوق بعضها بعضاً على هيئة ما يُسمّيه الفلاحون “الشَبْحَة” وتُغلّف بغطاء أو كيس كبير مصنوع من البلاستيك وتُوضع خيوط التبغ داخله بترتيب معيّن ثم يُطوى عليها من أجل حفظها وتخميرها، ويكون ذلك طبعاً في مكان خاص (غرفة جانبيّة مثلاً) وتُترك أوراق التبغ من أجل التخمير ستة أشهر على الأقل.
بعد كلّ هذا العناء لا يحقّ للفلاح أن يبيع تبغه بالسعر الذي يراه مناسباً، وهذه هي المفاجأة الصاعقة؛ لأنَّ شركة حصر التبغ والتنباك التي يسمّيها مزارعو التبغ في سوريا (الريجي) تحتكر تجارة التبغ ولا تسمح لأيّ شخص بأن يتاجر بالتبغ وإذا فعل سيتعرض لعقوبات تصل إلى السجن ودفع غرامات ماليّة كبيرة، ولذلك تبعث هذه الشركة “خبراء” يقدّرون مدى جودة التبغ، وعلى هذا الأساس يصرفون مبالغ مالية للمزارعين الذين عملوا بإخلاص كامل من أجل الحصول على مبالغ مالية تافهة لا تتناسب مع جهودهم.
ولكن يقوم بعض مزارعي التبغ بإخفاء كميات من تبغهم عن مراقبي “الريجي”، ويبيعونها في السوق السوداء، ويتراوح سعر الكيلو غرام من ثلاثين ألف ليرة سورية إلى مئة ألف ليرة سورية، حسب جودة التبغ؛ ولكن الآن بدأت عملية مراقبة بيع التبغ في السوق السوداء من قِبَلِ الدولة، فأيّ شخص يُلقى القبض عليه وهو يقوم ببيع التبغ يتعرض إما للسجن أو لدفع غرامات مالية بأرقام كبيرة، فهناك تضييق حقيقيّ على مزارعي التبغ.
والأسوأ من ذلك أنَّ شركة حصر التبغ والتنباك في سوريا (الريجي) لم تنجح على مدى عشرات السنين في إنتاج أي نوع من التبغ صالح للتدخين، علماً أنَّ تبغ جبال الساحل السوري من أجود أنواع التبغ في العالم، ومردّ ذلك أنَّ الأنواع الجيدة من التبغ يتم تصديرها إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة، وقد استطاعت الدولة أن تحصّل مبالغ طائلة من وراء تصدير التبغ إلى الخارج، علماً أنها لا تعطي مزارع التبغ ما يسدّ رمقه. أما الأنواع الرديئة من التبغ فيتم تصنيعها وتباع للمواطنين داخل سوريا؛ ولكن نظراً لرداءَتها اتجه المواطنون إلى شراء التبغ المُهرَّب عبر الحدود؛ ولكن حتى تهريب التبغ أصبح حكراً لأشخاص محدّدين من المقرّبين للسلطة، فما أحلاها من مهزلة ليس لها مثيل في تاريخ التبغ منذ الهنود الحمر الذين اكتشفوه إلى يوم الناس هذا.
يُعدُّ غريباً؛ بل عجيباً أن تُصادر حياة مزارع التبغ إلى هذا الحدّ، فشركة حصر التبغ والتنباك تفرض عليه زراعة أنواع محددة من التبغ، وتشتريها منه بالسعر الذي تحدّده، وتتحكم بمصيره تحكماً مطلقاً. والحقيقة أنَّ ما تفعله شركة حصر التبغ والتنباك هو استمرار لما فعله المشرفون على زراعة التبغ زمن الاحتلال العثماني وزمن الانتداب الفرنسي، فالعثمانيون والفرنسيون كانوا يعرفون مدى الأهمية الاقتصادية لزراعة التبغ في جبال الساحل السوري، فقمعوا المزارعين واستغلوهم وما زال هذا الاستغلال مستمراً، والأدهى من ذلك أنه حينما تمَّ تأميم شركة حصر التبغ والتنباك في سوريا عام 1951، تركت الحكومة آليات عمل الشركة دون أي تغيير، أي أنها تركت زراعة وصناعة وتجارة التبغ من مهامها التي لا ينافسها عليها أحد، وإن فعل سيُعاقب كما كان يُعاقب زمن الاحتلال العثماني وزمن الانتداب الفرنسيّ.
ولكن رغم كلّ هذه الضغوط ما زال القرويون يدخنون نبات التبغ مستمتعين به إلى أقصى حدّ، محاولين تأمين مؤونتهم منه بوسائل شتّى مخالفين ومتحدّين في آن شركة حصر التبغ والتنباك؛ مثلما تحدّوا شركة حصر العقول والنفوس!!! بل هناك أشخاص برعوا في صناعة سيجار يضاهي السيجار الكوبي، وهو يصنّعونه ويبيعون كميات قليلة منه سرّاً خوفاً من إلقاء القبض عليهم بتهمة الإضرار بالاقتصاد الوطني؛ الذي تهكم مرة الشاعر نديم محمد على وزيره في أبيات منسوبة إلى هذا الشاعر الكبير:
يا وزير الاقتصاد الوطني بالله قل لي كيف أصبحت غني
لم تهاجر لم تتاجر لم ترث عن أبيك الفذ غير الرسن
ولسوف نعثر على في سوريا على تجارب إنسانيّة تؤكد تأكيداً عميقاً جداً أنَّ جوهر الإنسان، يُعاد اكتشافه من جديد، أعني الإنسان بما هو إنسان، من دون انتمائه إلى عرق ولا طائفة ولا قبيلة، فجوهره هو ذلك الموجود الذي ينفث دخان لفافة تبغه في وجه الطغاة في الخارج والداخل الذين دمّروا حياته غير عابئ بهم، لأنه يبني انبثاق عالمه القادم من كفاحه وحيداً ضدهم، ولكن هذا الكفاح لا يظهر للعين غير الخبيرة، لأنه كفاح ليس من أجل قضية بعينها؛ بل من أجل الوجود، أو الاستمرار في الوجود.
بواسطة عامر فياض | يونيو 11, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لطالما تغنَّت سوريا قبل الحرب بمجتمعها الفتي، إذ كان الشباب يُشكلون النسبة الأكبر من إجمالي عدد السكان. لكن تلك النسبة بدأت تتراجع منذ عام 2011 وحتى اليوم، على حساب تزايد نسبة كبار السن، وذلك نتيجة عوامل كثيرة أوجدتها ظروف الحرب الطويلة وتَبعاتها، وهو ما سيترك آثاره السلبية على مستقبل البلاد التي بدأت تعاني خللاً ديموغرافياً يتفاقم يوماً بعد يوم.
حتى عام 2010 كانت معدلات الوفيات في سوريا لا تتجاوز 4،4 من كل ألف نسمة، وخلال سنوات الحرب ازدادت تلك المعدلات لتصل إلى 10،9. وقد شكلت فئات الشباب، خاصة من قتلوا في المعارك الحربية، النسبة الأكبر من حجم الوفيات. كما أدت الحرب وما خَلَّفته من نزوحٍ ودمارٍ إلى إحداث موجة هجرة كبيرة أفقدت البلاد ملايين الشباب، حيث ازدادت معدلات الهجرة بين عامي 2013 و 2017 لتصبح 70،5 من كل ألف نسمة، فيما كانت عام 2010 لا تشكل سوى 4 من كل ألف. وبحسب تقارير الأمم المتحدة لجأ، خلال سنوات الحرب، أكثر من خمسة ملايين سوري إلى دول الجوار، ثلثهم من الأطفال، فيما لجأ نحو مليون إلى بلدان أوروبا، هذا إلى جانب هجرة مئات الآلاف إلى أماكن مختلفة من العالم، حيث صُنفت سورية ضمن الدول الأكثر تصديراً للاجئين في العالم. ومن المعروف أن النسبة الأكبر من المهاجرين كانت من فئة الشباب، ومن الأُسر التي كان أبناؤها في عمر الطفولة أو المراهقة.
ورغم توقف العمليات الحربية في معظم المحافظات السورية إلا أن هجرة الشباب عادت خلال العامين الماضيين لتنشط بشكلٍ كبيرٍ، وذلك نتيجة تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي – الذي جعل 90% من السوريين يعيشون تحت الفقر- وغياب أبسط متطلبات الحياة، وانعدام فرص العمل، وتراجع مستوى الدخل – في ظل التضخم الكبير الذي أدى لانهيار قيمة الليرة- وغياب أي مستقبلٍ واضح. وقد لوحظ خلال العام الماضي حجم الاقبال الكبير على فروع الهجرة والجوازات في مختلف المحافظات لاستخراج جوازات السفر، حيث شهدت تلك الفترة سفر آلاف الشباب إلى بعض الدول، كالإمارات ومصر والعراق/ أربيل، لمجرد منحها بعض تسهيلات السفر للسوريين. وتتوقع الكثير من الدراسات هجرة مئات آلاف الشباب في السنوات القادمة إذا ما بقي الواقع على حاله، حيث أصبح خيار السفر الحديث الشاغل بين الشباب والحلم الأول عند الكثير منهم، وقد باتت كثير من الأسر تُجهِّز أبناءها للسفر، فور انتهائهم من الدراسة، أو حتى لإكمال دراستهم في الخارج.
تراجع معدلات الزواج
سنوات الحرب الطويلة وانخراط نسبة كبيرة من الشبان في العمليات العسكرية، التي أبعدتهم عن الحياة المدنية وأشغلتهم عن التفكير في الزواج، ومن ثم تدهور الواقع الاقتصادي الذي أدى لارتفاع تكاليف الزواج وصعوبة تأمين المسكن والشروط المعيشية التي يحتاجها بناء الأسرة. كل ذلك، إلى جانب الخلل الديموغرافي الذي أحدثته هجرة الشباب، أدى لانخفاض معدلات الزواج بشكلٍ غير مسبوق، فبينما تم تسجيل نحو 228 ألف عقد زواج في عام 2010، لم يُسَجل في عام 2017 سوى 100 ألف عقد. وبحسب ما نشرته صحيفة البعث الحكومية، قبل ثلاثة أعوام، فإن نسبة العنوسة وصلت إلى نحو70% ، وهو رقم يزداد يوماً بعد يوم، فيما تحدثت بعض الاحصائيات عن وجود ثلاثة ملايين امرأة تجاوزن الثلاثين عاماً دون أن يتزوجن. وقد شَكل تراجع أعداد الذكور في البلاد عبئاً ثقيلاً على الإناث اللواتي ازدادت نسبتهن خلال الحرب وباتت فرص زواجهن تتراجع يوماً بعد يوم، وهو ما دفع القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي لكي يُشجع – عبر تصريحٍ له عام 2017- على خيار تعدد الزوجات، كحلٍ وحيد للحد من تفشي ظاهرة العنوسة.
وبما أن الزواج يُعتبر العامل الأساسي في زيادة نسبة الشباب مستقبلاً، كونه الطريقة الوحيدة للإنجاب في بلدٍ كسوريا، فإن تراجع معدلاته سيؤدي لتراجع معدلات إنجاب الأطفال/ شباب المستقبل.
وعن سبب عزوفه عن الزواج يحدثنا الشاب أسعد (38 عاماً) الموظف في شركةٍ للشحن والحوالات: “بات الأمر مستحيلاً، ويحتاج لملايين الليرات، بين تجهيزات منزل الزوجية وتكاليف العرس والمصاغ الذهبي. وإذا ما تم الزواج فسأعجز عن بناء أسرة في ظل هذا الظروف الاقتصادية المتردية، إذ كيف سأنجب طفلاً ودخلي المتدني لن يكفيه ثمن الحليب والحفاضات؟”. ويضيف”: إذا ما فكرت يوماً في الزواج فلن يكون في هذه البلاد التي سيتحول فيها إلى عبءٍ ثقيلٍ، في ظل فقدان الشعور بالاستقرار والراحة النفسية، وغياب أي مستقبلٍ واضح أو أملٍ بأي فرج قريب”.
يعيش أسعد مع الفتاة التي يحبها في شقةٍ صغيرة، يتقاسمان دفع إيجارها إلى جانب متطلبات المعيشة، حالهما كحال كثير من الشباب الذين لجؤوا لخيار المُساكنة كحلٍ بديلٍ عن الزواج الذي لا يستطيعون إليه سبيلاً.
وإلى جانب العزوف عن الزواج ازدادت معدلات ارتفاع سن الزواج بشكل كبير، حتى ضمن المجتمعات التقليدية التي كان شبابها يتزوجون في أعمارٍ مبكرة، وهو ما سيقلل فرص المتزوجين في الإنجاب، خاصة النساء اللواتي ستتراجع معدلات خصوبتهن مع التقدم في العمر.
“كنت أحلم بإنجاب ثلاثة أطفال، لكن حلمي بات يقتصر على إنجاب طفلٍ واحدٍ، بعد أن تجاوزت سن الأربعين. في عام 2013 كنت في علاقةٍ عاطفيةٍ مع شابٍ سافر إلى أوروبا على أمل أن ألحق به لنتزوج هناك ونُشكل عائلة. انتظرته ثلاث سنوات، لكن الظروف حالت دون أن نلتقي مرة أخرى فافترقنا”. هذا ما تقوله المُدرسة رحاب (41 عاماً) التي تزوجت قبل نحو عام برجلٍ لا تربطها به أية علاقة عاطفية، لكنه كان خيارها الوحيد لكي تنجب طفلاً قبل أن يفوتها قطار الأمومة. رحاب التي ستضع جنينها بعد أربعة أشهر، تعاني ظروف حملٍ صعبة ومتعبة، وإن ولِدَ جنينها بخيرٍ فلن تفكر بالحمل مرة أخرى لأنه سيشكل مخاطر كبيرة على صحتها وسلامة الجنين.
تراجع معدرلات الإنجاب
رغم مرور ثماني سنواتٍ على زواج الفنان التشكيلي حازم (37 عاماً) لم يفكر وزوجته حتى اليوم في إنجاب طفل. ويوضح سبب ذلك بقوله:” تزوجنا خلال الحرب، فكان الخطر والخوف من الموت يتربصان بنا في كل مكانٍ وزمان، ويجعلان خيار مغادرة البلاد يراودنا كل يوم، وهو ما منعنا من إنجاب طفلٍ قد تكون حياته مهددة في أي لحظة، وتنعدم فيها أبسط مقومات الرفاهية والصحة النفسية والشعور بالأمان”. ويضيف حازم:” اليوم، ورغم زوال خطر الحرب، يبقى خيار الإنجاب مستبعداً في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تجعلنا عاجزين عن تأمين حياةٍ مناسبة ومستقبل جيدٍ لطفلنا. وإذا ما فكرنا في الإنجاب فيما بعد فسنكتفي بطفلٍ واحدٍ فقط”.
أسباب مشابهة تجعل الموظفة نورا (34 عاماً ) تعزف عن إنجاب الأطفال. تحدثنا عن بعضها: “رؤية الأطفال المتسولين والمشردين في الشوارع تؤلمني فأشعر بالذنب إذا ما فكرت في إنجاب طفلٍ إلى هذه الحياة، ليعيش منذ أيامه الأولى في ظل الفقر والحرمان والأذى النفسي، ولتقتصر أحلامه على الحصول على أبسط حقوقه الطبيعية التي يحتاجها أي إنسان”. وتضيف نورا المتزوجة منذ نحو أربع سنوات: “الضغوطات النفسية والمعاناة التي نعيشها يومياً تجعلني غير مهيئة جسدياً ونفسياً لكي أكون أماً. أعمل أنا وزوجي لنحو تسع ساعات يومياً لنتمكن من توفير قوت يومنا، وإذا ما أنجبنا طفلاً فلن يكون باستطاعتي حتى أن أحصل على إجازة أمومة”. ونتيجة لذلك يؤجل الزوجان فكرة الإنجاب إلى ما بعد سفرهما المنتظر إلى خارج البلاد.
ربما يلخص كلام حازم ونورا واقع حال آلاف الأزواج الذين عدلوا عن فكرة إنجاب الأطفال نتيجة ظروف الحرب التي غيَّرت عادات الإنجاب لدى مختلف طبقات المجتمع، إذ تشير بعض الاحصائيات إلى تراجع معدلات الولادات من 38،8 بالألف، في عام 2010، إلى 25،4 بالألف عام 2019، فيما تراجعت معدلات الخصوبة عند النساء المقيمات داخل سوريا إلى 60% ، فبحسب دراسة نشرتها صحيفة قاسيون السورية المحلية منتصف عام 2019، فإن نسبة إنجاب الأطفال عام 2010 كانت بمعدل 17 طفل لكل 100 امرأة في عمر الخصوبة، خلال العام الواحد، فيما تراجعت تلك النسبة لتصل إلى 6،6 طفل لكل 100 امرأة، وبالتالي فقد خسرت كل 100 امرأة أكثر من عشرة أطفال، كان من الممكن إنجابهم فيما لو بقي معدل الإنجاب كما كان قبل الحرب.
وإلى جانب ما سبق أسهم ارتفاع معدلات الطلاق خلال الحرب في تراجع معدلات الولادة، فبحسب صحيفة الوطن السورية المحلية، وصلت نسبة الطلاق عام 2017 إلى 31%، فيما سجلت المحكمة الشرعية في دمشق عام 2015 نحو 7028 حالة طلاق، مقابل تسجيل 5318 حالة في عام 2010. وتعود أسباب الطلاق لغياب كثيرٍ من الأزواج عن بيوتهم خلال الحرب لفترات طويلة – نتيجة انخراطهم في المعارك القتالية، أو فقدانهم وعدم معرفة مصيرهم- وتشتت كثير من العائلات والأسر السورية خلال ظروف النزوح، بالإضافة لتدهور الواقع المعيشي الذي جعل بعض الأزواج غير قادرين على إعالة أُسرهم أو تأمين المسكن المستقل، الذي يعتبر من أهم أركان الاستقرار الزوجي، هذا إلى جانب هجرة العديد من الأزواج دون زوجاتهم، وعدول بعضهم عن فكرة لم الشمل بعد مرور سنوات على سفرهم.
ما ذُكر أعلاه قد يجعل سوريا مستقبلاً بلداً للعجائز، ويُضعف إمكانية تعويض النقص الحاصل في نسبة الشباب والفئات العمرية الصغيرة، ليصبح عدد من يحتاجون للإعالة يفوق عدد المعيلين المنتجين، كما سيؤدي إلى تراجع معدلات النمو السكاني في البلاد التي ستحتاج مستقبلاً لطاقات شبابها وأفكارهم ومشاريعهم أكثر من أي وقت مضى.
بواسطة سلوى زكزك | يونيو 8, 2023 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
يغمرني فرح هائل، أستقل سرفيس جرمانا–باب توما من موقف فرعي، بالصدفة كان فارغاً ومن فرط سعادتي أقنعت نفسي بأنه توقف هنا خصيصاً من أجلي.لا أصدق أن ذلك قد حصل معي فقد ثبّتت أزمة المواصلات في أذهاننا استحالة تخيل أننا سنشغل يوماً ما مقعداً فارغاً ومريحاً ولو في حافلة متهالكة. كالعادة كان الباب الأمامي مقفلاً، المقعدان الأماميان محجوزان دوما للشقراوات، (حتى لو صبغة)، هو ليس تنمرا أبداً، لكنه سر تآلفنا معه مع جهلنا المطبق لأسبابه، يبدو أنه سر يرتبط بالمهنة وبشدة حتى تحوّل إلى عُرف.
أتعاطف مع السائق الخمسيني، وأقول له: “متأخر بالطلعة من البيت؟”. لا يرد على سؤالي، كان يرتدي ملابس صيفية وقبعة صوفية، أبتسم في سري، وأقول “وإذا؟” التنافر بات موضة العصر وهذه المدينة حائرة في مناخ أوقاتها، تعوق القبعة سمع السائق، ما يضطر الركاب لرفع أصواتهم عدة مرات ليتوقف حيث يريدون. فجأة ودون طلب من أحد يضغط على الفرامل ويتوقف، يصرخ جميع الركاب والمارة إلا امرأة تشرب المتة على الرصيف المقابل، تضحك ضحكة مجلجلة، وتقول لصاحب البسطة الذي توقفنا بقربه: “لو كانت الكاسة بإيدك كانت وقعت”!
يشتري السائق عبوة زيت نباتي ويقول: “نفدنا”أي أنه قد تخلص من عقوبة زوجية مؤكدة في حال نسيانه لشراء عبوة الزيت. تصرخ تلك المرأة بصاحب البسطة وتطلب منه القدوم، يقول لها: “عم حاسب الزلمة، صبي لحالك.” إبريق الماء موضوع على غاز سفاري ملاصق للبسطة، والرجل يقطع الطريق مرات ومرات ليسقي المرأة مشروب المتة الساخن، يبدو أنهما يتبادلان الغرام عبر سفرات مكوكية ما بين رصيفين ترابيين مغبرين، تواصل الحافلة طريقها، يصرخ رجل يجلس في المقعد الأخير: “العمى ضرب الزلمة!!”
تتحول أنظارنا إلى الجهة المقابلة لنجد أن شاباً صغيراً يقود سيارة مفيّمة قد صدم رجلا مسناً، لا يقوى الرجل على الوقوف، وجهه مغطى بالحصى الصغيرة والتراب والدم، يمسكون به محاولين إنهاضه، يطلب منهم مناولته كيس خضار صغير سقط منه بفعل الصدم، يجلسونه على كرسي أحضره صاحب محل لإصلاح الإطارات، يبكي بشدة ويقول: “ودوني ع البيت بدي أموت ببيتي”. يفر السائق طبعاً مع أنه كان في متناول اليد، أتساءل لماذا لم يفكر أحد في إيقافه أو في الحصول على رقم سيارته؟ تَركُ هؤلاء المعتوهين صار عرفاً سائداً أيضا في مدينة تتجاهل أنين أهلها ومتاعبهم.
أزالوا البسطات الشعبية من الشوارع، قرار غير مفهوم، يرحب البعض به حرصاً على رحابة المدينة، نسخر من تلك العبارة التي صارت سخيفة، أي رحابة؟ والأكثر ألماً، أي مدينة؟
تسير في سوق الحرامية الذي يبيع خضاراً وملابس وأغذية ومعلبات ومواد عتيقة من الستائر وحتى صحون فناجين القهوة، صمت موحش يلف المكان، أزالوا البسطات كلها، من أين سيشتري الفقراء تمر العيد أو الفول اليابس لفطور أيام الجمعة؟ من أين ستشتري الناس ستائر رخيصة أو صحونا مشكلة بعد خسارتها لممتلكاتها وعجزها عن شراء أي قطعة جديدة، يعلّق أحدهم حزينا وكأنه يردد حكمة بليغة: “راح السوق وبقيوا الحرامية”!
بات التعاطي مع القضايا اليومية مُنطلِقاً من موقع وحيد، من أين سيأتي أصحاب البسطات بالطعام لأطفالهم؟ صراع الحقوق بات قاعدة عامة، من حق الجميع أن يأكل ولو لم يشبع، ومن حق المدينة وسكانها مساحات أكثر رحابة وأكثر نظافة وأقل تلوثاً وخاصة من الضجيج. صراع حقوق يهدر حقوق الجميع، يُغرق المدينة في نشاطات مربكة وتبرير الخيارات السوداء بات عرفاً أيضاً. في منتصف شارع الثورة الرئيسي وبمرأى من الجميع يبيع بعض الشباب بنزيناً بالسعر الأسود. لا يسألهم أحد من أين لكم هذا ولا يعترض أي شخص على وجودهم هنا في منتصف الطريق وفي مشهد يفقأ العين وهم يلوحون بأقماع بلاستيكية تقول للسائقين بصمت: لدينا بنزين أسود، منهوب، مسروق، متلاعب بطريق الحصول عليه لا يهم أبداً، بل ومرفق بخدمة تعبئته فوراً وعلى العلن، والمتاجرون به حاضرون أمامنا بكامل جرأتهم وبكامل تلبسهم لفعل غير قانوني. الأجدى هو القول بأنهم وبفائض قوتهم يستبيحون الطريق والجيوب وحركة العابرين دونما أي تردد أو أدنى قلق.
لوحات إعلانية عملاقة لألواح طاقة شمسية، تجارة جديدة وباب رزق متوحش يغرف من جيوب السوريين دونما رقيب ويؤملهم بكهرباء قوية بديلة للغياب شبه التام لمصادر الطاقة النظامية، اللافت أن تجار الطاقة يلُمون جيداً بأولويات الأسر السورية، سيؤمنون لهم طاقة لتشغيل البرادات أولاً حفظاً لطعام بات تأمينه مكلفا جداً وصعباً، ولتشغيل الراوتر ثانية لأنه جهة الوصل الوحيدة بين الأهل وأولادهم أو أفراد عائلاتهم. يكمن الاحتيال هنا في تلبيته لاحتياجات حقيقية، فتصبح مشاريع تركيب ألواح الطاقة مشروعاً اقتصادياً للعائلات، هو بالحقيقة شر لابد منه، وستلجأ العائلات العاجزة عن تركيب أجهزة طاقة شمسية لتغيير نمط تخزينها لمونتها الاضطرارية بطرق أكثر بدائية، وربما تجد إحداهن مقعداً شاغراً في ثلاجةِ قريبةٍ لها لحفظ كيس أو كيسين من الفول للشتاء.
إعلانات لمدارس خاصة تفوق أقساطها السنوية قدرة الغالبية من الطلاب وذويهم، إذ تتجاوز الملايين الستة سنوياً على أقل تقدير، والضمانة هنا مقابل كل هذا الاستفحال النقدي المسدد للتسجيل هو التفوق الأكيد والاستعداد لتعليم لغات جديدة كالألمانية. مؤسف أن الإعلانات المخصصة لهدف واضح واحد تشي بأهداف أخرى متسلسلة، يقول الإعلان ضمناً بأن كافة الطلبة المتفوقين والمتفوقات سيرحلون حكما إلى ألمانيا بعد حصولهم على الشهادة الثانوية أو بعد التخرج كمهندسين أو أطباء في أبعد تقدير، هي الخسارة مدفوعة الثمن مسبقاً.
تتداخل أصوات باعة الفول الأخضر مع باعة الملح على عربات خشبية تجرها البغال، مع أصواتٍ مُسجّلة تصدر من سيارات سوزوكي عتيقة، تعلن الاستعداد لشراء الخزانات البلاستيكية المكسورة والبطاريات العتيقة ومحركات البرادات التالفة من تذبذب شدة التيار الكهربائي، هنا تبرز النتيجة الفعلية لزحف البلاستيك الرديء وغير الصحي ولغياب الكهرباء ولصفقات البطاريات المغشوشة، كل ألواح الطاقة والبطاريات الأنبوبية غالية الثمن ستنجز دورة قصيرة الأجل محددة المدة مسبقاً لتصبح مواد عتيقة للبيع. الموضوع هنا ليس إعادة تدوير بل إعادة تفعيل لحلقات النهب المتجددة وليس للطاقة المتجددة كما يدّعون مع أنهم يعرفون حقيقة ريائهم وتغولهم.
والمدن المغدورة كثيرة، تمتد من الذاكرة وحتى لحظة الرواية، مدن تعج بالمغدورين كي ينطبق اسمها عليهم، لا تعترف بهم رغم جحودها ولا يطيقون الفرار منها، مسكونة بهم كي تتحول إلى مكب لأحلامهم، مسكونين بها حيث لا فكاك، لم تكتب الحكايات ولم يسجل التاريخ يوماً فكاك شعب بكامله عن مدنه المغدورة مهما أوغلت في القهر والإنكار.
بواسطة مازن أكثم سليمان | مايو 30, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
(شهادةُ الشَّاعر اللُّبنانيّ طلال حيدر عن الشّاعر السُّوريّ علي الجندي)
في إطار عمَلي على إنجاز كتاب موسوعيّ عن سيرةِ الشَّاعر السُّوريّ الكبير علي الجندي (1928 _ 2009) الحياتيَّة والشِّعريَّة، وهوَ المشروع الذي بدأتُ بهِ برفقةِ علي الجندي شخصيَّاً منذُ العام 2001 في مدينة اللَّاذقيَّة، حيثُ قضَى آخِرَ سنواتِهِ فيها، حاوَلَ الصَّديق العزيز الكاتب والصحفيّ (المُنذر الدِّمنيّ) _الذي كانَ يُساعدني في جمع بعض موادّ الكتاب وبعض شهاداتِهِ بصفة (باحث مُساعِد) بحُكم وُجودِهِ في بيروت_ أنْ يحصَلَ على شهادة خطِّيَّة لكتابي وباسمِي من الشَّاعر اللُّبنانيّ الكبير (طلال حيدر)، ولظُروفٍ مُختلِفة، منها صحِّيَّة، اعتذرَ شاعرُنا وأرجَأَ الشَّهادةَ مرَّاتٍ عدَّة.
ولأنَّ من طبيعتي الإصرار و(يباسة الرأس)، ولخبرتي الطَّويلة بمِزاجيَّة المُبدعين، ولا سيما مع تقدُّمِهِم في السِّنّ (على ألّا يعتقدَ أحدٌ منَّا أو يُخدَعَ بفكرةِ أنَّ أمثال علي الجندي أو طلال حيدر يتقدَّمونَ في السِّنّ…)، قرَّرتُ أنْ أُجريَ مُحاوَلةً (نجحتُ بتطبيقِها معَ شخصيَّاتٍ عدَّة من قبْل)، فملأتُ جوَّالي برصيدٍ كبير، وأجريْتُ اتِّصالاً على جوَّال طلال حيدر مُباشَرَةً في يوم الجمعة 18/ 11/ 2022، وعرَّفتُهُ بنفسي بعدَ أنْ ردَّ عليَّ، وبأنَّني أُحدِّثُهُ من دمشق، وذكَّرتُهُ بطلبِ الصَّديق المُنذر، وبشهادتِهِ المَوعودة عن علي الجندي، ففاجأني بحجم الدِّفء والعاطفة والاستقبال الحميميّ، مُردِّداً منذُ البداية: “أهلاً وسهلاً بمازن وبجميع أهل سوريَّة الحبيبة”.
حاولتُ أنْ أُورِّطَهُ بالموضوع تحتَ دعوى: “هل لديكَ دقيقتان فقط لا أكثَر للحديث عن أبي لهب؟”، فأجابَ بسَعادةٍ غامِرة: “خُذِ الوقتَ الذي تُريدُهُ”.
كنتُ قد جهَّزْتُ أمامي بضعَ وريقاتٍ وقلَمٍ، ورحتُ أطرَحُ أسئلتِي، وأُدوِّنُ خلفَهُ كُلّ كلمةٍ يتفوَّهُ بها.
وفي الحقيقة، شعرْتُ أثناءَ المُحادَثة، وبعدَ أنْ أنهيْتُ المُكالَمَةَ أيضاً، حيثُ رحتُ أقرأُ ما دوَّنتُهُ خلفَهُ، أنَّها لم تكُنْ مجرَّدَ شهادةٍ تقليديَّةٍ، بقدرِ ما كانتْ شِعراً مُدهِشاً وسلِسَاً ألقاهُ طلال حيدر بصوتِهِ وبهُوِيَّتِهِ الجَماليَّة المَعروفة، فكأنَّهُ كانَ يُلقِي قصيدةً عذبةً وشفَّافةً وهوَ يحكي عن صديقِهِ أبي لهب.
أضَعُ، هُنا، نصَّ الشَّهادة، آمِلاً أنْ يصُبَّ هذا الجهدُ المُتعلِّقُ بكتاب علي الجندي، في إطار الوفاء لهُ ولرحلتِهِ الحياتيَّة والإبداعيَّة، وللشِّعر السُّوريّ، والثَّقافة العربيَّة والإنسانيَّة.
قالَ طلال حيدر:
“علي الجندي لم يكُنْ غريباً إلّا عن نفسِهِ..
هوَ الجَمالُ المجنونُ الذي تفجَّرَ بحثاً عن روحٍ مفقودةٍ لا يُمكِنُ أنْ تُوجدَ أبداً، فتمزَّقتْ ذاتُهُ أوَّلاً وأخيراً..
حينَما جاءَ إلى بيروت في الخمسينيَّات من القرن المُنصرِم لم يكُنْ هارِباً أو مُغترِباً، بقدرِ ما كانَ مُنقِّباً بنهَمٍ استثنائيٍّ عن هُوِيَّتِهِ المُختلِفةِ في الحياةِ والإبداع.
كانَ سبَّاقاً في حركةِ الحداثةِ الشِّعريَّة، ولا يُمكِنُ تجاوُزُهُ أو تجاوُزُ تجربتِهِ المُتفرِّدة عندَ أيَّةِ قراءةٍ موضوعيَّةٍ صادقةٍ للشِّعر العربيّ الحديث.
علي لم (يتباسَط) أو يتبهلَل في مَوقفِهِ الشِّعريّ، وفي الوقتِ نفسِهِ، لم يتفلسَف ويتفذلك كالكثيرين غيره..
كانَ صاحبَ رُؤيا مُستقبَليَّةٍ في شِعرِهِ، وكانتْ لهُ قصائدُ شاهِقةٌ، وصوَرٌ وتراكيبُ جديدةٌ ومغايِرَة. واستطاعَ أنْ يُمسِكَ بأهمّ ثلاثة عناصر في الإبداع الشِّعريّ: ألّا تُرينِي ما يُرَى _ ألّا تُعطينِي فكرةً أعرِفُها _ أنْ تكونَ ذاكرةَ المُستقبَل.
هذهِ العناصِرُ ظلَّتْ ضارِبَةَ الجُذورِ في تجرِبةِ علي، ولهذا فهوَ ينتمي في شِعرِهِ إلى ما فوقَ الزَّمنيِّ والتَّاريخيِّ، فكَم من شاعرٍ عربيٍّ قديمٍ كانَ حداثيَّاً وأصيلاً في تُراثِنا الشِّعريّ، وكم من شاعرٍ عربيٍّ عاشَ في عصرِنا الحديثِ، وكانَ بائِسَاً ومُفلِساً في فنِّهِ..
في حُضورِهِ الحياتيِّ كانَ شاعراً عظيماً أيضاً.. لا بل كانَ مُبدِعَ أكثَر من حياةٍ في حياةٍ واحدة، وكانَ مُبتكِرَ حياتِهِ الفريدة من دونِ ادِّعاءٍ، وخلَّاقَ حُرِّيَّةٍ لا تُشبِهُ ولا تُحاكي إلّا الحُرِّيَّة التي في ذهنِهِ الحزين، وفي تصوُّرِهِ المُستحيل.
هوَ البوهيميُّ المُتسكِّعُ في ليالي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وباريس، يشحذُ سَهَراً وجُنوناً وأهواءً، ويُلاحِقُ حياةً يُريدُها ألّا تنفدَ، فيقتُلُها وتقتُلُهُ رُويداً رُويداً..
لم يكفَّ لحظةً واحدةً عن هَوَسِ العيْشِ، ولم يكُنْ قنوعاً يعرِفُ الشَّبَعَ، ولهذا كانَ يلهَثُ باستمرارٍ مثلَ مُتشرِّدٍ باختيارِهِ، مُهروِلاً بلا مَأوىً وبلا انتماءٍ طلَباً للجَمال والمُتَعة والانعتاق.
هوَ، باختصار: صُعلوكٌ عربيّ جاهليّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ، وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب.
أينَما كنتَ تلتقي بعلي كنتَ تعرِفُ من فوركَ أنَّكَ قدِ التقيْتَ للتَّوِّ بهديَّةٍ تحمِلُ ما تحمِلُ منَ الدَّهشةِ؛ فكُلُّ شيءٍ كانَ يغدو أبهَى بحُضورِهِ، وبرفقتِهِ كانتْ تتضاعَفُ متَعُ الوُجودِ على نحْوٍ لا يُوصَفُ سهَراً وخَمراً وشِعراً وامرأةً..
كانَ كُلَّما بعثَرَ الحُدودَ من حولِنا، منَحَ الحياةَ ومنَحَنا قداسةً أجمَل..
ذاتَ يومٍ في تكريمٍ أُقيمَ لهُ في معهد العالَم العربيّ في باريس بمُناسبةِ بلوغِهِ سنّ السِّتِّين، سافرْتُ من بيروت إلى فرنسا خصِّيصاً لأحضُرَ تكريمَهُ هذا، وحينَما دُعيتُ إلى المِنصَّة لم أكُنْ قد حضَّرتُ كلمةً، فصعدتُ، وقلتُ عبارةً واحدةً فقط ألهبَتِ الحفلَ تصفيقاً وضَحِكاً وتأثُّراً: “لقد جئتُ من بيروت إلى باريس فقط كي أُقبِّلَ (هالأخو الشَّرموطة)”، ثُمَّ نزلتُ عنِ المِنبر، وذهبْتُ كي أُعانِقَ علي الجندي بحرارة *“.
هامش:
*هذهِ الحادثة كانَ يرويها علي الجندي بفرَحٍ وسعادةٍ بالِغة، مَقرونةً، كعادتِهِ طبعاً، بسلسلة شَتائِمَ بذيئةٍ وضاحكةٍ لصديقِهِ طلال حيدر، وكانَ يُردِّدُ باستمرارٍ أمامي: “طلال كيفما رمَى وبعثَرَ كلماتِهِ، تَخرُجُ شِعراً مُدهِشاً”.
تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”