التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته “المسرح الجوال” عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين العناصر المسرحية من أهداف هذا النوع الجديد. وجاءت طريقة العرض والاتصال بالجمهور في موقع عمله وحياته اليومية كتلبية لنداء المسرح الجماهيري الفقير الذي حرص على التواصل مع الناس وطرح مشاكلهم، وما لبث أن تحول إلى مسرح آخر يعرض على الخشبة مسرحيات عالمية وعربية ثم يجول على مسارح المدن ذات الشروط الفنية المكتملة، إلى أن بدأ نشاطه ينحسر ويتحدد في المناطق القريبة من دمشق العاصمة، وفي النهاية اقتصر على عرض واحد كانت طبيعته مختلفة عن المسرح الجوال وخالفته من حيث البنية وشرط المكان أو الاقتراب من الواقع الراهن.

كان المسرح الجوال عبارة عن عروض مسرحية مكتوبة بلغة بسيطة وأسلوب فني سهل هدفه مخاطبة الجمهور ببساطة وعمق، أما مهمته الأساسية فتكمن في تطوير الحياة وتغييرها بيد أبنائها وأن يزيد من رقعة جمهوره بشكل مستمر، أما الشكل المسرحي فهو أقرب إلى حلم الشاعر السريالي”أنطونين أرتو” بإزالة جمود العلاقة بين المتفرج والعرض وتغيير العلاقة بين العرض والصالة. ولقد عمل كل من غروتوفسكي ومنوشكين ضمن حلم أرتو فأدخلوا المتفرج في سياق العرض بتحريضه على المشاركة واللاحيادية، فقام غروتوفسكي في مسرح المختبر بالتخلي عن المعماريات والأدوات المسرحية التقليدية، كما تخلى عن تقسيم الفضاء بحدود القاعة والخشبة. وقام لوكا رانكوني الكاتب والمخرج الإيطالي بتحويل سيرك برلين إلى مسرح واسع بلا ستائر ووحّد الحلبة والقاعة التي اتسعت حينها لحوالي ثلاثة آلاف متفرج.

بناء على هذا لا يمكن أن نطلق على المسرح الجوال لقباً جديداً بما أنه جامع للتجارب الذي سبقته وطور على أساسها بما يخدم هدفه. وكان يبدأ عروضه في المناطق السورية التي يذهب إليها بكلمة مدير المسرح ويليها العرض، وفي نهايته يفتح المدير حواراً مع الجمهور حول المشاكل التي شاهدها، وكانت المواضيع متنوعة لكنها تتعلق بحياة الفلاح بشكل رئيسي مثل الهجرة من القرية إلى المدينة، والثقافة الفلاحية، والخوف من السلطة، والمهور والزواج وغيرها.

أعطى المسرح الجوال صورة واضحة عن وضع الحركة المسرحية في سورية، إذ كان ينتقل بالعروض الجديدة من مدينة إلى مدينة ومن ساحة قرية إلى باحة مدرسة أو بهو صالة. لم يكن المكان شرطاً في حد ذاته، فالمهم كان الاتساع وإمكانية الاندماج مع الجمهور ومشاركته في العرض بشكل أو بآخر. وكان العاملون في المسرح الجوال يعدونه من التجارب المثيرة والمهمة، سواء للجمهور أو للمشاركين فيه، فهو يلاقي جمهوره دون أية إضافات أو تزويق يجتلب إيهام المسرح، فهو عبارة عن مسرح مكشوف من دون خشبة أو ستارة أو ديكور أو ملابس أو ماكياج، والشرط الرئيس، بعد ابتعاده عن الديكور والسينوغرافيا والصنعة المسرحية، أنه هو من يذهب إلى الناس والتجمعات بأنواعها الفلاحية والعمالية والطلابية، حتى اكتسبت هذه التجربة ملامحها من المشكلات التي تطرحها بلغة الجمهور نفسه، فكان  يتحول أحياناً للتوعية والإرشاد.

غير أن أهمية المسرح الجوال جاءت من تنقله بين القرى التي لم تعرف المسرح إلا عن طريق الفنون الشعبية التي لازمتها كالأعراس والمآتم، وذلك من دون أن تدرك تلك الجموع أن ما تقوم به هو أحد أشكال المسرح والفرجة.

 قبل أن يحضر المسرح الجوال كان الريف السوري عموماً محروماً من فن المسرح لعدم وجود الصالات أو الفِرق، سواء المحترفة منها والهاوية، إضافة لغياب الإمكانيات الفنية بشكل كامل. في الوقت ذاته وصل المسرح إلى نصف سكان سورية، وأطلق حواراً بين الفلاحين أنفسهم وبين الفلاحين والمسرح، فاعتبره الفلاح في مرحلة ما وجهاً من أوجه السلطة. وكان يترك الجمهور يواجه نفسه بالبحث عن حلول تناسب قضاياه دون الاتكال على الآخر، لأن المشاكل تختلف بين قرية وقرية، بحسب قربها أو بعدها عن المدينة، وتضاريسها ومناخها، فضلاً عن الالتحام الذي كان يحصل بين المشاهد والممثل من خلال طريقة العرض.

كان القائمون على هذا النوع من المسرح يكيفون عروضهم مع متطلبات البيئة وواقع الحال في الريف السوري وبيئاته الشعبية، فكان الكاتب يختار المشاكل اليومية والراهنة في بعض الأحيان، وعروضاً كوميدية وترفيهية أو اجتماعية أو سياسية أحيانا أُخرى. الفكرة الأساسية تعنى بالإرشاد القومي، ثم يسردها في حوار يتناسب مع لغة المتلقي من حيث قاموس المفردات وأسلوب الطرح وطرق المناقشة، وفي بعض العروض كان الجمهور شريكاً حقيقياً يشارك الممثلين في حواراتهم، فيتحول العرض إلى ما يشبه الندوة الفكرية، حتى بات للمسرح الجوال خصوصيته المكانية والزمنية والتقنية، فتحرر من شرط الصالة والوقت والقراءة الواحدة للعرض.

قدّم المسرح الجوال قرابة ألف عرض مسرحي في سبعمائة قرية سورية، حتى أنه في عام 1976 حطَّ رحاله في دمشق وقدم عرضاً باسم “الدنيا أخد وعطا” من تأليف  أحمد قبلاوي وإخراج حسين إدلبي. أما السبب الرئيس لتقديم عروضه في العاصمة فقد كان لفت الأنظار إليه. وكان العرض الأول للمسرح الجوال بمثابة عرض تجريبي. كما قدّم عرضاً في قرية “بدا” محافظة دمشق، وكانت التجربة ناجحة، وتلقاها الفلاحون بشغف، فاندمجوا مع العرض، وتدخلوا في مجرى الأحداث، وبدأت مناقشة بعد العرض بشكل تلقائي، فطالبوا بأن تتكرر زيارات المسرح الجوال لقريتهم، علماً أن العرض لم يتجاوز الثلاثين دقيقة. وخلال شهر واحد قدّم أربعة وستين عرضاً في أربع وستين قرية.

كان من أهم عوامل نجاح المسرح الجوال ذهابه إلى الناس والفلاحين والبسطاء  الذين لم يفكروا يوماً في السفر إلى المدينة لحضور عرض مسرحي، فلا التوقيت مناسب للذهاب والعودة، ولا أحد يعلمهم بتاريخ وتوقيت العروض المسرحية في المدن، ناهيك عن العبء المادي. وكان الاندماج الحاصل بين الممثلين والجمهور من حيث مكان الجلوس أحد عوامل النجاح، فكان الممثل بعد أن يؤدي دوره يعود للجلوس ببساطة وسط الجمهور، سواء في مضافة أو مرج أو ساحة، فلا يختفي الممثل في هذا النوع من الفرجة خلف الكواليس. وكان الجمهور يشارك أيضاً في الحوار الذي يلي العرض، وتتفاعل فيه الآراء المتناقضة، إذ كان يتيح العرض الجوال لكل فرد إبداء رأيه، إضافة لبساطة الإخراج ومحلية النص والمضمون على مستوى اللغة أو الموضوع.

كان أبرز من عمل في المسرح الجوال ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وعبد اللطيف فتحي وأيمن زيدان، وهذا الأخير أخرج للمسرح الجوال نص “رحلة حنظله” المستند إلى نص لسعد الله ونوس. كما قدم سهيل شلهوب عرض “المهرج ” للراحل محمد الماغوط  ثماني وعشرين مرة، وقدم المخرج يوسف حرب “حكايات للريف”-وهو نص لأسعد فضة إحدى وثلاثين مرة. وكانت بعض النصوص تنتمي للأدب العالمي مثل “المجنون” للروائي والمسرحي ميخائيل بولغاكوف، و”المنافقون” للكاتب المسرحي الإنكليزي بن جونسون، و”المحقق” للكاتب الروائي والمذيع جون بي بريستلي. وقدم المخرج صلاح الهادي بدوره نصاً بعنوان “مأساة مضحكة” كان قد اقتبسه عن نص مسرحي بعنوان “الكوميديا السوداء” للكاتب البريطاني بيتر شافر. ومن النصوص العربية قدم عرض “المهزلة الأرضية” للقاص يوسف إدريس.

لم يعلن توقف المسرح الجوال، واستمر الاسم من غير مضمون، وأخذ الاسم على عاتقه تقديم الأعمال الكوميدية كونها تجذب جمهوراً أوسع. والجدير بالذكر أن الفنان أيمن زيدان كانت له تجربة جيدة فيما قدمه لكنها لم تستمر طويلاً.

 تعثر المسرح الجوال منذ انطلاقته في السبعينات، ربما لأن القائمين عليه لم يدركوا طبيعته ما جعلهم يبتعدون عن أهدافه. وبدأ عدد العروض ينخفض ففي عام ١٩٨١ كان ضمن برنامجه عرض وحيد فقط هو “مهاجر بريسبان” تأليف جورج شحادة وإخراج طلال الحجلي، لكن مكان العرض لم يكن في الأرياف والساحات، بل على خشبة مسرح القباني في العاصمة دمشق. وبدأ اختيار عروض لا تتناسب طبيعتها وطبيعة المسرح الجوال، لا من حيث خصوصية العرض المسرحي ولا مخاطبة الجمهور فالعرض المذكور لجورج شحادة كان عبارة عن مسرحية شعرية تنتمي إلى تقاليد المسرح في الغرب، ولا بد من توافر عدة شروط أولها الخشبة وجانب الإيهام في التلقي واللغة المسرحية، وكل الشروط كانت تخالف الطريقة التي انتهجها المسرح الجوال.

بتوقف النواة المسرحية الأولى انعدمت الحركة المسرحية والفنية في القرى والمدن التي ليس فيها مسارح أو صالات عرض سينمائية. ولم يعد متاحاً أمام الموهوبين الفرصة الأولى لتلمس طريقهم، الأمر الذي أثّر على رفد الحركة المسرحية بعناصر جديدة. وبدلاً من أن يبقى على وضعه الأول أو تتم زيادة كوادره غاب المسرح الجوال بشكل كامل، وذلك بعد أن بات له جمهور ينتظر عروضه من مختلف الأعمار واستطاع أن يتجاوز عدة إشكاليات أهمها العلاقة بين المسرح ووسائل التواصل، وبعد أن كان دوره هامشياً بالنسبة للجمهور صار محورياً، وبدلاً من أن يكون الجمهور متلقياً تحول إلى مشارك، وهو نوع من التكافؤ الإبداعي، فلا النص ولا صناع العرض مارسوا الدور القمعي المتسلط ولا الجمهور مارس هذا الدور، لأن الاتصال المباشر جرد الطرفين من سلطتهما القمعية.

في النهاية إن توقف هذا الشكل المسرحي الحي صادر إمكانية تغيير الواقع الحياتي والمسرحي، أو احتمال حدوث فعل تغييري في الجمهور، وعادت الجماهير السورية لتكريس الموروث وحراسة المقدس والقفز نحو الاستهلاكي من وسائل الفرجة.

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث “وفا تيليكوم” المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود.

من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل الشركة ووزارة الاتصالات والهيئة الناظمة للاتصالات، فقد علمنا اقتراب الأمر بصيغته النهائية التنفيذية، والذي سيتيح لأول مرة خدمة 5G في سوريا. ويأتي ذلك التأخير بعد سنين من وعود إطلاقه، على أن تنطلق الخدمة في دمشق أولاً بشكل تجريبي.

الحلم في مواجهة الواقع

إلا أنّ ذلك الوعد القطعي قد يصطدم بجملة عوامل قسرية أبرزها تدهور البنى التحتية وأزمة موارد الطاقة وغياب الكتلة البشرية المؤهلة للعمل كخبرة في التشغيل والصيانة، خصوصاً مع نية الشركة الجديدة الاستناد على موارد ودعائم الشركتين الوحيدتين المتدهورتين في سوريا أساساً (سيرياتيل وام تي ان) من أبراج ومحولات وبطاريات وأطقم تنفيذية لديها خبرة لوجستية في المرحلة الأولى.

تجدر الإشارة  إلى أن المصادر الرسمية السورية تتحدث اليوم عن خطة تحول رقمي مدروسة على كافة الأصعدة وتشمل البلاد بأكملها، وهي ببطاقة ذكية تمكنت من إحداث فجوة خيالية بين الفكرة والتنفيذ ورمت البلاد وساكنيها في متاهة فرضيات لا حصر لها. فمثلاً هناك مشهد الجموع تفتح حسابات بنكية لتتلقى فرق قيمة الخبز المدعوم دون أن تدري تلك الشريحة ماذا يحصل حولها بالضبط ولا من أي باب ستخرج من متاهتها منتصرةً على التجارب الحكومية التي انقضى عهد وزرائها بدخول حكومتهم حقبة تصريف الأعمال وعلى جدولها لا زالت مئات الملفات العالقة.

الجشع القادم

ينتظر السوريون بفارغ الصبر المشغل الثالث لا لأنّهم تخلصوا من همومهم وصاروا يبحثون عن لون جديد لشرائح هواتفهم الخلوية، بل لينقضي عهد شركتين “ذبحتا” الناس بالأسعار والجودة في تنافسية حثيثة عالية خلاصتها أي شركة منهما ستتمكن من سحب راتب الموظف أسرع من الأخرى لقاء ثمن باقة انترنت صارت خيالية للناس، وتلك الباقة بطبيعة الحال تسرق الشركة أكثر من نصفها، وأحياناً كلّها حتى دون أن يستخدمها المشترك.

في رحلة الانتظار تلك يغفل السوريون\ات أنّ قطاع الاتصالات هو “بترول” البلاد بعدما فقدت سوريا مواردها النفطية المادية الحقيقية، وبأنّ تلك الشركة ليست المنقذ والبطل الخيّر في الرواية الذي سينقذهم من تغوّل الشركتين إياهما، وهي بالنهاية ليست إلّا شركة إيرانية بغطاء سوري، وهذا صار معروفاً ويمكن شرحه. الموضوع أن لإيران ديوناً مليارية على سوريا، ديوناً فاقت الـ 50 مليار دولار، وستحصلها باللين أو القوة، بالهدوء أو الضغط، كذلك يقول صقور السياسة الإيرانية ومعهم يقول شارع بلادهم، وقد تم تسريب جزء من تلك الديون والاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا عبر ما سربته مجلة “المجلة” السعودية استناداً لما اسمته مجموعة “قراصنة” معارضين، لتتولى المجلة ترجمة الوثائق ونشرها كاملة على عدّة أجزاء.

سوريّةٌ خالصة

تقول الشركة معرفةً عن نفسها في موقعها الالكتروني الذي أبصر النور قبل عامين: “في وفا استلهمنا اسمنا من التزامنا العميق وولاءنا ومحبتنا لبلدنا وشعبنا وقيادتنا. إن هذا الوفاء هو الذي يشكل أساس رؤيتنا، ومهمتنا، ورحلتنا نحو سورية المزدهرة، فكان التأسيس في عام 2022 وحصولنا على الترخيص الحصري لتقديم تقنية الجيل الخامس في سورية.”

ويبدو التعريف الذي تقدّمه الشركة عن نفسها منطقياً كشركة “سوريّة” خالصة، وخاصةً أنّ مصادر خاصة أفادت أنّ واجهتها التنفيذية هي من الموظفين السوريين وعلى رأسهم محمد أسدي رئيس مجلس الإدارة، ونائبته كارولين زلقط، وغسان سابا مديراً للمدراء التنفيذيين. المصادر ذاتها أوضحت تفاصيل عن تاريخ تأسيس الشركة ليتبين أنّها حصلت على موافقتها الأولية في عام 2020 من قبل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ضمن القرار /2590/ كشركة مساهمة مغفلة، وفي العام التالي عادت ذات الوزارة لتعادل على نظامها الداخلي بموجب القرار /4751/، ذلك بالتزامن مع التراخيص اللازمة من الهيئة الناظمة للاتصالات، وهو ما يوضح تأخراً ظلّ طوال تلك السنين غير مفهوم لشركة قدمت أوراقها واستكملتها وجرى اعتمادها بل وأجرت مقابلات كثيرة في سياق التوظيف.

الكذبة التي لم تكتمل

رغم أنّ حكومة دمشق روّجت ولا زالت تروّج أنّ المشروع وطني بالكامل وبأيدٍ سوريّة إلا أنّ الأمر قد تم فضحه عبر تحقيق أعدّه مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، وخلص التحقيق إلى أنّ ملكية المشغل الثالث تعود بقسم كبير منها لشركة ماليزية مملوكة لإيراني بالشراكة مع الحرس الثوري الإيراني في محاولة مبكّرة للتهرب من العقوبات.

وما زاد الطين بلّة وأحرج نظام دمشق هو تصريح وزير الطرق والتنمية العمرانية الإيراني -رئيس اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي الإيراني – السوري “مهرداد بازار باش” عبر وكالة “إسنا” الإيرانية، إذ قال نصّاً خلال اجتماع مع المدراء في اللجنة ذاتها: “إن مشغل الهاتف المحمول الذي أطلقه الجانب الإيراني سينشط قريباً في سوريا، وسيمكن السياح والحجاج الإيرانيين من الاستفادة من هذه الخدمات.”

وأكمل: “أحد مستويات التعاون هو إنشاء مشغل للهاتف المحمول، والذي تم إنجازه بالتعاون الجيد بين وزارة الاتصالات الإيرانية ووزارة الاتصالات السورية، ويتم تنفيذ هذا المشروع. وفي هذا الصدد، سيتم قريباً إطلاق بطاقات SIM للمشغل الثالث من قبل الجانب الإيراني في سوريا، ويمكن للسياح والزوار الاستفادة منها”.

الإمبراطور الكسيح

رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد،  وجد التاج فجأة منزوعاً عن رأسه دون سابق إنذار،  وصودرت أملاكه ووضع تحت الإقامة الجبرية، وتحول من إمبراطور يؤثر في اقتصاد دول ناميةٍ حليفة إلى رجل لا أحد يعرف إن كانت الدولة سمحت له باستبقاء حارسٍ شخصي له أم لا.

قابل مخلوف الانقلاب عليه بشنّ حربٍ واسعةٍ لا يراعي فيها أبناء عمومة ولا خؤولة، وبدأ ينشر فيديوهات متواترة على صفحته الخاصة في موقع فيس بوك ويشرح فيها بقدر ما يستطيع من صراحة وإيلام واقع ما حصل، ومن جملة ما رواه في فيديو بثّه بتاريخ 30 يونيو/ حزيران 2021 كان حول قضية استبعاده ومحاصرة سيرياتيل لصالح المشغل الثالث الذي قال علانيةً إنّه إيراني.

آنذاك كان الشارع المؤيد يترنح في موقفه بين التعاطف معه والوقوف ضده امتثالاً لأوامر السلطات فلم يحصل ذاك الفيديو على كثير من الاهتمام، خاصةً أنّ ما يعرف بـ “الذباب الالكتروني” ميّع مضمونه وتفهه إلى أبعد الحدود، وقد يكون إفشاء ذاك السر في ذاك الوقت واحداً من أسباب تأخر وضع المشغل في الخدمة، إلى أن جاءت الضربة الإيرانية الفجّة عبر التصريح المباشر، علماً أنّ مخلوف ذكر أنّ إيران تريد استرداد ديونها مستفيدةً من هذا المشغل كذراع في الجباية.

هل تصبح سوريا محافظة؟

قد تبدو تفاصيل الشركة الجديدة في سوريا وتأخيراتها ملفاً تقنياً بحتاً، ولكن بالتأكيد فإنّ الأمر أبعد بكثير من أن يكون تقنياً ليتخطاه نحو عوالم السياسة المظلمة والمحكومة بالحوكمة الاقتصادية لبلد يدير بلداً ممسكاً إياه من ذراعه التي تؤلمه مستحوذاً على أهم ما فيه وهو قطاع الاتصالات.

ومن يملك الاتصالات يملك الأرض، والفضاء، والتنصت والجاسوسية وقاعدة الأرقام والتعداد، ومن بين كل ذلك تبرز الأرقام كمسألة إحصائية خطيرة تندرج ضمن إطار الأمن القومي الذي لا يجب أن يطلع عليه أقرب الحلفاء العسكريين والسياسيين، بل هم تحديداً من يجب إبعادهم عنه لئلا تتوسع دائرة نفوذهم وتهيمن من ثم تطغى؛ فبالتأكيد “الشقيق” الإيراني لا ينام جائعاً لأجل ملياراته تلك، ولكنّه يريد عوضاً عنها بلداً بحاله، أو ما بقي منه على الأقل. والأمر بسيط هنا إذ يكفي الاطلاع على محضر توقيع اتفاقيات رئيسي والأسد ببنودها الـ 16، وكيف بعد ذلك تسللت إيران من شقوق أبواب المدن إلى شركات القطاع العام وصارت شريكاً، وستظلّ تشارك إلى أن يسأم طرفٌ ويقول: كفى.

وتلك الـ “كفى” بعيدةٌ للغاية في ظلّ تراكبية المشهد السوري وتعقيده واستحالة وضع جدول زمني يحمل حلاً من الداخل السوري، ليبقى المصير مرتبطاً بالخارج، وقد يكون ذلك المصير فكّ ارتباط وتغيّر تموضعٍ وقبول واقع إقليمي جديد بداعمين جدد وقرارات أممية جديدة.

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

مهن سوريّة تُبعث من رمادها

للعمل الحرفي في سوريا – سيما العاصمة دمشق – مكانة خاصة وتاريخ قديم يذهب بنا عميقاً في ردهات الزمن، حِرف أصبحت مع الوقت وجهاً من وجوهِ دمشق، وسوراً من أسوارها، وعطراً لاذعاً تفوحُ مقتنياته من زوايا بيوتها الدافئة كما تفوح روائحُ التوابل من أسواق ساروجة ومدحت باشا، شأن هذه المهن اليدوية الحميمة، شأن الهوية والانتماء.

وأبعد من ذلك تكنّت أنسابُ أصحاب هذه المهن بأنسابها، فلاصقت أسماءهم وأسماءَ أحفادهم من بعدهم، فعُرفوا بها كما عرفت بهم، كالنجار، والعطّار، والصوّاف، والخيّاط.

لكنّ حرفاً أخرى سوريّة انتشرت على نطاقٍ واسعٍ سيما في الخمسينات من القرن العشرين؛ لتلبية متطلباتِ ذلك العصرومتطلبات مجايليه كصناعة القناديل الصغيرة والتي عُرفت حتى يومنا هذا باسم “قناديل الكاز”، إضافةً لمهنِ تلميعِ النحاس والمقتنيات المعدنية بعد أن ينالها الصدأ وحِرف أخرى كثيرة كاشتغالِ السلال والصدور القش المعدة للطعام.

كل ذلكَ كانَ آنفًا كما أسلفنا، ملبياً في عصرٍ ما، متطلبات جيلٍ بأكمله. لكن، من كان يظن أن تُبعثْ هذه الحِرف من موتها إلى حياتنا الصاخبة اليوم. نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين.. قرن التكنولوجيا الرقمية، الإنترنت والذكاء الاصطناعي وتقنيات الهولوغرام!

هذا السؤال المؤلم والملح في آن، وضعنا أمام احتمالاته الكثيرة، في بلد أطفأت فيه الحرب كل مقدراته وحرمت شعبها أقل مقومات الحياة، أبسطها الكهرباء والماء. وكأن السوريين اليوم خارج تصنيف الكوكب وحضارته الضوئية! وكأن السوريين – عن غير قصدٍ – يعودونَ إلى الخلف كي يلبوا أقل احتياجاتهم بأرخص التكاليف لتصبح المقتنيات -التي كنا نزين بها مكتباتنا وبيوتنا ونفخر بها كتراثٍ يشير إلى سوريتنا – أدوات لا غنى عنها نستخدمها – تماماً – كما استخدمها أجدادنا منذ زمنٍ ظنناهُ لن يعود.

إثرَ زيارتي الأخيرة لسوق المناخلية في دمشق القديمة، تفاجأت بكثرة الورش التي تعمل في هذه المهن التراثية في ظل ضائقة اقتصادية ومعيشية يرزح تحتها السوريون بكافة مكوناتهم منذ أكثر من عقد من الزمن.

ورشٌ عدة تقوم بترميم عظام حرفٍ قد طواها الموتُ والنسيان، كالاشتغال بصناعة قناديل الكاز – آنفة الذكر – كبديل للكهرباء و”ببور الكاز كبديل للغاز؛ وجميع السوريين يعرفون جيدًا كيف كانت جداتهم تستخدم ببور الكاز هذا من أجل إشعال نارٍ خفيفة لغسيل الملابس الصغيرة أو طهي وجبة متواضعة في أيامٍ قد خلت.

ومن المهن التي بعثت بعد موتها أيضًا، تلميع الصحون والطناجر والأباريق وأدوات المطبخ، وكل ما لا يخطر في بال مواطن يعيش في هذا الكوكب وفي هذا الكون!

كان جواب – صاحب ورشة صناعة بوابير الكاز “أبو لمى” ثابتًا وصريحًا عندما سألته عن أسباب عودة هذه المهن إلى حياتنا السورية؟: “عم نلبي حاجات الناس”، وكان يقصد حاجتها للغاز الطبيعي الذي أصبح توفره في البيوت من النادر حدوثه.

وأضاف أبو لمى: منذ أربع سنوات عدت للعمل في هذه الورشة التي ورثتها عن أبي وجدي.. بعد ما يشبه بالمطالبة الشعبية لإيجاد بديل عن الغاز، فعدنا بهم مئة عام إلى الوراء “بين ما الله يفرجها” قال ذلك ساخرًا وهو يعلم تمامًا أنه ليس هو من عاد بالسوريين مئة عام إلى الوراء!!

بينما حدثني أبو عمر “المبيّض” والذي يعيد للأباريق والطناجر والأدوات المعدنية شيئًا من فاعليتها بعد تلميعها: “لم يعد بمقدور المواطن السوري شراء الجديد من هذه الأشياء.. فلجأ إلى إعادة ترميم القديم منها لستر ماء وجهه” مشيراً إلى الحبل الذي علق عليه الدلاء والأباريق: “إن ثمن قطعة واحدة جديدة مما ترى سيكلف الموظف السوري نصف راتبه”.

أما عن الرجل السبعيني الملقب “بأبي ياسين” وعمله في بيع قناديل الكاز فضحك من سؤالي عن السبب وأجاب كسابقيْه ساخراً “ليش عندكن عم تجي الكهربا” وبعد أخذٍ ورد أوصلني إلى نتيجةٍ مفادها: حتى بطاريات الشحن الخاصة “بالليدات” أصبح سعرها يفوق خيال ذوي الدخل المحدود.. فإن حالفهم الحظ وحصلوا عليها سيعاندهم الحظ ذاته لأن دقائق الكهرباء التي تمن علينا الحكومة بها، لن تكفي لشحن تلك البطاريات.

ثم اكتفى بالقول: “نحن نكتفي بهامش ربح بسيط.. ونقوم بتيسير أمور الناس .. وهنا تكمن المصلحة المشتركة بيننا وبين الزبون.. لقد اكتفينا بهامش الربح كما جعلونا نكتفي بأن نكون على هامش الحياة”. وعندما سألته عن العبوات الزرقاء المنضدة على الطاولة، أجاب: “هذا كحول يضعه الزبون في القنديل عوضاً عن الكاز.. فالكاز أيضاً مفقود فاستعضنا عنه بكحول رخيص غير مخصص للاستخدامات الشخصية”.

هكذا عادت المهن “الشعبية” إلى التكاثر بعد أن وجد السوري نفسه هو الوحيد الذي يقل مُغيّباً مرةً ومفقوداً أو مشرداً لا مكان يؤويه بعد أن نالت الحرب حتى الأمتار الأخيرة التي كان يجب أن يدفن بها.

أجل هو الأمر كما قال أبو ياسين، مصلحة متبادلة بين الصانع والزبون، إلا أنها – وعلى خلاف كل المصالح – مصلحة حميمة ونبيلة كتلك التي تنشأ بين الجار وجاره والأخ وأخيه إذا ما تمادت الأيام في الخذلان، كي يدرؤوا ما يمكن من مشاهد العوز التي تملأ الأحياء والأرصفة والبيوت، العوز الذي لن تبذل أي جهد لتلمسه بعينيك في كل وجهٍ من أجسادنا المستباحة.

لكن الخطير في الأمر أنه حتى هذه البدائل ثمة من لا تسمح له الظروف المعيشية بشرائها، والأخطر من ذلك كله أن نعتاد تلك البدائل.. عوضاً عن المطالبة بأبسط حقوقنا بعيشٍ كريم.. في بلد لو قُدرَ لثرواته أن توزع بشكلٍ عادل.. لما بقي فقيرٌ على الأرض السورية.

أما الآن فأتابع رحلتي (إلى الوراء) الوراء الذي أرادوه لنا عندما خرجنا مطالبين بحقوقنا السياسية والاجتماعية فجاء الرد بأن صرنا نطالب بحقنا في الحياة.

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

في بادية مترامية الأطراف لا تلحظ بداية لها أو نهاية يستشعر خليل النعيمي جماليات الحياة العفوية والفطرية في بيئة قاحلة وجافة، إذ يراها مزركشة بالشمس والندى والهواء في روايته العاشرة “زهر القطن” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بسرد يحاكي السيرة الذاتية لتشابهها مع حيثيات حياته التي عاشها إلى حد ما.

بادية الشام ومنطقة الجزيرة مسرح أحداث وحياة شخوص عمل النعيمي التي توزعت عبر مونولوج داخلي بين شخصيتي الأب والابن وحوار قليل بينهما وبين آخرين.     كان الولد مسحوراً بقدرة أبيه على قص الحكايا وقدرته على الكلام والتعبير عن مكنوناته ليرينا جانبه الطفولي الآخر عبر الصمت الذي لم يستطع الطفل في داخله أن يعبر عن اسمه أو ينطق بإحساسه للبنية الشعثاء التي عشقها طفلاً ولذا عندما طلب من أبيه أن يعلمه الكلام كانت العبارة الذهبية التي تفوه بها الأب وهي :” من أراد أن يتكلّم، عليه أن يتعلّم”.  كانت هذه العبارة هي البوصلة التي تحرك بها وجدانه في حركة تنقله بالأمكنة عبر الصحراء الشاسعة التي تبتلع الحياة والتي استطاع الأب أن يتآلف معها ويطوعها وينحت أسباب الوجود والاستمرار بفعل طاقة الحكاية التي يتقنها، فطاقة الكلام دليل الأنسنة في بيئة تتماهى مخلوقات الوجود مع بعضها من نباتات وشوكيات وحيوانات وبشر، ودائماً كلها في مواجهة الفناء من أنواء الطبيعة؛ للجوع؛  للأمراض السارية؛ للرمال المتحركة.

  توق الابن للكلام جعل من التعلم هدفاً له ولكن كلما تطورت أسباب الوجود كلما ضاقت دائرة المسموح، حيث تفاجأ وهو التواق إلى المزيد من الانطلاق والحرية بأن الكلام له محاذير وخطوط حمراء يجب ألا يتجاوزها وهنا كانت أولى مواجهته مع القمع ليشير بذلك إلى حقبة نهاية الستينات التي أتت بعد فورة المد الوطني ونشاط الأحزاب السياسية بكل تنوعها.

 بدأ صاحب الخلعاء نصه بعتبات نصية متتالية ترك للقارئ مهمة فك ألغازها بدءاً من العنوان “زهر القطن” الشفيف الهفيف وعلاقته بهذه البيئة المتقشفة لنعرف أنه عاصر قطاف زهر  القطن وعرف النساء البيضاوات اللواتي يشبهن القطن في مواسم جنيه، وعبر استهلالات أخرى من أحد أقوال “دارون” تعكس البون الهائل بين التقدم العلمي وبين البيئة البدائية البعيدة عن الحياة التي عاشها أبطاله والقول الآخر الذي لخص فيه تاريخ الكائن بما يحكيه لنفسه وما يحكيه للآخرين وبما يفعله أخيراً ليخلص بعدها إلى الاستهلال الثالث بأن الحقيقة صيغة ذهنية محض لا علاقة فيها للغة والأشياء، هذه العتبات يقف عندها القارئ مطولاً محاولاً إيجاد علاقة بينها وبين النص الذي يكشف أسراره رويداً رويداً.

البادية والصحراء تحيل إلى الصمت والتأمل لاتساع الفراغ من حوله وعجز الكائن عن فهمها لذا تبدو وجوداً محملاً بالغموض والتوجس الذي يجعل الفرد يتأمل في أسرار الوجود وملابساته لتكون الحرية بالنسبة له للعقل والجسد، حرية كونت ملامح هويته التي بزغت في أعماقه بشكل فطري ومتصاعد.

تواكبت حكاية ترحل الابن مع بحثه عن أماكن التعلم، فمن مدرسة “سنجق شيخموس” في عامودا والتي نال فيها الشهادة الابتدائية لينتقل إلى مدينة الحسكة في مدرسة التجهيز للمرحلتين الإعدادية والثانوية حيث عاصر فيها بعضاً من النشاطات السياسية أواخر الستينات وبروز التيارات القومية واليسارية وظهور بعض الأحزاب ذات الشعارات العالية، ليصل بعدها إلى العاصمة ولينفتح وعيه على الحياة الواسعة في دمشق حيث رأى من بعيد قسوة الحياة غير المحتملة التي كان يعيشها هو وأهله في تلك البيداء المفتقرة لأوليات العيش.

خليل النعيمي من القلائل الذين استطاعوا التعبير عن إحساسهم بعوالم الصحراء المتقشفة بعد عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني، حيث شح المكان والطبيعة الجرداء والعجاج الذي يسبب الاختناق وحجب الرؤية وتلك الرمال المتحركة التي تبتلع الحياة بالإضافة لكائنات الطبيعة المخيفة من جرادين وعقارب وحيات، طوعها لتكون وسيلة عيش وتيقظ لروح الكاتب العالية التي رأت جمالاً يشرق في نور الشمس المتلألئ في صباحاتها والندى الخفيف مبلبلاً أحاسيسه بنشوة لامتناهية، فرغم وجود أسرته في هذا الحيز من صحراء بخيلة ولكنها بذات الوقت مفعمة بمعاني الوجود المهيبة وممتلئة بالروح العالية للانعتاق من كل قيد، وربما كان قدرته وأهله على احتمال هذه البيئة ترجع لعدم معرفتهم بأي شكل لبديل آخر، وعاشوا فيها كما الإنسان الأول الذي ولد في الطبيعة وبدأ يتلمس أسباب الحياة والعيش ويتأنسن فيها.

يقول غاستون باشلار ” البيت هو ركننا في هذا العالم! ، ولهذا يتعلق الإنسان بمكان الولادة والطفولة، هو المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائناً مفتتاً”. والنعيمي يتوافق مع هذا القول ويرى في المكان غير الثابت، الخيمة التي تتلاعب بها الريح في الحل والترحال وذلك التراب المترامي الأطراف ومكاناً أليفاً وحميمياً في كثافة وجوده الأول وركنه الأولي، فهو يقف مطولاً عند المكان الأول رمز الكينونة التي صاغت وجوده وأوليات وعيه، ذلك الجدار المائل المهتز لهوية تفتش عن مقومات وجودها، لبشر يختصرون الحياة بحكم وأقوال أفرزتها طبيعة المكان حيث يبرر كل سلوك اعتماداً على قانون حفظ البقاء” فكل ما يحتاجه الإنسان كي يحيا هو أكل حلال” بعيداً عن ثنائية الحلال والحرام لأناس لا يملكون قوت يومهم وتعبير “حبل الصدق قصير” في  كسر لبديهية المثل المعروف في المفاهيم السائدة وخاصة لجهة واقعية ما يجري في العلاقات الشخصية لأنه في حالات المكاشفة لا أحد يعرف “ما يلقى من نفايات عندما يكشف خفايا شخص آخر” وفق تعبيره .

الاحتفاء بالجسد وإطلاق العنان لحاجاته ورغباته جزء أكيد من عناصر تكوين شخصيته وأسلوب فهمه للتعالق مع الحرية كنزوع طبيعي للإنسان لا يعترف فيها لما يصادرها من قوانين وتشريعات وأعراف ونظم سياسية، لأنها شيء أصيل في وجوده وهو حق له لا منة لأحد فيها، في التقاطه العالي لمعنى الألوان في الطبيعة البكر التي نشأ عليه ليكون الجنس ملفعاً ببياض الأنثى الذي امتزج مع رهافة ولون زهر القطن ضمن إحساس شفاف بصفاء اللون وعفوية التمازج وبعيد عن فهم التحريم والتدنيس للعقلية الذكورية المتعارف عليها.

 في تلك البادية المترامية الأطراف عاش بطله وكأنه الكائن الأول في الوجود، وفيها كانت أولى إرهاصاته لتحديد هويته وملامح كيانه، كان أشبه بذرة رمل في تلك البيداء الواسعة لا شيء يميزه عن سواه لدرجة أن الكاتب لا يعطيه اسماً في تضمين فكرة إن لا كينونة تميزه أو هوية تعبر عنه،  ولذا كان نزوعه الفطري تجاه الحرية، حريته ككائن فطري ما من حواجز تعوق حركته أو ما يفكر به ومن هنا كانت استجابته الطبيعية لنداء الجسد فهو لم يلقن بكوابح الغريزة الاجتماعية وموانع الأعراف ولكنه الجوع رفيقه الدائم وقسوة مريرة في الحياة لم يدرك هولها إلا عندما غادرها ولذا كان ارتحاله الدائم بحثاً عن كينونة ووجود بما فيها من كشف واكتشاف لعوالم جديدة تشبع قلقه الشخصي والمعرفي لمجاهل الوجود.

من المعروف أن الرواية فن ارتبط بالمدينة، ولا يعني ذلك أن أحداثها تقع في بيئة مدينية وإنما تتضمن وعي الكاتب الذي دخل معمعة المدينة وفهم أجواءها وتنوع عوالمها واتساع مجاهل خبراته فيها لتكون المدينة بوابته إلى العالم الفسيح الذي أضاء له الاهتمام بأدب الرحلات الذي انعكست ظلاله في روايته التي بين أيدينا، مما يثير التساؤل أهي سيرة ذاتية للكاتب وهو المهووس بالترحال، وربما هذا الميل للارتحال دليل نزوعه لفلسفة الطريق “الكافكاوية” ولذا كان أدب الرحلة ميداناً واسعاً خاض فيه ونجم عنه أكثر من كتاب على غرار “كتاب الهند الطريق إلى قونية” وسواها يعكس فيها مقاومة الحنين للمكان الأول بالمزيد من الترحال، فلحياته الشخصية آثار كثيرة نراها مبثوثة في ثنايا العمل وبعيدة عن الأسلوب التقريري في توثيق أي حكاية بل كان ميدان الذاكرة خزاناً خصباً لاشتغالات السرد في تكثيف بؤر جمالية علقت بمخيلته وأثرت على حياته وأسلوب عيشه ومن الاتساع إلى الاتساع من البادية إلى البحر نهاية المطاف وكأن العوالم لا تسعه فيهرع إلى الأوسع والأبعد ..الأبعد

يطرح القراءة كبديل عن الفعل أو كعلاقة استدلال في المحيط المنظور إذ يقذف بأسئلته لوعي القارئ: ما جدوى القراءة إذا لم تغير واقع الإنسان ويعجب كيف احتمل كل ذلك الجوع من كل النواحي في مغامرة سردية محدودة الشخوص ولكن يقابلها توغل في عالمهم الداخلي حيث يرصد ذلك  التيه في الصحراء: “عرفنا مصيرنا إن بقينا رابضين كالكلاب في مكان لم يعد يلائمنا”. من هنا يبدأ لديه هوسه بأدب الرحلات فهو يرى أن تنقلاته ضمن بلده على اختلاف جغرافيتها وتنوع تضاريسها أفرزت لديه وعياً جديداً وفهماً أوسع للحياة مما حرض لديه المزيد من الرغبة باكتشاف عوالم أخرى وهو التواق للحرية ليصطدم بالقمع في المدينة، عندما اصطدم بمحققين يسألونه عن ديوان شعر أصدره بحجة الحرب التي تدق أبوابها ليتساءل  “لماذا لا تقوم الحرب وننتهي من هذا الاحتضار فالراحة والعذاب شيء واحد” وربما يستطيع كل شخص أن يدع  أموره تمشي بقليل من التنازل ولكن هو لا يستطيع لأنه فطر على الحرية على كل المستويات  ليفر إلى بيروت  حيث لا يعرف إلى أين،  هل هو الهروب إلى العدم أو إلى عدم العدم الخيارات الآتية مفتوحة على أسوأ الشرور أو أقلها وربما إلى خير كبير يمكن أن يصيبه، ما من يقين في شيء من ذلك، غير أن الثابت ذلك النزوع الكبير للحرية واكتشاف مجاهل جديدة وبوابات مختلفة للوجود لتكون النهاية المتلجلجة بين التردد للعودة وبين سير السفينة الذي يحسم هذا التردد بتحرك المركب مساقاً إلى أقداره الآتية. 

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

سوريا: صحة الفم والأسنان ليست على قائمة الأولويات

على مدار سنوات، عانت دليلة (68 عاماً- ريف دمشق) من تسوس ونخر ظاهرين في عدد من أسنان الفكين السفلي والعلوي، مع ذلك لم تقدم على زيارة الطبيب بسبب تردي الوضع المادي للعائلة، غير أنها قررت أخيراً الخضوع لسلطة الأمر الواقع نتيجة ألم مباغت في ضرس سفلي مكسور، بقي جذره عالقاً منذ عقود.

أثناء المراجعة، نصحها الطبيب بانتزاع الضرس كلياً، وتركيب جسر (تعويضات سنية) عوضاً عنه في حال لم تفلح المسكنات، لكن بعد احتساب التكلفة، اكتفت المريضة بمسكن آلام نجح في تهدئة الوجع مؤقتاً؛ على إثره، شعرت دليلة براحة نفسية لأنها أجلت الإصلاحات إلى أجل غير مسمى.

وبعد سؤال عدد من المرضى والأطباء، تبين أن تكلفة “تلبيس” معدن زيركون (وضع تاج فوق السن المتضرر) لضرس واحد فقط متفاوتة، وقد تصل إلى حدود مليون ونصف ليرة سورية، غير أن تكلفة معالجة نخر وإضافة حشوة دائمة تقترب من حدود 500 ألف ليرة سورية في عيادات خاصة متنوعة ضمن مركز المدينة، بيد أن التكلفة تنخفض ضمن بعض المراكز الطبية أو عيادات في أحياء شعبية وحتى بريف دمشق.  

اشتكى طارق مؤخراً من ألم في أحد الأضراس، ما دفعه إلى قصد طبيب أسنان قريب من مسكنه في منطقة مزة 86، بلغت تكاليف حفر الضرس وتعبئته بحشوة دائمة 150 ألف ليرة سورية بعد خصم الطبيب 50 ألف ليرة من الكلفة الكلية لكون طارق أحد زبائن العيادة السابقين.

شعر طارق بأن التكلفة مرتفعة بالمقارنة مع المراجعة الأخيرة لسبب مماثل، ونظراً لتذبذب الأسعار وضع في حسبانه أنها ستصل إلى 100 ألف ليرة. مع ذلك يعتقد طارق أن أجور الطبيب تبدو معقولة بالنظر إلى أجور عيادات أخرى في مركز المدينة، ولهذا تشهد عيادته ازدحاماً. 

ينقل طارق عن الطبيب شكواه الدائمة من قلة توفر المواد الطبية وارتفاع ثمنها المستمر، وفي ظل تقنين حاد في الكهرباء، يرتكز الطبيب على مصدر طاقة شمسية لتشغيل أجهزة عيادته.

قطاع صحة متدهور

يبرز تقرير (هدر الحق في الصحة خلال النزاع السوري) الصادر عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، والمركز السوري لبحوث السياسات في عام 2023 مكانة الاعتماد على الدعم الإنساني بعد ما أدّى النزاع إلى تدهور حاد في خدمات الصحّة العامّة والتمويل الخاص بها، حيث انخفض الإنفاق على الصحّة العامّة بنسبة 68% بالقيمة الفعليّة بين عاميّ 2010 و2020. (المركز السوري لبحوث السياسات 2021).

وبحسب التقرير، رافق هذا التدهور تزايد كبير في الاحتياجات الصحية، وزيادة الحاجة إلى الدعم الإنساني الدولي. ويستند التقرير إلى بيانات خدمة التتبُّع المالي التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية؛ إذ تلقى قطاع الصحة حوالي 2.3 مليار دولار أميركي، ما يمثّل 9.3% من إجمالي التمويل الإنساني المقدّم إلى سوريا عبر برامج الاستجابة الإنسانية منذ العام 2011 حتى العام 2022.

وبعد حوالي 13 عاماً من اندلاع النزاع، تقدر منظمة الصحة العالمية عدد الأفراد الذين يحتاجون مساعدات صحية بـ 15 مليون شخص؛ أي 65% من السكان.

معالجة مكلفة

على الطرف الآخر، يبدو المشهد الاقتصادي مربكاً، فمع بداية شهر تموز 2024، ارتفع وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد إلى نحو 13 مليون ليرة سورية، أما الحد الأدنى فقد وصل إلى 8 ملايين ليرة سورية، وفقاً لـ”مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة” الصادر عن صحيفة (قاسيون) المحلية.

ولا يتناسب حجم الإنفاق العام للأسرة مع الدخل الشهري، حيث يبلغ وسطي الرواتب والأجور في القطاع العام حوالي 300 ألف ليرة سورية (21 دولاراً أمريكياً).

ويحد انخفاض الدخل وتضخم الأسعار من قدرة المرضى على مراجعة عيادات طب الأسنان، كذلك يلعب الألم دوراً في تقرير زيارة الطبيب من عدمها. يعمل طبيب الأسنان أنس الحريري في عيادة بمنطقة جديدة الشيباني بريف دمشق. خلال عمله، لم يصادف الطبيب حتى الآن معالجات وقائية ومعاينات دورية للاطمئنان على صحة الفم والأسنان مرجعاً ذلك إلى تردي الوضع الاقتصادي للأفراد.

يفيد الحريري بأن نسبة الحالات البسيطة التي كانت تراجع الطبيب مثل النخر أو الوجع الطفيف باتت أقل. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث أسهم تدهور الدخل إلى جانب الجهل في إهمال المعالجات أو الأمراض اللثوية ما دامت لا تسبب ألماً، يعقب الطبيب: “على الرغم من أن تداعياتها خطيرة، وقد تسبب فقد أسنان”.

ولا يزال يُقبل قسم من المرضى على المعالجة التجميلية وتبييض الأسنان، إلا أن الطبيب يقول: “إن القسم الأكبر من الحالات يرتبط بألم شديد يمنع المريض من النوم مثل الخراجات”.  وعن الفئات العمرية التي تقصد العيادة، يوضح أن فئة الأطفال هي الأكثر حضوراً.

 ويسجل الطبيب الاختصاصي بعض ملاحظاته المرتبطة بتدهور الوضع الاقتصادي، حيث يطلب بعض الأهالي اقتلاع السن المؤقت للطفل بدلاً من المعالجة بهدف تقليص التكلفة إلى الحد الأدنى على الرغم من خطورة أن يفضي الإجراء إلى مشاكل تقويمية لاحقاً، بحسب تحذير الطبيب لذوي الطفل.

استيراد مرتفع الثمن

لا يخفي الحريري أن معالجة عدة أسنان مثل “سحب عصب” (إزالة اللب والعصب المصاب من جذر السن) وغيره تتطلب أجراً يعادل دخل أكثر من شهر لموظف أو عامل، مع العلم أن تسعيرة المعالجة في الريف أقل من العاصمة.

وانعكس تأثير الأزمة الاقتصادية وصعوبة الاستيراد على أسعار المواد الطبيبة أيضاً، يشير الطبيب إلى أن أغلب المواد مستوردة، وهي إما مفقودة في السوق أو متوفرة بأسعار تتجه نحو الارتفاع بين أسبوع وآخر، ومن جهة ثانية فإن الجهات الموردة باتت معدودة، ما سيزيد سعر المعالجة في المحصلة النهائية.

وبالنسبة للأطباء، تبدو الموازنة صعبة بين رفع أجور المعاينة للمرضى، وبين زيادة التكاليف نتيجة الارتفاع المستمر في أسعار المواد واحتياجات العيادة الأخرى؛ لذا يتخوف طبيب الأسنان أنس الحريري من أن رفع أجور معاينة ومعالجة الأسنان قد يخفّض نسبة المرضى المراجعين للعيادة بالتوازي مع تدني مستوى الدخل.

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات بنسبة ما يتدفق حتى وقتنا الحالي، فإن أنهاراً مثل «الخابور وجغجغ – وزركان و – البليخ – والساجور”، باتت أنهاراً شبه جافة، ويمكن تشبيهها بـ “الوديان السيلية”، لعدم استقرار الجريان فيها وهي مرهونة بارتفاع معدلات الأمطار، والحال ذاته ينطبق على أنهار أخرى في سورية مثل العاصي وبردى واليرموك والكبير الجنوبي والكبير الشمالي وقويق وعفرين والنهر الأسود، إضافة إلى أنهار صغيرة في منطقة الساحل السوري، كلها باتت شبه جافة، وجريانها لم يعد يصل إلى مستويات التدفق التي كانت تعد طبيعية واعتيادية في ثمانينات القرن الماضي، وهو مرتبط بالأمطار وحسب.

انعكاس للمشكلة

يمكن اعتبار أزمة مياه الشرب التي تعاني منها مدينة الحسكة و54 منطقة وقرية تتبع لها في الريف الغربي انعكاساً لمستوى “الأمن المائي”، الذي تعيشه سورية حالياً، فالمحطة المشكلة من 22 بئراً كانت تعد  المصدر الوحيد لمياه الشرب لهذه المنطقة قبل دخول القوات التركية إليها في تشرين الأول من العام 2019، وكانت “آبار علوك”، تعد في حسابات الحكومة السورية مصدراً احتياطياً وبديلاً لـ “محطة آبار رأس العين”، التي دخلت خارطة الحرب في وقت مبكر من عمر الحرب في سورية، وخرجت عن الخدمة بفعل سرقة محتوياتها بعد خروجها عن سيطرة الدولة في العام 2013، وحين البحث عن مصادر بديلة لـ علوك في المحافظة التي تحتوي ثلاثة سدود رئيسة هي “الشرقي – الغربي – الجنوبي”، تقول مصادر هندسية لـ صالون سورية إن المسطحات المائية للسدود الثلاثة لم تكن ضمن خيارات البدائل، فبحيرة السد الغربي في أدنى مستوياتها، وتتصل مع بحيرة السد الشرقي ذات العمق الضحل وبالتالي ارتفاع مستوى العكارة فيها لمعدل غير قابل للتعقيم، أما بحيرة السد الجنوبي والتي تعد الأكبر لم تكن صالحة للشرب بسبب ارتفاع مستوى الشوائب الثقيلة ضمن العينات المائية التي قطفت وأرسلت من قبل المؤسسة العامة لمياه الشرب في الحسكة إلى مخابر الوزارة لتحليلها والحصول على النتيجة التي كانت متوقعة قياساً على مستوى التسرب النفطي الذي شهدته البحيرة بين العامين 2015-2016 من حقول النفط الواقعة إلى الشرق من البحيرة وتعرف باسم “حقول البريج”. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية كانت قد بدأت في مرحلة ما قبل الحرب بمشروعين ضخمين في المنطقة، الأول استجرار مياه نهر الفرات لتكون مياهاً للشرب في محافظة الحسكة، ولم يكتمل المشروع بسبب الحرب، والثاني وضع حجر الأساس في آذار من العام 2011 لاستجرار الحصة السورية من مياه نهر دجلة نحو منابع الخابور في رأس العين بما يعني أن المنطقة ستكون مؤمنة  من حيث توافر المياه وتوسيع شبكات الري الزراعي، لكن المشروع لم يعد مسافة أبعد من “حجر الأساس”، بفعل الحرب أيضا. تقول معلومات نقلتها مصادر هندسية لـ صالون سوريا، إن مشروع استجرار مياه نهر الفرات اكتمل وبالفعل وصلت كميات تجريبية إلى خزانات الضخ التابعة لمؤسسة المياه في مدينة الحسكة، لكن لا يبدو أنها ستدخل ضمن كميات كافية للمدينة وما يتبعها من مناطق، وسيبقى نحو مليون ونصف الميلون من السكان متأثرين بالصراع السياسي بين القوات التركية وقوات سورية الديمقراطية الذي تحولت “محطة علوك”، إلى إحدى أهم أوراقه، وحتى الوصول إلى حل يعيش السكان على ما توفره الصهاريج من مياه بسعر يصل إلى 7000 ليرة سورية للبرميل الواحد، أي تكلفة أسبوعية تصل إلى 90 ألف، وشهرياً إلى 360 ألفاً، أي ما يعادل 24 دولارا شهرياً في ظل مستويات دخل لا تزيد عن 100 دولار شهرياً في أحسن الأحوال.

الفرات.. تحت رحمة السياسة

كشفت معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، من مصادر هندسية أن العاملين في سد الفرات يحاولون الوصول بمخزون البحيرة إلى الحد الأعظمي بعد سنوات من عدم الوصول إليه، وذلك بالاستفادة من مستوى تدفق مستقر عند حدود 350 متراً مكعباً في الثانية من الأراضي التركية، علماً أن الاتفاق الذي وقع مع أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي ينص على ضمان الجانب التركي لتدفق لا يقل عن 550 متراً مكعباً في الثانية، وتلتزم سوريا بتمرير 54 بالمئة من الوارد المائي نحو العراق، ويعد “سد البعث”، في الرقة آخر السدود الثلاثة التي بنتها الحكومة السورية على مجرى النهر إضافة إلى سدي الفرات وتشرين. وتقول المصادر ذاتها إن قلة الوارد قد تلمس في انخفاض مستوى النهر في مناطق الرقة قبل سد البعث، أما ما بعد السد وصولاً إلى البوكمال قد لا يلمس من قبل السكان انخفاض مستوى النهر إلا إن قل الوارد لمستوى أقل من 200 متر مكعب بالثانية من الأراضي التركية، وهذا الانخفاض ينعكس على عدة مستويات، أولها من ناحية جودة المياه التي تنقل من النهر إلى محطات ضخ مياه الشرب، والثاني بتوقف محطات الرفع والضخ الخاصة بالري، والثالث من حيث انتشار الحشرات وارتفاع مستوى التلوث في بعض مناطق النهر الأمر الذي يساعد على انتشار الأمراض الوبائية في مناطق ريف دير الزور والرقة.

وفي هذا الصدد يقول أطباء من محافظة الرقة إن هناك حالات اشتباه بعودة مرض “كوليرا”، للظهور في مناطق الرقة ودير الزور خاصة في المناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات بسبب ارتفاع مستوى التلوث وانعدام التعقيم في محطات ضخ مياه الشرب، كما إن المسطحات المائية والسواقي التي تأخذ مياهها من الفرات تحولت في أجزاء منها إلى ما يشبه المستنقعات الأمر الذي يساعد على تكاثر الحشرات بشكل كبير في ظل غياب عمليات مكافحتها، ما يؤدي إلى الاشتباه بوجود مرضا “الملاريا”، عند بعض المرضى، ولا يمكن البت في تشخيص هذا المرض تحديداً لانعدام وجود القدرات المخبرية في مناطق الرقة ودير الزور التي تسيطر عليها “قسد”، وأخطر ما في الأمر أن السكان ولقلة وصول مياه الشرب لقراهم يعتمدون على مصادر غير آمنة لمياه الشرب ما يزيد من معدلات الإصابة بـ الأمراض الوبائية أو حتى الوهمية.

ري بالملوث

الأمر ذاته ينسحب على مناطق دمشق وريفها التي تعاني من قلة الوارد المائي من نهر بردى بفروعه كاملة خلال فترة الصيف وتحول أجزاء كبيرة منه إلى مجرى للصرف الصحي فقط. وبحال مماثلة تقريباً تعيش الأراضي الزراعية في مناطق حوض العاصي في محافظتي حماة وحمص، ونتيجة لاعتماد مصادر ملوثة لري المزروعات فإن احتمالية انتشار أمراض مثل “الكوليرا”، تبدو مرتفعة بشكل كبير.

يقول “أبو مصطفى”، في حديثه لـ صالون سوريا: أبلغ من العمر ستين عاماً، وأذكر أن بردى في سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات كان مقبولاً، لكنه ومنذ أزيد من 35 عاماً تحول إلى مجرى للصرف الصحي صيفا، ونهر ملوث بنسبة كبيرة خلال فترة الشتاء إلا إن كان مستوى التدفق كبيراً في السنوات التي تشهد أمطاراً غزيرة، وعلى الرغم من معرفتي وغالبية الفلاحين بتلوث مياه بردى بمعدلات عالية إلا أننا لا نجد بديلاً لري المساحات الزراعية التي نملكها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ازدياد عدد المعامل والورشات المرخصة وغير المرخصة التي تصل مخلفاتها إلى النهر أحد أهم أسباب ارتفاع معدل تلوث المياه، ومع ارتفاع تكاليف حفر الآبار وصعوبة الحصول على تراخيص لذلك، يبدو أننا سنبقى نروي مزروعاتنا من بردى، أو سنقوم بحفر آبار بطرق غير نظامية ولو كان الأمر مكلفاً.

في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في ريف حلب الشمالي، يعتمد السكان على حفر الآبار في ظل غياب وجود سلطات معنية بتنظيم استخراج المياه الجوفية التي تُعد الخزان الاحتياطي لسورية في سنوات الجفاف، ويقول “أبو ميلاد”، القاطن بالقرب من مدينة عفرين: لا يمكن الوصول إلى النهر، فأرضي بعيدة عنه، وهو أساسا شبه جاف في فصل الصيف، لذا حفرت بئراً بتكلفة عالية جداً قبل سنوات تعادل 5000 دولار أمريكي تقريبا، وهو الخيار الوحيد لضمان وجود مياه تؤمن عائلتي على مستوى الشرب ومزرعتي على مستوى الري الزراعي.