بواسطة لمى ناظم مهنا | يناير 22, 2025 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تُعَدّ سوريا من البلدان الغنية بتنوعها الثقافي والفني، وبعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى مناقشة مستقبل الفن التشكيلي في سوريا وتحدياته وآماله في ظل المتغيرات السياسية المرتقبة.
الادعاء بأن نظام الأسد كان راعياً للفن والفنون بمعزل عن الرقابة هو جزء من زيف النظام الذي تمحور حول تقديم نفسه كمجسد للصورة العلمانية والديمقراطية. وفي حين أنه كان يزعم أنه يدعم الفنون، كان الواقع عكس ذلك. فقد خنقت الرقابة الحريات العامة وحرية التعبير، ما أسهم في خلق مناخات خنقت الإبداع وحدت من تطلعات الفنانين. وأحدثت هذه التناقضات بين الادعاءات والواقع الكئيب تأثيراتها السلبية على الحركة الفنية.
سألنا الفنانة رولا بريجاوي عن الرقابة التي فُرضت على الفن التشكيلي خلال فترة حكم النظام السابق، فقالت إنه لم تكن هناك رقابة مباشرة على الأعمال الفنية، ولكن كان هناك منع لوجود موديلات إنسانية عارية. وترى بريجاوي أن أي نظام قادم يمكن أن يفرض رقابة، إلا أنها تعتقد بأن الفن يمكنه تحقيق التواصل مع المحيط الاجتماعي بطرق متعددة وبأدوات متنوعة، ما يجعل الرقابة غير فعالة في النهاية.
قدم النحات سهيل ذبيان رأياً مخالفاً وأكد أن الرقابة كانت قائمة وصارمة، مشيراً إلى أن الفنانين كانوا يواجهون رقابة أمنية مشددة، حيث كانت صالات العرض تحتاج إلى موافقات أمنية قبل إقامة المعارض، بل وقد مُنع عدد من الفنانين من عرض أعمالهم. يبرز هنا الاختلاف في الرأي بين بريجاوي وذبيان، إذ تعبر بريجاوي عن تفاؤل أكبر بشأن قدرة الفن على التكيف، بينما يؤكد ذبيان على الصعوبات الكبيرة التي واجهت الفنانين في ظل النظام القمعي.
يدور نقاش مشروع حول مستقبل الفنون البصرية في سوريا، وخاصة النحت والرسم، حيث يتبنى البعض آراء شرعية تحذر من وجود التماثيل وتصوير المخلوقات الحية. فالرأي الشرعي الذي يعتبر الأصنام محرمة، وجد صداه في تحطيم عدد من تماثيل شخصيات تاريخية في عدة محافظات سورية بعد سقوط نظام الأسد. علاوة على ذلك، يُعد تصوير الإنسان والمخلوقات الحية موضوعًا مثيرًا للجدل يستوجب النظر إليه بعناية في السياق الثقافي والديني.
في هذا الإطار، من المهم فتح الحوار بين الفنون والتفكير الشرعي، ما قد يسهم في إيجاد توافق يسمح بتطور الفنون ضمن المعايير الثقافية والدينية المقبولة. وأوضح الفنان سهيل أن الفن لا يمكن أن يزدهر في بيئة فكرية تضيق عليها الحدود، مع التأكيد على أن الثقافة الفنية تتعرض للتقليص في ظل تلك التيارات.
علاوة على ذلك، عبر ذبيان بثقة عن رأيه بأن التطرف ليس له مستقبل في سوريا، وهو ما يعكس قناعته بأن المجتمع السوري يتجه نحو تغييرات إيجابية تفتح آفاقاً جديدة للفن والثقافة.
تعتبر رؤية بريجاوي لمستقبل الفن التشكيلي إيجابية، حيث تتطلع إلى أن يلعب الفن دوراً هاماً في بناء ثقافة حيوية ومجتمع إنساني خالٍ من آثار العنف والقمع. بينما أعرب الفنان محمد أبو زينة عن قلقه من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية قد تجعل الفن التشكيلي يبدو كترف بعيد المنال بالنسبة للعديد من الناس.
لكن سهيل ذبيان يعتقد أن التحولات السياسية المقبلة قد توفر فرصة أكبر لحرية التعبير، ما يعزز من مستقبل الفنون البصرية في سوريا. التاريخ يؤكد أن الفنون تتأثر بالتغيرات السياسية، ووجود مناخ حر للتعبير الفني سيساهم في تطوير التجربة الفنية.
تناول الفنانون الثلاثة تأثير المناخ السياسي على الفن التشكيلي، وأشار محمد أبو زينة إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء، مثل الفقر والافتقار إلى الدعم، قد يحدان بشكل كبير من تطلعات الفنانين وقدرتهم على الإنتاج الفني، فالفنان وفقًا له، يحتاج إلى بيئة مُشجعة وتوافر الموارد لإبداع أعمال جديدة .
وفي هذا السياق، أعربت رولا بريجاوي عن قلقها حيال تأثير التغيرات السياسية على فرص الفنانين في التجريب والإبداع. إذ قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة حركة الفنون، حيث يواجه الفنانون صعوبة في تنظيم المعارض أو الوصول إلى جمهور أوسع. ورغم الظروف الصعبة، ترى بريجاوي أن هناك دائمًا إمكانية للإبداع ، حيث يمكن أن تجد الفنون طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها حتى في الأزمات.
أما سهيل ذبيان، فقد أعرب عن تفاؤله بأن الفترات الانتقالية يمكن أن تساعد في إحياء الفن، مشيرًا إلى أن التاريخ يبرهن على أن الفنون عادة ما تزدهر في أوقات التحولات الكبرى. وأكد أنه مع وجود تغييرات سياسية إيجابية، يمكن للفنانين استغلال الفرص لبناء مشهد فني أكثر حيوية وتنوعًا، ما يُعتبر مؤشرًا على انتعاش الثقافة الفنية في البلاد.
في المجمل، يُظهر الفن التشكيلي في سوريا أنه يظل مرآة للمجتمع، تتأثر بتغيراته السياسية والاجتماعية، بينما تبقى الآمال قائمة في أن تعود هذه الفنون لتغذي المشهد الثقافي وتساهم في التغيير الاجتماعي المنشود.
يبقى مستقبل الفن التشكيلي في سوريا مرتبطًا بشكل وثيق بمسعى المجتمع نحو الحرية والتغيير. فبينما قد تواجه الفنون تحديات كبيرة، فإن لديها القدرة على التأقلم والنمو في ظل أي ظروف، ما يجعلها عنصرًا حيويًا في عملية إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع السوري. يترقب الفنانون عهداً جديداً من الإبداع والتعبير الفني، ويأملون في أن يصبح الفن رافداً حيوياً لبناء سوريا المستقبل.
بواسطة وداد سلوم | يناير 20, 2025 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.
ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه.
أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.
إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان
بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل.
عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟
بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.
بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار.
وهو ما كان يفعله سجانو النظام مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات، فهل فكر هؤلاء الشبان وهم يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟
عدالة أم انتقام؟
كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.
يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.
هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟
سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.
إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.
إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي يستحق الانتقام.
تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر.
في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟
بواسطة أسامة إسبر | يناير 6, 2025 | News, العربية, بالعربية, مقالات
يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من “فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم ويُختطفون، ورأينا أشخاصاً يُرْفسون بالأقدام ويُنكّل بهم ويُهانون ويُشْتمون في استعراض مشهدي يهدف إلى الإذلال وإهانة الكرامة. يحاكي هذا الأداء ويستنسخ ممارسات الأجهزة الأمنية السورية القمعية والوحشية التي كرهها وعانى منها معظم السوريين الذين يتوقون إلى رؤية سلوك قانوني يجسّد مفهوم الدولة، ويحقق العدالة ويدين المجرمين في المحاكم، بعيداً عن الممارسات المخالفة للقانون التي تزرع الغضب في النفوس وتحصد الخراب. إن الانتقام، في المراحل الانتقالية، يهدم البلدان، ويعجّل في خرابها، ولهذا حذّر المفكرون والباحثون والفلاسفة والحكماء وعلماء السياسة من خطره.
من معاني الانتقام في اللغة العربية ”مقابلة السيئة بمثلها“. والانتقام ”معاقبة الشخص على ما صنع معاقبةً ناشئةً من القوّة الغضبية، و بدافع نفسي وذاتي“. ونظر حكماء العرب إلى الانتقام على أنه فعلٌ هدّام يمنح لذّة على المدى القصير لكنه يُورث الندم على المدى الطويل. وذُكر في مصادر التراث العربي أن المنصور قال لولده المهدي: إن ”لذّة العفو أطيب من لذة التشفي“. وانتقد ابن القيّم الانتقام قائلاً: ”وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفّيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام“.
يتقاطع رأي المتنورين العرب مع رأي فلاسفة اليونان في أن للانتقام عواقب خطيرة. فقد انتقد أرسطو الانتقام قائلاً إنه ليس من العدل إلحاق الأذى بأي شخص، حتى وإن كان ذلك في إطار الرد، لأن الأذى في حد ذاته ليس عادلاً أبداً.كما أن الانتقام تعبير عن الرذيلة، لا الفضيلة، لأن الرجل الفاضل الحقيقي يتصرّف بهداية من العقل لا العاطفة، ويسعى إلى خير الجميع، وليس نفسه فقط، كما أن مقولة “العين بالعين”، تقوّض السّعْيَ العقلانيّ لتحقيق العدالة.
يتّفق المفكرون الحديثون مع حكماء العرب، وفلاسفة اليونان، على أن الانتقام سمّ يقتل روح من يسعى إليه، ويلوّث العالم الذي يتم فيه. لكن العدالة، عن طريق الوسائل القانونية، تسمح بإمكانية الشفاء وإعادة البناء، كما تقول الباحثة القانونية الأمريكية، وأستاذة القانون في جامعة هارفارد، مارثا مينّو في كتاب صدر في ١٩٩٨بعنوان “بين الانتقام والتسامح: مواجهة التاريخ بعد الإبادة الجماعية والعنف الجماعي“. إن الانتقام، حين يُمارَس خارج إطار القانون، يؤدي إلى إدامة العنف. وإذا أصبح الانتقام مبدأ موجِّهاً للعدالة، من الممكن أن يقود إلى تأجيج الصراع، وإطلاق دورة لا نهاية لها من العنف والعنف المضاد.
يولّد غياب حكم القانون، في أعقاب الانقلابات والصراعات وسقوط الأنظمة، فراغاً يتفشّى فيه العنف والانتقام دون رادع. ويقود في غالب الأحيان إلى وضع يسود فيه حكم الغوغاء والمجرمين. بالتالي، إن الاعتراف بحقيقة ما حدث، والمساءلة القانونية، ضرورة لا بدّ منها للتعافي المجتمعي، لكن الرغبة في الانتقام يجب أن تُدار بعناية عن طريقالعملية القانونية، والجهود الرامية إلى بناء مستقبل مشترك تحت مظلة العدالة الانتقالية. قد يقدّم القصاص لذة وإشباعاً عاطفياً، كما تقول مينو، ويمكن أن يعدّه البعض “عادلاً”، إلا أنه ينتهك المبادئ الأخلاقية. وعندما يحدث خارج إطار القانون يكون مدفوعاً بالغضب، أو الإذلال، أو الرغبة في التشفّي، وهي مشاعر لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج عادلة. علاوةً على ذلك، إن القوى المنتصرة التي تستلم السلطة، إذا سعت إلى الانتقام بطرق غير قانونية، فإنها تخاطرُ بالتضحية بشرعيتها الأخلاقية، وتآكل الأساس الأخلاقي اللازم لإعادة بناء مجتمع عادل وديمقراطي. ويؤدي هذا إلى إضعاف القدرة على الحكم والحفاظ على النظام. وتشير مينو إلى أن الانتقام قد يوفّر إرضاء عاطفياً فورياً للضحايا، لكنه يهدّد الاستقرار على المدى الطويل لأنه ينكأ الجراح، ويُحْدث صدمة جماعية، ويفاقم المشكلة، ويزيد أيضاً من الانقسامات القائمة، مغذياً الاستياء بين الجماعات المتصارعة. وعندما يتم الانتقام خارج الأطر القانونية، فإنه يقوّض الثقة في القوى المنتصرة. هذا ما حذّر منه الفيلسوف وعالم السياسة النرويجي جون إلستر حين قال: إن الأخذ بالثأر، خارج إطار القانون، يتمخض عنه في معظم الأحيان وضعٌ تصبح فيه العدالة تعسفية، وذات دوافع سياسية، وتتقوّض عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي، لهذا ينبغي أن يكون حكم القانون مبدأ أساسياً.
يتقاطع ما قاله الفيلسوف النرويجي مع ما أكّده عالم اللاهوت الكرواتي ميروسلاف فولف، الذي شدّد على أهمية الصفح في مجتمعات تمرّ في مراحل انتقالية بعد الصراعات، أو سقوط الأنظمة. فالصّفح ليس مجرّد عمل أخلاقيّ بل عمل سياسي يمكن أن يمهّد الطريق للسلام. وفي المجتمعات التي تمرُّ في مرحلة ما بعد الصراع، يجب فصل الانتقام عن العدالة، لأن الانتقام يرتبط بالماضي، في حين ترتبط العدالة والمصالحة بالمستقبل وبنائه. علاوة على ذلك، يعوق الانتقام عملية التعافي لهذا يجب على المجتمعات أن تجد سبلاً للصفح والتسامح من أجل إعادة بناء نسيجها الاجتماعي كما شدّد كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق، الحائز على جائزة نوبل للسلام في ١٩٨٠، ديزموند توتو، الذي عيّنه الرئيس الراحل نيلسون مانديلا رئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة، التي شُكلت للتحقيق في جرائم ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري.
تتقاطع هذه الآراء مع آراء ناشطين سوريين بارزين شاركوا في الثورة السورية في بداياتها المدنية، وتعرّضوا لأحكام سجن ظالمة وغير إنسانية، من أمثال الناشط الحقوقي ومدير شؤون المحتجزين في فريق الطوارئ السوري، عمر الشغري ابن قرية البيضا في بانياس، الذي عبّر في إحدى حلقاته على إنستغرام، عن رؤية عميقة تثير الإعجاب (نظراً لتجربته المأساوية، ونجاته بأعجوبة من الموت في السجن) حين قال: إننا يجب أن ننطلق من أساس قانوني يخدم العدالة مبتعدين عن الغضب والانتقام كي لا نرتكب جرائم قمنا بإدانة نظام الأسد لأنه اقترفها. في السياق نفسه أكّد المحامي السوري، وناشط حقوق الإنسان، ورئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمعتقل السابق مازن درويش، في حوار أجْرته معه ”مجلة المجلة“ أن الجرائم التي ارتُكبت في سوريا لم تكن أحادية الجانب، بل تمّت على أكثر من مستوى، وفي أكثر من سياق، ومن قبل أكثر من طرف. تحدّث مازن درويش عن مستويات في الصراع السوري لها أساس طائفي، وأخرى لها أساس عرقي ومناطقي، وعن صراعات بينية حتى بين القوى المنتصرة، ما يقتضي التعامل بنزاهة قانونية مع الجرائم التي ارتُكبت.
يتطلع السوريون إلى الخروج من نزعة القبائل والطوائف والعشائر الثأرية إلى المساءلة القانونية، تحت مظلة العدالة الانتقالية، التي يطبقها ”شعب“، أو “مجتمع حضاري“ يعيش في دولة قانون ومواطنة هي وحدها الكفيلة ببناء وطن للجميع. إن تحقيق العدالة يتطلب معاقبة مرتكبي الجرائم، والاعتراف الجماعي بالمعاناة، والالتزام بالحقيقة، وخلق مساحات للمصالحة كما يُجمع علماء السياسة. في غياب هذه العناصر، قد يتحوّل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إلى انتصار أجوف، من شأنه أن يعمّق الانقسامات، ويطيل من أمد العنف. وكما قال الأب ديزموند توتو في خطبته التي حملت عنوان ”لا مستقبل من دون صفح“: إن الصفح لا يعني التظاهر بأن الأمور مختلفة عما هي عليه في الواقع، إن الصفح مواجهة، وذكر للحقيقة كما هي، وتخلّ عن الانتقام، ونظر في عينيْ الوحش. إنه كمثل فتح نافذة لجعل الهواء النقي يدخل إلى غرفة مغلقة ورطبة ومظلمة، وإزاحة الستائر كي يغمرها الضوء“.
بواسطة محمود عبد اللطيف | يناير 5, 2025 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
في مساء ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر تعلن “إدارة العمليات العسكرية”، إطلاق معركة “ردع العدوان”، وتبدأ هجوما على خطوط “الجيش السوري”، في ريف حلب الغربي، وبشكل سريع تبدأ وحدات الجيش بالانسحاب لتصل قوات الإدارة العسكرية لتخوم حلب. في تلك الأثناء كان الاستنفار في غرف الأخبار قاطبة على أشده، وبشكل سريع انتقل الخبر السوري على سلم الأولويات لوسائل الإعلام الدولية وتصدره. كان التواصل مع المراسلين شبه مستحيل، إذ لم يجرؤ أحد على تبني معلومات الانسحاب خشية من رد فعل مخابرات نظام الأسد، وكان الاتصال بمحافظ حلب ينتهي سريعا بجملة “ماني فاضي”، بمجرد أن يعرف أن المتصل أحد العاملين في غرفة أخبار أي وسيلة إعلامية سورية. وعلى الرغم من تأكيد المراسلين والصحافيين والسكان لخبر دخول “إدارة العمليات العسكرية”، إلى حلب، لم يجرؤ أحد على نشر الخبر قبل أن تنهي وزارة الدفاع سلسلة الأخبار التي تتحدث عن إرسال تعزيزات عسكرية إلى حلب، بخبر “إعادة التموضع”، وهكذا تباعا حتى بدء اقتحام ”حماة”. وكانت البيانات تنفي كل ما تقوله قوات المعارضة إلى أن أتى خبر “إعادة التموضع”، وهكذا استمر الأمر حتى يوم السابع من كانون الأول/ ديسمبر حين قررت وسيلة إعلام سورية ألا تنتظر خبر “إعادة التموضع”، الرسمي حول حمص وأذاعت ما يحدث بشكل منفرد رغم الخوف من استخبارات النظام، وعند الساعة التاسعة من ذاك المساء بدأ الذعر يسري في كل مكان.
مقدمات السقوط
كان الاتصال بمصادر عليا من قبل القائمين على وسائل الإعلام ينتهي بمعلومات تبدو خطرة وخيالية، فمن كانوا في المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري لم يوقفوا اتصالات التوبيخ والتهديد بسحب التراخيص والاعتقال حتى يوم السقوط، فمن ينشر أخباراً عن انسحاب قوات الجيش من الجنوب السوري سيُحاسب، في وقت يُطلب فيه الحديث عن “طوق دمشق”، والمقصود به تحصين العاصمة قبل بدء الدخول في مفاوضات لتطبيق القرار ٢٢٥٤، بعد أن يبقى للنظام سيطرته على دمشق والساحل. في الوقت نفسه كانت الأنباء التي ترد من الساحل بانسحاب قوات الجيش لا يمكن نشرها تحت التهديد بسبب اتصال هاتفي من محافظ اللاذقية آنذاك يهدد ويتوعد، ثم تأتي اتصالات تصر على نشر تصاريح مسؤولين من مستويات بسيطة كـ “رئيس بلدية دوما”، ينفي فيها دخول أي قوة إلى المدينة ذات الخصوصية الكبيرة بالنسبة لـ “الثورة السورية”، ثم التأكيد على وجود “قائد شرطة ريف دمشق”، على رأس قوة لإنهاء أي تظاهرة أو مظهر مسلح في مدينة “حرستا”، التي تعد ذات بعد استراتيجي كبير في حسابات الدفاع عن العاصمة. وكان رفض نشر هذه الأخبار مغامرة كبرى من قبل من رفضوا، فماذا لو أن حديثهم عن تفاوض يقوده الأسد كان صحيحاً، ماذا سيكون رد فعل المخابرات على أفعال من يسميهم النظام بـ “المندسين”، بين صفوفه؟!
ضجيج مفاجئ في الأحياء ذات الصبغة العلوية في العاصمة دمشق، نزوح بأشكال مختلفة، وسيارة صغيرة قد تكون مكتظة بعشرة أشخاص يحاولون الفرار إلى الساحل الذي ما زالت الأنباء تؤكد بقاء الجيش في نقاطه رغم الأنباء عن إخلاء المربعين الأمني والعسكري في العاصمة. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ما بعد منتصف الليل، غرف الأخبار مكتظة بالقلق والتخبط والأنباء التي ترد ولا يجرؤ أحد على نشرها رغم أن وسائل إعلام عدة تنقلها على الهواء مباشرة، وكانت إجابة مدير أي وسيلة تبث من دمشق على سؤال: ماذا نفعل؟: ”انتظروا شوي”.
كان الخروج إلى الشارع في ذاك الوقت مع كاميرا يبدو مغامرة، الكل يركض، ثمة أشخاص بزي مدني لا تعرف تبعيتهم يطلقون الرصاص في الهواء بكثافة في منطقة المزة ومحيط ساحة الأمويين، وعند الساعة الثانية فجراً بدأ تحليق مكثف للطيران الحربي مع انفجارات ناجمة عن القصف. في تلك الساعة بدأت مغامرة العمل في غرف الأخبار تأخذ شكلا أكثر درامية، والكل يحاول تقديم أخبار لا تورطه مع النظام، فيكتفي بنقل أخبار مثل “سماع أصوات رصاص – سماع أصوات انفجارات – تسجيل حرائق – أنباء عن سقوط ضحايا”، دون الاقتراب من خبر إخلاء المواقع العسكرية والمقار الأمنية في العاصمة ومحيطها، ولا حتى خبر النزوح الجماعي، فالأمر ما زال مثيرا للرعب من رد فعل النظام، ورغم إن التسابق على نشر الأخبار والحصول على لقب “أول من نشر كذا”، كان سباقا محموماً طيلة سنوات الحرب، غير أن كتابة خبر “سقطت دمشق”، كان يبدو خطرا، ثقيلا، ومغامرة قد تنتهي برصاصة في الرأس من عنصر في مخابرات النظام، أو حبل مشنقة في سجن صيدنايا.
الساعة الثالثة يخرج خبر يؤكد فرار الأسد وعائلته، لم يكن ثمة مصدر واضح لهذا الخبر لكنه كان مؤكدا لجميع من يعمل في الإعلام السوري الحكومي والخاص، ولم يكن أحد ليمنع أي أحد بمغادرة مكان العمل، ولأن التلفزيون السوري توقف عن البث ودخلته عناصر من الفصائل التي تقدمت من الجنوب السوري نحو العاصمة، بات الأمر محسوما، لكن الخوف الذي زرع في نفوس الصحفيين منعهم من التجرؤ على القول: سقطت دمشق، وتركوا الأمر للناس لتعرفه وحدها.
ما بعد السقوط
تبين صباحاً أن عناصر “هيئة تحرير الشام”، لم يصلوا بعد لدمشق، الشوارع مزدحمة بين حاملي السلاح من سكان دمشق، يمكن تمييزهم عن عناصر الفصائل التي دخلت من جنوب سورية بسبب الفارق بين الزي المدني النظيف، والزي العسكري الذي يرتديه عناصر الفصائل، وهنا نوع من الناس كان يحتفل حاملا أعلام الثورة، لكن المشهد المؤلم تمثل بـ “التعفيش”، أو بصورة أدق “أفعال السرقة”، وللمصادفة فإن من دخلوا القصور الرئاسية وسرقوها كانوا من سكان المناطق القريبة منها، وبمعنى أدق هم من “أثرياء دمشق”، وهؤلاء من تولوا مهمة سرقة السيارات وكل ما هو ثمين، بينما وصل سكان الأحياء البعيدة (الفقراء)، متأخرين، لترى سيدة تخرج حاملة عبوة “قهوة”، أو شاب يحمل “كرسياً خشبياً”، غير أن لقية هؤلاء الحقيقية تمثلت بشركة “إيما تيل”، التي يملكها شكلاً “أبو علي خضر”، ومضموناً “أسماء الأسد”، والتي جعلت من الهاتف الجديد حلماً لكثير من الفقراء، فسطوا على كل ما يحتويه مقر ومنفذ البيع الخاص بالشركة، لكن هذه الفوضى لم تكن لتليق بـ الثورة والتحرير، ولم يتحدث أي من الصحافيين هذه الفوضى خشية من رد فعل “الثوار”، كذلك لم يذكره أحد من الصحافيين الذين أتوا إلى دمشق مع إدارتها الجديدة، رغم أن هذه الإدارة ما تزال تطالب بإعادة المسروقات من المؤسسات الحكومية والخاصة.
إن توصيف “فلول النظام”، الذي يطلق جزافاً على أي صحافي يحاول الحديث عما يحدث في سورية، يقابله توصيف “مندس”، الذي كان يطلقه النظام على من يخالف ”حكومة بشار الأسد“. وثمة تهم جاهزة مثل “التحريض الطائفي”، يوجهها جمهور الإدارة الجديدة لكل من يكتب منتقداً تصرفات “حكومة تسيير الأعمال”، ما يجعل من العمل الصحافي في سورية في الوقت الراهن ينطوي على الكثير من الخوف، فالقوانين لم تتضح بعد، وفي ظل انعدام وجود مؤسسة نقابية يمكن أن تحمي الصحافيين، سيبقى الأمر كذلك.
بواسطة أسامة إسبر | ديسمبر 25, 2024 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لطالما خطرت في ذهني وأنا أفكّر بالوضع الذي آلت إليه الأمور في سورية في ظلّ حكم نظام بشار الأسد، قصيدةُ الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي الشهيرة “بانتظار البرابرة .“اليوم وصَل من صوّرهم إعلام النظام السابق بأنهم ”برابرة“، و”إرهابيون” إلى العاصمة، وجلسوا على الكرسي الذي ورثه بشار. لكنهم لم يأتوا مرددين ”بالذبح جيناكم“، بل استخدموا لغة مسالمة وتصالحية خالية من الإقصاء والعنف، وجّهوها إلى السوريين من مختلف الطوائف والمذاهب، الذين عانوا من التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعسف والإجرام الأمني في ظل حكم الأسد، إلى درجة أصبحوا فيها مستعدين لإنشاد خاتمة قصيدة كافافي بمكبرات الصوت: ”ما الذي سيحدث لنا من دون البرابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل”.
عمل النظام الديكتاتوري العسكري السابق طوال عقود على إفراغ البلاد من أي بدائل سياسية تقدمية أو يسارية أو علمانية حقيقية عن طريق قمع وحشي مارستْهُ أجهزته الأمنية دفع العديد من السوريين إلى الانضواء تحت رايات التنظيمات السلفية الجهادية المتطرفة. وحاول النظام تصوير نفسه على أنه يقاتل هذه التنظيمات، وحظيَ بقبول عالمي نوعاً ما، وتم الترويج له بأنه يمثّل التوجهات النيوليبرالية، وحرية السوق الأمر الذي اقتضى رسم صورة براقة عنه تقدمه كمتحضر إزاء “متخلفين” ثائرين عليه يجب ضبطهم كما قالت الباحثة الأكاديمية الأمريكية ليزا ودين في حوار أجريتهُ معها منذ عدة أعوام، ونُشر في “العربي الجديد”. تحدّثت ودين عن صورة عالمية ـ محلية ارتبطت فيها سيطرة النظام برأسمال خاص، وتجسّدَ هذا رسميًا في تسويق صورة عصرية عن “عائلة الرئيس“ في الإعلام قُدم فيها أفرادها كأعضاء للطبقة الأخلاقية النيوليبرالية. إلا أن هذه الصورة لم تكن حقيقية، ولم يفعل النظام شيئاً سوى سنّ سكّين القمع على مِشْحَذ تحالفات عبّدت له طريقاً في فراغ تهاوى فيه واختفى كأنه لم يكن موجوداً، ولم يبق منه إلا الجراح التي أحدثها في الجسد السوري.
يتجلى اليوم في سوريا مشهد حيويّ يفتح باب التحولات السياسية. أحد أبرز هذه التحولات هو الانتقال المتوقع إلى شكل الحكم القادم في ظل قيادة هيئة تحرير الشام، والتي تتبنى الآن لغة الاعتدال وقبول الآخر والانتقال إلى مرحلة المؤسسات، بحسب تصريحات مسؤوليها. وحين سأل مراسل الجزيرة زعيم هيئة تحرير الشام عن شكل الحكم القادم في سورية، وإن كانت تركيا توافق عليه، في المؤتمر الصحفي الذي عُقد مؤخراً في دمشق مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اعتبر أن السؤال موجه إلى وزير الخارجية التركي، إلا أنه في جوابه على سؤال آخر قال: ”إن منطق الدولة يختلف عن منطق الثورة“، وأنه يجب تأسيس دولة ”تليق بوضع المجتمع السوري“. هذه التصريحات تحمل دلالات واضحة تشير إلى توجّه نحو الاعتدال، رغم أنها قد تحتمل أيضاً قراءات أخرى بسبب عدم توفر سياق كاف يوضح الأمر بشكل تفصيلي. ولقد تحدّث وزير الخارجية التركي عن ضرورة صياغة دستور جديد يرسّخ المواطنة والتساوي في الفرص والواجبات، ويحمي المجتمع من تسلّط فئة على أخرى.
يُستشفّ من هذه التصريحات الإعلامية وما سبقها، ومن السلوك على الأرض السورية، أن هيئة تحرير الشام عدّلت خطابها، وتبنت لغة سياسية معتدلة تقتضيها عمليه الحوكمة التي تهيئ نفسها لها، وهذه الظاهرة ليست جديدة في الشرق الأوسط، فقد حدثت في دول مثل إيران ومصر، إلا أن الوضع في سوريا أشد تعقيداً، وما يزال علينا أن ننتظر كي نرى إذا كان باب السلطة القادمة سيُفْتح لمشاركة الآخرين.
في كتابه “الإسلام والسياسة” (صدرت طبعته الرابعة في الإنجليزية في ١٩٩٨)، درسَ الباحث والأكاديمي الأمريكي جون إل. إسبوسيتو، أستاذ الدين والشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورجتاون، ظاهرة الانتقال من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال في الحركات الإسلامية، وأشار إلى أن الحركات الإسلامية السياسية غالباً ما تبدأ بخطابات أيديولوجية راديكالية تدعو لإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة، ولكن بمجرد أن تصل إلى السلطة تجد نفسها أمام التعقيدات الكبيرة لعملية إدارة الدولة وللحوكمة ما يدفعها للتكيف مع الواقع السياسي، وتقديم تنازلات، وهو ما يفضي إلى تحوّل تدريجي نحو الاعتدال. هذا ينطبق قليلاً على هيئة تحرير الشام، التي منذ أن تولت إدارة المناطق المحررة في إدلب، لوحظ تغير جليّ في سلوكها. فقد تحولت من مجرد حركة جهادية سلفية متشددة إلى “حكومة مصغرة” تدير الشؤون اليومية للسكان. وربما كان هذا التحول ناجمًا عن ضغوط داخلية وخارجية، وعن الحاجة الماسة للتكيف مع الواقع السياسي.
في كتابه “جعل الإسلام ديمقراطيًا: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلاموي”، يدرس المفكر والمؤرخ آصف بيات كيفية تحول الحركات الإسلامية من جماعات متطرفة إلى حركات تتبنى مواقف أكثر اعتدالًا. ذلك أن هذه الحركات، عند وصولها إلى السلطة، تدرك صعوبة تطبيق أفكارها المتشددة، مثل إقامة دولة إسلامية تتقيد بالشريعة. وبالتالي، تبدأ بحثها عن تسويات مع القوى السياسية القائمة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. في إطار هذا التوجّه تبنت الحركات الإسلامية في مصر وتونس وتركيا وإيران خطابًا أكثر ديمقراطية وتعددية بعد وصولها إلى السلطة، نتيجة للضغوط السياسية والاقتصادية. وأصبحت مضطرة للتعامل مع قضايا معقدة مثل الإصلاح الاقتصادي والتعليم والرعاية الصحية، الأمر الذي تطلب اتخاذ قرارات سياسية عملية احتاجت إلى تفاوض وتسوية مع أطراف متعددة. وتلعب العوامل الداخلية والخارجية، بحسب بيات، دورًا جوهريًا في تحول التنظيمات الإسلامية نحو الاعتدال. فالعولمة والضغوط الدولية تدفع هذه الحركات إلى تبني سياسات براغماتية تتماشى مع معايير الحكم المعترف بها دولياً. كما أن الشباب داخل هذه الحركات، يعارضون التفسير المتشدد للإسلام، ويلعبون دورًا مهمًا في دفع الحركات الإسلامية نحو الاعتدال عن طريق مطالبتهم بمزيد من الحريات السياسية والإصلاحات الديمقراطية، ما قد يشجع الحركات على إعادة النظر في بعض مواقفها التقليدية.
يتفق بيات وإسبوسيتو على أن التنظيمات الدينية، عندما تنتقل من المعارضة إلى الحكم، تواجه تعقيدات إدارية تدفعها إلى اتخاذ قرارات قد تتناقض مع أيديولوجياتها الراديكالية الأصلية. ذلك أن إدارة الدولة تتطلب وضع سياسات عملية تتعارض في كثير من الأحيان مع الرؤى الطوباوية، مثل إنشاء دولة إسلامية نقية، أو فرض تفسيرات صارمة للشريعة. كما أن حكم دولة ما يتطلب توازناً بين المصالح المتنافسة داخلها، وإدارة المطالب المجتمعية المتنوعة، فضلاً عن الانخراط في الأنظمة الاقتصادية العالمية. وبالتالي، تجد هذه الحركات نفسها مضطرة لتنفيس تشددها الأيديولوجي لضمان قدرتها على الحكم بفعالية.
تتسارع التغيرات في الداخل السوري وتظل التساؤلات والشكوك قائمة بشأن كيفية تأثيرها وتجليها في طبيعة وتركيبة النظام الذي سيحكم دمشق مما يبقي المستقبل مفتوحاً على العديد من الاحتمالات خاصة أن الوضع الداخلي يسوده الترقب في ظل تفاقم التوتر وتعقيدات الوضع في الشمال، واستمرار خروقات جيش الاحتلال الإسرائيلي وتعدياته في الجنوب.
بواسطة عمر الشيخ | ديسمبر 24, 2024 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
مع سقوط النظام السوري يوم 8 ديسمبر 2024، تنفتح البلاد على مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والتطلعات. بعد عقود من الاستبداد والصراعات، يواجه السوريون مسؤولية جسيمة لبناء دولة تعكس تطلعاتهم للحرية والكرامة.
إن تحقيق هذا الهدف يتطلب تجاوز إرث طويل من الانقسامات العرقية والدينية التي تشكلت بفعل النظام السابق وسطوة القوة العسكرية على السياسة، والسعي من أجل إعادة تشكيل المؤسسات الوطنية على أسس جديدة.
التحدي الأول يتمثل في كيفية تحقيق توافق داخلي بين المكونات المتنوعة وصياغة رؤية وطنية جامعة تضمن المشاركة العادلة لكل الأطياف، بما في ذلك الأقليات التي تحمل مفاتيح حيوية لتوحيد البلاد.
كما يبرز دور القوى المحلية المسلحة في هذا السياق، إذ يمكن أن تكون إما حجر عثرة أمام بناء الدولة، أو شريكًا إذا أُدرجت ضمن مؤسسات وطنية. غياب الحلول الحقيقية للانقسامات الداخلية قد يدفع سوريا نحو سيناريوهات قاتمة تُكرس الفوضى. لذا، يحتاج السوريون إلى حوار شامل يتجاوز الماضي، ويؤسس لمستقبل يليق بطموحاتهم.
رغم الترحيب الذي لاقته بعض الفصائل المسلحة، مثل هيئة تحرير الشام ذات التاريخ العسكري المختلف، في العديد من المدن السورية عقب سقوط النظام، فإن التخوفات منها تظل قائمة لدى شريحة واسعة من السوريين، خصوصًا من الطوائف الأخرى. هذه المخاوف ترتبط بتاريخ الهيئة المليء بالتشدد وأدلجتها ذات الجذور العميقة، بالإضافة إلى وجود عناصر أجنبية في صفوفها، مما يعزز شعور القلق حول طبيعة المرحلة المقبلة.
على الرغم من أن إسقاط النظام تم دون إراقة دماء تُذكر في معظم المدن، باستثناء إعدامات قيل إنها طالت من تلوثت أيديهم بالدم السوري تزامنت مع اندلاع بعض الحوادث الثأرية في مناطق سورية، مما يستدعي ضرورة عاجلة لسن أسس قانونية واضحة لمحاسبة الجناة قبل ازدياد المخاوف وفقدان السيطرة عليها. هذه المخاوف لا تقتصر على الداخل السوري فقط، بل تمتد إلى أعين العالم التي تراقب يوميًا تعامل هذه الإدارة الجديدة في سوريا مع مختلف الثقافات والعادات والظواهر، ما يزيد من تعقيد التحديات في مرحلة إعادة البناء الوطني.
تسعى هذه المقالة لتقديم قراءة نقدية عبر أسئلة، تستند إلى رؤى متعددة ومقترحات عملية، لعلها تساهم في توضيح الطريق أمام السوريين في هذه المرحلة الحاسمة.
كيف يمكن للسوريين تحقيق توافق داخلي في ظل تنوع عرقي وديني واسع وتاريخ طويل من الاختلافات؟
توجهنا بالسؤال إلى الكاتب السوري، نجيب نصير، والذي قال لـ “موقع صالون سوريا” مجيباً: ربما يبدو من المعيب أن أجيب على سؤال بسؤال آخر، ولكن متى كان السوريون، أو غيرهم من التجمعات السكانية العربية، في حالة توافق؟ بالأساس، لا تعبر كلمة “توافق” عن العيش المجتمعي (ولا أقصد الاجتماعي هنا تحديداً)، فهي تشير فقط إلى نوع من الترتيبات المؤقتة لتسيير الأمور، مما يعكس أحد الأعطاب الجذرية في مفهوم العيش المشترك. هذا الترتيب المؤقت تدعمه “الدولة” وتدرّب عليه الأفراد باعتباره شرطاً للعيش في مجتمع معاصر، لتفرض الهوية الجامعة كقاسم مشترك ظاهري بين الجميع. ومع ذلك، يبقى هذا الهدف بعيد المنال طالما ظل مفهوم “التوافق” هو الغاية المرجوة، لأنه يقف في تعارض صريح مع المساواة، العامل التأسيسي الأول لأي مجتمع حقيقي.
عندما يبدأ الحديث عن “الأقليات” الدينية أو الثقافية، يفقد المجتمع معناه الأساسي، ويصبح عقيماً غير قادر على إنتاج دولة حديثة بالمعنى المعاصر. بدلاً من ذلك، يتم إنتاج سلطة غير قابلة للمساءلة أو تحمل المسؤولية، مع استمرار تدريب الشعب على ثقافة النفاق والتملق والفساد، والتغني بقيادة “استثنائية وفريدة”.
منذ عام 1958، لم يعد الشعب السوري يمتلك مجتمعاً بالمعنى الحقيقي، وبالتالي لم ينجح في بناء دولة بالمعايير المتفق عليها بين الأمم. في المجتمعات التي تنتج دولاً، لا يظهر التنوع الديني أو العرقي كعائق أمام الدساتير والقوانين، بل يتم تجاوزه لصالح المساواة، حيث يُنظر إلى هذه الاختلافات كجزء من الفلكلور الذي يجب احترامه دون أن يطغى على الدستور، الذي يُفترض أن يعبر عن إرادة المجتمع بأسره، في حال وجود مجتمع فعلي.
إن التوافق بطبيعته هش ومؤقت، ولا يعبر سوى عن مصالح الأقوى أو الأكثر عدداً، الذين يفرضون رؤيتهم ومصالحهم على حساب المصلحة العامة. هذا ما حدث منذ عام 1958، حيث تم تجاهل المساواة كشرط أساسي لتحرير الإرادة المجتمعية. ومن دون مساواة، لا يمكن تحقيق عدالة، ناهيك عن مفاهيم أعقد، كالحرية، التي تتجاوز بكثير التوافق كمفهوم وأداة.
كما توجهنا بالسؤال للكاتب والصحفي السوري علي سفر، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”: لا يمكن تحقيق توافق حقيقي في أي مجال دون جمع الأطراف المعنية على طاولة حوار. ومن هنا تبرز أهمية الدعوة إلى مؤتمر وطني شامل، حيث يجتمع الجميع لمناقشة القضايا العالقة والشائكة بصراحة ووضوح. وإذا لم تُحسم النتائج في الجلسات الأولى، يُمكن تمديد النقاشات حتى الوصول إلى حلول شاملة. يُذكر أن فكرة المؤتمر الوطني ليست جديدة على سوريا؛ فقد شهدت المملكة السورية عام 1919 انعقاد مؤتمر مشابه أثناء صياغة دستورها الأول، قبل أن تقضي سلطة الانتداب الفرنسي على أولى التجارب الديمقراطية في البلاد. ومن الطبيعي ألا يبادر الجميع بالمشاركة الفورية في المؤتمر، إلا أنه يبقى القاطرة الأساسية التي تقود نحو المسار السلمي والديمقراطي.
ما هو الدور المتوقع للقوى المحلية المسلحة في إعادة بناء الدولة؟ وهل يمكن احتواؤها ضمن مؤسسات وطنية؟
يقول الكاتب نجيب نصير: السلاح يحسم النقاش ويطفئ النضال الدستوري. في حضوره، يُلغى الفارق بين الجبان والشجاع، والذكي والغبي، والوطني والعميل. السلاح ليس مجرد أداة قهر؛ إنه وسيلة تُسكِت شعوباً بأكملها، وتجعلها تعيش تحت وطأة الخوف، حتى عندما تُضرب مصالحها الأساسية. والمصالح، كما نعلم، هي من الأسس الجوهرية لبناء المجتمع وتأسيس الدولة.
في ظل سيطرة السلاح، لا مكان لفكرة “الاحتواء”، سواء في المؤسسات الوطنية أو الشعبية. فالسلاح هو الذي يفرض تعريفه على حامله، لا العكس. وعليه، فإن الخضوع الفوري والواضح لدستور عادل وشامل هو ما يمكن أن يمهد الطريق للتسالم الاجتماعي، وهو شرط لا غنى عنه للعبور إلى مفهوم المجتمع المعاصر.
لكن مع وجود المجموعات المسلحة، يُجبر الشعب على اختيار ما يخدم بقاء هذه المجموعات واستمرارها. هذا الإذعان لا ينبع من إرادة حرة، بل نتيجة تربية ممتدة على الخضوع والخوف، تجعل الشعب عاجزاً عن مواجهة السلاح.
فيما يجيبنا الكاتب على سفر: تلعب القوى المسلحة دورًا بالغ الأهمية، خاصة في المرحلة الانتقالية، حيث تكون الضامن والحارس للأمن. ومع ذلك، يجب أن تسهم في تأسيس جيش وطني، وشرطة، وأجهزة أمن عامة. إذا لم تندمج ضمن هذا الإطار المؤسسي، فإن المستقبل قد يتحول إلى مشهد مليشياوي يهدد الاستقرار، حيث تخضع البلاد لأهواء تلك القوى ومصالحها الضيقة. وهذا يعني الانحراف عن أهداف الثورة الأساسية والإخلال بالأمن الشخصي لكل مواطن سوري.
من الضروري أن يدرك المقاتلون أنفسهم أهمية دورهم في بناء سوريا المستقبلية، وهو إدراك ينبع من الحاجة الملحة لاستعادة الحياة المدنية والتركيز على التنمية. بالمثل، تقع مسؤوليات مشابهة على عاتق السياسيين، لضمان تكامل الأدوار وتحقيق شعور مشترك بين الجميع بأنهم يسهمون في صياغة مستقبل البلاد.
إلى أي مدى يمكن للأقليات العرقية والدينية أن تسهم في صياغة رؤية وطنية جامعة، بعيداً عن الاستقطاب الحالي؟
يجبنا الكاتب نجيب نصير: لا يمكن للأقليات أن تقدم شيئاً ذا قيمة طالما بقيت محصورة تحت وسم “الأقلية”، حيث إن المساواة القانونية لا تشملها بشكل كامل. ربما يوفر الدستور بعض الحماية، ولكن القوانين التنفيذية وتعليماتها غالباً ما تستهدفها بشكل مباشر وتُصيبها في مقتل.
نعاني من فقر شديد في علماء الاجتماع والإحصاء، الذين كان يمكن أن يسهم وجودهم في فهم أعمق لواقع الأقليات وعوائق إدماجها في المجتمع بشكل أفضل. لا توجد إحصائيات أو دراسات اجتماعية تسلط الضوء على هذه الأقليات، التي يتم التذكير بها في كل مناسبة تقريباً، وكأن هناك نوايا عامة للتعامل معها بطريقة استثنائية، وهو أمر يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة.
خذ على سبيل المثال السريان، الذين هُجِّروا جماعياً من كيليكيا في جنوب الأناضول عام 1924 لأسباب تتعلق بكونهم أقلية، ثم أعيد تهجيرهم مرة أخرى عام 1969 للسبب ذاته إلى السويد وأستراليا، رغم أنهم مواطنون سوريون. لم تُجرَ أي دراسة أو إحصاء حول مصيرهم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
وحتى الآن، لا توجد أي دراسة اجتماعية أو إحصائية عن هجرة أي من الأقليات المحلية، مما يجعل الحديث عن إشراكهم في المجتمع، من باب المجاملة الوطنية، تعبيراً واضحاً عن فشل عميق في الرؤية إلى الاجتماع السوري ومفهوم الدولة.
فيما يجيبنا الكاتب علي سفر على نحو: بالطبع، يمكن لجميع المكونات أن تسهم في بناء وجود إيجابي إذا تم الاتفاق على صيغة شاملة للحكم وللدولة. وأعتقد أن تحقيق الشعور بالمساواة يبدأ بتجاوز مفهوم الأكثرية والأقلية، واستبداله بمفهوم المواطنة. هذا النهج يتطلب إعادة بناء المفاهيم التي ترسخت بفعل النظام والقوى الإقليمية والدولية، والتي غالبًا ما نظرت إلى المجتمعات الشرقية من منظور نمطي، وافترضت أن الانقسام المجتمعي أمر ثابت وكأنه صفة جينية.
إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الانقسام هو نتيجة للاستبداد وأحد أدوات السيطرة التي اعتمدها الطغاة.صحيح أن بؤر الانقسام موجودة في كل المجتمعات، لكن أسلوب تعامل الدولة المدنية والديمقراطية مع الأفراد والجماعات هو العامل الحاسم في صنع الفرق. وتاريخ الشعوب مليء بالتجارب التي تقدم دروسًا ومقاربات مهمة في هذا المجال.
ما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا إذا استمرت الانقسامات الداخلية دون حلول حقيقية؟
يقول نجيب نصير: تأسيس المجتمع يبدأ من تعريفه على أساس الاشتراك في المصالح الدنيوية فقط، وهو الدور الأساسي للقوى السياسية. علينا إعادة صياغة مفهوم الوجود الجماعي للأفراد، ونشر هذا المفهوم وتطبيقه من خلال الدستور.
هذا النهج يقودنا إلى سيناريو وحيد منطقي: التنمية. أما خارج هذا الخيار، فهناك مئات السيناريوهات المحتملة، ولكن معظمها لا يخرج عن الفوضى أو الركود. فالعالم ليس ساحة خيرية تدعم الإعمار لأجل الإعمار فقط؛ إنه فضاء مفتوح على المنافسة. ولكي تكون جزءاً من هذا العالم، عليك أن تكون منافساً، ذا إرادة قوية، ومتخلصاً من أعباء التخلف.
الثورات، في جوهرها، ليست فقط محاولات للتغيير، بل هي فرصة لتربية الشعوب على التطلع إلى مكانة أعلى مما كانت عليه. ومع ذلك، تبقى الانقسامات الداخلية واحدة من حقائق سوريا القدرية، كما هي حال العديد من دول العالم. الفرق أن هناك أدوات ووسائل في أماكن أخرى للتعامل مع هذه الانقسامات وإدارتها. أما في سوريا، فإما أن هذه الأدوات غائبة، أو أن الرغبة في استخدامها معدومة.
الكلام عن القوى الخارجية صحيح وحقيقي، وكذلك الحديث عن علاقة الحاكم والمحكوم، التي عاشها السوريون لعقود حتى باتت جزءاً من وعيهم الجمعي. لكن فكرة التدرج الزمني للوصول إلى غاية محددة باتت خرافة في عصرنا الحالي. تأسيس مجتمع وتوليد دولة حديثة لم يعد لغزاً؛ نحن نعيش في عالم تحوّل إلى قرية صغيرة، والوصفة السحرية لتحقيق ذلك هي “الدستور”. دستور ينظم صفوف الشعب كمجتمع حي ومعاصر، قادر على الإنتاج والمنافسة على الساحة الدولية.
أن تكون سياسياً، وربما براغماتياً، وتتقدم خطوة خطوة، هذا نهج المجتمعات المؤسسة والمستقرة، التي تعرف دولتها أولوياتها الداخلية والخارجية. أما الثورات، فهي لحظة فارقة تتطلب قرارات حاسمة وإرادة جماعية لإحداث قفزة حقيقية نحو مستقبل أفضل.
فيما يرى على سفر أنه: في مرحلة ما، كان البعض يرى أن التقسيم قد يكون الحل الأفضل في مواجهة الاستعصاء الدموي الذي فرضه الأسد على السوريين، حيث بدا الانفصال وكأنه السبيل الوحيد للتصدي لعصابات القتل التي استباحت حياة البشر. لكن مع سقوط النظام والمجرم وزوال عصابته، أصبح هذا الخيار خلف ظهور السوريين. اليوم، بات من الضروري التفكير في أن الانقسامات الداخلية يجب أن تشكل دافعًا للتفهم والحوار. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن الحلول السحرية غير واردة؛ فبدون الحوار لن نتمكن من تحقيق أي نتائج، حتى لو أعدنا المحاولات مرارًا وتكرارًا.
توجهنا إلى الصحفي والشاعر زيد قطريب وطرحنا عليه الأسئلة السابقة، حيث قال لـ “موقع صالون سوريا”:
“دعونا لا نقبل تكرار نماذج فاشلة مثل دستور بريمر في العراق أو دستور لبنان واتفاق الطائف. التنوع أمر طبيعي في المجتمعات، فهل يعقل أن نسأل ‘أحمد’ عن ردة فعله إذا فاز ‘طوني’ بالانتخابات؟ وهل يحق لإلياس أن يغضب إذا كان محمد مديراً عليه؟
يجب الانتقال الآن من عقلية القبيلة إلى عقلية المجتمع الواحد، والقوانين هي الضامنة لذلك. في الآونة الأخيرة، اجتاحت إسرائيل حدود اتفاقية الهدنة بحجة حماية الأقليات، وهو ذات الخطاب الذي تكرره أمريكا دائماً. في الواقع، عندما نسمع مثل هذه التصريحات، يبدو الأمر كإنذار بهجوم وشيك، وكأنك تُدفع لحمل السلاح قبل وقوع الخطر.للأسف، الغرب هو المسؤول عن هذه النظرة. فرنسا جاءت بحجة حماية المسيحيين الموارنة، والإنجليز للدروز، وروسيا للأرثوذكس. كل هذا كان مجرد أكاذيب هدفها تفتيت المجتمع السوري تاريخياً وإضعافه. وعندما يقال اليوم إننا لا نستطيع الاتفاق بسبب التنوع الطائفي والعرقي، فهذا يعني ببساطة أننا مهددون بالتفتت. ما أثبته السوريون خلال الأسبوع الماضي بعد سقوط النظام يؤكد أن المجتمع السوري يسير في مسار طبيعي وموحد. إنه مجتمع متنوع مثل المجتمعات الأوروبية والأمريكية، التي لا تنتمي لطائفة أو عرق واحد، لكنها تدير شؤونها بوعي ومواطنة. رعاة سايكس بيكو يتحملون وزر هذا المرض الذي زرعوه في منطقتنا.
لقد عملوا على تقسيمنا طائفياً وعرقياً، بتبرير أننا عاجزون عن إدارة أنفسنا أو أننا نتعامل مع بعضنا كالأعداء. المجتمع السوري عاش بهذه التركيبة منذ آلاف السنين، فلماذا يُفترض الآن أنه عاجز عن الاتفاق؟ هذه فكرة غربية وأمريكية تهدف إلى تفتيت المنطقة خدمة لمصالحهم. اليوم، هناك قيادة سورية جديدة أمام امتحان مصيري: هل تريد بناء دولة ديمقراطية تحتكم لصندوق الانتخابات؟ أم أنها ستختار الحكم العسكري؟ هل يقبلون تداول السلطة عبر صندوق الانتخابات؟ بكل صراحة، الشعب لم يعمل على الخروج من حكم الأسد البائد، إلا أملاً في الحرية ومواكبة العصر والحداثة.
وسوى ذلك سيكون عودة للوراء. الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد مواقف الجميع، وفق طبيعة الدولة التي سيتم إقرارها.. الغرب متهم بالنسبة لنا. لم يعتذر عن جرائمه بحقنا، سواء أثناء الثورة السورية الكبرى أو الثورة الجزائرية وثورة المليون شهيد. لم يعتذر عن وعد بلفور، ولا عن اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت أوطاننا. التنوع في المجتمعات طبيعي، لكن المستعمرين أرادوا استغلاله لتقسيمنا وجعلنا وليمة سهلة. الحل الوحيد يكمن في صياغة قوانين ودستور يساوي بين جميع أبناء المجتمع في الحقوق والواجبات.
أما إذا لجأنا إلى الاستئثار بالسلطة، فسنكرر أخطاء الماضي. سوريا قادرة أن تكون دولة لجميع أبنائها، لكن أي محاولة لفرض الهيمنة ستؤدي إلى الانقسام. من غير المقبول تجزئة المجتمع. فإذا حاولت الأكثرية فرض رؤيتها بالقوة، فلن يكون هذا إلا استنساخاً لنهج بشار الأسد، ولن نحقق أي تغيير. الأنباء القادمة من المحافظات فيها بعض التجاوزات، وربما يعود هذا إلى وجود كتائب متعددة في المدن السورية. دعونا لا ننسى أن المبدعين السوريين مثل أدونيس والماغوط ونزار قباني، لم يكونوا رموزاً أدبية بسبب انتمائهم الطائفي، بل بسبب إنجازاتهم.
هذه التصنيفات الطائفية تُسخّف الواقع ولا تخدم مصلحة المجتمع. من يملك السلطة، هو المسؤول عن وضع القوانين والدستور المساوي بين الجميع. فإذا نجح في ذلك، سيكون الجميع معه. أما إذا فشل، فسيبقى المجتمع مشوشاً ومنقسماً. بالنسبة إلي كمواطن عادي، إذا شعرت أن القوانين تحميني وتدفعني للمشاركة، سأنهض للمشاركة دون تردد. أما إذا شعرت أنني مجرد بيدق يمكن أن يتعرض للأذى إذا تكلم، فسأنعزل. لنوسع دائرة الحوار، فليس لنا سوى بعضنا، نحن أبناء الجسد السوري الواحد“.
أمّا بالنسبة للكاتبة والناقدة د. لمى طيارة، الحاصلة على دكتوراه في الإعلام السياسي، فقد أخبرت “موقع صالون سوريا” بأنها لا ترغب في الخوض في فرضيات غير مؤكدة أو تبنيها. ومع ذلك، أكدت أن هذا لا يعني أنها متفائلة بمستقبل مشرق لسوريا في ظل كل هذه التجاذبات القائمة.
وعلى الصعيد الشخصي، أوضحت د. لمى أنها واجهت تحديات كبيرة ككاتبة وناقدة على عدة مستويات. أحد أبرز تلك التحديات كان خوفها من الكتابة في صحف أو مجلات كانت تُعتبر “معادية” للنظام السابق، مما يعني تعرضها للتساؤلات والمضايقات. حتى عندما كانت تكتب مقالات ثقافية أو فنية، كانت تمارس الكتابة بحذر شديد، وكأن “حارس البوابة” يجلس فوق رأسها، يراقب كلماتها، يصحح مسار قلمها، ويحدّ من حريتها.
وأضافت أن النصوص المسرحية التي كتبتها، والتي نالت جوائز واستحسان النقاد والمسرحيين العرب، لم تكن بمعزل عن تلك العقبات. فقد واجهت رفض الرقيب ولم تتمكن من نشرها أو عرضها، بحجة أن “لا أحد يريد الآن التحدث عن أزمات المواطن مثل الكهرباء أو الغاز”. وأكدت أن هذا السلوك كان ممنهجًا للتعتيم الكامل على الواقع ومنع أي صورة حقيقية من الوصول إلى الناس. وأشارت إلى أن هذا التوجه وصل إلى حد إغلاق مكاتب القنوات الفضائية العربية ومنعها من تغطية الأحداث في سوريا. ونتيجة لذلك، ترى أن كثيرًا من أشقائنا العرب، بمن فيهم الإعلاميون، يجهلون الكثير عن واقعنا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية.
أما اليوم، فتقول د. لمى إن الخوف أخذ طابعًا مختلفًا، خاصة مع انتشار دعوات لإلغاء وزارة الثقافة وأنشطتها. وتعتبر أن مثل هذه الدعوات تمثل خطرًا كبيرًا، حيث ترى أن الثقافة ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية وأولوية لهذه المرحلة، وليست أمرًا يمكن تأجيله إلى مرحلة لاحقة.