لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.
ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه.
أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.
إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان
بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل.
عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟
بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.
بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار.
وهو ما كان يفعله سجانو النظام مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات، فهل فكر هؤلاء الشبان وهم يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟
عدالة أم انتقام؟
كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.
يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.
هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟
سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.
إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.
إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي يستحق الانتقام.
تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر.
في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟
يقع كهف لاسكو في جنوب غرب فرنسا بجوار نهر فيزنر الذي اعتادت الغزلان قطع مياهه صباح كل يوم، وفي مشهدية ساحرة تنفض عنها قطرات المياه العالقة بوبرها، ومن ثم تتجه نحو بوابة الكهف، لتدخله بروية وتتابع حياةً امتدت لما يقارب 17000 عام بجوار قطعان الثيران والأحصنة والغزلان والماعز البري والبيزون والماموث. عوالم مثيرة ارتسمت على جدران هذا الكهف، حددت معالمها شبكة من الخطوط والأصباغ الطبيعية، التي كرّسها إنسان ذلك العصر لتشكيل ما يشبه أولى معارضه الفنية.
في العام 1998 م، اجتاحت سلالات الفطور والعفن رسومات كهف لاسكو، حيث لم تشفع لها آلاف السنوات التي عاشتها متشبثة بجدران الكهف من فتك هذه المخلوقات الصغيرة. ومذ ذاك الاجتياح، لا تنفك ترتسم أمام عينيَّ صورةُ الثور بجرحه الذي ينزُّ كل تلك الأعوام الطويلة، وأتساءل عن المصير الذي ينتظره في حال وصول تلك المخلوقات إليه.
تُصنّف رسومات لاسكو بأنها وثائق مصوّرة يعود تأريخها إلى العصر الحجري القديم الأعلى، وقد أفضت غالبية الدراسات إلى أنّ الهدف الأساسي من هذه التصاوير محوره “السحر” أي تطويع هذه الرسومات وما تحمله من عناصر في ممارسات سحرية وتسخيرها لإشباع غريزة البقاء!
– هل حقًّا “السِّحر” هو الدافع الحقيقي الوحيد الذي حدا بإنسان ذلك العصر إلى تصوير هذه المشاهد؟
– يتبعه تساؤل حول دوافع إنسان العصر الحالي إلى استنساخ هذا الكهف الضخم، و بناء نسخة مطابقة له على بعد 2 كم من الموقع الأصلي؟!
في إحدى دراساته لتاريخ الفن عبر العصور، يذكر أرنولد هاوزر: “إن الغريب في التصاوير المطابقة للطبيعة في العصر الحجري القديم، أنها تعطي انطباعاً بصرياً يبلغ من التلقائية، ومن نقاء الشكل والتحرر من كل تأنق أو قيد عقلي مالا نجد له أي نظير في تاريخ الفن اللاحق إلا عند حلول النزعة الانطباعية الحديثة، ففيها نكتشف دراسات للحركة تذكرنا بالصور الفوتوغرافية”(1). يعني ذلك أنّ إنسان العصر الحجري القديم كان يرسم ما يراه، ولم يكن يصوّر أكثر مما يمكنه أن يلتقطه في لحظة واحدة وفي لمحة واحدة للموضوع.
اذاً يمكننا اعتبار هذه الرسومات بمثابة دلالات بسيطة عن شكل عالمنا قبل ولادة الكاميرا، الأداة المستنسَخة عن أعيننا التي تنقل الانطباعات عن العالم، وتحفظُها. لكنّ الحظ لا يسعفنا دوماً بمصادفة وثائق وبقايا تُسّهل بناءَ تخيّلٍ للحياة سابقاً، خاصة وأنّ غالبية المواد التي استخدمت فيما مضى ذات طبيعة قابلة للتلف والتآكل بفعل عوامل الزمن، والاستثناءات هنا محكومة بمعايير تفرضها البيئة المحيطة وشروطها المناسبة لإنتاج آليات تقاوم التقلبات المناخية القاسية. تزخر المنطقة العربية بالبقايا والدلائل الحافظة لأرشيف كبير من عمر البشرية، إلا أنها الأكثر تشويهاً لهذا المخزون التراثي. ينجم هذا التشوه بشكل أساسي عن “المزاجية السلطويّة”، حيث تتحكم القوى الحاكمة في هذه المنطقة بخارطة توزع هذا التراث، وتكرّس سؤالاً بات يتكرّر:
– ما الذي تقدمه لنا اللُّقى والبقايا الأثرية؟ ولماذا نسعى لدراستها ونقوم بترميم التالف منها؟
التعديات الخطيرة على البنى التاريخية في مصر:
ضمن هذا السياق، ساد الأوساط الثقافية في الآونة الأخيرة جدلٌ كبير، أثارتهُ عمليات الهدم المدروسة للأبنية التاريخية في مصر، والتي يبدو أنه لن يكون آخرها هدم “قصر أندراوس” في الأقصر بقيمتهِ التّاريخيّة والمعماريّة، حيث صرّح أحمد عرابي مدير معبد الأقصر:
“إن القصر له قيمة تاريخية بكل تأكيد، إلا أنه ليس قصراً أثريًّا بأي حال من الأحوال، وغير مدرج كأحد القصور الأثريّة وعدة عوامل أدت إلى هدمه منها عنصري القدم والتشقق!”(2)
بنى “قصر اندرواس” توفيق باشا أندراوس الذي يعدُّ من أهم سياسييّ عصره، وأحد زعماء حزب الوفد المصري(3). تأتي أهمية القصر من كونه شاهداً على أحداثٍ تاريخيّة وسياسيّة هامة، في مقدمتها النضال ضد الإنجليز، واحتضانه لسعد زغلول سنة 1921 عندما رفضت الحكومة أن ترسو سفينته على أي شاطئ، كما شهد القصر اجتماعات عديدة لقيادات حزب الوفد بصعيد مصر والمحافظات الأخرى، وهو أحد قصرين يعودان لعائلة أندراوس، الأول لـِ “يسي باشا أندراوس” هُدم في تسعينات القرن الماضي.
لم يكن قصر أندراوس أول القُصور التي هُدمَت، بل سبقه هدم سلسلة من العمائر التاريخية من بينها قصر “مكرم عبيد” في قلب محافظة قنا، والذي تعرّض سنة 2013 إلى سلسلة من المحاولات الحثيثة الهادفة لهدمه. وهو واحد من العمائر الأثرية ذات الطراز الذي شاع في القرن الماضي في قصور الوجهاء والساسة في عهد أسرة محمد علي، وتعود أهميته التاريخية والحضارية إلى أنه كان مملوكًا لأحد زعماء الحركة الوطنية المصرية، فضلاً عن عناصره الأثرية وتفاصيله المعمارية الفريدة.
وفي المحافظة نفسها يقع قصر “فاضل باشا” حاكم قنا، الذي تعرض لسلسلة من الحرائق، الأمر الذي دعا الأهالي للاعتقاد بأن القصر مسكون بالجن والشياطين، إلا أن المعاينة الجنائية أشارت إلى وجود آثار سكب مواد بترولية ساعدت في اشتعال النيران بأجزاء كبيرة منه. ومحافظة قنا تحتوي على العديد من الأوابد الأثرية، باتت غالبيتها محاطة بالقمامة والقاذورات، وتتعرض لأبشع أنواع الإهمال وعمليات التخريب الممنهجة.
أثارت هذه الإبادة وساوس وأسئلة حيال الرغبة العارمة في اجتثاث القصور التي بنيت مطلعَ القرن العشرين من قبل زعماء الحركة الوطنية المصرية، المناهضة للاحتلال الانكليزي وللملكيّة أيضاً بشكلٍ خاص، والأخطر يكمن في انتهاج سياسة عامة هدفها السّعي وبقوة إلى مسح خارطة المباني التّاريخيّة المنتشرة بكثرة ونسفها من الذاكرة.
في منتصف مايو 2021، كشف آثاريون أنّ طابية الفتح الأثرية في أسوان الفريدة من نوعها في مصر، والتي يرجع تاريخ بنائها إلى العصر العباسي/ الفاطمي، قد هُدمت لإنشاء خزّانات مياه. نفت وزارة الآثار في البداية أن يكون هناك قرار بهدم الطابية ثم زعمت أنّ الهدم حدث عن طريق الخطأ.
تُعلّق الباحثة الآثاريّة سالي سليمان مؤسّسة مبادرة “بصّارة” على الهدم داخل القرافة بأنه كارثة، مشيرة إلى أنّ “قرافة المماليك”*(4) تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري ومبانٍ أخرى غير مسجلة، والهدم بحسب الوزارة لم يمسّ ما هو مسجّل كأثر، إلّا أنّ القرافة تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تخضع لقانون اليونيسكو. وتضيف: “حينما دخل بلدوزر جهة الهدم لم يهدم آثاراً مسجّلة لكن هدم تراثاً إنسانياً مهماً، وكان يمكن أن يحدث أكثر من ذلك لولا أن أثار الأمر الرأي العام.”(5)تعرضت العديد من الأوابد والعمائر الأثريّة في المناطق المأهولة بالسكان لأبشع المجازر، ولم توضع أيّ استراتيجية لحمايتها ودراسة آليات حفظها، آخذين بعين الاعتبار النزعة الاقتصادية في التعامل مع الآثار، وتنازع الملكية بين مسؤولي الأوقاف من جهة ومسؤولي الآثار من جهة ثانية والورثة كجهة ثالثة، الأمر الذي غالبا ما يتحول إلى تبادل الاتهامات فيما بينهم ومن ثمّ تهربهم من المسؤولية، فتضيع معه هوية المبنى ويصبح رهينة قيّمة معلّقة المصير. سيتوه في دوامة المعاملات والأوراق القانونية عند احتياجه لأبسط عمليات الترميم والصيانة، وهناك شواهد عديدة على هذا النوع من المباني التي تهاوت نتيجة الصراع على الملكية والطمع بما سيدره المبنى من أموال وكنوز.
رداً على كل هذه التعديات، جرت مطالبات كثيرة لتسجيل هذه العمائر أثريّاً، إلا أنّ الذي حصل هو العكس تماماً، فلقد عانت بعض الأوابد من سحب الصفة الأثريّة عنها بالرغم من أنها مُسجّلة، وعانى بعضها من ضخ المياه إلى أسسه بهدف تفتيتها، وأُضرمت النيران بأسقف وجدران البعض الآخر محولين إياها إلى مساكن أشباح مخيفة لا تجد من يدافع عنها لحظة إعدامها والفتك بها. ما أشبه ذلك بالاجتياح الفطري الذي يهدد حياة الرسوم الجدارية في الكهوف! ففي كلتا الحالتين نواجه مخلوقات مُتنفذة تتمدد وتنمو بشكلٍ خطير وبتغذية من البيئة المحيطة، وما تقدمه لها من عوامل بقاء وانعاش!
في كتابه “سببية وجدلية العمارة” يذكر رفعت الجادرجي: ” الهدف الإنساني من حماية التراث هو المحافظة على التوثيق العمراني، أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس، ولا تتضمن هذه العملية أية أهداف اقتصادية على الإطلاق. إضافة إلى أنّ المحافظة على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي لتأكيد هوية المجتمع وخصوصيته..”(6)
فأهمية الأبنية التاريخية أنّها تجسيد ظاهر لما هو مخفي ومطمور بين صفحات الكتب والدراسات، تختزل آلاف الرفوف من التاريخ في مداميكها الحجرية، الحافظة للعديد من الوثائق والدلالات المميزة لكل عصر، مما يجعلها سفن للعبور والانتقال بين الأزمنة. وبدورنا سوف نتلقف سير أصحابها وحكاياتهم عبر شقوق النوافذ والشرفات، ما يمكننا من محاكاة الزمن وقراءة تحولاته، لذا فإنه ليس من الترف أو الرّفاهية الحفاظ على هذه العمائر بشقيّها الزخرفي والانشائي.
تتعاظم كارثة هذه الأبنية في حالة تجاورها إلى جانب بعضها البعض مشكّلة (المتحف المديني). شوارع كاملة تتباهى بعصور تاريخية مختلفة تسكن جنباتها. ومع هذا الكم التراثي الهائل، ما الذي يترتب على مدن كحلب، القاهرة، دمشق، بغداد وصنعاء و.. فعله ازاء المتغيرات العاصفة التي تستشرس في استيراد مقاييس الحداثةالبعيدة عن بنية المكان السّيكولوجية والهويّاتية وتجبرها على استيعابه؟
التأثيرات الأساسية في تغيير بنيوية العمارة ونقدها:
لعبت المَيْكَنة التي اجتاحت العالم في أواخر القرن 18 الدور الأساسي في ظاهرة استنساخ الأنماط المعمارية المقولبة، التي أنتجت مدناً منسوخة عن بعضها البعض، مدمرةً كل مظاهر التّنوع والتّجانس الذي يشكّل ملامح كل مدينة ويميزها عن الأخرى. استطاعت المكننة إحداث تغيير جذري في العمارة، وكان أول ظهور لها في مجال تصنيع الحديد الصلب، الذي دخل في تصنيع الجسور والبيوت الزجاجية. ولقد ساهمت حروب القرن (20) في تطور المكننة، فحجم الدمار الذي أصاب المدن فرض على العالم خطة إعادة إعمار سريعة، وبناء عليه بدأت معايير وأشكال جديدة في عمليات البناء. وأبرز ما تم طرحه في ذلك الوقت تجسّد في وحدات لوكوربوزييه(7) التي اعتُبرت حينها الأكثر نجاحاً من سواها لقدرتها على إعادة بناء النسيج المديني على النحو الذي يُساعد في تأمين عمالة كاملة، وتحسين المشهد الاجتماعي، إلى جانب دورها الكبير في حفظ الانتظام الاجتماعي الرأسمالي الذي كان مهدداً بوضوح في العام 1945.
أُثيرت العديد من الانتقادات لنمط عمارة الحداثة، حيث اعتبر كريير بأنّ التخطيط المديني الحداثي يعمل أساساً من خلال إيجاد قطاعات وظيفية، وعليه تغدو حركة السّكان بين القطاعات عبر وسائط مصطنعة هي الهاجس الأساسي للمخطط، مولّدةً بالتالي نمطاً مدينياً هو “مضاد للبيئة” لإسرافه في هدر الوقت والطاقة والأرض، وعبّر عن ذلك في قوله:
“إن البؤس الرمزي للعمارة الراهنة والمجال المديني الراهن هو نتيجة مباشرة وتعبير في آن للرتابة الوظيفية كما أرستها تقاليد التقطيع الوظيفي فنماذج البناء الحديثة وأنماط التخطيط الرئيسية كناطحات السحاب، وسابرات الأعماق، ومنطقة الأعمال المركزية، وشريط المحال التجارية، وغابة المكاتب، والضاحية السكنية…الخ، هي تركيز مفرط، أفقياً أو عمودياً، لاستعمال واحد في قطاع مديني واحد، أو في برنامج بناء واحد، أو تحت سقف واحد”.
على نقيض ذلك سعى كريير إلى مخطط مدينة مؤلفة من “جماعات مدينية محددة وكاملة” تشكل كل منها دائرة مدينية مستقلة داخل عائلة كبرى من الدوائر المدينية، أو بتعبير آخر “مدن داخل مدينة”. في ظل هذه الشروط يمكن إعادة بحث “الثراء الرمزي” للأشكال المدينية التقليدية المبنية على “استيعاب التنوع الأقصى ومحاورته والتعبير عن التنوع الحقيقي، كما تظهره الوقائع الغنية والفعلية للأمكنة العامة، والنسيج المديني”.(8)
وتأتي أهمية هذا الطرح من قدرته على خلق رؤية لأمكنة جديدة مستوحاة من رؤى تقليدية بالرغم من كل التسهيلات التي قد تضفيها التقنيات والمواد الحديثة. مما يتيح الحفاظ على طابع الأمكنة وهويتها دون المساس بمقوماتها كمدينة لها معايير ومحددات تخدم طبيعتها وشروطها الوظيفية، حيث انه ليس من السهل إعادة صياغة شبكة العلاقات المعقدة التي ترسمها وتحددها نقاط ارتكاز مسار الحركة والمركز الحيوي للمكان.
أثار هالبفاكس فكرة الفضاء الاجتماعي ومدى ارتباطه وتأثيره الوطيد في الذات البشرية في كتابه “الذاكرة الجمعية”:
“ليس الموضوع موضوع تناغم وتوافق فيزيائي بين طابع الأمكنة والأشخاص، ولكن كل غرض من الأغراض التي نلقاها ونحتك بها ضمن مجمل الاشياء، تذكرنا بطريقة عيش الكثير من الأشخاص، وعندما نحلل هذا التكوين ونعير انتباهنا لكل جزء من أجزائه نكون وكأننا نشرّح فكراً تتداخل فيه مساهمات عدد من الجماعات.”(9)
في بحثه في أعماق الذاكرة الجمعية يغوص في معضلة “الفضاء المعماري” الذي ترسخ في أدمغتنا، فأفعالنا وردود أفعالنا تنبع مما يحيط بنا من مكونات، وعلاقتنا بالفضاء المعماري بشقيه المادي والعاطفي ومدى انغلاقنا عليه تمثل أدوات ذات تأثير فعال في سيكولوجيتنا البشرية.
في سيرتها الذاتية المعنونة بـ”جبل الرمل” – تيمناً بالجبل الرملي في المندرة في الاسكندرية- تنسج رندا شعث من بيت جدتها فاطمة الذي يقبع في قمة الجبل ذاكرتها الأولى، وتذكر في نهاية سيرتها بأن الجبل قد أُزيل لِيتم البدء بحفر أساسات عمارة على حافة السور البحري: “بيعت الرمال البيضاء، واختفى الجبل تماماً بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه. صار الجبل الرملي الأبيض مسكناً لمئات العائلات، عانت الجدة من العابرين المجهولين الذين يقتحمون حديقتها ليلاً ونهاراً، عابثين بنباتاتها وأزهارها. حاصرتها من جميع الجهات عمارات عشوائية عالية سدت منافذ الهواء. أصابتها حالة ارتباك فصارت تسأل الخالة الزائرة: “أنتو غيرتو عفش البيت ليه؟” ثم تنظر من شباك غرفتها وتسأل: “هو المكوجي اللي كان هناك راح فين؟” والعبارة الأكثر ترديداً صارت: “أنا عايزة ارجع بيتي- رجعوني البيت”. ثم استسلمت للصمت.”(10)
فمحيطنا المادي يحمل طابعنا وطابع الآخرين في آن معاً، ومنزلنا وأثاثنا والأسلوب الذي تُرتب فيه هذه الأشياء، والتراكيب المؤلفة للمكان خارج فضائنا الخاص تشكل إشارات تعريفية ليومياتنا وتذكرنا بأصدقائنا وعائلاتنا وعلاقاتنا المحمية التي غالباً ما نراها ضمن هذا الإطار الآمن. وعند اختفاء أحدها نشعر بتشتت خفي لا ندرك معالمه إلا في حالات التغير المفاجئ الحاصل دفعة واحدة، الأمر الذي لن يلاحظه الكثيرون ممن يسكنون في محيط المكان بداية، لسبب رئيسي يعتمد على أنّ العلاقة مع المحيط المادي قوامه الألفة والثقة. يتم اجتياز الشارع ذاته مرات كثيرة دون التدقيق والتميز لمكونات رصفت بديهياتها في ذاكرتنا الصورية. نعود إلى المكان محتفظين بصوره وتفاصيله الدقيقة التي تركناها فيه، ليس هذا فحسب فمن الممكن أن نضيع في حال باغت المكان الذي ألفناه مصّنعات غريبة.
في كتابها “في أثر عنايات الزيات”، أمضت إيمان مرسال، التي كانت قد غادرت مصر منذ العام 1998، وقتاً طويلاً في رحلة البحث والاستقصاء والتي أرادت أن تكون نقطة البدء المدفن الذي استقر فيه جثمان عنايات. ففي واحدة من الورقات الثلاثة عشرة المتبقية من أثر عنايات وجدت جملة غامضة بخط يدها: “يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر”. إلا أن الطريق إليها لم يكن سهلاً.
في رحلتها هذه لا يمكننا أن نجزم إن أرادت الكاتبة أن تنقل لنا أحاسيس غربتها وتَنَقّلها في أرجاء المكان كمغتربة لا تعلم الكثير عن خباياه، فنقطة الانطلاق حددها عنوان مكتوب في “جريدة الأهرام في يناير 1967” إحداثياته “مدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي”، وقد جاءت الكاتبة على ذكر هذه المنطقة في مقدمة العمل أثناء زيارة لها في العام 1995، أي قبل خوضها غمار السفر وبالتالي قبل معرفتها بعنايات.
“بدت هذه المقابر ليلتها أجمل مكان في العالم، نسيم الصيف وأضواء هضبة المقطم،.. لست في نزهة ولا سفر، بل رحلة الإسراء ستنتهي بانتهاء الليل”.(11)
في العام 2015 عرجت الكاتبة على المكان ذاته إلا أن إحداثياته قد ضاعت منها وتاهت بين أزقته، ولم تصل الكاتبة إلى المكان المطلوب إلا في العام 2018 وبمساعدة باحث آثار، خبيرٍ بتوزع المقابر، إلى جانب حفظه لمعالم القاهرة الفاطمية وتحولاتها.
“قرأت مرة بأن هذه الصحراء كانت مسرحاً لمسيرات المماليك العسكرية ومسابقاتهم وبطولاتهم واحتفالاتهم الدينية، وأنهم بنوا مقابرهم هنا بسبب جفاف التربة، يتوه الغريب في هذه الأميال من الأسوار والبوابات والشوارع المستقيمة. تتداخل عصور تاريخية بولاتها وباشواتها ومساجدها وصورها ومقامات عارفيها. لا إشارات لترسيم الحدود في مدينة الموتى”. (12)
سيزداد تيه هذه الأماكن يوماً بعد يوم إلى أن تجتثّ كعشبة ضارة تسمم المجال الحيوي حسبما يراها الكثيرون في يومنا هذا، فلو انتظرت الكاتبة قليلاً لكانت قد رثت بعض هذه البقايا الأثرية التي جرى هدمها لاحقاً، ومنها ما كان قد ذكر أعلاه “قرافة المماليك”*، أما الأجزاء المتبقية من هذه البقايا فكانت من نصيب الموتى كمثوى أخير لهم، يحاصصهم فيها أحياء لا مكان قادر على استيعابهم.
في كتاب “في أثر عنايات الزيات” اخترقت الكاتبة طبقات من العفن والتكلس المتراكم عبر السنين، وذلك خلال البحث والتنقيب عن شخصيات علمية وسياسية هامة كان لها دورها الكبير في تطوير التراث المصري وحفظه، والتسلسل الحياتي لشخص عنايات المجهول. لقد ارتطمت في رحلتها هذه بالعديد من العراقيل والمجازر المُرتَكبة بحق الأشخاص بالدرجة الاولى وبحق التراث والعمائر بالدرجة الثانية.
المجزرة الأولى ارتكبت بحق عنايات الزيات نفسها المتوفاة سنة 1963، حيث لم يعثر على ملف باسمها بالرغم من وجود اسم ورقم له، ولكن الملف نفسه اختفى واكتفت الموظفة ببضع كلمات: “مش موجود.. غالباً في الهالك.. استغنوا عن ملفات كثيرة في السنة اللي فاتت”.
تذكر إيمان مرسال: “لا يحدث الهالك عشوائياً أو بسبب الاهمال كما نتوقع في الحياة، بل بناء على رأي خبير يفرّق بين الملفات المجمّدة التي تشغل حيزاً مكانياً دون أن يزورها أو يضيف إليها أحد، وبين الملفات “المفتوحة” على امكانيات في المستقبل. هذا يعني أن الأرشيف المؤسساتي الذي يحتاج نظاماً لخلقه والحفاظ على استمراريته واستخدامه، قد يصبح عبثاً، مما يستدعي نظاماً إضافياً لتدميره. الايديولوجيا التي تقف خلف تأسيس الأرشيف هي نفسها ما تقرر تدميره. الأرشيف هو عمل الحضارة، رغبة في الحفاظ على التجاور والتعدد والتناقضات باعتبارها معاً ذاكرة جمعية، لكنه أيضاً لا يمكن أن يكون إلا انعكاساً لوعي ثقافة ما بذاكرتها، في لحظات الانحطاط العابرة، تتضاءل أهمية الذاكرة، يأتي خبير ليقيّم ما هو مهم وما هو تافه من موقعه في هذه اللحظة المنحطة.”(13)
تكررت المجزرة ثانية بحق عنايات عندما نُشرت روايتها “الحب والصمت” سنة (1967)، بعد انتحارها بأربع سنوات، حيث تشير مرسال إلى تلاعب بنهاية الرواية من قبل مؤسسة “الدار القومية للنشر” بما يتماشى مع الأحداث السياسية خلال تلك الفترة الزمنية، ضاربين بعرض الحائط جهد وأحاسيس عنايات ومستغلين فكرة رحيلها الأخير.
بينما الأكثر خطورة من كل ما سبق يكمن في امتلاك جرأة حذف بقايا وأشياء خاصة بأشخاص نعرفهم حق المعرفة والعمل على نسفها من الوجود، نقنع أنفسنا بأننا نمتلك أحقية اتلاف ممتلكاتهم الخاصة، نبقي على ما يتناسب مع قيمنا وأفكارنا، نزيل منها كل تلك الأشياء التي بإمكانها أن تؤثر على سمعتنا وتقاليدنا.
ففي نفس الرحلة لم تجد إيمان من أثر عنايات سوى بضع رسائل ويوميات تحمل مقاطع مجردة وجودية محلّقة، لا خوف منها، لتتحول مع الزمن هذه الأوراق إلى وثائق معتمدة عن شخص عنايات حسب تعبير إيمان..
“كانت الأوراق القليلة التي نجت نقاطاً منزوعة من نص حياة. فلقد حدث طمس لشخص عنايات الحقيقي، لعدم انسجامه مع من يحيطون بها، ظلت فقط السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى. أعيد تأويل قصة حياة شخص “انتحر” منذ أكثر من خمسين عاماً وأصبح التأويل هو القصة الحقيقية. إنهم لا يكذبون عندما يخفون ما يعرفونه لأن ما يعرفونه مؤلم ويجب إزاحته”(14)
كل ما ذكر ينضوي تحت خانة “الأدلجة”، سَوق الذاكرة بما يتناسب مع فكر وأيديولوجيا السلطة الحاكمة في كل عصر وزمان، فكل هذا الاستسهال والتراخي الذي يسيطر على أوساطنا العلمية والثقافية وحتى الاجتماعية فيما يخص قتل شخص أو معلم منشؤه ايديولوجيا الفكر المسيطر، والتحدي الأكبر بهذا الخصوص يكمن في تكوين وعي وهوية حقيقية، فالهوية والذاكرة مرتبطتان بشكل وثيق، وبوجود الهوية تتحرر الذاكرة وتشكل ممرات منفتحة لا تحكمها ايديولوجيا أو انتماء وإنما تنفتح أبواب الحرية في التعبير والرأي.
تشاركت كل من إيمان مرسال ورندا شعث في كتابيهما موضوعاً في غاية الأهمية، عندما أمعنت كلتاهما في رسم خارطة للعديد من الشوارع التي أزيلت منها نقاط علام مهمة، إلى جانب أنهما حددتا الشوارع التي تغيرت اسماؤها تبعاً لحيثيات المرحلة، والعمل على استحضار بعض العمائر التي أزيلت وبني على أنقاضها ما يعاصر المرحلة وتحولاتها، فلقد استعانت ايمان بهيئة المساحة ليكون بمقدورها التعرف على ملامح تلك الأماكن، في حين لجأت رندا شعث إلى مخزونها من الذكريات التي أمدتها بصور وأشخاص الأزمنة الفائتة.
فشارع الحرية بات يكنى بـ “شارع عبد الناصر”، و”سينما بيروت” أصبحت متجراً للأدوات المنزلية، بينما ضُربت جدران “سينما فاتن حمامة” بالمطارق وانتزعت أبوابها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ”سينما أمباشي” في أشرفية لبنان.. اجتثاث كامل لكل أثر حافظ لذاكرة المرحلة، والقائمة في هذا الخصوص تطول.
لم يَعد يُراد للمدن المركزية ذات التّاريخ المغرق في القدم أن تستمر في أداء دورها الذي لطالما كانت رائدةً فيه، فعمليات تجريدها من صلاحياتها وسلبها تراثها الغني مثّل الموضوع الأهم لهذه المرحلة. خاصة وأنّ أهمية هذه المدن ووضعها الاستراتيجي محكوم بالحالة السياسية من جهة والاقتصادية من جهة أخرى. وتبعاً للتحولات العاصفة التي يعيشها عالمنا اليوم، بات التعامل مع العمارة القديمة مزنراً بأطر الزيف والتصنع، هناك توجّه لحرق جمالية بنيانها، وجهد مركز على صبّها في قوالب جامدة من شأنها قتل كل مبادرة حيوية تجعل منها أبنية مرنة تستوعب تحديثات المرحلة وتوظفها عضوياً.
كل ما يحيط بنا يصب في خدمة الرأسمالية العالمية التي تغلغلت إلى أساسات الهندسة المعمارية، ونمت لتَعُم ساحات المعمورة، فالتضحية بالهوية من أجل العولمة أفسدت القيم والثقافات التقليدية التي داوم عليها البشر لآلاف السنين. وكل هذا الانفصال الذي باتت تعيشه المدن التاريخية من حيث الانشقاق عن محيطها الحيوي يرتكز بشكل رئيسي على انتحال سمات العمارة الحداثوية البعيدة كل البعد عن المناخ الطبيعي لكلٍ منها، وما نتج عنه من تسطيح للتاريخ الحقيقي لكل منطقة ومسح تحولاتها المفصلية، حتى بتنا لا نعرف عن تاريخ تلك المدن إلا ما وصَلَ إلينا من كتبِ وأخبار الرّحّالة. ندرس تحولات مساكننا، كسائنا، مشروباتنا، العادات واليوميات السائدة حينها من خلال ما ترجمته أعينهم. والأخطر من كل ما تم ذكره يتركز في طور البحث عن آثارنا المدفونة في طبقات ترب هذه المناطق والتي ينزاح مؤشر احداثياتها حيث الخزائن المتحفية الموزعة في جميع أصقاع العالم، تُنفى إليها لتبقى حبيسة تلك العوالم الغريبة، بعيدة عن نسيجها المادي.
ما أشبه هندسة تلك الخزائن بعمارة منازلنا اليوم، التي جرى استيرادها فبتنا نعيش بداخلها غرباء عن محيطنا وعن أنفسنا أيضاً، يفصلنا حاجز بلوري عن العالم الخارجي، بشكل مطابق لحياة تلك القطع التي تعيش في زمن لم تعد تنتمي إليه.
يُنشر هذا التقرير بالتعاون مع جدلية.
الهوامش
1- ارنولد هاوزر. الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، ت: د. فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، ط1، 2005، ص16.
2- صهيب ياسين. قصر أندراوس التاريخي..124 عاماً من حكايا الرعب والسياسة والتاريخ، العين الإخبارية- أغسطس 2021.
3- الحزب الجماهيري قبل ثورة 23 يوليو التي أنهت عهد الملكية، نشأت فكرة الحزب في العهد الملكي وبالتحديد أحداث 1919، ومنذ عشرينات القرن العشرين كانت أغلب الحكومات المتعاقبة على حكم مصر- قبل الثورة- يشكلها حزب الوفد، إلا أنه قد حل إلى جانب العديد من الأحزاب السياسة المصرية بعد قيام الثورة في العام 1953، ليسدل الستار على تجربة التعددية الحزبية المصرية، إلا أنه عاد لينشط ثانية في عهد الرئيس أنور السادات.
4- أو ما يسمى بـ(جبانة المماليك): حوت هذه المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية شرق القاهرة على أقدم القباب الضريحية الباقية في عمارة مصر الاسلامية، حيث يرجح بأن تاريخ بعض قبابها يعود إلى ماقبل الفاطميين، أما معظمها فيعود إلى العصر الفاطمي (العمارة والزخرفة في العصر المملوكي- غالب المير غالب- الهيئة العامة السورية للكتاب، ص189)، وظفت القرافة في العهد المملوكي كميدان للتدريب، إلا أنها لاحقاً لفتت أنظار سلاطين المماليك الذين باشروا ببناء قصورهم التي ألحقوا كل منها بمسجد ومدرسة.
6- رفعة الجادرجي. في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص44.
7- نسبة للمعماري شارل إدوار جانِّريه الملقب بـ(لوكوروبوزييه): هو من المعمارين الحداثويين الأوائل، أخذ لوكوربوزييه في تصاميمه وكتاباته ما تخيّله من احتمالات كامنة في المصنع والآلة وعصر السيارة ثم حشدهما نحو مستقبل طوباوي. يذكر ديفيد هارفي بأن العمارة التي سادت خلال هذه الفترة أنتجت صوراً راقية من القوة والتفوق لكل من الشركات والحكومة المهتمة بهذه السمعة، بينما أنتجت هذه الحكومات نفسها مشاريع سكن حداثي للطبقة العاملة التي أصبحت من جهة ثانية رمزاً للاستلاب والظروف غير الانسانية. سادت خلال هذه الفترة الأنماط المعمارية أحادية المعيار أو ذات الخط المعماري المتشابه.
8- ديفيد هارفي. حالة ما بعد الحداثة “بحث في أصول التغيير الثقافي”، ت: د. محمد شّيا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005، ص 94.
9- موريس هالبفاكس. الذاكرة الجمعية، ت: نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، بيروت 2016، ص166.
10- رندا شعث. جبل الرمل، دار الكرمة للنشر، القاهرة 2020، ص136
11- إيمان مرسال. في أثر عنايات الزيات، الكتب خان للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2019، ص10.
يرتبط رعي المواشي في ذاكرتي، بالحليب الطازج الذي كنا نحصل عليه من رعاة القطعان الذين كانوا يعتبرون الطرف الجنوبي من مدينة الحسكة مكاناً ممتازاً للرعي حينما كان يسمى هذا الجزء من المدينة بـ “الچول”، وهو برية كان يتخللها بعض من المساحات المشجرة بالصنوبر الحراجي، ثم إن هذه القطعان باتت أبعد بعد أن تحول “الچول”، إلى كتل من المباني الحكومية والسكنية بُعيد بناء المدينة الرياضية في العام ١٩٩٨، وصار الوصول إلى أماكن الرعي محظورا علينا من قبل ذوينا بفعل أن المسافة باتت طويلة، وبالتالي هي خطرة، لكن هذه المسافة لم تكن خطرة بالمطلق في حسابات الرعاة، وفهمت منذ ذاك الوقت أن خطورة الابتعاد عن الكتل العمرانية والمدن تختلف من منظور إنسان لآخر، فما كان يخيف ذوينا غير موجود في حسابات ذوي رعاة المواشي، لكن الأمر اختلف جذريا منذ العام ٢٠١١ وبعد أن أخذت الحرب خطاً تصاعدياً تحول رعي المواشي من مهنة مفرداتها الاسترخاء في الهواء الطلق والنوم بأمان مطلق بين القطيع، إلى مهنة معقدة الظروف. الألغام.. خطر ممتد يجتاز سعيد بقطيعه مسافات طويلة جنوب مدينة الشدادي بريف الحسكة ويحاول قدر المستطاع ألا يخرج عن الخارطة التي اعتادها خلال الرعي وتجنب أماكن التي لم يدخلها سابقاً، وبقايا المواسم في الأراضي الزراعية أو الأعشاب التي تنمو على أطراف نهر الخابور تبدو مساحات آمنة بالنسبة له، ويقول لـنا:”ما سمعته عن انفجار ألغام أو عبوات ناسفة تركت في الأراضي المفتوحة بعد انسحاب داعش ومن قبله الفصائل المسلحة بمختلف تمسياتها، أو حتى الألغام التي تنشرها “قوات سورية الديمقراطية”، حول بعض المناطق لمنع السكان من الاقتراب من القواعد الامريكية أو سواها من النقاط الحساسة، يجعلني دائما أفكر في ضرورة ألا أقترب من مكان لا أعرفه، أو غير مجرب من رعاة مواشي آخرين، فالألغام خطرٌ غير متوقع أو محسوب النتائج، والموت قد يبدو خياراً رحيما إذا ما تمت مقارنته بخسارة الأطراف، وبالتالي فقدان القدرة على العمل”. ويتفق معه “أبو إبراهيم”، الرجل الذي يقترب من إنهاء عقده الرابع من العمر، ويعمل برعي قطيع الماشية الذي يملكه بالقرب من مدينة تدمر، الـذي يقول: أعمل برعي الأغنام منذ كنت طفلاً، كنا نجتاز البادية دون أي خوف من شيء، ربما كانت الذئاب والضباع ما يثير في أنفسنا بعضا من المخاوف لكنها تتبدد في ظل مرافقة “الكلاب للقطيع”، حالياً يجب على الراعي أن يعرف أين يضع قدميه، فالأرض التي يسير عليها بقطيعه قد تحتوي مخلفات حربية كالألغام أو العبوات أو حتى القذائف غير المتفجرة التي تعد من المخلفات الطبيعية للمعارك التي شهدتها البادية قبل أن يتحول داعش من جهة مسيطرة على المنطقة إلى عصابات موزعة على البادية، وهناك ألغام جديدة يزرعها التنظيم على بعض الطرقات أو في بعض المساحات المفتوحة لأغراض تخدم مصالحه، وهذا ما يجعل من الرعي مهمة صعبة فإن انفجر لغم بمجموعة من الأغنام ستكون الخسارة المادية كبيرة، وإن تفجر اللغم بالراعي فسيكون ثمة مصيبة كبرى قد حلت به وبعائلته، ولا يبدو أن نهاية الحرب في سورية ستكون نهاية لهذا الخطر، وربما سنظل نسمع بانفجار المخلفات الحربية حتى زمن طويل ما بعد الحرب.
داعش والعصابات خلال عدة أشهر شهدت المناطق الواقعة إلى الجنوب من ريف الرقة الواقع إلى الغرب من نهر الفرات عدة حوادث استهداف من قبل خلايا تابعة لتنظيم داعش لـ رعاة مواشي، ويقول أبو جاسم الذي يقترب من الخمسين من العمر إن 11 شخصاً قضوا خلال إحدى الهجمات التي نفذها تنظيم داعش، ويروي تفاصيل الحادثة التي وقعت في الأسبوع الأول من شهر تموز الحالي، أن مجموعة من التنظيم اختطفت راعياً في الخامسة عشرة من عمره، وحين وصل الخبر لسكان القرية هبت مجموعة من شبانها لنجدة الفتى وقطيعه، ليتبين أن الخلية التابعة لـ داعش أعدت كميناً محكماً بانتظارهم ليقضي 9 أشخاص على الفور فيما توفي اثنان في وقت لاحق متأثرين بإصابتهم، ويصف “أبو جاسم”، أن الدافع في مثل هذه العمليات يتعدى السرقة والحصول على التمويل الذاتي ليصل إلى حد الثأر والانتقام من السكان الذين رحبوا وفرحوا بخروج داعش من المناطق التي يعيشون فيها. بدوره يروي أبو مصطفى القاطن في مدينة تدمر التي كانت إحدى أبرز النقاط التي ينتشر فيها التنظيم وسط سوريا، أن رعي المواشي في مناطق بعيدة عن المدن الكبرى بات أمراً خطراً، ولم يعد أي راع يغامر بالبقاء ليلاً في المناطق البعيدة عن المدن على خلاف ما كان يحدث قبل العام 2011، ويقول الرجل الذي يبلغ من العمر حوالي 60 عاماً في حديثه معنا: الهجمات التي يتعرض لها رعاة المواشي تجعل من عملهم من أخطر المهن التي يمكن ممارستها في ظل انتشار عصابات داعش، وعصابات أخرى تعمل على سرقة المواشي وبيعها في الأسواق أو تهريبها إلى العراق أو الأردن، وهذه المهنة لم تعد كما كانت قبلاً حيث كان الرعاة يقضون عدة أيام في البادية قبل أن يعودوا إلى المناطق التي انطلقوا منها، كما إن بعض الرعاة كانوا يقيمون مخيمات في عمق البادية أو ضمن الأراض الزراعية البعيدة عن التجمعات السكانية ليكسبوا أكبر قدر ممكن من المراعي المجانية، الأمر اليوم بالنسبة لهم مغامرة بأرواحهم وبالقطيع، فإن لم يتمكن عناصر داعش من سرقة القطيع أبادوه بإطلاق الرصاص قبل فرارهم من المنطقة، فهم لا يتركون أي شيء حي خلفهم. تحول غالبية مربي المواشي إلى الرعي في المناطق الأكثر أمناً بالقرب من المدن الكبرى في الداخل السوري أو في محيط العاصمة السورية من خلال استثمار الأراضي المحصودة بدفع بدل نقدي لأصحاب هذه الأراضي مقابل الحصول على حق رعي مواشيهم لمخلفات زراعات مثل القمح والشعير، كما إن البعض من رعاة المواشي تحول إلى التخييم في مناطق قريبة من المدن وآمنة ليعتمدوا على شراء الأعلاف لمواشيهم ما زاد من تكاليف المهنة وبالتالي قلة الأرباح التي يتوقعونها من العمل، وعلى هذا تبدو مهنة رعي المواشي في سورية واحدة من أخطر ما يمكن أن يعتمد عليه السوريون من مهن لتأمين احتياجاتهم المعاشية.
“كان عمري اثني عشر عاماً حين اختطف والدي بداية الحرب في حمص، كان يعمل سائق تكسي، خرج من المنزل يومها ولم يعد، لم أكن سوى مجرد فتاةٍ في الصف السادس الابتدائي لعائلة فقيرةٍ مكافحة ودوني أختين صغيرتين. ظللنا ننتظر عودة والدنا طويلاً، حتى هذه اللحظة ننتظره”. تقول ريم عكاري بغصةٍ وتشرع ببكاء يكاد يبدو أنّه لن يتوقف، تفتح حقيبتها بحثاً عن منديل تجفف به دموعها، وتصمت قليلاً.
ما كانت لتهدأ حتى فتحت هاتفها وتنقلت قليلاً بين الصور فيه لتنهار بكاءً من جديد، استعرضت صوراً لوالدها قائلة: “يا ضيعان هالشبوبية!، أليس حراماً أن يرحل رجل كهذا؟ لا كشهيد ولا كجريح ولا بمصير معروف، فقط مفقود منذ 14 عاماً، لا جثمان له نشيعه ولا قبر له كي نزوه لنبكي هناك، فقط صورٌ كثيرة ظلّت من تلك الأيام التي كان يعود فيها للمنزل ليلاً ورغم إرهاقه يعانقنا ويلهو معنا قليلاً، هل عليّ الآن أن أشرح من هو الأب في حياة الإنسان، في حياة الأسرة، في دورة الكون بأكمله؟”
الفضل لوالدة جبّارة
وفقاً لريم، كان والدها يعيل أسرته بنجاح ويؤمن لها حياةً كريمة على الدوام قبل الحرب، ولكن مع غيابه تأخر كل شيء، ووجدت ربّة المنزل نفسها فجأة تعمل في تنظيف المنازل ومسح أدراج الأبنية والتعزيل. كان عليها أن تفعل كل شيء لئلا تجوع بناتها، ويمتنَ من الفقر والحاجة، لئلا تذلهنّ الحياة وتدلهنّ على درب الانحراف والأخطاء التي لا تحصى.
تقول ريم مؤكدة إنّه لا دور لها بما هي عليه الآن، بل كان كل ذلك بفضل والدةٍ جبّارةٍ كانت رجلاً وامرأة لسنوات عجاف طوال، خلالها كابدت وقاست وتحملت المشقة والمهانة، وبكدّ يمينها وعرق جبينها قاتلت لتحمي تركة زوجها من الأرواح الصغيرة، قاتلت وتمكنت من إيصالهنّ إلى برٍّ من الأمان الذي يعطي دروساً تنبئ عن قوة الإنسان.
صار عمر ريم اليوم 26 عاماً، تخرجت قبل سنوات بمرتبة الامتياز من كليّة الاقتصاد، توظفت سريعاً في أحد البنوك الخاصة، وتدرجت داخله في المناصب حتى صارت اليوم مديرةً لأحد أفرعه في المحافظات في خطة سيرٍ مهنية قد يكون القدر ابتسم فيها للفتاة قليلاً، لكنّ الكفاح كان مفتاحها.
دافعت عن مستقبلهنّ
لم تك والدة ريم تريد الحديث، السيدة الخمسينية التي تبدو عليها ملامح الشقاء ويحفر في وجهها تعب السنين، ترى أنّها لم تفعل معجزةً ولم تقم بعملٍ بطولي، هي قامت بدورها الذي أنجبت من أجله بناتها، هي دافعت عن مستقبلهنّ فقط.
تقول الوالدة: “وظيفة ريم وترقيها المهني غيّر حياتنا بالكامل، أعادني مرّة أخرى سيّدة للمنزل ولكن ليس دون عمل أيضاً، بل بأعمال لطيفة تناسب سني وتعبي، إذ صرت أحضر حلويات منزلية وأسوقها وأبيعها وهكذا، وكذلك ظلّت مايا أختها الأصغر منها وهي الآن في سنتها الرابعة في كلية الطب، أما الصغرى فهي نور، السنة القادمة ستتقدم لامتحانات الثانوية العامة، وهؤلاء الفتيات، لسن بناتي فحسب، لكنّهنّ شريكات دمعاتي وحياتي وكفاحي أيضاً، لم يخذلنني لحظةً أمام كلّ ما بذلت في سنوات من تعب.”
تبرأت من بناتها
قد تبدو قصة ريم، قصة سير حياتها قياساً بما عانته وما وصلت إليه مثالية، بل مغرقة في المثالية، وكمثل قصة ريم هناك مئات وربما آلاف القصص، لكن على الجانب الآخر من الحرب ثمّة قصص موغلةٌ في الظلام والقهر والتفكك المجتمعي الذي خلّفه غياب الأب عن العائلة.
من بين تلك القصص الموحشة قصّة عائلةٍ فقدت الأب في عام 2013 إثر العمليات الحربية المشتعلة بضراوة آنذاك في ريف دمشق، ولحقه ابنه الوحيد قتيلاً بعد عامٍ واحدٍ إثر التحاقه مقاتلاً بإحدى الفصائل المسلحة.
كان لتلك العائلة ثلاث فتيات أخريات، الكبرى في أربيل منذ عام 2016 عاماً تقريباً، الثانية هربت وتزوجت سرّاً وانقطعت أخبارها، أما الصغرى فقد سلكت درباً لا يتماشى مع الأعراف والتقاليد، تلك كلّها تفاصيل روتها الأم التي ظلّت تعيش وحيدةً في منزلها دون أن تتوانى لحظةً في القول إنّها تبرأت من بناتها.
لسنَ بناتي
تقول الوالدة خلال حديثها: “هنّ لسنَ بناتي، كنَ كذلك حتى قبل عشر سنوات أو أقل بقليل من الآن، قبل أن أخسرهنّ واحدةً تلوَ الأخرى، ألم من الممكن أن نعيش فقراء ولكن بشرف!، ألهذه الدرجة موت رجل العائلة أظهر ما بنفوسهنّ من قدرة على سلوك درب الانحراف والتمرد على الأعراف والقيم والمجتمع، والأهم، على قلب أمٍ ربتهنّ كلّ شبرٍ بنذرٍ! والله لم أبخل عليهنّ، وبعد وفاة زوجي وابني صنتهنّ برموش عينيّ وحاولت بطاقتي كلها أن أحافظ عليهنّ وأرفع رأسي بهنّ. لكننا ككل السوريين وصلنا اليوم الذي بكينا فيه من الحاجة والجوع والفقر وما من ربّ أسرةٍ يدق الباب ظهراً قادماً من عمله ليسند هذه الأضلاع المنكسرة.”
وتضيف: “آخر ما عرفته عن فاطمة ابنتي الكبرى أنّها تعيش مع رجلٍ عراقي في أربيل دون عقد زواج، وهناك تعمل في ملهى ليلي، حاولت وحاولت كثيراً التواصل معها ولكنّها لا تريد. اختارت حياةً مقرفةً كفيلةً بخفض رأس أعتى الأمهات، وما حصل معنا جعل عائلة زوجي تتبرأ مني وأنا التي لم أتزوج بعده لأربي البنات، وهـذه العائلة أصلاً لم تلتفت لنا في عزّ حاجتنا، ولكنّ الفضيحة تعم، والجميع يريد أن يحاسب الضعيف.”
وتتابع: “ابنتي الوسطى ميمونة هربت من المنزل وتزوجت سراً من رجل، علمت أنّها في حلب منذ مدّة، وكذلك لم أستطع الوصول إليها. أما الصغرى خولة فأنا بنفسي طردتها من المنزل ودمع الدنيا يعتصر في مقلتي، تلك الفتاة فضحتنا، كلّ يوم توصلها سيارة مختلفة للمنزل، وكل مرة تتلقى اتصالاً من رجل مختلف، وفجأة بدأت تظهر معها أموال وقطع ذهبية، فهمت كل شيء، طردتها وطردت قلبي معها. الشرف في تربيتنا قبل المشاعر، وانظر، كل ذلك لأنّ زوجي ليس هنا، لعن الله هذه الحرب ومن أشعلها ومن كان سبباً في موت كل سوري وفي خسارة بناتي”.
في السجن
خرجت هيفاء من السجن قبل أشهر وهو اسم مستعار لفتاة من دمشق وقد دخلته إثر حكم قضائي يتعلق بتعاطي وتجارة المخدرات والارتباط بأعمال جنسية وأخرى منافية للآداب المجتمعية. لم تكمل هيفاء عامها الخامس والعشرين، وبشعرها الأشقر وطلّتها البهية وأسلوبها الذكي في الحوار لا يمكن إطلاقاً أن تولّد انطباعاً أنّها اليوم سجينة سابقة.
بدأت قصة هيفاء حين قتل والدها في الحرب وصارت تعاني ظلم وتحكم زوجة والدها التي ظلّت تعذبها وتفتعل المشاكل معها إلى أن أجبرتها على ترك المنزل بعمر 19 عاماً، وفي هذا العمر كانت تبدو الفتاة صغيرةً، غضّة، ولا تملك خبرة في الحياة، وكانت طالبةً في السنة الأولى في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ومن مقاعد تلك الكليّة بدأت رحلتها التي قادتها نحو السجن.
درب الجريمة
تروي هيفاء بشيء من الندم مجريات سنينها الفائتة: “في الجامعة تعرّفت على شلّة من الأصدقاء، نمت علاقتنا وتوطدت، كانوا نوعاً ما مرتاحين ومترفين على عكسي تماماً، صرت أشاركهم جلساتهم ولقاءاتهم حتى تلك المسائية. وخلال إحداها جرّبت لأول مرّة سيجارة الحشيش، والسيجارة جاءت بحبة كبتاغون، والحبّة جاءت بمخدرات أخرى”.
وتضيف: “صار يكثر جلوسنا في مقهى شبابي، هناك تعرف علينا صاحب المقهى واستغلنا في ترويج المخدرات مقابل المال، ولاحقاً استغلنا في أشياء كثيرة كالخروج مع رجال وتمضية أوقات، أعجبني الأمر، صرت أجني الكثير من المال وصرت مستقلة وسيّدة نفسي. والأهم أني ورغم كل ما أخطأت به وأعترف به اليوم ولكنّي حافظت على مسافة مع أولئك الرجال، مسافة تسمح باللمس وتمنع جعلي غير عذراء، فأنا تحديداً أعرف قدسية هذه الأمر، أخطأت كثيراً ودخلت في دوامات من المخاطر والقلق ولكني لا زلت عذراء، ولا أدري إن كان ذلك مهماً بعد كل ما فعلت”.
تنوي اليوم هيفاء استكمال دراستها، تقول: “نالني أقذر ما في هذا البلد واكتفيت”، تبحث عن عمل شريف بمردود جيد بعيد عن أيّ شبهة، تعتقد أنّها ستنجح، وتشير ضاحكة: “قد أعمل على تيك توك، البلد كلّها هناك، والجميع يجني أموالاً وحتى المشاهير، دون انتهاك للكرامة أو مخالفة للقانون”.
وتختم حديثها محملةً وزر كل ما مرّت به لرحيل والدها وسندها ولقسوة زوجته عليها، ولولا ذلك لكانت الآن خريجةً جامعية وتعيش حياةً مختلفة بالمطلق.
رجال ونساء
آلافٌ من القصص يمكن الحديث عنها في سوريا، عن عائلات بلد الحرب، لكلّ أسرة حكاية ووجع، لكنّ الأكيد أنّ الحرب كما دفعت بعائلات وأمهات لتقاتل لأجل مستقبل الأولاد، كذلك جعلت من أسر أخرى عرضةً للتفكك والضياع وانهيار قيم منظومة الأخلاق والأعراف.
لم يتناول هذا المقال حال الشباب بعد رحيل آبائهم، لأنّ حالهم في المجتمع السوري محكوم بشروط اجتماعية مختلفة عن النساء والتي تبرر أفعال الرجل فكما يقال في العامية: “يدبّر رأسه”، وإمعاناً في تنظيف صورته يُقال: “لا يعيبه شيء.” والجديد بالذكر أن مقالات مستقبلية يمكن أن تغطي الأبعاد الجندرية لتجارب الصبيان والشباب بعد غياب المعيل.
دعونا من البديهية القانونية والإنسانية والأخلاقية في حق الشعوب في مكافحة المحتلين، وبالتالي دعونا من المبررات القانونية والسياسية والعسكرية والأخلاقية لطوفان الأقصى. ولنسلِّم جدلاً بالرواية الصهيوأمريكية بأن طوفان الأقصى كان البداية وأن الفلسطينيين هم الذين باشروا في الإثم والعدوان. وإن من حق الدولة السامية البريئة والمسالمة، أن تدافع عن نفسها، وأن تعاقب المعتدين، وتسترد الأسرى الإسرائيليين، ولأن الفلسطينيين هم المعتدون – حسب هذه الرواية – فإن البادئ أظلم، والصاع يجب ان يرد لهم صاعين. لكن ما حدث يفوق أي منطق حسابي، لأن الصاع يُرد هنا ألف صاع، بلا وازع من قانون أو ضمير.
وطالما أن الأمر متعلق بالعم سام، ورأس ماله الذي يُغرِق الغرب ويتحكم بقراراته، فلا راد لأمره، ولا اعتراض على حكمه، ولا على جرائمه، لذا رأينا مواقف معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، على قلب رجل واحد في دعمها المُخجل للمحتل.
أعلنت إسرائيل منذ البدء أهداف الحرب، وهي القضاء نهائياً على حماس وعلى كل من شارك بالقتال ضدها، وحينما أعطى الغرب لها الحرية التامة والحق التام في الدفاع عن النفس، عبَّرت الدوائر الإسرائيلية بأن أهداف الحرب مسح غزة عن الخريطة، وقتل الغزيين عن بكرة أبيهم، أو ترحيلهم إلى سيناء، أو رميهم في البحر. كل هذا عمل أخلاقي غايته النبيلة هي الدفاع عن النفس، ليس ضد بشر عاديين، بل ضد وحوش بشرية، مأساة الهنود الحمر بالقارة الأمريكية تتكرر هنا في غزة، ليس فقط على مرأى العالم الحر والديمقراطي والإنساني، بل بدعم مباشر من هذا العالم عبر إرسال آلاف الأطنان من أحدث الأسلحة الفتَّاكة، وفي دعم لوجستي ومخابراتي وعملياتي من قِبَل أعظم دول العالم.
والمضحك المبكي أن أمريكا التي تتسيَّد العالم الحر والديمقراطي، لم يكن أمامها لكي تستمر بمسرحية الديمقراطية والإنسانية، إلا أن تعتمد تكتيكاً مفاده: تقديم كل أنواع الأسلحة والدعم العسكري لإسرائيل، مقابل تقديم كيس من الطحين أو خيمة ورغيف خبز للفلسطينيين، يا لها من نزاهة وحيادية، السلاح مقابل الخبز، إنه المكيال الواحد للولايات المتحدة الأمريكية، المكيال الواحد الذي تحدث عنه وزير خارجيتها، هكذا من دون أن يشعر بأي حرج أو خجل، ولا أقول عذاب ضمير، ففاقد الشيء لا يعطيه. أمريكا لا تكيل بمكيالين، هذه حقيقة، لكن هذا المكيال يكيل بالقمح للصهاينة، وبالعلقم للفلسطينيين.
والمضحك المبكي أيضاً، أنه يتم التسويق لجيش الاحتلال المغوار بأنه جيش أخلاقي، وأن حربه في غزة هي حرب نبيلة ومقدسة، فمن جهة مقدسة فهي كذلك لأن دولة الاحتلال برمتها، قامت وتقوم على مغالطات تلمودية، وتحريفات وتأويلات توراتية، قائمة ابتداءً على أساس ديني عنصري. ولا تتجلى حربهم النبيلة إلا في مسح غزة عن وجه الأرض، وفي عدد شهداء تجاوزوا ثمانية وثلاثين ألفاً، وجرحى زادوا عن ثمانين ألفاً، إضافة إلى تدمير المستشفات، كما لم يحدث في التاريخ، وأخيراً قصف و حرق الخيام وقتل وجرج العشرات النازحين. الأمر الذي يدل دلالة رفيعة المستوى على درجة النبل والشرف المفقودين أساساً، وإنما البيِّنة على من ادعى بدون خجل أو وجل.
والملفت أن شيئاً من الأهداف المعلنة من الحرب، من قِبل حكومة الاحتلال لم يتحقق، فلم يستطع جيش الاحتلال أن يحرر أسيراً واحداً بالقوة، وما تم تحريره بالمفاوضات كان يمكن تحريره حتى بدون حرب، وقد أعلن الفلسطينيون استعدادهم لذلك قبل بدء الحرب، لكن حتى لو أطلق الفلسطينيون الأسرى قبل الحرب، كانت إسرائيل ستشن حربها، لأن طوفان الأقصى أفقد دولة الاحتلال هيبتها، فكان لا بد من استعادة هذه الهيبة، وهذا يستلزم – حسب الاعتبارات الاسرائيلية – نصراً يقضي على حماس وربما على كل الغزيين أو الفلسطينيين، وأهمية تحرير الأسرى كانت تأتي لاحقاً، وربما أخيراً، وإن كان يتم الإعلان خلافاً لذلك. وما يؤكد ذلك هو عدم جدية إسرائيل في المفاوضات من أجل تحرير الأسرى. ولعمري أن حكومة نتنياهو ونتنياهو شخصياً يتمنى لو مات جميع الأسرى لكي يخسر الفلسطينيون ورقة ضغط في المفاوضات.
الدعم اللامحدود الذي تلقاه الصهاينة من الغرب، دفعهم للغطرسة والتمسك بخيار عدم إيقاف الحرب، لكن هذه الغطرسة لم تكن بلا ثمن، وثمن ذلك هو فقدان وخسارة أعداد تفوق عدد الأسرى المراد تحريرهم، وفشلهم في تحقيق أي هدف، فلم يحقق الاحتلال في غزة هدفاً إلا قتل الشعب الأعزل، وكل انتصاراته إنما هي أوهام يسطرها الإعلام المضلل. منذ الأيام الأولى للحرب أعلن الاحتلال تحرير شمال غزة ثم وسطها، ومع ذلك كل يوم نسمع عن عمليات بطولية لأبطال غزة في الشمال والوسط، ثم وبعد عجز نتنياهو عن تحقيق أي نصر حقيقي، أراد أن يصنع نصراً وهمياً، فراح يعلن أن حربه ستتكلل بالنصر المطلق في رفح، في غباء منطقي وعسكري، حيث أراد إيهام العالم بأنه انتصر بغزة ولم يتبقَ إلا رفح، في حين أن جيشه المغوار لم يتمكن من حسم المعركة في شبر واحد من قطاع غزة.
أما بخصوص المواقف الدولية، فقد تغيَّرت نسبياً من الحرب، وصورة إسرائيل حمامة السلام التي تدافع عن نفسها، لم تعد تنطلي على أكثر دول العالم، باستثناء الموقف الأمريكي المتماهي أساساً مع دولة الاحتلال، ومسرحية الخلافات الأمريكية الإسرائيلية لم تعد تنطلي على أحد. الموقف الأمريكي لم تغيّره عشرات الآلاف من القتلى والجرحى الفلسطينيين، ولم تغيره قرارات الجنائية الدولية، التي ورغم أهميتها فقد ساوت بين الضحية والجلاد، كما لم يتغيَّر تحت وطأة المواقف العربية الضاغطة، لأنها بالأساس مواقف هزيلة لم ترتقِ لمستوى الفاجعة الحقيقية، لا شعبياً ولا رسمياً. وما يؤكد ذلك هو مواقف بعض الدول غير العربية، ابتداءً بالمبادرة الرائعة من جنوب أفريقيا في الجنائية الدولية، مروراً بالمظاهرات الطلابية، وصولاً إلى اعتراف بعض الدول الأوربية بالدولة الفلسطينية.
لكن ثمة سؤالاً يكشف عن سخرية الواقع العربي شعبياً وسياسياً، فعلى المستوى السياسي لماذا لم تتقدم الدول العربية، أو دولة واحدة منها، إلى الجنائية الدولية بدلاً من جنوب أفريقيا أو معها ؟ هل جنوب أفريقياً أقرب إلى الفلسطينيين من العرب ؟ أم أن استقلال القرار السياسي لساسة جنوب أفريقيا، قد كشف العجز والتبعية لدى أنظمتنا العربية. لماذا لم تجرؤ دولة عربية واحدة، على الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، كما فعلت إسبانيا والنروج وأيرلندا ؟ واكتفى البعض من العرب بالشكر والتقدير والإعجاب بما فعلته تلك الدول الأوربية. كإشارة إلى الموافقة الضمنية من قِبل الأنظمة العربية، على قيام الدولة الفلسطينية. الحق ينبغي أن نشكر الدول العربية على هذه النية الطيبة، وعلى هذه الشجاعة في الدعم الضمني للقضية الفلسطينية !!، حيث لم ولن نتوقع منهم أكثر من ذلك. ونرجو أن يكونوا قد تعلموا الدرس من أبطال غزة الذين أذلوا كبرياء الكيان الذي لا يقهر.
أما على الصعيد الشعبي، فإن الجماهير العربية، تحديداً الطلابية منها، خذلت هي أيضاً الفلسطينيين، فلماذا تشهد جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مظاهرات مستمرة واعتصامات داعمة للفلسطينيين، في حين يكتفي طلابنا وجماهيرنا بدعم الفلسطينيين على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وبتجمعات خجولة يوم الجمعة نتيجة احتشادهم التلقائي للصلاة.
وعلى كل حال فإن ما تلقاه الفلسطينيون وما سيتلقونه من دعم لم يكن ليحدث لولا البطولة الأسطورية للشعب الفلسطيني، فبعد ثمانية أشهر، ما يزال أبطال غزة يسطرون ملاحم بطولة أسطورية، كل شيء هالك إلا شجاعة وبطولة قوم كنا منذ عهد قريب، نظن أنهم خاملون يائسون، لكنهم كانوا كنار تحت رماد، ما لبثت أن شبت فألهبت وأبهرت عقولنا وقلوبنا، وأشعلت حدائق الغازين وجناتهم الموعودة كذباً وزوراً، وقد أقامها هؤلاء العابرون، القادمون إلينا من شتات المعمورة، راسمين صورة للقدر الجائر.
المشهد الفلسطيني رغم كل سوداويته، وكل الخسائر والنكبات، يمكن أن نقرأه إيجابياً على أكثر من صعيد، فطوفان الأقصى يمثِّل أقسى انتكاسة عسكرية تتعرض لها دولة الاحتلال باعترافات قادتها ومسؤوليها، ما فعله أبطال غزة في أيام، لم تفعله جيوش كاملة على مدار عقود، كل يوم وحصاد طوفان الأقصى يزيد، ونحن على موعد مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولعمري لو لم يحصد الفلسطينيون غير قيام دولتهم، تحت أي شرط أو رهان، لكفاهم ذلك عوضاً عن التغريبة الفلسطينية.
جملةٌ من الأحداث التي قامت بها سلطات النظام السوريّ بخصوص السويداء، مؤخراً، تثير أسئلة وتقود إلى تحليلات عن الرسائل المتضمّنة لتلك السلوكيات عسكريّاً وأمنيّاً.
وفي التفاصيل، حرّكت قوات النظام السوريّ تعزيزات عسكرية نحو محافظة السويداء، جنوب العاصمة دمشق، وكان أكبرها يوم الأحد 28 نيسان / أبريل 2024، حيث وصلت إلى مطار “خلخلة” العسكريّ في ريف السويداء الشماليّ.
ويرى مراقبون أنّ هذه الخطوة؛ تمثل موقفاً سياسياً سيحمل تغييرات ميدانية متتالية في المنطقة، وقد جاءت بعد استمراريّة الحراك المدنيّ في السويداء، والذي سوف يتوّج عامه الأوّل من المظاهرات يوم 17 آب / أغسطس المقبل.
وكأنّ تلك التحركات العسكريّة كانت بمثابة جسّ نبض الشارع، وليأتي فيما بعد؛ سلوك بات مكشوفاً لدخول المناطق المعارضة في سورية، كما رأينا طيلة السنوات العشر الماضية، ألا وهو التلويح بوجود خلايا نائمة من “تنظيم الدولة الإسلاميّة داعش” في السويداء، فجأة تظهر بلا مقدمات، وذلك بحسب ما نشرت وكالة الأنباء السوريّة، سانا التابعة للنظام، حيث زعمت الوكالة أن “خلية من تنظيم (داعش) حاولت تنفيذ عملية إرهابية ضد المدنيين في مدينة السويداء، وأن الجهات المختصة قد قتلت إرهابياً حاول تفجير نفسه بحزام ناسف، وألقت القبض على إرهابي آخر بحوزته حزام ناسف آخر”. وبما أن الإعلام رسميّ هنا، فاحتمالية المصداقية مشكوك فيها نظراً للسيناريوهات المشابهة في معظم المناطق التي شهدت احتجاجات مدنية، دون وجود أيّة وسيلة إعلاميّة أخرى مستقلة تنقل تلك المزاعم من وجهة نظر محايدة.
توجهنا لسؤال بعض الناشطين والناشطات على الأرض في السويداء، وأجمع معظمهم على أن تلك الخطوات التي ينتهجها النظام، لا قيمة لها إذا استمرت سلمية الحراك الشعبيّ، ومن بين هؤلاء الدكتور جمال الشوفي، وهو كاتب وباحث، حيث قال لموقع صالون سوريا: “إنّ هناك عدة مؤشرات حول إرسال التعزيزات العسكريّة في هذه الفترة؛ أوّلها محاولة ترهيب الشارع الشعبيّ في السويداء وخاصة حراكه السلميّ. ما يُعزّز ذلك، هو تناول العديد من الصفحات على الإنترنت، منها تنسب لجهات وشخصيات رسمية، توجيه تهديدات مباشرة للحراك بذاته، ونشر قوائم تصفيات وغيرها. فيما المؤشر الثاني متعلق بالتطورات في الوضع الإقليميّ واحتمال تمدّد العمليات العسكريّة للمنطقة الجنوبيّة، لتخفيف الضغط عن حزب الله في جنوب لبنان. أضف لذلك ملء فراغ محتمل لانسحاب روسيّ من الجنوب السوريّ، وهذا يعزز فكرة مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة. كما توجد مؤشرات تأتي من الانتشار شرقاً باتجاه حدود البادية مع الحدود الأردنيّة بما يتعلق بتهريب المخدرات، وهذا لا يمكن البتّ في وضعه، تبعاً لنوع القوات المنتشرة هناك”.
ويضيف د.الشوفي: “يمكن لهذه الاحتمالات؛ سواء بالاغتيالات الفردية أو نشوب معارك جزئية، أن تؤثر على الحراك السلميّ من خلال انجرار الفصائل المحلية له، وانتشار الخوف العام، خاصة إذا تمت هذه التحركات على أيدي العصابات المحلية. هنا من المهم جداً الحذر في التعامل مع هذه السيناريوهات، وإن كان لابد من مجابهة من نوع ما، أن تكون مستقلة عن الحراك السلمي الذي يجب أن يبقى مستمراً ما يتطلب تنظيمه وحمايته. نحن بحاجة لحراك مجتمعي يعمل على تعزيز فكرة الأمان والسلم المجتمعيّ ومنع الاصطدام المحلي وتطويقه إن حصل”.
ويختم د.الشوفي كلامه: “يجب على الحراك أن يُمتّن رصيده وحاضنته المحلية والاجتماعية، وأن يبتعد عن استفزازها في الوقت الحالي، والاستمرار بإصراره على السلميّة والتغيير السياسيّ الوطنيّ والابتعاد عن الدخول في تشابك وتعارض الأجندات السياسية المحلية والإقليميّة والثبات على مطالب مُوَحَّدة وطنياً” بحسب قوله.
فيما ترى المحامية نيرفانا نصر، أن إرسال تلك التعزيزات العسكريّة “ربما يفتح الباب للاستفزاز والمواجهة”. وتؤكد في حديثها لـ”موقع صالون سوريا”: “سينتج عن ذلك مواجهة من نوع ما، وذلك سوف يؤثر على سلميّة الحراك الذي يؤكد على ضرورة التغيير السياسيّ دون عنف، ويعبّر عن مطالبه بشكل راقٍ بعيداً عن الفوضى. ولهذا يحاول الجميع الابتعاد عن العسكرة. ونشهد دوراً كبيراً للمجتمع المدنيّ والنقابات الحرّة كـ”تجمع المحامين الأحرار” وغيرهم في التعبير القانونيّ والحق بالتظاهر. أعتقد أنّ السلطة تحاول تخويف الأهالي بالحشود العسكريّة وإعادة تجارب سابقة كما فعلت ببقية المدن السورية من رمي براميل وتدمير وتهجير” على حد تعبيرها.
من جهة أخرى يؤكد الصحفي مرهف الشاعر أنّ تلك التحركات تحمل نيّات مبطنة تجاه الحراك السلميّ بالدرجة الأولى، والمستمر بشكل يوميّ منذ قرابة التسعة أشهر، خاصة وأن هناك بعض المجموعات المرتبطة أمنيّا أصدرت بياناً أعلنت فيه عزمها “ضبط الوضع الأمنيّ في السويداء من خطف وسلب، وهي ذات المجموعة المُتهمة بأدلة صريحة على ممارسات خطف سابقة ودعمها لمجموعة راجي فلحوط، والذي انتفضت السويداء عليه قبل عامين” بحسب تأكيده.
ويعتقد مرهف أن المشهد حالياً “ضبابيٌّ”، ويجب “الحذر من تكرار التجارب ذات الطابع الدمويّ بحق المدينة لإخماد صوت الانتفاضة، وتلك التجارب قد تقوم بها السلطة بشكل مباشر أو من خلال فتنة داخلية ما، وهو الشغل الشاغل لها على الدوام في السويداء، حيث شهدت المدينة لقاءً لأغلب قياداتها ووجهائها بغض النظر عن اصطفافهم السياسيّ فقد أكّدوا على ضرورة وحدة الصفّ والوقوف في وجه أيّة محاولة للتصعيد أو الضغط العسكريّ”.
ومن وجهة نظر تحليلية على المستوى الإقليمي، يقول مرهف الشاعر لـ “موقع صالون سوريا”: “يبدو أن هذه المؤشرات والحشود رسالة من السلطة بتخليها عن الحليف الإيرانيّ في الجنوب السوريّ بعد الضربات المتكررة التي تلقتها في مواقع عسكريّة من قبل الإسرائيليين، وقد تكون هذه المناورة لإعادة تموضع بحجة حماية الحدود، وأيضاً تكرار سيناريو (داعش) المصطنع في المدينة فيما حذر البعض أن هناك تنازلات من السلطة لصالح إسرائيل والتي لم تصرّح بأيّة مناصرة لـحماس وغزة حفاظاً على الكرسي في دمشق، ما يفتح الاحتمالات على صفقة إقليمية ومساومة قد تكون سُلطة النظام الشريك والمسؤول الأول فيها في منطقة الجنوب السوريّ بدعم وتوجيه روسيّ” بحسب رأيه.
لقد شكّل حراك مدينة السويداء، انتعاشاً سياسياً وتعبيراً واضحاً عن السلمية والرغبة بالتغيير السياسيّ في البلاد، غير أن أساليب العسكرتارية التي تتبعها سلطات النظام في دمشق، أبعد ما تكون عن السلمية، وقد أصبح واضحاً أن ملعبها هو السلاح وابتكار فبركات “الخلايا النائمة” لتبرير سحق المدن التي يحدث فيها أي حراك مدنيّ.