معركة ادلب مؤجلة وأربعة احتمالات تنتظرها

معركة ادلب مؤجلة وأربعة احتمالات تنتظرها

السباق مستمر على إدلب بين خيارين: التسوية أو التصعيد الشامل أو الجزئي. دمشق تريد الإفادة من «الزخم» بعد السيطرة على غوطة دمشق وريف حمص وجنوب سوريا لـ«حسم الشمال». أنقرة نشرت 12 نقطة مراقبة وحصنتها بجدران الإسمنت، لكنها تعرض خطة لحل ملف الشمال. أكراد سوريا يخططون لشن هجوم على عفرين بالتزامن مع هجوم دمشق على إدلب.

موسكو، كما حصل في مرات سابقة، تلعب دور الميزان بين مواقف مختلفة. مددت اتفاق «خفض التصعيد» في إدلب إلى سبتمبر (أيلول) المقبل. وأعلن المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرينييف عدم وجود «عملية شاملة» في إدلب، لكن وزارة الدفاع عادت وأشارت إلى ضرورة «تطهير» هذه المنطقة من «الإرهابيين» وأنهم بدأوا يشنون هجمات على «القوات الشرعية» شمال سوريا.

وتضم إدلب في مثلث حلب – حماة – اللاذقية نحو ثلاثة ملايين شخص أكثر من نصفهم من النازحين والمهجرين من مناطق أخرى، وفيها أكثر من 70 ألف مقاتل من فصائل إسلامية وأخرى متطرفة. وتشكل نحو 4 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185 ألف كيلومتر مربع. وهي تقع بين محافظتي طرطوس واللاذقية، حيث تقع القاعدتان العسكريتان الروسيتان والقاعدة الشعبية للنظام من الغرب وحلب من الشرق ثاني أكبر مدينة سورية وحماة من الجنوب، التي ترتبط بحساسية كبيرة في المخيلة السورية بعد «مجزرة» عام 1982.

وشكلت إدلب وجهة لعشرات الآلاف من المقاتلين الذين رفضوا اتفاقيات تسوية مع النظام وبدأ المقاتلون ينظمون أنفسهم «أمام معادلة واحدة هي القتال حتى النهاية». كما أن وجود النازحين يجعل أي عملية عسكرية تهديداً لهم وإمكانية الضغط على تركيا. وقال منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في سوريا بانوس مومتزيس في يونيو (حزيران): «ليس هناك إدلب أخرى لإرسالهم إليها (…) هذا هو الموقع الأخير، ولا يوجد مكان آخر ليتم نقلهم إليه».

التصور التركي

ضغطت أنقرة على فصائل معارضة في شمال سوريا للمضي في التوحد وتشكيل «الجبهة الوطنية للتحرير» التي تضم نحو 70 ألف مقاتل، بحسب تقديرات مطلعين مقابل قول قيادي عسكري معارض، إن العدد بين 40 و50 ألفاً. والتشكيل الجديد من تحالف «جبهة تحرير سوريا» و«ألوية صقور الشام» و«جيش الأحرار» و«تجمع دمشق» (من الزبداني وريف دمشق والغوطة). اللافت، أن التشكيل الجديد يضم خلطة مقاتلين من «الجيش الحر» والمنشقين وفصائل إسلامية وفصائل من المهجرين من مناطق أخرى في سوريا، وتحديداً من قرب العاصمة. وكان معظمهم مدرجاً على قائمة «غرفة العمليات العسكرية» برئاسة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) في تركيا المعروفة بـ«موم»، قبل قرار واشنطن إلغاء البرنامج السري. وعين فضل الله الحجي، وهو زعيم «فيلق الشام» سابقاً، قائداً للتشكيل الجديد وأحمد سرحان نائباً أول ووليد المشيعل نائباً ثانياً (الثلاثة من إدلب)، إضافة إلى تعيين عناد الدرويش رئيساً للأركان ومحمد منصور نائباً آخر (الاثنان من حماة).

لم يبلغ المسؤولون الأتراك قادة الفصائل المتحدة الأفكار الموجودة في ذهن أنقرة. وبحسب المعلومات، فإن الخطة التركية تتضمن تقديم التدريب والتسليح لهذا التشكيل الجديد بحيث يشكل «نواة لجيش وطني»، أي أن يكون في سوريا ثلاثة تكتلات: «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية التي تضم 75 ألف مقاتل ويدعمها التحالف الدولي شمال شرقي سوريا، «الجبهة الوطنية لتحرير» وتدعمها أنقرة وتضم 70 ألفاً، إضافة إلى قوات الحكومة السورية التي يدعمها الجيش الروسي بما فيها «الفيلق الخامس» وإلى «قوات الدفاع الوطني» والميليشيات المحلية التي تدعمها إيران.

الأفكار التركية تتضمن أيضاً إعطاء مهلة لـ«هيئة تحرير الشام» التي تضم فصائل بينها «فتح الشام» (النصرة سابقاً) كي تحل نفسها بحيث ينضم السوريون من التحالف ضمن الكتلة الجديدة و«إيجاد آلية» للأجانب من المقاتلين لـ«الخروج من سوريا بعد توفير ضمانات». ويشمل «العزل» أو «التحييد» أو «الإبعاد» المقاتلين الأجانب الموجودين في «حراس الدين» التنظيم الذي تشكل في مارس (آذار) الماضي من مقاتلين غير سوريين في الفصائل و«الجيش التركستاني الإسلامي» وهم من الايغور الصينيين. ويقدر عدد الأجانب بين 6 آلاف و12 ألفاً.

واصل الجيش التركي تحصين نقاط المراقبة التي يصل أحدها إلى حدود محافظة حماة جنوب إدلب، في وقت حصلت أنقرة على مهلة من موسكو في اجتماع سوتشي الأخير للبحث عن «تسوية» للشمال بالتزامن مع انعقاد القمة الروسية – الألمانية – الفرنسية – التركية في 7 سبتمبر المقبل.

بندقية دمشق على إدلب

منذ خسارة محافظة إدلب في مارس 2015، تسعى قوات الحكومة للعودة إلى إدلب. سيطرت على غوطة دمشق وريف حمص وجنوب البلاد وجنوبها الغربي. بقيت ثلاث مناطق: شمال شرقي وتقع أمامها تعقيدات بسبب الوجود الأميركي المنتشر إلى قاعدة التنف، منطقتا «درع الفرات» و«غصن الزيتون» اللتان حصلت تركيا عليهما برعاية روسيا، محافظة إدلب التي تقع ضمن اتفاق «خفض التصعيد» وفق عملية آستانة الموقع في مايو (أيار) 2017 لستة أشهر.

انتهت مناطق «خفض التصعيد» الثلاث وبقيت إدلب. وقال الرئيس بشار الأسد الأسبوع الماضي «هدفنا الآن هو إدلب رغم أنها ليست الهدف الوحيد». وتريد دمشق خصوصاً استعادة الجزء الأخير من طريق دولية، تمر عبر إدلب وتكمن أهميتها في كونها تربط بين أبرز المدن السورية التي باتت تحت سيطرة القوات الحكومية، من حلب شمالاً مروراً بحماة وحمص ثم دمشق، وصولاً إلى معبر نصيب الحدودي مع الأردن. وقبل الوصول إلى حلب، يمر جزء من الطريق في مدن رئيسية في إدلب تحت سيطرة الفصائل، أبرزها سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون.

وبدأت قوات الحكومة عمليات شمال حماة وشنت قصفاً على مواقع معارضين، لكنها لا تزال حذرة في الاقتراب من مواقع تركيا التي لا تريد تكرار موقف الأردن وأميركا بالتخلي عن فصائل الجنوب السوري. غير أن الحملة الإعلامية بدأت بالتركيز على إدلب. اللافت، هو ضم الصين إلى هذه الحملة؛ إذ نقلت صحيفة «الوطن» الموالية لدمشق تصريحات للسفير الصيني في سوريا بأن بلاده ستساعد الجيش السوري في إدلب. على الأغلب، بسبب وجود الاوغور ضمن «الجيش التركستاني الإسلامي» الذي يقدر عدده عناصره وعائلاتهم بنحو 2500 شخص.

وكان اتفاق تسوية أدى إلى تهجير آلاف من قريتين مواليتين لدمشق في ريف إدلب، برعاية روسية – تركية؛ ما عزز الشكوك من احتمال حصول عمل عسكري. كما أن مسؤولين في «وحدات حماية الشعب» الكردية عرضوا على دمشق العمل سوية ضد تركيا في عفرين التي خسروها بداية العام وفي إدلب. وقالت مصادر، إن «الوحدات» تخطط لشن هجوم على عفرين في حال شنت دمشق هجوماً على إدلب.

رسائل روسية متناقضة

بخلاف تصريحات المسؤولين في دمشق، جزم الموفد الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف في ختام اجتماعات سوتشي الثلاثاء «لن يكون وارداً في الوقت الحاضر، شن هجوم واسع على إدلب». ونقلت مصادر، أن توتراً حصل بين موسكو ودمشق بعد تصريحات رئيس وفد الحكومة إلى سوتشي بشار الجعفري ضد «الاحتلال التركي».

موسكو التي بدأت تروج لخطة لإعادة اللاجئين السوريين من دول الجوار لا تريد أزمة لجوء جديدة؛ إذ يهدد التصعيد بتدفق موجات كبرى من اللاجئين إلى تركيا، وهو ما لن تسمح به مع رغبتها بتسريع عودة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ تدفقوا إلى أراضيها منذ اندلاع النزاع في 2011. وتراهن موسكو على أن يقوم الأتراك بحل ملف «هيئة تحرير الشام» لا أن تكون «قضية يمكن للأسد أن يستخدمها لإطلاق هجوم على إدلب». وتراهن روسيا على تركيا لإنجاز هذه المهمة، بحسب لافرنتييف. لكن في الوقت نفسه، أشارت وزارة الدفاع الروسية إلى «قلق إزاء تصاعد الأوضاع في منطقة خفض التصعيد في إدلب نتيجة استهداف المسلحين مواقع للجيش السوري ومساكن مدنية في حلب وحماة واللاذقية»، مشيرة إلى «تسجيل 84 عملية قصف خلال الأيام الـ10 الماضية، ذلك إضافة إلى هجمات متكررة باستخدام طائرات بلا طيار ضد قاعدة حميميم الروسية انطلاقاً من إدلب». وتزامن ذلك مع هجمات شنها تنظيم «حراس الدين» على مواقع للحكومة شمال البلاد.

احتمالات

أمام هذه الصورة تظهر احتمالات عدة:

الأول، أن تجر دمشق موسكو إلى خيارها بالتصعيد العسكري في إدلب كما حصل في مناسبات سابقاً عندما فرضت الحكومة السورية أجندتها على الحليف الروسي. قد تستخدم الهجمات على قاعدة حميميم أو فشل الجانب التركي واستمرار هجمات المتطرفين ذريعة لذلك.

الثاني، أن تذهب دمشق وحيدة إلى إدلب من دون غطاء روسي؛ ما يعني احتمال انضمام «الوحدات» الكردية وميليشيات إيرانية إلى العملية بهجوم على عفرين، وبالتالي انتقال: «الوحدات» عبر أراضٍ تسيطر عليها قوات الحكومة.

الثالث، أن تتبع قوات الحكومة سياسة «القضم» بحيث تسيطر على مواقع استراتيجية على طريق حماة – حلب، وعلى طريق اللاذقية – جسر الشغور، وفي سهل الغاب بين إدلب وحماة.

الرابع، وصول روسيا وتركيا وأميركا (إيران) إلى تفاهم الكبار تفرض على اللاعبين السوريين تتضمن ترتيبات للشمال السوري (بعد الجنوب) بحيث تنتشر القوات الحكومية ورموز الدولة على النقاط الحدودية، بما فيها مع العراق وتركيا (شمال شرقي وشمال) والجنوب مع الأردن.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

دمشق والاكراد: اوهام متبادلة

دمشق والاكراد: اوهام متبادلة

زيارة وفد «مجلس سوريا الديمقراطية» الكردي – العربي إلى دمشق لم تكشف عمق الفجوة بين الطرفين فحسب؛ بل انطباعات خاطئة لكل طرف عن «خصمه» الجديد الذي كان «حليفاً» في سنوات سابقة… أيضاً، عدم دقة رهان كل منها على حليفه الدولي؛ واشنطن بالنسبة إلى الأكراد، وموسكو بالنسبة لدمشق.

بالنسبة لوفد «سوريا الديمقراطية»، جاء إلى دمشق متسلحاً باعتقاده أن التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة واشنطن، باق في شمال شرقي نهر الفرات. قادة أكراد عسكريون وسياسيون يعتقدون أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لن يسحب قواته من شرق سوريا لسببين: الأول؛ تقليص النفوذ الإيراني وقطع طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت. الثاني؛ هزيمة تنظيم «داعش» وعدم ظهوره ثانية… أي؛ عدم تكرار ترمب خطأ سلفه باراك أوباما عندما انسحب من العراق.

لذلك، فإن وفد «سوريا الديمقراطية»، رفع سقف توقعاته: البدء أولاً بعودة الخدمات من كهرباء وصحة ومياه وتعليم في مناطق «قوات سوريا الديمقراطية»، التي تشكل ثلث مساحة سوريا البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، إضافة إلى التوصل إلى صيغة مباشرة تخدم «المصلحة المشتركة» لاستثمار حقول النفط التي تشكل 90 في المائة من الإنتاج السوري، والغاز الذي يشكل نحو نصف الإنتاج الوطني.

بالنسبة إلى الوفد الزائر، فإن النجاح في «إجراءات بناء الثقة» يؤدي إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تشمل سيطرة «الدولة السورية» على معابر الحدود مع العراق وتركيا ونشر أجهزة الأمن، إضافة إلى بحث صيغة للتجنيد الإجباري لشباب المنطقة الشرقية وعلاقة الـ75 ألف مقاتل من «قوات سوريا الديمقراطية» بالجيش السوري المستقبلي.

أما المرحلة الثالثة، فستتناول طبيعة الحكم – النظام السوري. الوفد، يعتقد أنه قادر على فرض صيغة «الإدارات الذاتية»، خصوصاً بعدما شكل مجلسا للتنسيق بين الإدارات في المحافظات الثلاث الحسكة ودير الزور والرقة والمناطق ذات الغالبية الكردية والكردية.

في المقابل، بدا أن دمشق، من خلال الكلام القليل لوفد «مجلس الأمن الوطني» الذي رأسه اللواء علي مملوك مع زواره من شرق سوريا، ليست في عجلة من أمرها. كان واضحاً، بحسب المعلومات، أن دمشق تتحدث عن «خطوط حمر»؛ هي: السيطرة على جميع المعابر الحدودية بما فيها تلك الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» مع العراق وتركيا، ورفع العلم الرسمي على جميع النقاط الحدودية والمؤسسات العامة، وعدم قبول «أي خطوة انفصالية».

لذلك، ترى أن أي خطوة لإعادة الخدمات يجب أن تكون ملزمة بحراسة أمنية من المركز. ولم تكن دمشق متعجلة لإجراء مفاوضات مباشرة لاستثمار حقول النفط والغاز، وهي تفضل التعاطي عبر وسطاء، باتوا «أمراء حرب»، جمعوا مئات ملايين الدولارات عبر نقل صهاريج النفط من حقلي الرميلان وعمر إلى مصفاة حمص.

لم يكن الوفد الأمني، الذي غاب عنه السياسيون والحكوميون، مستعدا لبحث اللامركزية أو الإدارات الذاتية، بل هناك قناعة بأن القانون رقم «107» الذي يتحدث عن مجالس محلية تابعة لوزارة الإدارة المحلية، كاف لمعالجة الشواغل الكردية، إضافة إلى بعض «التنازلات» المتعلقة بحقوق الأكراد اللغوية والاحتفالية والخدمة.

الواضح أن دمشق تستند في تشدد موقفها لثلاثة أمور: المكاسب العسكرية الأخيرة قرب دمشق وحمص وجنوب سوريا، والدعم الروسي جواً والإيراني براً، والرهان على أن الأميركيين سيغادرون سوريا وأن الوقت لصالح دمشق. وهناك رهان رابع خفي؛ القدرة على تطويع المنطقة الشرقية باختراقات نابعة من تحالفات سابقة مع عشائر عربية أو تنظيمات كردية. لذلك، لم تقم دمشق بإعلان بيان رسمي عن اللقاءات، واكتفت ببضع كلمات نقلا عن «مصدر مطلع» تضمنت نفيا لبحث موضوع اللامركزية.

وأمام هذه الفجوة، كان «الإنجاز» الوحيد للقاءات رفع الحظر في دمشق عن ذهاب فنيين وخبراء لإصلاح عنفات توليد الكهرباء في سد الطبقة على نهر الفرات، وموظفين لمنشآت صحية، مع بطء شديد في تشكيل لجنة مشتركة لبحث التعاون المستقبلي ضمن «لعبة شراء الوقت».

من هنا، جاء اقتراح كردي جديد لإحداث اختراق: التعاون معاً لشن هجوم على عفرين وإدلب… أي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستحضار التعاون السابق بين دمشق و«حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان ضد تركيا.

المشكلة في هذا الرهان، هو الانطباعات الخاطئة لكل طرف عن «حليفه»… روسيا لم تسمح لدمشق بتقديم المعاونة لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين بداية العام، بل إنها تخلت عن «الوحدات» لصالح تركيا. كما أن روسيا لم تسمح لقوات الحكومة بشن عملية شاملة ضد فصائل معارضة وإسلامية في إدلب. أيضاً، فإن الأميركيين؛ حلفاء «قوات سوريا الديمقراطية» شرق نهر الفرات، عقدوا اتفاقا مع تركيا لحل ملف منبج وقد يكون على حساب «وحدات الحماية».

قد يعيد التاريخ نفسه: يخيب الروس دمشق في إدلب، ويخيب الروس «الوحدات» في عفرين، ويخيب الأميركيون «قوات سوريا الديمقراطية» شرق الفرات كما خيبهم الروس في «درع الفرات» و«غصن الزيتون».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

الميليشيات المحلية الموالية للنظام في سوريا

الميليشيات المحلية الموالية للنظام في سوريا

رغم الضغوطات غير المسبوقة التي تعرض لها الجيش السوري خلال الحرب السورية، على الأقل حتى التدخل الروسي في سبتمبر أيلول عام ٢٠١٥، لم يحدث أن حصل عصيان أو تمرد جماعي داخل صفوفه، ولم تتأثر سلسلة الرتب والقيادات فيه، لكن قابله تطور ظاهرة “التهرب” من أداء الخدمة العسكرية، وبدرجة أقل ظاهرة “الانشقاق” عنه. وتختلف ظاهرة “الانشقاق” التي تنطوي على قضية سياسية ترتبط بتخلّي المرء عن وحدته العسكرية ليقاتل في صفوف المعارضة (دوروثي اوهل، مركز كارينغي، 2015) عن ظاهرة “التهرب” التي تعني فقط عدم الالتحاق بخدمة العلم المفروضة وفق القانون السوري.

وقد قامت المؤسسة العسكرية السورية بتحفيزات اقتصادية في محاولة منها لضبط حالات التهرب من الخدمة، كزيادة رواتب العسكريين خمس مرات خلال سنوات الحرب السبع، لكن هذا الإجراء لم ينجح بسب تجاوز التضخم قيمة الزيادة. فعلى سبيل المثال حتى عام ٢٠١٨ تضاعف راتب المجند السوري أربع أو خمس مرات، في حين انخفضت قيمة الليرة السورية إلى عُشر قيمتها في نفس الفترة مقارنة بعام ٢٠١٠. سعت أيضاً المؤسسة العسكرية مُمثلة بإدارة التوجيه المعنوي في الجيش ردع حالات التهرب عبر خلق رأي عام طائفي يروج لفكرة مصير الأقليات، عززتها ممارسات فعلية للفصائل الإسلامية المعارضة على الأرض.

ساهم هذا الرأي الطائفي جزئياً في ظاهرة “التهرب” والتوجه الى ميليشيات أكثر تعبيراً عن الاصطفاف الطائفي المتزايد خلال الحرب. إن ظاهرة “التهرب” مؤشر لحقيقة جوهرية، وهي أن الشباب السوري ضمن البيئات الموالية) ورغم عدم قناعته بـالثورة (ضد النظام السوري) يحمل في فكره عدم إيمان عميق بالنظام السياسي القائم.

في الحقيقة هذه النقطة هي التي ستسقط النظام السوري مستقبلاً وليست القوة العسكرية التي لم ولن تسقطه. نُشير هنا إلى أن العناصر المتهربة من الخدمة الإلزامية هي متنوعة للغاية من حيث الجغرافيا والطائفة والوضع المادي والاجتماعي والأكاديمي. أما قول إن معظمهم من طائفة “السنّة” فهذا لأن النسبة الأكبر من سكان سوريا هي من هذه الطائفة، بالتالي تنتفي حصرية الصفة الطائفية كسبب للتهرب من الخدمة العسكرية.

بينت الأحداث اللاحقة لانطلاق الأزمة السورية أن آليات اتخاذ القرار كانت بشكل أو بآخر غير دقيقة في تقدير خطط انتشار الجيش السوري وأولويات تنفيذ عمله، وصوابية عدد من مهماته من منظور المصلحة الاستراتيجية العليا. في الواقع كان لدى النظام السوري قناعة شبه مطلقة بأن الوضع في سوريا لن يصل إلى ماوصلت إليه الدول العربية التي أصابها “الربيع العربي”.

وفقاً لهذه القناعة لم تحصل أية مراجعة حقيقية لمكامن الخطأ في بنية ومفاصل الدولة السورية، خاصة الفضاء الاقتصادي ومنظومة البنية المدنية التي تعرضت لأكبر ضرر يمكن أن يتصوره أحد. ورغم أن جنودها أُهمِلوا، ورُمي بهم في بعض الأحيان لقمةً سائغة إلى الموت بقيت المؤسسة العسكرية السورية على مستوى عالي من التماسك. لكن مع نهاية العام الأول من الحرب فُرِض واقع جديد؛ بدأ الشباب السوري يعزف عن الالتحاق بالجيش السوري، قسم منه التحق بـ”الثورة السورية”، وقسم هرب خارج سوريا كلاجئ أو مهاجر، والقسم المتبقي ممن كانوا تحديداً من المناطق الجغرافية التي يسيطر عليها النظام تهربوا بشكل شبه مطلق عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. هذا الوضع أدى إلى انخفاض عدد الجيش السوري إلى نحو مئة وعشرين ألف عنصر عام ٢٠١٤، بعدما كان إجمالي عدده يقارب ٣٠٠  ألف قبل الحرب (تشارلز ليستر، مركز بروكينغ الدوحة، 2014). من الناحية النظرية، يمكن القول أنه كان بإمكان الدولة السورية وقتها استدعاء مايقارب ١.٧ مليون مقاتل (جوزف هوليداي، معهد الحرب الاميركي، 2013). لقد احتاج النظام نتيجة نقص العدد في قواته إلى وسائل جديدة لحث الشباب أو من يقدر على حمل السلاح للتطوع، وبما أن الساحل السوري مثل الخزان البشري للنظام بحكم الطائفة وهواجس الأقلية، ابتكر النظام طريقة لحث المتطوعين للانضمام إليه، وهي سحق الاقتصاد الزراعي في ريف هذا الساحل، وتجويع القاعدة الشعبية الريفية الداعمة له، لدفع الشباب الى التطوع في الميليشيات المحلية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية مقابل عائد مادي يسد رمق أسرهم. ومن نتائج هذه السياسة أنه قد تم تدمير الدورة الاقتصادية لإنتاج الحمضيات في محافظتي اللاذقية وطرطوس.

ديناميات القوة: نحو الميليشيا المحلية الموالية

لقد أدت عوامل كـ(ضعف الاهتمام بالمقاتل السوري، والتخلي عنه في جبهات القتال، وسرقة مخصصاته الغذائية، وإعطاء ضباط الجيش إجازات له مقابل تخليه عن جزء من راتبه أو راتبه كله) إلى تهرب المجندين من الالتحاق بالجيش السوري النظامي نحو الالتحاق بالميليشيات المحلية، مثل ميليشيات “الدفاع الوطني”، “الألوية الطوعية”، “صقور الصحراء”، “لواء القدس” وغيرها من تلك المحلية، أو من تلك المدعومة من إيران كـ”لواء ذو الفقار”، “لواء أسد الله”، “سرايا الزهراء”، و”حركة حزب الله النجباء”.

نشأت هذه الميليشيات من حيث المبدأ لدعم الجهود العسكرية للجيش السوري، عبر مجموعات محلية خفيفة التسليح، تشكل نوعاً من الدعم الذاتي، مالبثت أن بدأت تتوسع وتقاتل على مساحات شاسعة من سوريا. لكن في العمق، ظهرت هذه الميليشيات بفعل ديناميات اقتصادية واجتماعية خضعت لها شريحة واسعة من المجتمع بسبب الحرب. وقد وجدت العناصر المتطوعة عبر هذه الميليشيات ملاذاً من أي ارتباطات قانونية وسبيلاً للهروب من أداء الخدمة الإلزامية في الجيش النظامي، حيث يُعاني المجند من الإهمال والجوع والاحتفاظ طويل الأمد.

لقد خَلقت هذه الميليشيات بيئة آمنة قائمة على مبدأ التخصص، بمعنى التمييز الحمائي من القانون واكتساب درجة من النفوذ السلطوي، مع العطاءات المادية التي يمكن أن تأتي، إما عن طريق وسائل مشروعة على شكل رواتب نظامية، أو عن طريق وسائل غير مشروعة أصبحت معروفة محلياً في سوريا بظاهرة “التعفيش.” ومن المعروف في الأوساط الشعبية في مناطق عديدة من سوريا أنه تمّ تحديد عشرات الآلاف من عمليات التعفيش الممنهج التي قامت بها عناصر من الميليشيات المحلية، بشكل فردي أو جماعي على خلفيات طائفية كما في حلب الشرقية وريف حماه الشمالي، أو على خلفيات قومية كما في عين العرب وتلّ أبيض وتل تمر، أو على خلفيات عشائرية كما في ريف الميادين وريف البوكمال. وشوهدت علامات فارقة على البيوت المنهوبة تُشير إلى ديانة أو قومية ساكنيها. و تمّت في حالات أخرى سرقة المحاصيل الزراعية كمحاصيل اللوزيات في ريف حمص، والقمح في الشمال السوري، بتنسيق ممنهج لمنظومة عسكرية كاملة.

وخلال الحرب السورية ولحظة سقوط أي بلدة أو قرية بيد الميليشيات المحلية تتم سرقة البيوت والمحال من كل ما يمكن حمله، ثم يتم تفكيك المواد مثل أسلاك الكهرباء، نوافذ الألمنيوم، أبواب الحديد وغيرها من المواد التي يمكن إعادة استخدامها. لاحقاً يتم تحميلها علانية بآليات قد تكون لأشخاص مدنيين لم يشاركوا بالتعفيش، وتباع علانية في أسواق خاصة دون أي محاسبة.

رغم عدم إنكار أن العديد ممن تطوعوا في هذه الميليشيات هم من الشرفاء ومنهم من قدم حياته في المعركة إلا أن هذه  الميليشيات ساهمت إلى حد كبير في تضرر الصورة المعنوية للجيش السوري، وأصبح بعض قيادييها أقوى من سلطة الدولة نفسها، وحصلت بعض الحوادث التي ظهر فيها قادة هذه الميليشيات أكثر نفوذاً من قادة الجيش السوري أنفسهم، مُعززةً بذلك التمايز وردود الفعل بين مجندي الجيش النظامي وبين مجندي هذه الميليشيات من حيث العائد المادي والنفوذ السلطوي. كما أدت هذه الميليشيات الى ارتفاع نسبة الجريمة والفوضى في البلاد. باختصار إن السرديات المافيوية لهذه الميليشيات في محافظتي اللاذقية وحلب يندى لها الجبين، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الميليشيات ممولة من رجال أعمال وشخصيات اعتبارية عشائرية أو حزبية سورية ومرتبطة بشكل او بآخر بالأجهزة الأمنية.

أفول المليشيات المحلية الموالية

بدأت في مايو\أيار ٢٠١٨ ملامح تغييرات تحصل على الأرض فيما يتعلق بالميليشيات المحلية، إذ توقف صرف رواتب عناصر ميليشيا “الدفاع الوطني” في أغلب قطاعات الغوطة الغربية من دمشق، ورافق ذلك حملة تنقلات وإعفاءات لقادة بعض هذه القطاعات. وتمت أيضاً إزالة حواجز تابعة للجان الشعبية والميليشيات الأخرى غير الرسمية في كل من دمشق وحمص وبقية المدن الرئيسية الأخرى. كما صدر قرار بحلّ بعض هذه الميليشيات وأهمها: ميليشيا أحمد الدرويش وعلي الشلّة في حماه، وسيمون الوكيل وأيمن صيادي في ريف حلب الجنوبي، وسُحبت البطاقات الأمنية من عناصرهم، كذلك ميليشيا “صقور الصحراء” التي كان يتزعمها أيمن جابر الذي سُحبِت منه رخص استيراد وتوزيع الدخان المستورد، وتسود حالياً حالة من القلق عند عناصر هذه الميليشيات حول مصيرهم مستقبلاً.

بالتأكيد حلّ هذه الميليشيات جاء نتيجة جملة من المتغيرات السياسية والعسكرية. فبعد سقوط الغوطة الشرقية تمكن النظام من استلام زمام الأمور ميدانياً، وأصبح له عدد عسكري متوافر، بالتالي لم يعد بحاجة ماسة إلى هذه الميليشيات في ضبط بعض الجغرافيات، أو ضبط الأمن في قطاعات سكنية ومدنية معينة. سياسياً، يبدو أن روسيا قد ضغطت أيضاً على النظام في إطار جملة من الشروط الدولية التي تدعو إلى حل ومحاربة جميع الكيانات العسكرية غير المعترف بها والتي تشمل أيضاً وفق المنظور الغربي الميليشيات المحلية وتلك “الإيرانية” الخارجية الداعمة للنظام.

وترى موسكو وحتى واشنطن أن تحييد الجيش السوري على حساب الميليشيات لن يحقق أي حل سياسي دولي للأزمة السورية، لأن أي قوات دولية سواء كانت بقيادة روسية أم لا، لن تجد جيشاً وطنياً تعتمد عليه لحفظ النظام واستتباب الأمن في أي عملية تهدف لحل سلمي مستقبلاً لسوريا، بل ستجد أمامها كيانات عسكرية غير منضبطة في حالة مشابهة للحالة الليبية.

إن حل الميليشيات يحمل بُعداً اقتصادياً أيضاً يرتبط بإعادة الإعمار، فمن سيمول سيفرض شروطه في أي استثمار، وأهم هذه الشروط حماية هذا التمويل وإلزام الدولة السورية على إصلاح إداري وقانوني شامل يحمي الاستثمارات الخارجية من تعديات محتملة لكيانات عسكرية أو أمنية غير قانونية، في مقدمتها الميليشيات المحلية والمقربة من عائلة النظام السوري المعروفة تاريخياً بوسائلها غير الشرعية في نهب الاقتصاد السوري والتعدي على القوانين، ونفوذها التسلطي على مؤسسات الدولة السورية. وفي بلد تُوصف دولته بالفساد الممنهج والأسطوري، لا عجب أن يلعب قادة الميليشيات العسكرية دوراً مافيوياً رئيسياً في اقتصاد ما بعد الحرب. وتتخوف القيادة الروسية من سيناريو شبيه بنموذج “الحشد الشعبي” في العراق الذي نشأ لأسباب أمنية-عسكرية وتحول لاحقاً الى مؤثر في العملية السياسية. إن سير عملية الإصلاح سيكون مسؤولية الطرف الذي سيتولى قيادة إعادة إعمار سوريا وهو غالباً روسيا لأنها دفعت الكثير لضمان مصالحها في سوريا، ولا تستطيع الميليشيات المحلية الموالية للنظام أن تقف في طريق هذه المصالح الروسية ولاحتى النظام نفسه.

سامر فوز هدفٌ بارز لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية

سامر فوز هدفٌ بارز لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية

عاد اسم رجل الأعمال السوري البارز سامر فوز إلى الظهور مجدداً على الساحة الإعلامية، لكن هذه المرة كهدف لوزارة الخزانة الأمريكية ضمن برنامج العقوبات التي تستهدف نظام بشار الأسد مالياً.

عُرف سامر فوز إثر شرائه حصة الأمير السعودي “الوليد بن طلال” في فندق “فور سيزنز” في العاصمة دمشق، حين كشفت آنذاك صحيفة «فايننشال تايمز» عن عملية الشراء، مشيرةً إلى أن رجل الأعمال المذكور مرتبط برأس النظام السوري بشار الأسد.

صحيفة “The Hill” السياسية الأمريكية نشرت مؤخراً مقالاً للمحلل السياسي ومدير قسم الأبحاث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات “ديفيد أديزنيك” دعا فيه حكومة بلاده إلى تجديد وتوسيع دائرة العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، الأمر الذي سيدفع إيران إلى تحمّل أعباء مالية أكثر إزاء دعمها لدمشق.

وقال أديزنيك إن “بشار الأسد قد وجدَ رجال الأعمال المناسبين ممن يديرون ويشرفون على المبالغ الضخمة في البلاد لإنقاذ نظامه الذي يعاني ضائقة مالية”، اثنان منهم يبرزان كأهداف رئيسية لوزارة الخزانة الأمريكية، أوّلهما سامر فوز.

فوز محامٍ، تاجر حبوب، يبلغ من العمر ٤٤ عاماً، وهو من مواليد مدينة اللاذقية الساحلية السورية، متزوجٌ وله ٤ أولاد، بنى إمبراطورية من الشركات الممتدة حول العالم منذ بداية الحرب؛ تضعه صفقة شراء حصة الأمير السعودي من الفندق الشهير في ذات الدرجة التي تتمتع بها وزارة السياحة السورية، والتي يخضع وزيرها “بشر يازجي” لعقوبات الاتحاد الأوروبي.

كما يترأس فوز العديد من المناصب في الشركات والمؤسسات التي تتبع له كـ  رئيس مجلس إدارة “مجموعة الفوز القابضة” التي أُسست عام ١٩٨٨، والرئيس التنفيذي لمجموعة “أمان” القابضة، والتي يتفرع منها شركات (فوز للتجارة، فوز التجارية، المهيمن للنقل والمقاولات، صروح الإعمار)، إضافة إلى ما يتفرع عن (مجموعة الفوز القابضة) من استثمارات متنوعة في مجالات استيراد وتصدير المواد الغذائية، وذلك قبل أن يتجه أخيراً إلى الاستثمار العقاري بمشاريع في سوريا ولبنان وروسيا وغيرها، إضافة إلى استعداده إطلاق قناة تلفزيونية تدعى “لنا”.

أما الشخصية الثانية، البارزة كهدف أمام وزارة الخزانة -حسب أديزنيك- فهي عضو مجلس الشعب السوري “حسام قاطرجي”، قائد إحدى الميليشيات المسلحة التابعة للنظام في حلب، والذي أسس شركة “أرفادا” البترولية برأس مال يصل حتى مليار ليرة سورية، وثّق تحقيق لرويترز دوره في نقل القمح من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” آنذاك، إلى تلك الخاضعة لسيطرة النظام؛ كما تحدثت تقارير عدة عن دوره في إبرام صفقات نقل النفط من المناطق التي تسيطر عليها جماعات كردية، إلى مناطق سيطرة النظام.

قاطرجي، من مواليد الرقة ١٩٨٢، لم يكن معروفا ضمن الأسماء المتداولة في منظومة آل الأسد الاقتصادية، سوى أنه كان تاجراً في حلب، ورئيساً لـ “مجموعة قاطرجي الدولية” التي تضم العديد من الشركات من ضمنها شركة “قاطرجي للتطوير والاستثمار العقاري”، وشركة “البوابة الذهبية للسياحة والنقل”، وشركة “الذهب الأبيض الصناعية”، إلا أنه برز خلال العام ٢٠١٧ بعد تعاملاته السرية مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، لصالح النظام السوري.

يصنّف رجلا الأعمال السوريان (قاطرجي، وفوز) كـ “حيتان حرب” ضمن مجموعة حيان ظهرت بعد العام ٢٠١١، إلا أن الأخير (سامر فوز) لا يزال الأكبر حجماً، والأكثر غموضاً، من تأسيسه مجموعات مسلحة تقاتل إلى جانب قوات النظام السوري، إحداها في اللاذقية تدعى «درع الأمن العسكري» إلى اعتدائه مرةً بالضرب على فنانة لبنانية تدعى «قمر» لعلاقتها بشقيقه (عامر) بعد أن كشفت الأخيرة عن عمليات تجارة مخدرات، حتى قضية قتلٍ تلاحقه بحق رجل الأعمال المصري-الأوكراني “رمزي متّى” في تركيا منذ العام ٢٠١٣، ويُرتقب صدور حكمها النهائي شهر آب/ أغسطس القادم.

يؤكد بعض المحللين الاقتصاديين أنّ فوز على علاقة بالروس على خلفية كونه السبب في إلغاء صفقة استيراد قمح من إيران نهاية العام الفائت، والتي وجهها بدوره إلى شركة «أوف شور» التابعة له في روسيا؛ ويرى البعض الآخر أنه واجهة إيران في دمشق، على خلفية شرائه أراضٍ وعقارات لصالح إيرانيين في البلاد.

في هذا الوقت تجدد وزارة الخارجية الروسية دعواتها لرفع العقوبات عن النظام السوري، بحجة إعادة إعمار البلاد، وعودة اللاجئين إلى موطنهم، والتي «ستساهم في استقرار الوضع داخل سوريا، والمنطقة بأسرها» على حد تعبير ماريا زاخاروفا المتحدثة باسمها في مؤتمر صحفي.

كما مرّر قبل بضعة أيام مسؤولون في حزب البديل لأجل ألمانيا (AFD) اليميني قراراً خلال مؤتمر للحزب في مدينة “أوغسبورغ”، دعوا فيه إلى رفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية المفروضة على النظام السوري، وذلك ضمن مساعيه المتواصلة للتخلص من اللاجئين السوريين في ألمانيا.

وبين الدعوات لفرض وتوسيع دائرة العقوبات من جهة، ورفعها عن النظام السوري برجالاته المالية من جهة أخرى، لا يزال الجدل محتدماً حول فاعلية مثل هذه الإجراءات، ففي حين يتم التشكيك بمدى قدرة العقوبات الاقتصادية على التأثير في البنية الشمولية للنظام السوري، يشار في الوقت نفسه إلى أنها نمّت بيئة خصبة لتعزيز دور البُنى المالية-المافيويّة على شاكلة سامر فوز وغيره، إضافة إلى أنها دمرّت الاقتصاد المحلّي، الأمر الذي انعكسَ سلباً على السكان بالمجمل.

هويّة شوّهتها العقائد والمصالح

هويّة شوّهتها العقائد والمصالح

أليست الهوية تكثيفاً للماهية؟ وإذا كانت كذلك فهذا يعني أنها يجب أن تعكس سماتها وأبعادها وعمقها، السمات التي تعكس مظهرها وتبدياته بكل وجوهه وألوانه وأشكاله، وأبعادها التي تمتد عميقا في التاريخ، مبرزة ما تركته أحداثه وصروفه من آثار تتبدى عبر صفة أو سمة أصيلة من سماتها. وأما عمقها فهو يبرز طبائعها النفسية والاجتماعية التي انتهت إليها.

الهوية هي بطاقة التعريف التي يفترض ألا تحتمل التأويل والتفسير لأنها الدلالة الواضحة على الشخص، الكينونة أو الكيان.

الهوية السورية مصطلح بحاجة إلى تعيين وتحديد يأخذان التاريخ والجغرافيا بعين الاعتبار، ويستدلان باللغة والثقافة والمحمول النفسي وما تركه هذا كله من أثر على هذه الهويّة، تعيين وتحديد يفضي إلى فهم موحد للموضوع درءاً لكل غموض أو التباس أو سوء فهم.

كانت سورية تعني الهلال الخصيب كاملاً حتى تاريخ سقوط بابل عام ١٢٩ ق .م بيد البارثيين. بدأ مع هذا التاريخ التحول في معنى المفهوم التاريخي\الجغرافي لكلمة “سورية”، وأخذت تدل على المنطقة التي بقيت بيد السلوقيين، أي ساحل المتوسط. وفي عهد الروم قام اغنايوس بومبيوس ماغنوس بضم سورية إلى الجمهورية الرومية عام ٦٤ ق.م وأعلنها مركزاً للإمبراطورية الرومانية في الشرق. وحافظ هذا المفهوم الجغرافي على دلالته حتى مطلع القرن العشرين؛ فمع اتفاق سايكس–بيكو حدث تغيير جديد في دلالة هذا المفهوم أي “سورية.” إ اقتُطع منها فلسطين ودولة لبنان وما سمي بشرق الأردن كيليكيا ولواء الاسكندرون. وها نحن اليوم وفي العام السابع للأزمة السورية نرى احتلالات متعددة على الأرض السورية من “إسرائيل” في الجولان إلى تركيا في اللواء قديماً وفي جزء كبير من الشمال حديثاً إلى تواجد قوات عسكرية لدول كبرى وإقليمية متعددة في مناطق متعددة من الجغرافيا السورية.

على الباحث أن يتجنب الاستسلام لرغباته أو أحلامه، أو أن يتكل على مسلماته الشخصية. هو معني بالغوص عميقاً لكي يحيط بالشخصية السورية ويكتشف أبعادها وتبديّاتها التي تظهر من خلالها في الواقع.

من أهم الأسئلة المطروحة اليوم، هو عن أية سوريا نتحدث؟ هل عن سوريا قبل ٣٠٠ ق.م أم عن سوريا بعد٣٠٠ م؟ هل عن سوريا الهلال الخصيب أم بلاد الشام أم سوريا الحاضر أوائل القرن ٢١؟

هل من يحدد الشخصية السورية هو ذلك الناطق بالعربية أو الناطق بالسريانية أو الآرامية؟ هل هو العربي أم الآشوري؟ أليست سوريا كأرض وجغرافيا أقدم من كل ساكنيها؟ أليس سكنهم وعيشهم فيها هو الذي أكسبهم الصفة السورية؟ ألم تعش العديد من اللغات وتستخدم في سوريا إلى أن تمت الغلبة للعربية بحكم التطور والاصطفاء؟ أليست العروبة سمة صبغت وشكلت بثقافتها وباللغة العربية الإنسان السوري؟ أليست سوريا هي موطن العربية؟ أكثر من ذلك أليست الأرض السورية هي موطن العرب؟ وأخيرا أليست الأرض السورية هي المكان الذي منه انطلقت المدنية؟ وفيه عاش أو عاشت أقوام مختلفة جنباً إلى جنب لآلاف السنين حيث انصهروا في نسيج واحد وثقافة واحدة وحملوا تاريخاً مشتركاً؟ ألم تختلط دماؤهم في ري هذه الأرض وهم يدافعون عنها، كما اختلطت بالتزاوج لتنتج أجيالا جديدة ومتجددة؟ أليس هذا هو التاريخ السوري؟

بهدوء وثقة يمكن القول أن السوري هو من ينتمي بالولادة والحياة والولاء لسوريا الجغرافيا والتاريخ. وانطلاقاً من الجغرافيا السورية التي سنضيف إليها الصيرورة والسيرورة التاريخيتين لسكانها، سنجد أن العربية لغتها والعروبة هوية وثقافة لها. وسيجمع على ذلك كل سوري: العربي، والآشوري والسرياني والمسلم والمسيحي وما عدا ذلك. قد نجد بعض الاعتراضات هنا وهناك لكنها لا تذكر.

وسنرى أن هذه الهوية المنجزة على المستوى النظري تاريخياً وواقعياً غير منجزة على الصعيد العملي، حقوقياً وسياسياً. ويمكن تفسير ذلك وإرجاعه إلى الفتن الدينية والمذهبية والعرقية التي كانت تتسبب فيها سياسة الحاكم واستبداد السلطة والعامل الخارجي الذي كان دائما يضع سوريا لموقعها الجغرافي الاستراتيجي في أولوية أهدافه. وهذا الأمر لا يزال قائما إلى اليوم. أمر آخر حال دون أن تتحول هذه الهوية إلى واقع منجز هو عدم تشكل دولة وطنية: دولة مؤسسات، دولة قائمة على عقد اجتماعي ودستور ناظم وقوانين مستمدة منه، وتشريعات معتمدة عليه.

وكما في الماضي كذلك هو اليوم. إن ما عطل وأخر وخصى مشروع الدولة هو السلطة الاستبدادية. التفرد بالسلطة وحكم الحزب الواحد الذي أقصى الجميع  مجتمعاً وقوى سياسية) عن أن يكونوا منخرطين وفاعلين في الدولة. وهذا ليس مقتصراً على سوريا بل هو يطال دولا عربية أخرى كثيرة.

لقد كان لتدخل العسكر بالحياة السياسية عبر الانقلابات بدءاً من انقلاب حسني الزعيم عام ١٩٤٩ أثر كبير في الحياة السياسية. فهو وإن أعطاها زخما، وأذكى الحالة العامة حماساً إلا أنه ومع الوحدة السورية المصرية التي حلت الأحزاب بداية، تم التأسيس للقمع وتدخل الأمن وسيطرة الحزب الواحد على العمل السياسي، الأمر الذي سيتبدّى جلياً للعيان بعيد استيلاء وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد على السلطة في سوريا عام ١٩٧٠ م.

وإذ كانت العربية هي اللغة والثقافة الإسلامية السائدة بفعل الدور الكبير الذي لعبه الدين الإسلامي كمرجع روحي وأخلاقي وتشريعي وعقيدي لغالبية السكان، وبفعل التراكم التاريخي، فإن هوية عربية الملامح إسلامية الثقافة متفاعلة ومتعاضدة مع كل الموروث الديني والثقافي والحضاري لمنطقة بلاد الشام، برزت واضحة وجلية، بحيث أن زعيماً عربياً كعبد الناصر وحزباً قوميا كحزب البعث وظفاها وأبرزاها كل بطريقته ليتشكل ما سمي في حينه المد القومي الذي طرح الوحدة العربية كشعار له. وبقدر ما لعبا دوراً مهماً في إبراز هذه الهوية، كان حكمهما والسلطة التي مارساها، والاستبداد الذي عمماه، هي التي شوهت هذه الهوية من جهة، وساهمت في خلق أعدائها من جهة أخرى. وإذا أضفنا التغييب المتعمد للفكر والمفكرين، وللثقافة والمثقفين، وللناس عموماً عن الانخراط في الحياة العامة وعن ممارسة النشاط السياسي، نكون قد شخصنا جزءاً كبيراً من إشكالية الهوية والوعي في سوريا كما في البلدان العربية الأخرى.

إن صعود الفكر القومي عبر أنظمة الحكم المتمثلة بعبد الناصر والبعث ورغم التجاذب الكبير بينهما، أسس لهوية عربية تحددت ملامحها. وعندما نقول عربية فنحن نعني هوية قامت على فكرة العروبة الثقافية والحضارية المتكئة على التراث والثقافة الإسلاميين. ولكن الاستبداد الذي رافقهما، وتغييب المجتمع، وعدم السماح للمجتمع المدني بالتقدم والتطور الذي يكفل له قدرة الدفاع عن الهوية واغنائها؛ وعدم الالتفات إلى التأسيس الحقيقي للدولة الوطنية القائمة على عقد اجتماعي ودستور ومؤسسات تحميهما، هو الذي قاد في النهاية ليس إلى فشل المشروع القومي فقط، وإنما إلى خلخلة الهوية وضعفها بحيث لم تتطور إلى مستوى ناضج وواضح ومستقر.

هنا لا يمكننا إلا أن نعرج على الدور السلبي للقوى الدينية وفكرها وممثليها السياسيين، سواء عبر الوهابية أو من خلال تنظيم الإخوان المسلمين، الذين لم يقتصروا على مناكفة الفكر القومي ومشروعه فقط بل وصل الأمر إلى حد طرح هوية بديلة، قائمة على الفكر الديني وخاصة السلفي منه. لقد طرحوا الهوية الإسلامية وعملوا على محاولة فرضها على المجتمع سياسياً من خلال مبدأ الحاكمية وفكرياً من خلال الفكر الإسلامي ( القرآن والحديث) كمرجعية وحيدة للتشريع. ولا يخفى أننا بتنا أمام طرفين يمارسان الإقصاء: الفكر القومي من جهة والفكر الإسلامي من جهة أخرى. وإذا أضفنا إلى هذا كله قصور وعجز الفكر الماركسي ومعه الليبرالي عن إثبات نفسيهما وعدم قدرتهما على التأسيس لتواجد فاعل ومستمر في ضوء الممارسات التي مارسها خصومهما، ندرك إلى أي مدى نحن بعيدون عن نضوج الهوية وتخلقها النهائي بحيث تصبح سمة دالة وواضحة المعالم بذاتها.

من الصعب على الشعب السوري، بعد هذه السنين السبع من حرب دمرت كل شيء، أن يستطيع الاتفاق أو التوافق على هوية واحدة واضحة ومتماسكة. بل ومن الظلم أن يطلب منه ذلك. لأن المخيّر بين الموت والحياة، سيختار الحياة ولن تهمه طبيعة المكان ولا المناخ السائد فيه بل قدرة هذا المكان على تأمين استمراريته في الحياة والعيش الآمن الذي يوفره له. بهذا المعنى، فإن طبيعة الهوية سيحددها واحد من أمرين: إما التوافق، وفي هذه الحالة ستكون هوية مؤقتة، ولظروف انتقالية؛ أو الفرض اعتمادا على مبدأ القوة والغلبة. وهنا ليس لنا أن نتيقن كثيراً من قدرتها على الاستمرار والتوضع النهائي.

إن الاختيار (ونحن هنا لسنا في موقع المفاضلة أو الاختيار) بين دولة علمانية ودولة تعتبر الدين مرجعية لها، وفي وضعنا الراهن هو شرك خطير وقد يكون قاتلا لأن من شأنه أن يؤدي إلى إقصاء طرف ويحوله إلى خصم مناكف، مثابر ومعاند، مشتت للجهد ومعيق للتقدم. قد يقول قائل إن هذا يصح في الدولة الدينية، لكن المنطق يقول إن النتائج ستكون واحدة لأي من الخيارين، ولسبب بسيط، وهو أن الدول إنما تبنى بالإنسان، أداتها الرئيسة كما موضوعها هو الفرد الإنساني، أي المجتمع، وعندما يكون نصف أو ثلث أو ربع هذا المجتمع – لن أقول معادياً–  بل مشلولاً، ماذا ستكون النتيجة؟ إعاقة بامتياز!

إن العيش المشترك بين مختلفين قد لا يقود بالضرورة إلى التشارك والمشاركة الكلية، ولكنه سيقود إلى التشارك أو المشاركة في أشياء عديدة. هذه العملية التطورية عبر التاريخ، ومن خلال التراكم، هي التي تشكل الهوية أو الهويات في منطقتنا، وفي سوريا خاصة، لم تنته هذه الصيرورة. يمكن القول إن الهوية السورية الموغلة في القدم، والتي كانت موطناً للعرب وللعربية مذ انتشرت هذه الأخيرة لتحل محل الآرامية والسريانية، قد عرفت نوعاً من التطور اللافت مع الفتح الإسلامي وما تلاه من انتشار للإسلام وما عرفته من قدوم تلاه توطن واستقرار للفرس والروم ومن ثم المغول والأذريين والشركس والترك والكرد والديالمة وغيرهم.

إذن يمكن القول إن هذه الهوية السورية– التي استقرت على العربية لغة، والثقافة الإسلامية فضاء مع حفظ والتمسك بـ: حق الديانات والمذاهب وأي تنوع حضاري آخر بالوجود والاستمرارية– قطعت شوطاً بعيداً في اكتساب ماهيتها المتفردة وكينونتها الخاصة، وليس أدل على ذلك من رد فعلها التلقائي والمقاوم لعملية التتريك التي قام بها العثمانيون. و ينبغي التنويه، على سبيل الملاحظة والتذكير، إلى الدور الذي قام به مسيحيو المنطقة، وكذلك إلى دور العديد من الشخصيات ذات الأصول غير العربية من كرد وغيرهم.

مع كل هذه الأقوام التي سكنت البلاد وعمرتها وامتزجت مع أبنائها تزاوجا وعيشا ولغة، سنجد أن الكثير من البثور والنتوءات ستطفو على السطح هنا أو هناك، أو ربما بقيت مختفية تحته منتظرة اللحظة المناسبة لتبرز من جديد، وهل هناك ظرف، أو بيئة أكثر ملاءمة من البيئة التي لازمت الأزمة السورية وما رافقها من تحريض وتجييش وإقصاء وقتل وتدمير؟

إن عملية الصهر أو الانصهار هذه وان تمت، إلا أنها لم تصل بعد مداها. في هذه الهوية الكثير من صفات العناصر التي شكلتها تاريخياً ولا تزال تشكلها إلى اليوم. وهي إذ حسمت مسألة اللغة والفضاء الثقافي والحضاري وحصرتهما بالعربية لغة وبالثقافة والحضارة الإسلامية فضاء، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى العديد من التعيينات اللونية الخاصة بها، كما هي بحاجة إلى تعيينات أخرى تتعلق بدور العقل وموقعه، ودور الدين وموقعه، ودور الإنسان وموقعه، وجملة الأهداف والغايات الأخرى التي تتطلع إليها.

إن من حق أبناء هذه الهوية أن يشعروا بالفخر لأنهم خلاصة هذا التلاقح والانصهار التاريخي الذي حصل على أرضهم وفيها. والى أن تتعين وتتحدد من حقها على أبنائها أن ينظروا إلى المستقبل بثقة تاركين الماضي للتاريخ والباحثين فيه.

مُخرِب الأحلام

مُخرِب الأحلام

كان الشاب المدعو- آدم  والذي صار لقبه فيما بعد – الفيل – يجلس في الباحة السماوية تحت شجرة النارنج، عندما رأى فقاعة أشبه بفقاعة الصابون، تخرج من نافذة الغرفة التي ينام فيها والده وعروسه، وتقترب نحوه .

كان والده قد يئس من أية إمكانية لجعله آدمياً، فقد  طُرد من مدرسته على إثر ضربه لأحد أساتذته كما فشل في كل المهن التي تنقل فيها وكان على قناعة راسخة أنه لم يخلق ليؤدي عملاً نافعاً. بل يتعمد أن  يفسد الأشياء التي يفترض أن يصلحها، كأن يترك في المدافئ ثقوباً ليتسرب منها الوقود وتحرق البيوت بقاطنيها أو يغرس في الأحذية مسامير مسننة، أو يحدث في أقفال الأبواب ثغرة كي يخلعها اللص  ووصل به الأمر إلى وضع العث والديدان في المعاطف التي يبيعها .

بعد  طرده صار يمضي وقته  في باحة البيت تحت شجرة النارنج،  يسهر ليلاً وينام نهاراً. وكان الأب الذي طلق والدة آدم وتزوج شابة صغيرة  يشعر أن منتهى سعادته هي أن ينام ولده حتى وقت متأخر ويتمنى أن لا يستيقظ أبداً.

عندما صارت الفقاعة على بعد إنشين منه ارتجف جسده ورأى ما اعتبره خيانة زوجية تحدث في غفلة عن والده . كانت  زوجة والده، وجارهم الشاب يركضان في الفقاعة الشفافة الحمراء، وكانت الفقاعة التي بحجم كرة قدم تزداد توهجاً مع ضحكاتهما وعناقهما المحموم  بينما تتبدل ألوانها من الفضي إلى الوردي الفاتح إلى الأرجواني المتوهج.

في اليوم التالي لم يخرج كعادته لملاقاة أصحابه، بل أمضى يومه يراقب الزوجة الشابة وهي ترابط عند النافذة وتنظر بعيني قط محروم إلى باب الجيران.  

عند الغروب جلس خلف نافذته يراقب الزوجين وهما ينهيان آخر عاداتهما اليومية. سمع قرقعة الصحون وانسياب الماء في الحمام… دعسات والده… وقفل باب غرفتهما. عندها سحب كرسيه وجلس تحت شجرة النارنج  ينتظر الفقاعة التي اقتربت منه، وقدمت نفسها له كشاشة سينما أبطالها زوجة أبيه وجارهم الشاب. كانا يسبحان عاريين في مغطس ماء حار.

يتعانقان …يركضان على الحافة الدائرية للمسبح …يغيبان في أروقة قصر باذخ،  ثم يقفزان في الماء، و يواصلان السباحة.

غرس سبابته فأحس بلزوجة الفقاعة أخرجها ثم غرسها مجدداً كمن يوجه طعنة بسكين  فانقبض وجه المرأة وتراجعت للخلف، وهي تنظر حولها بذعر، شعر العاشق بالخطر فسبح هارباً خارج الحيز الذي يشمله الحلم لكن آدم ضربه في ظهره بسبابته فانزلق الشاب عند طرف الحوض وارتطم رأسه بالرخام، وسالت دماء كثيرة،  ثم تحول لون الفقاعة قبل أن تتبدد من الوردي إلى الأسود عندها سمع صرختين من الغرفة، وركض والده -الذي كان شخيره قبل ثوان يملأ الأرجاء – هلعاً ليملأ كوب ماء.

ما اعتبره  هواية ومارسه لسنوات  في المقهى وفي الشارع مع  المتشردين تحول بعد وفاة والده إلى حرفة حيث قصده الناس من كل مكان، وطارت سمعته إلى أوروبا وأفريقيا. قصده إعلاميون فاشلون وصحفيون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن و دفعوا أموالاً طائلة لكي يروا قدراته الخارقة.

قصده الجميع بما فيهم الفنانون والسياسيون، والأساتذة الجامعيون، وأخيراً السحرة الذين أرادوا أن  يتعلموا منه طريقته في تحويل الحلم الأخضر إلى حلم يابس والأحلام الوردية إلى أحلام سوداء وكوابيس.

كان باب بيته مزدحماً واضطروا إلى هدم حارتين لكي يوسعوا الشارع المؤدي إلى بيته باعتباره ثروة إنسانية كما وقف خمسة عشر شرطياً وثلاثمائة متطوع  لتنظيم حركة المرور، واستعمل مئات المساعدين لتنظيم الزبائن في باحة البيت وفي الشوارع والمقاهي الجانبية والذين كانوا من كل الأجناس والأعمار.

كانت تقصده النساء لكي يباغت أزواجهن وعشيقاتهم في أسرتهن، ويحول أحلامهم  إلى كوابيس….

…الرجال الذين  يطلبون منه أن يتجسس على أحلام رؤسائهم في العمل

…آخرون يتفرجون على رغبات حبيباتهن ولكل شيء تسعيرة  فمشاهدة الحلم لها ثمن، والعبث به له ثمنه أيضاً.

كان كل شيء يسير باعتياد إلى أن أتى ذلك اليوم ….

في البداية أرسلوا إليه أشخاصاً يلبسون قبعات جلدية تخفي عيونهم  يجلسون في باحة البيت، و يراقبون باب مكتبه ويتهامسون فيما بينهم. في صباح أحد الأيام احترق منزله وفي يوم آخر نهبت نقوده ثم طردوا زبائنه وفي النهاية طلبوا إليه أن يعمل لحسابهم.

– تعمل لدينا ويعود لك ما أخذ منك مضاعفاً. عملك الآن سيختلف. نحن لا تهمنا خيانة الأزواج ولا الزوجات ولا ترهات العشاق والمراهقين.

على من سأتجسس إذاً؟

ستعرف لاحقاً.

كان تصنيف الأحلام يتدرج من عالية الخطورة كالأحلام المتعلقة بالأفكار  وأطلق عليها أحلام المجانين… إلى متوسطة الخطورة كالبيوت الفارهة أو السيارات الجميلة أو النساء الفاتنات وسميت أحلام اليائسين… إلى لا خطر منها وهي المتعلقة بوجبات الطعام  كأن يحلم الشخص بدجاجة مشوية أو مرطبان من العسل أو سلة من الفواكه وسميت أحلام الأموات.

لكن رئيسه في العمل أصر على أن كل الأحلام  خطرة لأنه إذا حظي الحالم بمرطبان العسل فسينتقل إلى المرتبة الأعلى، وهكذا حتى يبدأ بإطلاق أفكاره كما يطلق ريحاً من مؤخرته دون حسيب أو رقيب ، وكان يخبره كل صباح  مقطوعته اليتيمة: نحن لم نبن لك هذا المكتب كي تترك تلك الحشرات الخطرة تعبر من سماء المدينة .

وبذلك  صار يعمل دون ملل ويطلق العنان للشر الذي رباه في صدره طيلة السنوات الماضية تحت شجرة النارنج .

في بعض الأحيان كان يقبض على شخص وهو يعبر بوابة بيت ذي إطلالة جميلة أو يتأمل شرفة قصرعندها يلامس الفقاعة بصاعق كهربائي  فتهتز الفقاعة وينهار البيت فوق رأس الحالم، قد يعاود الحالم الكرة في الليلة التالية لكن بعد محاولتين أو ثلاث سيستيقظ مذعوراً بمجرد رؤيته لإطلالة جميلة أو بيت مترف.

وفي أحيان أخرى يجد أحدهم متأنقاً ويمشي بزهو فيوجه مروحة إلى حلمه تجعله يتأرجح وسط دوامة ريح عاصفة ثم يسكب الماء الممزوج بالوحل على ثيابه ولا يكتفي بتخريب هندامه وبعثرة شعره بل يطلق خلفه كلاباً متوحشة.

أحلام الشعراء والفلاسفة صنفت ضمن عالية الخطورة حيث يلقي هؤلاء المواعظ والنظريات حتى في نومهم لذلك  كان يسكب فوقهم دلواً من الأسيد وهو يقسم أن يجعلهم: يتبولون في أسرتهم وعلى زوجاتهم وبالفعل كانوا يستيقظون وقد نسوا كل تفصيل ما عدا رائحة الأسيد والفراش المبلل ولعنات الزوجات.

تسليته الوحيدة هي أحلام الفقراء كأن يباغت شخصاً مع تفاحة أو حبة موز يضع فوق سبابته دودة ويغرسها في الفقاعة فتتحول الثمرة إلى حشرة ضخمة.

أمضى حياته يدخل زلازل في الأحلام  يسكب الأسيد والكيروسين يطلق كلاباً وأفاعيَ، يرمي في طعام الفقراء حشرات وقذارات ولم يترك حلماً يكتمل وكان يردد الحكمة التي سمعها من دون أن يفهمها: للأحلام قوة تجعلهم يستيقظون ويفهمون لكن الكوابيس تفعل العكس.

في النهار يقضي وقته  في الحانة ثم ينام بضع ساعات. في الليل يبدأ عمله صار لديه مساعدون وتلاميذ مثله ضخام الهيئة لذلك أطلق عليهم الفيلة، وأضيف بجانب اسم كل منهم رقم، مثل الفيل واحد، الفيل اثنان، الفيل ألف.

مع الوقت ازداد عدد الفيلة، وصارت الأحلام تُبتر من منتصفها، وتتحول إلى كوابيس، وكان  لكل حلم فيل ينتظره على مفترق الطريق، بعد زمن لم تعد تمر أية فقاعات متوهجة فقط الفقاعات السوداء كانت تستطيع المرور عبر سماء المدينة.