سيرة ذاتية لبلاد تموت

سيرة ذاتية لبلاد تموت

 حوار مع الروائي السوري مازن عرفة حول روايته الجديدة “الغرانيق” الصادرة في بيروت عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت.

يبدأ مازن عرفة روايته الثانية “الغرانيق” بفصل عنوانه “البلدة” وهو يرسم بتؤدة معالم بلدته التي عاش فيها جلّ عمره، يرسم معالم بلدته بسردية كلاسيكية وهو يقول:

“أنا مواطن صغير، أعيش في بلدة متواضعة، تترامى بيوتها الكئيبة على امتداد سهل أجرد، تظلّلها الجبال الجرداء من الغرب …

ما زال بعض المسنين يتحدثون عن نهر غزير كان يسقي حقولاً خضراء واسعة وممتدة حتى المدى … اختفى فجأة، وكأنّ الأرض ابتلعته …”ص9

ومن يعرف الكاتب وبلدته “قطنا” في ريف دمشق، يستطيع أن يقرأ الكثير من التفاصيل التي تحيلنا إلى هذه البلدة، ابتداءً بالنهر الذي اختفى، أو “معسكرات جنود الثورة” في الجهة الغربية للبلدة، وصولاً إلى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالأمكنة والأشخاص والحوادث، إلاّ أنّه لم يمنح هذه “البلدة” أيّ اسم، مكتفيا بأل التعريف فقط.

س1 – كيف اتّسعت هذه البلدة لمساحة البلد ككل “سوريا”، وكيف انفتحت الأحداث من خلالها لتشمل كل ما يجري أيضاً، وكأنك تكتب سيرة ذاتيه لبلاد تموت؟

ج1 – الكتابة بالنسبة لي هي استمرار للحياة، إذ كنت أشعر بأنّي أعيش سرديّة حكاية كبرى في بلد كان يعيش مخاضات التفجّر، وصولاً إلى انفجار “الانتفاضة السورية” التي وصفتها في “الغرانيق”، وما تلاها من أحداث كنت شاهداً مباشراً عليها في روايات قادمة… فأنا لم أغادر البلاد إلاّ في عام 2017، وأخلص بذلك للقول: “إنّ الرواية حياة، والحياة هي رواية”.

وبناءً على هذا، فليس المكان والزمان هما فقط المرتبطان بطريقة أو بأخرى بحياتي كرواية، بل والأحداث أيضاً، طبعاً بعد تحويرهم بما تتطلب تقنيات العمل الروائي كالفانتازيا والتداعيات والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، وهو جزء أساسي من تقنيّة السرد لدي، لذلك استخدمت ضمير المتكلم مع جميع أبطال روايتي، كأنّها سلسلة انفصامات لشخصيات متعددة تنطلق من جوهر واحد، هو هذا الإنسان الممزق في عالم يسوده الاستبداد العسكري والديني إلى درجة تهميشه وشعوره بفقدان أي معنى لحياته، فيتشظى إلى مئات الشخصيات.

وبلدتي الصغيرة هي نموذج لكل البلدات السورية التي “انتفضت” ضدّ الظلم والفساد، وبشكل خاص نموذج للبلدات التي تحيط بالعاصمة دمشق، إذ تتخذ أهميّة خاصة بسبب قربها من الجولان، ممّا جعلها منطقة شبه عسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أخذت تتحول من بلدة ريفية صغيرة خضراء وادعة، فيها تنوّع سكاني ديني متسامح، إلى منطقة مواقع عسكرية، لم تلبث أن زحفت على أراضي الفلاحين وأخذت تلتهمها بدون حق، فكان يكفي حفر بضع حفر لدبابات وهميّة ويتم الاستيلاء على الأرض، وسرعان ما قامت المافيات العسكرية والمدنية السلطوية بسرقة الأراضي المستولى عليها باحتيالات على القانون، وتحوّلت إلى مزارع استجمام لكبار الضباط والمسؤولين، ممّا ولدّ نقمة داخلية لدى أصحابها.

المكان في “الغرانيق” هو بلدتي كنموذج للبلدات السورية، التي تحاصرها الجبال الجرداء من الغرب، التي دمّر أشجارها الكثيفة الفلتان من القوانين، وصحراء جرداء ممتدة إلى الشرق، ومواقع عسكرية ، أصبحت الآن مواقع للميليشيات الإيرانية والروسية، وما اختفاء النهر حقيقة إلاّ هو واقعة رمزية للحالة الجرداء التي وصلتها البلاد والأرواح.

الشرفة التي يقف عليها “البطل المثقف” هي شرفتي، والساحة أمامها هي التي كان يجتمع بها متظاهرو الانتفاضة أمامي، والبساتين ببيوتها الريفية القديمة هي التي كان يجتمع بها المنتفضون، والشارع الرئيسي في البلدة هو الذي أحرقه “الشبيحة” القادمين من إحدى “المساكن العسكرية” حولها، “أهالي البلدة” هم شخصيات شبه حقيقية تناولتها ببعض التحوير حسب متطلبات العمل الروائي فقط.

لذلك أقول: إنّ المكان ترك بصمته في الذاكرة والحكاية، و”الغرانيق” ذاكرة وحكاية بعد أن عملت السلطة على تدمير البيوت الريفية، وقلع أشجار الحقول من جذورها، وهي التي تعيش فيها من مئات الأعوام… “المرتزق الشبيح” لم يزرع لأشجار ولم يروها بدمه طوال أجيال، فماذا يهمه إن أضحت الحقول جرداء… والبلاد والأرواح جرداء تذهب إلى الموت.

س2 –  جاءت روايتك الأولى “وصايا الغبار” لترصد انكسار المشاريع الثورية من خلال الفساد السياسي الذي طال كلّ مكونات المجتمع والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل الانفجار، لكنك في “الغرانيق” تسعى إلى رصد انتقام تلك الديكتاتورية المعنّدة، وفق المصطلح الطبي، والتي قامرت على احراق البلد دون التخلّي عن السلطة، وساهمت بانتقال الثورة مع العسكرة والأسلمة والتطرّف إلى حرب أهليّة بظلال طائفية، تبدو آثارها المستمرة لأكثر من سبع سنوات خلت أبعد من حدود المُتخيّل والجنون.

فكيف لنص أدبي أن يرصد كل ذلك؟ ومن أين نبعت جذور هذا العنف؟ وما هي آلياته؟

ج2 – هذا العنف السادي الوحشي الحاقد الذي تتبادله مختلف الأطراف السورية فيما بينها، وبتنوعاتها الدينية والطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، بلغ ذروته إثر المواجهة العنفية للنظام “العسكري الاستبدادي” ضدّ “الانتفاضة السورية”، التي بدأت “سلمية”، إلاّ أنّها سرعان ما “تعسكرت” كردة فعل على عنف النظام، ثم ذهبت إلى موتها مع “أسلمتها العنفية”… وكأنّ هذا العنف كان مختزناً في اللاوعي الفردي والجمعي، يتراكم بكثافة، وينتظر شرارة صغيرة ليتفجّر، ويُدمّر كل ما حوله، وقد تحوّلت البلاد إلى حرب أهليّة وحشيّة، سرعان ما أصبح أفرادها أدوات في صراعات إقليمية ودولية، وقودها الدم السوري على الأرض السورية.

هل كان هذا العنف نتاجاً تاريخياً لـ”العقلية الستالينية”، التي انتهجتها الأحزاب العقائدية، لبناء “نظام شمولي” يقوم على عسكرة المجتمع تمهيداً لعبادة الفرد “الزعيم الجنرال”؟

عاش أطفال سوريا تجربة العسكرة منذ نعومة أظفارهم، بدءاً بالتربية العقائدية في منظمة “طلائع البعث”، ومروراً بنظام “الفتوة العسكري” في المدارس الإعدادية والثانوية، إلى جانب منظمة “اتحاد شبيبة الثورة”، التي منحت علامات تفوق دراسي مؤهلة لدخول فروع مميزة في الجامعة بمجرد إجراء دورات عسكرية عقائدية، وصولاً إلى نظام “التدريب العسكري الجامعي”… دون الحديث عن عسكرة مظاهر الحياة المؤسساتيّة الإداريّة والثقافية في المجتمع السوري، وتحكم العسكر في مفاصل هذا المجتمع.

ألم يكن العنف نتيجة منطقية لسلطة العسكر التي استثارت ضدّها عنفاً إسلامياً مضاداً، محافظاً شرساً كامناً تحت الرماد، حيث أخذت الحرب الأهليّة الحالية في أحد مظاهرها شكل صراع طائفي ظهرت إلى السطح كوامنه من اللاوعي؟ صراع بين جيوش النظام الإنكشارية الخاصة، وبين الجماعات الجهادية العنفية باسم الإسلام، وإن كان بعضها بإشراف النظام ولمصلحته؟

أم كان هذا العنف نتيجة عقلية “الاستبداد الشرقي البطريركي” الموروث تاريخياً في اللاوعي الجمعي لأفراد المجتمع، بمفاهيم “البداوة” و”الغزو” و”السبي” و”النهب”، الذي يتمظهر حالياً باسم “التعفيش”؟

كل هؤلاء الأفراد المستبدون يشكلون تمظهرات للآلهة “الغرانيق”، الجميع مسكونون بالرعب، بدءاً من “الإله القائد”، مروراً بزعيم “القبيلة” أو “الطائفة” أو “العائلة”، وصولاً إلى رب الأسرة في المنزل… وكأن العنف يسري في الدماء.

أم يكون هذا العنف نتيجة “عسكرة إسلامية لا واعية”، واظب خطباء المساجد يومياً بالدعوة إليها باسم “الجهاد”، دعوة لجهاد عنفي بحد السيف، تتكرّر بلا نهاية على منابر المساجد وعبر وسائل الإعلام، في المناسبات الدينية أو بدونها. وهو جهاد عنفي غير موجّه ضدّ الخارج، بقدر ما هو موجّه ضدّ “الكفار في “ديار الإسلام”، أبناء الطوائف الأخرى، الذين لا تقبل منهم حتى “الجزية” مقابل حرية العبادة، كما تقبل من المسيحيين واليهود! هذه الدعوات “الجهادية” ترعرعت وتمأسست بحرية في ظل نظام يدعي “العلمانية”، وكان يستغلها لأهدافه الدعائيّة في الصراع مع “أعدائه الوهميين”. لكن السحر انقلب على الساحر بعد أن استشرى العنف في نفوس الجميع.

عندما أطرح هذه التوجهات الأربعة لأصول العنف المستشري في البلاد، والذي أوصلها إلى هذا الكم النوعي من الخراب والدمار، أجدها متضافرة معاً بطريقة أو بأخرى في بنائه، وهو ما كنت أفكر به لا شعورياً طوال الوقت في أثناء كتابة “الغرانيق”، وبالأحرى  ما كنت أفكر به بقدر ما كنت أعيشه في أثناء كتابتها، وأنا أقطن في بناء في بلدتي القريبة من العاصمة، وقد تحوّل هذا البناء إلى موقع عسكري محصن، والطابق الأوّل تحوّل إلى مكان اعتقال أوّلي ومركز تعذيب، فيما استقرّ في النهاية خط النار بين “النظام” و”المنتفضين” على بعد عدة كيلومترات.

هل يبرّر أو يفسر ذلك جرعة العنف الكثيفة في الرواية؟ وهل تكون مجرّد انعكاس لأجواء العنف المعمم من حولي؟

بدءاً من القسم الأول الذي يمثل زمناً مطلقاً لديكتاتورية عسكرية تنطبق على جميع الأمكنة بذروة رعبها “الكافكاوي” الذي تفرضه على مجتمعها، ومروراً في القسم الثاني بتاريخ سوريا المليء بانقلاباته العسكرية والتصحيحية والتطهيريّة والاستئصاليّة، العُنفيّة جميعها، والتي واجهها الناس بداية في لاوعيهم بمسحة من سخرية “الواقعية السحرية” و”أحلام اليقظة الجمعية”، حتى لحظة الوصول إلى درجة الانفجار الذي أضحى واقعاً، وصولاً إلى القسم الثالث المُتمثّل بأحداث “الانتفاضة السورية”، سواء بالعنف السلطوي الذي تمّت مواجهتها به، أو بعنف “أسلمتها” الذي تسلّل إليها وطغى عليها، وهو ما ترك البلاد في النهاية ممزقة، خراباً ويباباً، ومرتعاً لجيوش وميليشيات الغرباء.

س3 ـ نجح النظام بدعم الظاهرة الجهادية في سوريا والتي قضت على الثورة بسرعة حين قادتها إلى الأسلمة والعسكرة معا، وهو ما خطط له النظام، وكانت الأدوات الإسلاميّة جاهزة للعب هذا الدور، مع إعلان “الجهاديين باسم الإسلام” سعيهم لاستعادة خلافة رشيدة عبر قتل الناس.

أليس في ذلك مُخاتلة للماضي؟

ج3 – إذا أردنا الحديث عن الإسلام الآن، فعن أيّ إسلام نتحدث، إسلام “داعش والقاعدة” الدموي، أم “إسلام فتاوى الأصولياّت” التي تعيش في غربة عن عالمنا، أم “إسلام المشاريع الوهابية الصحراوية”، أم “إسلام المشاريع الشيعية” المريضة بهواجس تاريخ عابر، أم إسلام “الإخوان المسلمين” المرائين لأيّ نظام خارجي يدعمهم، أم “إسلام الصوفيين” المهادن لأي سلطة، أم “إسلام فقيه السلطان في الممالك والجمهوريات” المهادن للسلطات، أم “إسلام الطقوس” الممتزجة بالعادات الاستهلاكية المعولمة، أيّ إسلام نريد؟

هذه الإسلاميات تنتمي جميعها إلى الماضي، وتُقاد من قبل رجال دين مسكونون بأوهام الماضي حدّ المرض النفسي، لذلك هم موتورون، ويعيشون خارج التاريخ، وغالبا ما يدعمون الاستبداد وأنظمة الفساد التي تشبههم، والتي يعيشون في ظلها، ويتكاملون مع بعضهم في تخريب المجتمع، وذلك ما يشجّع تلك الأنظمة على دعمهم، والسماح لتنظيماتهم ومؤسساتهم بالانتشار، طالما كانوا في خدمتها، دون أن تسمح للتيارات الديمقراطية بالنمو، لأنها تشكل تهديداً لوجودها القمعي.

الإشكاليّة أنّ هذه الأنظمة تتوهّم القدرة على إبقاء القوى الإسلاميّة تحت سيطرتها، وأنّ المريدين سيأتمرون بأوامرها، لذلك انتعشت التيارات الدينية في ظلّ أنظمة تدّعي أنّها علمانيّة، بل كانت الدولة تشرف على تشكيل التنظيمات الجهاديّة خدمة لأهدافها، كما حدث مع إشراف النظام السوري على تجنيد الجهاديين، وإرسالهم إلى لبنان أولاً، ثمّ إلى العراق في زمن الاحتلال الأمريكي له.

التصفية الجسدية مع “الانتفاضة السورية” كانت بحق الناشطين المدنيين، حتى أنّ جثثهم لم تعد تسلم إلى أهاليهم، ومثال ذلك ناشطو داريا الذين كانوا يوزعون الورود وزجاجات المياه على رجال الأمن في أثناء التظاهرات، بالمقابل جرى الإفراج عن الإسلاميين، وبخاصّة المتطرّفين منهم، حتى يشكلوا تنظيماتهم الإرهابيّة، بعملية مقصودة ومُخطّط لها، والأسماء التي أفرج عنها من سجن “صيدنايا”، هي التي شكلت لاحقا “النصرة” و”جيش الإسلام” و”صقور الشام” على سبيل المثال، وهي معروفة بالوثائق والصور. هؤلاء الإسلاميون المتطرفون هم الذين قضوا على الانتفاضة السورية السلمية، بالتعاون مع السلطة العسكرية، والمستقبل سيكشف الكثير من الخفايا.

لذلك انتهت “الغرانيق” برؤية تَنبؤية عن تبادل الأدوار بين “الزعيم الجنرال” و”الأمير الإسلامي”، كوجهي عملة واحدة، وأعتقد أنّ رمزيّة “الغرانيق” تتجاوز الزمان والمكان المحدد، إلى زمان ومكان مطلق مفتوح في مجتمعاتنا العربية.

س4 – كيف تماهت شخصية “المواطن الصغير” بشخصية “المثقف” ومن ثم “الزعيم الجنرال” الساعي لتأبيد سلطته عبر ألف ليلة وليلة من القتل، وكيف نجحت الديكتاتورية كأي سلطة بتعميم ثقافتها ونموذجها في دواخلنا؟

ج4 – أشرت في البداية إلى تشظّي الإنسان المُهمّش والمُمزّق بين الاستبدادين العسكري والديني، هذا الإنسان تحوّل في سياق النص الروائيّ من شخصية عادية إلى نموذج معياريّ، يُمثل بمجموعه فئات مُحدّدة من المجتمع، فالمثقف الذي يقف على  شرفة “المسكن الذي كنت أسكنه في الواقع” ويراقب التظاهرات منها، فيه بعض مني، والشاب “الثوري العنيف” ذو الأصول الريفية الذي كان يقود التظاهرات، فيه بعض من شبابي في البلدة، ببساتينها وحقولها، و”الزعيم الجنرال” هو جزء من حلم يقظة مارسته وإن بشكله البدائي، ومارسه كثيرون مثلي، في مرحلة الانفجارات الثورية منتصف القرن الماضي. أمّا الشخصيات الأخرى فأنا أعرفها جيداً وعشت معها، ابتداءً من “فتاة الحلم التي تخترق الأزمنة”، مروراً بالفلاحين البسطاء الذين سرقت المافيات العسكرية أراضيهم، وصولاً إلى “شبيحة النظام”، و”الجهاديين الإسلاميين” الذين أعرفهم عن قرب واحتككت بهم أيضاً.

تلعب التداعيات النفسيّة والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، الفردية والجمعيّة، دوراً أساسياً في تقنية كتابة الرواية لدي ـ منذ روايتي الأولى، ومن ثمّ “الغرانيق”، إذ أنّه في ظلّ عنفٍ مُستمر وحشيّ من قبل نظام عسكري شرس ضدّ أفراد المجتمع، يحاصر عوالمهم الخارجية، فإنّهم يلجؤون كحل أوّليّ إلى عوالمهم الداخلية، إلى لحظة هروب من الواقع القاسي لصعوبة مواجهته مباشرة، ومن ثمّ الانتصار عليه عبر “أحلام اليقظة”، فيمارس كل واحد منهم “عنفه الحلمي” الهوليودي ضدّ العسكر، وأجهزة الأمن، ويزيحهم من الوجود التوهمي.

يقول بطل الرواية عن رجال الأمن: “كنت أتحين الفرصة في عتمة الليل، وأنا مختبئ في فراشي تحت اللحاف، كي أقنصهم أو أفجّر مراكزهم، بل وأعذبهم، كما يفعلون هم مع معتقليهم”.

“حلم اليقظة” هو تعبير هروبي عن عجز للإنسان، وتمزّقه في ظلّ رعب كافكاوي، يحاول أن يقاومه به، هو سمة إنسان العصر الحديث الهارب من ضغوط الحياة المعقدة، فكيف إذا تمثلت بقمع نظام عسكري مُستبد، يستمد جذور عنفه الوحشي من كل المصادر المتخلفة التي أشرنا إليها. والأقسى هنا، أنّ حلم الإنسان المقموع، قد يُخفّف توتره النفسي مؤقتاً، لكنه يقوده إلى موقف غرائبي، قريب من اللامبالاة وعدميّة “ألبير كامو”، فيتساءل البطل عن مواجهته الحُلمية مع رجال الأمن: “والمشكلة التي كانت تواجهني هي أنني إن قتلت واحداً منهم في الخيال، ازدادوا عشرة في الواقع”.

في القسم الثالث من الرواية، كان اندلاع “الانتفاضة السورية” تعبيراً عن مواجهة الواقع القاسي مباشرة، عبر الانتقال من “حلم اليقظة” الهروبي، لدى فئات واسعة ومختلفة من المجتمع، إلى الفعل الإيجابي عبر التظاهرات السلمية والاعتصامات في الساحات والدعوة إلى إسقاط النظام. ومن هنا كان أحد مظاهر أهميّة “الانتفاضة” هو في تعبيرها عن الخلاص من كوابيس الرعب لدى أفراد المجتمع بشكل واسع، والتي حاولت أنظمة القمع زرعها في النفوس لخمسين سنة خلت، والانتقال إلى الفعل الإيجابي.

ففي “ثورات الربيع العربي” لم يكن المهم فقط هو ذلك الفعل المادي بتحطيم تماثيل “غرانيق العسكر” في الساحات والشوارع، وإنمّا تحطيم تماثيلها المعبودة في العقول، وهو ما حاولت الأنظمة العسكرية زرعه خلال خمسين عاماً، ومعها انتهى الوهم المرتبط بالرعب الكافكاوي والإحساس بعدميّة التمرّد والثورة. هذا الخروج وهذا التحطيم كان التعبير الأهم عن “ثورات الربيع العربي”.

لكن العنف يستمر قضية مركزيّة في الرواية، فالصراع كان شديداً داخل “الانتفاضة”، بعد مرور عدة أشهر من انفجارها، بين الاتجاه السلمي الذي كان يدعو إلى التظاهرات السلمية والاعتصامات، ممثلاً بشخصية “الأستاذ فارس”، وهو نتاج الطبقة الوسطى المتعلمة، والمُتضرّرة من  تدميرها على يد النظام العسكري، من جهة أولى، فيما تمثل الاتجاه العنفي بشخصية “البطل” مجهول الاسم والهوية، كمُمثل لفئات واسعة من ذوي الأصول الريفية المتضررة من سرقة العسكر لأراضيهم، غير أنّ الرد العنيف لعسكر النظام و”شبيحته” باستعمال السلاح ضدّ المتظاهرين، أفسح مجالاً أوسع لبروز البطل العنيف، في محاولة يائسة للدفاع عن النفس، وتمثل ذلك برمزيّة إخراج خنجره القديم ومسدسه العتيق من محفوظات ذاكرته، وهذا ما حدث في الواقع.

سارت الأحداث في الرواية عن طريق الفانتازيا إلى نوع من التماهي الخفيّ بين شخصية “الزعيم الجنرال” العنيف، و”البطل من ذوي الأصول الريفية” العنيف أيضاً، بغض النظر عن النوايا الثوريّة لديه، في لعبة أقرب للواقعيّة السحرية، والتداعي النفسي، وسلسلة من الانفصامات الشخصية المرضيّة، بحيث بدت الشخصيتان وكأنّهما وجها عملة معدنية واحدة، بالتوازي مع انفصاميّة شخصية ثالثة، مثلت “المثقف الانتهازي” الذي يختبئ وراءهما، ويميل مع المُسيطِر منهما، فتحوّلت الرواية من مظهر بطل أحادي يتحدّث بضمير المتكلم، إلى سلسلة من الشخصيات المنفصمة، تتحدّث جميعها بضمير المتكلم نفسه، في تبادل للأدوار التي تتكامل وتتشابك، وهذا ما جعل الرواية تنفتح إلى احتمالات مُتعدّدة من النهايات بقدر تشعبات مظاهر العنف ومصادره.

س5 – كيف تنتقل الساديّة السياسية إلى ساديّة جنسية؟

ج5 – خَصَصْتُ في الرواية فصلين مهمين عن حكاية البطل الشخصية، المختلطة بتاريخ سوريا الخاص منذ خمسينيات القرن الماضي، سميت أحدهما “سادية سياسية” والثاني “سادية جنسية”، ومع أنّ الفصلين مكتوبين بنوع من الفانتازيا السحرية، ممّا يتطلب عملاً روائياً يسعى إلى متعة القراءة، والكتابة الساخرة من موضوعها، إلاّ أنّ خلف كتابتها كان يؤرقني سؤال عن البُنية النفسيّة والاجتماعية لواقعنا ومجتمعنا. كنت أفكر دائماً بالعلاقة بين الجلاد والضحيّة بشكل عام، وفي المعتقلات بشكل خاص، وأتساءل: مادامت الضحية تعترف للجلاد بما يرغب من أسرار، فلماذا يستمر بتعذيبها حتى الموت؟

ليس المهم من هو الجلاد، سواء كان من عسكر النظام أو من الجماعات الإسلامية، فالجلاد هو جلاد في النهاية، يتلذذ بالتعذيب بمتعة ساديّة غامضة، غير أنّ ساديّة التعذيب حتى الموت، كذبح الضحية بالسكين أو فرمها بجنازير دبابة أو صعقها بالتيار الكهربائي، أو تذويبها بالأسيد، أو تجويعها حدّ الموت وما شابه ذلك من عمليات، حيث يُصر الجلاد على التعذيب بعملية حاقدة، تطال الطرف الآخر وما يُمثله بآن معاً. إذ يعتقد انّه بهذا الفعل ينتقم من الفئة التي تنتمي إليها الضحية “الدين، الطائفة، العشيرة، الإثنيّة، الانتماء المناطقي…الخ”.

يتحوّل العنف الذي يندمج مع المتعة الجنسيّة إلى ساديّة مطلقة، وهذا ليس بغريب عن مجتمع العنف البدوي البطريركي المزروع في لاوعينا؛ مجتمع الغزو والسبي، فالعربي لا يقبل إلاّ أنّ يقتحم غشاء البكارة في ليلة عرسه إثباتاً لرجولته المفقودة،  ويفتخر علناً بـ”غزواته الجنسية”، والحوريات في الجنة الإسلامية هنّ أبكار، يتجدد غشاء بكارتهن بعد كل ممارسة جنسية، بينما المرأة العربية تفقد قيمتها الإنسانيّة بفقدان بكارتها، حتى بعد الزواج، كما أنّها محرومة من الاستمتاع في الجنة مع الحوريين، لأنّ العقل البطريركي لا يرضى أن تنام الزوجة مع حورييّ الجنة، فالإله يختار لها زوجاً واحداً.

هكذا تبدو حياتنا الشرقية مشبعة بالعنف والكبت الجنسي الذي يتفجر على سبيل المثال باغتصاب السجينات في معتقلات النظام، والسبايا في غزوات الإسلاميين، ويصل ذلك إلى اغتصاب الرجال وحتى الأطفال، إمّا لفظياً أو فعلياً، لينتهي هذا بموت الضحية، وهكذا تصبح متعة التعذيب بدون هدف سوى التعذيب متعة جنسية سادية.

تصوّر ذروة الساديّة في الرواية، بمشهد اغتصاب “الزعيم الجنرال” لضحيته وهي تنازع الموت، وينتهي فيها بلحظة موتها، في حين تبدو المتعة السادية لدى السجانين في دفن الجثث الجماعي، دون الاهتمام بوجود أحياء بينهم.

س6 – تنتقل بنا من متاهة “الزعيم الجنرال” إلى عوالم “دون كيشوت” الهزليّة، لنكتشف لاحقا طعم “المذاق المُرّ” الذي تحدّث عنه “نيتشه” لعمل كان هزلياً في زمنه، وأعتقد أنّ أيّ قارئ لهلوسات وكوابيس “الغرانيق” سيحس طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”!

ج6 – هي الفانتازيا السحرية، خيال مريض يُعشعش في دواخلنا، خيال مليء بالخرافة والأوهام، خرافة تغزو كل معتقداتنا وتصوراتنا، وتشكل حياتنا اليومية، تحيلنا إلى أشخاص مهووسين بالجنس، ومقموعين بالاستبدادين الديني والأمني، فنهرب من كلّ ذلك إلى أحلام اليقظة والأوهام، نعيش انفصامات مرضيّة غير متناهية، تشوّه الشخصيات والأحداث أيضا بشكل كاريكاتيري بالتأكيد، غير أنّ هذه الكوميديا التي تكبر داخل مساحة تراجيديا الموت، وفي أحلام اليقظة والهلوسات القاتلة للزعيم الجنرال، لن تفلح بكل ما فيها من الكاريكاتير بحجب طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”.

مازن عرفة ـ روائي وباحث سوري مواليد عام 1955 حائز على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانية ـ قسم المكتبات من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولونيا). مؤلفاته “سحر الكتاب وفتنة الصورة” و”تراجيديا الثقافة العربية”، إضافة على رواية “وصايا الغبار”. رواية الغرانيق هي روايته الثانية الصادرة عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت في نهاية عام 2017.

عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة

عسكرة الثورة السورية والأخطاء القاتلة

يسير التاريخ إلى الأمام بشكل مستمر، إلا أنه يسير وفق خط متعرج كثيرا، وهذا ما سمح “لآل البوربون” بالعودة إلى حكم فرنسا، لكن الثورة الفرنسية انتصرت في النهاية، وربما نحتاج إلى أجيال كي نرى مآلات ما يحدث في سورية الآن، فالانتصارات العسكرية الآنية هنا أو هناك قد تشوش الرؤية، أكثر مما تصنع الحقائق، مع ذلك نحن مطالبون بدراسة الحدث في تعرجاته المستمرة، التي تصنع تاريخ السوريين اليومي والكارثي بآن معا.

فتعقيدات الحالة السورية لم تمكّن من وضع نهاية سريعة للنظام، على غرار ما حدث في تونس أو مصر، إذ كان هذا النظام مستعدا منذ البداية للحل الأمني، الذي لا يمكن أن يقوم إلا عبر استدراج العسكرة والتطرف الإسلامي، ولذلك بدأ منذ اليوم الأول يردد منولوج المؤامرة الإرهابية الهادفة إلى النيل من نظام تقدمي وعلماني وممانع للإمبريالية والصهيونية.

واستمر النظام في طرح هذه الديماغوجيا حتى نجح في تخليقها حقيقة واقعة، مستفيدا من كل المعطيات التي اشتغل عليها خلال عقود من الاستبداد، بِدءاً من الانقسامات العمودية في سورية، ومرورا بالتحالفات الإقليمية والدولية، وصولا إلى الاستفادة من العناصر الجهادية التي وظفها سابقا في العراق، حين أطلق سراح أكثر من ٦٠ معتقلًا من قياداتهم بتهمة التطرف والإرهاب، من سجن صيدنايا العسكري الأول، وصولا للكذب في تقديم المعلومات على طريقة “غوبلز”، وليست رواية “أحمد أبو عدس” المرتبط بكتائب “عبد الله عزام”، ومن ورائها “تنظيم القاعدة” بخصوص تفجيرات دمشق، وتهريب الفيديو المسجل لدى أجهزة الأمن السورية إلى مكتب الجزيرة في لبنان، ومن ثم إلى مركز الجزيرة الرئيسي في الدوحة ليبث من هناك، إلا واحدة من تطبيقات “اكذب .. اكذب حتى يصدقك الناس.”

غير أن أهم أدواته التي لعبت دورا في تخليق تلك الديماغوجيا واقعا عيانيا، تكمن في طبيعة العلاقة بين السلطة السياسية من جهة وبين المؤسستين العسكرية والأمنية، اللتين استشرى فيهما فساد النظام وديكتاتوريته، وهو ما يَسّر له وساعده على التقدم باتجاه الحل الأمني، الذي سبق وأن اختبره في بداية ثمانينات القرن الماضي في أكثر من منطقة سورية، فكانت الأوامر جاهزة للوحدات العسكرية بإطلاق الرصاص الحي على أهالي درعا المطالبين بعودة أطفالهم الذين كتبوا بأصابعهم الصغيرة على أسوار مدارسهم عبارة “الشعب يريد اسقاط النظام”، مرورا بمشاهد انتهاك كرامة المدنيين العزل في قرية “البيضا” التابعة لمدينة بانياس الساحلية، وصولا إلى إطلاق النار على المعزين في “ساحة الساعة” بمدينة حمص، وليست هذه إلا بعض الشواهد التي تؤكد استعداد هذا النظام لارتكاب أفظع جرائم القتل والعنف، وتؤكد في الوقت ذاته طواعية المؤسستين العسكرية والأمنية لتنفيذ هذه المهام، وإطلاق النار على الشعب.

كمية العنف التي مارستها المؤسسة العسكرية، التي يطلق عليها في النشيد الوطني لقب “حماة الديار”، استفزت مشاعر البعض من العسكريين في البداية، الذين رفضوا إطلاق النار على أهاليهم من المتظاهرين السلميين، وتمّ فعلا توثيق الكثير من الحالات التي جرى فيها تصفية هؤلاء المجندين من قبل رفاقهم، بحجة عدم تنفيذ الأوامر العسكرية!  

وهنا بدأت ظاهرة الانشقاق عن مؤسسات الدولة ككل، وبشكل خاص المؤسسة العسكرية، وأخذت تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات الانشقاق المتتالية، التي يعلن فيها العسكريون أسماءهم وسبب انشقاقهم، وهم يرفعون بطاقاتهم العسكرية من أجل المصداقية، قائلين: وهذه هويتي!

الجيش الحر وظاهرة الانشقاقات

كانت ظاهرة الانشقاقات محكومة في بداياتها بطبيعة عفوية وفردية غالبا، كرد فعل على العنف المنظم ضد الناس المدنيين، حيث ترك أغلب المنشقين في البداية أسلحتهم وراءهم وكل ما يربطهم بالجيش، لكن تزايد عنف النظام قاد البعض منهم للتفكير بضرورة حمل السلاح لحماية أنفسهم أولاً، ولحماية المتظاهرين من أهاليهم وأصدقائهم وجيرانهم في الحي أو القرية، ممن خرجوا يطالبون بالتغيير والحرية والكرامة، إذ عاد أغلب المنشقين إلى حواضنهم الاجتماعية، يحمونها ويحتمون بها. خاصة في غياب أي مؤسسة بديلة يمكن للمنشقين أن يذهبوا إليها.

فهل من حقنا إدانة أولئك الأحرار الذين انشقوا عن جيش النظام كي لا يطلقوا النار على المتظاهرين السلميين؟ وإذا كان الجواب بالنفي وفق اعتقادي، فهل يعفينا ذلك من تقييم هذه الظاهرة ومآلاتها التي ذهبت بعيدا عن الأماني الطيبة لهؤلاء الأفراد؟

ولماذا عجزت كل الفصائل والكتائب العسكرية التي تشكلت في رحم الثورة، عن توحيد جهودها ومأسسة ذاتها بالمعنى العسكري والتنظيمي، كبنية موحدة في مواجهة النظام التي اتفقت جميعها على ضرورة إسقاطه؟

إشكالية الحالة السورية مقارنة بأغلب الثورات الكلاسيكية التي عرفناها سابقا، أن الثورة فعل إرادي ومنظم مسبقا، وليست عملاً عفوياً يحدث بالصدفة، حتى لو حكمت العفوية بعض مراحل تطور هذا الفعل، فهذه القصديّة أو الإرادويّة كانت موجودة في الثورة الفرنسية وفي الثورة الروسية أيضا، وحتى ما عرف لاحقا بثورات التحرر في فيتنام والجزائر وأنغولا وبعض دول أمريكا اللاتينية وصولاً إلى الثورة الفلسطينية، كان يوجد دائما مركز قرار سياسي منظم، يشرف على تشكيل جناح عسكري، حتى في تجربة الجيش الإيرلندي أو نماذج حرب المدن وتجربة “التوباماروس”، كلها تندرج في إطار “حرب التحرير الشعبية” أو ما يعرف بحرب العصابات، غير أن الحالة السورية كانت على النقيض من ذلك، إذ افتقدت منذ البداية إلى قيادة يمكن أن ترسم خططا وتضع برامجَ وتقود الثورة.

بلغ عدد حالات الانشقاق عن الجيش السوري حتى نهاية العام 2011م حوالي  22 ألف حالة انشقاق، إلا أنها كما أشرنا كانت محكومة بالعفوية والمبادرة الشخصية، كرد فعل ملتبس بالكثير من المشاعر الإنسانية والوطنية، وربما مشوبة بظلال من الأيديولوجيا والتمذهب أحيانا، لكنها بالتأكيد غير منظمة، حتى أن بعضهم بكى عندما تخلى عن بندقيته، وآخرون رفضوا تدمير السلاح، وربما لم يملك أغلبهم الوعي بأن انشقاقهم يشكل خطوة باتجاه تدمير إحدى أهم مؤسسات الدولة السورية/الجيش، وهذا جزء من سجال لاحق حول استقلالية الدولة عن النظام، فعملية الانشقاق عن الجيش، لم تتم لصالح مؤسسة بديلة، وإن سعت لاحقا بعض التنظيمات أو الجهات للاستفادة منها.

أولى حالات المأسسة ظهرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، بالإعلان عن تشكيل “المجلس المؤقّت العسكري”، برئاسة رياض الأسعد، للعمل على إسقاط النظام، وحماية السوريين من القمع الذي يُمارس ضدّهم، ليظهر لاحقا “المجلس العسكري الثوري الأعلى” كنقيض للتشكيل الأول، قبل أن تتشكل “القيادة المشتركة للجيش الحر” في محافظات دمشق وحمص وحماه وإدلب ودير الزور، ثم تشكلت “القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية”، كإطار أوسع للجيش الحر،  لنفاجأ في كانون أول/ ديسمبر من العام 2012 بتشكل “هيئة القوى الثورية” من 261 ممثلاً عن الكتائب والفصائل وقادة الألوية انتخبوا “مجلس القيادة العسكرية العليا”.

خمسة تشكيلات عسكرية ظهرت وتلاشت خلال عام واحد تقريبا، مما يؤشر على أزمة هذه البنية غير المستقرة، وعجزها عن التوحد، فإضافة لما أشرنا إليه من غياب مركز قيادي موحد بالمعنى السياسي أو الوطني، تكشّف الدور الإقليمي والدولي لاستجرار ولاءات شخصية خارج أي مشروع وطني، عبر التمويل الذي يذهب مباشرة إلى قادة الفصائل والتشكيلات الميدانية، وليس إلى جهة مركزية يمكن أن تسعى لمأسسة هذه الظاهرة، والتي تراجعت كثيرا عندما بدأ المال الخليجي يركز على تمويل الفصائل والكتائب المتشددة إسلاميا، والتي لم تعترف بالمجالس العسكرية التي تشكلت فيما سبق، مثال الدور الذي لعبه “المحيسني” في تمويل لواء الفتح و”جبهة النصرة”، قبل أن يخرج من صيغتها الأحدث “هيئة تحرير الشام”، وأمثال “المحيسني” كثر بين ممولي الفصائل وشرعييها المتحكمين بها، والذين ساهموا بانزلاق هذه التشكيلات إلى الأسلمة والتطرف، وإن بدرجات مختلفة.

كما أن الانفصال بين القيادات العسكرية التي استقرت في تركيا بشكل عام، وبين الفصائل الميدانية التي تقاتل داخل سورية، غذّى الميل باتجاه الفصائلية، إضافة لتشرذم تلك القيادات والخلافات فيما بينها، حتى أنها انقسمت في إحدى المخيمات التركية إلى مجموعة العمداء ومجموعة العقداء، على سبيل المثال.

بالمقابل تبخرت كل وعود الغرب والإدارة الأمريكية بخصوص دعم الثورة، حتى أن اجتماع “أصدقاء الشعب السوري”، المنعقد في تونس بتاريخ 24/ 2/ 2012، للمساهمة بدعم الثورة السورية عسكريا، والذي قرر إنشاء غرفتي “الموم” في الشمال بإشراف تركيا، و”الموك” في الجنوب بإشراف الأردن، تكشف لاحقا أنه يهدف للرقابة، بشكل أساسي، على عدم وصول أي سلاح نوعي للفصائل خشية أن ينتهي بأيدي الفصائل المتشددة إسلاميا، حتى مشاريع تدريب بضع عشرات من المقاتلين التابعين لفصائل حصلت على حسن سلوك غير إسلامي، لم تشكل أي فارق ملموس طيلة حقبة الرئيس أوباما، لكنها حكمت بشلل المواقف الأوروبية وغيرها الداعمة لتغيير نظام الأسد.

تجارب الائتلاف الوطني للمساهمة في مأسسة الجيش الحر، لم تكن أفضل حالا من عجزه عن مأسسة ذاته، أو عجزه عن تبني مشروع وطني موحد للسوريين، لأن تركيا التي منحت للائتلاف وبعض قيادات المعارضة العسكرية مكانا آمنا، كانت حريصة “حتى أشهر مضت” على عرقلة كل استقلال لبنى ومؤسسات الثورة، من خلال رفضها إشراف أي من تلك المؤسسات شبه الرسمية كالائتلاف أو الحكومة المؤقتة أو الجيش الحر، على المعابر مع سورية، لأن ذلك يمكن أن يؤمّن لتلك المؤسسات دخلا وتمويلا يعفيها من تسول المساعدات، ويخرجها من الارتهان لرغبة وإرادة الممولين ومصالحهم الإقليمية.

في مداخلة للواء سليم إدريس قائد أركان الجيش الحر عام 2014، أمام “الهيئة العامة لائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، تتطرق فيها بإسهاب وأرقام حسابية تفصيلية، للكثير من الإشكاليات التي تتعلق بغياب جيش وطني، موضحا أن الخطط والتصورات والقوى البشرية كلها جاهزة، لكن لا يوجد أي تمويل يساعد على تحقيق هذا الهدف، مضيفا أن ما توفر من تمويل كان يذهب إلى الفصائل والكتائب التي تبيع الولاءات لمن يدفع فقط.

من درع الفرات إلى عفرين

انسحاب الإدارة الأمريكية من الملف السوري طيلة سنوات أوباما العجاف، انعكس سلبا على كامل المشهد السوري، فروسيا التي أعلنت البدء بسحب قواتها من قاعدة طرطوس، إثر تهديد أوباما بعيد ضربة الكيماوية في غوطة دمشق ديسمبر 2013، والتي راح ضحيتها أكثر من 1400 شخص، جلهم من الأطفال والنساء، استعادت مواقعها بسرعة إثر صفقة تسليم مخزون النظام من السلاح الكيماوي، واكتسب بوتين شرعيةً ونفوذاً لم يكن يحلم بتحقيقهما في يوم من الأيام، حتى غدا اللاعب الأول في الملف السوري.

كما انتقل تنظيم P.Y.D من المسار الروسي إلى المسار الأمريكي، كوّن مليشيا “وحدات حماية الشعب/ “P.Y.G التابعة له، هي الفصيل الوحيد غير الإسلامي الذي يمكن أن يحمل مشروع إعادة ترتيب المنطقة، وفق ما بدأه باسم “الإدارة الذاتية”، لكن هذا التنظيم الذي بدأ مسيرة غير ديمقراطية، لم يُحسن التعامل لا مع الكرد ولا مع محيطهم المتنوع، ولم يستطع أن يكون حاملا لمشروع وطني يجمع حوله الكرد ومن ثم باقي المكونات السورية، فبقي رغم الديماغوجيا الكثيرة التي تقال بهذا الصدد،  فصيلاً منافسا للفصائل الإسلامية، ولم يكن رهانه على الكرد أو السوريين أو على الديمقراطية والمواطنة، بقدر ما كان على التحالفات البراغماتية والدعم الخارجي، هذا الدعم الذي تخلى عنهم بسهولة في معارك “درع الفرات” فهزموا في أعزاز وفي عفرين، وتل رفعت، حتى أنهم اضطروا للاستنجاد بجيش النظام دون جدوى، وما زال وضعهم في منبج رهن التفاهمات التي يمكن أن تحصل بين الإدارة الأمريكية وتركيا.

بالمقابل حملت تركيا عضو “حلف الناتو” العسكري مخاوفها بخصوص مشروع P.Y.D، وذهبت باتجاه الكرملين الذي رحب بالحليف الجديد، واعتبره مع إيران جزءا من أوركسترا “أستانا” التي سيضبط بوتين لاحقا إيقاعها في رسم مسارات التفاوض ورسم الخرائط في سورية، خاصة بعد معركة حلب التي شكلت هزيمة لخيارات العسكرة والفصائلية المرتبطتين بالتطرف الإسلامي، هذا التطرف الذي اشتغلت عليه قوى إقليمية عدة بمعنى التمويل والأيديولوجيا والتسهيلات اللوجستية، دون أن نغفل دور النظام في دعم هذا التطرف الإسلامي عبر استدعاء نقيضه من المليشيات الطائفية ومن كل الجنسيات، المرتبطة بالمشروع الإيراني في المنطقة.

إثر هزيمة حلب تقلصت بنى ما يُسمى “جيش حر”، بالعدد وبالمعنى النسبي والضيق لهذه التسمية، وتحديداً بعد التزام تركيا إلى جانب إيران وروسيا في مسار “أستانا”، الذي أعلنت تلك الفصائل رفضه بداية، لكنها عادت صاغرة للالتزام بالقرار التركي للمشاركة، وجرى في هذا السياق تظهير أسامة أبو زيد فجأة كناطق رسمي لتلك الفصائل وعراب لهذا المسار الجديد، الذي يجبّْ مسار جنيف التفاوضي من جهة، ويُبعد المستوى السياسي عن صنع القرار ليحل محله المستوى العسكري، لكن أبو زيد حين تلكأ بعض الشيء، وبشكل خاص فيما يخص التحضيرات لمؤتمر سوتشي، جرى استبداله في الجولة السابعة من ماراتون “أستانا” المتسارع بالسيد أيمن العاسمي ناطقا باسم الوفد والدكتور أحمد طعمة رئيسا له، وحين أرسل د. طعمة إلى مؤتمر “سوتشي” لم يتمكن من إكمال مشواره، وجاءت عبارته الأخيرة في مطار سوتشي معبرة عن واقع الحال، حين طلب أن تمثلنا تركيا في هذه المفاوضات!

قبضت تركيا سلفا من الروس والإيرانيين، ثمن مشاركة الجيش الحر في أستانا ولاحقا في سوتشي، حيث حصلت على تفويض في جزء كبير من شمال سورية، يمتد من إدلب إلى عفرين، وربما يصل قريبا إلى أعزاز، فيما رفضت الإدارة الأمريكية عقد هذه الصفقة لصالحها، وتعززت في الوقت ذاته عن الوقوف في مواجهتها حين عُقدت لصالح الروس، وأصبحت تركيا بذلك هي اللاعب الضامن في مؤسسات المعارضة السورية، الائتلاف والحكومة المؤقتة وإلى حد بعيد الهيئة العليا للتفاوض، وبقي عليها تطوير أداء ما بقي من الجيش الحر في رعايتها، وهي فصائل “درع الفرات”، التي فقدت الكثير من هيبتها في أستانا وسوتشي لاحقا، مما اضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة الحيوية والاعتبار لهذه الفصائل، حين منحها في شهر شباط/ فبراير 2017 لأول مرة صفة “الجيش الوطني لسورية”.

وقد استجاب رئيس الحكومة المؤقتة د. جواد أبو حطب لهذه الإشارة، وبادر للإعلان عن تشكيل “الجيش الوطني السوري” إثر اجتماع بمقر القوات الخاصة التركية بتاريخ 24/10 /2017، بحضور كلاً من والي غازي عينتاب ووالي كلّيس، وقائد القوات الخاصة التركية وممثلي الاستخبارات التركية، وأعضاء الحكومة السورية المؤقتة، ونائب رئيس الائتلاف السوري المعارض، وقادة فصائل الجيش الحر المتواجدين في منطقة “درع الفرات”.

هذا الاجتماع الذي أعلن تشكيل “الجيش الوطني السوري” على مرحلتين، ووفق ترتيبات محددة من فيالق وفرق وألوية وكتائب، أعلن فيه أيضا، ولأول مرة، عن توحيد كل المعابر في منطقة “درع الفرات” وجمع كل وارداتها في خزينة موحدة تحت إشراف الحكومة السورية المؤقتة، لتوزع بشكل عادل على كل من الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية والجيش الحر، بعد أن انضبطت بشكل كامل بالإيقاع التركي.

وقد هدف هذا الاجتماع وكل مقرراته بالدرجة الأولى إلى منح الفصائل المشاركة في “درع الفرات” اليافطة الوطنية، لتبرير دخول تركيا إلى شمال سورية و”عفرين” تحديدا، لتصفية الحسابات التركية مع الكرد عبر البوابة السورية!

الأخطاء القاتلة

إن مجرد التفكير بعسكرة الثورة، في مواجهة نظام يملك ميزان قوى أفضل بالمعنى التنظيمي ومركزية القرار، إضافة للتفوق في نوعية التسليح والعتاد الحربي، ناهيك عن سلاح الطيران الذي يمكنه تغيير المعادلات القتالية، وخاصة بغياب توازن في التحالفات الإقليمية والدولية تدفع لتحييد هذا السلاح، إن مجرد التفكير بعسكرة الثورة وفق هذه المعطيات يشكل خطأ قاتلاً، ويمنح النظام تفوقا قتاليا بالضرورة.

فكيف إذا كان الأمر مع عسكرة فصائلية، عجزت كما رأينا عن توحيد نفسها أو حتى تنسيق جهودها، ولم تستطع أن تكوّن أي رؤية استراتيجية للصراع مع نظام مدعوم إقليميا ودوليا بشكل كبير، بل زادت من فصائليتها حين ربطتها بالمناطقية، فلم تتحرك الفصائل العسكرية في “الموحسن” لنجدة مثيلاتها في “دير الزور” مثلا! ولم يحصل العكس أيضا، ولم يتحرك جيش الإسلام في “دوما” لدعم أنبل فصائل الجيش الحر التي قاتلت وصدّت جيش النظام لسنوات، قبل أن يتمكن هذا الأخير من اقتحام “داريا” واحتلالها، بمساعدة المليشيات الطائفية.

يمكن التأكيد أنه باستثناء فصيل “وحدات حماية الشعب” الكردية، كانت كل فصائل الجيش الحر إسلامية إلى هذه الدرجة أو تلك، كما اتبعت أغلب الفصائل التكتيكات القتالية وأساليب الإدارة للمناطق التي دعيت محررة عبر المحاكم الشرعية ذاتها التي اتبعتها الفصائل الإسلامية المتشددة، وتعززت هذه الميول أكثر في ضوء تقاعس المجتمع الدولي وتخلي الليبراليات الغربية عن مسؤوليتها في حماية السوريين، ومساعدتهم على تأسيس بنى وطنية وديمقراطية للمعارضة السورية السياسية والعسكرية، مما شجع على ارتهان تلك الفصائل بسهولة أكثر إلى مصادر التمويل الخليجية، كما أدت سياسة الإدارة الأمريكية والغرب لتجفيف منابع دعم الجيش الحر وتسليحه، إلى هروب الكثير من مقاتليه وأحيانا فصائل كاملة باتجاه المنظمات الأكثر تطرفا وأسلمة كالنصرة وداعش اللتين تمتلكان مصادر تمويل وتسليح مستقرة.

غياب أي رؤية للاستراتيجية العسكرية عند فصائل الجيش الحر، بالتوازي مع غياب أي رؤية وطنية لديها، ساهم بانزلاق أغلبها في اتجاه الأسلمة والتطرف، مما أبعد كل الحلفاء المحتملين لثورة الشعب السوري، ونجح النظام ومعه روسيا بجر العالم كله، إلى فخ محاربة الإرهاب، التي غيرت بالضرورة من طبيعة الصراع كثورة شعب ضد الديكتاتورية، إلى حرب أهلية بين النظام وقوى الإرهاب، المصنفة الأخطر على العالم أجمع، بعدما ضربت في باريس وبروكسل وبرلين وفي باقي عواصم العالم.

غياب الرؤية الاستراتيجية لتلك الفصائل، شجعها أيضا على خيار تحرير البلدات والمدن عسكريا، إن لم يكن النظام قد استجرها لذلك، وأصبحنا نسمع عن مناطق محررة، لكنّ هذه الفصائل التي قادت عملية التحرير، عجزت عن تقديم بديل ديمقراطي لإدارة شؤون السكان، الذين ارتهنوا لعسف المحاكم الشرعية، وبطش وجور أمراء الحرب، مما ساهم بتدمير الحاضنة الشعبية للثورة، بالتوازي مع تحويل هذه المناطق المحررة إلى أهداف لقصف النظام وحلفائه، وتدمير هذه القرى والمدن وتهجير سكانها المدنيين، دون الاهتمام بالخيار التاريخي لحرب التحرير الشعبية، التي تضرب وتختفي كي لا يتم ضربها في ظل توازن قوى لا يمكن أن يكون في صالحها.

وقد اعترف جيش الإسلام قبل نحو عام من هذا التاريخ بخطأ احتلال المدن، لكنه لم يسع إلى تجاوز أخطائه قبل معركة الغوطة الأخيرة، التي دفعت ثمنها كل الفصائل المقاتلة، ويبقى الثمن الأكبر ما تكبده المدنيون في هذه المناطق، قتلا وتدميرا وتهجيرا.

لم يكن وضع “وحدات حماية الشعب P.Y.D” التي تنفرد بعقيدة أيديولوجية وقتالية غير إسلامية، إلا نسخة رديئة من الفصائلية التي افتقدت المشروع الوطني والرؤية الاستراتيجية، فالفصائلية لا يمكن أن تحمل مشروعاً وطنياً، وهذا المشروع لن تنتجه الأجهزة التركية مهما رفعت يافطة الوطنية، وسيبقى كرد سورية جزءاً من النسيج الوطني السوري، شاءت تركيا أم أبت، فالمشروع الوطني السوري هو الذي يمثل كل السوريين ويعبر عن طموحاتهم، باتجاه رؤية لمستقبل سورية تقوم على أساس دولة المواطنة والديمقراطية المتساوية.

وحركة التاريخ لن تعود 1400 سنة إلى الخلف، مهما ارتكست اليوم أو غداً.

يوميات سورية: تدابير اقتصادية أم انصياعٌ كامل للفقر؟

يوميات سورية: تدابير اقتصادية أم انصياعٌ كامل للفقر؟

ثمة تدابير حياتية لا تحليل منطقي لها، يتم التسويق لها لتبدو حلولاً خارقة وتغلّف بغلاف العبقرية لكنها مجرّد  تدابيرٍ إجرائيةٍ لا خيار بالعودة عنها، تفرض نفسها كنمطٍ حياتيٍ يوميٍ وتتسع معها حدة التغيرات الطارئة على كافة تفاصيل الحياة. يثبت الأفراد يوماً بيوم طقوس عيشهم فتصبح أعرافاً غير قابلة للخدش أو النقض. في كل بيتٍ سوريٍ خزانةٌ للزجاج (فيترينا أو درسوار)، ويوم العطلة يوم لدعوات الأهل على الغداء أو العشاء، ويوم الجمعة للفول والحمص، وأيام الأعياد عامرة بالحلويات والفواكه ولو بالدَين.

كل يوم أحد يلي العطلة الأسبوعية (الجمعة والسبت)، تحمل أمل معها دزينة أطباقٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ أو فناجين قهوة، طقم دلات للقهوة أو إبريق شاي ستانلس لتبيعه لزملاء العمل بعد أن انهارت منظومة التقليد الراسخ المتمثل بتخزين الزجاج وأدوات المطبخ استعداداً لكافة المناسبات التي يجتمع فيها عددٌ كبيرٌ من البشر في بيتٍ واحد، كتأثيث بيوت الأبناء المقبلين على الزواج. ومع حالة الغلاء المنفلت من عقاله والذي أدى إلى حرمانٍ قطعي لمكوناتٍ أساسيةٍ من  كافة الاحتياجات الأساسية وصولاً للاحتياج الغذائي اليومي، هذا عدا عن التشييئ الذي غلّف كل المقتنيات، باتت كل المدخرات بلا قيمة في مواجهة الموت أو السرقة. تقول أمل: “أولادي سافروا، أنا بحاجة للمال، لمن سأترك غلالي للسارقين أم للغبار والعبث؟”

***

تطلب أم وسام لحمة بمائتي ليرة يُذهل اللحام، فماذا هو بفاعلٍ أمام هذه الطلبات، فأوقية لحم العجل بتسعمائة ليرة! كيف يقسم الأرباع والأخماس  ليحدد وزنا معادلاً للمائتي ليرة؟ تشعر بحيرته فتقول له “مجرد نكهة لتطعيم الطبخة أحسن من الماجي!” وتبدأ بسرد قصةٍ لا طائل منها فقط لتبرّر عجزها عن شراء أوقية لحم.

في مكانٍ آخر تطلب سيدة قفصاً من بائع الفروج، أتساءل عن معنى القفص ومبرر وجوده هنا؟ يصرخ البائع بالصانع: “هات الأقفاص!” لأكتشف أنه ثمة كائن مشفّى من اللحم، مجرد هيكل على العظم، يشتريه الناس ليطبخوا ولائم البرغل، تقول لي السيدة “ماء العظام مسامير للركب وله نكهة زاكية.” تطبخ  مقدار كيلوغرامين من البرغل فوق مرق الهيكل العظمي، فيصير للأقفاص مرق ونكهة وحضور غالٍ وعزيز.

***

في الولائم وما يسمى المناسبات العائلية بات الجميع يتقاسمون وجبات الطعام، كل عائلة تلتزم بإحضار تفصيل من تفصيلات الدعوة. بعد سنةٍ كاملةٍ قرّرت أم جميل تحضير الكبب. الكل دفع حصته، الكل شارك حتى في قيمة الملح وسائل الجلي، تبدو الحالة هنا مختلفة، فيها نوع من المشاركة كنا نفتقده وكان الجميع يتسابق لتقديم الأكثر والأعلى كلفة.

***

يتبادل السوريون الكتب المدرسية أو يبيعونها دونما تردد أو خجل كما كان سائداً فيما سبق. يبيعون قمصان الزي المدرسي والحقائب المدرسية المستعملة وما تبقى في الدفاتر كمسوداتٍ صالحةٍ للكتابة. يتبادلون محتويات سلة الإعانة وخاصة في ظل وجود حالات مرضية كالسكري أو في ظل وجود أعداد كبيرة من الأطفال تستهلك الأرز والمعكرونة بكميات كبيرة، في زيارات المرضى يأخذون ما يلزم، فاكهة، فروجاً، صابوناً، عبوة زيت، ولا مانع أيضا من مبلغٍ زهيدٍ يسند المريض وعائلته وقد تكون الهدية علبة دواء.

لدي رفيق يمتلك مكتبةً عظيمةً وكتبه نادرة ويمتلك أمهات الكتب، اليوم (12 نيسان) رأيته تحت جسر الرئيس وسط دمشق، يبيعُ أربع كتبٍ لعفيشة المكتبات وباعة الرصيف كي يأكل… ياحيف، ويالبؤسنا!

***

تنتظر النسوة ربّات البيوت وخاصةً غير العاملات منهن وقت الظهيرة ليذهبن إلى السوق لشراء طبخة اليوم. حينها تهبط الأسعار ولو خمس ليرات لكل كيلو غرام، ويمكن وقتها مفاوضة بائعٍ متعبٍ أو بردان أو يعاني من حرّ الشمس على بيعةٍ ناجحة: خمسة كيلو غرامات بندورة شبه ممعوسة بمائتي ليرة، كومة سبانخ بثلاثمائة ليرة، بطاطا مشقوقة ومقشرة ومكسورة بمائة ليرة للكيلو الواحد، تدور الصفقات وتدور الأمنيات علّها تخصب وتشبع البطون وتهدأ النفوس.

***

أصبح تقليد التكسي السرفيس معمماً لتخفيف عبء نفقات التنقل، توقّف السوريون بشكلٍ عام عن إبراز مظاهر الواجب المتعارف عليها قبل الحرب، كأن يدفع الرجل عن المرأة أو يدفع الأكبر سناً عن الأصغر، كلٌ يدفع عن نفسه وقد يلجأ ستة طلاب دفعة واحدة لاستئجار تكسي واحدة لتقلهم إلى الجامعة.

***

في الحرب تهتز العادات الثابتة، تنظم نفسها بتوافقٍ شبه غريزي موائمٍ لضغط الحاجة، ثمة من يقترض أسطوانة الغاز لأنه لا يملك ترف شراء واحدة، وثمة من يضع  قوالب للثلج في ثلاجة جاره لتبريد الماء لأنه لا يملك ثلاجة أصلاً. يشتري السوريون السجّاد المستعمل وإن كان مسروقاً لأنهم لا يملكون مالاً لشراء الجديد. طناجر الألمنيوم الكبيرة باتت حاجة ماسة تشترى من أي مكان، من جارةٍ تقلصت عائلتها وباتت لا تحتاج الطناجر الكبيرة، من محال بيع المسروق، من صديقةٍ حصلت عليها كهديةٍ  مجانيةٍ ولا تحتاجها فتبيعها لشراء ما تحتاجه.

ذات يوم بادلت سيدة أربع عبواتٍ من الزيت النباتي بتفريعة، قالت للبائع
“لم يتبقَ لنا أي شيء إلا الزوج وكثيراتٍ تنتظرن خطفه منا!”

ولدٌ بيده علبة أقلام ملونة دخل المكتبة وسأل صاحبتها: “هل تشتريها مني؟” رفضت في البداية فلديها الكثير والبيع قليل، لكنها حين عرفت حاجته أخذتها منه مقابل تفاحتين وسندويشتين من الجبنة الكريمية له ولأخته.

اللافت في تغير أنماط الاستهلاك هو تراجع حجم الكميات المشتراة والمباعة، الكيلو تحول لقطعة، أو لأوقية، والغالب هو بمائة، بمائتين، أي أنّ الحاجة تحدّدها الكتلة النقدية المعروضة للتداول وليس الحاجة الحقيقية. حتى الباعة باتوا يعرضون بضائعهم بأكياس موزونة سابقاً وبكمياتٍ قليلة جداً. ولابدّ من الإشارة هنا إلى تراجع النوعية وغياب الرقابة على كافة المنتجات وخاصة الشعبية منها والتي باتت الأكثر مبيعاً والأكثر طلباً، مثل المنظفات والتي تحضر بطرق بدائية تفتقد مكوناتٍ أساسيةٍ في تركيبتها مثل نسبة التعقيم المطلوبة كحدٍّ أدنى والمرطبات، خاصة إذا ما عرفنا بأنّ أكثر العائلات الفقيرة تستعمل سائل الجلي لغسل الملابس وكبديلٍ عن الصابون لغسل الوجه واليدين، مما يسبب آثاراً غير صحية تضيف للفقر وضيق ذات اليد بعداً جديداً وهوانخفاض مستويات الحماية لكل شيء. كما أنّ البضائع المعروضة بطريقة الفرط والمعبأة بأكياس شفافة لا تسمح للمشتري بالتعرف إلى حقيقة المكونات ولا إلى تاريخ الصنع أو تاريخ انتهاء الصلاحية.

***

إنّ كل ما سبق وإن بدا وكأنه ليس بذي قيمة مقابل شبح الموت والعنف المخيمين إلا أنه مرآةٌ لواقعٍ قاس ٍوشبه ميت، متناقضٍ في جوهره ومتناحر في سيرورته. تبدو الأشياء في عفوية العيش القسري وبساطة استعراضها وكأنها تسهيلات للعيش بخسائر أقل، لكنها شروخ عميقة في البنية المجتمعية، نقصٌ أصيلٌ ويحتاج الحلول فيما يخص مستقبل الأفراد صحة وتعليماً وعملاً. بداهة العيش في ظل القهر الذي تفرضه الحرب  ليس مدعاة للاحتفال بانتصار الحياة، بل هو توقف ضروري لبناء بدائلٍ أكثر عدلا ًواكتفاءً وإنسانيةً.

“سوريا على طاولة “الكبار

“سوريا على طاولة “الكبار

الملف السوري يتصدر سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية بين الدول الكبرى والإقليمية المنخرطة في هذا الملف، وسط توقعات منخفضة بتمكن المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا من إحياء مفاوضات جنيف، أو تشكيل اللجنة الدستورية «قبل انقشاع غبار» الضربات الثلاثية على مواقع حكومية سورية، وقبل تبلور نتائج هذه اللقاءات.

هذه الاتصالات تشمل اجتماعاً وزارياً للدول السبع الكبار في كندا، والمؤتمر الوزاري للمانحين في بروكسل اليوم وغداً، واجتماعاً خماسياً، أميركياً – بريطانياً – فرنسياً – سعودياً – أردنياً بعد غد، واجتماع ممثلي الدول الـ15 في مجلس الأمن في مزرعة سويدية، واجتماعاً وزارياً روسياً – تركياً – إيرانياً في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، إضافة إلى قمة الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والفرنسي مانويل ماكرون.

السبع الكبار

عقد ممثلو الدول السبع الكبار محادثات في تورونتو في كندا، تناولت كوريا الشمالية وسوريا وروسيا. وبحسب مسؤول أميركي، فإنه فيما يتعلق بروسيا «كانت ثمة وحدة بين دول مجموعة السبع على مواجهة سلوك روسيا الخبيث. وراجعت الدول الخطوات التي اتخذتها لمواجهة توجهات الكرملين السلبية التي تهدد السلام والأمن»، لافتاً إلى أن الدول السبع قالت إن روسيا هي «ضامن الأسلحة الكيماوية في سوريا، وفشلت في هذا الدور». وقال القائم باعمال وزير الخارجية الاميركي جون سوليفان ان موسكو «ستحاسب» اذا لم تغير سلوكها في سوريا.
وقال مسؤول غربي آخر لـ«الشرق الأوسط» أمس، إن روسيا أخذت على عاتقها في الاتفاق بين موسكو وواشنطن في عام 2013 «التخلص من الترسانة الكيماوية؛ لكن لم تفشل في فعل ذلك وحسب؛ بل إن استخدام الكيماوي كان يتم تحت أنظارها منذ نهاية 2015. الروس لم يفشلوا في الوفاء بالتزاماتهم؛ بل وفروا الحماية لاستخدام الكيماوي».

وتابع بأن «الضربات الثلاثية بهذا المعنى كانت محسوبة ومحددة الهدف، ولم تكن مفاجئة، ولم يكن هدفها تغيير الميزان العسكري على الأرض، إذ إن الدول الثلاث أعلنت أكثر من مرة ضرورة التزام الخط الأحمر بعدم استخدام الكيماوي. وهذه الدول ستبقى تحرس الخط الأحمر». ضمن هذا السياق، تدعم لندن وواشنطن مبادرة باريس لـ«الشراكة ضد التهرب من المحاسبة على استعمال الكيماوي»، إضافة إلى تأسيس «آليات للتحقيق في استخدامه» وطرح المحاسبة خارج اطار مجلس الأمن.

وتنفي دمشق وموسكو مسؤولية قوات الحكومة السورية عن قصف دوما ومناطق أخرى في البلاد. وتتراوح اتهامات دمشق وموسكو بين مسؤولية المعارضة أو «فبركة هذه الهجمات» من معارضين. وقال مسؤول أميركي: «لم يكن هجوم الحلفاء في 13 أبريل (نيسان) لمرة واحدة؛ بل كان جزءاً من حملة متواصلة للحلفاء لإعادة إرساء رادع ضد الأسلحة الكيماوية، ويتضمن ذلك استخدام الوسائل العسكرية مرة أخرى، إذا لزم الأمر». ويختلف موقف الدول السبع إزاء تقويم الدور الروسي. إذ قال المسؤول الغربي أمس، إن «روسيا لم تمارس أي ضغط على دمشق للانخراط في العملية السياسية؛ بل إنها قادت الهجوم على غوطة دمشق»، فيما قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الاثنين، إن وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الكبرى، يدعون روسيا بشكل رسمي للمساعدة في حل الأزمة السورية. وأفاد بأن البيان الختامي «يقول إنه لن يكون هناك حل سياسي في سوريا دون روسيا وإن روسيا يتعين أن تقدم نصيبها من المساهمة في التوصل لهذا الحل».

إعادة الأعمار

وقال مسؤول أميركي في سياق تقويمه لنتائج الاجتماع السباعي: «لا تعتقد الولايات المتحدة بأنه ينبغي أن تصل أي مساعدة لإعادة الإعمار إلى أي منطقة تخضع لسيطرة النظام السوري»، لافتا إلى التمييز بين «إعادة الأعمار» التي تربط واشنطن ودول أوروبية المساهمة فيها بالحل السياسي، و«الاستقرار» الذي تقوم به واشنطن والتحالف الدولي في المناطق المحررة من «داعش».

وسيكون الموقف من المساهمة في إعادة الأعمار رئيسيا، في المؤتمر الوزاري الذي يبدأ اليوم في بروكسل. وقال المسؤول الغربي: «على روسيا أن تقرر: إما أن تدفع دمشق نحو حل سياسي، وإما أن تدعم العمليات العسكرية، بحيث ترث روسيا دولة فاشلة ومدمرة ومارقة… من دون إعادة إعمار».

وبالنسبة إلى لندن، التي قدمت 2.46 مليار جنيه إسترليني استجابة للأزمة السورية منذ عام 2012، هناك أولوية في مؤتمر بروكسل إزاء توفير دعم المانحين لدعم 13 مليون سوري، بينهم خمسة ملايين في أمسّ الحاجة للإغاثة، إضافة إلى التأكد من آليات صرف الأموال والضغط لتوفير خطوط الإمداد. ويتوقع أن تطالب وزيرة التنمية الدولية بيني موردنت في مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة» غدا «جميع الأطراف في الصراع السوري، بمن فيهم روسيا، بحماية المدنيين ووضع نهاية للمعاناة في سوريا».

الاجتماع الخماسي

اقترحت باريس عقد اجتماع خماسي لبحث الأوضاع السياسية والعسكرية، بعد عدم وفاء موسكو بالتزاماتها تنفيذ نتائج «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي. ويتوقع أن يعقد الاجتماع بعد مؤتمر بروكسل، بحيث يدعو «روسيا لحمل النظام على المشاركة في المفاوضات، لوقف قتل المدنيين الأبرياء، والدفاع عن القواعد والمعايير العالمية التي تحافظ على سلامتنا جميعاً، والسعي للتوصل إلى تسوية لإنهاء الصراع». لكن بحسب دبلوماسيين التقوا وزيري الخارجية والدفاع الروسيين سيرغي لافروف وسيرغي شويغو، فإن موسكو «ليست في مزاج البحث عن مسار سياسي حالياً، خصوصاً بعد الضربات الثلاثية؛ بل هي متفرغة للموضوع العسكري ولا تريد للدول الغربية أن تستفيد سياسياً من الضربات». وقال دبلوماسي: «بعدما كانت موسكو تتحفظ على عملية غوطة دمشق، باتت الآن تقود العمليات، الأمر الذي يمكن أن يحصل في هجوم آخر على ريف حمص ومناطق أخرى»؛ لافتاً إلى أن «خلوة السويد» لم تؤد إلى اختراق؛ بل إنها زوت بعض الجليد، إلى حد لا يصل إلى موافقة روسيا على مسودة قرار دولي فرنسية عن الكيماوي والمساعدات الإنسانية واللجنة الدستورية. وابلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون امس ان الضربات «عقدت التسوية السياسية».

وتسعى موسكو إلى التركيز على مسارها السياسي – العسكري، عبر عقد اجتماع وزاري للدول الضامنة لعملية آستانة، لبحث اتفاقات خفض التصعيد، والمقايضات المتعلقة بتهجير معارضين من ريف دمشق إلى مناطق سيطرة فصائل تدعمها أنقرة، إضافة إلى تفاهمات لنشر نقاط مراقبة تركية في إدلب، وإمكانية التفاهم لتمركز قوات الحكومة السورية في جسر الشغور وسهل الغاب، وترك إدلب للتفاهمات الثلاثية. وسيكون هذا ضمن محادثات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في لندن، بين 11 و13 الشهر المقبل.
في المقابل، فإن حلفاء واشنطن، الذين لاحظوا أن عملية الجيش التركي في عفرين شتتت قوى «قوات سوريا الديمقراطية» والأكراد، يركزون على بحث مستقبل الوجود الأميركي شرق نهر الفرات وشمال سوريا. وسيكون هذا بنداً أساسياً في محادثات ترمب – ماكرون؛ إذ إن الجانب الفرنسي يقترح دوراً ميدانياً ونشر قوات فرنسية على الأرض، مقابل الحصول على غطاء جوي من التحالف الدولي بقيادة أميركا.

البعد العسكري الآخر، يتعلق بإمكانية حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية في سوريا. وقال المسؤول الغربي: «فشل الروس في الوفاء بالتزاماتهم بإبعاد (حزب الله) وفصائل إيرانية من حدود الأردن والجولان من جهة، وتعزيز (حزب الله) وإيران وجودهما في الجنوب السوري ووسط البلاد من جهة ثانية، يدفعان إسرائيل إلى إمكانية التحرك». وأضاف: «إسرائيل لا تريد الجلوس ومراقبة هذه التطورات، لذلك فإن إمكانية الحرب واردة؛ خصوصاً أن إيران تربط ذلك بمستقبل الاتفاق النووي» الذي يقرر ترمب في شأنه، منتصف الشهر المقبل.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

جيش الإسلام من الصعود إلى السقوط

جيش الإسلام من الصعود إلى السقوط

انطلقت الثورة السورية، ولم تكن “الجيوش الإسلامية” قد ظهرت بعد. رافق انطلاقتها، أشكال تنظيمية لضبط حراكها المتوسع تباعاً، كالتنسيقيات، ولاحقاً المجالس المحلية، وكذلك كتائب صغيرة للجيش الحر؛ الأخيرة كانت إمّا من ضباط وجنود منشقين، أو كانت مجموعات شعبية مسلحة. تصاعد الكلام عن التيار السلفي والجهادي والمعتدل، وتنويعاته مع إطلاق أفراد بعض هذه التيارات من معتقلات النظام السوري وسجونه في حزيران 2011، ولاحقاً عبر العراق، وبوابة تركيا وقدوم آلاف الجهاديين من كل العالم.

الثورة التي امتدت في كل سورية، أخافت النظام، ولم تتمكن كل خبراته الأمنية والعسكرية، ولا سيما في ثمانينات القرن الماضي أو في لبنان، من مواجهتها؛ فكانت محاولة تلغيمها بالتنظيمات السلفية والجهادية من ناحية، واستجلاب كل الدعم الإيراني وميليشياته العربية وغير العربية، ولاحقاً التدخل العسكري الروسي في 2015.

الإسلاميون قادمون

في حزيران 2011، أطلق النظام أكثر من 1500 سلفي وجهادي، ولم تنته أكثر من أربعة أشهر، إلا وأعلنت الحركات الجهادية والسلفية عن وجودها، كجيش الإسلام وأحرار الشام ومجموعات أخرى مرتبطة بالإخوان المسلمين؛ تشكلت هذه المجموعات ولم تنخرط ضمن كتائب الجيش الحر.

يمكن أن نلاحظ هنا، أن الثورة اعتمدت، كأشكال للتعبير عنها، المظاهرات والاحتجاجات الشعبية العارمة، وبما ينظِّم هذا الحراك ويحميه من القتل. الإسلاميون على اختلاف حركاتهم، لم يشاركوا بهذا التعبير، واعتمدوا النهج العسكري والتنظيمي الحديدي، واستقدام الدعم الخارجي بكل أشكاله، وبالتالي هناك اختلاف كامل بين مشروع الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكافة السوريين، وبين مشروع الجهاديين والسلفيين في أسلمة الثورة والوصول للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية والارتباط مع التنظيمات الجهادية العالمية كحال تنظيم “داعش والنصرة”، وهناك مجموعات صغيرة لا تخرج عن التوجه ذاته، أي إسلامية.

زهران يجادل

يعتبر جيش الإسلام الأكثر “محليةً” و “سوريةً”، وقد دافع زهران علوش طويلاً عن جيشه ضد اتهامات جبهة النصرة والجولاني والبغدادي الذين قالوا عنه بأنّه وطني، ويحافظ على سايكس بيكو، بينما هم أمميّون وليس من وطن لهم! مشكلة زهران وبقية قادة جيش الإسلام، تكمن في أنهم ندّدوا بمفاهيم الديمقراطية والحرية، واعتبرها زهران علوش تعبيراً عن حكم القوي وكفراً، وأن سورية مكونة من طائفة كبيرة وهي السنة ومذاهب صغيرة ويجب محاربتها ويجب أن تنصاع للأكثرية الدينية.

أريد القول إن قادة التيارات السلفية والجهادية لم تعترف بالثورة الشعبية، ورأت ما يحدث في سورية كما رآه النظام ؛ أي إمارات سلفية وجهادية، وحرب سنية ضد “تحالف الأقليات” كما أشار في إعلامه ونقاده. التوافق السابق بين النظام والإسلاميين هو ما دفع كثيرين للاستنتاج أن النظام أخرجهم من معتقلاته لتخريب الثورة وأن الإخوان أيضاً تبنوا الرؤية ذاتها وساهموا بقسطهم في تخريبها، وهذا صحيح.

بدايات جيش الإسلام

سيكون موضوع مقالي هذا هو جيش الإسلام، وسنركز على صعوده وسقوطه في أيامنا هذه، أي نيسان 2018، تاريخ تهجيره من منطقته “دوما” التي انطلق منها عام 2011 وتوسع في كل سوريا؛ ثم مع تتالي الفشل للحركات الإسلامية والثورية قبلها، تقوقع فيها ليكون سلطة على أهل دوما فقط! ثم تمّ تهجيره منها، وبالتالي سقطت سلطته بالكامل وكل مشروعه الإسلامي الحنبلي. زعيم جيش الإسلام زهران علوش، كان طموحه أن يكون أحد أقوى زعماء سورية، ولا سيما بعد جولته كزعيمٍ مكرّس إلى كل من تركيا والسعودية ودول أخرى في 2015، ومقتله لاحقاً مع زملاء له في قيادة جيش الإسلام في 2015 بغارة روسية، وربما كان الأمر لإنهاء طموحه وطموح جيش الإسلام والداعمين له في منطقةٍ تسيّج العاصمة وفرض شروطهم على النظام وعلى السوريين.

اعتُقِل زهران علوش 2009 بسبب نشاطاته الدعوية السلفية والنشاط السياسي حينذاك، وبسبب تفاهمات أمنية بين النظام والمحيط الإقليمي وأمريكا لإنهاء هذا النشاط؛ فهو رجل دين ولديه طموح سياسي، ويفهم العالم وفقاً لهذه المرجعية، ويعمل في السياسة وفقها. والده عبد الله علوش أحد مشايخ مدينة دوما، وتتلمذ على يديه، وكذلك تتلمذ على يد أبرز رجال الدين السعوديين الوهابيين كابن باز وسواه. والد زهران، وسكان منطقة دوما، يدينون بالمذهب الحنبلي، وتعد دوما والرحيبة، من أكثر المناطق التي ينتشر فيها هذا المذهب، بينما بقية سُنّة سورية تنقسم بين الشافعية والحنفية.

في بلدات الغوطة ينتشر، كما في كل سورية، الوعي المناطقي والعائلي، ولو أضفنا المذهب الديني المختلف، فسيكون لدينا خلاف متعدد الأسباب، وهذا إشكال آخر سيتعمق تدريجياً مع تطوّر الثورة واستيلاء السلفيين والجهاديين على أغلبيَّة حراكها، وتحوله إلى حراك عسكري كامل. إشكال ثالث أن الثورة ذاتها لم تطرح رؤية وبرنامجاً وقيادة لها، فكان التعدد والفوضى في أشكالها السياسية والعسكرية والإغاثية والتعليمية ثغرةً وأزمة كبرى تدخلت من خلالها التنظيمات الإسلامية وفرضت سيطرتها التدريجية، ولا سيما مع 2013، وبالتالي أصبحت تفرض سلطة كاملة على الثورة في الغوطة وفي أغلبية مدن سورية.

الأشكال التنظيمية لجيش الإسلام

لننظر في رؤية السيد زهران، باعتباره مؤسس جيش الإسلام، وزعيمه إلى لحظة مقتله 2015. شكّل السيد زهران مع رفاقه السلفيين “سرية الإسلام” في أيلول 2011. ثم ومع اشتداد عنف النظام، وتبيّن محدودية رؤية وقوة كتائب الجيش الحر في إلحاق الهزيمة بالنظام، رغم تحريرها لأغلب مناطق سورية من سيطرته، وطرده خارجها وخارج الغوطة بنهاية 2012، وهناك الدعم الواسع لزهران إقليمياً، وانتقال كتائب إليه، شكّل “لواء الإسلام” في 2012. وحينما اشتد عوده، وانضمت إليه كتائب كثيرة “64، وبعضهم يقول 55 كتيبة ولواء”، شكّل “جيش الإسلام” 2013، وبعدها أصبح جيش الإسلام سلطة كاملة في دوما خاصةً، وأصبحت له كتائب في كل سورية تقريباً.

تتألف البنية التنظيمية لجيش زهران من 26 مكتباً إدارياً، وهي لا علاقة لها بالمجال العسكري، بل تهتم بمختلف شؤون الحياة اليومية، من صحة وتعليم وخدمات وإغاثة وسواها. وقد حلًت هذه المكاتب بالتدريج مكان المنظمات المدنية المرتبطة ببداية الثورة، وكل من رفض الانصياع تم التضييق عليه وملاحقته. إذاً جيش الإسلام، ولا سيما في دوما، فرض سيطرة على كافة الفصائل وحلّها بالقوة، وبنى شبكة أمنية واسعة، وهناك من يتكلم عن 21 فرعاً أمنياً يتبع له. أيضاً شكّل مرجعية شرعية خاصة به، ولديه ثلاثة سجون “التوبة، والباطون والكهف” وهي غير مقرّات الاعتقال. زهران علوش كرجل دين سلفي، فهو لا يمكن أن يقرّ لرجل دين آخر بالزعامة السياسية والعسكرية، فكيف للسياسيين من غير الإسلاميين؟ هذا الرجل وباعتباره ينتمي إلى عائلة كبيرة، استطاع مع بعض العائلات الدومانية الكبرى تشكيل سلطة شمولية، وفرض آلياتها على دوما بأكملها، وأجبرت الفصائل على حلِّ نفسها، ولاحقت أقوى الفصائل “كفصيل شهداء دوما” وأعدمت قائده أبو علي خبية وهو من حرّر كلَّ دوما وأخرج النظام منها. وبذلك تشكلت “دويلة زهران علوش” حيث يسود الإسلام في ربوعها.

سياسات جيش الإسلام

أراد زهران أن يفرض سلطة كاملة ليس على دوما بل وعلى كل الغوطة، وكذلك رغب أن يكون أبرز زعماء سورية، وهناك من يقول إنه حلم بأن يكون رئيساً على سورية. زهران هذا خطط لمستقبله ولفرض سيطرته منذ أن أنشأ “سرية الإسلام”، وبالتالي كل التطورات اللاحقة، من محاربته لداعش وإعدام بعض أفرادها، ثم رفض الاعتراف بالمجلس الوطني والائتلاف لاحقاً، وكذلك رفض المجلس العسكري في ريف دمشق وهيئة الأركان وسواها، وأيضاً حروبه المتتالية مع فصائل الغوطة، ولا سيما جبهة النصرة وفيلق الرحمن، خاصة في 2016.

خفت توهّج جيش الإسلام بعد مقتل زعيمه 2015، واستلام عصام البويضاني “أبو همام” زعامته. وإذا كان زهران يرفض دوراً محدوداً في السياسة المؤثرة في المعارضة، فإن قيادة جيش الإسلام الجديدة وافقت على مفاوضات جنيف والأستانة وبدأت تتدجّن ضمن التوافقات الإقليمية والدولية، ولإنقاذ أنفسها وجيشها وأن يكون لها حصص في أي نظام سياسي قادم. طموحهم الأخير هذا انبنى على أوهام ساقتها روسيا لقيادة جيش الإسلام ولحركات مسلحة كثيرة، ضمن صفقات لقاءات الأستانة خاصة وجنيف كذلك. وكذلك بسبب التقارب بين السعودية وتركيا وروسيا من ناحية أخرى، وباعتبار جيش الإسلام ممولاً من السعودية بشكل كبير. طبعاً زهران نفسه غيّر من سياساته، أي اعتراف للشعب بدوره في تقرير مستقبله، وخفف من الكلام عن الرافضة، واعتبر العلويين، بعد تكفيرهم، جزءاً من الشعب السوري، وأصبح أقرب للسياسة المناهضة لداعش ولجبهة النصرة. إذاً جيش الإسلام حركة عسكرية وسياسية ودينية براغماتية “وطنية” وليس لها أهداف أكبر من سورية كحال التنظيمات الجهادية والسلفية، وهذا ما دفع البعض ليصفه بالسلفية الشامية، أي أن حدود نشاطه هي سورية؛ ومناهضته لداعش وللنصرة تأتي في سياق الحرب على الإرهاب كما تعلنها أمريكا وروسيا. السيء أن بضاعته هذه لم تشتريها الدولتان العظميان.

اقتتال سلفيي وجهاديي الغوطة

إشكالية هذا الجيش أنّه رفض تشكيل قيادة موحدة للغوطة أو لسورية، وأراد الاستئثار بكل أشكال السلطة والحياة في مناطق سيطرته كما أوضحنا أعلاه؛ فقد سيطر عسكرياً واقتصادياً ومدنياً. عدم قدرته على تشكيل قيادة موحدة للغوطة كرّس الانقسامات المحلية القديمة، وأصبحت الغوطة قطاعات عسكرية مقسمة بين هذه الفصائل داخلياً، والنظام يحيط بها من الخارج، أي أن جيش الإسلام في دوما، وأحرار الشام في حرستا، وفيلق الرحمن في مناطق أخرى. سياسات الاستئثار أجبرت فصائل كثيرة على التوافق مع الفيلق خوفاً من الاجتثاث، واضطر الفيلق للتحالف مع جبهة فتح الشام “النصرة سابقا”. إن تكريس هذه الإقطاعات ظهر مع فشل القيادة الموحدة المُشكّل في 2014، وظهر ذلك للعلن 2015، ويشار أن فشلها كان بسبب الخلافات السعودية القطرية وانعكاس ذلك على الفصائل المدعومة من قبلها، وبالتالي الانقسام مجدداً والاقتتال، وكذلك مع فشل مجلس القضاء الموحد في 2015. في 2016 حدثت أكبر عملية اقتتال بين جيش الإسلام من ناحية وبقية فصائل الغوطة من ناحية أخرى، وراح بسببها قرابة ألف مقاتل! وحينها تقدم النظام إلى جنوب الغوطة، أي منطقة المرج، والتي توصف بسلّة الغوطة الغذائية، واحتلها بالكامل. أي أن الخلافات داخل الغوطة والاقتتال الذي فتك بأكثر مما خسرته الغوطة مجتمعة في حروبها مع النظام سمح للأخير باحتلال قسم كبير من الغوطة، وتأمين طريق المطار وإحكام السيطرة عليها وحصار أهلها.

النظام الذي ضَعفَ جيشه وتفكك وطالب بتدخل عسكري روسي 2015 عبر إيران، أعطاه جيش الإسلام والفصائل الأخرى منطقة واسعة من الغوطة هدية مجانية، وضحت بقرابة ألف مقاتل ثمناً لتلك الهدية.

انتقادات لجيش الإسلام

هناك انتقادات تُوجّه لجيش الإسلام، ونوضح هنا أنّه لم يعد يفيد الاكتفاء بتركيز النقد على دور النظام في قمع الثورة. فهناك مشكلات خاصة بالمعارضة من ناحية، وكبرى بما يخص التيار الإسلامي بكل تلويناته، وضمنها الإخوان المسلمون. جيش الإسلام هذا وغير ما ذكرنا أعلاه، هو متهم بالتخاذل عن معارك كثيرة؛ فلم يشارك بمعارك القلمون، وحتى معركة عدرا العمالية، الخاطئة كلية، اكتفى بإمداد الطعام للمقاتلين. هناك كذلك استيلاؤه على عتاد عسكري كثير كان هو مسؤولاً عن وصوله إلى الغوطة من إدلب في 2015، وهناك اتهامات بالفساد ومصادرة ملايين الدولارات لصالحه، وهي مُرسلة إلى كل فصائل الغوطة، وأيضاً يُتهم بسيطرته على أنفاق كثيرة مع النظام، واحتكاره المواد الغذائية والأدوية وسواها، وجنيه ملايين الدولارات بسببه وعلى حساب إفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم. حدثت الكثير من المظاهرات ضد نظام جيش الإسلام الشمولي، وكانت بسبب الجوع، أو مظاهرات سياسية للإفراج عن المعتقلين، أو لإيقاف الحروب الداخلية في الغوطة.

سميرة ورزان وناظم ووائل

هناك قضية خطيرة، وتخص كل ناشطي الثورة السورية، وهي اختطاف الناشطين الأربعة في دوما، رزان زيتونة وسميرة خليل وناظم حمادي ووائل حمادة، ويتهم جيش الإسلام فيها. وتعد تلك القضية من مسؤولية ذلك الجيش فهو المسيطر على دوما، ولو لم يكن مسؤولاً، فبالتأكيد هو قادر على معرفة المسؤولين عنها، وإظهار مصير الأربعة المستجيرين بدوما، والملاحقين من النظام.

تخريب الثورة وسقوط جيش الإسلام

يتحمل جيش الإسلام مسؤوليات كبيرة؛ وإذا كان النظام أراد تخريب الثورة عبر إطلاق زعماء إسلاميين من سجونه، فإن سياسات جيش الإسلام كلها لعبت دوراً في تخريب الثورة وتسهيل مهمة هزيمتها، بهزيمة كل مؤسساتها المدنية والشعبية واحتكارها لصالحه. هذا الجيش بنى سلطة شمولية وقمعية وتوازي سلطة النظام ذاته؛ فعل كما فعلت جبهة النصرة في إدلب، والبغدادي في الرقة، من إذلال وتجويع للسكان. أصحاب المشروع الإسلامي لم يتعلموا الدرس الحداثي بامتياز، أي التآلف مع العصر وإنتاج إسلام سياسي يتوافق مع الديمقراطية والأغلبية والأقلية بالمعنى السياسي، وتحييد الدين عن أن يكون مرجعية لشؤون الدنيا والاكتفاء بما يخص الروحي والإلهي.

تجربة الحركة الإسلامية السورية، بتعدديتها، وبدءاً بالإخوان المسلمين، كان فيها براغماتية كبيرة وغش للحركة السياسية السورية العلمانية، وللشعب الثائر، عبر تخريبها لكل مؤسسات الثورة وإفشالها. وبخصوص التديّن والتطييف لم يقدموا مشروعاً سياسياً موحداً بالمعنى الديني أو الطائفي، وبالتالي خرّبوا حتّى الإسلام الشعبي، وعمقوا التمايزات المحلية القديمة من مناطقية وعشائرية وعائلية ودينية، واستندوا إليها كحال جيش الإسلام وسواه.

جيش الإسلام، ورغم طموحاته الكبيرة، لعب دوراً كبيراً في تخريب الثورة، ولم يعترف بأهدافها، ولم يستطع إنجاز مشروع إسلامي، وكان سبباً في هزيمتها، وحتى هزيمة المشروع الإسلامي في سورية. الآن تخرج قياداته بسيارات دفعٍ رباعي، أي حتى وهم يغادرون مدينتهم المدمرة، يمايزون أنفسهم عن الشعب، وربما يخافون أن يُقتلوا في باصات النظام التي ينقلون فيها مع سكان دوما المهجرين.

جيش الإسلام، يمثّل حركة فاشلة منذ بدايته؛ فكل خططه القائمة على الاحتكار والأسلمة والسلطة الشمولية منافية لقيم الحرية والكرامة والعدالة. أي منافية لمفاهيم العصر والاعتراف للشعب بحقوقه ودوره في تقرير شؤونه ومستقبله. ليس جيش الإسلام وحيداً في مفارقته للعصر، فمثله كل حركات الإسلام السياسي في سورية. الأسوأ أن المعارضة ذاتها تعاني من مشكلات تشبه مشكلات الإسلاميين، وإلا فما هي شرعية تزعمها للثورة، وهي لا تمثل إلا نفسها، وهذا حديث آخر ويتطلب بحثاً آخر.

الهويَّة السُّوريَّة من التَّفخيخ حتَّى الانفجار

الهويَّة السُّوريَّة من التَّفخيخ حتَّى الانفجار

بقيتْ عشرات الأسئلة الجوهريَّة التي تتعلَّق بالهويَّة السُّوريَّة غائبةً مغيَّبةً عن أذهان العامَّة ومستثناة من أطروحات معظم المثقفين حتَّى نشوب الحرب باعتبار أنَّ الهويَّة “العربيَّة الاشتراكيَّة الإسلاميَّة” تعتبر الصِّفة الدُّستوريَّة لسوريا “البعثيَّة العَلمانيَّة!” ونقاش هذه الهوية المعقدة قد يفضي إلى اتهامات خطيرة كخدش الشُّعور القومي وتثبيط عزيمة الأمَّة وتهديد السِّلم الأهلي …إلخ.

وعلى الرَّغم أن “الدُّستور الجديد” لم يأتِ بجديد فيما يتعلق بهويَّة المجتمع السُّوري “العربيَّة الإسلاميَّة” إلَّا أنَّ أحداً لم يعد يأبه بالدُّستور أو ما يشير إليه كما لم تعد السُّلطة بمؤسَّساتها المهترئة قادرةً على ضبط القوالب وصهر العقول في أفران الحزب.

وحيث لم تكن هذه “الهويَّة الدُّستوريَّة” المعلَّبة بإشراف المؤسَّسات الدِّينيَّة والتَّربويَّة والأمنيَّة تعكس الصُّورة الحقيقيَّة لمجتمع متعدد الأعراق والأديان ومنفتح على تيارات فكريَّة متباينة وكثيرة كان من الطَّبيعي أن تتصدَّع مع تصدُّع سلطة تلك المؤسَّسات نفسها. ومع ارتفاع صوت البنادق وازدياد عمق الخنادق سال مفهوم الهويَّة وتسرَّب من بين أصابعِ كلّ من يحاول القبض عليه وكأن هويَّة المجتمع السُّوري كانت زئبقاً محتجزاً في زجاجةٍ كسرتها الحرب.

القوميَّة الاشتراكيَّة

لنتفق أن قضية التَّعامل مع هويَّة المجتمع ونحتها تعتبر من أبرز اهتمامات الحاكم الجديد من باب أن وجود هويَّة واضحة المعالم منحوتة بأيدي حزبية ماهرة يعني تجنُّب الدُّخول في نزاعات داخليَّة مع التَّيارات الفكريَّة والقوميَّة والدّينيَّة المتباينة وتحويل مجرى الولاءات الفرعية باتجاه ولاء واحد هو الولاء للحزب والقائد؛ هذا ما جعل معظم الأنظمة العربيَّة تركب موجة القوميَّة وتتسلَّح بشعاراتها بعد نكبة العام 1948، وعندما كان الفلاحون والعمَّال يشكِّلون نسبة كبيرة في العالم العربي عموماً كانت الاشتراكيَّة هي الرَّديف المناسب للقوميَّة العربيَّة، هذه التَّجربة التي شهدتها “مصر النَّاصرية” وعاشتها “سوريا البعثيَّة” والعراق وليبيا حتَّى فترة قريبة، فكانت القوميَّة العربيَّة هي السَّرج الذي سهَّل الركوب فوق ظهر الشَّعب والاشتراكيَّة هي المهماز الذي سارت به القافلة.

تزامن مشروع الهويَّة العربيَّة الاشتراكيَّة مع حملة إلغاءٍ وإقصاءٍ شعواء لم تبدأ باستئصال الأحزاب السِّياسيَّة ولم تنتهِ بانكماش الحياة الثقافيَّة وانخفاض أعداد المطبوعات ودور السِّينما والمسارح وتحويل ما تبقى من منابر ثقافية إلى منابر حزبية ليصبح “التَّطبيل” شعار جميع الكيانات المسؤولة عن التَّأثير بالرأي العام اعتباراً من نشوء الوحدة بين سوريا ومصر وحتى انطلاق شرارة الحرب عام 2011.

وقد تمكَّن حزب البعث في سوريا من إنشاء سلسلة مترابطة الحلقات عملت على مدى عقود لرسم ملامح مجتمع عربي اشتراكي لا مكان فيه لأي تيارات فكرية أخرى ولا مكان فيه بطبيعة الحال للتيارات القوميَّة الأخرى أو للتيارات الدِّينية التَّوافقية منها والمتعصِّبة.

أمَّة عربية واحدة!

على جدران المؤسسات الحكومية وأسوارها كتبت شعارات الاشتراكيَّة والقوميَّة العربيَّة، على غرار (اليد المنتجة هي اليد العليا في دولة البعث)، و (أمَّة عربيَّة واحدة ذات رسالة خالدة) وغيرها من الشِّعارات الرَّنانة التي على الرَّغم من تأثيرها القوي في عاطفة السُّوريين في السِّتينات والسَّبعينات إلا أنَّها بدأت تفقد معناها مع مرور الزَّمن وأيقن معظم النَّاس أنَّها شعارات ساذجة لا طائل منها، لكن الاعتراض عليها باهظ الثمن، وقد أجل المجتمع دفع الثمن سنوات طويلة مع فائدة تراكميَّة.

فمنذ وصول الأسد الأب إلى السُّلطة خطَّط الحزب للتَّعامل مع الجيل الجديد وزرع تلك الشِّعارات القوميَّة الاشتراكيَّة في أذهانهم منذ الولادة وحتَّى الموت من خلال تحويل المدارس لمعسكرات حزبية هدفها خلق انتماء وولاء أعمى للحزب وتمسك بمبادئ القوميَّة الاشتراكيَّة من باب أن لا بديل لها ولا منافسة تذكر وترسيخ أنَّ القيادة أوسع نظراً.

الأطفال الذين ردَّدوا شعارات القوميَّة العربيَّة لم يكونوا كلهم عرباً! ولدى العرب منهم أفكار مبهمة عن الأكراد والأرمن والتركمان…إلخ. غالباً ما تظل مبهمة حتَّى مرحلة عمريَّة متأخرة. لذلك لم يكن من المضحك أن يردد الكوردي شعار (أمَّة عربيَّة واحدة)!.

انهيار القومية الاشتراكية

هكذا إذاً، جمع الحزب الحاكم في سوريا الخيوط الاجتماعية وربطها معاً في عقدة مستحيلة الحل معتمداً على إخصاء جميع المنصَّات التي من شأنها أن تقدِّم رؤية مغايرة لرؤية “الأخ الكبير” وحزبه، فلا نقابات مستقلَّة ولا أحزاب سياسيَّة حقيقيَّة ولا جمعيات أهليَّة، لكنَّ هذه البنية أخذت تتصدع تدريجياً بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد.

فخلال السنوات العشر التي سبقت الحرب بدا أن الحزب يتخبط في محاولته إدراك معطيات المرحلة الجديدة، فتراجعت السُّلطة عن عسكرة المدارس وتقلَّصت سلطة الفِرق الحزبية نسبياً كما بدأ التَّنازل عن المبادئ الاشتراكية من خلال رفع الدعم جزئياً وتعزيز القطاع الخاص على حساب القطاع العام ما أتاح الفرصة للصوص جدد معظمهم أبناء اللصوص القدماء، ولا يمكن التنبؤ إلى أين كانت ستسير الأمور لو لم تكن الحرب.

ومما ساهم أيضاً في تفكيك هذه المنظومة القوميَّة الاشتراكيَّة قبل الحرب هو انهيار مشروع القوميَّة العربيَّة نفسه بانسحاب أقطابه الرئيسية من الشَّراكة غير الفعالة أصلاً ونشوء تحالفات جديدة بين سوريا ودول غير عربيَّة جعلت من الشِّعارات القوميَّة أكثر سذاجة فضلاً عن تخوين الدول العربية ووضعها على النقيض من محور الممانعة والمقاومة ما جعل الشِّعار الشهير (وحدة حرية اشتراكية) مجرد كلمات يرددها طلاب المدارس، ولا ضرورة للحديث عن الحرية هنا.

فيما بقيت الضرورة ملحَّة لجعل القائد “قبلة وطنية” كل من يرفضها خائن، وتلح على الذاكرة عند هذه النقطة الشخصيات المصابة بمتلازمة المتنبي كافور، كالمغنية أصالة التي غنت (حماك الله يا أسدُ فداك الروح والولد….إلخ) والمخرج الممثل المسرحي همام حوت الذي سخر مسرحه لتمسيح الجوخ وقرع الطبول للرَّئيس الشَّاب “بشار الأسد” في حينها، وغيرهم من الشَّخصيات العامَّة التي نقلت البندقية من كتفٍ إلى آخر وكأنَّها لم تساهم في تشويه وعي جيلٍ بأكمله.

سوريا علمانية إسلامية

من البديهي أن اعتبار الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع في دستور عام 1973 لم يكن إلا من باب المجاملة والمسايرة، فلا يمكن القول أنَّ سوريا البعثية دولة إسلامية أو أن لحزب البعث الحاكم توجهاً إسلاميا، بل كل ما كان يرمي إليه هو تجنُّب المواجهة مع تيار الإسلام السِّياسي على الأقل ريثما يحكم قبضته على الحكم، وعندما شكًل الإسلام السِّياسي خطراً على السُّلطة والمجتمع كان الرَّد قاسياً من خلال أحداث حركة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982.

ومع تشديد القبضة الأمنية على الإسلاميين باختلاف درجاتهم في سُلَّم التَّطرف أبرمت السُّلطة صفقة مع مجموعة من رجال الدِّين حصلت من خلالها على مباركة دينيَّة مقابل امتيازات شخصيَّة وبعض الامتيازات العامَّة من باب سدِّ الذَّرائع كبناء عددٍ كبيرٍ من المساجد ومعاهد الشَّريعة وتحفيظ القرآن، وقد تجددت هذه السِّياسة مع بدء الحرب من خلال افتتاح قناة دينيَّة رسمية وتأسيس مجموعة من المنشآت الدينيَّة الجديدة والاعتماد على رجال الدِّين المحسوبين على السُّلطة لاستمالة المتسربين من الإسلام المتطرِّف نحو الإسلام المعتدل الذي يتزعمه مشايخ السُّلطة الجدد.

كما بدأ التَّرويج لفكرة سوريا العَلمانيَّة بالتزامن مع التَّرويج للإسلام السُّوري المعتدل، هذا “التخبيص” الرسمي بملامح الهويَّة السًّوريَّة لم يكن سذاجةً أو غباءً بل محاولة ذكية لتشتيت السُّوريين ليغنيّ كلٌّ منهم على ليلاه تحت جناح السُّلطة، ومهما كان توجهه سيجد نفسه محشوراً في زاوية من زوايا الحزب تدلف عليه مزاريبه.

بناء على تلك الاستراتيجية العجيبة لا يمكن القول إن المجتمع السُّوري كان في يوم من الأيَّام مجتمعاً إسلاميّاً خالصاً وإن استطاعت التَّنظيمات الإسلاميَّة المسموحة والممنوعة اجتذاب فئات اجتماعيَّة عريضة، كما لا يمكن الادِّعاء أنَّه مجتمع عَلماني لأن الإقصاء ثقافة راسخة عند السُّوريين ورثوها عن السُّلطة كما أنَّ السُّلطة الدِّينيَّة العرفية لم تتأثر بكلِّ هذه الانقلابات والشقلبات وبقيت ذات سطوة لا يستهان بها فيما لم تعمل أي جهة رسميَّة أو غير رسميَّة على مواجهة هذه السَّطوة.

من جهة أخرى لا يمكن إيجاد ما يدل على علمانية الدَّولة أو المجتمع في سوريا، فالغالبيَّة المسلِمة وإن كانت لا تضطهد الأقليات اضطهاداً صارخاً لكنها لا تعترف بهم إلَّا بوصفهم أقليات يمكن التضحيَّة بهم، كما اعتبرت الدَّساتير البعثية الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع -مع نزع أل التعريف-وحددت دين رئيس الجمهورية وهذا يلغي بالضرورة المادة التي تنص على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين ما دام هناك من لا يحق له أن يترشح لمنصب الرئيس لاعتبارات دينية! فضلاً عن عشرات النقاط التي تجعل من صفة العلمانية في سوريا فكاهةً مريرة.

الحرب وتفتيت الهويَّة السُّورية

إذا كانت الحكومة السُّوريَّة قد تعاطت مع الأزمة التي تواجهها بأسلوبها المعهود لكن بنطاق أوسع فالمعارضة السِّياسيَّة والمسلَّحة لم تأتِ بجديد، إقصاء وتغييب ومصادرة للآراء وخطاب تفريقي وابتزاز عاطفي ولعب على الأوتار الرَّنانة المشدودة جميعاً إلى الجهل والقطيعية.

وبما أنَّ الفجوات والشُّقوق التي اعترضت طريق السُّلطة خلال فترة الاستقرار محشوَّة جميعها بعجينة الدِّيناميت كان من الطبيعي أن تنهار جميع الرَّوابط التي قد تجمع بين الفئات الاجتماعية في سوريا بمجرد أن تفقد السلطة زمام المبادرة وتتحول لمصارع في حلبة يجلِدُ ويُجلَدُ، ولم تكن التنظيمات المسلحة أو المعارضة السِّياسية أكثر أمانة ووطنية في التعامل مع فتات المجتمع السُّوري الواقع بين حجري طاحونة.

فقد عملت المعارضة على الاستفادة من جميع الفروق الطائفية والمناطقية بين مؤيدي السُّلطة ومعارضيها من العامَّة لتمتين المتاريس وكسب النقاط وتوسيع قاعدتها الشعبيَّة مستغلة مظلومية الناس، كما أنشأت المعارضة في مناطقها أجهزة أمنية لا تقل بطشاً عن أجهزة الدولة تلاحق معارضي المعارضة وتفتك بهم، وبشكل تدريجي اكتسبت المعارضة هوية إسلامية متطرفة رغماً عن أنف المعارضين المعتدلين أو المعارضين للمشروع الإسلامي وللدولة في آنٍ معاً والذين وجدوا أنفسهم منفيين ومرفوضين لا صدى لكلماتهم، أو مخصصين للتعامل مع المجتمع الدولي بوصفهم من نفس جلدة الغرب “العلماني الكافر!”.

ومع تطور جغرافيا الحرب تجدد “الحلم الكوردي” بإنشاء دولة مستقلة، وعلى هامش هذا الحلم أحلام كثيرة أقل أهمية لفئات أخرى لا يمكن التنبؤ بمصيرها، فما يحدث اليوم من استهداف للأكراد السوريين من قبل الجيش التركي والجيش السُّوري الحرّ بمباركة من السُّلطة ومن الروس والأمريكيين لا يمكن النَّظر إليه إلَّا باعتباره طعنة جديدة في ظهر الهويَّة الوطنيَّة السُّوريَّة وإراقة لدماء السُّوريين بأيدي سوريَّة.

حالياً يمكن القول أنَّ لكلِّ عشرة أشخاص في سوريا انتماءهم الخاص الذي يميزهم كبصمة الإبهام، والمحزن أنَّه حتَّى تاريخه لا وجود لمحاولة جادَّة أو فعَّالة لوضع أسس جديدة لمجتمع جديد تجمعه هويَّة وطنيَّة قائمة على احترام الآخر مهما كان عرقه أو طائفته أو توجهه السِّياسي، فجميع الحلول المطروحة تنتهي إلى اجتثاث أو سحق فئة أو أكثر من فئات المجتمع، فضلاً عن كون المؤسَّسات الرَّسميَّة والأهليَّة المعنيَّة بإعادة تكوين هويَّةٍ وطنيَّةٍ جامعة كلُّها مخصيَّة ومعطلَّة، هذا يعني أن التَّقسيم إن لم يحدث على أرض الواقع حتَّى الآن إلَّا أنَّه وقع على مستوى الهوية.