لا نجد دارسًا أو ناقدًا للأدب الروسيّ يصرّح بأنّ القصة إحدى درر تشيخوف، غير أنّنا نجد نبرةً عقلانيّة ترفع من شأن القصة بدعمٍ من خيوط لامرئيّة أخرى تربط الماضي بالحاضر، حين يتلمّس النقّاد والقرّاء عون تشيخوف فتسمو القصة لأنّها مفضّلة تشيخوف. نجد نبرة موضوعيّة لدى إرنست سمنز، أحد أهم مرجعيّاتنا في الأدب الروسيّ، الذي يشير إلى أنّ تشيخوف «وصل إلى ذرى الكمال في التّناغم المُحكَم بين الشكل والمضمون، وبين النّبرة والجوهر، التّناغم الذي لا بدّ أن تولستوي قد فكَّر فيه حين عدَّ تشيخوف پوشكن الرّوس في النّثر.» علاقتي الشخصيّة بقصة «الطالب» أقلّ موضوعيّة من سمنز، إذ باتت العمل الأوحد الذي يبرق في ذاكرتي بوصفه مرادفًا للجمعة العظيمة وصلب يسوع. أهو سحر تشيخوف أم سحر تلك الخيوط اللامرئيّة التي نتلمّسها حين نقرأ القصة ونعيد قراءتها بالتّوازي مع سرديّة الجمعة العظيمة؟ نجد حضورًا أكبر للقصة لدى القرّاء الغربيّين بطبيعة الحال، إذ لا نجدها في مختارات تشيخوف العربيّة الأشهر التي ترجمها أبو بكر يوسف، مع أنّه يشير إليها في مقدّمة ترجمته بوصفها واحدةً من أهم قصص تشيخوف. لا نعلم ما إذا كان الحذف من يوسف نفسه أم من دار «رادوگا» بسبب النّبرة الدينيّة للقصة التي لم تكن لتتلاءم مع توجّهات الدور السوڤيتيّة. نقصها فادح ضمن أيّة مختارات لتشيخوف، إذ قدَّم فيها جوًا فريدًا لا نجده في أعماله الأخرى: ليست نبرة دينيّة بالمعنى المتعارف عليه بل نبرة روحانيّة تُعيد قراءة قصة الصلب بوصفه لحظةً أدبيّةً فارقة. يسوع هنا رمز فداء بقدر ما هو رمز للحظات الموت التي يكون فيها المحتضر وحيدًا حتّى لو كان ابن الله. جوّ قريب من أفكار تولستوي التي شهدت مدًا وجزرًا متواصلين عند تشيخوف؛ جو قريب من يسوع تولستوي: يسوع عِظة الجبل، يسوع البشريّ لا الإلهيّ، وكذا الأمر بالنّسبة إلى بطرس الذي نجد صورته البشريّة الهشّة لا صورة الحواريّ المعصوم. كان تشيخوف شحيحًا في التّصريح عن أفكاره الدينيّة، ولذا نجد لرسالته إلى أحد الأصدقاء عام 1899 إبّان تدهور صحة تولستوي أهميّة كبرى في قراءة أفكار تشيخوف. أحسَّ تشيخوف آنذاك بوطأة الخواء الذي سيتهدّده لو مات تولستوي، ولذا كشف عن أفكاره الدّفينة: «لستُ مؤمنًا، غير أنّ إيمان تولستوي هو الإيمان الأقرب إليّ والأكثر تناسبًا مع أفكاري من بين جميع الإيمانات.» لا نعرف رأي تولستوي بقصة «الطالب»، إلا أنّنا ندرك مدى تأثّر تشيخوف بيسوع التولستويّ (الذي بات يسوعًا تشيخوفيًا بعد أن أعادت أصابع تشيخوف الذهبيّة تشكيله من جديد) حين نقرأ القصة بتمعّن.

القصة التي تبدو في القراءة الأولى (وتُقدَّم في القراءات النقديّة) ميتا-حكاية، حكايةً داخل حكاية، تعيد صياغة نفسها مع إعادة القراءة، على الأخص حين نقرأ الشّخوص بكونهم عناصر أخرى من عناصر الطّبيعة التي تتجاوز دور الخلفيّة الضيّق الذي يؤطّر القصة لتصبح هي القصة في ذاتها. ليست «الطالب» محض ميتا-حكاية، بل هي أقرب إلى ماتريوشكا تنطلق من الجمعة العظيمة ودلالاتها، لتصل إلى دواخل الشّخوص ببراعةٍ تشيخوفيّة مدهشة تومئ ولا تُصرِّح حتّى حين يبدو تشيخوف شديد الوضوح. يعيد تشيخوف عرض الجمعة العظيمة ضمن سياق الحاضر، حين ينقل أورشليم إلى غابة روسيّة في دراما موجزة ثاقبة. يُمهّد للقصة بتمهيد اعتياديّ: «كان الجوّ لطيفًا وهادئًا بادئ الأمر.» ومن ثمّ تبدأ الدراما مع انقلاب الطّقس إلى رياح وبرد وظلمة وقفر لا يُسمَع فيه إلا عويل الريح وخطوات الفتى الذي يمضي بهدوء إلى النّور. ظلمة تامة ما خلا بصيص نار شاحبة في كوخ الأرملتين. يكتفي تشيخوف بسكتش حياديّ سريع يصف الأرملتين، فندرك لاحقًا أنّهما تعرفان الفتى، إذ يبدو أنّه يمرّ بهما يوميًا في طريق عودته، غير أنّ اليوم يوم مختلف، لا لكونه الجمعة العظيمة، بل لأنّ أوان انقشاع العتمة في عيني الفتى قد آن. يلجأ الفتى المقرور الجائع إلى نيران الأرملتين ويبدأ حكايته. اللافت أنّ الفتى لا يتحدّث عن يسوع، بل عن بطرس، عن دموع بطرس بعد أن أنكر معلّمه. جمعة تشيخوف العظيمة ليست «لجمعة العظيمة»، بل جمعةُ شهود تلك الجمعة العظيمة. يُخطئ الدّارسون حين يشيرون إلى «سذاجة» حكاية الفتى لأنّها تبدو – برأيهم – متخبّطة التفاصيل، فيما هو في واقع الحال ينتقي تفاصيل بعينها من روايات الأناجيل الأربعة ليعيد سرد الحكاية وتأويلها. حكاية الفتى حكاية عتمة، ودموع، وندم، وهجران. تبدو التّفاصيل الإنجيليّة الاعتياديّة باهتةً ونائيةً حين يرويها الفتى بهدوء محايد وهو يتدفّأ، غير أنّ الدموع تُباغته، دموع بطرس ودموع ڤاسيليا الأرملة الأم، فيبدأ إدراكَه الواعي لما رواه لاوعيُه.

حكايته الأولى هي حكاية اللاوعي المكرورة التي تُردَّد في كلّ عِظة في الجمعة العظيمة: «يقول الإنجيل: فخرج بطرس إلى خارجٍ، وبكى بكاءً مرًّا.» غير أنّ الدّموع كانت مفتاح الوعي الذي قلَبَ الحكاية بأسرها: «بوسعي تخيُّله خارجًا هادئًا جدًا، مُعتمًا جدًا، ونشيجٌ مكتومٌ بالكاد يُسمَع.»

ما كان الفتى ليدرك معنى الحكاية حتّى حين كان هو من رواها إلا حين خرج هو أيضًا إلى خارج، حين خلَّفَ الدّموع وراءه وعاد إلى الظّلمة القارسة: «خيَّمت العتمة عليه من جديد، وبدأت كفّاه تتجمّدان. هبَّت ريح قاسية، عاود الطّقس الشتائيّ الحقيقيّ حضوره مرةً أخرى، وما بدا أنّ أحد الفصح سيحلّ بعد غدٍ.» بدا الأمر وكأنّ الزمن الذي يفصل الجمعة العظيمة عن أحد الفصح ليس يومين فقط، بل فصل كامل بين شتاءٍ وربيع، أو ربّما أبدٌ بين ماضٍ ناءٍ وحاضرٍ ينزلق من بين الأصابع. وحينما أدرك الفتى نسبيّة الزمن، بدا الأمر وكأن أحد الفصح قد تمثَّل له وحده من بين جميع الآخرين الذين ما زالوا يتخبّطون في العتمة.

يخطر لنا أن نتساءل: أين يسوع هنا؟ يسوع حاضر منذ بداية الحكاية-داخل-الحكاية إلى نهايتها، وإنْ كان حضورًا شفيفًا غير مباشر. يشير تشيخوف عَرَضًا إلى العمّال الذين عادوا إلى بيوتهم القريبة من كوخ المرأتين؛ أشخاص بعيدون بالرغم من قربهم، كما كان جمهورُ الشُّهود على الصلب غائبين وهم حاضرون. الظَّلمة التي غطَّت الأفق، كما نراها في الرواية الإنجيليّة، هي الظلمة ذاتها التي طوَّقت الجميع في قصة «الطالب»، ظلمة الخواء والقفر والبرد والصمت المتواطئ، فيما كان من صُلب قد صًلب، ومن بكى قد بكى. كان يسوع وحيدًا في آلامه ما خلا حضور المريمات اللواتي يُشار إليهنّ إشارةً عابرةً في الأناجيل. مريمات يسوع هنّ الشُّاهدات الوحيدات الفعليّات في الجمعة العظيمة بآلامهنّ ولوعتهنّ، كما الأرملتان في قصة تشيخوف الشّاهدتان الوحيدتان في الجمعة العظيمة الجديدة التي يعيد الفتى روايتها. أما الباقون فيواصلون حياتهم وكأنّ شيئًا لم يكن. ما كانت دموع بطرس لتُسمَع في وطأة الصمت المًعتم، إلا أنّ دموع ڤاسيليا ولوعة لوكيريا حطّمت صمت العتمة الجديدة، فحرّضت الفتى على نسف العتمة وتلمُّس النّور.

«شرع يغمره شيئًا فشيئًا إحساسُ صبا، وصحّة، وقوّة – كان في الثانية والعشرين فقط – مترافقٌ مع استبشارٍ، يفوق الوصف، بقدوم سعادة، سعادةٍ غريبةٍ غامضة. وبدت الحياة فاتنةً، مدهشةً، متشرّبةُ بمغزًى سامٍ.» تلك هي خاتمة القصة التي يعقّب عليها هارلد بلوم بأنّ تشيخوف أدرك ربّما مضيّ ثلاثة أرباع عمره حين أشار بمرارةٍ إلى عُمر الفتى. كان تشيخوف في الثالثة والثلاثين حين كتب قصة «الطالب» (كان عنوانها الأول شديد الإيحاء: «مساءً»، غير أنّ تشيخوف غيّره لاحقًا)؛ كان بعُمر يسوع، وكانت هذه القصة أولى القصص التي كتبها في يالطا التي كانت المكان الذي أرَّخ سنوات المرض الذي سيفتك بتشيخوف بعد أحد عشر عامًا. أميل شخصيًا إلى أن الأمر أكبر من محض إحساس تشيخوفيّ مرهف بدنوّ الموت. نتذكّر أن يسوع – الذي مات في الثالثة والثلاثين – هو ذاته يسوع النبيّ الوحيد الذي لم يُقدَّر له عيش الحياة. عاش جميع الأنبياء الآخرين حيواتهم طولًا وعرضًا، زواجًا ومالًا ومكانةً وجيوشًا، ما عداه، مع أنّه ابن الله، روح الله، كلمة الله، أو أيًا تكن الصفة التي يفضّل كلّ قارئٍ اختيارها تبعًا لمعتقده. لعلّ قصة الجمعة العظيمة أكبر من محض تذكير بالدموع والصلب والدم واللوعة والفاجعة. ثمّة أمرٌ آخر أصغر ربّما، أو لعلّه أعظم: حين نتذكّر سنّ الثالثة والثلاثين ندرك متأخّرين كم أهدرنا من أعمارنا. ما من شيءٍ يعوّض تلك السّنوات، ولا حتّى دموع بطرس. يصرّ تشيخوف أنّ قصته تنسف التّشاؤم الذي ألصقه النقّاد بأعماله، إلا أنّ نبرة ملانخوليا شفيفة تغمر الخاتمة والقصة بأكملها. ربّما كان تشيخوف قد أدرك دنوّ الموت، ولكنّه – حتمًا – غبط الفتى على ما لم يُتَح لتشيخوف، ولنا، إدراكه باكرًا. كان الفتى في الثانية والعشرين فقط حين تلمَّس النّور. نحن تأخّرنا، إنْ كنّا قد تلمّسناه.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.