إنهاك الاقتصاد والشعب بسياسات ليبرالية جديدة أكثر توحشاً

إنهاك الاقتصاد والشعب بسياسات ليبرالية جديدة أكثر توحشاً

تصرّ الحكومة السورية على الاستمرار في انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة، والتي كانت ضمن الأسباب العميقة لاندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، وذلك رغم الحصار الاقتصادي الخانق لعجلة الاقتصاد السوري، وكأنها لا تملك أي استراتيجية لتقليص آثار العقوبات الدولية على سوريا؛ بل هي تفعل العكس، أي تستثمر في اقتصاد الحرب لمصلحة حفنة من داعمي النظام من مافيات الحرب والاقتصاد الجدد. فقد أبقت الاقتصاد ريعيا، متمحورا في قطاعات العقارات والخدمات (المطاعم والمقاهي) والاستيراد، واستمرت في إنهاء دعمها للسلع الأساسية، وتجاهلت التوظيف المالي في الزراعة والصناعة، مما زاد من خلل الميزان التجاري، وبدأ الاعتماد على المديونية تحت حجة عجز الميزانية.

انخفض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي في شهر آذار الماضي إلى قرابة الخمسة آلاف ليرة، ثم تحسن سعر الصرف قليلاً، حيث استفاد من ذلك مضاربو سوق العملة السوداء. ورغم اعتراف النظام بتدهور قيمة الليرة السورية، حيث يلقي باللائمة على المؤامرة والعقوبات الخارجية، لكنه ما زال يرفض رفع سعر دولار الحوالات ليقارب سعر الصرف في السوق السوداء، وهو يفضل تغذية دوائر الفساد المرتبطة بشركات الحوالات، حيث تذهب عمولات التحويلات إلى جيوب منتفعين من مافيات رجال الأعمال والشبكات الأمنية، بدلاً من خزينة الدولة، والتي كانت ستساهم في تحسين سعر الصرف، باعتبار أن قيمة حوالات السوريين القادمة من الخارج معتبرة.

والحكومة السورية لم تقدم دعماً للمنتوج الزراعي والحيواني، للحفاظ على الأمن الغذائي، بل هي تصعّب عودة الأهالي إلى المناطق الزراعية، في المدن والبلدات التي استعاد السيطرة عليها، عبر عدم الاهتمام بترميم بنيتها التحتية، بقصد معاقبتها، ولضرب تماسكها الاجتماعي؛ كما في الغوطة الشرقية، التي كانت رئة العاصمة وخزانها الغذائي، حيث ما زال يمنع إصلاح شبكة الكهرباء اللازمة لاستخراج مياه السقاية.

الحكومة لا تأبه بتحقيق الأمن الغذائي؛ حيث نشط قطاع تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية، للحصول على القطع الأجنبي، أو مبادلتها بالمشتقات النفطية.

انعدام الحلول الناجعة للنظام دفعه إلى الاتجاه إلى جيوب مواطنيه؛ حيث رفع الدعم عن البنزين للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر، وكذلك الغاز المنزلي بنسب تجاوزت ال50%، وابتدع ضريبة عقارية جديدة عالية على بيع وشراء العقارات.

السياسة الاقتصادية التي يتبعها النظام لمواجهة أثر التضخم الاقتصادي هي التمويل بالعجز، بتكبيس الأزرار وطباعة أوراق العملة. في حين أنه مستمر في سياسة التشدد في الإجراءات التقشفية؛ واضطر بداية نيسان إلى اتخاذ قرار بتخفيض نسبة دوام العاملين في قطاعات الدولة، حيث لم يعد لديه وقود كافٍ لنقل موظفيه إلى مراكز عملهم.

هذه السياسات الاقتصادية الرديئة زادت من أثر العقوبات الاقتصادية على السوريين؛ حيث بات 2.4 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في أسوأ حالة أمن غذائي شهدتها سوريا على الإطلاق، وفقاً لتقييم الأمن الغذائي الذي  أجري أواخر عام 2020 (تقرير لبرنامج الأغذية العالمي (WFP)) نشر في شباط الماضي (1)

السياسات الليبرالية الممزوجة بالفساد، والمجحفة بحق السوريين، ليست وليدة السنوات العشر الأخيرة؛ فقد رافق الانفتاح الاقتصادي مسيرة حكم حزب البعث إلى جانب الإصلاحات الاشتراكية الطابع. وتوسع القطاع الخاص في 1991 بالمرسوم رقم 10(2)، إرضاء لطبقة رجال الأعمال بعد انتصار النظام على جماعة الإخوان المسلمين في حرب الثمانينات. لكن الانفتاح اكتمل في 2007، في عهد الأسد الابن، وبصيغة ليبرالية جديدة، بعد الانتهاء من إصدار سلسلة مراسيم أحدثت تحولاً في بنية الاقتصاد.

النتائج كانت كارثية؛ حيث انهارت الزراعة مع رفع الدعم عن المازوت والبذور والأسمدة، وحدوث هجرة كبيرة من أهم المناطق الزراعية (منطقة الجزيرة)، إضافة إلى خصخصة مشاريع في القطاع العام والتعليم والطباعة وانهيار صناعات أساسية كالنسيج والصناعات الغذائية والأدوية.

كما أدى الانفتاح وفقاً لمفهوم السوق الاجتماعي إلى تشكل اقتصاد ينشط في (القطاع الثالث) كما يسمى في الفكر الاقتصادي، أي اقتصاد ريعي يقوم على تجارة الاستيراد والخدمات والبنوك والسياحة والعقارات (بالتشارك مع الرأسمال الخليجي ) تديره طبقة من رجال الأعمال الجدد المرتبطين بالسلطة، وأدى استيراد المنتجات الصينية والتركية بتسهيلات جمركية، إلى ضرب الكثير من الصناعات الوطنية، كالموبيليا، وكل ذلك على حساب إفقار الغالبية العظمى من الشعب وارتفاع معدل البطالة؛ وهو ما كان في الأسباب الخلفية لاندلاع الاحتجاجات ضد النظام في 2011.

طيلة سنوات الحرب، استمر النهج الليبرالي الجديد للسلطة القائمة في دمشق؛ إذ أعادت هيكلة الاقتصاد تشريعيا بما يخدم أمراء الحرب الذين صنعتهم كواجهة، بهدف الالتفاف على العقوبات والتخفيف من الضغوطات وعجز الميزانية المرافق  لظروف الحرب، وبما يؤسس للنهب المرافق لإعمار ما بعد الحرب.

فاستمرارا في نهج الخصخصة، أعلنت الحكومة السوريّة في شباط من عام 2016،  عن خطّة التشاركيّة الوطنيّة”(3)، بوصفها استراتيجيّتها الجديدة، والتي اعتبرتها بديلاً لنموذج “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” المُطوَّر في 2005؛ وقد سمح هذا القانون للقطاع الخاص بإدارة وتطوير الأصول الحكومية في جميع قطاعات الاقتصاد بوصفه الشريك أو المالك الرئيسيّ، باستثناء قطاع استخراج النفط.

كما أصدر النظام جملة قوانين تتيح إعادة التوزيع العمراني، بتحويل أراضٍ زراعية إلى أبراج عقارية، والاستثمار العقاري لرأسمالييه في المناطق التي عادت إلى سيطرته، كالمرسوم رقم  66 لعام 2012 ، والقانون رقم 10 لعام 2018 (4) (5)، الذي يشرع سرقة الحكومة للأراضي من ملاكها وإعادة إعمارها بعقود توقعها مع شركات خاصة ومستثمرين.

وبالتوازي مع ذلك وافقت الحكومة عام 2015  على قانون يسمح بتأسيس شركات قابضة خاصة لإدارة الأصول العامة، وخدمات مجالس المدن والوحدات الإدارية الأخرى، مما يتيح مجالا جيداً للمقربين من النظام لاستخدام الأصول العامة في توسيع تجاراتهم العقارية؛ ومنها شركة (دمشق شام القابضة) عام 2016 المسؤولة عن تنفيذ إعادة إعمار مشروع “ماروتا سيتي” لتطوير العقارات الفاخرة في بساتين الرازي وتنظيم كفرسوسة في دمشق بالاستفادة من المرسوم 66، كما أنشئت شركة قابضة في حمص لإحياء مشروع حلم حمص بأبراجه العالية، وشركة قابضة في حلب عام 2018. وفي  2018، تم السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية (6).

عمل النظام على تنشيط قطاع التجارة لتأمين حاجاته من منتجات معيّنة كالموادّ الغذائيّة والأدوية والمشتقّات البتروليّة، معتمدا على وسطاء اسميين للالتفاف على العقوبات الغربية ، أو وسطاء محميين بشبكاته الأمنية،  لتسهيل عملية تبادل المنتجات بين مناطق النفوذ المتعددة، كمجموعة القاطرجي، سيما وأن أكثر من 90 بالمائة من الاحتياطي النفطي، ونصف الغاز السوري، ومعظم الثروات الزراعية تقع خارج، سيطرته.

لقد كان الأهم بالنسبة للنظام الإنفاق على آلته العسكرية، لتمويل توسيع نطاق نفوذه مدعوماً بحليفيه الروسي والإيراني ومقابل ذلك كان عليه توقيع اتفاقيات استراتيجية، مع كل من روسيا وإيران لاستثمار الثروات الطبيعية من نفط وغاز وفوسفات، وموانئ ومطارات، لآجال طويلة (7)  لتعويض قيمة مساهمتهما في  العمليات العسكرية.

هذا الإصرار الحكومي على السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، لتغذية النهب عبر العلاقة مع السلطة ومشاركتها، وإصرار النظام على الحل العسكري، بكلفته الدموية والتدميرية، حيث قدرت الكلفة الاقتصادية للحرب السورية ب 1.2  تريليون دولار أمريكي وفقا لتقديرات تقرير مشترك لمنظمة “الرؤية العالمية وورلدفيجن” وشركة “فرونتير إيكونوميكس”(8)، كل ذلك أعطى العقوبات الخارجية فاعلية حقيقية، حيث ارتفعت نسبة الفقر إلى أكثر من 90%، وفقاً لتقرير صدر في آذار عن صندوق الطوارئ الدولي للأطفال (يونيسيف)(9)، وارتفعت معدلات البطالة، مع تدني الأجور وإرث ضخم من الدين الخارجي سيلاحق الأجيال القادمة ويقيد استقلالية الدولة ومستقبلها.

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

قومي يا مريم لرباب هلال: قصصنا القصيرة عن الحرب الطويلة

ما إن تبدأ بالجمل الأولى من الكتاب حتى تكتشف أنك تورطت بنص لن يكون بمقدورك الإفلات منه ومن سطوته بسهولة، حيث تمسكنا رباب هلال من خلال نصها بخيط حريري خفي نشعر به يلتف حولنا كلما قرأنا قصة في مجموعتها الجديدة “قومي يا مريم” (الصادرة عن دار التكوين سنة ٢٠٢١)، وكأنها بفعلتها هذه لا توحد نصها المنسوج بإتقان وحسب، بل تجبرنا على الإحساس أننا شركاؤها في كل انفعالاتها وأوجاعها، وبأننا نصنع معها استرجاعاً لذاكرة طويلة هي ذاكرتنا نحن أبناء هذا المكان الملعون بالحرب والغصات.

مجموعة القصص القصيرة تلك لم تكن قصيرة في الواقع، فصفحات الكتاب التي تزيد قليلا عن المئة ما هي إلا زمن يمتد من أول حنجرة صرخت بهتاف الحرية قبل عشر سنوات إلى أن يصل لمساحات الوجع المفتوح والذي لم ينته بعد، وما زال حتى اللحظة جاثماً كجبل من جليد فوق صدورنا، هو زمن الحرب الطويل، والذي لا تريدنا رباب أن نعتاد وجوده ونتأقلم معه كأمر واقع لا مفر منه. ورغم ذلك فمعظم قصص المجموعة ليست حكراً على زمن الحرب فقط، ولا على مكان محدد تصوره لنا الكاتبة، فأحداث القصص كانت موجودة قبل الحرب كجزء من يوميات العشوائيات التي تحيط بدمشق، لكن الحرب جعلت من تلك القصص أكثر فجاجة وقبحاً، وعرتها أمام الجميع لتتحول مع مرور الوقت وتصبح إحدى تفاصيل الحرب الكثيرة، من هنا جاء إصرار الكاتبة على تصوير المشاهد بهذه الواقعية المباشرة، وترك أغلب النهايات في القصص مفتوحة على الأسئلة التي علقت في أذهاننا وجعلتنا نشرد في قوة المشهد، فلا زلت أشهق كلما تذكرت مشهد الطفل سعد وهو يسقط من شرفة بيته، دون أن تخبرنا رباب ماذا حل به وبجدته لاحقاً، وكذلك الأمر عندما تهاوى السلم الخشبي لحظة وصول بطلة القصة وأخيها إلى بيتهم المهدم في حرستا، وغيرها الكثير من المشاهد التي أسرتنا لدرجة شعرت وكأنني أشارك أبطال القصص تلك اللحظات دون أن أفكر ماذا يمكن أن يفعلوا بعدها، لقد فاجأتنا رباب وأدهشتنا تماماً كما فعلت الحرب، وتركتنا مشدوهين أمام الأسئلة العالقة.

يوميات الحرب يعرفها الجميع حق المعرفة، وخصوصاً أنها لا تزال حاضرة حتى اللحظة، وإن بدا النص قد أفاض في سرد تفاصيل ويوميات الحرب، إلا أنها ليست حشواً زائداً لا فائدة منه، بل هو إسهاب في توثيق اللحظة الراهنة لمستقبل قد تضيع منه التفاصيل والحكايات، فكتابة القصة القصيرة ليست بالأمر السهل خصوصاً إذا أخذت على عاتقها توثيق هذا الكم الهائل من الألم، لكن رباب هلال تجيد صنعتها حقاً، فكتبت نصوصها بمشرط جراح وبحرفية عالية وبتقنية جميلة. وإن كانت الجمل الطويلة والسرد المباشر وتصاعد الأحداث التدريجي في القصص يضفي طابعاً كلاسيكياً على النص، إلا أننا أمام حكايات متقنة وممتعة تشبه حكايات الجدات في الليالي الطويلة، فرباب تهدهدنا على وقع سردها السلس وتكتب ذاكرة مكان وأشخاص بتفاصيل دقيقة وكأنها عدسة كاميرا حقاً، مع فارق صغير فحكاياتها لا تنتهي سعيدة كحكايات الجدات ولا تقدم لنا أجوبة ننتظرها، كل ما تفعله أنها تفتح أبواب الأسئلة على مصراعيها علها تجد جواباً ما يرضيها ويرضينا، هي تعرف كيف تبكينا بحرقة في نص جميل وكيف تمسح دموعنا كجدة حنون.

كثيراً ما نقع في فخ مطالبة القصة القصيرة بما لا تستطيع أن تحمله، فنطالبها بسرد يشبه الرواية، وبتكثيف وترميز يشبه الشعر، وبحدود واضحة لبدايات ونهايات محددة كأنها مقالة. إلا أننا نتمنى أن يقترب أي نص أدبي أكثر ما يمكن من السينما، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن قصص رباب كانت قريبة جداً من مشاهد السينما، فلقد تسلل البرد إلى أطرافنا مع وفا، وصرخنا “يلعن” بأعلى صوتنا مع الآنسة نجاة، وامتلأ صدرنا بالضيق كلما تذكرنا الفجر وأصابع ندى، وشممنا رائحة الأمكنة تماماً كأننا داخلها، تلصصنا مع فضول أم فارس وهي تراقب الحارة من شرفتها، حتى أني لم أعد أستطيع أن أرى فرن الغاز في مطبخ بيتي دون أن أتذكر قصة الضيوف.

ما يميز رباب في قصصها أنها لم تترك شيئا للصدفة أبداً، فحتى أدق التفاصيل الصغيرة في حكاياتها كانت منسوجة بإتقان واضح وبهدف صريح، فبالرغم من أن قصص مجموعتها تتمتع باستقلالية كاملة، تمكّن القارئ من أن يختار القصة التي يريد بشكل عشوائي، إلا أنها رُبطت معاً في سابقة جديدة تُحسب لها في القصة القصيرة، وهذا ما بدا واضحاً جداً من استخدام أبطال القصص في أكثر من مكان وأكثر من حدث، كما أن محاور العمل ككل يجمعها حيز مكاني واحد هو الحارة، أو الحي الشعبي ضمن مدينة تعيش تائهة وسط الحرب والخراب، ولعل هذه التقنية بالتحديد ما أعطى المجموعة ميزة متفردة وأضفى عليها ألقاً جديداً.

أجمل وأهم ما يميز قصص رباب أنها ابتعدت عن تقديم الأمثولات الجاهزة والأحكام المطلقة، وما يعلق بالذاكرة متحدياً الزمن وطريقة السرد هي يومياتنا المكتوبة بطريقة مختلفة، ففي الحرب تتبلد حواسنا لكي نستطيع التحمل والبقاء، ونعتاد شيئاً فشيئاً الواقع المؤقت ليتحول إلى دائم، وما كان حدثاً طارئاً في الأمس يتحول مع مرور زمن الحرب إلى تفصيل في يوم عادي. ما فعلته رباب هلال بنا أنها أعادت صقل حواسنا من جديد، ونبشت قيح جراحنا، لكي لا ننسى بأن الحرب مرت من هنا، ولكي لا نعتاد المؤقت والمشوه ونتحول إلى مسوخ بلا إحساس، هي دعوة للعودة إلى إنسانيتنا الضائعة بعد هذه الحرب الملعونة.

الفقد: كلمة لن نجدَ غيرَها

الفقد: كلمة لن نجدَ غيرَها

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “في العقد الجديد، إلى ماذا يشتاق السوريون؟

إذا كنّا نحن الذين دخلنا عقدنا الثالث أو الرابع أو الخامس من عمرنا مع بداية العقد الثاني من الألفية المتزامن مع عقد الثورة والحرب وتداعياتهما، إذا كنا نشتاق إلى أيام كانت الحياة فيها أكثر هدوءاً وأكثر أملاً ورغبة في غد أفضل؛ فإن الشباب الذين بدؤوا حياتهم مع هذا العقد، وعاشوا الحرب إلى ماذا يشتاقون؟
وإذا كان الحنين أو الاشتياق يمتلك في طبيعته مفعولاً رجعياً ماضوياً، فإن اشتياق هذا الجيل سيتضمن مفعولاً مستقبلياً، عندها تتحول الصيغة اللفظية إلى تطلّع، أو إذا جاز التعبيرإلى حنين مستقبليّ، إلى حلم.

ولأنها لا تعطي أجوبة، ربما لأنها هي جوابٌ يحملُ إبهامه الواضح، وعبثيته المنظَّمة، فإنها في كل لحظة، تطرح الحرب أسئلتها المؤتمتة بخيارات مفتوحة، صعبة، مرهِقة وعصية على الحل.
غالباً ما تكون الحرب جواباً لانغلاق الرؤى، لوهم القوة، لاستبداد الطاغية، لغياب الديموقراطية، لاحتشاء فكريّ وعدم احترام الاختلاف. وقد تأتي استجابة لقهر تسلطيّ، لنعي المدنية وانعدام الأفق.
ولأنها جوابٌ ناقص، تطرح نفسها كأسئلة محايثة وضاغطة على أعصاب تشعر أنها تفقد القدرة على التحمل في كل لحظة، أعصاب ليست من قش لكنها مهدَّدة بالاحتراق في كل لحظة أيضاً.
من بين الأسئلة الكثيرة التي تطرحها الحرب تبرز على السطح أسئلة: الهوية، المواطنة، المصير، الذات والآخر، التعددية، العدالة والكرامة الإنسانيتين. ورغم أن هذه المصطلحات، تبدو لأول نظرة وكأنها صياغات لغوية أو فكرية تأطيرية، إلا أنها في الواقع ستأخذ معنى: القتل، التهجير، تدمير المنازل، الاعتقال، عدم الاحترام، الطرد من العمل، غياب الفعل الثقافي، أزمات مستدامة، أزمة وقود، أزمة مياه، والعيش على خط الصفر الحياتيّ دون ضامن، والمستقبل في حكم ضمير غائب.

إن الحرب جريمة عقلانية! بمعنى أن فعل القتل يتم أخذ القرار به وصوغه وتنفيذه بشكل إراديّ وعن سابق إصرار وتصميم، هذا يجعل منها رغم عبثيتها عقلانيةً، وسنرى قَتَلة بثياب أنيقة وأيدٍ بيضاء وبكامل قواهم العقلية، لذلك فإن الحرب لا تُحيل إلى ذلك المعنى التقليدي المتضمن فريقين متحاربين أو أكثر فقط، بل تحيل إلى كلمة أشد عمقاً وأعنف تأثيراً: الفقد. إنها تجعل منه فقداً نهائياً، إنها الكلمة التي لن نجد غيرها.

أرقام باردة..حياة حارة

تقول الأمم المتحدة إن أكثر من نصف مليون شخص قتلوا في سوريا منذ آذار2011.

وتقدر منظمة هيومان رايتس ووتش العدد بـ 400 ألف قتيل، بينما يوثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 384ألف شخص منهم أكثر من 116 ألف مدني من بينهم 22 ألف طفل و 13 ألف امرأة، ومقتل 129 ألف جندي سوري و1637 عنصر من “حزب الله”، و 57 ألف من مقاتلي المعارضة، و 13 ألف من قوات سوريا الديمقراطية. ووثق المصدر مقتل 67 ألف من مقاتلي داعش وجبهة النصرة والفصائل الأخرى و421  شخصاً مجهول الهوية.
وحسب تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة في 2020 هناك 6.6 مليون نازح داخلي، و 5.6مليون لاجئ. بينما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال 129973 شخصاً منذ بداية الثورة، و13983 شخصاً قتلوا جراء التعذيب.
في 6 آذار 2019 نشر معهد البحوث والتدريب التابع للأمم المتحدة(VNITAR) أطلساً للدمار في سوريا معتمداً على الوقائع وصور الأقمار الصناعية، مفصلاً حجم الدمار الذي تعرضت له المباني في المدن السورية. تصدرت حلب القائمة بـ 35722 مبنى مدمر بين دمار كليّ أو بالغ أو جزئي: غوطة دمشق34136  مبنى، حمص 13778 مبنى، الرقة 12781 مبنى، حماه 10529 مبنى، دير الزور    6405 مبنى، المخيم والحجر الأسود 5489 مبنى، الزبداني 3364 مبنى، عين العرب 3247 مبنى، درعا 1503 مبنى، ادلب 1415 مبنى، تدمر 651 مبنى.
بالإضافة إلى دمار القرى والبنى التحتية والمدارس والمستشفيات، حيث قدرت الأمم المتحدة حجم الدمار بما قيمته 400مليار دولار.

إلى ماذا نشتاق؟

سؤال حاد تطرحه الأرقام والوقائع والحياة المعاشة. كل بيت فيه فقد، كل عائلة عانت. إننا نفتقد من فقدناهم، نفتقد البيوت ورائحتها. ونتطلع إلى هدوء له ملامح سياسية يأخذ شكل دولة تعددية ديمقراطية، وملامح اقتصادية تأخذ شكل دخول جيدة وفرص متكافئة واقتصاد تعددي بلا استغلال وحياة بلا أزمات، نتطلع إلى دولة تقوم على المواطنة والاحترام والقانون.

إن الكتابة عن الكارثة، لا يمكن أن تعادل الكارثة، إنها نسق متتابع لفظي تكراري يحاول وصف، شرح ، تشريح الحدث المأساوي، الكتابة موازاة، الكارثة شيء متفرد وخارج حدود الكتابة. يمكن أن تكون الكتابة شكل من أشكال الاعتذار من الضوء، من الفجر، من الأرض، من الدم. يمكن أن تكون ندماً دائماً أو إيذاناً ببدء الحداد، لكنها لن تكون بمستوى الجريمة. يمكنها أن تأخذ شكلاً ارتدادياً للصراخ، يمكن أن تأخذ الشكل المعقوف لعلامة استفهام كبرى في “زمن القَتَلة”، لكنها لن تعادل ألم أصوات القتْلى والمفقودين والمهجَّرين.

هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢

هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢

*تم نشر الجزء الثاني من هذه المقالة تحت عنوان “هجرة الموسيقيين السوريين ٢ من ٢ مبدعون في بلاد الاغتراب

موسيقيون هاجروا وفرق اختفت وأصوات لجأت إلى الصمت

الحرب التي طال دمارها وأذاها كل أنواع الثقافة والفنون في سورية، طغى صوتها على صوت الموسيقى فهجّر خيرة موسيقيي البلاد الذين كان لهم الفضل الكبير على موسيقاها التي تركوا في تاريخها بصماتٍ ولمساتٍ فريدة وناصعة، لا يمكن محوها، سواء كعازفين أو مؤلفين أو مدرسين، فكان رحيلهم عن البلاد، التي كانت تتنفس وتنبض من خلالهم، خسارة كبيرة وموجعة لا يمكن تعويضها بأي ثمن.

الهجرات المتعاقبة التي سببتها الحرب غيَّبت الكثير من خبرات ومدرسي المعهد العالي للموسيقى، الذين أغنوا الموسيقى الأكاديمية ونهضوا بواقع تدريسها فخرّجوا أفضل الموسيقيين، هذا إلى جانب كونهم أعضاء مؤسسين في أبرز الفرق الموسيقية الوطنية، من بينهم : مغنية الأوبرا العالمية، مدرّسة الغناء الأوبرالي ورئيسة قسم الغناء الشرقي لبانة القنطار. المؤلف الموسيقي، مدرس آلة العود، رئيس قسم الموسيقى الشرقية وقائد الأوركسترا الوطنية للموسيقى العربية عصام رافع. المغني وأستاذ الغناء والكورال ونظريات الموسيقى باسل الصالح .عازف ومدرس آلة العود ونظريات الموسيقى الشرقية أيمن الجسري، وهو مصنع أعواد، عمل على تطوير تلك الصناعة وأضاف إليها الكثير. عازف ومدرس  آلات الإيقاع الشرقي جمال السقا. عازف ومدرس آلة القانون فراس شهرستان. وعازف ومدرس آلة الناي مسلم رحال، هذا بالإضافة للملحن وعازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة، الذي عزف مع أهم الفرق العالمية وحصل على العديد من الجوائز، وغيرهم الكثير.

إلى جانب ذلك خسرت الفرق الموسيقية الوطنية، التابعة للمعهد العالي ودار الأوبرا، خيرة أعضائها، المشهود لهم بخبراتهم ومقدراتهم ومهاراتهم الاحترافية العالية، والذين عَمِل معظمهم أيضاً كمدرسين، في المعهد العالي ومعهد صلحي الوادي وغيرهما، وكعازفين مع أبرز الفرق السورية، إلى جانب عمل بعضهم في مجال التأليف والتوزيع الموسيقي، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر  عازفي القانون توفيق ميرخان، يامن جذبة وعازفي العود ماهر محمود، أنس مراد، مالك وهب، مهند نصر، نبيل هيلانة، جمال بشر ورحاب عازر، عازف الناي محمد فتيان، عازفي الإيقاع  فراس حسن، عامر دهبر وبادي رافع وعازف البزق إياد عثمان (توفي في لبنان قبل نحو عامين). هذا إلى جانب عازفي الوتريات: وليد خطبا، جهاد جذبة، أغيد الصغير (كمان). إيهاب أبو فخر، رامي فيصل ورغد حداد (فيولا). باسيليوس عواد وهديل ميرخان (تشيلو). رائد جذبة وفجر العبدالله (كونتر باص). والمغنيون أيهم أبو عمار، بيان رضا، ميرنا قسيس، همسة منيف، طارق الحمد، أسامة كيوان وغيرهم الكثير.

كما غادر سورية فنانون أثبتوا حضورهم في الساحة الفنية وفي ذاكرة السوريين خلال سنوات ما قبل الحرب، من بينهم: مغنية الأوبرا رشا رزق، وهي مُدرِسة سابقة في المعهد العالي للموسيقى، وغنَّت العديد من شارات برامج الأطفال التي علِقَت بأذهان ملايين الناس، وأصدرت ثلاثة ألبومات غنائية ” إطار شمع ، اللعبة، وملاك”. مغنية الأوبرا  ديما أورشو التي شاركت مع كثير من الفرق  وغنت عدداً من شارات المسلسلات السورية كالمسلسل الشهير “بقعة ضوء”. الملحن والمغني باسل داوود، الذي لحن الكثير من الأغاني وعزف مع فرقة السيدة فيروز وله عدد من المؤلفات من بينها ألبوم “شو قال”. المغنية لينا شاماميان التي دخل صوتها لمعظم بيوت السوريين وأصدرت عدداً من الألبومات الغنائية من بينها “هالأسمر اللون، شامات، غزل البنات”. هذا بالإضافة لأسماء كثيرة أخرى.

الهجرة طالت أيضاً أسماء كبيرة شكلت علامة فارقة في مسيرة الموسيقى السورية كالمؤلف والباحث الموسيقي الكبير نوري اسكندر، وهو من سلط الضوء على جماليات الموسيقى السيريانية ومقاماتها، وله عدد كبير من المؤلفات الآلية والغنائية المميزة من بينها: كونشيرتو العود، كونشيرتو التشيلو، تجليات، والموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات.

 فرق موسيقية لم يعد لها وجود في سورية

“حوار، طويس، إطار شمع، بروكار، مرمر، ارتجال، وجوه، حراراة عالية، طنجرة ضغط، أنس أند فريندس، فرقة باسل رجوب، جين، تشيلي باند، شام mcs  لموسيقى الراب، سوزدلار، أبو خليل القباني، مسام، إنسانيتي. زودياك”،  تلك أسماء لبعض الفرق الموسيقية الكثيرة، المختلفة والمتنوعة الأنماط، والتي كانت تصدح في مسارح البلاد خلال سنوات ما قبل الحرب، فأغنت الذائقة السمعية العامة وأضافت الكثير لواقع الموسيقى السورية، ومع رحيل عازفيها عن البلاد غاب أسماء أغلبها عن سورية، ولم يعد لها أي وجود.

فرقة حوار وتتكون من العازفين: كنان العظمة (كلارينيت)، عصام رافع (عود)، ديمة أورشو (غناء)  خالد عمران (كونترباص)، سيمون مريش (درامز)، بادي رافع (إيقاع). قدمت الفرقة أساليب موسيقية متنوعة وجديدة، دمجت بين أنماط مختلفة من الموسيقى الشرقية والكلاسيكية والجاز والأوبرا، وقدمت أعمالاً تعبيرية تعتمد على الحوار بين الآلات الموسيقية والأصوات الغنائية.  وقد حققت الفرقة حضوراً متميزاً في المشهد الموسيقي السوري، فإلى جانب ما قدمته من الحفلات الكثيرة على مختلف المسارح السورية، العربية والعالمية، أطلقت ألبومين بعنوان “حوار” و ” تسعة أيام من العزلة”. وخلال الحرب تفرق شمل عازفيها ولم يتبقى منهم داخل سورية سوى الأستاذ سيمون مريش.

فرقة رباعي طويس، وهي تخت شرقي تقليدي، تضم: عصام رافع (عود)، فراس شهرستان (قانون)، مسلم رحال (ناي)، راغب جبيل (إيقاع)، وهو العازف الوحيد، من بينهم، الذي بقي داخل سورية. عملت الفرقة على البحث في جذور الموسيقى الشرقية والعربية وقدمت الكثير من الأعمال الموسيقية الآلية الفريدة كالسماعيات واللونغيات والرقصات، إلى جانب بعض الأعمال الشرقية الكلاسيكية، كما أطلقت  ألبوماً موسيقياً بعنوان ” إنسان”.

فرقة “ إطار شمع“، تأسست على يد عازف الغيتار، المؤلف والموزع الموسيقي إبراهيم سليماني، ومغنية الأوبرا رشا رزق، وقد عَمِلا على تأليف معظم الأغاني التي قدمتها الفرقة، والتي عبَّرت عن صوت الشباب وأحلامهم ومشكلاتهم. قدمت الفرقة  شكلاً موسيقياً خاصاً يدمج بين أنماط موسيقية مختلفة ويعتمد على الجاز والروك والموسيقى اللاتينية، وأصدرت عدداً من الأعمال الغنائية من بينها ألبوم “بيتنا“. وتضم الفرقة إلى جانب مؤسسيها: طارق صالحية (غيتار) وأنس أبوقوس (غناء)، عمر حرب (غيتار بيس)، ميلاد حنا (درامز)، عمر المصفي (إيقاع) وغيرهم. وقد غاب اسم الفرقة عن سورية مع سفر مؤسسيها وأغلب عازفيها.

فرقة بروكار وتعنى بتقديم الموسيقى الشرقية والعربية، الغنائية والآلية، بأساليب معاصرة وطرق توزيع جديدة، وتتألف من العازفين: عدنان فتح الله (عود)، توفيق ميرخان (قانون)، عامر دهبر (إيقاع)، مضر سلامة (درامز)، فجر العبدالله (غيتار). سافر جميع أعضاء الفرقة باستثناء الأستاذ عدنان فتح الله وهو حاليا عميد المعهد العالي للموسيقى وقائد أوركسترا الموسيقى العربية.

فرق موسيقية قد لا يكتب لها البقاء

فرق موسيقية كثيرة حاولت أن تستمر رغم خساتها لأفضل عازفيها، ولكنها اليوم قد تعجز عن الاستمرار، من بينها فرقة “رباعي العود السوري“. أسسها أستاذ العود والبزق في المعهد العالي محمد عثمان، وشكلت تجربة هامة لآلة العود. وخلال الحرب تبدل عازفوها أكثر من مرة نتيجة الهجرات المتعاقبة، وكانت تضم في آخر تشكيلٍ لها، إلى جانب الأستاذ محمد عثمان، كلاً من نوار زهرة، أنس العودة، فضول سعد. قدمت الفرقة العديد من القطع الموسيقية الآلية التي أبرزت قدرات آلة العود وجمالياتها، وأحيت عدداً من الحفلات في بعض المسارح السورية والعربية، كما حصلت على منحة “اتجاهات- ثقافة مستقلة” وأصدرت ألبوماً موسيقياً بعنوان “ضياع”، ومع بداية العام الحالي سافر اثنان من أعضائها (فضول سعد، أنس العودة).

فرق موسيقية فريدة وأصيلة

الحرب غيَّبت فرقاً موسيقية فريدة ونوعية، تنبض بالأصالة والتاريخ وتحمل في جعبتها إرثاً فنياً نادراً وغنياً، كفرقة “تهليلة” و”شيوخ سلاطين الطرب” و”نوا”. فرقة “تهليلة” وهي بإدارة وإشراف الأستاذ هشام الخطيب، انبثقت عن مؤسسة تهليلة التي تشكلت عام 2000 على يد المنشد السوري العالمي الشيخ الراحل حمزة شكور. الفرقة حافظت على تراثٍ وتاريخٍ فني نادرٍ ومميز يحاكي صوفيي التكايا والزوايا، وقد عمِلت على تقديم الموسيقى الروحية والصوفية والأندلسية، بالإضافة لفن الموشحات والأغاني الصوفية والتراثية، والإنشاد الديني الذي يبرز جماليات التراث الإسلامي، إلى جانب عروض الرقص المولوي (الدراويش) ورقص السماح، وقد قدمت الكثير من العروض في المسارح السورية، ومسارح البلاد العربية والإسلامية وبعض البلدان العالمية، ومثّلَت سورية في الكثير من المهرجانات. وخلال الحرب بدأ أعضاء الفرقة بمغادرة البلاد، وكانت الخسارة الكبرى في أواخر عام 2015، بعد مشاركتها في مهرجان طرابلس الدولي للموسيقى الصوفية والروحية، في لبنان، حيث سافر قسم من أعضائها، عابرين بحر طرابلس نحو تركيا، من بينهم مديرها هشام الخطيب، وقائدها، آنذاك، الموسيقي يامن جذبة.

فرقة “شيوخ سلاطين الطرب“، تأسست عام 2000 في مدينة حلب وضمت خيرة مطربي ومنشدي وعازفي المدينة، وهي امتداد لفرقة “شيوخ الطرب” التي تأسست عام 1956 بإشراف الفنان الكبير صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر. تعنى الفرقة بإحياء التراث العربي ونقله إلى العالمية، وتقدم فن الموشحات والقدود الحلبية والأدوار والقوالب الغنائية المتوارثة في حلب كالمواويل  والفاصل وكل ألوان الغناء الطربي الأصيل. شاركت الفرقة في العديد من المهرجانات السورية والعربية والعالمية، كمهرجان صفاقس والقيروان، وفي عام 2011 أوقفت نشاطاتها الفنية في مدينة حلب بعد تفككها وتفرق شمل أعضائها، ثم عادت لتتشكل بشكل جزئي، في مراحل مختلفة، في لبنان والأردن وبعض الدول العربية، عبر جمع بعض أعضائها الأساسيين لإحياء بعض الحفلات المتفرقة.

 فرقة “نوا” تشكلت في مدينة حلب على يد الموسيقي وعازف الإيقاع إبراهيم مسلماني، الذي سافر عام 2012 مع أعضاء آخرين إلى تركيا. عَمِلت الفرقة على تقديم الموشحات  والقدود الدينية والغزلية، إلى جانب توثيق وتقديم الكثير من فصول الذكر المتوارثة في حلب، وبعض الألحان والفصول القديمة التي نُسيت أو حُرِفت عبر السنين. الفرقة أغنت الموسيقى السورية بإعادة إحيائها لكثير من الأعمال التراثية التي تعود لعهد الاحتلال العثماني وما بعده، كما نفضت الغبار عن أعمال نادرة وقيِّمة كانت مهددة بالاندثار، فأعادت تجميعها، بعد الإستعانة بكثير من الوثائق، ومن ثم تسجيلها مع الحفاظ على روحها وأصالتها. وقد شاركت الفرقة في كثير من المهرجانات الصوفية والروحية، في بعض المسارح العربية والعالمية، وأصدرت ألبوماً بعنوان “ابتهالات صوفية قديمة وأغاني منسية من حلب”، كان بمثابة كنز نفيس أضاف الكثير لمكتبة الموسيقى العربية.

الفراغ الكبير الذي خلَّفه رحيل الموسيقيين السوريين لا يمكن ملؤه في المستقبل القريب، وقد تحتاج البلاد لسنوات طويلة لتعوِّض ما خسرته برحيلهم الذي سرق معه الكثير من جماليات الموسيقى السورية وإرثها وروحها وغناها وتنوعها، وسيترك آثاره السلبية على هويتها المستقبلية.

أقصى أحلام السوريين مقعد في سرفيس

أقصى أحلام السوريين مقعد في سرفيس

لم تعد أحلامنا التخرج من الجامعة والحصول على فرصة عمل لإكمال الطريق في هذه الحياة الموحشة، بل نبحث عن وسيلة نقل لنصل إلى البيت أو الجامعة، هذه كلمات رامي ابن التاسعة عشر عاماً عندما سألناه عن أحلامه بعد عشر سنوات من الحرب في سوريا.

يشير رامي إلى أنه يخرج من منزله قبل ساعتين من أي موعد: “حتى إذا ما لقيت سرفيس ما في حل إلا كمل مشي”. وتشهد مناطق الحكومة السورية وخاصة دمشق نقصاً في المحروقات، ما أثر على وسائل النقل وقلص عددها بشكل كبير جداً، لتعيش العاصمة السورية حالة من الشلل.

حلم ركوب سرفيس سوري

قبل أيام تمكنت من ركوب سرفيس بعد انتظار دام أكثر من ساعة، حيث كان عدد الراكبين قليلاً، قبل أن تتهافت الناس على الركوب في الموقف التالي، وعندما تنظر إلى وجه من يفوز بمقعد بعد معركة من التدافع ترى فرحة وكأنه كسب جائزة يانصيب، أو تذكرة سفر إلى جزر المالديف، حيث يمكنك النظر إلى الوجوه لتكتشف كمية الارتياح وكأنها تقول “حلم وتحقق”.

يصعد الركاب ويقول السائق: “الأجرة 400 ليرة ويلي مو عاجبو ينزل”، صمت يملأ السرفيس ويدفع الجميع المبلغ على الرغم من أن الأجرة هي 75 ليرة سورية. تقول راكبة بجواري: “الكل بدو يستغلك من الصغير للكبير.. المواطن حصالة دهب.. نتفوا ريشنا على الآخر.. صار حلم تركب سرفيس”.

وعندما يصل السرفيس إلى الموقف الأخير ستجد في استقبالك حشداً جماهيرياً لن يسمح لك حتى النزول إلا بعد معاناة كبيرة، والتي قد تفقد خلالها أحد أغراضك الشخصية، فالجميع يريد الفوز بمقعد في السرفيس.

وفي حال لم تتمكن من كسب مقعد في السرفيس، سيكون خيارك الثاني سيارات الأجرة الأغلى سعراً، حيث يأخذ السائق أجرة كما يشاء والتي تصل إلى ضعفين أو ثلاثة عن الأيام السابقة دون حسيب أو رقيب.

ومع قلة وسائل النقل العامة لجأ السوريون إلى سيارات الأجرة مرغمين، والتي تعتمد على تجميع الركاب ونقلهم إلى منطقتهم مقابل مبلغ يرتفع بشكل يومي، أما الراكب فبات الحلقة الأضعف فهو لا يريد سوى الوصول إلى منزله بعد يومٍ من “الشنشطة والتعتير”.

حلول منتهية الصلاحية

ذكرت مصادر من محافظة دمشق أنها تقوم بتسيير العديد من باصات النقل الداخلي ليل -نهار بشكل يومي ، وقال مدير عام الشركة العامة للنقل الداخلي بدمشق وريفها سامر حداد لوسائل إعلام محلية: “أدت مشكلة المحروقات لخروج منظومة السرافيس بشكل شبه دائم، وبدأت تعود تدريجياً، والنقص الحاصل قمنا بتغطيته بباصات النقل الداخلي بنسبة وصلت ما بين 95٪ و96٪”.

وخلال جولة قصيرة في شوارع العاصمة لن تجد على جوانبها إلا أناساً ينتظرون وسيلة نقلٍ، ويركضون كأنهم في سباق ماراتون عندما يظهر سرفيس وسط استقبال يشبه استقبال الفاتحين.

يقول سامر في منطقة البرامكة بدمشق: “صار عمري خمسين سنة ما ضل عندي لا حلم ولاشي.. بدي أوصل على بيتي بعد الشغل وساعة كهربا زيادة وأمن شوية أكل لعيلتي”.

وبالنسبة للحلول الحكومية وتسيير الباصات تشير رؤى (موظفة في شركة خاصة) إلى عدم فائدتها كون عددها قليلاً وتضيف: “إذا في 100 ألف شخص والمحافظة عم تبعت 10 باصات شو الفائدة!.. الزحمة والقتال والتدافع مستمر حتى نركب”.

هذا الوضع دفع الحكومة السورية لتخفيض عدد العاملين في الوزرات والمؤسسات الرسمية، كما تقرر إيقاف الدوام في الجامعات بحدود الأسبوعين بالإضافة إلى بعض الصفوف في المدراس.

انتهت الأحلام

لم يعد هناك أحلام وطموحات في هذا البلد، لا مجال للتفكير سوى بالمواصلات والكهرباء ولقمة العيش، هذا ما يتحدث عنه سمير (25 عاماً)، ويضيف “تخرجت من كلية العلوم ودورت على شغل وما لقيت إلا مطعم فلافل أشتغل فيه ب80 ألف ما بتكفي مواصلات”.

أما رويدة (طالبة جامعية) تذكر أنها من ستة أشهر تركت كلية السياحة واتجهت للعمل في مشغل خياطة حتى تساعد أهلها في المصروف، وتقول: “تخليت عن حلمي بالتخرج والسفر خارج سوريا، لأن المصاريف أصبحت كبيرة على أهلي”، وتذكر أنها تضطر كل يوم للوقوف على دور الخبز كون والديها كباراً بالسن، ثم تذهب إلى العمل مشياً لعدم توفر المواصلات.

في محال بيع المواد الغذائية ستجد أحلاماً صغيرة كبرت ولم يعد الأطفال قادرين على اللحاق بها، يدخل طفل صغير وبيده 200 ليرة يأخذ قطعة حلوى صغيرة يخبره البائع بأنها أصبحت بـ 500 لترتسم على وجهه معالم الحزن والاستغراب، ويبحث عن شيء آخر بالمبلغ الذي يحمله دون أن يجد ليخرج من المحل على الفور.

ولا يمر يوم دون أن تشهد الأسواق السورية ارتفاعاً في أسعارها بالتزامن مع صعود سعر صرف الدولار، وعندما ينخفض تبقى الأسعار كما هي دون أي تراجع وسط غياب أي رقابة حكومية.

أحلام سورية خالصة

عندما تسأل الشعوب عن أحلامها لابد أن تكون الأجوبة تتعلق بالسفر والسياحة أو شراء سيارة أو منزل أو الزواج في الأحوال الطبيعية وغير ذلك من أحلام الإنسان، لكن في سوريا هذه الأحلام تبخرت واختفت من القاموس السوري منذ سنوات.

يقول جاد: “عمري 30 سنة ما بملك أي شي، لا بدي زواج ولا سفر، بدي حس بالاستقرار والأمان، كل يوم بالبلد عذاب، راكضين ورا الكهربا والخبز والمواصلات.. الناس وصلت على القمر ونحن خارج التغطية”.

أما أحمد (26 عاماً) فيتحدث عن أحلامه عندما كان صغيراً وكيف اختلفت بالكامل: “كان الأستاذ بالمدرسة يسأل الطلاب عن أحلامهم، وكنت جاوب بأني أحب أن أصبح مهندساً”، ويضيف: “لقد تخرجت من الجامعة ولم يتمكن أهلي من مساعدتي بسبب ظروف البلاد، وحالياً أعمل في سوق الهال وأنهي عملي مساء، على أمل أن أعود إلى بيتي وأجد وسيلة نقل بشكل سريع وكهرباء في المنزل لأتمكن من الاستحمام”، ويؤكد أحمد أن هذه أقصى طموحاته حالياً.

يبدو أن الأحلام الاعتيادية الخاصة بالحياة والتي يحلم بها أي شخص بالعالم، قد تلاشت وتبخرت في سوريا لتحل مكانها أحلام حياتية تتعلق بالأكل والمواصلات والكهرباء والتي تطغى على أي شيء عندما تظهر، وكما يقول جرير:”نظرت الى الحياة فلم أجدها سوى حلم يمر ولا يعود”.

Picture Source: Ali A Suliman*

سوق خاص بالنساء السوريات في القامشلي

سوق خاص بالنساء السوريات في القامشلي

باتت “نورهات فتحي” مصممة الأزياء الشعبية واحدة من السيدات اللواتي كن السباقات في فتح مشاريعهن الخاصة في الجزيرة السورية؛ فقد افتتحت “نورهات” محلها الخاص لبيع الألبسة الفلكلورية في السوق الخاص بمنتجات المرأة في القامشلي والذي تعتبره السوق النموذجي الذي يعرض الأزياء الفلكلورية لمكونات المنطقة من الزي الكردي والسرياني والعربي. فعلى حد تعبير “نورهات” لن تغادر السوق كل من تدخله إلا بعد أن تجد ضالتها من التصاميم والألوان الجميلة للألبسة المزركشة بألوان الربيع.

تقول الشابة الثلاثينية إن مشروعها هو الثاني بعد مشروعها الأول الذي افتتحته في مدينة عامودا، وهو مشغل ومجموعة محال لبيع منتجات مشغلها، والذي لاقى حسبما أخبرتنا إقبال الزبائن على شراء الأزياء المحببة لهم في المناسبات، لاسيما المتعلقة بأعياد الربيع. وأكدت “نورهات” أن التسهيلات التي قدمتها البلدية بتشجيع النساء الراغبات في إدارة مشاريع خاصة بهن، وكذلك رغبة الناس باقتناء تصاميم مشغلها حفزها على فتح فرع آخر في سوق منتجات المرأة بالقامشلي.

وأضافت “نورهات”: “في المشغل تتدرب الفتيات على التصميم وحياكة الأزياء، وفي المحال ستباع الألبسة التي ستوفر رواتب جيدة للعاملات”.

وكانت لجنة البلديات والإدارة المحلية قد دشنت خلال شهر آذار سوق منتجات المرأة في مدينة القامشلي شمال سوريا بعدد 14 متجراً. ويعتبر هذا السوق الأول من نوعه على مستوى المنطقة. وخلال احتفالية التدشين الرسمية عبرت المحتفلات والبائعات عن ارتياحهن للسوق وعرضه خدمات من منتجات ربات البيت.

باحثات عن العمل

وأكدت “سلافا طاهر” (الإدارية في لجنة البلديات) أن الأولوية في هذا السوق كانت للباحثات عن فرص العمل، وأفادت خلال حديثها لصالون سوريا عن أن 14 سيدة تدرن المتاجر إلى جانب عدد من العاملات، وتعرض السيدات منتجات مختلفة تنوعت ما بين المواد الغذائية التي تصنعها ربات البيوت ومتاجر للمشغولات والمطرزات اليدوية والمنتجات الشعبية إلى جانب مشغل لحياكة الألبسة ومكتبة ومحلات للإكسسوارات النسائية.

وأشارت “سلافا” إلى أن السوق يراعي تأمين معايير الأمن والأمان من خلال رعاية قوات الأمن الداخلي المعروفة بالأسايش ومختلف الخدمات.

ومن جانبها عبرت “آلاء إبراهيم”، وهي بائعة ومصممة ألبسة فلكلورية وإحدى الحاصلات على فرصة عمل ضمن المشروع التشاركي للنساء، عن تفاؤلها بما سيحققه المشروع من رواج وتحفيز لنساء أخريات لتحسين عملهن في سوق العمل وقالت: “لا شك أن المشروع لاقى إعجاب الكثيرات وعكس مدى رغبتهن في تعميم التجربة في مختلف المجالات وإقامة المزيد من الأسواق”.

كورونا أخر افتتاح السوق

وبحسب “مزكين حسن” الرئيسة المشتركة لبلدية الشعب في الناحية الشرقية في مدينة القامشلي، فإن تفشي جائحة كوفيد 19 أجل افتتاح السوق عاماً كاملاً وأضافت في حديثها لصالون سوريا إلى أن منتجات السوق رفد اقتصادي فعال وسيوفر فرص عمل لشريحة نسائية كبيرة وسيكسر احتكار التجار للأسواق وقالت: “ستخضع المتاجر النسائية لرقابة البلدية لمنع الاحتكار وستباع المنتجات بأسعار ملائمة تقل عن أسعار متاجر الأسواق العامة”.

وأشارت حسن إلى أن هدف المشروع هو دعم الراغبات بالعمل وتمكينهن من كشف مواهبهن.

خطوات تحفيزية

وكخطوة تحفيزية لأول مشروع لمجموعة مشاريع ستنفذها لجنة البلديات لدعم النساء، بينت “سلافا طاهر” أن بلدية الشعب لن تتقاضى من العاملات في السوق أجور المحال لمدة ستة شهور، وبعدها ستحدد مبالغ رمزية ستتقاضاها عن كل متجر، مشيرة أن البلدية منحت كل صاحبة محل في سوق المرأة مبلغ 500 دولار لشراء احتياجاتهن من البضاعة مؤكدة أن هدفهم ليس الربح المادي وإنما تأمين فرص عمل تدعم من خلالها النساء عوائلهن في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها عموم المنطقة.

ولفتت الإدارية في لجنة البلديات أنهم يسعون لتوسيع السوق وفتح محال جديدة للراغبات في العمل وفتح أسواق جديدة في مناطق أخرى من مدن وبلدات الشمال السوري.

دعم المشاريع النسائية

ولزيادة نسبة المشاركة النسائية في سوق العمل قالت “مزكين حسن” مسؤولة البلدية إنهم بصدد تنفيذ مشاريع أخرى داعمة للنساء اقتصادياً، ودعت إلى تكثيف جهود التكاتف لدعم النساء الذي اعتبرته أولى الخطوات الناجحة في محاربة ظاهرة البطالة والفقر والعوز، مؤكدة في ختام حديثها لصالون سوريا: “سنتبنى المزيد من الإجراءاتِ التي تدعم توجهنا، ولدينا خططنا لتوسيع وتكثيف جهود العاملات بمجموعة مهن سيمارسنها من منازلهن، والانتاج سيباع في هذا السوق وأسواق أخرى نسعى لفتحها مستقبلاً.”